نداءات الرحمن لأهل الإيمان

أبو بكر الجزائري

النداء الأول: في الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

النداء الأول: في الأدب مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الآية (104) من سورة البقرة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الشرح: هذا نداء الله تعالى لعباده المؤمنين، ناداهم بعنوان الإيمان؛ لأن المؤمن حي بإيمانه، يسمع ويعقل ويقدر على الفعل والترك بخلاف الكافر، فإنه لا يسمع ولا يعقل ولا يفعل إن أمر، ولا يترك إن نهي، واعلم أيها القارئ لهذا النداء أن الله تعالى إذا نادى عباده المؤمنين إنما يناديهم ليأمرهم بما فيه سعادتهم وكمالهم، أو لينهاهم عما فيه شقاؤهم ونقصانهم أو ليبشرهم، أو ينذرهم، أو ليعلمهم ما ينفعهم، ولنستمع إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقد قال له رجل: اعهد إلى يا عبد الله، فقال له: إذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأعرها سمعك فإنه خير يؤمر به أو شر ينهى عنه. وقد نادى الله تعالى عباده المؤمنين في هذه الآية لينهاهم عن كلمة راعنا، ويرشدهم إلى كلمة انظرنا؛ وذلك لأن المنافقين من اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم راعنا وهى في لغتهم العبرية بمعنى الاستهزاء والسخرية، فكانوا بذلك يستهزؤون بالرسول صلى الله عليه وسلم ويسخرون منه، والاستهزاء بالرسول والسخرية منة كفر، فنهى الله تعالى المؤمنين أن يقولوا للرسول صلى الله عليه وسلم إذا جلسوا إليه يتعلمون الكتاب والحكمة راعنا وليقولوا بدلها وهى في العربية بمعناها أنظرنا بمعنى أمهلنا، ولا تعجل علينا حتى نحفظ أو نفهم ما تقول لنا. وأمرهم بالإصغاء والسماع عند تلقي العلم والمعرفة والتأدب في ذلك. وأعلمهم أن للكافرين وهم المستهزؤون برسول الله صلى الله عليه وسلم والساخرون منه من اليهود وغيرهم عذابا أليما أي شديدا موجعا، وقد ينالهم في الدنيا فبل الآخرة، وفى هذه الآية

الكريمة بيان وجوب الأدب مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وحرمة الإساءة إليه بقول أو عمل هذا مع الجهل وعدم العلم، أما مع العلم بأن اللفظة أو الحركة فيها إساءة أدب مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فإن ذلك هو الكفر بعينه، والعياذ بالله تعالى، وكما أن إساءة الأدب مع رسول الله محرمة وقد تكون كفرا مع التعمد والقصد، فإن إساءة الأدب مع المربي والمعلم والمرشد والأمير محرمة أيضا، كما أن عيب المؤمن أو احتقاره أو الهزء به أو السخرية منه محرمة وفاعلها فاسق إن لم يتب من ذلك، ولنقرأ قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ألا فلنحذر إساءة الأدب مع الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم) فإذا ذكر الله تعالى أو تلي كتابه يجب أن نصغي ونخشع، ولا نرفع أصواتنا، أو نضحك، وإذا ذكر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أو حديثه يجب أن نصغي ويظهر علينا إجلاله واحترامه وحبه وتقديره، وهذه ثمرة هذا النداء الإلهي الذي أكرمنا الله تعالي بحفظه وفهم معناه. فلنجتنيها ولننتفع بها، ولنحمد الله تعالي عليها ونشكره، وهو أهل الحمد والشكر والثناء. وسلام علي المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

النداء الثاني: في الاستعانة بالصبر والصلاة

النداء الثاني: في الاستعانة بالصبر والصلاة الآية (153) من سورة البقرة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} الشرح: اذكر أيها القارئ الكريم والمستمع المستفيد قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إذا سمعت الله تعالي يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأعرها سمعك فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه. أو بشري يزفها، أو خطر يحذر منه، فإذا أمرك فافعل وإذا نهاك فانته، وإذا بشرك فابشر واحمده، وإذا حذرك فاحذر وانج بفضله، واذكر أيها القارئ والمستمع أن نداء الله تعالي لك بإيمانك شرف لك وأي شرف!! وإلا فمن أنت حتى يناديك رب العالمين!! واذكر أن شرفك كان بالإيمان به تعالي وبلقائه وملائكته وكتبه ورسله وقضائه وقدره، إن الإيمان بمثابة الروح للإنسان، فالمؤمن بحق حي، والكافر ميت، فاحمد الله تعالي علي نعمة الإيمان واطلب التقوى وحققها تظفر بأعظم مطلوب ألا وهو ولاية الله تعالي لك، فإن من والاه الله أكرمه وما أهانه وأسعده وما أشقاه. واسمع قوله تعالى في أوليائه: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ. لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أرأيت كيف بين الله تعالى من هم أولياؤه بقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} ، فاعمل أيها المؤمن القارئ والمستمع على تحقيق التقوى. واعلم أن التقوى هي طاعة الله ورسوله بما أوجبا من الأوامر وما حرما من المناهي، وذلك بعد معرفة العبد المؤمن أوامر الله ورسوله ونواهيهما، وهذه المعرفة تتطلب جهدا كبيرا. كما أن النهوض بفعل الأوامر وهى كثيرة

وشاقة على النفس يتطلب جهدا أكثر من جهد المعرفة، وأما ترك المنهيات فإنه وإن كان لا جهد فيه ولا مشقة ولا معاناة، إلا أن النفس الأمارة بالسوء واللوامة معا تضغطان على العبد حتى ترغماه علي فعل المنهي إلا أن يجد العبد من الله عونا فإنه يسلم من التلوث بأوضار فعل المنهي عنه، ويحتفظ بطهارة روحه التي هي مفتاح دار سعادته. وهنا أيها القارئ والمستمع يجد المؤمن نفسه في حاجة ماسة إلي عون إلهي كبير حتى يحقق التقوى المتوقفة علي العلم وكيفية العمل وأدائه علي الوجه المطلوب المحقق لزكاة النفس وطهارتها. وها هو ذا الرب تبارك وتعالى يرشدنا إلي طريق الحصول علي عونه لعباده المؤمنين فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} فعلى كل مؤمن أن يستعين بالصبر وهو حبس النفس على طلب العلم حتى يعلم ما يحب ربه وما يكره، وكيف يؤدي المحبوب على الوجه الذي يرضي الله تعالي، وحبسها علي فعل الطاعات حتى تؤديها علي الوجه الذي يثمر زكاة النفس وطهارتها وحبسها بعيدة عن المحرمات والمنهيات، وحبسها على مجاري الأقدار فلا تسخط ولا تجزع ولكن ترضى وتصبر بهذا الصبر يستعين المؤمن والله معه ناصره ومؤيده، وكما يستعين المؤمن بالصبر يستعين بالصلاة كما أمره الله تعالي والاستعانة بالصلاة تكون بأدائها في أوقاتها مستوفاة الأركان والشروط وبأهم أركانها وهو الخشوع فيها. فقد كان النبي (صلي الله عليه وسلم) إذا حزبه1 أمر فزع إلي الصلاة. إذ الصلاة تولد نورا للقلب ولا تولده عبادة غيرها، وصاحب نور القلب لا يقع في غضب الله تعالي بترك واجب ولا بفعل مكروه، وهذا هو العون المطلوب بالصبر والصلاة. والله مع الصابرين بتأييدهم ونصرتهم بعد وقايتهم وحمايتهم من كل مكروه. فاللهم اجعلنا منهم وارض عنا كما رضيت عنهم. وسلام علي المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

_ 1 رواه أحمد وأبو داود بلفظ (إذا حزبه أمر صلى)

النداء الثالث: في أكل الحلال وشكر الله علىذلك

النداء الثالث: في أكل الحلال وشكر الله على ذلك الآية (172) من سورة البقرة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} الشرح: لا تنس أيها القارئ الكريم سر نداء الله تعالي لعباده المؤمنين بوصف الإيمان وهو أنهم بإيمانهم الحق أحياء يسمعون ويعقلون ويقدرون علي الفعل والترك، وأذكر أن الله تعالي ما ناداهم إلإ ليأمرهم بما هو خير لهم، أو ينهاهم عما هو شر لهم، إذ بفعل المأمور وترك المنهي تتحقق تقوى الله عز وجل، وبالإيمان والتقوى تكون ولاية الله للعبد. واسمع ما قال الله تعالي في دلك: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ. لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} لذا يجب علي المؤمنين إذا سمعوا نداء الله أن يصغوا ليسمعوا لأنه ناداهم ليأمرهم أو ينهاهم فإذا فعلوا المأمور وتركوا المنهي إيمانا واحتسابا تحققت لهم ولاية الله ففازوا بذهاب الخوف والحزن عنهم في الدنيا والآخرة وهم في الغرفات آمنون. هل تدري أيها القارئ أن الله تعالي نادى المؤمنين في هذا النداء الثالث من سورة البقرة ناداهم ليأمرهم بالأكل من الطيبات مما رزقهم من أنواع المطاعم والمشارب للحفاظ علي حياتهم. إذ البنية البشرية استمرار حياتها وصلاحيتها متوقف علي الغذاء والماء والهواء. فالأمر هنا على هذا دال على الوجوب، إلا أن قوله {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} يشير إلى أنه لما حرم المشركون على أنفسهم أنواعا من اللحوم كلحم

السائبة1 والوصيلة2 والحام3 والبحيرة4 وأنكر الله تعالي ذلك عليهم، أمر المؤمنين بالأكل من الطيبات وهي كل ما أحله الله تعالي من اللحوم وغيرها. وأمرهم عز وجل بشكره علي نعمه التي أنعم بها عليهم من أنواع الطيبات من الرزق الحلال. فالشكر يكون بالاعتراف بالنعمة وحمد المنعم عليها وصرفها فيما أذن أن تصرف فيه، وذلك كنعمة العلم والمال والبدن، فشكر نعمة العلم العمل به، وتعليمه للناس، وشكر نعمة المال أن يصرف في طاعة الله لا في معصيته. وشكر نعمة البدن أن يسخر في عبادة الله، وفعل الصالحات والمسابقة في الخيرات، وأخيرا أيها القارئ الكريم والمستمع المستفيد إن الأمر بالأكل من الطيبات دال علي أن الأكل من المحرمات لا يجوز، والمحرمات قد بينها الله تعالي بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} وبقوله تعالي: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل} وكالأكل الشرب، فالخمر محرمة بقول الله تعالي: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} أي من شرب الخمر، ومال الميسر والأنصاب والأزلام، ومن ذلك مال الربا قل أو كثر ولنستمع إلى قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول محذرا أو معلما ومنبها: " يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا" وأن الله تعالي أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} . وقال: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يارب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذى بالحرام فأنى يستجاب لذلك؟؟ " أرأيت أيها القارئ والمستمع كيف يحرم آكل الحرام استجابة الدعاء، ومن لم يستجب الله دعاءه هلك ورب الكعبة. فالحذر الحذر أيها المؤمن من أكل الحرام وشربه ولباسه والاستمتاع به. واكتف بما احل الله تعالي لك عما حرم عليك فإنك عبده وتعبده فكيف يصح إذا أن تأكل ما حرم عليك وأنت عبده وعابده وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} . أما من لا يعبد الله تعالي فأكله الحرام وتركه سواء إذ ما بعد الكفر ذنب كما قيل، وهو كذلك. وسلام علي المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

_ 1 السائبة: الناقة تسيب للآلهة فلا تركب ولا تؤكل. 2 الوصيلة: الناقة يكون أول إنتاجها أنثي. 3 الحام: الجمل يحمي ظهره للآلهة فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يؤكل لحمه. 4 البحيرة: الناقة تبحر أذنها أي تشق وتترك للآلهة.

النداء الرابع: في القصاص والدية والعفو

النداء الرابع: في القصاص والدية والعفو الآية (178) من سورة البقرة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيم} الشرح: هل تدري أيها القارئ الكريم والمستمع المستفيد لماذا نادى الله تعالي عباده المؤمنين؟ إنه ناداهم ليعلمهم حكما شرعيا عليه مدار تحقيق الأمن والاستقرار في المجتمع الإسلامي المبارك، وهذا الحكم هو فرضه تعالي علي المؤمنين القصاص في القتلى. فقد كان حيان من العرب يرى أحدهما أنه أشرف من الثاني فيقتل الحر بالعبد، والرجل بالمرأة، فأبطل الله تعالى هذا الحكم الجاهلي، وأعلمهم أن العدل هو أن يقتل الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى. فكفوا عن ذلك الحكم الجاهلي، وأصبح الحر يقتل بالحر لا بالعبد، والعبد يقتل بالعبد لا بالحر، والأنثى تقتل بالأنثى لا بالرجل. وبقى الأمر هكذا حتى نزلت آية المائدة وهو قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} فأصبح الحكم العادل النافذ هو أن يقتل القاتل سواء قتل رجلا أو امرأة. حرا أو عبدا، إلا أن يعفو أهل القتيل عن القاتل فلا يطالبوا بقتله، إما لرضاهم بالدية، وإما لاختيارهم أجر الآخرة عن أجر الدنيا، فتركوا القصاص والدية معا. ثم أخبر تعالى المؤمنين بأن من عفي له من أخيه شئ بأن تنازل الولي عن القتل قصاصا ورضى بالدية فعلى المطالب بالدية أن يطلبها بالمعروف وهو الرفق واللين وعدم الشدة والعنف، وعلى مؤديها أن يؤديها بإحسان لا بالمماطلة والتأخير أو الانتقاص وعدم الوفاء. ثم أخبر تعالى عباده المؤمنين بأنه رحمة بهم خفف عنهم فخير ولى الدم

بين العفو، أو أخذ الدية، أو القصاص، في حين أن أهل الكتاب قد شدد عليهم فاليهود لا دية عندهم ولا عفو بل القصاص فقط، والنصارى لا قصاص ولا دية ولكن العفو فقط. وهذا بناء على ما علم الله تعالي من حالهم. فشرع لهم ما يناسبهم تأديبا وتربية لهم. وقوله تعالي في آخر الآية {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} أي بعد أن رضى بالدية وقبلها وقتل القاتل {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وهو عذاب الآخرة بحيث لا تقبل منه دية، وإنما يتعين قتله، إلا أن يرى الإمام عدم قتله ودفعه دية من قتل. وأخيرا: اعلم أيها القارئ الكريم أن هناك خلافا بين فقهاء الإسلام من أهل السنة والجماعة وهي في المسائل الآتية: 1-في قتل الحر بالعبد حيث ذهب الجمهور أن الحر إذا قتل عبدا لا يقتل به، ولكن يدفع قيمته لمالكه، بحجة أن العبد يباع ويقوم بقيمة؛ فلذا من العدل أن لا يقتل حر به ولكن يعطى مالكه قيمة مثله. وذهب أبو حنيفة رحمة الله تعالي إلى أنه يقتل به الحر أخذا بظاهر الآية: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ، والذي يظهر أن الأمر يرجع إلى الإمام فإن خاف فتنة واضطرابا أخذ بالآية وهي القصاص، وإن لم يخف ذلك أخذ بمذهب الجمهور وهو دفع قيمته لمالكه لا غير. 2-ذهب البعض كالحسن البصري وعطاء وهما تابعيان إلي أن الرجل لا يقتل بالمرأة ولكن تدفع الدية، ورد هذا الجمهور وقالوا بالقصاص لآية المائدة: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ولقول الرسول صلي الله عليه وسلم " المسلمون تتكافأ دماؤهم ". 3-ذهب الجمهور إلى أن الجماعة إذا اشتركوا في قتل واحد يقتلون به لقول عمر رضى الله عنه في غلام قتله سبعة فقتلهم وقال: " لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم "، وقال غير الجمهور لا يقتل الجماعة بالواحد، وهذا أيضا قد يرد إلي الإمام حيث ينظر في عواقب الأمور ويحكم بما فيه خير الأمة وصلاحها. تنبيه: القصاص كما يكون في النفس يكون في الأعضاء؛ لآية المائدة: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْن وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ....ِ} والعفو يكون في النفس والأعضاء والدية كذلك. ودية الرجل الحر مائة بعير، أو ألف مثقال ذهبا أو اثنا عشر ألف درهم فضة، ودية المرأة على النصف من دية الرجل، ولمزيد البيان اقرأ أيها القارئ الكريم الفصل العاشر من الجنايات وأحكامها من كتاب منهاج المسلم للمؤلف. وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين

النداء الخامس: في فريضة الصيام وآثاره على نفس الصائم

النداء الخامس: في فريضة الصيام وآثاره على نفس الصائم الآية (183) من سورة البقرة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . الشرح: اعلم أيها القارئ أو السامع أنك بإيمانك منادى بهذا النداء الإلهي، وإنه لشرف لك وأي شرف فأصغ بأذنك تسمع، وأحضر جميع أحاسيسك وافهم، ووطن النفس على أن تعمل بما تعلم فإن في ذلك لحاقك بعظماء العباد، فقد روى مالك في الموطأ (أن من علم وعمل بما علم وعلمه غيره دعي في السماء عظيما) هذا النداء الموجه للمؤمنين والمؤمنات يحمل فرضية صيام رمضان، ولما كان في الصوم مشقة؛ لأن ترك المعتاد من الأكل والشرب شاق على النفس، لذا هونه الله تعالى على عباده المؤمنين بقوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي المؤمنين الأولين أتباع الرسل عليهم السلام. وهذا على حد قول العامة: " المصيبة إذا عمت خفت ". والصيام معناه: الإمساك عن الأكل والشرب والجماع، وذلك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية الصيام، وقد بين تعالى شهر الصيام بقوله {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وبينه الرسولصلى الله عليه وسلم بقوله: " بنى الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت1، وصوم رمضان " ومن رحمة الله بعباده المؤمنين أن للمريض والمسافر أن يفطرا ويقضيا ما افطراه يوم الشفاء، والعودة إلى البلد كما أن الحائض والنفساء تفطران وتقضيان بعد الطهارة من الحيض ودم

_ 1 متفق عليه

النفاس؛ إذ قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وأما المريض الذي لا يرجى برؤه، والشيخ الكبير الهرم فإنهما لا يصومان ويطعمان من كل يوم مدا من طعام للفقراء والمساكين. واعلم أيها القارئ أن الصيام من أفضل العبادات، وأعظمها أجرا؛ فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم " أن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" والخلوف رائحة الفم المتغيرة بطول الصيام، وقال صلى الله عليه وسلم: " من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" ورغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صيام ستة أيام من شوال، وصيام التاسع والعاشر من شهر المحرم، ويوم التاسع من شهر ذي الحجة وهو يوم عرفة، فقال صلى الله عليه وسلم " صيام عاشوراء يكفر ذنوب سنة، وصيام يوم عرفة يكفر ذنوب سنتين الماضية والآتية " ورغب في صيام ثلاثة أيام من كل شهر وهى الأيام البيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر وقال صلى الله عليه وسلم: " إنها كصيام الدهر". كما كان صلى الله عليه وسلم يصوم الاثنين والخميس. واعلم أيها القارئ الكريم أن من أكل أو شرب أو جامع وهو صائم فسد صومه وأن من اغتاب أو نم أو سب مؤمنا بطل أجره، فاحذر مفسدات الصوم، ومبطلات أجره. واعلم أن للصوم فوائد روحية واجتماعية وصحية، ومن الفوائد الروحية أن الصيام يعود على الصبر ويقوى عليه، ويعلم ضبط النفس ويساعد عليه ويوجد في النفس ملكة التقوى. ومن الفوائد الاجتماعية أنه (يربى) الأمة على النظام والاتحاد وحب العدل والمساواة ويكون في الصائم عاطفة الرحمة وخلق الإحسان، كما يصون المجتمع من الشرور والمفاسد. ومن الفوائد الصحية أنه يطهر الأمعاء، ويصلح المعدة، وينظف البدن من الفضلات والرواسب، ويخفف من وطأة السمن، وثقل البطن بالشحم. وفى الحديث الحسن "صوموا تصحوا ". وأخيرا أيها القارئ لا تنس النية؛ فإنها شرط في صحة الصوم لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:

"لا صيام1 لمن لم يبيت الصيام بالليل" وقوله صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال2 بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" واعلم أن صيام رمضان تكفى فيه النية من أول ليلة منه إلا أن يفطر لعلة مرض أو سفر، فإنه يعيد النية ليلة بدئه الصيام. واعلم أن من أكل أو شرب ناسيا أنه لا كفارة عليه، وأما من أكل أو شرب أوجامع متعمدا فإن عليه الفضاء والكفارة وهى صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا، أو عتق رقبة إن وجدت وقدر على ذلك3. وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين

_ 1 رواه الترمذى. 2 رواه البخاري. 3 من فقهاء الأمة من لا يرى الكفارة على من أكل أو شرب، ولكن على من جامع فقط.

النداء السادس: في وجوب قبول شرائع الإسلام كلها وحرمة اتباع الشيطان

النداء السادس: في وجوب قبول شرائع الإسلام كلها، وحرمة اتباع الشيطان الآية (208) من سورة البقرة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} الشرح: إن الإسلام دين كامل ومتكامل؛ لذا هو لا يقبل الزيادة فيه، ولا يسمح بالنقص منه، إذ الزيادة فيه تبطله، والنقص منه يفسده وأقرب مثال يوضح هذه الحقيقة صلاة المغرب ثلاث ركعات فلو زيد فيها ركعة أو سجدة بطلت، كما أنه لو نقصت منها ركعة أو سجدة بطلت كذلك؛ بإجماع علماء الإسلام. لذا فلو أن فردا من الناس قال: أنا أقبل الإسلام وأدخل فيه إلا أن ما حرمه من المطاعم والمشارب لا أحرمه، أو قال آخر: أنا أدخل في الإسلام إلا أن الصيام لا اعترف به لأنه يضعف من قوتي البدنية، أو قال أخر: أقبله إلا أنى لا أعترف بما قرره الإسلام من أن المرأة لها نصف ما للذكر في الميراث، أو قال آخر: أنا أقر بالإسلام وأدخل فيه إلا أنى لا اعترف بحكم قطع يد السارق، أو رجم الزاني المحصن. فهل يقبل الإسلام من هؤلاء؟ والجواب: لا يقبل بدا؛ وهم كافرون مخلدون في النار إن ما ماتوا على هذا الكفر. ومثال آخر: لو أن مسلما أبا أو جدا قال: أنا لا أعترف بأن المسلم إذا دعا الأولياء أو استغاث بهم، أو تقرب إليهم بذبح أو نذر هو مشرك وأصر على ذلك فإنه كافر، وإن هو استغاث بغير الله ودعا غير الله وتقرب إلى غيره بذبح أو نذر فهو مشرك لا يقبل منه إيمان ولا إسلام، ولو صلى وصام وحج واعتمر وجاهد ورابط. وهذا النداء الإلهي الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْم

كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} هذا النداء هو الذي قرر حرمة النقص في الدين أو الزيادة فيه؛ إذ هذه الآية الكريمة نزلت في عبد الله بن سلام رضى الله عنه وكان حبرا من أحبار اليهود في المدينة، ودخل في الإسلام عن علم وقناعة، وبشر على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة لرؤيا رآها. هذا العالم رأى في بداية إسلامه أن يبقى على تعظيم السبت. وأن يقرأ بشيء من التوراة في صلاته بحجة أن السبت فرضه الله تعالى تعظيما على اليهود، وأن التوراة كلام الله تعالى، وقبل أن يفعل إستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فنزلت هذه الآية تأمر المؤمن أن يدخل في الإسلام بكله، لا يبقى شيئا خارجا عنه حتى ولو كان تعظيم يوم السبت الذي كان تعظيمه شرعا وعبادة قبل الإسلام، أو تحريم لحوم الإبل وألبانها إذ كانت محرمة على اليهود، فرأى بعضهم ممن أسلموا أن يبقوا على ما كانوا عليه من تحريمها. فكانت هذه الآية الكريمة مانعة من كل ذلك ولا يسع المؤمن الحق إلا الدخول في الاستسلام الكامل لله تعالى؛ وذلك بقبول ما شرع وعدم التخير فيه بقبول بعض ورفض بعض. وبعد أن أمر الله عباده المؤمنين بالانقياد الكامل والطاعة التامة لله ورسوله في كل ما حواه الإسلام من الشرائع والأحكام العامة والخاصة، نهى المؤمنين عن اتباع خطوات الشيطان وهى ما يزينه ويحسنه للمرء بنوع من التحسين والتزيين حتى يقع فيه فينقطع عن الله تعالى فيهلك كما هلك الشيطان بكبره وعجبه بنفسه، فقال تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} ، وعلل لتحريم عدم اتباع خطواته بقوله: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} أي بين العداوة ظاهرها لا تخفى على أحد من ذوى العقول الراجحة والفهوم السليمة. وكيف وهو يزين اللواط، والزنا، والربا، وقتل النفس، والحسد، والكبر، والعجب، وعقوق الوالدين، وأذية المسلمين، إلى غير هذا من كبائر الذنوب والفواحش. اعلم أيها القارئ أن هذا النداء اشتمل على بيان طريق النجاة وطريق الهلاك؛ فطريق النجاة هو الإسلام الكامل لله تعالى، باعتقاد ما أمر باعتقاده، وقول ما أمر بقوله، وفعل ما أمر بفعله، واجتناب ما أمر باجتنابه من ذلك كله اعتقادا أو قولا أو عملا، وطريق الهلاك هو اتباع خطوات الشيطان بتحسين القبيح، وتقبيح الحسن، فإذا أصبح العبد يحب ما يحب الشيطان، ويكره ما يكره فقد التحق به وأصبح من أوليائه، وخسر نفسه وأهله. كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} . واذكر ما يحمله قول

الله تعالى {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} من الوعيد الشديد؛ لكل من زلت قدمه فزاد في الإسلام أو نقص منه، أو بدل فيه. وما أصاب المسلمين من خراب ودمار، وذل وصغار لما تركوا واجبات أوجبها الله، وارتكبوا محرمات حرمها الله. كاف في الدلالة على ما تحمله الآية من وعيد شديد. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء السابع: في الإنفاق في سبيل الله قبل الفوات بالموت

النداء السابع: في الإنفاق في سبيل الله قبل الفوات بالموت الآية (254) من سورة البقرة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الشرح: إن معنى هذا النداء أيها القارئ الكريم هو أن الله تبارك وتعالى، نادى عباده المؤمنين به وبلقائه، وكتبه ورسله وقضائه وقدره، ناداهم بعنوان الإيمان؛ لأن المؤمن حي يسمع النداء ويجيب الداعي لما دعاه من أجله، وهنا ناداهم ليأمرهم بالإنفاق أي إنفاق المال حيث تعين الإنفاق، وذلك كالجهاد في سبيل الله، وسد حاجة الفقراء والمساكين، وكإعداد العدة للجهاد؛ لحماية الملة والعباد، وكالإنفاق لتحرير الرقيق، ومداوة المريض، وما إلى ذلك من مواطن الإنفاق في سبيل الله لا في سبيل الشيطان، وذكرهم رأفة بهم أن الإنفاق الذي أمرهم به هو من ماله تعالى الذي رزقهم إياه، وأنه بعضه لا كله؛ إذ قال لهم {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} أي من بعض المال الذي رزقناكموه فضلا منا وإحسانا إليكم. وإن قلت أيها القارئ الكريم: وهل للشيطان سبيل ينفق فيه المال؟ أجبتك قائلا: آي ورب الكعبة إنها كل ما ينفق في معصية الله تعالى هو إنفاق في سبيل الشيطان، وذلك كالإنفاق في القمار، واللهو، والباطل، وكالإنفاق في أكل وشرب ولبس الحرام، وكالإسراف في الأكل والشرب وغيرهما، كل هذا الإنفاق هو في سبيل مرضاة الشيطان، ولذا فهو يأمر به ويزينه لفاعله. وهل تدرى أيها القارئ ما يدل عليه قوله تعالى في هذا النداء وهو قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} إنه دل على أن الله تعالى رحمة بعباده المؤمنين وشفقة عليهم استعجلهم في

النداء الثامن: في بيان مبطلات ثواب الصدقة كالمن والأذى والرياء الآية (264) من سورة البقرة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} . الشرح: اذكر أيها القارئ الكريم ما سبق أن عرفته في سر نداء الله تعالى عباده المؤمنين بعنوان الأيمان ألا وهو أن المؤمن حي يسمع ويبصر، ويقدر على الفعل والترك، لأن الإيمان الصحيح وهو تصديق الله ورسوله في كل ما أخبر به من شأن الغيب والشهادة هي بمثابة الروح للجسم، فالجسم يتحرك ويقبل ما يراد به ما دامت الروح فيه، فإذا فارقته مات. اذكر هذا أيها القارئ أو السامع لتعي عن الله تعالى ما خاطبك به. وهو نهيه لك عن إبطال صدقاتك، وهو تعطيلها عن تزكية نفسك وتطهيرها؛ لأن الصدقة عبادة تزكى النفس إذا خلت من الموانع المبطلة لها. ومن الموانع للصدقة من تزكية نفس المؤمن المتصدق ما ذكر الله تعالى وهى: 1-المن وهو من كبائر الذنوب؛ لأن المنان أحد ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم؛ لحديث مسلم: " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المسبل1 إزاره والمنان الذي لا يعطى شيئا إلا منه، والمنفق2 بالحلف الكاذب " وحقيقة المن أنه ذكر الصدقة وتعدادها على من تصدق بها عليه من المؤمنين على وجه التفضل عليه. والمنان

_ 1 هو الذي يحسر ثيابه كبرا وخيلاء. 2 يقال نفق سلعته وأنفقها بمعنى روجها.

النداء الثامن: في بيان مبطلات ثواب الصدقة كالمن والأذى والرياء

النداء الثامن: في بيان مبطلات ثواب الصدقة كالمن والأذى والرياء الآية (264) من سورة البقرة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} . الشرح: اذكر أيها القارئ الكريم ما سبق أن عرفته في سر نداء الله تعالى عباده المؤمنين بعنوان الأيمان ألا وهو أن المؤمن حي يسمع ويبصر، ويقدر على الفعل والترك، لأن الإيمان الصحيح وهو تصديق الله ورسوله في كل ما أخبر به من شأن الغيب والشهادة هي بمثابة الروح للجسم، فالجسم يتحرك ويقبل ما يراد به ما دامت الروح فيه، فإذا فارقته مات. اذكر هذا أيها القارئ أو السامع لتعي عن الله تعالى ما خاطبك به. وهو نهيه لك عن إبطال صدقاتك، وهو تعطيلها عن تزكية نفسك وتطهيرها؛ لأن الصدقة عبادة تزكى النفس إذا خلت من الموانع المبطلة لها. ومن الموانع للصدقة من تزكية نفس المؤمن المتصدق ما ذكر الله تعالى وهى: 1-المن وهو من كبائر الذنوب؛ لأن المنان أحد ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم؛ لحديث مسلم: " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المسبل1 إزاره والمنان الذي لا يعطى شيئا إلا منه، والمنفق2 بالحلف الكاذب " وحقيقة المن أنه ذكر الصدقة وتعدادها على من تصدق بها عليه من المؤمنين على وجه التفضل عليه. والمنان

_ 1 هو الذي يحسر ثيابه كبرا وخيلاء. 2 يقال نفق سلعته وأنفقها بمعنى روجها.

من الناس هو الذي لا يعطى شيئا إلا منه على من أعطاه إياه. فاحذر المن أيها المؤمن؛ فإنه مبطل لأجر الصدقة، وموجب لغضب الله تعالى. 2-الأذى لغة هو كل ما يؤذى الإنسان في دينه أو عرضه أو بدنه أو ماله، وهو هنا أي الأذى المبطل للصدقات هو التطاول على المتصدق وإذلاله بالكلمة النابية، أو التي تمس كرامته وتحط من شرفه وقدره وهو المؤمن ولى الله تعالى. والله يقول في الحديث الذي رواه البخاري " من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب " والمعاداة هي مولدة الأذى وأشده وأقبحه. 3-الرياء وهو أن يرى العبد عمله للناس رجاء أن يحمدوه عليه، أو يدفع به مذمتهم إذا خاف ذلك منهم، وهو في هذه الحال مراء، والرياء مبطلة للعمل مفسدة له فلا تزكوا به النفس البشرية، كالمن والأذى سواء بسواء في إبطال الصدقات لقوله تعالى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} فالرياء في الصدقات مبطل لها كالمن والأذى؛ إلا أن الرياء عامة تكون في الصدقات وغيرها في سائر العبادات كالصلاة، والذكر، وقراءة القرآن، والحج، والعمرة، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؛ لذا فهو أخطر من المن والأذى، وغالبا ما تكون الرياء ممن ضعف إيمانه بالله واليوم الآخر لقوله تعالى في الآية: {وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} إذ المؤمن بالله واليوم الآخر لا يتعمد بطلان عمله بالمراءاة ولا بغيرها. وقوله تعالى في الآية: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍْ} والصفوان هو الحجر الأملس {عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} من المطر، وهو المطر الشديد {فَتَرَكَهُ صَلْدا} أي ليس عليه شئ؛ لأن المطر أزال التراب وبقى الصفوان أملس كما كان. وقوله تعالى: {لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ} أي ينتفعون به وذلك لعجزهم عن الانتفاع بصدقاتهم بعد أن أبطلها المن والأذى والرياء. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} أي إلى ما يكملهم ويسعدهم في الدنيا والآخرة؛ وفى هذا إشارة إلى أن المنان والمؤذي للمؤمنين والمرائي هم قريبون من الكفر إن لم يكونوا كفارا لنعم الله، وذلك بترك شكرها وصرفها فيما يحب المنعم عز وجل. ألا فلنحذر أيها المؤمنون كل ما يبطل صدقاتنا بأن تصبح لا تزكى أنفسنا ولا تطهرها، ونحن نعلم حكم الله تعالى في الناس أبيضهم وأسودهم، عربهم وعجمهم، وهو فوز أصحاب النفوس الزكية، وخيبة وخسران أصحاب النفوس المدساة الخبيثة التي لم تطهر بالإيمان وصالح الأعمال، إذ قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ أي ينتفعون خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} . وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين

النداء التاسع: في وجوب إخراج الصدقة من طيب المال وحرمة إخراجها من خبيثه

النداء التاسع: في وجوب إخراج الصدقة من طيب المال، وحرمة إخراجها من خبيثة الآية (267) من سورة البقرة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم أن هذا النداء الإلهي الرحيم يحتوى على ما يلي من التعاليم الإلهية المسعدة للإنسان المؤمن، المزكية له وهى: 1-وجوب إخراج الصدقة من طيب المال. 2-حرمة إخراجها من خبيثة. 3-بيان وجوب الزكاة مما كسبه المؤمن من الأنعام، وهى الإبل والبقر والغنم، إن بلغت النصاب وحال عليها الحول. ومما كسبه من الدنانير والدراهم أو ما يقوم مقامها من العمل المتداولة اليوم بين الناس إن بلغت النصاب وحال عليها الحول. 4-بيان وجوب الزكاة من الخارج من الأرض وهو الحبوب كالبر والشعير والذرة والزيتون والزبيب والتمر، إن بلغ نصابا، وكان مقتاتا مدخرا، أما ما لم يكن مقتاتا كالفلفل والبصل والثوم فلا زكاة فيه، وكذلك ما لا يدخر وإن كان مقتاتا كالبطيخ والقثاء والرمان والتين والتفاح والبرتقال، إلا أنه يستحب التصدق من كل خارج من الأرض مما لا تجب فيه الزكاة لعدم توفر شرطي الزكاة فيه وهو الاقتيات والادخار.

الخارج منه؟ فعلمه أن من ملك خمسة من الإبل زكاها بشاة من الغنم، ومن ملك عشرا زكاها بشاتين، ومن ملك خمسة عشر زكاها بثلاث، ومن ملك عشرين زكاها بأربع شياه، ومن ملك خمسا وعشرين زكاها ببنت مخاض أوفت سنة ودخلت في الثانية، وإن من ملك ثلاثين بقرة وجب عليها فيه عجل يتبع أمه أوفى سنة. ومن ملك أربعين من الغنم وجب فيها شاة، وما زاد على ما ذكر يطلب من كتب الفقه المطولة وهذا جدول مختصر لها. العدد ... الإبل ... العدد ... البقر ... العدد ... الغنم 25 ... فيها بنت مخاض ... 30 ... فيها عجل ... 40 ... فيها شاة 36 ... بنت لبون ... 40 ... فيها مسنة ... 121 ... فيها شاتان 46 ... حقة أوفت 3 سنوات ... فوق 40 ... فى كل 40 مسنة وفى كل 30 عجل ... إذا بلغت 201 ... ففيها 3 شياه 61 ... جذعة أوفت 4 سنوات ... ... ... وفوق ذلك ... في كل مائة شاة واحدة 76 ... بنتا لبون ... ... ... ... 91 ... حقتان ... ... ... ... 120 ... ففى كل 40 بنت لبون وفى كل 50حقة ... ... ... ... واعلم أيها القارئ أن ما بين الفريضتين يسمى وقصا1، وأنه لا زكاة فيه مثاله في

_ 1 مثاله في الإبل شاة، والسادسة من الإبل، والسابعة، والثامنة، والتاسعة وقص لا زكاة فيها، فإذا بلغت عشرا زكيت بشاتين، وهكذا ما بين الفريضتين لا زكاة فيها، وهو القوقص المعروف عند الفقهاء رحمهم الله تعالى.

الخمس من الإبل شاة حتى تبلغ عشرا، ما بين الخمسة والعشر لا زكاة فيه، وهكذا فالغنم في الأربعين شاة وفى المائة وواحدة وعشرين شاتان، فالعدد ما بين الأربعين إلى مائة وعشرين وقص لا زكاة فيه أي معفو عنه فاذكرها ولا تنساها فإنه لابد منها. هذا وهل فهمت من النداء قول الله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} إن معناه حرمة إخراج الزكاة أو الصدقة من رديء المال وفاسدة ذاك الذي لو أعطيته أنت ما قبلته ورددته على صاحبه، اللهم إلا أن تغمض عينيك وتقبله حتى لا تغضب عليك من أعطاكه، وهو معنى قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} . وأخيرا أذكر ما ذكرنا الله تعالى به في هذا النداء الكريم إذ قال تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} حتى لا تسول لك نفسك أن الله في حاجة إلى صدقة متصدق، فتمن ذلك عليه، أو أن الله فرض الصدقة لأجل أن يحمد من المتصدق عليهم، لا، لا، فإنه تعالى غنى حميد بإفضاله وإنعامه على خلقه حميد بصفات الجلال والكمال فيه، إذ له الحمد في السموات والأرض وله الحمد في الآخرة. وهو العزيز الحكيم. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين

النداء العاشر: في الأمر بالتقوى وترك ما بقى من الربا

النداء العاشر: في الأمر بالتقوى وترك ما بقى من الربا الآيات (278_ 279_ 280) من سورة البقرة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) } الشرح: اعلم أيها القارئ أو المستمع لهذا النداء العزيز أن هذا النداء وجه للمؤمنين ليأمرهم بأمرين عظيمين: الأول: تقوى الله عز وجل، وذلك بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ إذ الله تعالى لا يتقى غضبه وعقابه إلا بالاستسلام والانقياد له وذلك بحب ما يحب، وكره ما يكره، وفعل ما يأمر به، وترك ما ينهى عنه، والثاني: ترك ما بقى من الربا بعد تحريمه بقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} فمن بقى له شيئ من فوائد الربا فليتركها لمن هي في ذمته. ولخطورة هذا الموقف وصعوبته على النفس البشرية: ذكرهم بإيمانهم؛ إذ الإيمان الصحيح هو بمثابة الطاقة الدافعة فقال لهم: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فإن إيمانكم قدرة قوية تحملكم على تقوى الله وترك ما بقى من الربا عند المدينين لكم. وفى الآيتين بعد هذه حذرهم مهددا لهم بسوء عاقبة الاستمرار في هذه المعصية الكبيرة فقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} أي ما أمرتكم به من التقوى وترك ما بقى لكم من الربا {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وهل من حارب الله ورسوله يفوز وينتصر لا، والله بل يخسر وينكسر، ثم أرشدهم لحل مشكلة تحدث لهم بعد توبتهم وهى أن رؤوس أموالهم مع أرباحهم تبقى عند المدينين لهم فكيف يصنعون بها. فأرشدهم إلى أخذ رؤوس أموالهم التي هي تحت يد المدينين وترك الأرباح التي كانت لهم بحكم التعامل

الربوي المحرم. وإن من كان معسرا من المدينين لهم فلينتظروه حتى ييسر الله عليه ويدفع لهم رأس مالهم، وإن هم تكرموا بترك ذلك المال صدقة منهم على المعسر فذاك خير إن كانوا يعلمون ثمرة الإحسان بعد الإساءة والتوبة بعد الذنب، فقال {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . هل عرفت أيها المؤمن القارئ أو المستمع عظم ذنب المرابي وآكل الربا، وأزيدك معرفة بقول الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ} - أي من قبورهم - {إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ} أي يضربه الشيطان ضربا غير منتظم، والمس اللمس ومن لمسه الشيطان يصرع فورا. فالمرابي يقوم يوم القيامة من قبره كالمجنون الذي كلما قام صرعه الجان. ويقول الرسول صلى الله عليه وسله: " لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه " ويقول " اجتنبوا السبع الموبقات " ويذكر منها أكل الربا. فإذا عرفت أيها القارئ عظم ذنب آكل الربا. فاعرف ما هو الربا حتى تجتنبه وتدعو المؤمنين إلى اجتنابه إنه نوعان: الأول: ربا الفضل: وهو بيع ربوى بآخر مع فضل زيادة. والربويات هي الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح، ويقاس على البر الذرة وكل مقتات مدخر فإذا باع أحدا ذهبا بذهب، أو فضة بفضة وجب أن يكون المقدار متساويا وأن يكون في مجلس واحد أي يد بيد، وكذا إن باع قمحا بقمح وإن اختلف الجنس كأن يباع ذهب بفضة، أو قمح بشعير مثلا فيجوز التفاضل ولكن بشرط أن يكون يدا بيد. الثاني: ربا النسيئة: أي التأخير وهو أن يعطى المرء لآخر مالا يسدده بعد عام مثلا على أن يزيد فيه، فإذا أعطاه ألفا يردها بعد العام ألف ومائة مثلا وكلما تأخر السداد زاد في رأس المال؛ حتى يصبح أضعافا مضاعفة كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . وأخيرا اعلم أيها القارئ أن سر علة تحريم الربا هي أنه يقطع التراحم بين المؤمنين، وكل ما يؤدى إلى القطيعة بين المؤمنين فهو حرام؛ لأن المؤمنين يجب أن يعيشوا إخوانا متعاونين متحابين، يقرض بعضهم بعض القروض طويلة الأجل، ولا يرجو من ذلك سوى الأجر والمثوبة من الله تعالى؛ لأن القرض في الأجر كالصدقة بل أعظم منها، كما أن المضاربة وهى أن يعطى المؤمن أخاه مالا يتجر فيه والربح بينهما فيها فائدتان: الأولى: نماء المال. والثانية: عون الفقير على الكسب والربح. ومثل المضاربة المشاركة شفى الزراعة والصناعة في تنمية المال، وإفاضته بين المؤمنين لذا حرم الله الربا وأحل البيع. فلله الحمد وله المنة، وصلى الله وسلم على نبيه وآله وسلم تسليما كثيرا.

النداء الحادي عشر: في مشروعية كتابة الديون والإشهاد عليها

النداء الحادي عشر: في مشروعية كتابة الديون والإشهاد عليها الآية (282) من سورة البقرة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم أن المال قوام الأعمال. واسمع قول الله تعالى فيه: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} ، إذ حرم إعطاء المال لغير الراشدين كالنساء والأطفال وقاصرى العقول وعادمي البصيرة في التصرف المالي، فإذا عرفت هذا فهيا بنا نشرح آية الدين ونبين ما احتوت عليه من أحكام تتعلق بالديون، الأخذ بها بعد معرفتها يحفظ على المسلم ماله ويصون كرامته.

وأول أحكام الديون هو: كتابة الدين إذا كان مؤجلا لثلاثة أيام فأكثر ودل على هذا الحكم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} . وثاني أحكامها: مشروعية بيع السلم إذ قوله إلى أجل مسمى دال عليه وبيع السلم هو أن يبيع العبد أخاه تمرا أو قمحا إلى أجل فيأخذ البائع الثمن. ويدفع السلعة عند حلول الأجل على شرط أن يكون السلم معلوم الكيل أو الوزن، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ". وثالث الأحكام: أن يكتب الدين وإن على الكاتب أن يعدل فيما يكتب فلا يزيد ولا ينقص ولا يبدل ويغير لقوله تعالى: {فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} . ورابع الأحكام: أن من يحسن الكتابة إذا أحتيج إليه ليكتب بين متداينين وجب عليه أن يكتب لقوله تعالى: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ} أي شكرا لله تعالى على تعليمه الكتابة. وخامس أحكام هذه الآية. أن الذي يملى على الكاتب هو الذي عليه الحق ليكون إملاؤه اعترافا بالحق وتقريرا له. لقوله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} ، كما نهاه أن ينقص من الدين شيئا إذ قال تعالى: {وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} . وسادس أحكامها: إن كان الذي عليه الحق قاصرا لسفه أو خوف فليملل وليه بالعدل، أي بالقسط بلا زيادة في الدين ولا نقص منه. وسابع الأحكام: الإشهاد على صك الكتابة ويشهد رجلان فإن تعذر وجود رجلين فرجل وامرأتان إذ قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} . وثامن الأحكام: حرمة رفض الشهود الشهادة إذا دعوا إليها، وتوقف حق المرء على شهادتهما إذ قال تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} أي لآداء الشهادة. وتاسع الأحكام: الحث على كتابة الدين قليلا كان أو كثير إذ قال الله تعالى: {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ}

وعاشر الأحكام: العفو عن عدم الكتابة في التجارة الحاضرة كأن يشترى المرء قنطارا تمرا أو سكرا على أن يسدد الثمن بعد يوم أو أيام مثلا فإنه لا تتعين كتابة هذا الدين. وحادي عشر الأحكام: وجوب الإشهاد على البيع فمن باع دارا أو بستانا أو سيارة فليكتب ويشهد على الكتابة إذ قال تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} وثاني عشر الأحكام: أن لا يضار كاتب ولا شهيد كأن يدعى الكاتب أو الشاهد إلى مكان بعيد أو إلى وقت يعطل فيه عمله، أو يضيع فيه حقوقه إذ قال تعالى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} ، ومن الإضرار بالكاتب والشهيد أن يطلب إليهم أن يكتبوا باطلا أو يشهدوا زورا. وثالث عشر الأحكام: الأمر بتقوى الله ووعد الله تعالى للمتقين بأن يعلمهم ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم بما يؤتيهم من نور في قلوبهم يفرقون به بين الحق والباطل والرابح والخاسر إذ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} بعد هذه الأحكام التي اشتملت عليها آية الدين العظيمة فإليك بعض البيانات الهامة: 1-شهود المال لا يقلون عن إثنين، وأما شهود الزنا فهم أربعة لا يقلون عنها. 2-لا يشهد الصغير ولا العبد المملوك. 3-إن وجد شاهد فقط تتمم الشهادة باليمين. 4-خير الشهود الذي يأتى بشهادته قبل أن يسألها للحديث في ذلك. 5-أول من جحد أدم فجحد بنوه لذا شرع الله الكتابة في البيوع والديون لحديث أبى داود. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء الثاني عشر: التحذير من طاعة بعض أهل الكتاب حتى لا يفسدوا على المؤمن دينه

النداء الثاني عشر: التحذير من طاعة بعض أهل الكتاب حتى لا يفسدوا على المؤمن دينه الآيتان (100 _ 101) من سورة آل عمران أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم ٍ} . الشرح: اذكر أيها القارئ الكريم أن الله تعالى ما ينادى المؤمنين إلا ليأمرهم بما فيه سعادتهم في دنياهم وأخراهم، أو لينهاهم عما فيه خسارتهم وشقاؤهم في دنياهم وأخراهم، أو ليبشرهم بما يزيد حبهم في الله وطاعة له وحبا فيه، أو ليحذرهم وينذرهم بما فيه خطر أو شر، وذلك لأنهم إن اتقوه كانوا أولياءه، وأولياؤه تعالى لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، لهم البشرى في الحياة الدنيا وفى الآخرة، وهذا هو الفوز العظيم. وها هو ذا تبارك وتعالى ناداهم ليخبرهم محذرا لهم في طاعة بعض أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ فإنهم إن أطاعوهم كفروهم بردتهم عن الإيمان، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا ورسولا {إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} وهم الحاقدون على الإسلام والمسلمين، المغتاظون لظهور الإسلام وانتشار نوره في المشرق والمغرب، إن تطيعوهم فيما يزينون لكم ويحسنون من الباطل والكفر الخفى، وفيما يقبحون لكم من أحكام الإسلام، وعباداته، وآدابه، وأخلاقه، بدعوى أنها منافية للديمقراطية والحرية الشخصية، أو أنها تعوق عن التقدم الحضارى، أو أنها كانت فيما مضى صالحة، أما اليوم فنحن في

عصر الذرة وغزو الفضاء، فإنها تخلف أصحابها وتقعد بهم دون الحضارة والتقدم هؤلاء وهم طائفة اليهود والنصارى ممن يدعون العلم والمعرفة، وهم يحملون العداء للإسلام وأهله، هؤلاء إن تطيعوهم فتعتقدوا صحة ما يزينون لكم، وتأخذون بما يقدمون لكم من توجيهات وإرشادات ظاهرها أنها في صالحكم وباطنها فيها خزيكم، وذلكم هؤلاء إن تطيعوهم يردوكم بعد إيمانكم كافرين إذا فالحذر الحذر أيها المؤمنون وخذوا بهذه النصائح القرآنية الغالية، فإنكم تنجون من كيد أعدائكم الماكرين بكم، الطالبين بعدكم عن مصدر عزتكم وقوتكم وسيادتكم وقيادتكم. واعلموا أن في الآية الكريمة بعد هذه مباشرة أكبر حصن لكم، وأعظم سور لمناعتكم من أعدائكم الكائدين لكم من هذا الفريق الذي تقدمت صفاته وهم أهل الحقد والتغيظ على الإسلام وأهله؛ لشعورهم أن الإسلام هو سبيل النجاة، وأن ما هم عليه من اليهودية أو النصرانية هو طريق الخسران في الدنيا والآخرة. وإنما منعهم من الإسلام حب الرئاسة، والمصالح المادية التي يعيشون عليها بين أتباعهم والشهوات المسيطرة على نفوسهم؛ لأن الإسلام يحرم منها ويبعد عن ساحتها؛ لذا هم مصرون على الكفر وتكفير المؤمنين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. ومثل هؤلاء بعض رجالات الرافضة في كونهم يبغضون أهل السنة والجماعة، ويبذلون الغالي والرخيص في صرف أهل السنة والجماعة عن سبيل النجاة إلى سبيل الهلاك بالتشيع القائم على تكفير خيرة الأصحاب أبى بكر وعمر وعثمان وغيرهم، وتحريف معان آيات الله، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تصحيحا لمذهبهم الباطل، لحمل الأجيال على اعتناقه ليهلكوا معهم ويحرموا الجنة دار السلام مثلهم، لأن الذى يكفر مؤمنا فهو كافر فما بالك بالذي يكفر من رضى الله عنهم وأنزل ذلك في كتابه في قوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} وهم ألف وأربعمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسهم العشرة المبشرون بالجنة، فكيف يرضى عنهم اليوم ويخبر برضاه عنهم ويكفرون بعد موت نبيهم، إن هذا اتهام لله عز وجل بأنه لا يعلم الغيب وأنه كالإنسان يرضى اليوم ويغضب غدا. وهذا هو الكفر بعينيه كما يقال. فتنبه أيها المؤمن القارئ المستمع لهذا النداء … أما الحصن المانع من الوقوع في الكفر الذي يدعوا إليه الحاقدون عن الإسلام من يهود ونصارى، ورافضة، فهو في قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى

عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} . ومعنى هذه الآية أنه من العجيب أن يكفر مؤمن تتلى عليه آيات الله، وبين يديه رسوله يوجهه ويرشده ويحميه من مظلات الفتن. ومعنى هذا أن المناعة كل المناعة للمؤمن من الزيغ والكفر في العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فعلى المؤمنين أن يحيوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بأن يتعاهدوا في مدنهم وقراهم على الاجتماع كل ليلة في بيوت ربهم من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء يتعلمون الكتاب والحكمة ويعملون بما يعلمون بجد وصراحة وصدق، وأما المسافر فإنه يأتى مسجد أهل البلد الذي سافر إليه ويشهد معهم الصلاتين، ويسمع معهم الكتاب والحكمة، ويعمل بهما ويعلمهما، وبذلك يعظم ويفوز. وأخيرا يخبر تعالى عباده المؤمنين مبشرا لهم بأن من يعتصم بالله أي بكتابه وسنة رسوله فقد هدى إلى صراط مستقيم، فلا يضل ولا يشقى. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء الثالث عشر: في الأمر بتقوى الله والموت على الإسلام

النداء الثالث عشر: في الأمر بتقوى الله والموت على الإسلام الآية (102) من سورة آل عمران أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونٍَ} . الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم أن هذا النداء الإلهي يحمل أمرين عظيمين من التكليف، ولولا الله ما قدر مؤمن على النهوض بهما، إلا أن العبد إذا صدق ربه وأخلص النية والعمل له، ولجأ في صدق إليه سبحانه وتعالى، فإن الله عز وجل لا يخيبه بل يسدده ويعينه حتى يأتى بهذين المطلبين العظيمين اللذان هما تقوى الله حق تقاته، والموت على الإسلام، إذ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونٍَ} . واعلم أيها المؤمن أن الأمر بالتقوى أمر به تعالى عباده المؤمنين في عشرات الآيات، وإنما قوله هنا حق تقاته. هذا الذي حير عقول العلماء إذ ليس في قدرة العبد ذلك، إذ لو ذاب العبد وتحلل وتبخر من خشية الله تعالى ما كان ذلك وافيا بتقوى الجبار الذي يقول للشيء كن فيكون، والذي الأرض جميعا قبضته يوم القيامة، والسموات مطويات بيمينه. والذي يحبى ويميت ويعز ويذل، وهو على كل شئ قدير. وقد ذكر أهل العلم من السلف الصالح أن تقوى الله حق تقاته هي أن يذكر تعالى فلا ينسى، وأن يطاع فلا يعصى، وأن يشكر فلا يكفر، والذي يخفف على المؤمن همه في تقوى الله حق تقاته هو قول الله تعالى في سورة التغابن: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم} فهذه الآية كالمخصصة لعموم قوله تعالى في هذه الآية {حَقَّ تُقَاتِهِ} والحمد لله.

ولنعلم أيها المؤمن أن العبد إذا حمل هم تقوى الله حق تقاته فأصبح يذكر ولا ينسى، ويشكر ولا يكفر، ويطيع ولا يعصى، وذلك في أغلب أوقاته، وأكثر أحواله، فإنه بحمد الله تعالى يحقق المطلوب منه وهو أن يتقى الله حق تقاته في حدود طاقته البشرية وخوفه الإنساني. واذكر أيها المؤمن أن تقوى الله عز وجل هي طاعته، وطاعة رسوله، بفعل الأوامر واجتناب النواهي في حدود الطاقة البشرية، إلا أن هذه الطاعة متوقفة على معرفة الأوامر وكيف تفعل، ومعرفة النواهي وبما تترك. وهنا يتعين طلب العلم وهو معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته معرفة تثمر حبه تعالى في القلب، وخشيته في النفس، ومعرفة أوامره ونواهيه، ومعرفة محابه ومكارهه، ليحب العبد ما يحب ربه ويكره ما يكره، وبهذه التقوى تتحقق للعبد ولاية الرب عز وجل ومتى ظفر العبد بهذا المطلب السامي؛ وهو ولاية الله تعالى فقد فاز بالسعادة في الدارين وتلك أمنية العاملين، وهدف الساعين، من المؤمنين. كان هذا بيان تقوى الله حق تقاته، وأما بيان قوله تعالى: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} فإن الله تعالى لما أمرنا بتقواه حق التقوى، نهانا أن نموت على غير الإسلام، كاليهودية، أو النصرانية، أو غيرهما من الأديان الباطلة، وهل يملك المرء أن يموت على الإسلام أو غير الإسلام؟ والجواب: أن على العبد أن يسلم قلبه ووجهه لله تعالى، فلا يتقلب قلبه إلا في طاعة الله وطلب مرضاته، ولا يوجه وجهه راغبا وراهبا، إلا إلى الله عز وجل، ويستمر على ذلك، فإنه لا يموت إلا على تلك الحال وهى الإسلام، ومعنى هذا أن الاستمرار على طاعة الله ورسوله مع العزم على الموت على الإسلام سيؤدى قطعا بالعبد إلى أن يموت مسلما وكيف وهو يكره أن يعود إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار، وذلك لما يوجده الإيمان الصحيح الذي يرضى صاحبه أن يقتل ويصلب ويحرق ويمزق ولا يرضى أن يكفر بعد إيمانه وطاعته لربه وحصوله على رضاه. فاذكر هذا أيها المؤمن وواصل طريق تقواك لله، فإنك ضامن أن لا تموت إلا على الإسلام بمشيئة الرحمن جل جلاله، وعظم سلطانه. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء الرابع عشر: في حرمة اتخاذ البطانة من غير المؤمنين، وبيان أثرها السيئ

النداء الرابع عشر: في حرمة اتخاذ البطانة من غير المؤمنين، وبيان أثرها السيئ الآية (118) من سورة آل عمران أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} . الشرح: اذكر أيها القارئ والمستمع الكريمان ما سبق من أسرار نداءات الرحمن في كتابه للمؤمنين به وبلقائه، إن منها إنذارهم وتحذيرهم من كل ما يرديهم أو يشقيهم. وها هو تعالى هنا يناديهم ليمنعهم ويحرم عليهم اتخاذ بطانة من غير المؤمنين كاليهود، والنصارى، والمشركين، يطلعونهم على بواطن أمورهم، وأسرار دولتهم وبخاصة الأسرار الحربية والمالية، فإن في هذا خطرا عظيما على الدولة المسلمة، وقد يؤدى بها إلى التلاشي بعد الفرقة والهزيمة، والعياذ بالله من كل شر وسوء يصيب الإسلام وأهله ودولتهم. فلنتأمل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} فالبطانة من يطلع على بواطن الأمور وخفاياها، ومن دوننا هم قطعا الكفار، وسواء كانوا أهل كتاب أو مشركين، ولنتأمل قوله {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} أي لا يقصرون في إفساد أموركم عنكم بشتى الوسائل تحت شعار العلم والمعرفة، أو النصح والتوجيه، ولنتأمل قوله تعالى: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} أي أحبوا حبا عظيما كل ما يوقعكم في العنت والمشقة، حتى تحرموا سعادة الدنيا وهناءها وتصبحوا عالة عليهم، ومحتاجين إليه لتذلكم الحاجة، وتهينكم بين أيديهم. ولنتأمل قوله تعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} أي قد ظهرت

البغضاء وهى شدة بغضهم لكم لأنكم مسلمون وهم كافرون. وقال بأفواههم ولم يقل بألسنتهم إشارة إلى أنهم إذا تكلموا لكم ناصحين ومعلمين يتشدقون بالكلام، فتمتلئ أفواههم به إظهارا للرغبة في نفعكم وخيركم، والمتأمل الواعي البصير يعرف هذا من كلامهم، وما تخفى صدورهم من التغيظ عليكم والبغض لكم أكبر مما يظهر من كلامهم ولنتأمل قوله تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} فلننظر، فتتجلى لنا نعمة الرحمن الرحيم بعباده المؤمنين، إنها منته تعالى علينا، حيث منعنا من اتخاذ البطانة من غيرنا صرف للشر والأذى عنا، وإبقاء على نورنا وهدايتنا وكرامتنا. إنه يعقب على نعمة البيان والهداية بقوله: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ} الكاشفة لنا عن مخبئات أعدائنا لنا من الحسد والكره والغيظ والبغض. إن كنا نعقل عنه سبحانه وتعالى ما ينزله علينا ويخاطبنا به إكراما منه لنا فلله الحمد والمنة. ألا فليعلم هذا كل مسئول في دولة الإسلام وليعمل به ولا يعرض عنه ولا يتنكر له. فإن المناعة التامة للحفاظ على دولة الإسلام وقوتها وامتداد ظلها في العالمين. ولنورد أخيرا ما يثبت به ما بيناه من هداية هذه الآية الكريمة الحاملة للنصيحة والتوجيه الرباني لأمة الإسلام، فهذا البخاري يروى في صحيحه تعليقا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كان له بطانتان: بطانه تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانه تأمره بالسوء وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله "، من هنا وجب على كل من ولى أمر المسلمين أن يعرف هذا ويحذر من بطانة السوء فلا يقبل اقتراحاتها ولا توجيهاتها، ويقبل مل تقدمه البطانة الصالحة ويشكرها عليه ويقربها منه ويدنيها إليه. وهذا عمر رضى الله عنه قال له أحد رجاله: إن هاهنا رجلا من نصارى الحيرة لا أحد أكتب ولا أخط بالقلم منه أفلا يكتب عنك؟ فقال: لا آخذ بطانة من دون المؤمنين. وجاء أيضا أبو موسى الأشعرى بحساب نصراني لعمر رضى الله عنه فانتهزه وقال: لا تدنهم وقد أقصاهم الله، ولا تكرمهم وقد أهانهم الله ولا تأمنهم وقد خونهم الله. قل لي أيها المؤمن أبعد هذا يجوز اتخاذ بطائن من أهل غير الإسلام، يطلعون على بواطن أمور الدولة والأمة؟ والجواب لا، لا وليس معنى هذا أن لا نستخدم غير المؤمنين إذا دعت الحاجة إلى إستخدامهم، وإنما لا نطلعهم على بواطن أمورنا ولا نضعهم في مقاعد التكريم والإكبار والإجلال ونترك أهل العلم والإيمان. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء الخامس عشر: في النهى عن أكل الربا والأمر بتقوى الله عز وجل

النداء الخامس عشر: في النهى عن أكل الربا والأمر بتقوى الله عز وجل الآية (130) من سورة آل عمران أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الشرح: اعلم أيها المؤمن زادك الله علما ووفقني وإياك للعمل بما نعلم فإن العلم بلا عمل كشجر بلا ثمر ورضى الله عن على بن أبى طالب، إذ قال: " العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل ". وإن قلت لي ماذا أعلم؟ قلت لك اعلم عظم ذنب آكل الربا واحذره، فإن الله تعالى ما توعد أهل الإيمان بعذاب النار كما توعد آكل الربا؛ إذ قال تعالى: {اوَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وها هو ذا تعالى في هذا النداء الخامس عشر من نداءات الله تعالى لعباده المؤمنين ينهاهم عن أكل الربا ويأمرهم بالتقوى ويطمعهم في الفلاح الذي هو النجاة من النار ودخول الجنة، فيقول لهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} إذ كان الرجل يستقرض من أخر مالا إلى أجل معين فإذا حل الأجل ولم يجد سدادا يقول لمن أقرضه أخر وزد فيؤخر ويزيد فيه، فإذا حل الأجل ولم يجد سدادا فيقول له أخر وزد أيضا وهكذا حتى يصبح القرض الذي كان مائة درهم _ مئات الدراهم. وهذا هو ربا النسيئة الذي يتضاعف. أما ربا الفضل فإنه تحصل فيه الزيادة فور البيع بأن يبيعه قنطارا بر بقنطار ونصف برا. ويبيعه ألف درهم بألف وعشرة مثلا وهكذا في كل الربويات، وهى الذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح وما يلحق بها من كل مقتات مدخر، إذ هذه الربويات لا تباع إلا كيلا بكيل أو وزنا بوزن بلا زيادة إلا أن تختلف أجناسها كبيع فضة بذهب أو بر بشعير أو تمر بملح

مثلا فلا بأس بالزيادة على شرط أن يتم البيع في مجلس واحد لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد ها وها..". واعلم أيها المؤمن أن ربا البنوك اليوم أكثر ظلما وأعظم ذنبا من ربا الجاهلية الذي حرمه الله تعالى في هذه الآية وفى غيرها من آيات البقرة؛ لأن ربا البنوك من وضع اليهود، واليهود لا رحمة عندهم، ولا شفقة في نفوسهم على غير بنى جلدتهم، فإن البنك إذا أقرض امرؤا ألفا إلى أجل يكتبها عليه ألفا ومائة، وإذا تأخر سدادها رفع قيمتها حتى تكون أضعافا مضاعفة، أما ربا الجاهلية من العرب فإنه لا يزيد عليه شيئا إذا سلم الدين في وقته الذي حل عليه، وإنما يزيد عليه إذا حل الأجل ولم يسدد فقط. لعلك أيها القارئ الكريم ترى أن الربا إذا كان غير مضاعف لا بأس به، لما قد يفهم من هذه الآية: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} إياك أن يعلق بذهنك هذا المعنى؛ فإنه غير وارد أبدا. وإنما الآية ذكرت حال المرابين في عصر الجاهلية فعاتبتهم على ذلك. أما بعد أن حرم الله الربا فإنه حرمه تحريما مطلقا لا فرق بين كثيره وقليله واسمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقرر هذه الحقيقة فيقول: " درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية" 1. ويقول صلى الله عليه وسلم: " الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم" 2. ألا فليجتنب المؤمن الربا وليبتعد عنه. وليذكر ما يساعده على ذلك من قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) " اجتنبوا السبع الموبقات" فيسأل عنها فيقول " الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولى يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات" 3. وهل تدرى ما علة تحريم الربا؟ إنها ما يلي:- 1-المحافظة على مال المسلم حتى لا يؤكل بالباطل. 2-توجيه المسلم إلى استثمار ماله في أوجه المكاسب الشريفة الخالية من الاحتيال والخديعة، والغش، كالفلاحة، والصناعة، والتجارة. 3-سد الطرق المفضية بالمسلم إلى عداوة أخيه المسلم وبغضه وكرهه.

_ 1 رواه أحمد بسند صحيح. 2 متفق عليه. 3 متفق عليه.

4-فتح أبواب البر في وجه المسلم ليتزود لآخرته فيقرض أخاه المسلم بلا فائدة وينتظر ميسرته بلا فائدة وييسر عليه أمره ويرحمه ابتغاء مرضاة الله؛ وفى هذا ما يشيع المودة بين المسلمين ويقوى روح الإخاء والحب والتصافى بينهم. فاذكر هذا أيها المؤمن وعلمه غيرك من إخوانك المؤمنين. وأخيرا: هل عرفت لما جاء الأمر بتقوى الله تعالى بعد النهى عن أكل الربا في هذا النداء؟ إذ قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ؟ إنه من اجل إرهاب النفوس وإخافتها على الإصرار على أكل الربا؛ لأن الله تعالى لرحمته بعباده لم يأذن لأحد منهم أن يأكل مال أخيه بغير حق، وتقوى الله تكون بامتثال أمره واجتناب نهيه، ومن امتثل أمر الله فاتقاه وأطاعه فلم يأكل الربا، فقد تهيأ للفلاح وهو كما عرفت الفوز بدخول الجنة بعد النجاة من النار. ألا فلنطع الله فلا نأكل الربا، ونتقى الله فلا نعصيه في أمر، أو في نهى، لنظفر بأعظم ربح، ونغنم أفضل غنم ألا وهو الفلاح. جعلنا الله من أهله الفائزين به الناجين من النار الساكنين الجنة دار الأبرار. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء السادس عشر: في حرمة طاعة الكفار وما يترتب عليها من هلاك وخسران

النداء السادس عشر: في حرمة طاعة الكفار وما يترتب عليها من هلاك وخسران الآية (149، 150) من سورة آل عمران أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} . الشرح: اذكر أيها القارئ الكريم أن هذا النداء الإلهي لعباده المؤمنين يحمل تحذيرا لهم وإنذارا من الوقوع في فتنة الكفر بعد الإيمان، والضلال بعد الهداية، بل والموت بعد الحياة، إذ الكافر ضال بكفره ميت، والعياذ بالله من الكفر بعد الإيمان، والموت بعد الحياة. إنه لم تمت تلك الهزيمة للمؤمنين في معركة أحد الخالدة، بسبب معصية بعضهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وما من حقهم أن يعصوه، وما عصوه كفرا به ولا استخفافا بطاعته، ولكن زين لهم الشيطان وحسنت لهم نفوسهم ترك المراكز الدفاعية التي أنزلهم الرسول بها وحذرهم من تركها ومغادرتها مهما كانت الظروف والأحوال، إلا أنهم لما شاهدوا العدو فارا منهزما وإخوانهم في صفوف القتال يجمعون الغنائم هبطوا من جبل الرماة وجروا وراء العدو يجمعون الغنائم كإخوانهم، وما إن أخلوا مراكزهم الدفاعية حتى مال إليها العدو واحتلها وسلط عليم وابل السهام والنبال فهزمهم، وفروا هاربين تاركين رسولهم، تسيل دماؤه، وهو يدعوهم: إلى عباد الله، إلى عباد الله. كما قال الله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ} الأول: غم فوات النصر والغنيمة. والثاني: القتل وجراحات نبيهم صلى الله عليه وسلم إذ جرح في وجهه وكسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم، وهنا في هذه الحالة المحزنة المخيفة قال من قال من المنافقين، ارجعوا إلى دينكم وإخوانكم فلو كان محمد

نبيا ما قتل عمه وكثير من أصحابه، وجرح هو وكسرت رباعيته… ومنهم من قال: استكينوا لأبى سفيان وأصحابه واستأمنوهم، أي اطلبوا أمنكم منه؛ لأنهم الغالبون إلى غير هذا مما هو رغبة في العودة إلى الكفر بعد الإيمان، والعياذ بالله الرحمن. وفى هذا نزلت الآية الكريمة وما بعدها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} . فدلت أولا على أن الذين نادوا بالعودة إلى دين الآباء، والاستكانة إلى قائد المشركين، وطلب الأمن منه، هم كفار في الباطن مؤمنون في الظاهر، وهم المنافقون ورؤساءهم كابن أبى وإخوانه. وثانيا: أن طاعة الكافر والأخذ برأيه أو توجيهه وإرشاده تؤدى بمن أطاعه إلى الكفر حتما، ومن كفر بعد إيمانه فقد خسر خسرانا مبينا، وليس هذا خاصا بزمان دون زمان أو مكان دون مكان، بل طاعة الكافر تؤدى المطيع حتما إلى الكفر، _ إذ الكافر لا يأمر ولا يدعو ولا يهدى إلا إلى ما هو فيه وعليه. من الضلال والكفر، والخبث، والشر، والفساد. وثالثا: أن الطاعة الواجبة وهى المنجية من الخسران في الدنيا والآخرة هي طاعة الله، ورسوله، وأولى الأمر من المؤمنين، لا طاعة الكافرين والمنافقين؛ لأن من طلب النصر على العدو فليطلبه من الله مولاه القوى القدير العزيز، الحكيم، العليم، الخبير، لا من عدوه وعدو مولاه، وهو الكافر الضال الحائر الهالك المتهالك، فهل مثل هذا يطلب منه النصر؟ ولنعد تلاوة الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ} . أي أطيعوه وأطلبوا النصر منه، فإنه ينصركم وهو خير الناصرين ألا فليعلم هذا عباد الله اليوم وليؤمنوا بالله وليتقوه فيصبحوا حقا عبيده، وهو مولاهم الحق الذي لا مولى لهم سواه، ويومئذ إن أصابهم خوف، أو حلت بهم هزيمة لمخالفتهم هدى ربهم ونبيه صلى الله عليه وسلم فليطلبوا النصر منه سبحانه وتعالى فإنه ينصرهم ولا يذلهم ولا يخزيه وهو مولاهم، وهم لا مولى لهم سواه. ألا فليعلم هذا كل مؤمن ومؤمنة، وليطيعوا ربهم، ونبيهم وولى أمرهم منهم.. ولا يقبلوا طاعة غيرهم من أهل الكفر، والنفاق، والشرك، والجهل، من العرب أو

العجم على حد سواء وليطلبوا نصر الله على من عاداهم أو حاربهم أو سالمهم فإن الله لا يخلف وعده في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} ألا فلنقبل على الله في صدق ولنثق في وعده فإن الله لا يخلف وعده. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء السابع عشر: في حرمة التشبه بالكافرين والمنافقين في عقائدهم وسلوكهم

النداء السابع عشر: في حرمة التشبه بالكافرين والمنافقين في عقائدهم وسلوكهم الآية (156) من سورة آل عمران أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّىً لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . الشرح: من مظاهر رحمة الله بالمؤمنين وإكرامه لهم؛ لأنهم أولياؤه بإيمانهم به وبلقائه وتقواهم له بفعل أوامره، واجتناب نواهيه من مظاهر إكرامه لهم انه لم يرض لهم أن يتشبهوا بأعدائه وأعدائهم وهم الكفرة المشركون والمنافقون، إذ ناداهم بعنوان الإيمان قائلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} . ونهاهم عن التشبه بالكافرين والمنافقين بقوله: {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا} والكفر اقبح ذنب وأسوأه أي لا تكونوا مثلهم في الكفر والنفاق، وفيما يتولد عنه من الظلم والخبث والشر والفساد وسوء الأخلاق، ومن ذلك قولهم لإخوانهم في الكفر والنفاق إذا ضربوا في الأرض أي خرجوا مسافرين شفى تجارة وغيرها وأصابهم حادث من خوف أو جوع أو مرض فماتوا أو خرجوا غزاة مقاتلين فقتلوا في المعارك الجهادية وهم من المؤمنين الصادقين بوصفهم مؤمنين في الظاهر وهم كافرون في الباطن؛ إذ النفاق هو إظهار الإيمان وإخفاء الكفر في النفس، فقالوا لإخوانهم المنافقين في مجالسهم الخاصة لو كان فلان وفلان وفلان عندنا ما خرجوا مسافرين غزاة مقاتلين، وما ماتوا وما قتلوا، فينتج لهم هذا القول حسب سنة الله تعالى الحسرة والندم والحزن والألم في نفوسهم، كما قال تعالى: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ}

أي حسب سنته {حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} فنهى الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن التشبه بحال الكافرين والمنافقين الظاهرة والباطنة حتى في السلوك النفسي الخفي، كهذا الذي هو قولهم لإخوانهم لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، لما ينتج ذلك من الحسرة التي هي ألم يأخذ بخناق النفس بسبب فوت مرغوب، أو فقد محبوب، والله تعالى لا يحب لأوليائه وصالحي عباده المؤمنين به وبلقائه والمطيعين له، ولرسوله، لا يحب لهم ما يؤذيهم من حزن أو حسرة أو ندم، فلذا تهاهم عن التشبه بالكافرين بقوله: {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّىً لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} ثم ذكرهم بقوله: {وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ} ليعلمهم أن الله تعالى هو الذي بيده الحياة والموت فقد يحيى المسافر والغازي، ويميت 1 المقيم في داره وبين أهله، والقاعد عن القتال دون غيره. إذ الأمر له وهو على كل شئ قدير، فلا معنى إذا لما يردده أولئك الكافرون من قولهم: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، إلا أن يجعل الله تعالى ذلك حسرة في قلوبهم. ألا فليحذر المؤمنون مثل هذا القول فإنه قول باطل، ويجلب الألم والحسرة والعياذ بالله تعالى، كما يحذرون كل تشبه بالكافرين في الزي والسلوك وحتى التفكير والهم بالأمور للفوارق بين المؤمنين والكافرين في الاعتقاد، والقول والعمل والصفات الظاهرة والباطنة. وختم تعالى توجيهه لعباده المؤمنين بقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تأكيدا لنهيه لعباده المؤمنين عن التشبه بالكافرين في الظاهر والباطن لما فيه من الضرر والفساد وسوء الحال والمآل فأعلمهم أنه بصير بأعمالهم الظاهرة والباطنة ألا فليعلموا ذلك وليحذروا التشبه بأعدائهم وإلا فستحل العقوبة بهم كما حلت بغيرهم، لأن لله تعالى سننا لا تتبدل ولا تتجول… هذا ولنذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " من تشبه بقوم فهو منهم " فمن تشبه بالصالحين فهو صالح، ومن تشبه بالفاسدين فهو فاسد، لأن سنة الله تعالى في أن من رغب في شئ وطلبه بجد ورغبة حصل عليه، وفاز به، وما تشبه أحد بآخر إلا لرغبة في نفسه أن يكون مثله فهو كائن إذا لا محالة وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: " من تشبه بقوم فهو منهم ".

_ 1 يروى أن خالد بن الوليد رضى الله عنه قال عند موته: ما في موضع شبر إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة برمح وها أنذا أموت كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء!!؟!.

وأخيرا أيها القارئ أو المستمع لهذا النداء وما حواه من النهى عن التشبه بالكافرين في الاعتقاد والقول والعمل والفهم وحتى الذوق، فاحذر أن يراك الله تعالى تتعمد التشبه بالكافرين، فإن عذاب الله شديد، واذكر قوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ولا تغفل عنه ولا تنسه. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء الثامن عشر: في الأمر بالصبر والمصابرة والرباط، والتقوى رجاء الفلاح

النداء الثامن عشر: في الأمر بالصبر والمصابرة والرباط، والتقوى رجاء الفلاح الآية (200) من سورة آل عمران أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الشرح: اذكر أيها القارئ الكريم أن الله تعالى ينادى المؤمنين؛ لأنهم أحياء بإيمانهم بالله ربا، وبمحمد رسولا، وبالإسلام دينا، والحى إذا نودي سمع، وإذا أمر طاع، وإذا نهى أنتهي، وإذا أنعم عليه شكر، وإذا أوذي في الله صبر، والكافر لا نصيب له من هذه المظاهر الحيوية، وذلك لكفره بالله، ورسوله ودينه. واذكر ما ناداهم لأجله في هذا النداء وهو الصبر والمصابرة، والرباط والتقوى وإليك بيانها: 1-الصبر: وهو حبس النفس على ما تكره وله ثلاث مواطن، الأول: الصبر على طاعة الله، ورسوله، وأولى الأمر من المؤمنين، والثاني: الصبر عن ترك ما حرم الله ورسوله من الأقوال والأفعال والصفات. والثالث: الصبر على البلاء الذي يبتلى به الله تعالى عباده المؤمنين تكفيرا لذنوبهم، أو رفعا لدرجاتهم، والصبر على البلاء معناه الرضا به والتسليم لله تعالى فيا ابتلاه به، وآية ذلك عدم الجزع والسخط، والإكثار من حمد الله تعالى على قضائه، وابتلائه. 2-المصابرة: وهى الصبر في وجه العدو الصابر، لذا كانت المصابرة أشد من الصبر، لأنها صبر في وجه عدو صابر. فأيهما لم يثبت على صبره سقط وهلك. ولذا كان النجاح والغلبة لأيهما أطول صبرا. يؤكد هذا قول وفر بن الحارث في اعتذاره عن

الانهزام إذ قال شعرا: سقيناهم كأسا سقونا بمثلها ... ولكنهم كانوا على الموت أصبرا 3-المرابطة: وهى لغة مصدر رابط يرابط رباطا مرابطة، وهى في الشرع ربط النفس والخيل والعتاد الحربي في الثغور الإسلامية، وهى الأماكن التي يخشى أن يتسرب منها العدو إلى بلاد المسلمين، وهى غالبا تكون على السواحل البحرية، والأماكن الخالية من المدن كما تكون في حدود بلاد العدو المتصلة بالبلاد الإسلامية والرباط فرض كفائي إذا قام به من يؤمن حدود بلاد المسلمين ويرهب عدوهم سقط الواجب عن الباقين إذ هو كالجهاد، ويتعين على من عينه الإمام عليه وفيه يقول الله تعالى في سورة الأنفال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} وللرباط فضل عظيم، فقد روى البخاري عن انس رضى الله عنه قوله: " رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها " وروى مسلم عنه صلى الله عليه وسلم: " رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه " وإن من مات مرابطا جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه، وأمن الفتان أي في قبره. واعلم أن الجيوش الإسلامية اليوم إن هم أقاموا الصلاة في ثكناتهم، واتقوا الله فلم يعصوه بترك واجب أو فعل مكروه، ثم نووا الرباط في سبيل الله لحماية بلاد المسلمين فإنهم مرابطون، ويجرى لهم كما ورد في فضل الرباط والمرابطين. 4-التقوى: وهى تقوى الله عز وجل بالخوف منه والخشية من عقابه، وأليم عذابه الحاملة للعبد على طاعة الله وطاعة رسوله بفعل الأوامر واجتناب النواهي، في السراء والضراء والمنشط والمكره، والعسر واليسر هذه التقوى هي التي بها وبالإيمان يتحقق للعبد ولاية الرحمن وما بعد ولاية الرحمن من مطلب أسمى ومقام أعلى. إذ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون لا في الدنيا، ولا في البرزخ، ولا في يوم القيامة. ولهم البشرى في الحياة الدنيا وفى الآخرة. وبعد اذكر أيها القارئ الكريم هذه الأوامر الأربعة التي تضمنها هذا النداء الكريم، اذكر وعد الله تعالى لأهلها وهو الفلاح. وما هو الفلاح، إنه الفوز العظيم المتمثل في دخول الجنة بعد النجاة من النار. واذكر هذه الأوامر الأربعة

سرها أن تزكى النفس وتطهرها من أوضار الذنوب والآثام، وإذا زكت النفس وطهرت استحقت الفلاح، واقرأ لذلك قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} واذكر للفوز قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} ألا فلنذكر هذا أيها القارئ والمستمع، ولا ننسه. والله ولى من تولاه. وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

النداء التاسع عشر: في تحريم إرث النساء ومنعهن حتى يسلمن ما أخذن من المهور

النداء التاسع عشر: في تحريم إرث النساء ومنعهن حتى يسلمن ما أخذن من المهور الآية (19) من سورة النساء أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} . الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم أن لهذه الآية سبب اقتضى نزولها وهو ما رواه البخاري عمن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: " كانوا إذا مات الرجل – عن زوجته – كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاء زوجها، وإن لم يشاءوا لم يزوجوها فهم أحق بها من أهلها " فنزلت هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ....} فنادى الله تعالى عباده المؤمنين بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} لينهاهم عما كانوا متعارفين عليه في الجاهلية، وهو أن الرجل إذا مات وترك زوجة ورثها أكبر أولاده وهى كارهة لذلك قطعا، ثم هو إن شاء تزوجها، أو زوجها غيره وأخذ المهر له، وإن شاء أبقاها حتى تعطيه ما أخذت من مهر من والده. فحرم تعالى هذا الإرث الجاهلي الجائر، فقال: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} فأصبحت المرأة إذا مات زوجها ترث منه ما أعطاها الله وهو الثمن، إن كان له ولد، وإلا فترث الربع، ثم تبقى في بيته حتى تكمل عدتها أربعة أشهر وعشرا، ثم تذهب حيث شاءت. وكما حرم تعالى إرث الزوجة حرم عضلها أي منعها أيضا، وهو أن يكده الرجل امرأته

لدمامتها، أو سوء خلقها فيضايقها ويؤذيها حتى تفتدى منه بمال، ثم يطلقها فقال تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} أي من مال، وهو المهر. هذا إن لم ترتكب الزوجة فاحشة الزنا، أو تترفع عن الزوج وتتكبر عليه وتبخسه حقه في الطاعة والمعاشرة بالمعروف، أما إن ارتكبت فاحشة واضحة بينة لا شك فيها ونشزت نشوزا، أو أعرضت عن الزوج إعراضا فإن للزوج أن يضايقها حتى تفادى نفسها منه بمثل المهر. ثم وجه تعالى عباده المؤمنين إلى ما فيه خير الزوجين فقال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي على كل مؤمن أن يعاشر زوجته بالمعروف، وهو الإحسان إليها وعدم الإساءة إليها بقول أو فعل، إن كره المؤمن زوجته فليصبر عليها، ولا يطلقها فلعل الله تعالى يجعل في بقائها خيرا، كأن تنجب له ولدا ينفعه الله تعالى به، أو تذهب تلك الكراهة عن نفسه، ويصبح تحبها وتحبه يودها وتوده، وهذا المراد من قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} ، وصدق الله العظيم، وله الحمد والمنة على إرشاده وتوجيهه لعباده المؤمنين إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم، ويزيد هذا الإرشاد الرباني وضوحا قول الرسول صلى الله عليه وسلم في رواية مسلم وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضى منها آخر "، ومعنى يفرك: يبغض. إي لا يجوز للمؤمن أن يبغض امرأته، فإنه إن كره منها خلقا من أخلاقها فسيرضى منها خلقا آخر. هذا وأذكر أيها القارئ الكريم أو المستمع المستفيد ما حملته هذه الآية من هدايات إلهية وهى: 1-إبطال قانون الجاهلية الذي كان يسمح لولد الزوج إذا مات والده أن يرث امرأة أبيه فيتزوجها، أو يزوجها، ويأخذ مهرها أو يسترد منها ما مهرها أبوه ويطلقها. وما أقبح هذه العادة الجاهلية، والحمد لله على نعمة الإسلام الذي دفع هذا الظلم وأبطل قانون الجاهلية الجائر الفاسد، وأبدله بقانون الرحمة الإلهية لعباد الله المؤمنين. 2-حرمة عضل الزوجة والتضييق عليها حتى تفدى نفسها بما أخذته من المهر أو أكثر إذ هذا الصنيع مظهر من مظاهر الظلم والاعتداء وفساد القلوب والأخلاق. 3-الإذن للمؤمن بان يأخذ فدية من امرأته إذا كرهته وأساءت إليه ولم تعاشره

بالمعروف فمتى أتت بفاحشة أو أساءت العشرة مع زوجها، وأظهرت كراهيتها له، للزوج الحق في أن يطلقها بفداء، وهو ما يسمى بالخلع، فيطلقها مقابل مبلغ مالي، قد يزيد على المهر الذي تسلمته منه يوم عقد نكاحها. 4-لفظ (عسى) في اللغة معناه الترجي، وقد يقع المرجو، وقد لا يقع، إلا إذا كان القائل (عسى) الله سبحانه وتعالى فإن عسى تفيد وقوع المرجو، وعدم تأخره وذلك لعلم الله تعالى وقدرته وحكمته ورحمته. لذا قوله تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً} يجعل المؤمن يأخذ بما يوجبه عليه ربه تعالى، ويصبر على المرأة التي كرهها ولا يلبث أن يزول ذلك الكره، ويحل محله الرضا، والحب، والخير الكثير. وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

النداء العشرون: في حرمة أكل أموال المؤمنين بالباطل وحرمة قتل النفس بغير حق

النداء العشرون: في حرمة أكل أموال المؤمنين بالباطل وحرمة قتل النفس بغير حق الآية (29) من سورة النساء أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} . الشرح: هل تذكر أيها القارئ أن المراد بالمؤمنين الذين ناداهم الله عز وجل هم الذين آمنوا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، وأنهم بإيمانهم أهل لأن يكلفوا وينهضوا بالتكاليف، فيفعلون منها ما يفعل، ويتركون منها ما يترك، وذلك لكمال حياتهم فها هو ذا تعالى قد ناداهم بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} لينهاهم عن أكل أموالهم بينهم بالباطل، أي بدون حق كالإرث، أو التجارة، أو العمل، أو الصدقة على مستحقيها، لفقره أو مسكنته، أو لوجوبها كالنفقة على الزوجة، والولد، والوالدين، وهو معنى قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} أي بدون حق يقتضي الأكل، وعبر بالأكل، لأن الغالب في الأموال يؤكل بها، وإلا فكل مال أخذ بغير حق حرام سواء أكل به وشرب، أو بنى به وسكن، أو ركب به ولبس أو فرش، واستثنى تعالى مال التجارة فقال: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فإن التاجر قد يشترى الشاة من صاحبه بعشرة برضاه، ويبيعها بعشرين، أو يشترى الدار بمائة ألف، وقد يبيعها بمائة وخمسين منه فلا يقولن قائل قد أكل فلان مال أخيه؛ لأنه باعه الشاة بعشرة، فكيف يبيعها بعشرين وقد أخذ عشرة بغير حق، والجواب أن الله قد أباح ربح التجارة بقوله: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . نعم لو أشترى منه ما اشتراه بدون رضاه، فلا يحل له ذلك الربح ولو قل والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " بأن يرد أحدهما البضاعة لمن ابتاعها منه أو

يتفرقا من المجلس فيذهب كل إلى سبيله فحينئذ قد تم البيع وأصبح للمشترى أن يبيع بما شاء وما ضر البائع إن اشتراها بعشرة، وباعها بعشرين، لهذه الآية الكريمة: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . ولنعلم أن إباحة ربح التجارة مشروط بشرط التراضي بين البائع والمشترى؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما البيع عن تراض " فإن لم يحصل تراض بينهما، فالبيع باطل، ومن أخذ تجارة بغير رضا صاحبه فربحه باطل، حرام، وعليه أن يرده إلى صاحب البضاعة التي أخذها بدون رضا بائعها. فلنذكر هذا أيها المؤمنين. ولنعلم أن أكل أموال المؤمنين بالباطل له صور منه: 1-السرقة: إذ حرم الله السرقة وحكم بقطع يد السارق. 2-الربا فمن أعطى أخاه قرضا فلا يحل له أن يأخذ منه زائدا عن قرضه ولو كان درهما واحدا. 3-الغش كأن يبيعه سلعة فاسدة وهو لا يدرى فسادها لأنه مستور أو خفي وقد حدث مرة أن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم سوق المدينة فوجد صرة (كيسا) فيها طعام فأدخل يده في وسطها فوجد بها بللا، فعاب على البائع، وقال له: " لم لا تجعل المبتل منه ظاهرا حتى يعلمه المشترى يا فلان إن من غشنا فليس منا، المكر والخداع في النار ". 4-القمار فكل مال القمار حرام لأنه بغير حق. 5-أكل العربون وهو أن المشترى لصاحب السلعة بعضا ويقول له إن أتمت الثمن أخذت البضاعة وإن لم آتك فالبضاعة لك وما دفعته أيضا هو لك فأكل هذا العربون حرام، لأنه بغير حق. وقوله تعالى في هذا النداء: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} فإنه نص قطعي في تحريم قتل المؤمن أخاه صغيرا أو كبيرا، سليما أو مريضا، وكذا قتل المؤمن نفسه بأي (وسيلة) ولو بأن يمتنع من الماء أو الطعام حتى يموت، فضلا عن أن يشرب سما أو يلقى بنفسه في بئر، أو من رأس جبل، أو بناء عالي، كذلك قتل النفس التي حرم الله قتلها في هذه الآية وفى غيرها من الآيات القرآنية بقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّم

اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} وقد أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم عن حكم تحريم أكل أموال المؤمنين وقتلهم في أعظم مشهد إنه يوم عرفة إذ جاء في خطبته الطويلة الشاملة قوله صلى الله عليه وسلم: " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ". ثم قال: " اللهم اشهد فقد بلغت ... " ولنعلم أيها المؤمنون أن جريمة قتل النفس لا تفوقها جريمة سوى الكفر، والشرك، ودونهما جريمة الزنا، والعياذ بالله تعالى. وأخيرا إن جريمة الانتحار الشائعة في ديار الكفار قد ظهرت أيضا في ديار المسلمين فلنذكر وعيدا لأصحابها على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح إذ قال: فداه أبى وأمي ونفسي والعالم أجمع قال: " من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة " وقال صلى الله عليه وسلم: " من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها بطنه يوم القيامة في نار جهنم خالدا مخلد فيها أبدا ". وقال صلى الله عليه وسلم: " ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا أبدا ". وقال صلى الله عليه وسلم: " ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو مترد في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا " ألا فلنستعذ بالله من أكل أموال المؤمنين ومن قتل أنفسهم. فإن الله كان بنا رحيما لذا حرم ما حرم علينا. ولله الحمد والمنة، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

النداء الحادي والعشرون: في حرمة الصلاة حال السكر وحرمة الصلاة والمكث في المسجد حال الجنابة ومشروعية التيمم للعذر

النداء الحادي والعشرون: في حرمة الصلاة حال السكر وحرمة الصلاة والمكث في المسجد حال الجنابة ومشروعية التيمم للعذر الآية (43) من سورة النساء أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً} . الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم أن هذا النداء يحوى أحكاما عدة ومعرفتها واجبة وهاأنذا أفصلها لك تفصيلا، فاحفظ النداء أولا ثم أقبل على معرفة ما فيه من أحكام فقهية ضرورية، واعمل بها وعلمها غيرك، تظفر بشرف العظمة في السماء لما رواه مالك (أن من علم وعمل بما علم وعلمه غيره دعي في السماء عظيما) وإليك بيان الأحكام: 1-حرمة الصلاة حال السكر. وهذا الحكم نسخ بآية تحريم شرب الخمر من سورة المائدة فلم يجز شرب الخمر بحال من الأحوال. وعلى فرض أن من شربها فاسق فلا يدخل في الصلاة وهو سكران إذ وضوءه باطل فلا تصح صلاته. 2-حرمة الصلاة على الجنب والحائض والنفساء إلا بعد الغسل أو التيمم. وكذلك دخول المسجد. ولا بأس بالمرور فيه بدون جلوس. وهذان الحكمان دل عليهما قوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} أي غسل الجنابة. 3-المريض، والمسافر، والذي انتقض وضوءه ببول أو غائط، أو ضراط، أو فساء، والجنب بجماع أو احتلام هؤلاء إذا لم يجدوا ماء للوضوء أو الغسل عليهم أن

يتيمموا ويصلوا أو يدخلوا المسجد دل على هذين الحكمين قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّب} . 4-بيان كيفية التيمم وهو أن يضع المتيمم كفيه قائلا بسم الله على التراب الطاهر فإن لم يكن فعلى حجر فطرى ليس مصنوعا ويمسح وجهه ثم يضع يديه أيضا على التراب أو الحجر ويمسح كفيه. وكان ابن عمر يمسح مع كفيه ذراعيه وهو جائز. ودل على كيفية التيمم هذه قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُ} وقوله تعال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً} فيه إظهار لرحمة الله بالمؤمنين وعفوه عن مسيئهم؛ إذ الآية نزلت فيمن صلوا وهم سكارى قبل تحريم الخمر. رحمة بهم فلم ينزل بهم عقوبة وغفر لهم ذلك الذنب الذي ارتكبوه بغير قصد. وإن سألت عن كيفية الاغتسال فاعلم أن الجنب يصب الماء على كفيه قائلا بسم الله، ناويا رفع الحدث الأكبر أي الغسل من الجنابة، ثم يغسل فرجيه القبل والدبر وما حولهما، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، وهو أن يغسل كفيه ثلاثا، ثم يتمضمض ثلاثا ثم يستنشق ويسنثر ثلاثا ثم يغسل وجهه ثلاثا ثم يغسل يده اليمنى إلى المفرق ثلاثا ثم اليسرى ثلاثا ثم يمسح رأسه، وأذنيه مرة واحدة، ثم يغسل رجله اليمنى، ثم اليسرى إلى الكعبين، وهذا هو الوضوء فاعرفه. ثم يخلل شعر رأسه بكفيه، ثم يغسل رأسه كله ثلاث مرات ويغسل أذنيه ظاهرا وباطنا ثم يغسل شقه الأيمن من رأسه إلى قدمه، ثم الأيسر كذلك، بحيث يعمم الماء على كل جسده فلا يترك لمعة أبدا، بهذا عرفت كيفية الغسل والوضوء معا. وأخيرا أيها القارئ الكريم هل تعرف معنى الجنب؟ إنه الرجل أو المرأة إذا جامع، أو احتلم فخرج المنى أصبح جنبا أي به جنابة. وهل عرفت معنى الغائط؟ إنه مكان التغوط أي التبول والخرء، وهل عرفت معنى أو لامستم النساء؟ إنه الجماع. وهل عرفت موجبات الوضوء أو نواقضه؟ إن الوضوء يجب من الخارج من السبيلين القبل والدبر وهو البول والخرء، والريح والضراط، ومن مس المرأة بشهوة، وكذا مس الذكر، والنوم الثقيل. فهذه موجبات الوضوء وهى نواقضه أيضا فاعرف هذا. واعلم أن من تيمم لعدم وجود الماء أو لمرض يمنعه من مس الماء، أو الحصول عليه، فإنه يتيمم لكل صلاة، وإن تيمم للفرض صلى به النوافل القبلية والبعدية معا، فاعرف هذا زادك الله علما. وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

النداء الثاني العشرون: في وجوب طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وأولى الأمر من المؤمنين، ورد المتنازع فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسله

النداء الثاني العشرون: في وجوب طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وأولى الأمر من المؤمنين، ورد المتنازع فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسله الآية (59) من سورة النساء أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} . الشرح: اذكر أيها القارئ أنك أهل لنداء الله تعالى لك، ولسائر المؤمنين، والمؤمنات، وأن سبب هذا التأهيل هو الإيمان بالله ربا وإلها، وبمحمد نبيا ورسولا، وبالإسلام شرعا ودينا مع ضرورة الإيمان بباقي الأركان وهى الإيمان بالملائكة، والكتب والرسل، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره. وهل تدرى لم نادى الرب تبارك وتعالى عباده المؤمنين في هذا النداء؟ إنه ناداهم ليأمرهم بأمرين عظيمين أنيطت بهما سعادة الدنيا والآخرة معا. فالأول: طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة أولى الأمر من المؤمنين وهم الأمراء والعلماء. والثاني: رد المختلف فيه والمتنازع عليه إلى كتاب الله وهو القرآن الكريم وإلى سنة رسوله الأمين محمد صلى الله عليه وسلم تسليما، وإليك بيان وجه السعادة فيما أمر الله بطاعته، والرد إليه:

1-طاعة الله عز وجل، وطاعته تعالى تتحقق بفعل الأمر وترك النهى، ولا فرق بين ما كان من الأمر، للوجوب، وما كان للندب والإرشاد، وكذلك النهى لا فرق بين ما كان منه للتحريم وما كان للكراهة، وذلك أن الله تعالى لا يأمر ولا ينهى إلا من أجل إكمال عباده وإسعادهم وإبعاد الشقاوة عنهم والخسران في الحياتين، لأنه ربهم ووليهم وليس في حاجة إليهم، ومن هنا فإنه لا يأمرهم إلا بما يحقق سعادتهم وكمالهم، ولا ينهاهم إلا عما يسبب شقاؤهم وخسرانهم في الدارين. ومن هنا أيها القارئ الكريم وجب أن تعلم أن معرفة أوامر الله تعالى، ومعرفة نواهيه من أوجب الواجبات وألزمها، وأن من لم يعرف ذلك لا يمكنه أن يطيع الله بحال من الأحوال، فهو إذا خاسر لا محالة في الدنيا والآخرة فلنذكر هذا ولنعلم المؤمنين به. 2-طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهى كطاعة الله تعالى لا تتحقق إلا بمعرفة أوامره ونواهيه صلى الله عليه وسلم، ولا فرق بين ما كان للوجوب والندب، وما كان للتحريم والكراهة، وإن كانت أوامره ونواهيه صلى الله عليه وسلم مستوحاة من الكتاب الكريم إلا أن الله أمر بطاعته طاعة استقلالية، إذ قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} فكرر الأمر بالطاعة لعلمه تعالى أن الأمة قد تعجز عن إدراك الأحكام الشرعية والهدايات القرآنية ما لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم مبينا لها آمرا بها ناهيا. وكيف وقد قال عز من قائل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وهو صلى الله عليه وسلم قد قال: " من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله " ومن هنا وجبت طاعته صلى الله عليه وسلم على كل مؤمن ومؤمنة في الأمر والنهى، على حد سواء ولاسيما ما كان منها للوجوب والتحريم، ووجب معرفة أوامره ونواهيه لأمته وإلا فطاعته متعذرة على المؤمن الجاهل بها. 3-طاعة أولى الأمر من المؤمنين إذ أمر الله تعالى بها في هذا النداء بقوله: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وقيد {مِنْكُمْ} يخرج به طاعة الكافر إذ لا طاعة لحاكم كافر إلا في حالة الإكراه الشديد المقتضى للقتل أو أشد العذاب، لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ} وأولوا الأمر يتناول الأمراء والعلماء والوالدين والمربين الصالحين، إلا أن طاعتهم ليست مطلقة بل هي مقيدة بالمعروف. فمن أمر

منهم بالمعروف وهو ما عرفه الشارع صالحا نافعا أو ضارا فاسدا، فهذا الذي إذا أمر به الأمير أو العالم أو الوالد أو المربى تجب فيه الطاعة فعلا أو تركا. إذ قال تعالى وهو يخاطب رسوله:} وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ {أي على المؤمنات طاعتك في المعروف، وأما غير المعروف لو أمرتهن به فلا طاعة لك فيه، وهذا من باب الهداية القرآنية، وإلا حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر بغير المعروف. ومن هنا فطاعة أولى الأمر لا تجب إلا فيما كان معروفا في الشرع مأمورا به أو منهيا عنه وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرر هذا الحكم فيقول: " من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعصى الأمير فقد عصاني " وفى الوالدين يقول تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ... } كان ذلك الأمر الأول وهو طاعة الله وطاعة رسوله وأولى الأمر. وأما الأمر الثاني: فهو رد المختلف فيه إلى الكتاب والسنة وهو رد واجب من رفضه على علم فقد فسق وظلم وتعرض للكفر والعياذ بالله إذ قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} أيها المؤمنون حكاما أو محكومين علماء أو جاهلين) أي في حليته أو حرمته، في وجوبه أو عدم وجوبه، في جوازه وإباحته أو عدم ذلك فردوه إلى القرآن والسنة النبوية الصحيحة. والذي يقوم بالتحقيق والمعرفة هم العلماء علماء الشرع الفقهاء والعارفون بالكتاب والسنة، لا الجهال، والذين لا علم لهم حتى ولو كانوا الحاكمين. وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} فيه إشارة أفصح من عبارة وهى أن الذين يرفضون الرد إلى الكتاب والسنة فيما اختلف في حكمه ما هم بالمؤمنين بالله واليوم الآخر، ومن لم يؤمن بالله واليوم الآخر فهو كافر. وأخيرا وإتماما للنصح والتوجيه يقول تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي أحسن عاقبة فهو خير حالا ومآلا. والحمد لله والشكر له على هدايته وتعليمه وإنعامه. وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

النداء الثالث والعشرون: في وجوب أخذ الحذر من العدو والتصرف بحكمة حال الحرب واشتداد القتال

النداء الثالث والعشرون: في وجوب أخذ الحذر من العدو والتصرف بحكمة حال الحرب واشتداد القتال الآية (71) من سورة النساء أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} الشرح: تعلم أيها المؤمن أنه ما نادى الله تعالى عباده المؤمنين إلا ليبين لهم طريق سعادتهم وكمالهم، وعزهم وسيادتهم وقيادتهم؟ لأنهم أولياؤه وهو وليهم، وأن ما يأتى بعد النداء لا يكون إلا أمرا منجيا ومسعدا، أو نهيا مبعدا عن الشقاوة والخسران في الدارين، أو نذارة تخيف وترهب فتحمل المؤمنين على مواصلة فعل الخيرات، واجتناب المنكرات، ولا غرابة ولا عجب في هذا؛ لأن الولي لا يريد لأوليائه إلا نجاتهم وسعادتهم والمؤمنون المتقون أولياء الله، والله وليهم، إذ قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} يخرجهم من ظلمات الشرك والكفر والنفاق، وكبائر الذنوب وفواحش القول والعمل لتبقى أنفسهم زكية طاهرة يرضاها تعالى، ويعطيها مناها وقد أخبر بذلك في قوله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} وبينهم بقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} وبين تحقيق مناهم لهم فقال: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} أي الحاملة للبشارات ذلك هو الفوز العظيم. والآن هل تدرى لم نادى الله تعالى عباده المؤمنين في هذا النداء الثالث والعشرين من نداءاته لهم في كتابه الحكيم؟ إذ ناداهم ليأمرهم بأخذ الحذر من عدوهم، وعدو المؤمنين وهو كل كافر من الإنس والجن، وعدوهم هو من يريد هلاكهم وخسرانهم وذلهم وضعفهم وحقارتهم، ولا يكون هذا العدو إلا كافرا ظالما، والحذر يكون بتوقى المكروه بالأسباب المشروعة الممكنة، فمن الأسباب المشروعة الممكنة لتوقى

مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} هذا أولا، وثانيا: عدم الاستجابة لما يزينه للعبد، وتركه والإعراض عنه. وثالثا:لزوم الطهارة ما أمكن ذلك، ورابعا: قراءة القرآن في المنزل وصلاة النافلة فيه، وخامسا: تطهير المنزل من الصور، خاصة ما يعرض في الآلات كالفيديو والتلفاز من صور العواهر والكفار، وأصوات المزامير المختلفة بهذا يتقى الشيطان وإخوانه، ومن الأسباب الممكنة لتوقى شر العدو من الإنس: 1- عدم حسن الظن به أي بالعدو الكافر دائما وأبدا. 2- إعداد العدة الحربية بحسب القدرة على ذلك لقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} . 3- إسناد أمر القيادات الحربية إلى ذوى الكفاءات من القدرة البدنية والعلمية الحربية والإيمانية الروحية. 4- وجود خبرة عسكرية كاملة وقيادة رشيدة مؤمنة حكيمة عليمة. 5- وجوب أخذ الأهبة، والاستعداد التام في أيام السلم، وأيام الحرب على حد سواء؛ لآية الأنفال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} وهذا يعرف بالسلم المسلح. 6- وحدة الكلمة ووحدة الصف؛ إذ الفرقة محرمة بقول الله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} . 7- طاعة الله وطاعة رسوله بصورة عامة، وذلك بفعل الأوامر واجتناب المناهى في الحرب والسلم معا، إن الذنوب موجبة للعقوبة من الله تعالى، وقد تكون هزيمة بالعدو، والعياذ بالله. 8- في حال الهجوم يجب القيام بما يلي: أ- الثبات وعدم التقهقر. ب- ذكر الله تعالى بالقلب واللسان. وهذا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} . ولنراجع معاني هذه الآية الكريمة في النداء (45) من سورة الأنفال فإن بيانها هناك واف مفيد. وصلى الله وسلم على نبينا وآله وصحبه وسلم وعلى المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء الرابع والعشرون: في وجوب التثبت والتبين في الأمور التي يترتب على الخطأ فيها ضرر بالغ عظيم

النداء الرابع والعشرون: في وجوب التثبت والتبين في الأمور التي يترتب على الخطأ فيها ضرر بالغ عظيم الآية (94) من سورة النساء أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} الشرح: اذكر أيها القارئ الكريم ما قد سبق أن علمته، وهو أن الله تعالى لا ينادى عباده المؤمنين إلا ليأمرهم بما فيه سعادتهم وكمالهم وينهاهم عما فيه شقاؤهم وخسرانهم، وذلك لولايتهم له حيث آمنوا به وبلقائه، وبكل ما أمرهم أن يؤمنوا به واتقوه بفعل أوامره واجتناب نواهيه، إذ بذلك تطهر أرواحهم وتزكو نفوسهم، والله يحب التوابين إليه والمتطهرين من أجله. ولك أن تعلم أيها القارئ الكريم والمستمع المستفيد أن ما شرعه الله تعالى من عباداته؛ إنما شرعه لتزكية نفوس عباده وتطهيرها ليقبلها ويرضى عنها وأن ما حرمه على عباده ونهاهم عنه سواء كان اعتقادا أو قولا أو عملا إنما حرمه عليهم ونهاهم عنه من أجل أن لا تخبث أرواحهم وتتدسى نفوسهم فيكرهها ويبغضها، ولا يأذن له بدخول الجنة حتى لا تنعم برضاه والنظر إلى وجهه الكريم فيها. واقرأ لهذه الحقيقة قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} . وقوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} فالأبرار وهم المطيعون لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم في نعيم الجنة، وذلك لبرورهم، إذ البرور هو الطاعة. والفجار في جحيم

النار لفجورهم وهو معصية الله ورسوله المنتجة لخبث النفس، وتدسيتها وعفنها، الأمر الذي يسخط الله تعالى عليها ومن سخط الله عليه حرم عليه دخول الجنة دار الأبرار وأدخل النار دار العذاب والبوار، أعاذنا الله تعالى منها. إذا عرفت هذا سهل عليك أن تفهم قوله تعالى في هذا النداء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي غزاة ماشين لطلب العدو الكافر المحارب {فَتَبَيَّنُوا} أي تثبتوا ولا تتعجلوا {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ} أي سلم عليكم أو أسلم بأن نطق بالشهادتين {لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وتقتلوه رغبة في المال الذي عنده من غنم يسوقها أو غيرها من أنواع المال، فلا تفعلوا مرة أخرى مثل هذا، وإن كانت لكم رغبة في الغنيمة {فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} لا غنيمة واحدة فاطلبوها برضاه لا بسخطه واذكروا حالكم قبل إسلامكم فإنكم كنتم مثل هذا الذي قتلتموه، لا تملكون إلا النطق بالشهادتين {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} أي بنعمة الهداية إلى الإسلام ومعرفة قواعده وشرائعه. إذا {فَتَبَيَّنُوا} إن حصل لكم مثل هذا الموقف وراقبوا الله تعالى في أقوالكم وأعمالكم فلا تخرجوا عن طاعته عز وجل بحال من الأحوال {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} هذا واذكر أيها القارئ أن هذه الآية نزلت في حادثة معينة، وإليك قصتها كما هي فانظرها واعتبر بها كما أعتبر بها الأولون، فتثبت في كل خبر تسمعه، وفى كل عمل تشاهده فلا تسارع في الحكم على الأشياء بدون ترو ولا بصيره، فإنك تسلم من الأخطاء الضارة والمهلكة. روى البخاري مختصرا، وروى البزار مطولا عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: " بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فيها المقداد بن الأسود فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا، وبقى رجل له مال كثير لم يبرح، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله. وأهوى إليه المقداد فقتل، فقال له رجل من أصحابه: أقتلت رجلا شهد أن لا إله إلا الله والله لأذكرن ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلما قدموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله إن رجلا شهد أن لا إله إلا الله فقتله المقداد. فقال: ادعوا لي المقداد. فدعوه فجاء فقال له: يا مقداد أقتلت رجلا يقول لا إله إلا الله فكيف لك بلا إله إلا الله غدا فقال: فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} إلى أخر الآية، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم للمقداد: كان رجلا مؤمنا يخفى إيمانه مع قوم كفار فأظهر

إيمانه فقتلته، وكذلك كنت تخفى إيمانك بمكة قبل". وأخيرا إن هداية هذه الآية عظيمة؛ حيث أوجبت على كل مؤمن التثبت والتبين في كل قول يقوله أو يسمعه، وفى كل عمل يقوم به، أو يراه ويشاهده حتى لا يقول غير الحق، ولا يخبر بغير الحق ولا يعمل غير ما هو صالح ولا يشهد بغير ما هو متأكد بصحة ما رآه وعلمه مخافة أن يرتكب خطأ يهوى به في النار، أو يقع به عن مواكب الصالحين، ولاسيما فيما فيه هدر دم وإزهاق روح، أو إشاعة فاحشة فالتثبت التثبيت أيها المؤمن، والله يحفظ من يحفظه، وينصر من ينصره. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء الخامس والعشرون: في وجوب العدل في الشهادة وحرمة اتباع الهوى المانع من العدل فيها

النداء الخامس والعشرون: في وجوب العدل في الشهادة وحرمة اتباع الهوى المانع من العدل فيها الآية (135) من سور ة النساء أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم أن هذا النداء الإلهي له شأن عظيم، إذ هو يوجب العدل في القضاء، والشهادة، والقول، والعمل، والاعتقاد، فعلى من قضى بين اثنين أن يعدل في حكمه، وأن من شهد أن يعدل في شهادته، وأن من قال مخبرا أو آمرا، أن يعدل في قوله أو أمره، إذ على العدل قامت السموات والأرض وها هو ذا الرب تبارك وتعالى ينادى المؤمنين ويأمرهم قائلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} أي بالعدل هذا في الحكم بين الناس. {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} أي أدوا الشهادة لله؛ لأن الشهادة على عبده كالشهادة له عز وجل. إذا أدوها عادلة لا حيف فيها ولا جور، ولو كانت الشهادة على أنفسكم لأنكم عبيد الله فلا تظلموا أنفسكم؛ لأن ذلك لا يرضاه سيدكم لكم، وظلم النفس يكون باقتراف الذنب بالحيف في الشهادة وعدم العدل فيها إذا فاعدلوا ولو كانت الشهادة على أنفسكم؛ أو الوالدين والأقربين، فليشهد أحدكم على نفسه بأنه فعل أو ترك، وعلى أبيه وأمه وأقربائه، أنهم فعلوا أو قالوا أو أخذوا أو تركوا، فلا تحمله طاعة والديه، وواجب الإحسان إلى أقربائه، أن يكتم الشهادة عليهم أو يبدلها خائفا فيها جائرا ولا تراعوا في آداء الشهادة فقرا ولا غنى كما لم تراعوا قربا

أو بعدا، فالله أولى بالفقراء بالإحسان إليه، وأولى بالغنى أن يأخذ منه غناه. فلا يميلن أحدكم مع الفقير رحمة به، ولا مع الغنى طمعا فيه، وليوكل ذلك لله تعالى، فهو أولى به. بعد هذا الإرشاد والتوجيه إلى إقامة العدل في القضاء والشهادة. نهى تعالى المؤمنين عن إتباع الهوى فقال: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى} والهوى هو ميل النفس إلى ما تحبه وما يزينه الشيطان لها، فترغب فيه وتطلبه كحب السمعة والمال والجاه واللذات. فنهى تعالى عباده المؤمنين عن إتباع الهوى حتى لا يجوروا في قضائهم وشهاداتهم، ثم حذرهم في لي اللسان بالشهادة حتى لا تأتى عادلة، ومن الإعراض عنها بأن يكتموها فلا يؤدوها، أو يعرضوا عن بعضها فلا تكون كافية في إحقاق الحق وإبطال الباطل. فقال تعالى: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} أي لا يخفى عليه أمركم، عدلتم أو جرتم، أتممتم أو نقصتم، فاحذروا رقابته تعالى لكم وجزاءه إن عدلتم بالخير، أو جرتم بالعذاب، فما أحسن هذا التذييل في الآية الكريمة {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} . فاذكروا هذا ولا تنسوه فإنه يعينكم على تقوى الله عز وجل بامتثال أمره واجتناب نهيه فتكملوا وتسعدوا. واعلم أيها القارئ الكريم أن الله تعالى أمر بالعدل في القضاء والحكم في غير هذه الآية، أيضا فاسمع قوله تعالى: {ِانَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} وقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} كما نهى تعالى عن كتمان الشهادة في قوله: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} ومما يؤكد أمر حرمة الظلم والجور في الحكم والشهادة قول الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخاطب أصحابه: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الشرك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور ومازال يكررها حتى قال الحاضرون من أصحابه: ليته سكت " أي تمنوا سكوته خشية أن ينزل أمر عظيم لا يطاق ويقول صلى الله عليه وسلم مخبرا أمته معلمها لتكمل وتسعد: " خير الشهود الذي يأتى بشهادته قبل أن يسألها " وبناء على هذا فشر الشهود من يكتم شهادته فيضيع حق أخيه المؤمن، والعياذ بالله تعالى.

وأخيرا إليك أيها القارئ الكريم والمستمع المستفيد هذه الصورة الجليلة في بيان العدل والشهادة بالقسط، يقول عبد الله بن رواحه شهيد مؤته رضى الله عنه وأرضاه وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم. فقال لهم: والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلى ولأنتم أبغض إلى من أعدائكم من القردة والخنازير. وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم فقالوا بهذا قامت السموات والأرض. لنتأمل جميعا هذا الموقف الذي وقفه عبد الله بن رواحه صاحب الرسول صلى الله عليه وسلم وهو موقف يجب أن يقفه كل مؤمن، فلا تغرنه الحياة الدنيا فيحيف أو يجور أو يأخذ رشوة مالية مهما كانت الظروف والأحوال اللهم أحينا على ما أحييته وأمتنا على ما أمته عليه. إنك رب العالمين وولى المتقين. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء السادس والعشرون: في وجوب الثبات على الإيمان وتقويته والتحذير من ضده وهو الكفر

النداء السادس والعشرون: في وجوب الثبات على الإيمان وتقويته والتحذير من ضده وهو الكفر الآية (136) من سور ة النساء أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} . الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم أن هذا النداء الإلهي يشمل المؤمنين حق الإيمان وهم ممن آمنوا بالله ربا وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا ورسولا، فناداهم ربهم تعالى بعنوان الإيمان الذي هو صفتهم، ناداهم ليأمرهم بالثبات على إيمانهم وبتقويته وزيادته، حتى يبلغوا أعلى مستوى فيه، وهو اليقين، ويشمل المنافقون وهم مؤمنون في الظاهر كافرون في الباطن؛ وما أكثرهم في المدينة أيام نزول هذه السورة القرآنية الكريمة سورة النساء أمرهم بأن يؤمنوا الإيمان الحق، وهو الإيمان بالله وبرسوله ولقائه، وبالملائكة والكتب، والرسل، واليوم الآخر، والقضاء والقدر. إذ الإيمان الظاهر دون الباطل كفر ونفاق، فمن رحمة الله بالعباد ناداهم بعنوان الإيمان، وأمرهم بالإيمان الحق لينجوا ويسعدوا. كما يشمل هذا النداء مؤمني اليهود الذين يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون ببعض. فقد روى عن أن عبد الله بن سلام، وأسدا وأسيدا ابني كعب وثعلبة بن قيس، وسلام بن أخت عبد الله بن سلام، وسلمة ابن أخيه، ويامين بن يامين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة ونكفر بما سواه من الكتب والرسل، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "بل آمنوا بالله ورسوله محمد وكتابه القرآن، وبكل كتاب كان قبله "، فقالوا: لا نفعل فنزلت هذه الآية فآمنوا كلهم، فهنيئا لهم ولمن قبل دعوة الحق مثلهم.

والآن قد عرفت أيها القارئ أن هذا النداء الإلهي قد شمل ثلاث طوائف: الأولى: المؤمنون بحق وهم أهل الإيمان والإسلام والإحسان من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. والثانية: المؤمنون في الظاهر, الكافرون فى الباطن، وهم المنافقون، وقد انقرضوا فلم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمدينة منافق، إذ جلهم آمنوا ودخلوا في رحمة الله، ومات منهم عدد على نفاقه فهو في نار جهنم والثالثة: هم من اليهود الذين كانوا بالمدينة وقد آمن منهم من نزلت الآية فيهم وقد تقدم ذكرهم وأسماؤهم فانظر إلى إعجاز القرآن وبلاغته إذ لفظ آمنوا تناول ثلاث طوائف، لذا قيل القرآن حمال الوجوه. أما قوله تعالى: {وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} فالمراد به القرآن والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم وسر تضعيف الزاي هو أن القرآن ما نزل جملة واحدة ولكنه نزل منجما نجما1 بعد نجم في ظرف ثلاث وعشرين سنة تقريبا بحسب ما تدعو إليه حالة الدعوة وأهلها. وسر عدم تضعيف الزاى في قوله تعالى: {وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} أن المراد بالكتاب الكتب التي نزلت قبل القرآن وهى التوراة والزبور والإنجيل إذ (أل) في الكتاب للجنس، أي دالة على متعدد كلفظ الإنسان فإنه دال على عدد لا يحصيه إلا الله سبحانه وتعالى. فسر عدم تضعيف الزاى والعدول عن نزل إلى أنزل هو أن الكتب السابقة نزلت جملة واحدة بخلاف القرآن العظيم فإنه نزل منجما في خلال نيف وعشرين سنة. أما قوله تعالى في هذا النداء: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فقد اشتمل على أركان الإيمان الستة الوارد بعضها في آية البقرة إلا ركن القضاء والقدر المذكور في سورة القمر فلم يذكر في هذه الآية الكريمة ولنعلم أن الكفر يلزم ولو بعدم الإيمان بركن واحد بل ولو بجزء من ركن، كمن آمن بالرسل، ولم يؤمن بواحد منهم أو آمن بالكتب ولم يؤمن بواحد منهم بل لو لم يؤمن بآية واحدة يكفر بها. وقوله تعال: {فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} أي عن طريق الهدى الموصل بسالكه إلى سعادة الدنيا والآخرة. وفى هذه الجملة من هذا النداء وعيد شديد وتهديد عظيم، إذ من ضل ضلالا بعيدا لا يعود إلى الهدى بخلاف الضلال القريب، فإن صاحبه يرجى له أن يعود إلى الحق فينجو ويسعد، ينجو من النار ويدخل الجنة دار الأبرار، والضلال البعيد سببه الكفر بعد الإيمان وأما الكفر المتوارث الذي لم يسبقه إيمان فضلال صاحبه قريب، ولذا متى بلغته الدعوة ووجهت إليه آمن وأسلم ونجا من عذاب الله فلنذكر ولنتأمل والله ولى التوفيق. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

_ 1 أي وقتا بعد وقت؛ إذا النجم الوقت المضروب.

النداء السابع والعشرون: في حرمة اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، والتحذير من ذلك

النداء السابع والعشرون: في حرمة اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، والتحذير من ذلك الآية (144) من سور ة النساء أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} . الشرح: اذكر أيها القارئ الكريم والمستمع المستفيد أن نداء الله تعالى الموجه إلى عباده المؤمنين سببه ولايته تعالى للمؤمنين، لأنهم آمنوا به وبلقائه وبكل ما أمرهم بالإيمان به من ملائكته وكتبه ورسله وقضائه وقدره، واتقوه فيما أمرهم به ففعلوه، وفيما نهاهم عنه فتركوه فهو يناديهم بعنوان الإيمان المنبئ بحياتهم وكمالهم، ليأمرهم، أو ينهاهم، أو يرشدهم، أو يحذرهم، أو يبشرهم، بما يزيد في طاقة إيمانهم وصالح أعمالهم، ويحذرهم مما يقعد بهم عما خلقوا له من تزكية أنفسهم بذكر الله تعالى وشكره. ليتأهلوا للنزول في منازل الأبرار بدار السلام بعد نهاية عملهم بموتهم ومفارقة أرواحهم أبدانهم. ناداهم تعالى في هذا النداء الكريم لينهاهم عن اتخاذ الكافرين أولياء لهم دون إخوانهم المؤمنين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ومعنى اتخاذهم أولياء: أن يحبوهم ويقربوهم، ويأخذوا بنصحهم وإرشادهم وتوجيهيهم مع نصرتهم ومد يد العون لهم. دون إخوانهم المؤمنين ومثل هذا التحريم لموالاة الكافرين دون المؤمنين ما جاء في قوله تعالى من سورة آل عمران وهو قوله عز وجل: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا

مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} إلا أن هذا التحريم معه استثناء، وهو أن يكون المؤمن في دار الكفار قائما بينهم أذن له أن يداريهم بلسانه بالكلمة الملينة للجانب، المبعدة للبغضاء بشرط أن يكون قلبه مطمئن بالإيمان، كما قال ابن عباس رضي الله عنه: التقاة هي أن يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا يقتل، ولا يأتى مأثما ولنعلم أن هذا الاستثناء لا يبيح أبدا موالاة الكافرين، إذ هو مؤقت بحال الضعف والخوف ولم يتجاوز مداراتهم بالكلمة اللينة المبعدة لغيظهم وبغضهم، أما حبهم ونصرتهم فلا استثناء فيهما أبدا إلا أن يؤمنوا بالله ويدخلوا في الإسلام. ولنذكر الوعيد والتهديد في الآيتين. إذ في الأولى قال تعالى: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} أي حجة واضحة على تعذيبكم بما شاء من أنواع العذاب_ وأنتم أولياؤه، فكيف لو كان النداء للمؤمنين في الظاهر وهم المنافقون، فإن الله تعالى إن لم يكفوا عن موالاة الكافرين، فإنه سينزل فيهم قرآنا ويسلط رسوله والمؤمنين عليهم فيعذبونهم ويخزنوهم ويقتلونهم أما إذا كان النداء موجها لأولياء الله المؤمنين ظاهرا وباطنا. فإنه يحذرهم من موالاة الكافرين دائما وأبدا، وفى كل الأزمنة والظروف فإن هم لم يحذروا تحذيره، ولم يرهبوا وعيده، عذبهم بما شاء، ولقد عذب المؤمنين في ديار الأندلس بتعذيبهم بأبشع أنواع العذاب إذ قتلوا وشردوا وأبعدوا عن ديارهم، وذلك بسبب موالاتهم للكافرين وطلب نصرتهم على إخوانهم ولقد عذب المؤمنين في شتى ديارهم لعدم طاعته تعالى في معاداة الكافرين، إذ تشبهوا بهم وأحبوهم وناصروهم وأخذوا بإرشادهم ونصائحهم؛ حتى أذلوهم وأهانوهم، وإلى اليوم والمسلمون، أذلاء مهانون للكافرين لعلة فسقهم عن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله، إذ أخذوا بقوانين الكافرين وحكموا بها المؤمنين حبا في الكافرين وموالاة لهم. أما الوعيد والتحذير في الآية الثانية (آية آل عمران) فقد قال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} ومعنى يحذركم نفسه أي يخوفكم عقابه وعذابه إن أنتم لم تمتثلوا أمره، ولم تجتنبوا نهيه، وذلك بموالاتكم الكافرين بعدم بغضهم، وبمناصرتكم لهم على إخوانكم المؤمنين في أي مجال من مجالات الحياة؛ إذ الذي يوالى أعداء الله قد عادى الله، وقطع حبل ولايته به، فكيف يكون حال هذا العبد الذي كان الله وليه فأصبح الله عدوه والعياذ بالله إن حاله لا تكون إلا الذل

والهوان والضعف والصغار إذ مصيره كمصير غيره إلى الله عز وجل ومن صار أمره إلى الله وقد عصاه، وفسق عن أمره، وخرج عن طاعته، فأحب ما كره وكره ما أحب ووالى من عادى، وعادى من والى. فكيف يكون مصيره إنه خزي الدنيا وعذاب الآخرة. ألا فلنتق الله المؤمنون بامتثال أمره واجتناب نهيه. وقد نهانا عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، وحذرنا بقوله: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} ؟ فهل بقى لنا من عذر؟ والجواب: لا، والأكبر من ذلك فقد أرانا نقمته وعذابه الذي حذرنا منه في شتى بلاد العالم الإسلامي شرقا وغربا، أما سلط علينا الكفار فاستعمرونا واستغلونا وأذاقونا مر العذاب.. ألا فلنتق الله قبل أن يعود الخزى والعذاب مرة أخرى بأشد من الأول ولله الأمر من قبل ومن بعد. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء الثامن والعشرون: في وجوب الوفاء بالعهود وفى المنة بحلية بهيمة الأنعام إلا ما استثنى منه

النداء الثامن والعشرون: في وجوب الوفاء بالعهود وفى المنة بحلية بهيمة الأنعام إلا ما استثنى منه الآية (1) من سور ة المائدة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} . الشرح: ينادى الرب تبارك وتعالى عباده المؤمنين به وبلقائه، وبرسوله، وبوعده لأوليائه، وهم أهل طاعته، وبوعيده لأعدائه، وهم أهل الكفر به والفسق عن أمره، يناديهم بعنوان الإيمان، لأنه يريد أن يكلفهم بما لا يقدر عليه إلا المؤمنون لكمال حياتهم بإيمانهم وولاية ربهم. فما الذي كلفهم به يا ترى؟ والجواب أيها القارئ الكريم والمستمع المستفيد إنه كلفهم بأمر عظيم ألا وهو الوفاء بالعقود والعهود وأولها الوفاء بالعهود، التي بينهم وبينه سبحانه وتعالى؛ إذ قال تعالى من سورة النحل: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ....} وقال من هذه السورة (المائدة) {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فنعمة الله تعالى هي الإيمان به، والإسلام، والإحسان، وميثاقه تعالى الذي أخذه عليهم هو أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا. فكل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله فقد قطع لله تعالى على نفسه عهدا وميثاقا، بأن يعبد الله تعالى وحده، وبما جاء به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الشرائع والأحكام، وهكذا كل من نذر لله نذرا فقد قطع على نفسه عهدا فليوف به إن كان صياما صام، وإن كان قياما قام، وإن كان رباطا رابط، وإن كان صدقة تصدق، وإن عجز كفر كفارة يمين، واستغفر الله وتاب إليه، ومثل عهود الله تعالى في وجوب الوفاء

بها عهود الناس فيما بينهم، إذ الكل أمر تعالى بالوفاء به لاسيما العهود الموثقة بالإيمان، وما كان متعلقا بحقوق الناس. كحقوق النكاح، والبيع، والشراء، والإيجار، وكالأمانات مطلقا، فمن أؤتمن أمانة وجب عليه أدائها وحرم عليه إضاعتها أو خيانتها، لأمر الله تعالى بذلك كما في قوله تعالى: {ِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} وفي قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ولنذكر أيها القارئ في هذا الأمر الإلهي بالوفاء بالعقود ما قاله الحسن البصري أحد سادات التابعين فقد قال: " يعنى عقود الدين "، وهى ما عقد المرء على نفسه من بيع وشراء وإجارة وكراء، ومناكحة وطلاق، ومزارعة، ومصالحة، وتمليك، وتخيير، وعتق، وتدبير، فقد شمل هذا القول سائر أنواع العقود والعهود ألا فلنذكر هذا ولا ننسه وأما قوله تعالى في هذا النداء: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} فإنه تذكير بالنعمة لتشكر ولا تكفر والمراد من بهيمة الأنعام هي الأزواج الثمانية: الإبل، والبقر، والغنم، وهى: ضان وماعز، والكل ذكر وأنثى. وقوله تعالى: {إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} أي تحريمه منها وهو الميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، إذ جاء هذا في هذه السورة وبعد آيات محدودة. إذ قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} أي أدركتم فيه الروح فذبحتموه، {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} وهو ما ذبح لغير الله تعالى، كالذبح للأصنام والأضرحة والقبور أو الجان وما إلى ذلك. وقوله تعالى في هذا النداء: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} هو إضافة إلى تحريم ما حرم على عباده المؤمنين من اللحوم الفاسدة المخبثة للنفس الملوثة لها؛ إذ حرم على المحرم بحج أو عمرة أن يصيد، لما في الصيد من اللهو والغفلة عن ذكر الله، وعليه فلا يحل للمحرم أن يصيد ولا أن يأكل ما صاده وهو محرم أو صاده له غيره بأمره له أو برضاه عنه. فما صاده المحرم وما صيد له هو محرم كسائر المحرمات، الأكل مما أنزل الله تعالى في كتابه، أو على لسان رسوله، إذ نهى النبي صلى الله عليه وسلم من أكل كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور. وقوله تعالى في هذا النداء العظيم: {إِنَّ

اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} أي يبيح ويمنع، ويحل ويحرم، يبيح ما يريد إباحته، ويمنع ما يريد منعه، ويحل ما يريد حله، ويحرم ما يريد تحريمه، وكل ذلك تابع لعلمه وحكمته ورحمته وقدرته، فلذا الحلال ما أحل الله ورسوله، والحرام ما حرم الله ورسوله ولا يحل لمؤمن أن يحرم ما أحل الله ورسوله، ولا أن يحل ما حرم الله ورسوله. فلنذكر هذا أيها القارئ والمستمع حتى تقدر على طاعة الله ورسوله بالوفاء بالعقود، ومنها أن نشكر الله تعالى على نعمه، ولا نحرم ما أحل لعباده، ولا نحل ما حرم عليهم ولنفوض ذلك لله الذي يحكم ما يريد لعلمه الذي أحاط بكل شئ وحكمته التي لا يخلو منها شئ، ورحمته التي وسعت كل شئ، وقدرته التي لا يعجزها شئ. ولنقل آمنا بالله. والحمد لله. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء التاسع والعشرون: في تحريم استحلال شعائر الله إلا ما نسخ منها، وفى إباحة الصيد بعد التحلل، ووجوب التعاون على البر والتقوى، وحرمة التعاون على الإثم والعدوان.

النداء التاسع والعشرون: في تحريم استحلال شعائر الله إلا ما نسخ منها، وفى إباحة الصيد بعد التحلل، ووجوب التعاون على البر والتقوى، وحرمة التعاون على الإثم والعدوان. الآية (2) من سور ة المائدة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} . الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم أن هذا النداء الإلهي قد تضمن أمورا ذات خطر وشأن عظيم، وإليك بيانها بالتفصيل: 1-تحريم استحلال شعائر الله تعالى وهى أعلام دينه من سائر ما فرض وأوجب ونهى وحرم، فلا يستحل ترك صلاة، ولا صيام، ولا حج ولا اعتمار، ولا زكاة، ولا جهاد، ولا بر الوالدين، ولا صلة أرحام، ولا يستحل ما حرم الله من ربا وزنا، وكذب وغش وسرقة، وخيانة، وسب، وهتك عرض، إلى غير هذا مما هو واجب في الإسلام أو حرام، إذ كل ذلك من أعلام الدين وشرائعه. 2-إن ما نسخ من شعائر الدين هو الشهر الحرام وهو رجب كان محظورا القتال فيه، ثم نسخة الله تعالى بقوله: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} ، وكذا سائر الأشهر الحرم، قد نسخ القتال فيها إذا قاتلنا العدو فيها. ومن المنسوخ هدي المشركين

وقلائدهم، والمشركون أنفسهم حرم عليهم دخول المسجد الحرام، فكيف يبقى لهم قلائدهم التي كانوا يقلدون بها الإبل ليهدوها إلى الحرم والهدى ما يهدونه إلى الحرم والقلائد جمع قلادة ما يعلقونه على البعير أو الشاة إيذانا بأنه مهدى إلى الحرم فلا يتعرض له، وقد يعلق أحدهم لحاء من شجر الحرم فيحترم لذلك ولا يتعرض له. كان هذا قبل الإسلام، ثم نسخ في الإسلام. 3-حرمة التعرض لقاصد البيت الحرام للعبادة والتقرب، للحصول على رضوانه إلا أن يكون هذا القاصد كافرا أو مشركا فإنه لا يؤذن له بدخول الحرم. 4-إباحة الصيد لمن تحلل من إحرامه من المؤمنين؛ لأن المحرم لا يحل له الصيد حال إحرامه، كما لا يحل له أن يأكل ما صيد له، وهو محرم وهذا الحكم باق لم يطرأ عليه نسخ. 5-حرمة الاعتداء على العدو. فمن كان له عدو لا يجوز له أن تحمله عداوته على ظلمه والاعتداء عليه. إلا أن يظلم العدو فحينئذ يرد ظلمه واعتداؤه ولا حرج، وهذا معنى قوله تعالى في النداء: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} وهذا تم في الحديبية إذ صد المشركون الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن العمرة، وتم صلح بينهم، المعروف بصلح الحديبية، فحذر الله تعالى المؤمنين من أن يحملهم بغضهم وعداؤهم للمشركين الذين منعوهم من المسجد الحرام أن يعتدوا عليهم بعد أن تم الصلح بينهم. 6- وجوب التعاون بين المؤمنين على البر والتقوى. أي على فعل الخيرات كالصدقات والمعونات المختلفة كالقرض والسلفة، والإحسان والمعروف، إذ كل هذا من البر، وأما التعاون على التقوى وهى طاعة الله ورسوله في الأمر والنهى فهو تعاون على إقامة الدين بكامله بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فإن ترك واجب أو حق من الحقوق وجب على المؤمنين أن يتعاونوا على إقامة الواجب الذي ترك، وعلى إحقاق الحق الذي هدر بينهم، لأنهم أمة واحدة. 7- حرمة التعاون على الإثم والعدوان، أما الإثم فهو كل كبيرة من كبائر الذنوب كالزنا، والربا والسرقة والغيبة والنميمة، وترك الواجبات، وارتكاب المحرمات في المناكح والمطاعم والمشارب والملابس وغيرها، تلك هي الإثم الذي يحرم التعاون على إيجاده أو بقائه بين المؤمنين، أما العدوان فهم الظلم وهو الاعتداء على أرواح الناس، أو

أعراضهم، أو أموالهم، فلا يحل إعانة ظالم بحال من الأحوال، بل ولا الركون غليه، لقوله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} والركون يكون بالميل إليه، والرضا بظلمه، وعدم نهيه عنه. 8-الأمر بتقوى الله عز وجل؛ إذ قال تعالى في أخر النداء: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} والأمر بالتقوى معناه الأمر بطاعة الله ورسوله، وأولى الأمر من المؤمنين، وتتحقق التقوى بفعل ما يأمر الله به ويأمر به رسوله من الواجبات والمندوبات، وبترك ما نهى الله عنه، ونهى عنه رسوله من الاعتقادات الباطلة، والأقوال السيئة، والأفعال الضارة الفاسدة، وختم الله تعالى مضمون هذا النداء العظيم بقوله: {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ؛ ليحذر المؤمنين من عدم النهوض بما تضمنه هذا النداء من الأوامر والنواهي فإنهم إن أهملوا ما كلفوا به ستنزل بهم عقوبة الله فيندمون ولا ينفعهم ندم. ألا فلنحذر عذاب الله يا عباد الله، والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب!!! وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء الثلاثون: في وجوب الوضوء وبيان كيفيته ووجوب الغسل من الجنابة وبيان نواقض الوضوء وكيفية التيمم

النداء الثلاثون: في وجوب الوضوء وبيان كيفيته ووجوب الغسل من الجنابة وبيان نواقض الوضوء وكيفية التيمم الآية (6) من سور ة المائدة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} . الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم والمستمع المستفيد أن هذا النداء الإلهي العظيم قد اشتمل على علوم ومعارف ضرورية للمؤمن، فاحفظه وافهمه واعمل بما فيه، فإنه ما وجهه الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين إلا ليطهرهم به، فإذا طهروا رضى عنهم وأرضاهم، وجعل الجنة مأواهم، وإليك بيان ما تضمنه هذا النداء من علوم معرفتها ضرورية لكل مؤمن ومؤمنة: 1-وجوب الوضوء، على من أراد مناجاة الرب تبارك وتعالى بالوقوف بين يديه وذكره وتلاوة كتابة، والركوع والسجود له سبحانه وتعالى. 2-بيان كيفية الوضوء وهى: غسل الكفين ثلاثا، ثم المضمضة ثلاثا، ثم الاستنشاق والإستنثار ثلاثا، ثم غسل الوجه ثلاثا وحده طولا من منبت الشعر المعتاد في الجبهة إلى منتهى الذقن، وعرضا من وتد الأذن اليمنى إلى وتد الأذن اليسرى، ثم

غسل اليدين إلى المرفقين ثلاثا، يبدأ باليمنى ثم يمسح الرأس مع الأذنين مرة واحدة، ثم يغسل الرجلين إلى الكعبين يبدأ باليمنى، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن في كل شئ إلا في الدخول إلى المرحاض فإنه يقدم رجله اليسرى. هذا مضمون قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} أما غسل الكفين ثلاثا، والمضمضة والاستنشاق والاستنثار فقد بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. 3-الأمر بالغسل من الجنابة لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} أي اغتسلوا، والجنب هو من جامع امرأته فأدخل ذكره في فرجها ولو لم ينزل منه ماء. ومثله من احتلم في منامه فخرج منه المنى فهذا هو الجنب رجلا كان أو امرأة، والاغتسال هو أن يغسل كفيه ثلاثا ناويا الغسل الواجب عليه، ثم يغسل قبله ودبره وما حولهما، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة كما تقدم بيانه آنفا، ثم يخلل أصول شعر رأسه بالماء حتى لا يضره الماء البارد فيزكم، ثم يغسل رأسه مع أذنيه ثلاثا، ثم يغسل شقه الأيمن من رأسه إلى قدمه، ثم الأيسر كذلك، وعليه أن يتتبع الأماكن التي ينبو عنها الماء كتحت الإبطين وتحت الركبتين، وكذا الصرة. كما يخلل أصابع يديه ورجليه حال الوضوء. 4-نواقض الوضوء أو موجباته الدال عليها قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} ، إذ المجيء من الغائط معناه أنه تبول وتغوط، فمن بال أو أخرج فضلة الطعام وهو الخرء، أو فساء أو ضراط أو مس امرأته بشهوة، فإن كان متوضأ فقد انتقض وضوءه، وإن كان غير متوضأ وجب عليه الوضوء للصلاة أو الطواف أو مس المصحف، ومن نواقض الوضوء النوم الثقيل الذي لا يشعر صاحبه بخروج فساء منه، أو ضراط، وأكل لحم الجزور1، ومس الذكر بباطن الكف. 5-وجوب التيمم لمن لم يجد الماء للغسل أو الوضوء، أو وجده ولكن حاجته إليه ماسة كالشرب أو الطبخ لاسيما في حال السفر، أو وجده ولكن يمنع من استعماله خوف المرض أو زيادته أو عدم البرء منه. 6-كيفية التيمم: وهى أن يضرب كفيه قائلا بسم الله على التراب، فإن لم يجد فعلى الأرض أو الحجارة، ثم يمسح وجهه مرة واحدة، ثم يضرب كفيه أيضا مرة

_ 1 بعض الفقهاء لا يرى الوضوء من أكل لحم الجزور (الإبل) بحجة أن الحديث الوارد فيه منسوخ، والوضوء منه أحوط للدين.

أخرى ويمسح يديه إلى المرفقين وإن اكتفى بكفيه أجزأه ذلك لحديث عمار بن ياسر إذا قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: " إنما يكفيك أن تفغل هكذا ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجهه ". 7-من لطفه تعالى ورحمته ولإحسانه إلى عباده المؤمنين أنه لما أمرهم بالوضوء والغسل والتيمم عند انعدام الماء أو عدم القدرة على استعماله؛ لاطفهم بقوله سبحانه وتعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} أي عنت ومشقة، وإنما يريد طهارتهم ظاهرا وباطنا، وليتم نعمته عليكم بهدايتكم إلى الإسلام وبيان شرائعه ودعوتكم إلى القيام بها، إذ هي مصدر سعادتكم وكمالكم في الدارين وليعدكم بذلك إلى شكره، إذ سر الحياة بكاملها هو ذكر الله تعالى وشكره، وذكره يكون باللقب واللسان، وشكره يكون بالجوارح والأبدان، فالوضوء وغسل والتيمم من مظاهر الشكر لله تعالى على نعمة الإيجاد والإمداد فاللهم اجعلنا لك من الذاكرين الشاكرين، وأعنا عليهما، وعلى حسن عبادتك يا رب العالمين. وأخيرا أيها القارئ إليك هذه الجائزة العظيمة وهى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من توضأ أفأحسن الوضوء ثم رفع طرفه إلى السماء وقال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، فتحت له أبواب الجنة الثمانية " 1 فاذكر هذا واعلمه ولا تتركه فإنه كنز ثمين وخير كثير والسلام عليك ما واظبت وواصلت. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

_ 1 في رواية زيادة كلمة: (يدخل من أيها يشاء) .

النداء الحادي والثلاثون: في وجوب العدل في الحكم والشهادة وحرمة ترك العدل من أجل البغض والعداء والأمر بتقوى الله عز وجل

النداء الحادي والثلاثون: في وجوب العدل في الحكم والشهادة وحرمة ترك العدل من أجل البغض والعداء والأمر بتقوى الله عز وجل الآية (8) من سورة المائدة أعوذ بالله الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} الشرح: اذكر أيها القارئ الكريم ما تقدم من أمر الله تعالى لعباده المؤمنين به، وبلقائه بالعدل، وهذا أمر آخر، وذلك لعظم شأن العدل وأهميته وضرورته في كل شئ، حتى أن أمر السماء والأرض قام على العدل، فاذكر هذا واصغ تسمع ما في هذا النداء من الأمر بالقيام لله تعالى بكل ما أوجب على عباده القيام به من العبادات والآداب والأخلاق والأحكام، وأن يكونوا قوامين لا قائمين فحسب؛ إذ القوام كثير القيام بالحقوق والواجبات، بخلاف القائم فإنه أقل قيام من القوام. وقوله: {لِلَّهِ} نفى للشرك في كل ما يقوم به عبد الله المؤمن من عبادات وحقوق وواجبات أمر الله بها وأوجبها على عباده المؤمنين. وكما أوجب تعالى العدل في الأحكام وفى كل ما يقوم به المؤمنون من طاعات لله تعالى، أوجب العدل في أداء الشهادة، لأنه بالشهادة تؤدى الحقوق لأصحابها المشهود لهم، فإن جار الشاهد ولم يقم شهادته على العدل ضاع حق المشهود له مؤمنا كان أو كافرا، غنيا كان أو فقيرا وبما أن الكل عباد الله فلا يأذن الله تعالى بظلم عبد من عباده بإضاعة حقه، وهذا هو سر وجوب الشهادة بالقسط، أي العدل في قوله عز وجل: {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} واذكر هذا أيها القارئ والمستمع، وتأمل قوله تعالى في هذا النداء {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ

قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} أي ولا يحملنكم بغض الكافرين وعداوتهم، أو بغض كل من تبغضونه، وعداوة كل من تعادونه لأمر اقتضى بغضه أو عداوته من المؤمنين والكافرين أو الموحدين والمشركين، لا يحملنكم ذلك البغض على أن تجوروا في الحكم إذا حكمتم، أو في الشهادة إذا شهدتم. ولأهمية العدل في الأحكام والشهادات لها إذ القاضي يصدر حكمه باعتراف الجانى، أو شهادة اثنين من المؤمنين، أمر تعالى بالعدل مكررا، الأمر الأول: مؤكدا له بأمر أخر؛ إذ قال عز من قائل: {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} أي العدل في الحكم والشهادة، وفى كل ما يقوم به العبد لله من طاعات هو أقرب لتقوى الله عز وجل التي هي شطر ولاية الله للعبد، لما علمنا من أن أولياء الله هم المؤمنون المتقون، وأعداؤه هم الكافرون الفاجرون، وبناء على هذا فكل ما يقرب من تقوى الله عز وجل أو يحققها فالقيام به واجب أكيد، لا يصح التفريط فيه بحال من الأحوال. ويؤكد صحة هذا ويقرره أن ختم الله تعالى هذا النداء العظيم بالأمر بتقواه؛ إذ قال {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي خافوه خوفا يحملكم على القيام التام بما أوجب عليكم القيام به من سائر التكاليف التي أنزل الكتاب بها وبعث الرسول من أجلها، وبخاصة القيام بالعدل في الأحكام والشهادات، ولنعلم أن الخوف من الله الحامل للعبد على النهوض بالواجبات وأداء الحقوق والأمانات هذا الخوف يكتسب ويطلب وطريق طلبه واكتسابه للحصول عليه هو: 1-ذكر قدرة الله التي لا يعجزها شئ. 2-ذكر ضعف الإنسان وحاجته إلى ربه حنى في أنفاسه التي يرددها. 3-ذكر ما توعد الله تعالى به الفاسقين عن أمره، الكافرين بطاعته. 4-ذكر ما أحل الله بأعدائه من خراب ودمار وهلاك وخسران. 5-ذكر ما فاز به أولياء الله تعالى من كمال وعز وسيادة في الدنيا، وما هو مأمول لهم في الآخرة من نعيم مقيم في دار السلام. بهذا الذكر بالقلب واللسان يوجد الخوف من الله تعالى في القلب، وإذا وجد الخوف كانت التقوى التي هي طاعة الله، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم باعتقاد وقول، وفعل ما أمر

الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وبترك ما نهى الله عنه ورسوله من اعتقاد باطل وقول سيئ وعمل فاسد؛ وهو كل ما حرمه الله، ورسوله من الاعتقادات الباطلة، والأقوال الفاسدة الضارة والأعمال كذلك، وحسب العبد أن لا يغفل عن قوله تعالى في ختام هذا النداء وهو: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فإنه يوجد ملكة مراقبة الله تعالى، ومن أصبح يراقب الله تعالى في كل ما يأتى، وما يذر فقد حقق التقوى والولاية الإلهية وأصبح من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون في الدنيا والآخرة، اللهم اجعلنا منهم وتولنا كما توليتهم آمين. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء الثاني والثلاثون: في الأمر بذكر النعم لشكرها وتقوى الله عز وجل، والتوكل عليه سبحانه وتعالى

النداء الثاني والثلاثون: في الأمر بذكر النعم لشكرها وتقوى الله عز وجل، والتوكل عليه سبحانه وتعالى الآية (11) من سورة المائدة أعوذ بالله الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} . الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم أن الله تعالى لا ينادى عباده المؤمنين به وبلقائه إلا ليأمرهم بفعل ما يكملهم أدابا وأخلاقا، ودولة وسلطانا، ويسعدهم في دنياهم وأخراهم، لأنه ربهم ووليهم، والرب لا يريد لعبده ومملوكه إلا كماله وسعادته، والولي لا يريد لوليه إلا ما فيه خيره، وكماله وسعادته، وها هو ذا الله تبارك وتعالى ينادى عباده المؤمنين بهذا النداء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ليأمرهم بذكر نعمة عظيمة أنعم بها عليهم، هى أنه ما من مؤمن ولا مؤمنة من يوم تلك النعمة إلى يوم القيامة إلا وهو مأمور بشكر الله تعالى على تلك النعمة، والشكر متوقف على ذكر النعمة بعد معرفتها فلذا قال لهم: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} . وبين موقعها، وجلى لهم حقيقتها، فقال عز من قائل: {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} وقد تكررت محاولة قتل نبيهم صلى الله عليه وسلم عدة مرات وفى كل مرة يكف الرب تبارك وتعالى أيدي الخادعين الماكرين، فلم يصلوا بالأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالضرب أو القتل ومن تلك المرات محاولة غورث بن الحارث الواردة في الصحيح، وهى أن غورث الأعرابى رأى النبي صلى الله عليه وسلم قد نزل منزلا وتفرق أصحابه عنه يستظلون بالأشجار للاستراحة من عناء الغزو والتعب والسير في سبيل الله وقد علق النبي صلى الله عليه وسلم سيفه بشجرة واستراح كما استراح أصحابه وإذا غورث الأعرابي يأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ سيفه من

الشجرة وسله من غمده وأقبل على الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: من يمنعك منى؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم الله عز وجل، قال الأعرابي: مقالاته ثلاث مرات والرسول صلى الله عليه وسلم يرد عليه بقوله: الله عز وجل فسقط السيف من يد غورث وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ساكتا لا يتكلم والرسول صلى الله عليه وسلم معرض عنه ودعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأخبرهم خبر الأعرابي وهو جالس إلى جنبه ولم يعاقبه ولعل الأعرابي كان مبعوثا من قوم مشركين ليقتلوا النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه نعمة وهى نعمة نجاة نبيهم من القتل على أيدي أعدائه وأعدائهم، وهى أكبر نعمة شملت المؤمنين عامة من عهده صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة. ومرة أخرى وهى أن يهود بنى النضير تآمروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلقوا عليه رحى من سطح المنزل الجالس تحته إذ ذهب إليهم مع بعض أصحابه لمهمة تطلبت الذهاب إليهم بمقتضى المعاهدة السلمية التي كانت بينه صلى الله عليه وسلم وبينهم، لكن الله تعالى خيبهم حيث أوحى إليه صلى الله عليه وسلم بالمؤامرة فقام سريعا مع أصحابه، وندم اليهود لما فضحوا وأمر الله رسوله بإجلائهم بحكم المعاهدة التي نقضوها، فحاصرهم صلى الله عليه وسلم برجاله وأجلاهم عن المدينة فالتحقوا بالشام. وثالثة: تآمر يهود عليه لعائن الله تعالى على قتله صلى الله عليه وسلم بإطعامه سما فنجاه الله تعالى فهذه النعمة نعمة نجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من القتل حتى يتم الله شرعه ويكمل دينه ولما نزلت آية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} توفاه الله في حجرته المشرفة التي دفن فيها، ودفن معه صاحباه الشيخان أبو بكر وعمر رضى الله عنهما وأرضاهما، لهذا نادى الله تعالى عباده المؤمنين بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي بإنجاء نبيكم من القتل المدبر له (صلى الله عليه وسلم) من قبل أعداء التوحيد وأعداء الإسلام، اليهود، وبين ذلك بقوله: {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} أي بقتل نبيكم فكف أيديهم عنكم. تأمل هذا أيها القارئ كيف نسب الله تعالى القتل إلى المؤمنين والمتآمر على قتله هو نبيهم صلى الله عليه وسلم، فتفهم أن على كل مؤمن ومؤمنة أن يفدى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وولده ووالديه والناس أجمعين، وهو كذلك. وتأمل قول الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} . يتبين لك سر أمر الله تعالى عباده المؤمنين بذكر نعمة

الله عليهم بنجاة نبيهم من مكر أعدائه به ليقتلوه، فكف أيديهم وصرفهم خائبين خاسرين. وأخيرا أمره تعالى للمؤمنين بتقواه بقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} ، وذلك لما في تقواه عز وجل من رضاه وولايته الموجبة للسعادة والكمال في الحياتين. ألا فلنتق الله تعالى، وأمرنا بالتوكل عليه لا على غيره؛ إذ التوكل عليه يحقق المطلوب بدفع الأذى وتحقيق الخير الكثير، وأما التوكل على غيره فإنه يجلب الخيبة والمذلة والضياع. ألا أيها المؤمن القارئ والمستمع اذكر هذا ولا تغفل عنه فإنه سلم سعادتكم ومفتاح كل نعيم يحصل لكم. وفقنا الله تعالى لذلك وزادنا رضاه آمين. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء الثالث والثلاثون: في الأمر بتقوى الله عز وجل وطلب الوسيلة إلى الله تعالى. والجهاد في سبيله عز وجل

النداء الثالث والثلاثون: في الأمر بتقوى الله عز وجل وطلب الوسيلة إلى الله تعالى. والجهاد في سبيله عز وجل ... الآية (35) من سورة المائدة أعوذ بالله الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . الشرح: هل تذكر أيها القارئ الكريم سر نداء الله للمؤمنين بعنوان الإيمان وهو أن المؤمن حي بإيمانه يسمع ويعقل ويقدر على الفعل والترك بخلاف الكافر فإنه في حكم الميت إذ هو لا يسمع نداء الله عز وجل، ولا يجيب ولا يعقل ولا يفهم. وهل تذكر أن الله تعالى لا ينادى المؤمنين إلا ليأمرهم أو ينهاهم أو يبشرهم، أو ينذرهم، إذ في الأمر فعل ما يزكى نفوسهم، وفى النهى ما يبعدهم عما يدسيها ويخبثها. وفى البشارة ما يرغبهم في الصالحات. وفى النذارة ما يبعدهم عن مقارفة الذنوب المدسية للنفس، وها هو ذا تعالى في هذا النداء يأمرهم بتقواه إذ قال عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} أي خافوه خوفا يحملكم على طاعته إذ بطاعته تكون الوقاية من غضبه تعالى وعقابه في الدنيا والآخرة، وكما أمرهم بتقواه لينجوا من عذابه، أمرهم بما يرفع درجاتهم، ويعلى منازلهم ومقاماتهم في الدنيا والآخرة، ألا وهو التقرب إليه بنوافل العبادات كنوافل الصلاة والصيام والصدقات والحج والعمرة، والذكر والدعاء وما إلى ذلك من نوافل العبادات، فقال تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} أي اطلبوا العمل الصالح متوسلين به إليه تعالى، وهو سائر القرب التي يتقرب بها العبد إلى ربه ليظفر بحبه، ورضاه والقرب منه، واذكر أيها القارئ الكريم والمستمع المستفيد انه شاع بين المسلمين أنواع من الشرك سموها وسيلة، ذلك لغلبة الجهل في الأمة الإسلامية؛ إذ العدو الكافر أبعدهم عن

مصدر العلم والمعرفة وهو الكتاب والسنة، فأصبح القرآن يقرأ على الموتى فقط، والسنة تقرأ للبركة لا غير لاستنباط الأحكام الشرعية والآداب والأخلاق الإسلامية، ومن الأمور الشركية التي أطلقوا عليها اسم الوسيلة ووقع فيها الجهال وغيرهم: 1-دعاء الأموات والاستغاثة بهم كأن يقول: يا سيدي فلان أنا بك وبالله ادع الله لي سل الله لي قضاء حاجتي… الخ. 2-الذبح للأولياء كأن يذبح الشاة على الضريح (القبر) هذه على روح سيدي فلان. 3-النذر للأولياء كأن يقول يا سيدي فلان إذا قضى الله حاجتي ذبحت لك شاة أو أنرت ضريحك بشمع ونحوه، أو وضعت ستائر حريرية على تابوتك. 4-الحلف بالأولياء نحو وحق سيدي فلان، أو رأس سيدي فلان. 5-نقل المرضى إلى أضرحتهم للتبرك بهم والتمرغ على تربتهم ودعائهم وطلب الشفاء منهم. كل هذا الشرك يسمونه توسلا إلى الله بعباده الصالحين، فاذكر هذا واحذره، واعلم أن التوسل إلى الله عز وجل يكون بفعل الخيرات، والإكثار من الطاعات من أجل رفع الدرجات، والظفر بالرغائب المحبوبات. هذا واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن له درجة في الجنة تسمى الوسيلة وهى أقرب منزل إلى عرش الرحمن، وأن من سألها من الله تعالى له نالته شفاعته، إذ قال صلى الله عليه وسلم: " إذا أذن المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا على، ثم قولوا اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت سيدنا محمد الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته فإن من قال ذلك وجبت له شفاعتي". وقوله تعالى في أخر النداء: {وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} هذا الأمر الثالث في هذا النداء، وهو الأمر بجهاد الكفار لإدخالهم في الإسلام رحمة بهم حتى ينجو من الخلود في عذاب النار، وهناك جهاد أخر يدخل تحت هذا الأمر ألا وهو جهاد الفساق بأمرهم ونهيهم، وجهاد الشيطان بلعنه وعدم الاستجابة له فيما يزين من القبائح، ويحسن من المنكرات وجهاده بعدم الاستجابة له، والتعوذ بالله منه وجهاد النفس وهو أشدها وحقيقته: أن يحمل العبد نفسه على أن تتعلم محاب الله، وتعمل بها وتتعلم مكاره الله وتتجنبها، وتعلم غيرها ذلك من المؤمنين والمؤمنات، والجزاء على هذا الجهاد هو ما واعد الرحمن به يقول: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} والفلاح هو النجاة من النار ودخول الجنة دار الأبرار جعلنا الله تعالى من أهلها آمين. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء الرابع والثلاثون: في حرمة اتخاذ اليهود والنصارى أولياء وعلة ذلك والتحذير من موالاتهم

النداء الرابع والثلاثون: في حرمة اتخاذ اليهود والنصارى أولياء وعلة ذلك والتحذير من موالاتهم الآية (51) من سورة المائدة أعوذ بالله الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الشرح: اذكر أيها القارئ الكريم أن ولاية الله تعالى تتم للعبد بالإيمان الصادق والتقوى الكاملة، وأن من والى الله عز وجل يحرم عليه موالاة أعدائه وأن من أعداء الله سبحانه وتعالى اليهود والنصارى، فاليهود قتلوا أنبياءه وفسقوا عن أمره والنصارى ألهوا غيره وعبدوا سواه؛ فلذا نادى الرب تبارك وتعالى عباده المؤمنين به وبرسوله وبلقائه قائلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} آي يا من آمنتم بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا ورسولا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء لكم تحبونهم وتنصرونهم، فإنهم أعداء ربكم وأعداؤكم فكيف توالونهم أتوالون من يعاديكم وتحبون من يبغضكم، وتنصرون من يود هزيمتكم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن اليهودي ولى أخيه اليهودي، والنصراني ولى أخيه النصراني فكيف تصبح ولاية نصراني على نصراني، وولاية يهودي على يهودي إن هذا غير ممكن ولا سائغ بحال من الأحوال، ألا فاحذروا أيها المؤمنون، ولا تتخذوا أعدائكم وأعداء ربكم ودينكم ونبيكم أولياء لكم تحبونهم وتنصرونهم فإن ذلك يقضى بكم إلى الكفر _ والعياذ بالله _ ويقرر هذه الحقيقة قوله تعالى في هذا النداء: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} ، ومن كان منهم فهو مثلهم في كفر ومعاداة

الله ورسوله وبذلك يحرم هداية الله، إذ الله تعالى لا يهدى القوم الظالمين. وكيف وقد ختم نداءه هذا للمؤمنين ليرشدهم إلى ما يكملهم ويسعدهم ختمه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ومن والى أعداء الله عز وجل فقد عاداه،. ومن عادى الله فقد ظلم نفسه إذ الظلم وضع الشيء في غير موضعه ومن ظلم وكفر فكيف تصح موالاته أيها المؤمنون؟ ألا فلنتق الله عز وجل أيها المؤمنون ولنوال من والى الله، ولنعاد من عادى الله. فإن هذا الأمر هو الذي نادانا الله من أجله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} فكيف لا نحذر أن نكون يهودا أو نصارى إذا نحن واليناهم _ والعياذ بالله _ من الكفر بعد الإيمان، ومن الضلال بعد الهداية والولاية ولتعلم أيها القارئ والمستمع أن الموالاة التي حرمها الله تعالى علينا هي أن نحب اليهودي بقلوبنا ونعرب له عن ذلك بألسنتنا وأن نقف إلى جنبه ننصره على أعدائه وهم إخواننا، هذا الحب والولاء هما للمؤمنين لا للكافرين فالمؤمن يحب المؤمن ويعرب له عن حبه بلسانه وعمله، ويقف إلى جنبه ينصره ويموت معه أو قبله لأنه أخوه في الإيمان والإسلام والإحسان، وولاية الرحمن، أما الكافر من يهودي أو نصراني أو مجوسي أو بوذي أو مشرك فإنهم كفروا بربنا ونبينا وديننا، وحاربونا، وحملوا الحقد والبغض والعداء لنا ولربنا عز وجل، فكيف تسوغ موالاتهم مع هذه الفواصل المختلفة والصوارف المتعددة اللهم لا، لا. وأخيرا لنجتنب أي مظهر من مظاهر اليهود والنصارى وأهل الكفر قاطبة حتى في الزي واللباس، والشعار ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. والله ولى من والاه وعدو من عاداه، ولا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء الخامس والثلاثون: في التحذير من الردة عن الإسلام وبيان صفات المؤمنين الصادقين

النداء الخامس والثلاثون: في التحذير من الردة عن الإسلام وبيان صفات المؤمنين الصادقين الآية (54) من سورة المائدة أعوذ بالله الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} الشرح: اذكر أيها القارئ الكريم أن نداءات الرحمن لعباده وأولياءه المؤمنين تدور حول زيادة هدايتهم. وطلب كمالهم وسعادتهم في الدارين، وها هو ذا تعالى يحذرهم من الردة عن الإسلام، والعودة إلى الشرك، وهذا نادر، وإنما المتوقع هو التهود والتنصر _ والعياذ بالله _، ويدل لذلك تحذيره في النداء الرابع والثلاثين قبل هذا إذ حرم موالاة اليهود والنصارى فقال: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} ، إذ هذا سبيل التهود والتنصر ثم أعلم أن من تولاهم أصبح منهم وبذلك يكون قد ارتد عن الإسلام ودخل في اليهودية أو النصرانية _ والعياذ بالله تعالى _ من السلب بعد العطاء ومن الضلال بعد الهدى. وها هو ذا سبحانه وتعالى يناديهم فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ} أي يرجع {مِنْكُمْ} أيها المسلمون {عَنْ دِينِهِ} الذي هو الإسلام، وقل لي: بم تكون الردة؟ إنها تكون باعتقاد اليهودية أو النصرانية وحبهم وموالاتهم وشهود معابدهم وعباداتهم، والتزى بزيهم، والسير في ركابهم، يفعل ما يفعلون وترك ما يتركون تعبدا وتدينا، فلنذكر هذا ولا ننسه، ونحذر كل مسلم ومسلمة من الوقوع فيه فإنه الردة الموجبة لغضب الله وعقابه كان هذا في التحذير من الردة. أما

صفات المؤمنين الصادقين فقد بينها الله تعالى بقوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} . فأولى هذه الصفات حب الرحمن لهم ولنعم هذه الصفة. وثانيها حبهم لله تعالى وأعظم بها نعمة. وثالثها كونهم أذلة على المؤمنين أي هينين لينين. ورابعها أعزة على الكافرين أي أقوياء أشداء. وهاتان الصفتان: الرابعة والثالثة جاءت من نعت الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذ قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 1. وخامسة الصفات: يجاهدون في سبيل الله؛ آي كلما دعا داعي الجهاد حملوا سلاحهم وخرجوا لا هدف لهم ولا غاية سوى رضى الله ونصره دينه وأوليائه. وسادسة الصفات: أنهم لا يخافون في اعتقاد الحق وقوله والعمل به وإظهاره والدعوة إليه لومة لائم، بل ولا عداء معاد ولا حرب محارب. وذلك لكمال علمهم وصحة إيمانهم وعظيم يقينهم. وقل لي أيها القارئ الكريم بم ختم الله توجيهه لأوليائه شفى هذا النداء العظيم؟ إنه ختمه بقوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} إن هذه الصفات الست التي لا يقدر على إعطائها إلا الله، ولا يستحقها إلا أولياء الله هي من فضل الله تعالى، وفضل الله لا يعطى إلا لمن طلبه ورغب فيه وصدق في طلبه وسلك السبيل المحقق له والموصل إليه، وقل لي بما يطلب هذا الفضل العظيم؟ فإني أعلمك بأنه يطلب بالإيمان بالله، والكفر بالطاغوت إذ قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ

_ 1 سورة الفتح: 29

أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 1 وإن قلت ما كيفية الإيمان بالله، والكفر بالطاغوت؟ قلت إنها تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله: هو أن يؤمن بالله ربا لا رب سواه، وإلها لا إله غيره، ويعلن ذلك بقوله أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويعبد الله بما شرعه من عبادة بين كيفيتها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعبد مع الله غيره بأية عبادة ويسخط ولا يرضى بعبادة غير الله أبدا. وأخيرا أيها القارئ وأحسبك قد فهمت نداء الله وما تضمنه من هداية وهدى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبه أبى ذر فافهمها واعمل بها تكمل وتسعد. أخرج بن كثير في تفسيره رواية أحمد في مسنده رحمه الله إذ قال عن أبى ذر قال أمرني خليلي صلى الله عليه وسلم بسبع: " أمرني بحب المساكين والدنو منهم، وأمرني أن انظر إلى من هم دوني، ولا أنظر إلى من هو فوقى هذا في أمور الدنيا لا أمور الدين وأمرني أن أصل رحمي وإن أدبرت (قطعت) ، وأمرني أن لا أسأل أحد شيئا، وأمرني أن أقول الحق وإن كان مرا، وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم، وأمرني أن أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله فإنهن من كنز تحت العرش ". فاعلم أيها القارئ الكريم أنك إذا حققت الصفات الست التي تضمنتها آية هذا النداء وأضفت إليها هذه الصفات السبع فقد بلغت ذروة الكمال، وحزت أفضل الخصال، ونلت ما لا ينال إلا بتوفيق وإفضال وإنعام ذي الجلال والإكرام وسلام عليك في الفائزين. وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

_ 1 سورة البقرة: 256.

النداء السادس والثلاثون: في حرمة ولاية من يتخذ دين الله هزوا ولعبا من أهل الكتاب وغيرهم

النداء السادس والثلاثون: في حرمة ولاية من يتخذ دين الله هزوا ولعبا من أهل الكتاب وغيرهم الآية (57 _ 58) من سورة المائدة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} . الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم أن هذا النداء الإلهي العظيم يحرم على المؤمنين ولاية الكافرين، سواء كانوا أهل كتاب كاليهود والنصارى، أو كانوا لا كتاب لهم كالمجوس، أو كانوا مشركين أميين، وعلة هذا التحريم هي اتخاذهم دين الإسلام الحق الذي لا دين يقبله الله تعالى سواه. كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1 ولا شك أن نزول هذه الآية كان لسبب سخرية واستهزاء بعض الكافرين من يهود ونصارى ومشركين بالدين الإسلامي، إذ ورد أن المنافقين واليهود كانوا إذا سمعوا الأذان يضحكون ويلعبون بصوت المؤذن فمنهم من يقول هذا نهيق حمار، ومنهم من يرفع صوته بالأذان ساخرا لاعبا مستهزئا، فأنزل الله تعالى هذا النداء ينهى المؤمنين عن موالاة هؤلاء المستهزئين بشعائر الدين الإسلامى، الضاحكين اللاعبين، كلما أتيحت لهم الفرصة حيث لم يكن معهم من يخافونه من المسلمين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي يا من أمنتم بالله ربا وإلها، وبالإسلام دينا وشرعا، وبمحمد نبيا ورسولا {لا تَتَّخِذُوا

_ 1 سورة آل عمران: 85.

الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ} أي الإسلام وشرائعه وأحكامه {هُزُواً ْ} يستهزئون به {وَلَعِباً} يلعبون به، وبين تعالى المستهزئين اللاعبين فقال: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وهم اليهود والنصارى {وَالْكُفَّارَ} يعنى المشركين {أَوْلِيَاءَ} أي توالونهم بالحب والنصرة. ثم أمر تعالى عباده المؤمنين بتقواه وهى طاعته فيما أمر ونهى فيفعلون المأمور بحزم وجد، وينتهون عن المنهى، كذلك ومن جملة ما نهاهم عنه موالاة أهل الكتاب والمشركين وبخاصة الذين يستهزئون بالإسلام ويسخرون منه، ويضحكون ويلعبون، إذ موالاة هؤلاء الساخرين المستهزئين لا يسيغها عقل ولا دين. فكيف تصح إذا موالاتهم من أهل الإيمان، لذا قال الله تعالى في ختام الآية {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . وفعلا هم مؤمنون؛ لذا فلا يصح منهم أبدا موالاة أعداء الإسلام المحاربين له الساخرين منه. وفى هذه الجملة المذيل بها الكلام {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ما يجعل حرمة موالاة هؤلاء الكافرين أعظم حرمة وأشدها، إذ موالاة الكافرين محرمة بآية قبل هذه كآية آل عمران: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} وآية المائدة قبل ذي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وفى الآية بعد ذي وهى قوله تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} ففي هذه الآية بيان استهزائهم ولعبهم بالدين، إذ الأذان دين وشرع بل هو أظهر الشرائع، وأعلى مقامات الدين، إذ به ترتفع كلمة التوحيد، والنبوة، ويدعى إلى أشرف عبادها وأزكاها وأكثرها تعبدا لله تعالى وهى الصلاة وإقامتها وفى قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} تقرير أن المستهزئ بالأذان، الضاحك منه، اللاعب به، يعتبر لا عقل له كالبهائم أو أشر وأضل. إذ النداء إلى الصلاة بتلك الكلمات السامية الرفيعة الداعية إلى الفلاح بإقامة الصلاة لا يجهل معناها ولا يكرهها إلا من لا عقل له وصدق الله العظيم إذ قال ذلك؛ أي كان ذلك الاستهزاء والسخرية واللعب بالأذان بسبب أنهم قوم لا يعقلون وحقا إنهم لا يعقلون وصدق الله العظيم. وأخيرا أيها القارئ الكريم إليك بيان حكم الأذان في الإسلام. إن الأذان فرض كفاية في المدن والقرى، وسنة لجماعة تطلب غيرها، ومستحب

لمن يطلب غيره في السفر أو الحضر، إلا أنه في السفر أعظم أجرا لحديث الموطأ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شئ إلا شهد له يوم القيامة "، أما الإقامة فإنها سنة مؤكدة لكل صلاة ومن أذن أقام ولو أقام غيره لا بأس وإليك صيغة الأذان والإقامة: الأذان: الله أكبر، الله اكبر _ الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح1، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. الإقامة: الله أكبر الله أكبر _ أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمدا رسول الله. حي على الصلاة حي على الفلاح. قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة. الله أكبر الله أكبر. لا إله إلا الله. هذا واذكر أن معنى قوله تعالى في الآية: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} إنه الأذان للصلوات الخمس. فتح الله عليك في العلم والعمل، وعلى كل مؤمن ومؤمنة فقل آمين آمين. وسلام على المرسلين، والحمدش لله رب العالمين.

_ 1 في آذان الصبح يزاد جملة: الصلاة خير من النوم مرتين، وذلك بعد قوله: حي على الفلاح.

النداء السابع والثلاثون: في حرمة تحريم ما احل الله من الطيبات وحرمة الاعتداء في الدين

النداء السابع والثلاثون: في حرمة تحريم ما احل الله من الطيبات وحرمة الاعتداء في الدين الآيتان 87 _ 88 من سورة المائدة أعوذ بالله الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} . الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم أن لهاتين الآيتين سببا في نزولهما، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن انس رضى الله عنه قال: " جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته فلما أخبروا كأنما تقالوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له من ذنبه ما تقدم وما تأخر. فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلى الليل أبدا. وقال آخر: أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر وقال أخر: أما أنا فاعتزل النساء ولا أتزوج أبدا فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكنى أصوم وأفطر وأصلى وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس منى " ونزلت هاتان الآيتان {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي يا من آمنتم بالله ربا، وبالإسلام دينا وشرعا لا يقبل دينا غيره ولا يطبق شرعا سواه، وبمحمد نبيا ورسولا لا يقتدى بغيره ولا يتبع سواه {لا تُحَرِّمُوا} أي بامتناعكم عن طيبات ما أحل الله لكم من الطعام والشراب والنوم والنكاح، والمراد بالطيبات ما كان غير مستقذر ولا مستخبث مما أحل الله عز وجل لعباده المؤمنين لمصالح عامة وخاصة، وفوائد ظاهرة وباطنة؛ إذ الله تعالى عليم حكيم فلا يبيح

ولا يمنع إلا لحكمة عالية تدور على مصالح عباده المؤمنين، وبعد هذا النهى عما أحل الله تعالى لعباده المؤمنين، وهم منهم وبينهم فقد ورد أنهم عبد الله بن مسعود وعثمان بن مضعون وعلى بن أبى طالب رضى الله عنهم أجميعين؛ خاطبهم الحق تبارك وتعالى ناهيا لهم عن الاعتداء وهو مجاوزة الحد المحدود كتحريم الحلال، أو تحليل الحرام، ومن الاعتداء الإسراف فى الأكل والشرب والجماع وفى اللباس وفى غيرها لقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} 1 والإسراف هو مجاوزة النافع إلى الضار والحق إلى الباطل، والمسعد إلى المشقي فقال تعالى: {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} فكيف ترضون لأنفسكم بغض الله لكم وعدم محبته إياكم وأنتم ما حرمتم على أنفسكم ما حرمتم إلا طلبا لحب الله تعالى ورضاه، وهروبا من بغضه وعدائه. واعلم أيها القارئ الكريم والمستمع المستفيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم أبان وأفاد في هذا الباب فلتستمع إلى ما قاله في هذا الشأن: 1- كلوا وتصدقوا والبسوا في غير الإسراف ولا مخيلة؛ المخيلة من الخيلاء وهو الكبر والعجب. 2-وقال بن عباس في رواية البخاري: كل ما شئت وألبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة. 3-كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير مخيلة ولا إسراف فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده. 4-عليكم بثياب البياض فالبسوها فإنها أطهر وأطيب وكفنوا فيها موتاكم. 5- قال بعض السلف: جمع الله الطب كله في نصف آية {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} . وقوله تعالى في الآية رقم 88: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} إنه بعد أن نهاهم عما حرموا على أنفسهم من النساء والطعام والمنام واللباس، أيضا أمرهم أمر إباحة ورحمة وإرشاد فقال: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} أي من الحلال لا من الحرام فالحرام لا يكون رزقا إلا في ضرورة الخوف من الموت كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير. وقوله: {حَلالاً} يفيد أن

_ 1 الأعراف: 31.

الحرام لا يكون رزقا، والطيب هو ما لم يكن مستقذرا ولا مستخبثا ولا محرما. وأخيرا أمرهم تعالى وهو أمر لكل مؤمن ومؤمنة ممن نزلت فيهم الآية ومن غيرهم إلى يوم القيامة أمرهم بتقوى الله عز وجل وذلك بطاعته فيما حرم وأحل، وفيما أمر ونهى من سائر ما حواه شرعه وبينه رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وقوله: {الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} تذكير لهم بإيمانهم به سبحانه وتعالى فإن من آمن بالله وعرف صفات جلاله وكماله من قدرة وعلم وحكمة ورحمة لا يخطر بباله معصيته فضلا عن أن يعصيه، فكيف تجرءون على تحريم ما أحل، ولم يوبخهم سبحانه وتعالى في هذا التوجيه؛ لأنهم ما حرموا ما حرموا على أنفسهم لا على غيرهم إلا طلبا لمرضاته وسعيا وراء حبه سبحانه وتعالى. هذا واعلم أيها القارئ الكريم أن هذه الآية ترد على غلاة المترهبين وأهل البطالة من بعض المتصوفين الذين يلبسون الصوف لا غير ويمتنعون عن لذيذ الطعام والشراب. واعلم أيضا أن من حرم ما أحل الله لا يحرم عليه ما حرمه إلا الزوجة فإنها إذا حرمها تحرم، فمن قال لزوجته أنت على حرام وأراد طلاقها تطلقت، وإن لم يرد طلاقها كفر كفارة يمين وعادت إليه ولا تحرم عليه فاذكر هذا والله ولى المتقين. وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

النداء الثامن والثلاثون: في تحريم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام

النداء الثامن والثلاثون: في تحريم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام الآيتان 90 _ 91 من سورة المائدة أعوذ بالله الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} . الشرح: لا تنس أيها القارئ الكريم أن الإيمان بمثابة الروح للإنسان، فمن آمن وصح إيمانه فقد حيى وأصبح أهلا لأن يؤمر فيمتثل ويفعل، وينهى فيمتثل وينتهى، وذلك لكمال حياته. وإن الكافر كالميت لا يسمع ولا يبصر، ولا يفهم ولا يعقل، ولذا لا يكلف إلا بعد حياته بالإيمان بالله ولقائه، وكتاب الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم، فاذكر هذا ولا تنسه، واعلم أن هذا النداء الإلهي الثامن والثلاثون من نداءات الرحمن لأوليائه المؤمنين المتقين يحمل لهم تحريمه تعالى عنهم أربعة أشياء وهى: الخمر، والميسر، والأنصاب، والأزلام، إذ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . فالخمر هي كل ما خامر العقل؛ أي ستره فأصلح صاحبه يهذر في كلامه، ولا يعي ما يقول حتى إنه قد ينطق بالسوء، أو يأتى منكرا من الفعل. والميسر أصله اللعب بالقداح للقمار، وأصبح يطلق الميسر على القمار، فكل لعب يقامر به هو ميسر. والأنصاب جمع نصب، وهو ما ينصب من الأحجار والتماثيل والصور للعبادة بأي صورة من صور العبادة كالتعظيم، والتمسح، والعكوف حولها، والحلف بها، والنذر لها. والأزلام جمع زلم، وهى سهام يستقسمون بها في الجاهلية، وهى عبارة عن ثلاثة سهام كتب على أحدها أمرني ربى، وعلى الثاني نهاني ربى، والثالث مهمل لم يكتب عليه شئ، فإذا أراد الرجل أن يسافر أو يتزوج أو ….. يأتى صاحب الأزلام فيطلب منه

بيان قسمته وحظه فيدخل العيدان في خريطة (كيس) ويميلها فيها ثم يخرج واحدا من الثلاثة فإذا خرج أمرني مضى في عمله الذي عزم عليه، وإن خرج نهاني أعاد الاستقسام حتى يخرج أمرني أو نهاني… فجاء الإسلام فحرم هذا الإستقسام، كما حرم ما يعرف بخط الرمل، وقرعة الأنبياء والاستقسام بالمسبحة، والشوافات من النساء إلى غير ذلك من أنواع الضلالات التي جاء الإسلام بتحريمها. وقال الله تبارك وتعالى فيها: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} والرجس النجس المستقذر حسا أو معنى، والمحرمات كلها خبيثة وإن لم تكن مستقذرة، وكونها من عمل الشيطان هي أشد رجسا وقذارة، لأن الشيطان لا يزين إلا ما كان خبيثا نجسا حسا أو معنى لذا أمر تعالى باجتنابه بقوله: {فَاجْتَنِبُوهُ} ورجانا بالفلاح إذا نحن اجتنبنا هذه القاذورات من الخمر، والميسر، والأنصاب، والأزلام فقال: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} والفلاح الفوز بالنجاة من النار ودخول الجنة. كانت تلك هداية الآية الأولى أما الآية الثانية وهى قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فقد أخبرنا تعالى عن علة تزيين الشيطان للرجس الذي هو مجموع المحرمات الأربع وأنها إيقاع العداوة والبغضاء بيننا، وصدنا عن ذكر الله وعن الصلاة، فهذه العظائم الأربع هي علة تزيين الشيطان لتلك الخبائث الأربع التي هي الخمر، والميسر، والأنصاب، والأزلام. ألا فلنعرف هذا أيها القارئ الكريم، ولنلعن الشيطان ونخيبه في دعوته باجتنابنا التام للخمر فلا نشربها، ولا ننتجها، ولا نبيعها وللميسر فلا نلعبه وأيا كانت آلاته نردا أو شطرنجا، أو كعابا، أو غيرها كالكيرم، والدمينو وغيرها إذ الكل مما حرم الله جل جلاله وعظم سلطانه، وبذلك ننجو من فتنة الشيطان فتدوم محبتنا لبعضنا وولاؤنا ولا نفتر ذاكرين الله، مقيمين للصلاة، التي هي عمود ديننا، ومركز قوتنا ومناة هدايتنا وسلم رقينا ونجاتنا من الوقوع في الفحشاء والمنكر {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} 1. ولنذكر ما ختم الله تعالى به هذا التوجيه الإلهي لنا وهو قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} لنقول، انتهينا ربنا كما قالها عمر رضى الله عنه لما كان يقول: " اللهم بين لنا في الخمر شافيا ". حتى نزلت هذه الآية فقال: انتهينا ربنا. ونحن نقول لا نقارف هذه الخبائث، ولا نرضى بها فثبتنا ربنا، فإنك ولينا ولا ولى لنا سواك ولك الحمد على ما أوليت، ولك الشكر على ما أعطيت. وسلام على عبادك الصالحين. والحمد لله رب العالمين.

_ 1 سورة العنكبوت: 45.

النداء التاسع والثلاثون: في ابتلاء الله تعالى عباده المحرمين بالحج والعمرة بظهور الصيد وسهولة صيده

النداء التاسع والثلاثون: في ابتلاء الله تعالى عباده المحرمين بالحج والعمرة بظهور الصيد وسهولة صيده الآيتان (94) من سورة المائدة أعوذ بالله الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم أن الله تعالى إذ ابتلى عباده المؤمنين اختبارا لهم وامتحانا ليعلم الذين يخافونه بالغيب، كما قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} فيرفع درجاتهم، ويعلى مقاماتهم ويظهر في الدنيا كراماتهم، وها هو ذا سبحانه وتعالى ينادى عباد المؤمنين ليخبرهم بأنه سيبتليهم بشيء من الصيد، والصيد هو ما يصاد من حمار الوحش إلى الغزال وما دون ذلك كالطير والأرانب، أطلق المصدر وأريد به اسم المفعول وهو المصيد؛ إذ الفعل صاد يصيد صيدا، كباع يبيع بيعا، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} يا من آمنتم بالله ولقائه، وكتابه، ورسوله. {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ} أي ليختبرنكم الله ربكم ووليكم {بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} أي مما يصطاد كالظباء والأرانب وغيرهما، وقد فعل ذلك بالمؤمنين أيام عمرة الحديبية فكانت الوحوش والطيور تغشاهم في رحالهم بصورة لم ير مثلها قط، فنهاهم الله تبارك وتعالى عن صيده وقتله وهم محرمون بالعمرة قبل التحلل منها. وقوله تعالى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} أي لكثرته وكثرة ما يعشاهم في رحالهم فصغاره كبيضه، وفراخه تناله أيديهم لو أرادو أن يأخذوه وكباره تناله رماحهم لو أرادوا صيده. ثم ذكر تعالى الحكمة من هذا الابتلاء العجيب فقال عز وجل:

{لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} وفعلا قد خافوا ربهم، وما صادوا لا بأيديهم ولا برماحهم فأصبحوا بذلك أهلا للقيام بمهام الأمور وعظائمها لأنهم عما قريب سيصبحون هداة البشرية وقادتها وقضاتها فسيسوسون بالعقل والرشد ويحكمون بالشرع، ويعاملون بالمعروف، ولم يكونوا كبنى إسرائيل ابتلاهم ربهم بتحريم الصيد أي صيد السمك يوم السبت فكان الصيد يأتيهم أي يظهر لهم شرعا ظاهرا بارزا إغراء لهم وفتنة يوم سبتهم ويوم لا يسبتون لا تأتيهم فاحتالوا على الصيد ووضعوا الشباك ليلة السبت أو يوم الجمعة فتمتلئ بالحيتان يوم السبت فيأخذونها ملأى يوم الأحد فيأكلونها فمسخهم الله عز وجل قردة وخنازير كما جاء ذلك في صورة الأعراف قي قوله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} . أما المؤمنون الصادقون من تلك الزمرة المباركة الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد امتحنوا ونجحوا وفازوا، وجاء أناس غلب عليهم الجهل فأحلوا محارم الله بالحيل كالربا بأنواع من الحيل، وقوله تعالى في ختام النداء: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي من اعتدى بعد هذا النهى عن قتل الصيد حال الإحرام فله عذاب أليم أي موجع، وقد يكون في الدنيا، وقد يكون في الآخرة، أو فيهما معا بحسب حال المعتدى في اعتدائه، وقد يعفو الرحمن ويغفر وهو العفو الرحيم. هذا ولنعلم أن الصيد في الحرم محرم على المحرم وغيره وهو المحل، والحرم حرمان حرم مكة المكرمة، وحرم المدينة المنورة، أما حرم مكة فقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن إبراهيم قد حرم مكة فهي حرام إلى يوم القيامة لا يختلى خلالها ولا ينفر صيدها ولا يصاد " وحدود الحرم المكي قد حددها إبراهيم عليه السلام مع جبريل عليه السلام. وأما حدود حرم المدينة فقد حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: " المدينة حرام من عائر إلى ثور " فلا يصاد صيد، ولا يختلى خلاه كالحرم المكي سواء بسواء. كما ينبغي أن نعلم أن خمسا من الحيوانات أذن في قتلهن في الحل والحرم، وللمحرم والمحل وهى التي جاءت في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: " خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية، والغراب الأبقع، والفأرة، والكلب العقور، والحدأة " وما قيس عليها من كل ما يؤذى كالأسد والنمر والذئب والفهد إذ على هذا فقهاء الإسلام رحمهم الله تعالى.

وأخيرا أيها القارئ الكريم والمستمع المستفيد اذكر ما علمتما من الله تعالى يبتلى عباده المؤمنين بالفعل والترك، وبالخير والغير تربية لهم وإعدادا لتحمل أعباء الشريعة وتكاليف الدين ليفوزوا بولايته ومحبته ورضاه، ورضوانه، فاذكروا هذا واصبروا على البلاء، وقد يكون جوعا وقد يكون خوفا، وقد يكون صحة وقد يكون مرضا، وقد يكون ولاية، وقد يكون إهانة، فلنصبر على كل ابتلاء بالرضا به والتسليم لله فيه، ولا نفارق ذكر الله بعبادته، وبحمده وشكره، فهذا سبيل الفائزين جعلنا الله منهم وحشرنا في زمرتهم آمين. وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

النداء الأربعون: في حرمة الصيد حال الإحرام وبيان جزاء من قتل الصيد عامدا وهو محرم والعياذ بالله

النداء الأربعون: في حرمة الصيد حال الإحرام وبيان جزاء من قتل الصيد عامدا وهو محرم والعياذ بالله الآيتان (95) من سورة المائدة أعوذ بالله الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} . الشرح: اذكر أيها القارئ والمستمع ما جاء في النداء التاسع والثلاثين قبل هذا فإن فيه اختبار الله تعالى للمؤمنين بشيء من الصيد، واختبار أهل عمرة الحديبية ونجحوا أجمعين فلم يصيدوا مع ما كان يغشاهم في رحالهم من أنواع الصيد فرضى الله عنهم وأرضاهم، وبما أن الإسلام هو الدين الباقي ببقاء هذه الحياة، فلا ينسخ ولا يزاد فيه ولا ينقص، وعلم الله أنه يأتى يوما يجهل فيه المؤمنون كرامتهم ومقامهم فيصيد منهم من يصيد وهو محرم فسقا عن أمر الله تعالى لغلبة الغفلة والجهل ولرقة الإسلام وخفة الأيمان في نفسه فنادى الله تبارك وتعالى المؤمنين بهذا النداء الأربعين من نداءته لعباده المؤمنين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} فحرم تعالى بهذا الصيد على المحرم بحج أو عمرة في الحرم وفى الحل على حد سواء. ومعنى {حُرُمٌ} : محرمون: وعلة التحريم هنا ليست الامتحان والاختبار، وإنما أن الصيد فيه لهو ولعب والمحرم متلبس بعبادة الحج أو العمرة فلا يصح منه لهو ولا لعب بحال من الأحوال، إذ هو كالمصلى في صلاته فلا يتكلم ولا يضحك ولا يأكل ولا يشرب إلى غير ذلك مما هو مبطل للصلاة، فالمحرم شبيه بالمصلى فبمجرد ما يقول:

لبيك الله بعمرة أو حج فقد دخل في أعظم نسك وأكمل شعيرة من شعائر الله، فلا ينبغي له أن يغفل عنها أو ينساها، فحرم لذلك تعالى الصيد. وخص الصيد وإلا فكل لهو ولعب باطل محرم على المحرم، وإنما خص الصيد بالذكر؛ لأن المحرم قد يكون في حاجة إلى طعام فيمر به الصيد من ظبي أو أرنب أو غيرهما فتدفعه نفسه لصيده فيصيده. وعلى كل حال فقد حرم الصيد على المحرم في الحل أو الحرم، فلا يحل لمؤمن محرم أو مؤمنة أن يصيد بأي أداة من أدوات الصيد سواء كان رمحا، أو شركا أو غير ذلك لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} ثم بين تعالى جزاء من قتل الصيد فمات بقتله فقال: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} أي قتله بيده {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} أي فجزاؤه أن يتصدق بحيوان يماثل ما قتله إن كان له مثل من الحيوان الإنسي فمن صاد نعامة كفر ببدنة من الإبل، ومن صاد بقرة من الوحش كفر ببقرة ومن صاد غزالا تصدق بعنز، وهكذا، وما كان لا مثل له من الحيوان الإنسي فليتصدق بقيمته غير أن هذا الحكم يجب أن يحكم به ذوا عدل من المؤمنين، فلا يترك للقاتل وحده إذ قد تحمله نفسه على عدم المماثلة وعلى نقص القيمة إذ قال تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، والعدل هو المؤمن المجتنب للكبائر والمتقى في الغالب الصغائر… ولنذكر أن المخطئ كالناسي كلاهما تجب عليه الكفارة في قتل الصيد، وعلى هذا الصحابة والأئمة الثلاثة وخالفهم أبو حنيفة، ولا إلتفاتة إلى ما رآه بعد أن قال بخلاف ما قال جل الصحابة والتابعين والأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد ورحمة الله عليهم أجمعين. وقوله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} أي ما حكم به العدلان من مثل ما قتل المحرم ينبغي أن يرسل إلى الحرم ليذبح هناك ويفرق لحمه على الفقراء والمساكين في الحرم لا خارجه، إذ المراد من قوله تعالى: {بَالِغَ الْكَعْبَةِ} أنه الحرم المحيط بالكعية من جهاته الأربع المعروفة لدى المؤمنين، ولا يجوز مع القدرة أن يذبح خارج الحرم لقوله عز وجل: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} وقوله تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} فهذا تخفيف ورحمة من الله بعباده المؤمنين وذلك بأن يشترى بثمن ما وجب عليه من بدنة أو بقرة أو تيس يشرى بها طعاما ويتصدق بها حيث أمكنه ذلك وقوله تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} . وهذا تخفيف أخر ورحمة بالمؤمنين فإن من قتل

الصيد مأذون له أيضا أن يصوم من كل نصف صاع أي حفنتين برا وتمرا أو شعيرا يوما حتى يكمل الصيام بعدد ما وجب عليه من إطعام، وقوله تعالى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} أي عقوبة مخالفته لشرعنا وما أمرنا به ونهينا عنه وقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} فهو تفضل من الله تعالى بعفوه على من سبق أن صاد وقتل قبل نزول هذا الحكم وقوله: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} ففيه تهديد ووعيد شديد حتى رأى بعض أهل العلم من السلف أنه لا يجزئه الفداء، والذي عليه الجمهور أنه كلما صاد وجبت عليه الفدية، ويترك أمره إلى الله تعالى وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} أي يعاقب على معصيته ولا يحول دون مراده حائل ألا فلنتق الله تعالى ولنحذر معصيته سواء كانت صيد محرم أو غير ذلك من سائر المعاصي والذنوب اللهم احفظنا وقنا شر نفوسنا حتى لا نعصيك. وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

النداء الحادي والأربعون: في النهى عن السؤال عما لا فائدة فيه ولا حاجة تدعو إليه والتحذير من عواقبه

النداء الحادي والأربعون: في النهى عن السؤال عما لا فائدة فيه ولا حاجة تدعو إليه والتحذير من عواقبه الآيتان (101 _ 102) من سورة المائدة أعوذ بالله الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ، قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} . الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم أن لهذا النداء سببا من أجله نادى الله تعالى عباده المؤمنين ليؤدبهم ويكملهم رحمة بهم وإحسانا إليهم فله الحمد وله المنة، وإليك بيان سبب هذا النداء قال البخاري حدثنا منذر بن الوليد بن عبد الرحمن الجارودى، حدثنا أبى حدثنا شعبة عن موسى بن أنس عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط وقال فيها: " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، قال: فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين فقال رجل من أبى؟ قال فلان. فنزلت هذه الآية " وفى رواية لابن جرير قال فيها: حدثنا بشر حدثنا يزيد عن قتادة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} قال فحدثنا أن أنس بن مالك حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه حتى أحفوه بالمسألة، فخرج عليهم ذات يوم فصعد المنبر فقال: " لا تسألوني اليوم عن شئ إلا بينته لكم فأشفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بين يدي أمر قد حضر، فجعلت لا ألتفت يمينا ولا شمالا إلا وجدت كلا لافا رأسه في ثوبه يبكى، فقام رجل كان يلاقى فيدعى إلى غير أبيه فقال: يا رسول الله من أبى؟ قال: أبوك حذاقة ثم قام عمر فقال: رضينا بالله ربا وبالإسلام

دينا وبمحمد رسولا، أعوذ بالله من شر الفتن ". والروايات في هذه المسألة كثيرة _ وقوله تعالى: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ} أي تظهر لكم {تَسُؤْكُمْ} أي يحصل لكم بها ما يسؤ كم ويؤلمكم. منها على سبيل المثال أن من سأل عن أبيه فأجابه به الرسول صلى الله عليه وسلم بأن أباه فلان أرأيت لو سمى له أبا غير أبيه فإنه عار ومذلة له ولأمه وأسرته لا ينمحى حتى لم يبق منهم أحد. ومثل هذا سؤال الذين لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أيها الناس إن الله قد كتب عليكم الحج فحجوا فقالوا أعاما واحدا أم كل عام يا رسول الله؟ فقال: لا، بل عاما واحدا، ولو قلت كل عام لوجبت ولو وجبت لكفرتم " فهذا معنى قوله تعالى: {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} وقوله: {وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} أي يبينها رسولنا لكم. أما إن تسألوا عنها قبل نزول القرآن بها فذلك لا ينبغي لكم فعله لأنه من باب إحفاء رسول الله وأذيته، وهما محرمان تحريما شديدا، وقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} أي لم يؤاخذكم بما سألتم {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} ، فتوبوا إليه يتب عليكم، واستغفروه يغفر لكم فإنه غفور حليم، وقوله تعالى في الآية الثانية: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} أي قد سأل مثل أسئلتكم التنطعية المحرجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من قبلكم كاليهود وغيرهم فاصبحوا بها كافرين لأنهم كلفوا ما لم يطيقوه فشق عليهم جزاء تعنتهم في أسئلتهم المحرجة لأنبيائهم فتركوا العمل بها فكفروا وهلكوا والعياذ بالله ومن أمثلة الأسئلة المحرجة التي هلك فيها من هلك سؤال اليهود إذ قالوا: {أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون} وسؤال قوم صالح الناقة فأعطوها ثم عقروها فهلكوا، وسؤال الحواريين عيسى المائدة وقال الله تعالى: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} . ولذا فلنعلم أن الغلو والتنطع وكثرة السؤال مما لا ينبغي للمسلم أن يأتيه ويقوله أو يفعله وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه " إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شئ لم يحرم عن المسلمين فحرم من أجل مسألته ". ويقول صلى الله عليه وسلم فداه أبى وأمي والعالم أجمع: " إن الله جرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنعا وهات. وكره لكم ثلاثا:

قيل وقال وكثرة السؤال، وإضاعة المال ". ويقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضوان الله عليهم تعليما وتربية وتأديبا: " إن الله تعالى قد فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها" ويقول: " من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه ". وأخيرا أيها القارئ والمستمع علينا بالأدب مع الله فلا تسأله ما لم تجر سنة الله تعالى به، وعلينا بالأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نرد عليه ما دعا إليه ونصح به. وعلينا بالأدب مع أهل العلم فلا تسأل سؤال تنطع، ولا نسأل عما نحن به عالمون، ولا عما نحن غير عازمين على العمل به. ولا نسأل الناس أموالهم، ولا نكلفهم مالا يحسنون ولا ما لا يطيقون، ولنلزم الصبر والصمت والذكر، فهذا هو طريق الهداية والكمال فلنسلكه والله مع الصابرين والمحسنين. وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

النداء الثاني والأربعون: في الأمر بإصلاح المؤمن نفسه وتطهيرها بالإيمان والعمل الصالح وإعلامه بأنه لا يضره

النداء الثاني والأربعون: في الأمر بإصلاح المؤمن نفسه وتطهيرها بالإيمان والعمل الصالح وإعلامه بأنه لا يضره الآية (105) من سورة المائدة أعوذ بالله الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم أن هذا النداء الإلهي الرحيم الموجه إلى عباد الله المؤمنين أي المصدقين بالله ربا، لا رب غيره، وإلها لا إله سواه، وبالإسلام دينا لا دين يقبله الله تعالى غيره، وبمحمد نبيا ورسولا من عند الله، هؤلاء المؤمنين حقا وصدقا، يناديهم الجبار جل جلاله، وعظم سلطانه رحمة بهم، وإحسانا إليهم فيقول لهم: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي الزموا أنفسكم هدايتها وإصلاحها، فاحفظوها من الوقوع في الذنوب والآثام لتبقى طاهرة زكيه محلا لرضى الرحمن سبحانه وتعالى _ وأعلموا أنه لا يضركم ضلال من ضل ولا غواية من غوى، إذ كل نفس بما كسبت رهينة ولا تزر يوم القيامة وازرة وزر أخرى إذ من يعمل سوءا يجزى به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا. ولتعلم يقينا أنه لا يضرنا ضلال من ضل إذا نحن اهتدينا، لقول ربنا في إرشاده لنا {لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} . إذا نحن أمرنا بالمعروف من تركه بيننا، ونهينا عن المنكر من ارتكبه فينا ونحن نراه ونشاهده إذ ليس من الهداية الكاملة المنجية من العذاب والمسعدة للعباد أن لا نأمر بالمعروف ولا ننهى عن المنكر إذ الأمر بالمعروف

والنهى عن المنكر صفة لازمة من صفات المؤمنين الصادقين في إيمانهم والمؤمنات الصادقات. ولنقرأ قوله تعالى في سورة التوبة في وصف المؤمنين بحق والمؤمنات بصدق؛ إذ قال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فلنذكر قوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} فهل من الولاية الواجبة التي هي الحب والنصرة أن يرى المؤمن أخاه تاركا معروفا يعاقب على تركه، ولا يأمره به أو يرى أخاه ووليه منغمسا في منكر يخبث نفسه، ويسخط الله تعالى عليه ويتركه؟ والجواب لا، لا، ليس هذا من الولاية بل هو من العداوة هذا أولا. وثانيا: أليس من صفات المؤمنين والمؤمنات أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؟ والجواب بلى، وكيف والله يقول في صفاته: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} والرسول يقول: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان " وأمر أخر وهو عظيم وخطير وذلك أننا إذا تركنا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لا نتمكن من الهداية ولا نظفر بها أبدا، إذ الدار، أو المجتمع، إذا ظهر بينهم ترك المعروف وارتكاب المنكر لا يلبثون إلا قليلا، وقد عمهم الفساد فتركوا طاعة الله وطاعة رسوله وخبثوا وساءت أخلاقهم وفسدت أحوالهم، وعمهم العذاب والعياذ بالله تعالى. وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرر هذه الحقيقة فيقول: " إن الناس رأوا المنكر ولم يغيروه يوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقابه " ولنصغ للترمذى يحدثنا بما يلي: …. عن ابن أمية الشعبانى قال: أتيت أبا ثعلبة الخشنى فقلت له كيف تصنع بهذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت: قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} قال: أما والله لقد سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا،

ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأى برأيه فعليك بخاصة نفسك، دع العوام فإن من ورائكم أياما الصابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيها مثل أجر الخمسين رجلا يعملون عملكم ". وأخيرا نصغي إلى أبى بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرر ما سبق في شرح هذا النداء وهو أنه لا هداية تتم للعبد ما لم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، اللهم إلا أن يوجد في بلد أو دار لا يرى فيها معروفا متروكا ولا منكرا مرتكبا، لقد قام أبو بكر الصديق رضى الله عنه خطيبا يوما فقال " يا أيها الناس تقرأون هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وإنكم تتأولونها على غير تأويلها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعقاب " فلذكر هذا فإنه هاد وكاف بإذن الله. أما قوله تعالى في ختام النداء: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} إنه يحمل الوعد والوعيد، وعد لمن أطاع الله ورسوله فطهر نفسه وزكاها بالطاعة، ووعيد لمن عصى الله ورسوله فخبث نفسه ودساها، وحكم الله في ذلك واضح وهو قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} . اللهم زك أنفسنا أنت خير من زكاها وأنت وليها ومولاها. وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

النداء الثالث والأربعون: في وجوب الإشهاد على الوصية وجواز شهادة غير المسلم على الوصية إذا تعذر وجود المسلم

النداء الثالث والأربعون: في وجوب الإشهاد على الوصية وجواز شهادة غير المسلم على الوصية إذا تعذر وجود المسلم الآيات (106 _ 107 _ 108) من سورة المائدة أعوذ بالله الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الآثِمِينَ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} . الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم أن هذا النداء الإلهي يحمل هداية وإرشادا للمؤمنين يحل مشكلة عويصة قد تحدث لبعضهم في يوم من الأيام وهذا بيان ما تضمنه النداء الجامع لثلاث آيات من كتاب الله. الأولى: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي يا من آمنت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا ورسولا {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي ليشهدا {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي من المسلمين على وصية أحدكم إذا حضرة الموت، وعنده ما يوصى به من مال

وحقوق، هذا في الحضر أما إذا كان أحدكم مسافرا وحضره الموت، ولم يكن معه في سفره مسلم، وإنما معه كفار فقط فلشهد الكافر للضرورة. وإن حصل ريب وشك في صحة ما شهدا به المؤمنان أو الكافران فأحبسوهما أو أوقفوهما بعد صلاة العصر فيقسمان لكم بالله، فيقولان في قسمهما والله: لا نشترى بإيماننا ثمنا قليلا ولا نكتم شهادة الله لأنا نكون حينئذ من الآثمين ونحن لا نرضى الإثم لأنفسنا، هذا إن حصل لكم ريب وشك في شهادتهما سواء كانت الشهادة في الحضر أو السفر إلا أنها في السفر أقرب لحصول الريب والشك في صحة شهادة الشهود وإن وجد عند الشاهدين اللذين شهدا وحلفا على شهادتهما إن وجد عندهما خيانة وكذب بما ظهر من آثار ذلك فليحلف منكم آخران يردان شهادة وحلف الأولين كما قال تعالى: {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ} أي الأحقان بالشهادة فيحلفان قائلين لشهادتنا أحق من شهادتهما أي لإيماننا أصدق وأصح من إيمانهما، وما اعتدينا أي عليهما باتهام باطل وكذب مفترى، لأنا لو فعلنا ذلك لكنا من الظالمين، إذ فال تعالى عنهما: {وَمَا اعْتَدَيْنَا} أي في إيماننا إنا إذا من الظالمين. والثانية: قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي ما شرعه تعالى لكم من الإشهاد والإيمان على الشهادة، وقيام شاهدين لرد شهادة المرتاب فيهما لا سيما إذا ظهرت علامة عدم صدقهما أقرب أن يصدق الشهود في شهادتهما وفى إيمانهم. والثالثة: قوله تعالى: {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي وأقرب أيضا إلى أن يخاف الشهود أن ترد أيمانهم إذا هم حلفوا، فهم لذلك لا يكذبون خوف الفضيحة أن تلحقهم. والرابعة: قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي خافوه أيها المؤمنون، فلا تخرجوا عن طاعته بترك أوامره أو بغشيان معاصيه {وَاسْمَعُوا} أي ما تؤمرون به واستجيبوا لله فيه. ومن ذلك قبول هذا التوجيه الإلهي في وجوب الإشهاد على الوصية عند الوفاة وجواز إشهاد غير المسلم في حالة انعدام وجود المسلم كما في السفر. ثم إن حصل ريب وشك في الشهادة فليقم اثنان ذو عدل منكم ويردان الشهادة بإيمان… وإن حصل أيضا بعد الإشهاد والحلف ظهور علامة خيانة وكذب في الشهادة فليقم آخران يردان الشهادة ويعطيان الحق المطلوب.

والخامسة: قوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أي إلى ما فيه خيرهم وسلامهم وسعادتهم وكمالهم، لأنهم خبسوا أنفسهم ودنسوها بالذنوب والآثام. ألا فلنحذر الغش وهو خروج عن طاعة الله وطاعة رسوله. ومن الفسق ما هو كفر، ومنه ما هو من كبائر الإثم والفواحش فلنحذره إذ كله مانع من هداية الله؛ إذ العبد إذا توغل في الشر والفساد يصبح غير أهل لطلب الهداية بالتوبة والإستقامة، ومن ثم يحرم هداية الله تعالى. وأخيرا إليك أيها القارئ والمستمع حادثة حدثت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيها نزلت هذه الآيات الثلاث فتأملها فإنها تزيدكم فهما وفقها ومعرفة لما تضمنته الآيات الكريمات: عن تميم الدارى قال برئ الناس منها غيري وغير عدى بن بداء، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام فآتيا الشام لتجارتهما، وقدم عليهما مولى لبنى سهم يقال له بديل بن أبى مريم بتجارة معه جام1 من فضة يريد بها الملك وهو أغلى تجارته فمرض فأوصى إليهما أن يبلغا ما ترك أهله. قال تميم فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم، واقتسمناه أنا وعدى، فلما قدمنا إلى أهله فدفعنا إليهم ما كان معنا، وفقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا ما ترك غير هذا، وما دفع إلينا غيره قال تميم فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر ودفعت إليهم خمسمائة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فوثبوا عليه فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه فحلف فنزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} .. إلى قوله تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} فقام عمرو بن العاص ورجل أخر منهم فحلفا فنزعت الخمسمائة من عدى بن بداء. رواه الترمذى وابن جرير وضعفه الترمذى وله شواهد وهو موافق لما تضمنته الآية. والحمد لله رب العالمين الهادى إلى الصراط المستقيم وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

_ 1 الجام: كأس من ذهب أو فضة.

النداء الرابع والأربعون: في حرمة الفرار من صفوف القتال في سبيل الله وأنه من الكبائر الموجبة لغضب الله وعذابه

النداء الرابع والأربعون: في حرمة الفرار من صفوف القتال في سبيل الله وأنه من الكبائر الموجبة لغضب الله وعذابه الآيتان (15 _ 16) من سورة الأنفال أعوذ بالله الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم أن المؤمن كما عرفت حي بإيمانه قوى بولاية ربه له، لذا نادى الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين قائلا لهم: {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً} أي زاحفين إليهم لتقاتلوهم في سبيل الله {فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} أي لا تنهزموا أمامهم فتتولوا هاربين مولينهم أدباركم وهذا عيب كبير، ومعرة لا ينبغي للمؤمن ولى الله عز وجل أن يتصف بها والنهى هنا للتحريم ليربى الله أولياءه على الإقدام والشجاعة حتى لا يضعفوا عن قتال المشركين الكافرين ولما كان الفرار من العدو له أثار سيئة لاسيما عند المواجهة والزحف ومن تلك الآثار السيئة انتصار العدو الكافر على المؤمنين ومنه إصابة المؤمنين المقاتلين بالجروح والقتل ومنها استيلاء العدو على معدات المسلمين من سلح وغيره ومنها وقف الدعوة الإسلامية وعدم انتشارها وانتصارها لهذه ولغيرها كان التولى يوم الزحف كبيرة من كبائر الذنوب ويكفى من كونها كبيرة قوله تعالى في الآية الكريمة: {فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} وفى الحديث الصحيح أن التولى يوم الزحف من الموبقات أي المهلكات ففي الصحيح يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " اجتنوا السبع الموبقات. قيل يا رسول الله وما هي؟ قال: الشرك بالله والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولى

يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " فيكفى في كون التولى يوم الزحف كبيرة ذكره مع أعظم الكبائر وهى الشرك والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا واكل مال اليتيم وقذف المحصنات. وقوله تعالى في الآية الثانية: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} أي ومن يعطى دبره للعدو فارا هاربا يوم الزحف أي ساعة المواجهة وزحف الطائفتين على بعضهما طائفة العدو الكافر وطائفة المجاهدين المؤمنين. وقبل ذكر الجزاء أي جزاء الشرط وهو قوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} قال تعالى: مستثنيا حالتين إذا فر منهما المؤمن المجاهد لا إثم عليه فيهما ولا حرج، لأنه تحرف لنصرة الإسلام وأهله لا فرارا من الموت وهى الموت يدفعه الفرار.!!؟؟ فالحالة الأولى: أن يفر المؤمن بين يدي مقاتله الكافر مكيدة له حتى إذا جرى وراءه عدوه وبعد عن صفوف إخوانه كر عليه المؤمن وقتله، هذه صورة من صورتين يفر فيهما المجاهد، ولا إثم عليه فيهما، والصورة الثانية أن يميل جانبا عن صف المجاهدين ليرى غرة من العدو فيصيبها هذا ما دل عليه قوله: {إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ} . والحالة الثانية: أن يرى ضغطا شديدا من العدو؛ فيرى انه من المصلحة الجهادية أن ينحاز إلى جماعة من المؤمنين تقاتل فيقاتل معها ليقويها ويقوى هو بها، هذه صورة من صورتين جاز فيهما للمجاهد أن ينحاز من وجه العدو لينضم إلى إخوانه ليقويهم ويقوى بهم والصورة الثانية أن يكون الانحياز إلى قائد المعركة وإمام المسلمين ليتقوى به ويقويه فهاتان الصورتان دل عليهما قوله تعالى: {أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ} أما إذا لم يكن قراره للحالتين الأولى وهى التحرف للقتال، والثانية الانحياز إلى فئة مؤمنة أو إلى القيادة فإن صاحب الفرار قد ارتكب كبيرة إذ لم يتب منها دخل النار والعياذ بالله تعالى، ذلك لقوله تعالى في جواب الشرط: {فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} آي رجع من المعركة مغضوبا عليه من الله عز وجل ومأواه الأخير جهنم وبئس المصير جهنم يصار إليها. إن بعض السلف قالوا هذا الفرار المتوعد عليه كان خاصا بغزوة بدر، وخالف الجمهور وقالوا الآية عامة وإن نزلت في غزوة بدر، والدليل على عمومها حديث البخاري الذي تقدم وهو الحق والصواب والله يتوب على من تاب فمن فر يوما استوجب العذاب لو مات أما من أناب فإنه يتوب الله عليه ويغفر له كبيرته بتوبته. والحمد لله التواب الرحيم وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

النداء الخامس والأربعون: في وجوب طاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم وحرمة معصيتهما، وحرمة التشبه بالمنافقين

النداء الخامس والأربعون: في وجوب طاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم وحرمة معصيتهما، وحرمة التشبه بالمنافقين الآيات (20 _ 21 _ 22 _ 23) من سورة الأنفال أعوذ بالله الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} . الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم والمستمع المستفيد زادكما الله علما وحلما وحكمة، اعلما أن الله تعالى في هذا النداء ينادى عباده المؤمنين الذين أمنوا به وبرسوله وصدقوا بوعده لأوليائه وهو النعيم المقيم، وبوعيده لأعدائه وهو النار وبئس المصير وذلك يوم لقائه سبحانه وتعالى. فيأمرهم بطاعته وطاعة رسوله، وينهاهم عن الإعراض عنه وهم يسمعون الآيات تتلى، والعظات والمواعظ تتوالى في كتاب الله عز وجل وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. لأن نصرهم وتأييدهم كان ثمرة إيمانهم وطاعتهم، فإن هم اعرضوا وعصوا فقد تركوا وقد خسروا ولاية الله تعالى لهم، وأصبحوا كغيرهم من أهل الكفر والفسق والعصيان. هذا معنى قوله تعالى في أول النداء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} أما فوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} . فإنه ينهاهم عز وجل أن يسلكوا مسلك المشركين واليهود والمنافقين إذ الكل كان موقفهم مما يدعوهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم واحدا وذلك في التصامم عن سماع الآيات الحاملة للحق والداعية إليه والمبينة للهدى والفوز به، وفى التعامى عن رؤية آيات الله الدالة على توحيده كأنهم

يقولون بل يقولون إنا عما يقوم به محمد في صمم، وفيما يذكر ويدعو إليه في عمى. إذ هم يقولون سمعنا بآذاننا وهم بقلوبهم لا يسمعون، وذلك لأنهم لا يفكرون ولا يتدبرون فلذا في سماعهم كمن لا يسمع؛ لأن العبرة في السماع الانتفاع به لا مجرد سماع الصوت كان هذا معنى قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} . أما قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} . فهو إخبار منه تعالى يخبر عباده المؤمنين بحال الكافرين ليكونوا على بصيرة في أمر دعوتهم وجهادهم ومعاملتهم يخبرهم بأنهم شر الدواب، وعلة ذلك كفرهم بربهم وشركهم به أوثانا فعبدوا غيره وضلوا عن سبيله ففسقوا وظلموا وأجرموا الأمر الذي جعلهم حقا دواب في الأرض. كان هذا تنديدا بالمشركين واليهود والكافرين والمنافقين وفى نفس الوقت هو تحذير للمؤمنين وفى كل زمان ومكان ودائما وأبدا من معصية الله ورسوله، والإعراض عن كتابه وهدى نبيه صلى الله عليه وسلم لأن الشر الذي اصبح فيه المندد بحالهم من المشركين والكافرين من اليهود والمنافقين إنما كان بسبب معصيتهم لله ورسوله والإعراض عن كتابه وهدى نبيه صلى الله عليه وسلم كان هذا معنى قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} . أما قوله تعالى في الآية الثالثة من آيات هذا النداء الخامس والأربعين: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} . إن هذا النداء من باب الفرض والتقدير إذ سبق علم الله تعالى بهم في أنهم لا يسمعون إيثارا منهم للكفر على الإيمان والفسق على الطاعة، والضلال على الهدى. لذا لو أسمعهم أي لو جعلهم يسمعون آيات الله كما يسمعها المؤمنون الموحدون ويعرفون ما تدعو إليه من الهدى وما تحمله من بشارة للمؤمنين ونذارة للكافرين والمنافقين والمشركين. لتولوا وهم معرضون والعياذ بالله تعالى. وسر هذا الإعراض بعد السماع هو أن سنة الله تعالى في الإنسان أنه إذا توغل في الشر والفساد والظلم والخبث يصبح غير قابل للخير والإصلاح والعدل والطهر. فقد تدعوه ويسمع منك ما تدعوه إليه، وقد تبشره ويسمع منك البشارة وسببها وقد تنذره فيفهم عنك النذارة وما أنذرته منه، ولكن لتوغله في ظلمه الشر والفساد والخبث والشر يجد نفسه مصروفا تمام الصرف عما تدعوه إليه. فلذا حذر الكتاب والسنة من تأخير التوبة وأمر باستعجالها مخافة أن العبد إذا استمر في المعصية زمنا تصبح طبعا من طباعه وخلقا ثابتا له فلا يقدر على تركها فيهلك بها والعياذ

بالله تعالى. هذا وأخيرا لنعلم أن الله تعالى في هذا النداء أعلمنا بما يلي: 1-وجوب طاعة الله ورسوله. 2-حرمة التشبه بالمشركين والكافرين. 3-أن من الناس من هم شر من الكلاب والقردة والخنازير، وذلك لتوغلهم في الشر والفساد والخبث والظلم. ويؤيد هذا قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} أي الخليقة. ألا فلنذكر هذا ولنعمل على طاعة الله ورسوله، ولا نصر على معصيتهما ساعة فضلا عن يوم أو أسبوع أو شهر أو عام لا نصبح من شر الدواب. ولعياذ بالله العزيز الحكيم. وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

النداء السادس والأربعون: في وجوب الاستجابة لنداء الله والرسول إذا أمرا أو نهيا أو بشرا وأنذرا. ووجوب اتقاء الفتن بما تتقى به

النداء السادس والأربعون: في وجوب الاستجابة لنداء الله والرسول إذا أمرا أو نهيا أو بشرا وأنذرا. ووجوب اتقاء الفتن بما تتقى به الآيتان 24 _ 25 من سورة الأنفال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} الشرح: لتعلم أيها القارئ الكريم أن الله تعالى ما نادى عباده المؤمنين به وبلقائه ليأمرهم إلا من أجل كمالهم وسعادتهم في الدارين، وذلك لأنهم عبيده وأولياؤه والسيد لا يحب لعبده إلا ما يعزه ويكرمه، والولى لا يحب لوليه إلا ما يسعده ويرفعه وها هو تعالى ينادى عباده وأولياءه قائلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} والمراد بالرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، والاستجابة بمعنى الإجابة أي أجيبوا الله تعالى إذا دعاكم ورسوله كذلك. أى إذا دعاكم لاعتقاد أحبه ورضيه فاعتقدوه، وإذا دعاكم لقول طيب، والله لا يدعو إلا إلى طيب فقولوه، وإذا دعاكم لعمل صالح، والله لا يأمر إلا بالصالح فاعملوه ولا تقصروا فيه، وكذلك الحال مع رسوله صلى الله عليه وسلم إذا دعا إلى معتقد أو قول أو عمل تجب الإجابة الفورية إلا في حال العجز فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها. وكذا إذا دعاكم الله لترك معتقد فاسد، أو قول سيئ أو عمل غير صالح فأجيبوه وأتركوا ما أمركم بتركه وكذا الشأن مع رسوله صلى الله عليه وسلم،

وعلة هذا الأمر والاستجابة هي من أجل أن تكملوا في آدابكم وأخلاقكم وتسعدوا في حياتكم بالعز والطهر والصفاء والأمن والخير الكثير، وهذا معنى قوله تعالى: {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} ، إذ لا يدعو الله ورسوله عباد الله المؤمنين المتقين إلا لما فيه خيرهم وسعادتهم وحياتهم الحياة الطيبة الطاهرة السعيدة في الدنيا والآخرة. وقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} يحمل إشعارا خطيرا وتنبيها عظيما للمؤمنين وهو انه إذا سنحت الفرصة للمؤمن لفعل خير من الخيرات أو عمل صالح من الصالحات عليه أن يقتنصها بسرعة قبل فواتها، لاسيما إذا كانت دعوة من الله ورسوله إلى فعل كذا أو ترك كذا، وذلك لأن الله تعالى قادر على أن يحول بين المرء وما يشتهى، وبين المرء وقلبه، إذ هو قادر على أن يقلب القلب ويصرفه من حيث شاء من خير إلى غير، أو من غير إلى خير، ولنستمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو ويقرر هذه الحقيقة: " اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " ويقول داعيا أيضا: " اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك ". أما قوله تعالى في ختام الآية: {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} يعلم تعالى عباده المؤمنين بحقيقة ينبغي أن لا ينسوها وهى أنهم سيحشرون إليه تعالى يوم القيامة وسيجزيهم بطاعتهم وعصيانهم؛ لذا ينبغي أن لا يترددوا في الاستجابة لله تعالى ورسوله إذا دعاهم لما يحييهم، وهل يدعوهم ربهم وهو وليهم إلى غير ما يحييهم؟ لا والله، وهل يدعوهم رسولهم إلى غير ما يحييهم ويكملهم ويسعدهم؟ لا والله. أما قوله تعالى في الآية الثانية من هذا النداء السادس والأربعين: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} . فهو تحذير خطير للمؤمنين وفى كل زمان ومكان من أن يتركوا طاعة الله ورسوله بعدم الاستجابة لندائهما ودعوتهما إلى فعل الواجبات وترك المحرمات، لما يترتب على ذلك من انتشار الشر والفساد بصورة يحق بها العذاب وكأن هذا الأمر والنهى المأمور بهما في هذا النداء هما الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وهو كذلك؛ لأن الفتنة لا تعم المجتمع كله صالحة وفاسدة إلا إذا ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ويقرر هذا قول ابن عباس رضى الله عنه في هذه الآية: أمر الله تعالى المؤمنين أن لا يقرروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب. وفى صحيح مسلم ما يقرر هذه الحقيقة ويؤكدها فعن زينب أم المؤمنين رضى الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلة يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: " نعم إذا كثر الخبيث ". وهذا أحمد يروى في مسنده رحمه الله

تعالى فيقول: عن أم سلمة أم المؤمنين رضى الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعذاب من عنده، قالت: قلت يا رسول الله أما فيهم أناس صالحون؟ قال: بلى، قالت: كيف يصنع أولئك؟ قال: يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان ". وكيف لا ينزل البلاء ولا يصيب الأمة العذاب وقد تركت الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. والأمثلة على ذلك كثيرة لا تحصى فأين الأندلس وأهلها، أين ممالك الهند الإسلامية وملوكها أين مسلموا أوربا الشرقية وديارهم تحولت إلى دور لهو وباطل… وما ذلك إلا لظهور المنكر من خبث وشر وفساد وتركه حتى عم فنزل العذاب وعم. وأخيرا أيها القارئ والمستمع إليك ما يلي فاعمله: 1-وجوب الاستجابة لأمر الله ورسوله فعلا وتركا معا. 2-تعيين فرصة الخير إذا سنحت وإياك والتفريط فيها. 3-وجوب الأمر بالمعروف إذا ترك والنهى عن المنكر إذا أرتكب وإلا فسيعم الخبث وتهلك الأمة، فلنذكر هذا ولنأمر بالمعروف ولننهى عن المنكر ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. واعلموا أن العاقبة للمتقين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء السابع والأربعون: في حرمة خيانة الله والرسول صلى الله عليه سلم، وخيانة الأمانات، والتحذير من فتنة المال والولد

النداء السابع والأربعون: في حرمة خيانة الله والرسول صلى الله عليه سلم، وخيانة الأمانات، والتحذير من فتنة المال والولد الآيتان (27 _ 28) من سورة الأنفال أعوذ بالله الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} . الشرح: اذكر أيها القارئ الكريم ما قد سبق أن عرفته وهو أن الله تعالى ينادى عباده المؤمنين به وبلقائه، وكتابه ورسوله لكمال حياتهم يناديهم ليأمرهم أو ينهاهم أو يبشرهم أو ينذرهم لأنهم أهل لأن يسمعوا ويطيعوا وها هو ذا سبحانه وتعالى ناداهم لينهاهم عن أمر خطير وهو خيانتهم له سبحانه وتعالى بان يظهر أحدهم الطاعة ويخفى المعصية، إذ هذا الوصف لا يليق بالمؤمن أبدا، وإنما هو وصف المنافقين؛ لذا نهاهم عنه وحذرهم أن يكون فيهم. كما نهاهم عن خيانة الأمانات التي يؤتمنون عليها وهى خاصة وعامة، فالخاصة هي ما يؤمن عليه المرء من أخيه كمال، أو سر من الأسرار، والعامة هي كل التكاليف الشرعية التي كلفنا الله تعالى بها حتى الغسل من الجنابة أمانة. وقوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} عظم جريمة الخيانة وآثارها السيئة على النفس والمجتمع معا. وقوله تعالى في الآية الثانية: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} أعلمهم بما من شانه أن يكون السبب الحامل للعبد على خيانة أمانته أل وهو حب المال والولد، وهو حب فطرى إذا لم يقاومه العبد بالخوف من الله، وبمراقبته تعالى، لا يسلم من أذاه وفتنته كما قال تعالى: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} ، ومن شأن الفتنة أنها تصرف عن طاعة الله ورسوله

ومن لم يطع الله ورسوله خسر دنياه وأخرته. وقوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} تنبيه لهم على أن تركهم ما تدعوهم إليه أنفسهم من خيانة الأمانات لأجل الحفاظ على أموالهم، وإسعاد أولادهم عند الله ما هو خير منه وهو الجنة دار السلام. فإن تركوا ما تدعوا إليه نفوسهم إلى ما يدعوا إليه ربهم سبحانه وتعالى، فإن الله يجزيهم بأعظم أجر وأحسن جزاء لأنه تعالى عنده الأجر العظيم يعطيه من جاهد نفسه وصبر على طاعة ربه عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فلم يخن الله ورسوله، ولا أمانته وقد يكون الأجر في الدنيا بالرزق الحسن، والعيش الرغد زيادة على الجنة ونعيمها في الدار الآخرة، إذ ورد أن العبد إذا ترك شيئا من أمور دنياه لله عوضه الله خيرا منه في دنياه وأخراه. ويحسن هنا أيها القارئ الكريم والمستمع المستفيد أن تذكر ما روى عبد الرازق عن الزهري في سبب نزول هذا النداء الكريم؛ إذ قال: " إنها نزلت في أبى لبابة بن عبد المنذر لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بنى قريظة لينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم محاصرون من قبل المسلمين لنقضهم عهدهم وخيانتهم له. فلما وصل إليهم استشاروه في أمرهم فأشار إليهم بذلك أي بقبول حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا انه أشار بيده إلى حلقه أي إنه الذبح أي النزول على حكم رسول الله معناه أنه يأمر بذبحهم ثم فطن فعلم أنه بإشارته بيده إلى حلقه قد خان ورسوله. فعاد من ديارهم وحلف أن لا يذوق ذواقا حتى يموت، أو يتوب الله عليه. وانطلق إلى مسجد رسول صلى الله عليه وسلم فربط نفسه في ساريه من سواريه وتعرف الأن بسارية أبى لبابة. فمكث تسعة أيام، حتى كان يخر مغشيا عليه من الجهد فأنزل الله تعالى توبته على رسوله فجاءه الناس يبشرونه بتوبة الله تعالى عليه، وأرادوا أن يحلوه من رباطه بالسارية فحلف لا يحله منها أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة، فجاء رسول الله الرءوف بالمؤمنين الرحيم بهم فحله: فقال يا رسول الله إنى كنت نذرت أن انخلع من مالي صدقة. فقال: " يجزئك الثلث أن تصدق به ". ففعل رضى الله عنه ". فهذه الحادثة التي نزلت فيها الآية تعتبر سببا في نزولها وهو كذلك إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فالله عز وجل نادى المؤمنين ونهاهم عن خيانة الله وخيانة الرسول فيما يتعلق به تعالى وبرسوله من طاعتهما في الأمر والنهى في الظاهر والباطن, وفيما يتعلق بسائر الأمانات إذ قال عز من قائل: {لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} أي ولا

تخونوا أماناتكم. وأخيرا فلا تنس العبرة العظيمة في حادثة أبي لبابة وهى أن المؤمن إذا غفل فاستزله الشيطان فخان أمانة من أماناته فإنه على الفور يتوب إلى الله فيكرب ويحزن ويكثر من الاستغفار والصالحات ويتصدق بمال كثير، بعد أن يعترف بزلته ويرد الحق إلى أهله. ومن تاب تاب الله عليه، والله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر إلا أن التوبة تجب على الفور ولا يحل تأخيرها ابدا، ولا عذر لأحد في تأخير التوبة لقول الله تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} 1 والقرب هو ساعة ارتكاب المعصية والشعور بذلك… ولنتأمل توبة أبى لبابة فإنه لم يؤخرها دقيقة واحدة. وفعل في توبته ما لا يقدر عليه غيره فرضى الله عنه وأرضاه. وغفر لنا ذنوبنا وتاب علينا إنه ولينا وليس لنا ولى سواه. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

_ 1 سورة النساء: 17

النداء الثامن والأربعون: في الترغيب في تقوى الله عز وجل وبيان ثمارها العاجلة والآجلة

النداء الثامن والأربعون: في الترغيب في تقوى الله عز وجل وبيان ثمارها العاجلة والآجلة الآية (29) من سورة الأنفال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} الشرح: اعلم أيها لقارئ والمستمع أن هذا النداء الإلهي الكريم يحمل عطاء إلهيا ما فوقه عطاء وأن المحروم من حرمه، إنه وعد رباني والله لا يخلف الميعاد. وعد لمن اتقاه تقوى حقيقية وهى امتثال أوامره تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم واجتناب نواهيهما، وترك الشبهات مخافة الوقوع في المحرمات، وشحن القلب بالنية الصادقة الخالصة، وشغل الجوارح بالأعمال الصالحة والتحفظ من شوائب الشرك الخفي والجلى معا صاحب هذه التقوى هو الذي يجنى ثمارها وهى كما بلى: 1-الحصول على الفرقان. والفرقان هو نور يملأ قلبه أثمرته له تقواه لله. فصاحب هذا النور ينجو إذا هلك الناس، وينتصر إن انهزم الناس. ويميز بين الحق والباطل، والمعروف والمنكر، والخير والشر، والنافع والضار، والصالح والفاسد، إذا التبس هذا على غيره من فاقدي نور الفرقان الذي أثمرته تقوى الله عز وجل، ولك أن تعرف أيها القارئ أن لفظ الفرقان مشتق من الفرق بين الأشياء، فالمتقى تصفو نفسه بفعله للطاعات المزكية للنفس وبعده عن المعاصي المخبثة للنفس. تصفو نفسه صفاء تصبح كأنها تعيش في النور يغشاها من كل جوانبها. فهذا النور يحصل لصاحبه قوة الفرقان التي يميز بها بين الملتبسان والمشتبهات حتى يصبح قل ما يخطئ في نظرية يراها أو يقولها. وهذا عبد الله بن عمر رضى الله عنهما يقول: " ما قال أبى في شئ أظنه

كذا إلا كان كما ظن " وسر ذلك قوة تقوى عمر رضى الله عنه وشدتها حتى استحالت روحه إلى طاقة من نور. يشهد لهذا ويقرره قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيه: " ما سلك عمر فجا إلا سلك الشيطان فجا غير فجه "، وما ذلك إلا لقوة نوره الذي أثمرته له قوة تقواه لله سبحانه وتعالى. وقوله صلى الله عليه وسلم فيه: " لو كان من أمتي محدثون _ أي تحدثهم الملائكة _ لكان منهم عمر " رضى الله عنه وأرضاه، ولذلك لقوة تقواه، فلنذكر هذا أيها القارئ والمستمع ولا ننسه. 2-تكفير السيئات: وهى الخطايا وهو سترها وعدم المؤاخذة بها، وإبطال مفعولها في تلويث النفس وتخبيثها. والسيئات جمع سيئة وهى كل معصية لله ورسوله صلى الله عليه وسلم من شأنها أن تسئ إلى النفس البشرية بالتخبيث والتلويث بأوضار السيئة وآثارها، وهل المراد بالسيئات التي فعلها العبد قبل التقوى هذا هو الظاهر، ولكن لا مانع من أن المتقى تزل قدمه ويفعل سيئة ثم يتوب منها فتزيل التقوى التي يعيش عليها أثرها من نفسه ويصبح كأنه لم يقاربها أبدا. 3-مغفرة الذنوب: وهى الآثام، هذه ثمرة قبل الأخيرة من ثمار تقوى الله عز وجل التي وعد أصحابها بها، وهى مغفرة ذنوبهم وعدم مؤاخذتهم بها وهذا في الدنيا والآخرة معا؛ إذ بعض الذنوب، يعجل لأصحابها عقوبتها في الدنيا قبل الآخرة. وقد يعذب بها في الدنيا والآخرة، معا، والعياذ بالله. 4-والأخيرة وهى أعظم تلك الثمار وأشهاها إنها الجنة ونعيمها. وعبر عنها بالأجر العظيم؛ لأنها بمثابة الجزاء على التقوى والجزاء والأجر بمعنى واحد يقال أثابه وأجره وجزاه بكذا على كذا، الكل بمعنى واحد، ولعل السر في عدم ذكر الجنة الاكتفاء بذكر الأجر العظيم؛ لأن الله تعالى لا يعطى العاملين أجرا يوم القيامة غير الجنة ورضاه؛ إذ لا مال يومئذ ولا دينار ولا درهم. واخيرا أيها القارئ والمستمع لا يفوتكما ولا إياي هذه الصفقة التجارية العظيمة التي ربحها الفرقان العظيم، وتكفير السيئات، ومغفرة الذنوب، والجنة والرضوان في دار السلام، ألا فلنتق الله عز وجل ولنثبت على ذلك حتى تلقى الله تعالى. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء التاسع والأربعون: في بيان عوامل النصر في الجهاد وهى طاعة الله ورسوله، وعدم النزاع ولزوم الصبر، والإخلاص لله

النداء التاسع والأربعون: في بيان عوامل النصر في الجهاد وهى طاعة الله ورسوله، وعدم النزاع ولزوم الصبر، والإخلاص لله. الآيات (45 _ 46 _ 47) من سورة الأنفال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم والمستمع المستفيد ولنعلم كلنا وكل مؤمن ومؤمنة أن هذا النداء الإلهي الكريم موجه إلى المؤمنين بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا، وقد أذن لهم في قتال أعدائه الكافرين به وبلقائه وكتابه ورسوله، فكانت أول سرية غزت سرية عبد الله بن جحش رضى الله عنه وتأتى غزوة بدر الكبرى، وانفتح باب الجهاد اليومي على مصراعيه، وهم في حاجة إلى تعليم رباني وهداية إلهية يعرفون بموجبها كيف يخوضون المعارك وينتصرون فيها. وفى هذه الآيات الثلاث التي تضمنها هذا النداء الكريم تعليم عال جدا لخوض المعارك والانتصار فيها وهذا بيانها: 1-الثبات في وجه العدو: والصمود في القتال حتى لكأن المجاهدين جبل شامخ لا يتحرك، دل على هذا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ} طائفة مقاتلة {فَاثْبُتُوا} أي في وجه تلك الطائفة الكافرة المقاتلة

ولا تفروا أبدا. 2-ذكر الله تعالى: تهليلا وتكبيرا وتسبيحا ودعاء وضراعة وذكر وعده تعالى لأوليائه بالنصر ووعيده لأعدائه بالهزيمة. دل عليه قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . أي تفوزوا بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة بعد النجاة من الهزيمة والمذلة في الدنيا والنار وعذابها في الآخرة. 3-طاعة الله ورسوله في أمرهما ونهيهما، وطاعة قائد المعركة ومديرها إذ طاعته ثابتة بآية: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} 1وهذه الطاعة كما ذكرنا من أكبر عوامل النصر حسب سنة الله تعالى في هذه الحياة. 4-عدم التنازع والخلاف: إذ هما من موجبات الفشل الذريع وذهاب القوة وحصول الهزيمة المدمرة والعياذ بالله. دل على هذا قوله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} . والريح القوة وهي الغلبة والنصر. كما يقال الريح لفلان إذا كان غالبا وشاهده من شعر العرب: إذا هبت رياحك فاغتنمها ... فإن لكل خافقة سكون ومن أراد فهم معنى الريح المفسرة بالقوة والنصر فليقف في طريق السيارات أي إلى جانب الطريق ولينتظر حتى تمر به شاحنة مسرعة في جريها فإنها تدفعه بريحها كعاصفة شديدة من الرياح، ومن ثم يعرف معنى الريح في هذا النداء وأنه القوة الدافعة للعدو؛ لأن المجاهدين إذا اتحدوا وصاروا صفا واحدا وهجموا يوجد لهم قوة أعظم من ريح الشاحنة القوية، وهم في طريقهم إلى دفع العدو وكسره وتحطيم قوته. 5-بيان نتائج التنازع والخلاف: وأنها الفشل الذريع وذهاب القوة المعبر عنها بالريح لقوله تعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} . 6-الصبر: أي على مواصلة القتال بعد الإعداد له وتوطين النفوس وإعدادها للجهاد في سبيل الله تعالى لقوله تعالى: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} أي بالنصر والفوز بعد التثبيت أثناء القتال.

_ 1 النساء: 59.

7-الإخلاص لله تعالى: في الجهاد كما في سائر العبادات؛ إذ الإخلاص روح العبادة فإن فقد فقدت، إذ قال تعالى بعد الآية الثالثة: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فحذر المؤمنين من أن يكونوا كأولئك الذين خرجوا من ديارهم لقتال المؤمنين بطرين متكبرين مرائين بخروجهم وقتالهم غيرهم من المؤمنين لصد الناس عن الإسلام. فلتذكر أيها القارئ الكريم أن هذه العوامل عوامل النصر وهى أفعال وتروك قد تضمنتها الآيات الثلاث التي نادى الله عز وجل عباده المؤمنين من أجلها. فلنحفظ الآيات ولنكرر قراءتها وقراءة معانيها فتصبح بذلك أهلا لقيادة الجيوش وخوض والمعارك. ولن يصل إلى مستوانا الرفيع قائد معارك ولو درس في كل كليات الحرب في العالم الكافر الفاجر… وهناك معلومات إضافية لك إليك بيانها: 1-الذكر أثناء الجهاد يكون سرا إلا ما كان عند الهجمة الأولى فإنه يكون برفع الصوت الله أكبر الله أكبر وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يحب الصمت عند ثلاث: عند تلاوة القرآن، وعند الزحف، وعند الجنازة "، والذكر المأمور به في القتال يكون بالسر بالقلب واللسان إذ صح قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " يقول الله تعالى: إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو يناجز قرنه ". أي لا يشغله ذلك الحال عن ذكرى ودعائي واستعانتي. 2-قال أحد العلماء الربانيين لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا إذ قال تعالى له: {أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً} . ولو رضى لأحد في ترك الذكر لرخص للمجاهد في المعركة. ومن هنا لا يترك الذكر إلا في حالة واحدة وهى جلوس العبد لقضاء الحاجة (التغوط) . 3-اعلم أنه لا جهاد للكفار بدون إمامة شرعية. فلا يحل لرجل أو فئة أن تقاتل بدون إذن إمام المسلمين وتعيينه قائدا يقودهم في ساحات الجهاد. والله أسأل أن لا يحرمنا أجر الجهاد ولو متنا على فرشنا، إنه قدير وبالإجابة جدير. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء الخمسون: في حرمة اتخاذ الأقارب أولياء إن هم استحبوا الكفر على الإيمان

النداء الخمسون: في حرمة اتخاذ الأقارب أولياء إن هم استحبوا الكفر على الإيمان الآية (23) من سورة التوبة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم والمستمع المستفيد ولنعلم جميعا أن هذا النداء الإلهي يحمل إنذارا شديدا للمؤمنين به تعالى ربا وإلها وبدينه الإسلام دينا لا يقبل الله دينا سواه، وبنيه محمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، ينهاهم في هذا النداء الإنذارى عن اتخاذ من كفر من آبائهم وأمهاتهم أيضا. وإخوانهم وأخواتهم أيضا ومن باب أولى من كان دون ذلك من عامة الأقارب ذكورا وإناثا ينهاهم عن أن يتخذوهم أولياء يحبونهم ويناصرونهم ويدفعون عنهم ويطلعونهم على أسرار المؤمنين وبواطن أمورهم، وفى الحرب والسلم سواء إذ قال لهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ورسوله ولقائه ووعده ووعيده {لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ} أي آثروا الكفر والإصرار عليه على الإيمان بالله ورسوله. ثم يهددهم عز وجل إن لم يمتثلوا أمرهم فلم يفاصلوا آباءهم وإخوانهم المستحبين للكفر على الإيمان، والشرك على التوحيد، والخبث على الطهر، والفوضى على النظام، والظلم على العدل، إذ الكفر يكمن فيه كل ما ذكر ويزيد، ولذا قيل ما بعد الكفر ذنب يهددهم فيقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} أي أيها المؤمنون. {فَأُولَئِكَ} أي المتولونهم {هُمُ الظَّالِمُونَ} ، أي المتوغلون في الظلم، الضاربون فيه كأن لم يكن هناك ظالم إلا هم. والعياذ بالله تعالى. ووجه ظلمهم ظاهر غير خفي وهو أنهم وضعوا المحبة موضع

البغضاء، والنصرة موضع الخذلان، إذ حقيقة الظلم هي وضع الشيء في غير موضعه، فالذي تجب محبته وموالاته هو الله المنعم بالخلق والرزق والتدبير للإنسان ولسائر الخلق والذي بيده كل شئ وهو قادر على كل شئ هذا الذي يجب أن يحب ويوالى، أما الذي لا يملك شيئا وهو مملوك ولا يعطى شيئا وكيف وهو معطى فكيف يحب ويوالى. والذي تجب محبته وموالاته من الناس هو من آمن بالله وكفر بالطاغوت وهو ما عبد دون الله جل جلاله وعظم سلطانه من إنسان أو جان، من كوكب أو شجر وحجر وأحب الله تعالى ووالاه، وأحب ما يحب الله، ووالى من أحب الله ووالاه من صالحي عباده المؤمنين به وبلقائه المطيعين له ولرسوله. أما من استحب الكفر على الإيمان والشرك على التوحيد، والكافرين على المؤمنين فكيف تجوز موالاته ومناصرته. اللهم إن هذا ظلم فاضح وصاحبه ظالم لا أظلم منه. وختم تعالى إنذاره بهذا التهديد العظيم الذي لا يطاق فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم قل لهم: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أي إلى التوبة والإنابة إليه، والرجوع إلى محبته وموالاته، إذ هو توغلوا في الفسق بالكفر والظلم والشر والفساد، إذ سنة الله سبحانه وتعالى أن من أدمن على شئ قل ما يتركه ويتخلى عنه، وكلمة الفاسقين دالة على التوغل في الفسق بالكفر والظلم والفجور. هذا وإليك أيها القارئ والمستمع بعض ما يهدى إليه هذا النداء الكريم زيادة على ما علمت من شرحه وبيانه: 1-اعلم أن هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ....} الخ متضمنة حكم حرمة موالاة الكافرين ولو كانوا من أقرب الأقارب وهذا الحكم عام في أمة الإسلام إلى يوم القيامة ولا التفات إلى سبب نزولها؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. 2-أن من تولى المشركين صار مشركا كما قال ابن عباس رضى الله عنهما: من تولاهم فهو مشرك مثلهم؛لأن الرضا بالشرك شرك ويستثنى من هذه المقاطعة

الإحسان والعطية للأقارب الكفرة لحديث أسماء إذ قالت يا رسول الله إن أمي قد قدمت على راغبة وهى مشركة أفأصلها؟ قال: " صلى أمك ". 3-أن حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من أوجب الواجبات ومن لم يحب الله ورسوله فليس بمؤمن وإن ادعى الإيمان ولنصغ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقر هذه الحقيقة " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الأيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار". وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء الواحد والخمسون: في حرمة دخول المشركين الحرمين الشريفين ووجوب منعهم من ذلك، ووجوب قتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية

النداء الواحد والخمسون: في حرمة دخول المشركين الحرمين الشريفين ووجوب منعهم من ذلك، ووجوب قتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية الآيتان (28 _ 29) من سورة التوبة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} . الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم أن هذا النداء الإلهي الموجه إلى المؤمنين من عباده وهم أولياؤه لإيمانهم وتقواهم له سبحانه وتعالى يتضمن أمرين عظيمين: الأول: حرمة دخول المشركين المسجد الحرام والحرم المكي تابع للمسجد، فلا يحل لمشرك أو كافر من أهل الكتاب أو من غيرهم أن يدخل المسجد الحرام ومكة كلها حرم، كما لا يحل للمشرك أو الكافر أن يدخل المسجد النبوي والمدينة كذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم المدينة ". وكما يحرم دخول المشركين والكافرين الحرمين الشريفين، يجب عل المؤمنين منعهم من ذلك وصدهم بأية حال. وهذا ما دل عليه قوله تعالى في الآية الأولى في هذا النداء إذ قال عز وجل:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} وهو عام تسعة من الهجرة حيث حج أبو بكر رضى الله عنه أميرا على الحج، ونزلت هذه الآية الكريمة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من ينادى في عرفات ومنى ومكة بهذا الأمر " أيها الناس ألا لا يطوفن بالبيت عريان، ولا يحجن بعد هذا العام مشرك "؛ إذ كان المشركون يطوفون بالبيت عراة إذا لم يجدوا ثوبا حلالا. وقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} أي فقرا، لانقطاع المشركين عن الحج إذ كانوا يحملون البضائع التجارية ويبيعون ويشترون. {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} فوعدهم بغناهم وسد حاجتهم التي خافوا أنها إذا امتنع المشركون من الحج حصلت لهم أي العيلة. وقوله: {إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . وهذا استثناء منه سبحانه وتعالى حتى تبقى قلوب المؤمنين متعلقة به سبحانه وتعالى راجية خائفة غير مطمئنة، وكونه تعالى عليما حكيما يرشح المعنى المذكور ويرجحه، لأن ذا العلم والحكمة لا يضع شيئا إلا في موضعه، فلابد إذا لمن أراد رحمة الله وفضله تعالى أن يجتهد في أن يكون أهلا لذلك بالإيمان والطاعة الكاملة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. والثاني: أي الأمر الثاني الذي تضمنه النداء هو ما تحمله الآية الثانية وهو قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} إنه لما أمر تعالى المؤمنين بمنع المشركين من دخول المسجد الحرام وهذا يقتضي قتالهم حتى يسلموا، أمر المؤمنين أيضا أن يقاتلوا أهل الكتاب حتى يسلموا. أو يدخلوا في ذمة المؤمنين ويعطوا الجزية. فقال تعالى لهم: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ……الخ} وهم اليهود والنصارى، ولم يرض الله تعالى إيمانهم الفاسد، إذ اليهود مشبهة مجسمة يصفون الله تعالى بصفات ينزه عنها الله تبارك وتعالى، والنصارى يقولون ويعتقدون أن الله ثالث ثلاثة فهو كفر وليس والله بإيمان، فلذا أبطل الله إيمانهم فقال: {لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} ، إذ لو آمنوا بالله واليوم الآخر، لعملوا على دخول الجنة والنجاة من النار بالإيمان الصحيح والعمل الصالح الذي شرعه الله في دينه الحق الإسلام. فلذا هم كافرون بالله واليوم الآخر وقوله تعالى: {وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} ؛ إذ اليهود يدينون ببدعة اليهودية، والنصارى ببدعة النصرانية، والدين الحق الذي لا يقبل دين غيره الذي هو الإسلام كفروا به وحاربوه، فهم إذا يدينون بدين

باطل لا ينجى من النار ولا يدخل الجنة دار الأبرار. وقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} هذه غاية قتالهم فهم يقاتلون حتى يخضعوا للمسلمين ويعطوا الجزية وبذلك يدخلون في ذمة المسلمين. ويؤمنون في أبدانهم وأموالهم وأعراضهم وأديانهم مع شروط تكتب عليهم جاء تفصيلها في كتاب عمر رضى الله عنه ذكره ابن كثير عند تفسير هذه الآية. وأخيرا إليك أيها القارئ بيان ما دلت الآيتان فتأمله وعه وافهمه: 1-نجاسة المشركين إنها معنوية وهى شركهم بالله عز وجل، وإن كانوا لا يغتسلون من الجنابة ولا يبتعدون عن النجاسات بدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " المؤمن لا ينجس ". فمفهومه أن الكافر نجس أي بكفره وشركه لذا لو صافحت كتابيا لا تغسل يدك كما يرى بعض الظاهرية، ولا ينقض وضوءك مصافحته. 2-يجوز أن يدخل الكافر مساجد المسلمين ماعدا المسجد الحرام والمسجد النبوي، ولكن بإذن المؤمنين. 3-وجوب قتال أهل الكتاب حتى يدخلوا في الإسلام ليكملوا ويسعدوا أو يدخلوا في ذمة المسلمين فيحكمهم المسلمون بالعدل والحق. 4-وجوب أخذ الجزية وهى قدر معلوم من المال سنويا على الرجال القادرين على الكسب والعمل ولا تؤخذ من العجزة من الشيوخ والأطفال والنساء. 5-قوله تعالى: {عَنْ يَدٍ} له معنيان، الأول: أن يؤديها القادر دون العاجز، فمعنى {عَنْ يَدٍ} عن قدرة والمعنى الثاني: أن يؤديها صاحبها بنفسه ولا يصح أن ينيب عنه غيره ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أي ذليلون منقادون لحكم الإسلام. 6-لا يمنع المؤمن خوف الفقر أن يمتثل أمر ربه. إذ وعد تعالى من أطاعه فيما حرم عليه أو أوجب عليه أن يغنيه إذ هو امتثل أمره. وقد أطاعه المؤمنون في منع المشركين من الحج فأغناهم بما فتح عليهم من الفتوحات وما أفاض عليهم من أموال الجزية التي لا تعد … ألا فلنمتثل أمر الله ولنترك الربا وبيع المحرمات، والله يغنينا من فضله وهو الغنى الحميد. والحمد لله رب العالمين.

النداء الثاني والخمسون: في حرمة أكل أموال الناس بالباطل والوعيد الشديد لمن يكنز الذهب والفضة ولا يخرج زكاتهما

النداء الثاني والخمسون: في حرمة أكل أموال الناس بالباطل والوعيد الشديد لمن يكنز الذهب والفضة ولا يخرج زكاتهما الآيتان (34 _ 35) من سورة التوبة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} . الشرح: اذكر أيها القارئ الكريم أن الله تعالى لا ينادى عباده المؤمنين إلا ليأمرهم بفعل ما يكملهم ويسعدهم، أو لينهاهم عما يشقيهم ويخسرهم وها هو ذا تعالى في هذا النداء العظيم يخبرهم بحال أعدائهم من اليهود والنصارى الذين يريدون دوما أن يطفئوا نور الله بأفواههم، والله متم نوره ولو كره الكافرون والمشركون معا، يخبرهم بحال رجال الدين فيهم وهم الأحبار، والرهبان، وانهم ماديون صرفا، وما شعار الدين الذين يحملونه إلا خدعة لعوامهم وجهالهم، إذ قال تعالى: {إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ} وهم علماء اليهود، {وَالرُّهْبَانِ} وهم عباد النصارى وأما علماؤهم فهم القسس، والواحد منهم يقال له قس. {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} أي بدون حق يبيح لهم أكل أموال الناس، إذ هم يأكلونها تحت ستار الكذب والحيل كالرشوة، وكتابة صكوك الغفران لغلاة الذنوب والآثام إلى غير ذلك من أنواع الحيل والكذب. وقوله تعالى: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الذي هو الإسلام، وعلة صدهم عن الإسلام أن يبقى أتباعهم من اليهود والنصارى سخرة لهم يعيشون سعداء

على حسابهم، إذ لو دخل أتباعهم في الإسلام لحرموا سيادتهم عليهم وأموالهم منهم، وتبع ذلك السلطة والحياة ولم يبق لهم بين الناس ذكر. وهذه حالهم إلى اليوم فإنهم يحاربون الإسلام بكل وسيلة. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ…..} هذا إعلام آخر من الله تعالي لعباده المؤمنين معلما محذرا حتى لا يقعوا في مثل ما وقع فيه الأحبار والرهبان إذ أخبرهم أن الذين يكنزون الذهب والفضة وسواء كانوا من الكافرين والمشركين أو من المسلمين وذلك لحرمة كنز الأموال وهى قوام الأعمال، وأداة العيش الرغد في الحياة. فتوعد تعالى الذين يكنزونها ولا ينفقونها في سبيل الله بالعذاب الأليم إذ قال تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وقد سلك مسلك الأحبار والرهبان علماء الروافض إذ أن أئمتهم يأخذون منهم ضرائب هي خمس دخل كل فرد من أي جهة كان هذا الدخل، أخبرني بهذا أحد رجالهم بمدينة الكويت، ويبين تعالى كيفية تعذيب كانزي الذهب والفضة بها يوم القيامة وهى أن تحول إلى صفائح ويحمى عليها في نار جهنم حتى تلتهب نارا، ثم تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم. فلم يبق موضع من أجسامهم ألا يكوى بتلك الصفائح. ومع هذا العذاب الحسي عذاب معنوي وهو القول لهم: {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} . كما يقال لأبى جهل في جهنم {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} استهزاء وسخرية به هذا العذاب المعنوي أعظم ألما من العذاب الجسدي وأشد. هذا معنى قوله تعالى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} . ولنعلم أيها القارئ والمستمع أن هذه الآية لما نزلت اضطرب لها المسلمون، وكبر عليهم أمرها، فقال عمر رضى الله عنه: أنا أفرج عنكم فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا نبي الله إن كبر على أصحابك هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقى من أموالكم لتكون لمن بعدكم ". فكبر عمر. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء: المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته "، أي في ماله وعرضه. وهذا الحديث العمرى

حقا نفس عن النفوس المؤمنة ما تجده من ألم في إدخار بعض المال. وحقا لو حرم الادخار ومنع كيف تنزل آيات الميراث. وتقسيم التركة على الوارثين: للذكر مثل حظ الأنثيين، ولكل من الأب والأم السدس إذا هلك الابن وترك ولدا، وللأم الثلث والباقي للأب إذا لم يترك ولدهما ولدا. وللزوجة الربع إذا لم يترك الزوج ولدا، وله الثمن إن ترك ولدا. وللزوج الربع إن تركت زوجنه ولدا، وله النصف إن لم تترك ولدا. ومن مات من رجل أو إمراة، ولم يترك أبا ولا أما ولا ولدا وإنما ترك أخا أو أختا لأم وعصبة فإن لكل واحد منهما السدس والباقي للعصبة، وإن ترك أكثر من أخ أو أخت لأم فهم شركاء في الثلث، والباقي للعصبة. ومن ترك أختا ولم يكن لها ولد فلها النصف، وإن ماتت هي ولم تترك ولدا فهو يرث مالها كله، وإن مات هو وترك أختين فلهما الثلثان والباقي للعصبة كالأعمام مثلا، ومن ترك منهما إخوة رجالا ونساء فإن الاخوة يقتسمون التركة للذكر مثل حظ الأنثيين كالوالد يموت ويترك بنين وبنات فإنهم يقتسمون التركة للذكر مثل حظ الأنثيين. ولا تقسم التركة إلا بعد إنفاذ الوصية وسداد الدين. هذه قسمة الله تعالى في مال الهالك، فلو كان كنز المال حراما فكيف ينزل القرآن بقسيمته على النحو الذي فصلت؟ لذا الإجماع على أن المال المدخر إذا أخرجت زكاته لا يعد كنزا محرما يعذب به صاحبه، أما الذي لم يخرج زكاته سنويا فالعذاب لازم، وهذا مسلم يخرج حديث أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من رجل لا يؤدى زكاة ماله إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار " ومثله أيضا " من كان عنده إبل أو غنم أو بقر فلم يؤت زكاتها فإنه يعذب في عرصات القيامة إلى نهاية الحساب، ثم إلى الجنة أو إلى النار". ألا فلنذكر هذا أيها القارئ والمستمع ولنعلم الناس ما يجب أن يعلموه من دين الله ولنحثهم على العمل به طلبا للنجاة إذ الله شديد العقاب وسريع الحساب. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء الثالث الخمسون: في وجوب الخروج إلى الجهاد إذا دعا الإمام إلى ذلك وهو ما يعرف بالتعبئة العامة، وحرمة القعود عنه

النداء الثالث الخمسون: في وجوب الخروج إلى الجهاد إذا دعا الإمام إلى ذلك وهو ما يعرف بالتعبئة العامة، وحرمة القعود عنه الآيتان 38 _ 39 من سورة التوبة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . الشرح: اعلم أيها القارئ والمستمع أن هذا النداء وجه يوم نزل إلى المؤمنين بالمدينة النبوية وذلك يوم بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم أن هرقل ملك الروم قد جمع جموعه لحرب الرسول صلى الله عليه وسلم فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم بالتعبئة العامة، وكان الزمن صيفا حارا، وبالبلاد جدب وقحط ومجاعة، وكان ذلك في شوال من سنة تسع من الهجرة لذا سميت هذه الغزوة بغزوة العسرة، فاستحث الرب تبارك وتعالى المؤمنين ليخرجوا مع نبيهم صلى الله عليه وسلم لقتال أعدائه الذين عزموا على غزوه في عقر داره فأنزل الله تعالى قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي أخرجوا للجهاد في سبيل الله، والقائل رسول الله صلى الله عليه وسلم {اثَّاقَلْتُمْ} أي تباطأتم كأنكم تحملون أثقالا. لا تريدون الخروج راضين ببقائكم في دوركم وبين أزواجكم وأولادكم. {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} . وهذا إنكار منه الله تعالى على من كانت هذه حالته منهم، وهو عدد قليل وليس بكثير إذ أكثر المؤمنين نفروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن من تباطأ أولا خرج ثانيا، إلا من تخلف بإذن من الرسول صلى الله عليه وسلم.ثم قال لهم عز من قائل {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} . فكيف تؤثرون الحياة الدنيا

القليلة التمتع بالطعام والشراب والكساء والراحة على الآخرة ذات النعيم العظيم والخالد الباقي، فكيف تؤثرون القليل الفاني على الكثير الباقي إن أمركم عجب، ثم وجه إليهم الأمر الموجب للخروج للجهاد لقتال بنى الأصفر _ الروم _، إذ عزموا على قتال الرسول وأتباعه فقال تعالى مهددا موعدا آمرا بالخروج حاثا حاظا عليه: {إِلاّ تَنْفِرُوا} أي تخليتم عن نصرة نبيكم وتركتموه يخرج إلى قتال الروم وحده مع قلة من أصحابه. فالجزاء سيكون عظيما: {يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} أي موجعا لا يطاق لشدة ألمه ومرارة مذاقه. وأمر أخر هو أنه إذا أهلككم يستبدل بكم غيركم ممن ينصرون رسوله ويقاتلون معه إذ قال عز وجل: {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً} أي من الضرر لأنه وليه وناصره {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فلا يعجزه إهلاككم واستبدالكم بغيركم، ونصرة نبيه إن كنتم تركتم نصرته. هذا ولنعلم أيها القارئ الكريم والمستمع أن هذا النداء حمل حكما عاما للمسلمين في إي زمان ومكان، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لذا فلنتأمل ما يلي: 1-الجهاد في سبيل الله تعالى من أفضل الأعمال وهو باق ما بقى من لا يعبد الله تعالى لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} ؛ أولا في جزيرة العرب ثم في كل أنحاء المعمورة؛ إذ أمة الإسلام نائبة عن نبيها في إبلاغ دعوته إلى العالم التي تحمل الهداية والطهر والسعادة والكمال للبشر أجمع. 2-أن النفير والتعبئة العامة يقوم بها إمام المسلمين عندما تدعو الحاجة إلى ذلك لهذه الآية الكريمة في هذا النداء العظيم. 3-الجهاد وهو من أفضل الأعمال يكون فرض عين ويكون فرض كفاية وفرض العين يكون في ثلاثة أحوال. أ-أن يعلن الإمام التعبئة العامة والنفير العام كما في هذه الآية التي تضمنها النداء. ب-أن يعين الإمام من شاء من المؤمنين، فيجب على من عينه أن يخرج للجهاد. جـ-أن يداهم العدو أهل ثغر أو بلد على الحدود فعلى كل ذكر بالغ عاقل أن يدافع ويقاتل حتى يقهر العدو أو يصل المدد من إمام المسلمين وحكومته…

4-أن يكون الجهاد وهو بذل الجهد والطاقة البدنية والفعلية والمالية في سبيل الله أي من أجل رضا الله تعالى، وطاعة رسوله وأميره، فلا يكون من أجل سلطة أو مال، أو جاه أو سمعة. 5-بيان حقارة الدنيا وتفاهتها وضآلتها أمام الآخرة دار النعيم المقيم والسعادة الأبدية الخالدة لقوله تعالى: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} وقول الرسول صلى الله عليه وسلم في رواية مسلم: " ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم فلينظر بما ترجع؟ " والإصبع التي أشار بها هي السبابة. 6-وجوب نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دينه وفى أمته وسنته. ألا فلنتدبر ونتأمل ما حواه هذا النداء الإلهي الكريم ولنعمل في صدق على إبلاغه بعد العمل به. والحسنة بألف حسنة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إن الله يجزى الحسنة بألفي حسنة" أما حسنة الجهاد فهي بألف ألف أي بمليون حسنة والله يضاعف لمن يشاء". سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء الرابع الخمسون: في الأمر بتقوى الله عز وجل والصدق في النية والقول والعمل

النداء الرابع الخمسون: في الأمر بتقوى الله عز وجل والصدق في النية والقول والعمل الآية (119) من سورة التوبة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} . الشرح: اذكر أيها القارئ ما قد سبق أن عرفته وهو أن المؤمنين أحياء، لذا يناديهم ربهم ليكلفهم لقدرتهم على السماع والقول والعمل والترك بخلاف الكافرين فهم يكفرهم أموات غير أحياء وما يشعرون، والدليل أنهم إذا دعوا إلى العمل أو الترك لا يجيبون، وإذا ذكروا لا يذكرون وإذا نودوا لا يسمعون بخلاف المؤمنين لكمال حياتهم فإنهم إذا ناداهم أجابوا، وإذا أمرهم فعلوا، وإن نهاهم تركوا وانتهوا. واعلم أيها القارئ والمستمع أن هذا النداء الإلهي يحمل أمرين عظيمين. الأول: الأمر بتقوى الله عز وجل، وهى كما عرفت إن كنت تذكر طاعة الله تعالى وطاعة رسوله في كل ما أمرا به أو نهيا عنه، إذ الله تعالى لا يتقى عذابه ولا غضبه ولا عقابه بأية وقاية إلا بالطاعة له والتسليم لحكمه والرضا بقضائه وقدره. والمؤمن العارف يسره أمر ربه تعالى له ولغيره بالتقوى لعلمه أن ولاية الله تعالى وهى أشرف هدف وأسمى غاية وأعز مطلب، لا تتحقق للمؤمن إلا بالتقوى؛ لأن التقوى تزكى النفس وذلك بفعل الأوامر وترك النواهي، فإذا زكت نفس العبد رضيه الله وليا وأحبه وتولاه. واعلم أيها القارئ أن التقوى لا تتحقق لطالبها إلا بالعلم بمحاب الله تعالى ومكارهه. وبكيفية أداء المحبوبات لتنتج له زكاة نفسه وطهارتها، لذا كان طلب العلم فريضة الله على كل مؤمن ومؤمنة في هذه الحياة. والأمر الثاني: هو الكون مع الصادقين إذ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} أي لا تفارقونهم في أي حال من أحوالهم فلتكن نياتكم كنياتهم وأقوالكم كأقوالهم، وأعمالكم كأعمالهم، وآمالكم كآمالهم لتكونوا في الآخرة معهم. واسمعوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا، إذ قال:

"عليكم بالصدق فإن الصدق يهدى إلى البر والبر يهدى إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ". فإذا كتب صديقا أصبح من أمثال أبى بكر الصديق رضى الله عنه إذ لقبه الرسول صلى الله عليه وسلم بالصديق، والقرآن أشار إليه في قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} . فالذي جاء بالصدق هو الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به هو أبى بكر الصديق رضى الله عنه. وهناك سبيل أخر للكون مع الصديقين وهو طاعة الله ورسوله في الظاهر والباطن، في السر والعلن، في العسر واليسر؛ إذ قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} . وإليك ما سبق هذا النداء الكريم لتعرف قيمة الصدق وحقيقته وتعمل على أن يكون وصفا لك بين الناس. إنه لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى التعبئة لقتال الروم الذين عزموا على غزو المؤمنين في المدينة النبوية، جاء المنافقون يعتذرون بأعذار واهية وكاذبة وكذلك ضعاف الإيمان؛ لأن الغزوة كانت في عام قحط وجوع وحر شديد. وتخلف من تخلف بدون استئذان من القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم. ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون من تبوك إذ العدو لما بلغه خروج الرسول صلى الله عليه وسلم لقتاله جبن وخاف وعدل عن الغزو الذي عزم عليه وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: " نصرت بالرعب مسيرة شهر ". فلما عاد الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون جاء بعض الناس يعتذرون عن تخلفهم فاعتذروا وقبل عذرهم، وتخلف ثلاثة وهم كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع أن يعتذروا كما أعتذر غيرهم بأعذار واهية، فأعلن الرسول صلى الله عليه وسلم عن هجرانهم ومقاطعتهم واستمرت مقاطعتهم من الرسول صلى الله عليه وسلم وكافة أهل المدينة حتى أزواجهم وأولادهم وبعد مرور خمسين يوما، ولما صبروا صادقين أنزل الله توبتهم في قوله: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} . فدلت الآيات على أن الله نجا الثلاثة الذين خلفوا وتاب الله عليهم بصدقهم، فلذا دعا عباده المؤمنين إلى الصدق لما فيه الخير والبركة والفوز بالنجاة من النار ودخول الجنة دار الأبرار. اللهم اجعلنا من عبادك الصادقين. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء الخامس الخمسون: في وجوب قتال الكفار لإدخالهم في الإسلام ليكملوا ويسعدوا

النداء الخامس الخمسون: في وجوب قتال الكفار لإدخالهم في الإسلام ليكملوا ويسعدوا الآية (123) من سورة التوبة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} . الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم أن هذا النداء الإلهي فيه إشارة إلى قرب وفاة الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم، إذ كان الله تعالى يأمره بالجهاد وأتباعه معه نحو {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ} . وقطعا إن أصحابه معه في الجهاد. إلا في هذا النداء فإنه وجهه تعالى للمؤمنين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} . إنه لما طهرت الجزيرة من الشرك وأصبحت دار سلام، وتم هذا في أخريات حياة النبي صلى الله عليه وسلم أمر تعالى المؤمنين بأن يواصلوا الجهاد في سبيله بعد وفاة نبيهم صلى الله عليه وسلم وأرشدهم إلى الطريقة التي يجب أن يتبعوها في ذلك وهى أن يبدأوا بدعوة وقتال أقرب الكفار منهم والمراد بالكفار المتاخمين لحدودهم كالأردن والشام والعراف مثلا. فيعسكرون على مقربة منهم ويدعونهم إلى خصلة من ثلاث: الأولى: الدخول في الإسلام دين الرحمة والعدل والطهر والصفا والعزة والكرامة فإن أبوا. فالثانية: وهى قبولهم حماية المسلمين لهم بأن يدخل المسلمون بلادهم يطبقون فيها شرع الله ويحمونه مقابل ضريبة جزئية وهى الجزية التي تضرب على الرجال فقط وتسقط عن العجزة من كبار السن والأطفال والنساء، وبذلك يرى أهل البلاد رحمة الإسلام ونوره وعدله وطهره فيدخلوا فيه بطواعية واختيار بلا إلزام ولا إكراه، فإن أبوا.

فالثالثة: وهى قتالهم حتى يهزموا وتدخل خيل الإسلام بلادهم عنوة وتصبح من مال الإسلام والمسلمين إذ يصبح مال تلك البلاد خراجا، وتصبح تلك البلاد ضمن بلاد المسلمين ثم يعسكرون على حدود البلاد المجاورة، ويعملون ما عملوا مع الحدود الأولى وهكذا حتى يكون الدين كله لله، ولا يبقى من لا دين لله بالإسلام امتثالا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ…} الآية وقوله تعالى: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} أي قوة بأس وشدة مراس ليرهبوكم وليهزموا أمامكم وقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} أي بنصره وتأييده، والمتقون هم الذين اتقوا الشرك والمعاصي، والخروج عن السنن الإلهية في النصر والهزيمة. وفعلا امتثل أمر الله تعالى المؤمنون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة نبيهم صلى الله عليه وسلم ما إن انتهت حرب الردة في أطراف الجزيرة حتى قام أبو بكر رضى الله عنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجهيز الجيوش الإسلامية إلى الروم عبدة الصليب وإلى الفرس عبدة النار، ففتح الله تعالى عليه ببركة خلافته لرسوله صلى الله عليه وسلم، وتوفى أبو بكر رضى الله عنه، وتولى أمر المسلمين عمر بن الخطاب رضى الله عنه وواصل الجهاد فاستولى على ممالك في الشرق والغرب، واستشهد عمر رضى الله عنه في محراب رسول الله إذ قتله أبو لؤلؤة المجوسي انتقاما منه لكسره عرش كسرى، وتولى أمر المسلمين خليفته عثمان ذو النورين رضى الله عنه وأرضاه فواصل الزحف والجهاد تنفيذا لأمر الله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} فاتسعت البلاد الإسلامية شرقا وغربا ودخلت ممالك كبيرة وعديدة في دين الله. واستمر الجهاد والفتح وحدود البلاد الإسلامية تتسع شرقا وغربا طيلة ثلاثة قرون وهى القرون التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خيركم قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ". وما أن انتهت القرون الذهبية حتى كاد العدو المؤلف من ثلاثة أعداء وهم المجوس واليهود والنصارى حتى أصبح يعرف بالثالوث، كاد أمة الإسلام بالمكر والدس ففرق كلمتها وشتت جيوشها ورجالها ومزق بلادها، وأخذت تتراجع الحدود حتى ضاقت، ووقف المد والجزر والأمر لله من قبل ومن بعد، واليوم البشرية تتطلع إلى الإسلام لينقذها من عللها وأمراضها وظلمتها وشرورها ومفاسدها، فعسى الله تعالى أن يتوب على المؤمنين فتجتمع كلمتهم ودولتهم فينهضون بهذا الواجب: قتال من يلي حدود البلاد الإسلامية

حتى يدخل في الإسلام وهكذا… حتى يتم وعد الله في قوله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم " ليتمن الله هذا الأمر حتى ما يبقى بيت مدر ولا وبر إلا يدخله الإسلام بعز عزيز أو ذل ذليل " وأخيرا فقد اشتملت هذه الآية الكريمة على المعلومات الآتية: 1-وجوب الجهاد واستمراره على أمة الإسلام حتى لا تبقى فتنة أو اضطهاد لمؤمن، ويكون الدين كله لله. 2-مشروعية البدء في الجهاد بأقرب الكفار إلى بلاد المسلمين من باب (الأقربون أولى بالمعروف) . 3-وعد الله تعالى بالنصر والتأييد لأهل التقوى العامة والخاصة باق لا يتبدل ولا يتغير. 4-أمة الإسلام آثمة إذا لم تحقق هذا الواجب وهو قتال من يلي بلادها حتى يعم الإسلام ديار العالم كافة، ولا يعفى من الإثم إلا أهل الأعذار في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ} والنساء والأطفال والمجانين، كل بحسب حاله قوة وضعفا. والله نسأل أن يعفو ويغفر، فإنه عفو غفور. وسلام على المرسلين والخمد لله رب العالمين.

النداء السادس الخمسون: في الأمر بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والجهاد ولزوم الإسلام والاعتصام به

النداء السادس الخمسون: في الأمر بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والجهاد ولزوم الإسلام والاعتصام به الآيتان (77 _ 78) من سورة الحج أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} . الشرح: إنه بعد تقرير العقيدة بأقسامها الثلاثة وهى التوحيد والنبوة والبعث الآخر والجزاء فيه نادى الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين بعنوان الإيمان الدال على كمال الحياة الروحية، وقوة الإرادة العملية ناداهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي يا من آمنتم بالله ربا وإلها لا رب غيره ولا إله سواه، وآمنتم بمحمد نبيه ورسوله، وامنتم بلقائه وما أعد لأوليائه وما لديه لأعدائه. {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} أي لربكم وحده فأطيعوه فيما يأمركم به وفيما ينهاكم عنه {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} وهو كل ما انتدبهم ربهم إليه ورغبهم فيه من أنواع البر وضروب العبادات ليتأهبوا بذلك للفلاح الذي هو الفوز بالجنة بعد النجاة من النار الدال عليه {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . وخص من الصلاة الركوع والسجود من بين أركانها لأنهما أشرف أجزائها وأدلها على خضوع العبد لربه وذلته له سبحانه وتعالى كان هذا ما دلت عليه الآية الأولى. أما الآية الثانية وهو قوله تعالى لهم {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} . فإنه آمرهم بأمر عظيم إذ الأمر الأول في تأثيره في أرواحهم بالتطهير والصفاء أكثر من

تأثيره في أبدانهم وأما هذا الأمر فإنه ذو تأثير أعظم في الأرواح والأبدان معا، إنه جهاد أعدائه تعالى وأعدائهم، وهم الكافرون والمشركون والمنافقون، وهذا يتطلب بذل الأموال والأرواح كما هو جهاد الشيطان الذي لا يبرح يزين الشر، ويقبح الخير، يدعو إلى الخبث ويصرف عن الطهر حتى يهبط بالعبد إلى أسوأ الدركات في الخبث والشر والفساد، كما هو جهاد النفس المارة بالسوء، اللوامة عن فعله بعد أن نخضع العبد لفعله وهذا في مرحلة جهادها إلى أن تنهزم وتقهر فحينئذ تطيب وتطهر وتصبح المطمئنة التي لا ترتاح ولا تسعد إلا على ذكر الله تعالى وشكره بأنواع العبادات والقربات. وقوله تعالى: {حَقَّ جِهَادِهِ} إنه بذل الطاقة البدنية والعقلية واستفراغ الجهد كاملا نفسا ومالا ودعوة في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى وحده، دل على هذا قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ} أي في سبيل إعلاء كلمته ونصرة أوليائه، على أنفسهم الأمارة بالسوء وعلى الشيطان المزين للباطل المقبح للحق، وعلى أعدائهم وهم الكفار والفجار الذين لا يريدون أن يعبد الله وحده، ولا أن يعز ويطهر أولياؤه. ولما كانت طاقة العبد محدودة ذكر أولياءه بأنه لا يكلفهم ما يوقعهم في الحرج الذي هو الضيق الذي لا يقدر العبد على اجتيازه ولا الخروج منه، ومن مظاهر رفع الحرج أنه تعالى1 فتح لهم باب التوبة من أذنب منهم ذنبا فليتركه نادما على فعله مستغفرا ربه فإنه يقبل ولا يرد. ومن رفع الحرج رخص للمريض والمسافر في الإفطار حال مرضهما أو سفرهما، ورخص للمريض أن يصلى قاعدا أو على جنب أو مستلقيا على حسب قدرته. ورخص للمريض والأعمى والأعرج في عدم الخروج إلى الجهاد في حال التعبئة العامة ورخص لمن لم يجد الماء أو عجز عن استعماله أن يترك الغسل والوضوء ويتيمم بالتراب ويصلى هذه جملة من رفع الحرج على أولياء الله المؤمنين. وقوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} . حث منه تعالى لعباده المؤمنين على أن يلزموا ملة أبيهم إبراهيم عليه السلام، إذ هو أبو إسماعيل وإسماعيل هو أبو العرب المستعربة الذين منهم سيد الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم حظهم وحثهم على لزوم عبادة الله تعالى وحده بنا شرع، وترك الشرك والبدع. بقوله: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} أي ألزموها ولا تخرجوا عنها فتتركوها وتستبدلوا بها غيرها فإنها هي مناط عزكم وشرفكم، ومدار سعادتكم في الدنيا والآخرة. وذكرهم سبحانه وتعالى بشرف آخر أضفاه عليهم وهو

_ 1 هذه الجملة لم تشرح كغيرها نسيانا لا غير / ومعناها: اختاركم لحمل دعوة الله تعالى إلى الناس كافة.

أنه سماهم المسلمين في الكتب الأولى في القرآن الكريم، إذ قال لهم: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} . وعلة هذه التسمية المشرفة الرافعة للقدر والجاه والمنصب. {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ} لأنه أول من أسلم منكم فهو يغرف الإسلام وأهله لذا إذا إستشهده الرب تبارك وتعالى شهد عليكم. وإذا إستشهدكم أنتم شهدتم على الناس على من أسلم منهم فلبه ووجهه لله فعبده وحده ومن لم يسلم ذلك لله فعبد غير الله تعالى فأشرك وكفر وزاغ وضل وابتدع فضل سواء السبيل وآخر ما ناداهم من أجله ودعاهم إليه هو أن يقيموا الصلاة كما ينبغي أن تقام وما نقام به الصلاة هو: 1-الطهارة الكاملة برفع الحدث بالوضوء إن كان أصغر، وبالغسل إن كان أكبر، وطهارة البدن والثوب والمكان الذي يصلى فيه العبد من النجاسات كالبول والعذرة والدم. 2-أن تؤدى في أوقاتها المعلومة، فلا تقدم ولا تؤخر إلا لعلة سفر أو مرض. 3-أن تؤدى في جماعة المؤمنين. لا انفراديا إلا في ضرورة قصوى. 4-الإتيان بأركانها وهى قراءة الفاتحة في كل ركعة، والطمأنينة شفى الركوع والرفع منه وفى السجود والجلوس مع اعتدال الأعضاء في ذلك كله1. 5-مراعاة سننها وآدابها. حتى تصبح قادرة على إنتاج الطهر والصفا للروح. هذا معنى إقام الصلاة وأن يؤتوا الزكاة ويعتصموا بالله، بمعنى يتمسكوا بدينه الإسلام وما حواه من الشرائع والأحكام وآداب وأخلاق، إذ هو سبحانه وتعالى مولاهم والمولى يجب أن يحب ويعظم ويطاع، فهو حينئذ نعم المولى لهم ونعم النصير، لأنهم أحبوه وعظموه وأطاعوه. (تنبيه) القارئ لهذا النداء ولما سبقه من آيات إذا كان متطهرا إذا قال {لعلكم تفلحون} خر ساجدا مسبحا، ثم يرفع رأسه مكبرا ويواصل قراءته لما بقى من الآيات. إذ هذه سجده من سجدات القرآن، إلا أن هذه السجده مختلف في مشروعيتها ولم يجمع عليها كما أجمعوا على سجدة الأعراف. والرعد ومريم وأولى الحج، والفرقان، والنمل، والسجدة وفصلت، والنجم، والانشقاق، والعلق، واختلف أيضا في سجدة ص، والنجم. فلنذكر هذا والله المسؤول أن يبلغنا المأمول في رضاه والنزول بجواره في دار السلام. وسلام على المرسلين والخمد لله رب العالمين.

_ 1 والركوع، والسجود، والقيام للركوع، والجلوس، والسلام هذه أركان فى الصلاة.

النداء السابع والخمسون: في النهى عن اتباع خطوات الشيطان وبيان حال المتبع لها. وامتنان الله تعالى على المؤمنين بوقايتهم من الشيطان.

النداء السابع والخمسون: في النهى عن اتباع خطوات الشيطان وبيان حال المتبع لها. وامتنان الله تعالى على المؤمنين بوقايتهم من الشيطان. الآية (21) من سورة النور أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم والمستمع المستفيد أن الله تعالى ما ينادى عباده المؤمنين به وبلقائه المصدقين بوعده ووعيده، الراغبين في فضله وإنعامه، الراجين رحمته وإحسانه، ما يناديهم إلا لما يعدهم لذلك ويقربهم منه، ويحققه لهم فها هو ذا عز وجل يناديهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ} ، لينهاهم عن اتباع خطوات الشيطان فيقول: {لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} فإنه عدو لكم فكيف تمشون وراءه وتتبعونه فيما يزين لكم من قبيح المعاصي، وسيئ الأقوال والأفعال، ويعلل لذلك النهى فيقول، {وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} أي إن من يتبع خطوات الشيطان لا يلبث أن يصبح شيطانا يأمر بالفحشاء والمنكر، ألا ففاصلوا هذا العدو وقاطعوه، واتركوا المشي والجري وراءه فإنه لا يأمر بخير قط، إذا فحذروا وساوسه وقاموا نزغاته بالاستعاذة بالله السميع العليم فإنه لا ينجيكم منه إلا هو سبحانه وتعالى. فمن زين له سوءا أو قبح له حسنا، أو نزغه ليحركه وراء شهوة باطلة فليفزع إلى الله سبحانه وتعالى قائلا: {أعوذ بالله السميع العليم

من الشيطان الرجيم} ، وليواصل ذلك حتى يفر منه ويهرب من ساحته. كان هذا في بيان النهى عن اتباع خطوات الشيطان، وبيان حال المتبع له والعياذ بالله. أما ما تضمنه هذا النداء في امتنان الرب تبارك وتعالى على عباده المؤمنين بوقايتهم من الشيطان، وقد قال تعالى فيه بقوله الحق: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} أي إنه لولا فضل الله عليكم أيها المؤمنون الصادقون ورحمته بكم وحفظه لكم بدفع الشيطان عنكم، ما كان ليطهر منكم أحد، وذلك لضعف الإنسان واستعداده الفطري للاستجابة لعدوه وعدو أبيه من قبل، وهو الشيطان عليه لعائن الرحمن إذا فعلى الذين شعروا بكمالهم؛ لأنهم نجوا مما وقع فيه غيرهم من الإثم يستغفروا لإخوانهم الذين تورطوا وان يقللوا من لومهم وعتابهم فإنه لولا فضله تعالى عليهم ورحمته بهم لوقعوا فيما وقع فيه إخوانهم. ألا فليحمدوا الله عز وجل الذي نجاهم مما وقع فيه إخوانهم. وليتطامنوا تواضعا لله وشكرا له. إن هذه الآيات نزلت في حادثة الإفك التي تولى كبرها رئيس المنافقين ابن أبى عليه لعائن الله. وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، وعليه فيلجأ إليه المؤمنين طالبين تزكية نفوسهم منه سبحانه وتعالى؛ إذ هو الذي يزكى من يشاء، إلا أنه حسب سنته في خلقه لا يزكى إلا من طلب ذلك منه، فمن طلب في صدق زكاة نفسه، فإن الله تعالى لا يخيبه ويزكى نفسه، ومادام تعالى سميعا لأقوال عباده عليما بنيانهم وأفعالهم فليفزع إليه المؤمن الراغب في زكاة نفسه. فليذكره، وليشكره، بفعل الصالحات، والبعد عن الطالحات من الذنوب والآثام، وبذلك يصبح أهلا لزكاة نفسه فتزكو نفسه وتطيب، والفضل لله والمنة لله سبحانه وتعالى، إذ لولاه ما زكى ممن تورطوا في حادثة الإفك، وممن سلم منها ولم يشارك فيها من أولئك الأصحاب رضوان الله تعالى عليهم، ومن عجيب أحداث الكون أن الروافض جلهم متورطون في تلك الفتنة إلى اليوم؛ إذ هم مصرون على اتهام أم المؤمنين بها، وقد برأها الله عز وجل في كتابه وبشرها بالجنة بقوله تعالى: {أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} مع العلم أن من يكذب الله عز وجل يكفر كفرا يخرجه من الإسلام فسبحان الله كيف يرضى المؤمن بالكفر، ولا لشيء سوى التقليد العمى لأئمته واتباع هواه. والعياذ بالله. وأخيرا إليك أيها القارئ خلاصة طيبة نفعك الله وإياي بها آمين وهى:

1-حرمة اتباع الشيطان فيما يزينه من الفحشاء والمنكر والباطل والسوء. 2-متابعة الشيطان والجرى وراءه في كل ما يدعو إليه يؤدى بالعبد إلى أن يصبح شيطانا يأمر بالفحشاء والمنكر. 3-على كل من حفظه الله من الوقوع في الفواحش والمنكر والسوء والباطل في الاعتقاد والقول والعمل؟ عليه أن يشكر الله تعالى، وأن يتواضع ويتطامن، ولا يلغ في أعراض المتورطين، وليكف لسانه عنهم ويدعوا لهم بالهداية إلى طريق تطهير أنفسهم وتزكيتها، ويبين لهم ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة. والجزاء على الله إذ هو رب العالمين ومالك يوم الدين. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء الثامن والخمسون: في وجوب الاستئذان على من يراد الدخول عليه في بيته، وعدم مشروعية الاستئذان على بيت غير مسكون للعبد حاجة فيه

النداء الثامن والخمسون: في وجوب الاستئذان على من يراد الدخول عليه في بيته، وعدم مشروعية الاستئذان على بيت غير مسكون للعبد حاجة فيه الآيتان (27 _ 29) من سورة النور أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُون} . الشرح: إنه نظرا إلى خطر الرمي بالفاحشة، وخطر فعلها وحرمة ذلك بين المؤمنين شرع الله تعالى الاستئذان عند دخول البيوت فنادى عباده المؤمنين قائلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ} أي يا من آمنتم بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا، {لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} والاستئناس هو الاستئذان، لأن الاستئذان لا يكون إلا من إنسان، ولا يكون من حيوان محال فلذا أطلق الاستئناس وأريد به الاستئذان، وكفيته أن يقف المرء إلى جانب باب المنزل عن يمينه أو عن شماله ويقول: " السلام عليكم أأدخل " ثلاث مرات فإن أذن له في الدخول دخل وإلا انصرف راضيا غير ساخط ولا غاضب. وقوله تعالى: {ذَلِكُم

خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي الاستئذان والسلام على أهل البيت قبل الدخول خير للمستأذن ولأهل البيت الذين يريد أن يدخل عليهم؛ إذ علة وجوب الاستئذان هي أن لا يطلع المرء على عورة أخيه، وناظر العورة يتأذى كما يتأذى صاحب العورة سواء بسواء فلذا كان الاستئذان خيرا للجانبين وهو ما أراده الله تعالى بقوله {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي تذكرون أنكم مؤمنون، وأن الله تعالى أمركم بالاستئذان حتى لا يحصل لكم ما يضركم، فتبقى لكم طهارة نفوسكم وسمو أرواحكم، وإن استأذن المرء ولم يجد في البيت أحدا فلا يدخل حتى يوجد من يأذن له بالدخول أو عدمه. وهذا معنى قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا} ، وإن وجد في البيت أحد، وقال للمستأذن: ارجع فإن عليه أن يرجع ولا يسأل لماذا لم يأذن له بالدخول. لقوله تعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} ، لأنه ما أمر صاحب البيت بالرجوع إلا لأمر اقتضى ذلك. وفى الرجوع خير من الدخول بدوم إذن صاحب البيت، ولذا قال تعالى: {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} أي أطهر لنفوسكم وأكثر عائدة عليكم بالخير ومن مظاهر ذلك أن تبقى الألفة والمحبة بينكم. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} . أي مطلع على أحوالكم وأعمالكم فتشريعه لكم الاستئذان واقع موقعه. وعليه فأطيعوه فيه وفى غيره تكملوا وتسعدوا وقوله تعالى في الآية الثالثة في هذا النداء {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} ، هذه رخصة منه سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين وهى أن لا يستأذنوا إذا أرادوا دخول بيوت غير مسكونه أي ليس فيها نساء من زوجات وسريات وغيرهن من النساء ممن يحرم النظر إليهن، وذلك كالدكاكين والفنادق والأسواق، وما إلى ذلك فللمؤمن أن يدخل لقضاء حاجة المعبر عنها بالمتاع بدون استئذان لأنها مفتوحة للعموم من أصحاب الأغراض والحاجات من عامة الناس. هذا في الاستئذان، أما السلام فهي سنة في حق كل مؤمن يدخل أو يمر على مؤمن إذ يسلم الراكب على الماشي والواقف على القاعد والكبير على الصغير. فمن دخل دكانا أو نزلا مطعما من السنة أن يسلم قائلا السلام عليكم ويرد عليه من سلم عليه قائلا وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته هذا النداء الموجب للمؤالفة والمحبة بين

المؤمنين والمحقق للطهر والمحافظة عليه ختمه تعالى بقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُون} أي ما تظهرون وما تخفون من نياتكم وأقوالكم وأفعالكم وأحوالكم إذا فراقبوه تعالى فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه فافعلوا المأمور واتركوا المنهي تكملوا في آدابكم وأخلاقكم وتسعدوا في حياتكم. وفى آخرتكم. هذا وإليك أيها القارئ الكريم والمستمع المستفيد معلومات إضافية فاذكرها فإنها خير لك وهى: 1-اذكر أن سبب هذا النداء هو أن امرأة من الأنصار قالت يا رسول الله إنى أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، لا والد، ولا ولد فيأتي الأب فيدخل على فإنه لا يزال يدخل على رجل من أهلي على تلك الحال فكيف أصنع؟ فأنزل الله هذه الآية. وقال أبو بكر يا رسول الله أرأيت الخانات والمساكن في شرق الشام ليس فيها مساكن؟ فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ ... } . 2-إذا أستأذن أحد فقال له صاحب البيت من أنت؟ فلا يقل أنا، وإنما يذكر اسمه أو كنيته. إذ استؤذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للمستأذن من هذا؟ فقال: أنا، فقال1: أنا أنا كأنه كره ذلك. 3-من آداب الاستئذان أن يقف المستأذن بجانب الباب فلا يعترضه وأن يرفع صوته بقدر الحاجة وأن يقرع الباب قرعا خفيفا، وأن يقول السلام عليكم أأدخل ثلاث مرات فإن أذن له وإلا رجع. 4-اعلم أن في كل طاعة لله ورسوله خير وبركة وإن كانت كلمة طيبة. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

_ 1 أي الرسول صلي الله عليه وسلم

النداء التاسع والخمسون: في مشروعية استئذان الخدم والأطفال على أهل البيت ثلاثة أوقات. ووجوب استئذان الطفل إذا بلغ الحلم

النداء التاسع والخمسون: في مشروعية استئذان الخدم والأطفال على أهل البيت ثلاثة أوقات. ووجوب استئذان الطفل إذا بلغ الحلم الآيتان (58 _ 59) من سورة النور أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم أن هذا النداء وإن كان لنزوله سبب ككثير من الآيات والنداءات إلا أن الحكم عام يشمل كل مؤمن ومؤمنة ما بقى الإسلام والمسلمون، وذلك إلى أخر أيام هذه الحياة الدنيا، واسمع أقص عليك سبب نزول هذا النداء وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث غلاما من الأنصار يقال له مدلج إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه يدعوه له فوجده نائما في وقت الظهيرة فدق الباب ودخل فاستيقظ عمر فانكشف منه شئ _ أي عن عورته _. فقال عمر عندها: وددت أن الله تعالى نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا أن لا يدخلوا علينا فى هذه الساعة إلا بإذن، ثم انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فوجد هذه الآية نزلت فخر ساجدا شكرا لله تعالى. وليست هذه أول موافقة عمر لربه تعالى فيما ينزل

من أحكام إذ منها نزول آية الحجاب، والصلاة خلف المقام 1إلى غير هذا فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} إي يا من آمنتم بالله ولقائه وكتابه ورسوله {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} ، ومعنى هذا الأمر أن عليكم أيها المؤمنون أن تعلموا أطفالكم وخدمكم الاستئذان عليكم في ثلاث أوقات وأمروهم بذلك. والأوقات الثلاث هي التي في قوله تعالى: {ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ} وهى ساعات النوم من الليل، {وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ} وهى ساعات القيلولة، {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} وهى بداية النوم في الليل. وقوله تعالى: {ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} أي هي مظنة انكشاف العورة فيها فأطلق عليها اسم العورة، والعورة هي ما يستحى من كشفه. وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} أي ليس عليكم أيها الأباء والسادة، ولا عليهم يريد الأبناء الصغار والخدم جناح أي إثم وحرج وتضييق. وقوله تعالى: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي يدخلون ويخرجون عليكم للحاجة إليكم وللخدمة لكم فبعضكم يدخل على بعض حيث لا غنى لكم عن بعضكم بعضا فلذا رفع الله تعالى عليكم الحرج في الخول بدون استئذان في غير الأوقات الثلاثة التي لابد من الاستئذان فيها. وقوله تعالى في ختام الآية الأولى من هذا النداء: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ} أي كهذا التبيين، الذي يبين لكم فيه حكم الاستئذان، يبين الله لكم الآيات المتضمنة للشرائع والأحكام والآداب إذ هو تعالى عليم بخلقه وما يحتاجون إليه في إكمالهم وإسعادهم حكيم فيما يشرع لهم ويفرض عليهم. وهذا ما دل عليه قوله في ختام الآية {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وحقا هو عليم حكيم سبحانه لا إله إلا هو ولا رب سواه. أما الآية الثانية في هذا النداء وهى قوله تعالى: {َإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} أي سن الاحتلام وهى في الذكور تجاوز الخامسة عشر من العمر، أو إنبات الشعر؛ شعر العانة، أو الاحتلام بأن يفرز الغلام المنى في نومه لرؤية يراها. واما البنت فبالحيض وإنبات شعر العانة أو بلوغ الخامسة عشر من عمرها، والغالب أن البنت تبلغ سن الاحتلام في الثانية عشر فما فوق، كما أن الذكر قد يتأخر بلوغه إلى الثامنة عشرة

_ 1 أي مقام إبراهيم بمكة.

من عمره، فإذا بلغ الأطفال سن الاحتلام وجب عليهم أن يستأذنوا عند الدخول إلى بيت غير بيتهم بأن يقول أحدهم إذا أراد الدخول على بيت أحد " السلام عليكم أأدخل" ثلاث مرات كما جاء ذلك في نداء الاستئذان قبل هذا النداء من هذه السورة (النور) لذا قال تعالى: {كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وهم الرجال مثل آبائهم وإخوانهم وأعمامهم. وقوله تعالى في ختام هذه الآية: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ} أي لهذا التبيين الذي بينه في آداب الدخول يبين لكم آياته الحاملة للشرائع والأحكام من أجل طهارتكم وأمنكم وسعادتكم. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} أي بخلقه وما يصلح لهم {حَكِيمٌ} في شرعه وهذه حال توجب طاعته تعالى فيما شرع فغلا أو تركا. وأخيرا أذكر أيها القارئ الكريم ما دل عليه هذا النداء الكريم وهو ما يلي: 1-وجوب تعليم الآباء لأبنائهم وخدمهم الاستئذان في الأوقات الثلاثة المعبر عنها بالعورات؛ لأنها من مظنة انكشاف العورات. 2-وجوب استئذان الأولاد إذا بلغوا الحلم. عند الدخول إلى غير بيوتهم؛ لأنهم كلفوا بالبلوغ. 3-اذكر علامات البلوغ واحفظها وعلمها؛ إذ كثير من النساء والرجال لا يعرفون ذلك. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

النداء الستون: وجوب ذكر النعم وشكرها وبيان موجب الذكر والشكر لله تعالى

النداء الستون: وجوب ذكر النعم وشكرها وبيان موجب الذكر والشكر لله تعالى الآيات (9 _ 10 _ 11) من سورة الأحزاب أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} . الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم أن هذا النداء الإلهي وإن وجه ابتداء إلى المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليذكرهم بنعمة عظمى ليشكروا الله تعالى بذكره وشكره، وذلك بطاعته عز وجل، وطاعة رسوله في العسر واليسر والمنشط والمكره، إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأمر آخر: وهو أن نجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مما دبر لهم للقضاء عليهم هي نعمة الله تعالى على كل مؤمن ومؤمنة في هذه الحياة، إذ لو هلكوا في حرب الأحزاب ما بلغنا إسلام ولا عرفنا ربنا ولا ذكرناه ولا شكرناه، فالحمد لله على إنعامه وإفضاله حيث رد المتآمرين على رسول الله وأصحابه ردهم خائبين خاسرين. ونجا رسوله والمؤمنون. وإليك بيان هذه الآيات الثلاث التي حواها هذا النداء الإلهي العظيم: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي يا من آمنتم بالله ربا وإلها وبمحمد نبيا ورسولا وبالإسلام دينا وشرعا {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} ، المتمثلة في دفع أكبر خطر قد حاق بكم وهو اجتماع جيوش عدة على غزوكم في عقر داركم وهم جيوش قريش وأسد وغطفان وبنو قريظة من اليهود ألبهم

عليكم وحزب أحزابهم حيي بن أخطب النضرى اليهودي يريد الانتقام منكم؛ إذ أجليتموه عن المدينة وأخرجتموه منها فالتحقوا 1 بخيبر وتيماء. وقوله تعالى: {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} هي جنود المتحزبين من المشركين من قريش وأسد وغطفان، وقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} . وذلك بعد حصار في سفح جبل سلع الجبل وراءهم والخندق أمامهم مدة خمسة وعشرين يوما؛ أرسل الله عليهم ريح الصبا ففعلت بهم العجب حيث أطفأت نيران وقودهم وطبخ طعامهم، وأكفأت قدور طعامهم واقتلعت خيامهم حتى اضطروا إلى الرحيل والهرب، وأرسل تعالى عليهم جنود من الملائكة فأصابتهم بالفزع والرعب الأمر الذي أفقدهم كل رشدهم وصوابهم فرجعوا يجرون أذيال الخيبة المريرة، والحمد لله. وقوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} أي بكل أعمالكم أيها المؤمنون. وذلك كحفر الخندق والمشادات والمناورات التي كانت بينكم وبين عدوكم، وما قاله المنافقون وفاهوا به من أسوأ الأقوال وأقبحها. كل ذلك لم يغيب عنه تعالى منه شئ، وسيجزى به المحسن والمسيء بالإساءة. وقوله تعالى في الآية الثانية من آيات هذا النداء {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ} أي من الشرق وهم غطفان وأسد بقيادة عيينة بن حصن. قوله: {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} ، وهم قريش وكنانة أي من الجنوب الغربي، وهذا تحديد لساحة المعركة وسبحان الله العليم الخبير وقوله تعالى: {وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ} أي مالت عن كل شئ فلم تبق تنظر إلا إلى القوات الغازية وذلك من شدة الخوف. وقوله تعالى: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} أي ارتفعت بارتفاع الرئتين فبلغت منتهى الحلقوم، وذلك من شدة الفزع والخوف قد يكون هذا من بعض المؤمنين لا من كلهم وهو كذلك وقوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} أي المختلفة من نصر وهزيمة وسلامة وعطب. وهذا منه تعالى تصوير للحال أبدع تصوير إذ حالهم كانت هكذا حرفيا فسبحان العليم الخبير. وقوله تعالى في الآية الثالثة من هذا النداء {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ} أي ثم اختبرهم ربهم عز وجل ليرى الثابت على إيمانه الذي لا تزعزعه الشدائد ولا تحيله الفتن ويرى المهزوز الإيمان، السريع الانهزام والتحول وذلك لضعف عقيدته وقلة عزمه

_ 1 أي هو ويهود بنى النضير

وصبره. وقوله تعالى: {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} أي أزعجوا وحركوا حراكا شديدا لعوامل: قوة العدو وجنوده وضعف المؤمنين وقلة عددهم، وعامل المجاعة والحصار والبرد الشديد، وما أظهره المنافقون من تخاذل، وما كشفت عنه الحيل من نقض بنى قريظة عهدهم، وانضمامهم إلى الأحزاب1. هذا ولنعلم أن التذكير بالنعم وبما يجب من شكر للمنعم على إنعامه مما ينبغى أن لا ينساه المؤمن؛ إذ الذي لا يذكر النعمة لا يشكرها، ولنعلم أن نعم الله تعالى على عباده لا تحصى، إذ كل ما أوتيه العبد من صحة بدن وسلامة وعقل، وسلامة معتقد، وصحة دين، وأن هذه النعم تتطلب الشكر من العبد، ومما يساعد على الشكر ذكر النعمة ومعرفة المنعم والشكر يكون بطاعة المنعم وبالتقرب إليه بمحابه. مع تعظيمه وإجلاله وإكباره. ومن باب شكر الله على نعمه أن يذكر العبد الله تعالى بقلبه ولسانه ويصرف النعم فيما من أجله وهبها الله تعالى للعبد، ومن شكر النعم زاده الله منها أفضل وأكثر، لقوله عز وجل {نْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} . اللهم لك الحمد ولك الشكر فزدنا ولا تنقصنا- وآثرنا ولا تؤثر علينا. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

_ 1 اقرأ أحداث غزوة الخندق تتجلى لك الحيل، وما كشفت عنه.

النداء الحادي والستون: في الأمر بذكر الله وتسبيحه عز وجل بكرة وعشيا وبيان ثواب ذلك من الله عز وجل

النداء الحادي والستون: في الأمر بذكر الله وتسبيحه عز وجل بكرة وعشيا وبيان ثواب ذلك من الله عز وجل الآيات (41 – 42 – 43 – 44) من سورة الأحزاب أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} . الشرح: اعلم أيها القارئ أن هذا النداء الكريم من رب رحيم يوجه إلى المؤمنين الصادقين، وجهه إليهم ربهم ليعلمهم ما يزيد به إيمانهم ونورهم، ويحفظون به من عدوهم وعدو أبيهم، إبليس عليه لعائن الله. ألا إنه ذكر الله تعالى: إذ قال لهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} أي لا حد له ولا حصر، إذ هو الطاقة التي تساعد على الحياة الروحية {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} البكرة من طلوع الفجر إلى الضحى، والأصيل من الزوال إلى غروب الشمس، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنواع التسبيح منها: سبحان الله وبحمده مائة مرة، وأن من سبح هذا التسبيح بهذا العدد غفر له ما تقدم من ذنبه، إن قالها بعد الصبح أو بعد العصر فاز بهذا الأجر، وهو مغفرة ذنوبه وأعظم به من أجر، ومنها لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير مائة مرة. وذكر صلى الله عليه وسلم أن من أتى بهذا الذكر كان كمن أعتق عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة وحطت عنه مائة خطيئة، وظل يومه ذلك كله في حرز من الشيطان، ولم يأت أحد بمثل ما أتى به من الأجر، إلا من قال مثله أو زاد. ومنها التسبيح دبر الصلوات الخمس نحو سبحان الله ثلاثا وثلاثين والحمد لله ثلاثا وثلاثين، والله

أكبر ثلاثا وثلاثين فهذه تسع وتسعون تسبيحة وختام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير. ومما يدل على أفضلية ذكر الله تعالى قول النبي صلى الله عليه وسلم: " ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إعطاء الذهب والورق1 وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا: وما هو يا رسول الله؟ قال: ذكر الله عز وجل ". وقوله تعالى في الآية الثالثة من آيات هذا النداء {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} أي هو الذي يثنى عليكم بخير بين الملائكة ويرحمكم برحمته الواسعة وقوله {وَمَلائِكَتُهُ} ، أي وملائكته تعالى تصلى عليكم أيضا، وصلاة الملائكة هي الدعاء لكم بخير والاستغفار لكم. كما قال تعالى في حملة العرش أنهم يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا الآية من سورة المؤمنون (غافر) . وقوله تعالى: {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أي ليخرجكم سبحانه وتعالى من ظلمات الكفر والذنوب والمعاصي إلى نور الإيمان والطاعات فصلاته تعالى وصلاة ملائكته هي عامل الإخراج من الظلمات المهلكة إلى النور الهادي إلى النجاة من مهالك الحياة. وقوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} هذا إنعام آخر وفضل زائد على ما تقدم من صلاته وصلاة ملائكته عليهم. وهو انه بالمؤمنين رحيم أي لا يعذبهم ولا يشقيهم. ولا يذلهم في الدنيا ولا يخزيهم. وقوله تعالى في الآية الرابعة من هذا النداء الكريم {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} أي ما يحيون به يوم موتهم ولقاء ربهم هو السلام. فملك الموت لما يأتى لقبض روح المؤمن يسلم عليه، ولا يقبض روحه حتى يسلم عليه. إذ روى عن البراء بن عازب رضى الله عنه في تفسير هذه الآية {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} قال: فيسلم ملك الموت على المؤمن عند قبض روحه، ولا يقبض روحه حتى يسلم عليه، وتحييهم الملائكة في الجنة بالسلام لقوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} . والرحمن جل جلاله وعظم سلطانه يسلم عليهم إذ قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} . أي أمان لهم وأمنة من كل خوف

_ 1 الورق: الفضة.

وحزن، إذ أهل الحنة لا خوف عليهم ولا هم يحزنون لولاية الله تعالى لهم. وقوله تعالى في ختام هذا النداء: {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} ، أي هيأ لهم وأحضر أجرا كريما وهو الجنة دار السلام. فسبحان الله ما أكرمه، وسبحان الله ما أسعد المؤمنين بفضيلة الإيمان، وطاعة الرحمن طلب منهم عز وجل أن يذكروه كثيرا وأن يسبحوه بكرة وأصيلا، فأعطاهم ما لا يقادر قدره فسبحانه من إله كريم ورب رحيم. هذا واعلم أيها القارئ الكريم والمستمع المستفيد أن لهذا النداء خلاصة نافعة فإليكها: 1-وجوب ذكر الله تعالى بالقلب واللسان ليلا ونهارا وفى كل الأوقات إلا في حال دخول المرحاض لقضاء الحاجة. 2-بيان فضل المؤمنين المتقين، إذ الرحمن يصلى عليهم وملائكته كذلك. 3-التذكير بالبعث الآخر وهو معتقد أهل الإيمان إذ قال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} , ولقاء الله يكون يوم القيامة كاملا تاما. 4-بشرى المؤمنين المتقين بالجنة إذ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} اللهم اجعلنا من أهل الإيمان والتقوى والبشرى في الدنيا والآخرة. وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

النداء الثاني والستون: في سقوط العدة على المطلقة قبل المسيس، ووجوب المتعة لها إن لم يسم لها مهر

النداء الثاني والستون: في سقوط العدة على المطلقة قبل المسيس، ووجوب المتعة لها إن لم يسم لها مهر الآيات (49) من سورة الأحزاب أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} . الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم أن هذا النداء الإلهي وجه للمؤمنين لإيمانهم بالله تعالى ربا وإلها، وبالإسلام دينا، لا يقبل الله دينا غيره، دينا ذا شرائع وأحكام رحيمة عادلة، وبمحمد نبيا لا نبي بعده ورسولا إلى الناس كافة، هؤلاء المؤمنون الذين ناداهم الله تبارك وتعالى ليعلمهم حكما من أحكام شرعه؛ وهو أن من طلق امرأته التي عقد عليها عقدا شرعيا ثم طلقها قبل أن يخلو بها ويجامعها، فإنه ليس له أن يطالبها بعدة لا بالإقراء ولا بالشهور لأن علة العدة الواجبة هي الحمل، أي كي تعرف المطلقة هل هي حامل أو لا، أما التي لم يمسها زوجها فإنها قطعا لا حمل لها أبدا فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} ، ويعنى بنكحتم عقدتم، إذ يطلق لفظ النكاح على العقد وعلى الوطء، وغالبا ما يطلق في القرآن على الوطء والعقد إلا في هذه الآية فإنه أطلق على العقد فقط لقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} ولفظ المؤمنات خرج مخرج الغالب، وإلا فالكتابية إذا نكحها المؤمن فحكمها حكم المؤمنة في العدة والصداق والمتعة على حد سواء. وقوله تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} . أي من قبل أن تجامعوهن، ولفظ الطلاق هو قول الزوج للزوجة أنت طالق أو لقد طلقتك، أو الحقي

بأهلك وهو ناو الطلاق جازم به عازم عليه وهذا يقال له طلاق الكتابة فيحتاج إلى النية أما الأول وهو الصريح أنت طالق وطلقتك لا يحتاج إلى نية إذ لو قال لها أنت طالق وهو لا يريد الطلاق طلقت حتى لو قال أنا هازل طلقت لحديث " ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: الطلاق والعتاق والرجعة " وقوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} أي ليس على الرجل المطلق أن يطالب المرأة التي طلقها قبل البناء بها بعدة ولو يوما أو شهرا، تقدم من أن علة العدة هي الحمل والتي لم يبن بها قطعا لا حمل يظن بها. فلها أن تتزوج يوم طلاقها ولا حرج عليها. وقوله تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ} ، والمتعة إعطاء المطلقة شيئا من المال بحسب قدرة الرجل إذا كان ذا يسار فبحسب يساره، وإن كان ذا إعسار فبحسب إعساره والقاضى هو الذي يقدر ذلك، إذا رفعت القضية إليه. وهذه المتعة واجبة لمن لم يسم لها مهر؛ إذ لو سمى لها مهر لكان لها لقول اله تعالى في سورة البقرة: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ} أي يتنازلن عما وجب لهن وهو نصف المهر، {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} فيترك لها المهر كاملا فله ذلك. وقوله تعالى: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} أي اتركوهن يذهبن إلى ذويهن من آباء أو أقارب من غير إضرار بهن ولا أذى تلحقونه بهن. ومن سرح مطلقته سراحا غير جميل بأن سبها أو عيرها أو ذكر عيبا فيها أو ليس فيها أو منعها حقها في المهر إن سمى لها، أو مانعها بشيء نافع ذي قيمة فإنه قد عصى الله عز وجل وتجب عليه التوبة فورا لأنه خالف أمر الله عز وجل وهو مؤمن. هذا وإليك خلاصة هذه الأحكام التي تضمنها هذا النداء الإلهي العظيم: 1-مشروعية الطلاق قبل البناء وجوازه بلا حرج. 2-ليس على المطلقة قبل البناء عدة أبدا إذ لها أن تتزوج يوم طلاقها ولا حرج… 3-المطلقة قبل البناء إن سمى لها صداق فلها نصفه، وإن لم يسم فلها المتعة واجبة بحسب حال المطلق يسارا وإعسارا. وإن تشاحنا فالقاضى يقدرها. 4-حرمة أذية المطلقة بأي أذى ووجوب تخلية سبيلها تذهب حيث شاءت.

5-مشروعية المتعة لكل مطلقة. إلا أنها تجب للتى لم يسم لها صداق.. 6-العدة التي تحيض ثلاثة قروء أي حيض أو إطهار، ولا يشرع الطلاق إلا في طهر قبل أن يجامعها فيه والتي لا تحيض لكبر سنها أو صغره عدتها ثلاثة أشهر لا غير.، والحامل عدتها ولادتها فمتى ولدت انتهت عدتها. والمتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا. وإن كانت حبلى فتعتد بأطول الأجلين الحمل أو الأشهر إذ هذا خير لها ولأهل زوجها الميت. والإحسان محمود منا أيها المؤمنون والله يحب المحسنين. وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

النداء الثالث والستون: في وجوب الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأدنى أذى وحرمة نكاح نسائه بعده صلى الله عليه وسلم

النداء الثالث والستون: في وجوب الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأدنى أذى وحرمة نكاح نسائه بعده صلى الله عليه وسلم الآية (53) من سورة الأحزاب أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً} . الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم أن هذا النداء الجليل إلى المؤمنين أيام حياة نبيهم صلى الله عليه وسلم ليلتزموا بما يلي إزاء نبيهم صلى الله عليه وسلم. 1-أن لا يدخلوا بيوته صلى الله عليه وسلم إلا بإذنه كان هذا قبل نزول آية الحجاب هذه لقوله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} أي لا تدخلوا بيت الرسول صلى الله عليه وسلم قبل وقت الأكل بزمن، ولا تجلسوا بعد الأكل أيضا، لقوله تعالى لهم: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} أي أخرجوا منتشرين في الأرض كل إلى أهله أو عمله أو حاجته، ولا تجلسوا بعد الطعام مستأنسين بحديث بعضكم بعضا فتطيلوا الجلوس فتضايقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في هذا الوقت؛ إذ حصل هذا فعلا من بعض الأصحاب رضى الله عنهم، وعلل تعالى لذلك بقوله: {إِنَّ

ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} أي أن يقول لكم اخرجوا أو لا تجلسوا. وقوله: {وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} أن يقول لعباده أو يأمرهم به، ولذا أمرهم أن يخرجوا وينتشروا. 2-إذا أراد أحدكم أن يطلب شيئا من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم كإناء وشراب أو طعام أو يسأل عن شئ في دينه وجب عليه أن يسأل زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم من وراء حجاب لقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} . وعلل تعالى لذلك بقوله: {ذَلِكُمْ} آي السؤال من وراء حجاب {أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ} أيها الرجال وأطهر لقلوبهن أي نساء النبي صلى الله عليه وسلم أطهر أي أكثر طهارة من خواطر السوء الفاسدة التي لا يخلو منها قلب الإنسان إذا خاطب المرأة، أو خاطبت المرأة الرجل، إذ مثل هذا من الغرائز الفطرية في الإنسان ذكرا كان أو أنثى. 3-حرمة أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي أذى كان؛ لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} وصيغة {وَمَا كَانَ} تدل على أن هذا الأذى لا يكون كالمستحيل وهو كذلك فهل المؤمن الذي يفدى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وأهله وماله يتوقع منه أذى له صلى الله عليه وسلم لا، لا، ولن يكون أبدا. 4-حرمة نكاح زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته لأنهن أمهات المؤمنين ثبت هذا وتقرر بقوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُم} أي في حرمة النكاح ومقدماته إذ هن محرمات على الرجال ما عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمة مؤبدة كحرمة الأم على ولدها وهذه الحرمة دل عليها قوله تعالى في هذه الآية الكريمة {وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً} ، أي إن أذى الرسول صلى الله عليه وسلم بأي أذى أو بالزواج بنسائه بعد وفاته كان عند الله أي في حكمه وقضائه وشرعه ذنبا عظيما لا يقادر قدره، ولا يعرف مدى جزائه وعقوبته إلا الله جل جلاله وعظم سلطانه. هذا وإليك أيها القارئ في هداية هذا النداء ما يكون عونا لك على السير في منهج الحق والسير في الصراط المستقيم إلى أن تفوز بالنجاة من النار ودخول الجنة دار الأبرار: 1-بيان ما ينبغي أن يلتزمه المؤمن من الآداب في الاستئذان والدخول على البيوت. 2-بيان كمال الرسول صلى الله عليه وسلم وآدابه العالية وخلقه العظيم حتى إنه ليستحي أن يقول

لضيفه أخرج من البيت قد انتهى الطعام. 3-تقرير صفات الله تعالى وغثباتها في القرآن والسنة إذ وصف تعالى نفسه بأنه لا يستحي من الحق. وعليه فلنصف الله تعالى بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا غير فلا نصف الله تعالى بما لم يصف به هو نفسه، ولا بما وصفه رسوله صلى الله عليه وسلم ولا ننكر صفاته أو نؤولها هروبا من وصفه بها، كما هو شأن المعتزلة والأشاعرة في الغالب. 4-حرمة أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه أو في آله أو في أهل ملته من المؤمنين والمؤمنات. 5-بيان أن أذية الإنسان لا يخلو من خواطر السوء إذا تكلم مع المرأة أو نظر إليها. 6-مشروعية الحجاب وفرضيته وهو أنه لا يحل لغير المحرم أن يخلو بامرأة من غير محارمه أو يتكلم معها بدون حجاب. إلا أن تكون عجوزا لا تحمل ولا تحيض لكبر سنها. فاذكر هذا أيها المؤمن ولا تنسه واعمل به وعلمه غيرك فإنه واجب ونافع والله المستعان وعليه التكلان. وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

النداء الرابع والستون: في وجوب الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم

النداء الرابع والستون: في وجوب الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم الآية (56) من سورة الأحزاب أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} . الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم أن هذا النداء الكريم له أهميته وشأنه العظيم وحسبك أن ما أمر اله تعالى به عباده المؤمنين كان قد فعله سبحانه وتعالى قبل أن يأمر به عباده؛ إذ قال تعالى قبل هذا النداء: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} فأخبر أنه هو تعالى وملائكته يصلون على النبي محمد صلى الله عليه وسلم فأين نحن أيها المؤمنون من عظمة الله تعالى، وكمال ملائكته وطهارتهم وهم يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم. إذا فأمره تعالى لنا بالصلاة على نبيه شرف عظيم لنا، وكرامة تفوق كل كرامة في هذه الحياة. أما المصلى والمسلم عليه فلا نسأل عن كرامته وعلى درجته وسمو مقامه فإنا لا ندرك ذلك، ولا نقوى على تصوره. فاللهم صل وسلم عليه ما ذكرك الذاكرون. وغفل عن ذكرك الغافلون. والسؤال الآن هو ما معنى صلاة الله تعالى، وصلاة الملائكة ثم صلاتنا نحن المؤمنين على النبي صلى الله عليه وسلم والجواب كالآتي: 1-صلاة الله تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم معناها ثناؤه تعالى ورضوانه عليه. 2-صلاة الملائكة عليه صلى الله عليه وسلم دعاؤهم له واستغفارهم له. 3-صلاة المؤمنين معناها: التشريف والتعظيم له صلى الله عليه وسلم. ما حكم صلاتنا على نبينا صلى الله عليه وسلم؟ والجواب أنه الوجوب الحتمي من لم يصل عليه ولو مرة في عمره هلك وخسر بمعصيته هذه التي يتصف بها ولا يأتيها إلا من فارق الإيمان قلبه، وأصبح في عداد من لا يؤمن بالله ورسوله وكتابه والعياذ بالله تعالى من هذه الحال

وسؤال أخر متى تتأكد الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم؟ ةالجواب تتأكد في موضعين: 1-في الصلاة أي في التشهد من كل صلاة نافلة أو فريضة. وصيغتها هي: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلي آل محمد، كما باركت علي إبراهيم، وعلي آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، هذه صيغة وهناك أخر هذه أتمها فاذكر هذا. 2-عند ذكره صلى الله عليه وسلم " رغم أنف امرئ ذكرت عنده ولم يصل عليك " والقائل هذا جبريل عليه السلام في حديث صحيح. 3-بدء الدعاء وختمه بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم رجاء الإجابة، إذ سمع صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو يا رب يا رب … قال صلى الله عليه وسلم: " لقد عجل هذا إذا أراد أحدكم أن يسأل الله شيئا فليحمد الله وليصل على نبيه ثم يسأل حاجته" فالدعاء إذا كان بين صلاتين على رسول الله ر يستجاب. والحمد لله. 4-بدء الخطبة في الجمعة أو غيرها بحمد الله والثناء عليه ثم بالصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم. 5-عند الفراغ من الآذان إذ رغب الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك وهو أن يقول السامع مثل ما يقول المؤذن إلا عند حي على الصلاة حي على الفلاح، فإنه يقول لا حول ولا قوة إلا بالله فإذا فرغ صلى على النبي الصلاة الإبراهيمية التي يصلى بها في التشهد الأخير في الصلاة وقد تقدمت صيغتها. ثم يقول" اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته " من فعل هذا حلت له شفاعته صلى الله عليه وسلم ووجت. 6-الإكثار منها أي من الصلاة، والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وليلتها لترغيبه صلى الله عليه وسلم في ذلك. 7-لقد ورد في صيغ الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم نيف وثلاثون صيغة أكملها الصلاة الإبراهيمية والكل جائز وفاضل ومستحب. وأما الصيغة التي في هذا النداء فهي اللهم صل على محمد وسلم تسليما وهذه أصغر الصيغ وأيسرها وأسهلها وبها يؤدى الواجب.

8-من كتب اسم النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يكتب صلى الله عليه وسلم كما هي مأثورة عن السلف، فأصحاب الصحاح، والسنن، والمسانيد كلهم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث يكتبون صلى الله عليه وسلم. وبعض المتأخرين يكتب (ص) وهذا إجحاف ولا ينبغي. وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

النداء الخامس والستون: في حرمة أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرمة التشبه باليهود في أذية موسى عليه السلام

النداء الخامس والستون: في حرمة أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرمة التشبه باليهود في أذية موسى عليه السلام الآية (69) من سورة الأحزاب أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} . الشرح: اذكر أيها القارئ الكريم ما قد سبق أن عرفت، وهو أن الله تعالى ينادى المؤمنين لإيمانهم؛ إذ المؤمن حي يسمع ويفهم ويفعل ويترك لكمال حياته بخلاف غيره من أهل الكفر، فلا ينادون ولا يكلفون إلا بالإيمان أولا، فإن آمنوا أصبحوا أهلا للنهوض بما يكلفون به من فعل وترك. وأهلا لأن ينذروا فبحذروا، ويبشروا فيسروا ويفرحوا، ويعلموا فيعملوا، ويفقهوا فيفقهوا وذلك لكمال حياتهم، لأن نداءه تعالى للمؤمنين بلفظ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} معناه يا من أمنتم بالله ربا وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} ، هذا النهى من الله تعالى للمؤمنين له سببه وهو ما أشاعه ابن أبى؛ كبير المنافقين من فريته على أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها حيث تورط فيه عدد من المؤمنين كحسان رضى الله عنه وغيره لذلك ناداهم تعالى بعنوان الإيمان ليشمل كل مؤمن ومؤمنة إذ أذية النبي صلى الله عليه سلم محرمة وأيا كان نوعها، ومن باب التسلية والتخفيف عن النبي صلى الله عليه سلم وأصحابه ذكر تعالى أذى بنى إسرائيل لنبي الله موسى عليه السلام فقال: {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} مرة قالوا إنه آدر بمعنى أن إحدى خصيتيه منتفخة، ومرة قالوا إنه قتل أخاه هارون لكونه لينا هينا معنا. وقوله تعالى: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} أي اتهموه به. أما براءته من تهمة الأدرة فإليك رواية مسلم فيها والبخاري بمعناها، أن بنى إسرائيل كانوا يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض وكان موسى يغتسل وحده – لشدة حيائه – فقالوا ما منعه أن يغتسل معنا إلا أنه آدر، فذهب يوما يغتسل فوضع ثوبه على حجر وأخذ يغتسل، وإذ بالحجر يهرب بالثوب، فيجرى موسى وراءه حتى وقف على جمع من بنى إسرائيل

فرأوا أنه ليس به أدرة كما قالوا. وأما براءته من تهمة قتل أخيه هارون فقد روى ابن أبى حاتم عن على رضى الله عنه. " أنه صعد موسى وهارون الجبل جبل الطور – فمات هارون عليه السلام، فقال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام أنت قتلته كان ألين لنا منك وأشد حياء فآذوه من ذلك فأمر الله الملائكة فحملته فمروا به على مجالس بنى إسرائيل فتكلمت الملائكة بموته، فما عرف موضع قبره إلا الرخم1، وأن الله تعالى جعله أصم أبكم ". وهكذا رواه أبى جرير أيضا. وقوله تعالى: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} أي كان موسى ذا وجاهة وجاه عند الله عز وجل كان إذا سأل أعطاه وإذا استعاذ أعاذه، وإذا استنصره نصره وذلك لكماله الروحي والخلقي والأدبي، وما هيأه الله له من الطهر والصفاء والصدق والوفاء. ولنذكر هنا أن سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه قال للرسول صلى الله عليه سلم ادع الله أن يجعلني مجاب الدعوة قال له رسول الله صلى الله عليه سلم " يا سعد أطب مكسبك تجب دعوتك " فكان سعد مجاب الدعوة. هذا وقد أوذي رسول الله من بعض المؤمنين ومن ذلك ما يلي: 1-حادثة الإفك إذ هو أذى في عرضه وشرفه، وعرض إمرأته وشرفها، وأنزل الله تعالى في براءة امرأته أم المؤمنين قرابة سبع عشرة آية والحمد لله، ومن العجب أن المخدوعين المغرر بهم من الروافض ما زالوا يلكون تلك الفرية ويلصقونها بأم المؤمنين مع أن الذي يكذب الله تعالى يكفر. فكفروا وهم لا يعلمون. 2-قسم يوما صلى الله عليه سلم مالا على أصحابه فقال رجل من الأنصار إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله فقال أحد الحاضرين أما يا عدو الله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه سلم بما قلت فذكره للنبي صلى الله عليه سلم فاحمر وجهه، ثم قال: " رحمة الله على موسى فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر ". 3-ومرة أخرى لببه بثوبه لأقرع بن حابسن وقال له: هذه القسمة ما أريد بها وجه الله اعدل فينا يا رسول الله فرد عليه قائلا: " ويحك إذا لم أعدل أنا فمن يعدل ثم قال رحم الله أخى موسى أوذي بأكثر من هذا وصبر ". وأخيرا فليحذر كل مؤمن ومؤمنة أن يؤذى رسول الله صلى الله عليه سلم بأي نوع من الأذى فإنه إثم عظيم. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما دائمين إلى يوم الدين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

_ 1 الرخم: طائر معروف واحد رخمة والجمع رخم.

النداء السادس والستون: في وجوب تقوى الله عز وجل ووجوب القول السديد

النداء السادس والستون: في وجوب تقوى الله عز وجل ووجوب القول السديد الآيتان (70 - 71) من سورة الأحزاب أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} . الشرح: اذكر أيها القارئ الكريم ما عرفته من سر نداء الله تعالى للمؤمنين بعنوان الإيمان، وأنه ما يناديهم إلا ليأمرهم أو ينهاهم، أو يبشرهم أو ينذرهم وذلك رحمة بهم وإحسانا إليهم من أجل أن يكملوا ويسعدوا. وها هو ذا تعالى يناديهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ويأمرهم بتقواه عز وجل إذ تقواه هي المحققة لولايته تعالى لهم بعد الإيمان ومن وليه الله لا يخاف ولا يحزن، ومن عاداه الله ما أمن ولا فرح أبدا. هذا واعلم أن تقوى الله عز وجل حقيقتها: خوف من الله عز وجل يحمل الخائف على عدم معصيته عز وجل في فعل ولا ترك في الظاهر والباطن سواء. ويحمله ذلك على أن يطلب العلم ليعرف ما أمر الله تعالى به عباده المؤمنين وما نهاهم عنه من الاعتقادات والأقوال والعمال والصفات ويجاهد نفسه في ذلك حتى يبلغ بها درجة الطمأنينة فتصبح لا تفرح إلا بطاعة الله عز وجل ولا تحزن إلا من معصيته تعالى، وتصبح حالها: الإيمان بلقاء الله والرضا بقضاء الله والقناعة بعطاء الله. كما ورد في دعاء الصالحين: اللهم إني أسألك نفسا مطمئنة تؤمن بلقائك وترضى بقضائك وتقنع بعطائك. اللهم وفقنا لهذا المطلب واجعلنا من أهله آمين وقوله تعالى: {وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} هذا أمر أخر بعد الأول وهو أن لا يقول

المؤمن إذا قال إلا ما كان صائبا صدقا نافعا غير ضار، هادفا مصيبا ذا أثر محمود. وقد عرفه بعضهم فقال: القول السديد هو لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهو القصد الحق وهو الذي يوافق ظاهره باطنه، وهو ما أريد به وجه الله دون سواه، إذ القول السديد الذي أمر تعالى به عباده المؤمنين يشمل كل هذه التعريفات ويزيد. واعلم أن الله تعالى جعل ثمرة تقوانا له وقولنا لبعضنا القول السديد إصلاح أعمالنا ومغفرة ذنوبنا وفى تحقيق هذين المطلبين سعادة الدارين، وسر ذلك أيها القارئ الكريم أن تقوى الله عز وجل كفيلة بتطهير النفس وتزكيتها، وسعادة الآخرة تتم بزكاة النفس وطهارتها إذ قال تعال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} ، ومعنى أفلح فاز والفوز هو النجاة من النار ودخول الجنان. كما أن القول السديد كفيل بإصلاح الأعمال الدنيوية من بيع وشراء وهدم وبناء، ونكاح وطلاق وسفر وإقامة، وإلى غير ذلك من أمور الحياة الدنيا الضرورية للإنسان فيها. فما أعظم إرشاد الله تعالى لأوليائه، وما أكرم الله تعالى على عباده المؤمنين إذ أمرهم بأمرين تقواه والقول السديد وجعل الجزاء أمرين إصلاح الأعمال ومغفرة الذنوب، وما بعد هذا المطلب من مطلب. وأخيرا زاد إنعامه وإفضاله على عباده المؤمنين إفضالا فقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} . أما طاعة الله وطاعة رسوله فإنها في الأمر والنهى والترغيب والترهيب وفى النفل والمكروه، وأما الفوز العظيم فهو سعادة الدارين؛ أما في الدنيا فهي الأمن ورغد العيش مع انشراح الصدر وطيب الخاطر، وهدوء البال والعز والكرامة الدائمة وأما في الآخرة فهي النجاة من النار ومواكبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين إذ قال تعالى من سورة النساء: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} . وفى ختام بيان هذا النداء أذكر لك أيها القارئ ما يزيد في تقواك ورضاك ما رواه بن أبى حاتم وذكره بن كثير في التفسير أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوما الظهر بأصحابه ثم أومأ إليهم أن اجلسوا فجلسوا ثم قال لهم: " أن الله أمرني بأمر أن آمركم أن تتقوا الله وتقولوا قولا سديدا، ثم أتى النساء فقال لهن: إن الله أمرني بأمر أن آمركن أن تتقين الله وتقلن قولا سديدا " فكان ختام هذا النداء كبداءته والحمد لله المتفضل على عباده. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء السابع والستون: في نصرة الله وما تثمره من نصرة لعباد الله المؤمنين وبيان خسران الكافرين وتعاستهم وضلالهم

النداء السابع والستون: في نصرة الله وما تثمره من نصرة لعباد الله المؤمنين وبيان خسران الكافرين وتعاستهم وضلالهم الآيتان (7 - 9) من سورة محمد (صلى الله عليه وسلم) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} . الشرح: اذكر أيها القارئ الكريم والمستمع المستفيد أن نداء الله تعالى لعباده المؤمنين الذين آمنوا بالله ربا وإلها لا إله غيره ولا رب سواه، وبالإسلام دينا لا دين يقبل غيره، وبمحمد نبيا ولا نبي يأتى بعده، ورسولا إلى الناس كافة أبيضهم وأصفرهم، ومن عاصروه ومن يأتى بعدهم إلى يوم القيامة. كان لأجل أن يأمرهم أو ينهاهم، أو يبشرهم أو ينذرهم، وكل ذلك من أجل إكمالهم في إيمانهم وإسلامهم وإحسانهم، وفى آدابهم وأخلاقهم، ومعارفهم وعلومهم، ولأجل إسعادهم أبدانا وأرواحا، وحاشاه تعالى أن يناديهم لغير إكمالهم وإسعادهم، لأنه ربهم ووليهم العليم الحكيم والبر الرحيم فها هو ذا ناداهم ليخبرهم بأنهم إن نصروه تعالى في رسوله ودينه وأوليائه وهم المؤمنون المتقون من عباده نصرهم على أعدائه وأعدائهم وهم الكافرون بتوحيده وبرسوله وبكتابه وشرعه ولقائه وجزاء أوليائه بالنعيم المقيم، وأعدائه بالعذاب الأليم. إذ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ، أي في كل معركة تخوضونها ضد أعدائكم الكافرين والمشركين الذين فرض عليكم قتالهم حتى يسلموا لله قلوبهم ووجوههم. إذ قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي شرك أو من يدعو إلى الشرك، ويكون الدين كله لله. كما يخبرهم بأن الذين كفروا به وبرسوله وبكتابه القرآن العظيم، وبلقائه ووعده

ووعيده، وبتوحيده في عباداته، هؤلاء الكفرة المشركون تعسا لهم أي هلاكا لهم وسقوطا في أسفل حياة البهائم، وخسرانا كاملا في الدنيا والآخرة. أما خسران الدنيا فهو حرمانهم من الكمال الروحي، إذ لا أخلاق ولا آداب لهم، ولا زكاة نفس ولا راحة بال إذ هم في ظلمات الكفر يتقلبون وحرمانهم من سعادة الأبدان إذ هم في خوف وشقاء وتعاسة دائمة لحرمانهم من ولاية الله عز وجل. وأما خسران الآخرة فإنه من ساعة تفيض أرواحهم بنهاية آجالهم، وهم في العذاب الروحي لا يفارقهم إلى أن تبعث أجسادهم فيساقون إلى جهنم زمرا ويصب عليهم العذاب الروحي بالتقريع والتوبيخ، صبا لا يعرفون معه طعم الحياة إذ هم لا يموتون في النار ولا يحيون، وفوق العذاب الروحي العذاب الجسماني البدني إذ يصب فوق رؤوسهم الحميم يصهر ما في بطونهم والجلود ويضربون بمقامع من حديد ويمزق أمعاءهم الجوع فيقدم لهم الزقوم، والضريع. ويعطشون فيسقون الحميم فيمزق أمعاءهم، ويصابون بوحشة، إذ لا أب ولا أم ولا زوجة ولا ولد ولا أنيس، ولكن وحشة وغربة وبلاء عظيم، ولنذكر قول الله تعالى فيهم: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} . كان هذا بعض ما دل عليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ} أما قوله تعالى: {وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} فهو إخبار فيه معنى الدعاء عليهم بضلال أعمالهم فلا ينتفعون بشيء منها إذ كانت لبعضهم أعمال خيرية كإطعام جائع، أو سقى ظمآن أو كسوة عار، كما في قوله تعالى: {فَتَعْساً لَهُمْ} ، أيضا1 وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} . ذلك إشارة إلى تعاستهم وضلال أعمالهم أي حصل لهم ذلك الشقاء والخسران الروحي والبدني بسبب كراهيتهم لما أنزل الله من القرآن لما فيه من الأمر بالتوحيد، والتنديد بالشرك وإنذار الكافرين بالخلود في نار جهنم، وتبشير الموحدين بالخلود في الجنة ونعيمها. فلكراهيتهم لما أنزل الله تعالى في كتابه أحبط الله أعمالهم وأبطلها فلم ينتفعوا منها بشيء. فلا دولة عز وطهر وسعادة يقيمون، ولا حياة فيها يخلدون، ولا جزاء حسنا في الآخرة به يتنعمون ويسعدون. وإنما خسران بعد خسران وشقاء بعد شقاء، وهذا جزاء الكافرين والعياذ بالله رب العالمين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

_ 1 أي إخبار فيه معنى الدعاء عليه

النداء الثامن والستون: في وجوب طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والتحذير من إبطال الأعمال الصالحة

النداء الثامن والستون: في وجوب طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والتحذير من إبطال الأعمال الصالحة الآيتان (33 - 34) من سورة محمد صلى الله عليه وسلم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} . الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم أن طاعة الله وطاعة رسوله عليها مدار السعادة في الدنيا والآخرة، لذا نادى الله جل جلاله عباده المؤمنين به وبلقائه ليأمرهم بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم لعلمه تعالى أن السعادة في طاعته وطاعة رسوله، وأن الشقاء في معصية الله ومعصية رسوله، وهو تعالى يحب أولياءه وهم المؤمنون بما أمرهم أن يأمنوا به، والمتقون له بترك معاصيه. فبحبه لهم أمرهم بالطاعة الموجبة للسعادة حتى يسعدوا ولا يشقوا فله الحمد وله المنة. ناداهم قائلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي يا من أمنتم بي ربا وإلها وبديني الإسلام دينا حقا لا دين ينفع ويجدى سواه، وبنبي محمد خاتما ورسولا عاما {أَطِيعُوا اللَّهَ} ربكم وإلهكم ووليكم فيما يأمركم به وينهاكم عنه. {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} نبيكم ورسولكم في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه، فإن هذه الطاعة التي أمرتم بها هي سبيل نجاتكم، وسلم رقيكم وسعادتكم فلا تحرموا أنفسكم من سعادة الدارين. ولنعلم أن هذا الأمر بالطاعة لله ورسوله هو من باب ألزموا طاعة الله ورسوله واثبتوا عليها؛ لأنهم بإيمانهم مطيعون. وقوله تعالى لهم: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} يؤكد أن الأمر بالطاعة هنا معناه الثبات عليها وعدم التهاون فيها. وإبطال الأعمال الصالحة يكون بأمور أظهرها وأقواها الشرك والردة عن الإسلام، ثم الرياء وهى أن

يعمل المرء عملا صالحا فيرائي به غير الله من أجل أن يشكر عليه، أو من أجل أن يدفع عنه المذمة أو اللوم والعتاب. كما أن الصدقات تبطل بالمن لقوله تعالى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} ، والمن هو ذكر الصدقة للمتصدق عليه وتكرار ذلك عليه، والأذى قد يكون بلوم المتصدق عليه أو تعييره بقبح أو لفظ سيئ ومن مبطلات العمل ارتكاب كبائر الإثم والفواحش ومعنى إبطالها أن السيئات إذا غشت النفس وأحاطت بالقلب حجبت نور تلك الصالحات ذات الحسنات السابقة ولم يبق لها نور في النفس، فقد روى عن الحسن البصري وعن الزهري أن إحباط الأعمال الصالحة يكون بكبائر الذنوب إذ قلا: لا تبطلوا أعمالكم بالمعاصي. وليس معنى إبطالها إحباطها، فإحباط العمل لا يكون إلا بالشرك والكفر، لقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1. وقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 2 {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} على انه من دخل في عبادة ينبغي أن يتمها ولا يخرج منها نافلة كانت أو فريضة فمن دخل في صلاة نافلة فليتمها. ومن شرع في طواف فليتمه، ومن دخل في صيام فليتمه، ومن أحرم بحج أو عمرة فليتمها ومن ائتم بإمام فليتم صلاته ولا يخرج عنه. لكنه لا على سبيل الإلزام والوجوب بل على سبيل الندب والاستحباب،. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي بالله ورسوله {وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي عن الإسلام، والدخول فيه بأي سبب من الأسباب، {ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} أي لم يتوبوا حتى ماتوا، فهؤلاء حكم الله تعالى بعدم المغفرة لهم إذ قال عز من قائل: {فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} أي كفرهم وصدهم عن سبيل الله، ولو كانوا قبل كفرهم وصدهم فعلوا كل بر وخير وعبدوا الله بكل ما شرع من أنواع العبادات؛ لأن موتهم على أكبر إثم وأقبح جريمة وهما الكفر بالله ولقائه وشرعه وصدهم غيرهم بوسائل الصد عن سبيل الله، فقد تكون الوسائل قتالا وضربا وتجريحا وقد تكون طعنا في الدين وتحريفا له، وتقبيحا فيه حتى يصرفوا الناس عنه. ويدخل في هذا الوعيد بدون شك اليهود والنصارى إذ حملوا راية الصد عن الإسلام والصرف عنه وبذلوا أموالا وجهودا لا حد لها. والعياذ بالله فمن مات منهم على ذلك فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين. وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والخمد لله رب العالمين.

_ 1 سورة الزمر: 65 2 سورة المائدة: 5

برأيي. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره أي صدر معاذ رضى الله عنه وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله ". ومن هذا الحديث الجليل الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذى وابن ماجة رحمهم الله أجمعين. ومنه استخرج علماء الشريعة رحمهم الله تعالى من سلف هذه الأمة القاعدة الآتية " لا يحل لمؤمن القدوم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه ". وهذه القاعدة تحث المؤمنين على طلب العلم؛ إذ لو أخذ بها المسلمون لما بقى فيهم ولا بنهم جاهل بحكم الله ورسوله في كل قضايا الحياة. ولكن للكتاب والسنة شأن عظيم بينهم لقوله تعالى: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُول} . لا قولا ولا عملا ولا رأيا ولا فهما أو ذوقا كما يقولون حتى يعرض ما أراده على الكتاب والسنة فإن وجد طلبه فذاك وإلا سائل أهل العلم حتى يعلم الحكم بالمنع أو الجواز. فيصبح على بينة من أمره وكيف والله تعالى يقول: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1، فالمؤمن من كان عالما عمل بما علم وإلا سأل أهل العلم حتى يعلم فيعمل بما علم. والعالم إذا سئل يجب أن يعلم السائل ما سأل عنه، وبهذا لا يبقى بين المؤمنين جاهل ولا جاهلة. إلا أن يوجد المرء في بلد لا عالم فيه فحينئذ يجب أن يسافر إلى بلد فيه العالم حتى يسأل ولو كان في أقصى الشرق أو الغرب. أو يهاجر من بلد لا عالم فيه؛ إذ لا يمكنه أن يعبد الله تعالى بلا علم. ولو عرف المسلمون هذه الحقيقة لما أصبحوا جهلاء ضلالا إلا من رحم الله تعالى منهم. ألا فاذكر هذا أيها القارئ أو المستمع. وقوله تعالى في ختام هذا النداء {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أمر بتقوى الله عز وجل وهى الخوف منه الحامل للعبد على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. ومن جملة ما تدل عليه هذه الجملة {وَاتَّقُوا اللَّهَ} الالتزام بمبدأ: {آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وقوله: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع لأقوالهم عليم بأفعالكم ألا فاتقوه حق تقاته. بأن لا تخرجوا عن طاعته في المنشط والمكره، واليسر في حدود الطاقة البشرية إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

_ 1 سورة النمل 43، سورة الأنبياء:7

النداء التاسع والستون: في حرمة تقديم الرأي عن الكتاب والسنة ووجوب تقوى الله عز وجل

النداء التاسع والستون: في حرمة تقديم الرأي عن الكتاب والسنة ووجوب تقوى الله عز وجل الآية (1) من سورة الحجرات أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . الشرح: لا تنس أيها القارئ الكريم لنداءات الرحمن الرحيم أن الله تبارك وتعالى ينادى المؤمنين بعنوان الإيمان؛ لأن المؤمن حي بإيمانه يسمع ويفهم، وإذا أمر أطاع ففعل ما أمر به، وإذا نهى انتهى عن فعل ما نهى عنه. وإن حياته هذه سببها إيمانه بالله تعالى وبلقائه، واذكر أن لهذا النداء سببا نزل به وهو كما رواه البخاري رحمة الله تعالى عليه: أن وفدا من بنى تميم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضى الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمر القعقاع بن معبد، وقال عمر رضى الله عنه أمر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر لعمر ما أردت إلا خلافي: فقال عمر: ما أردت خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ....} أي يا من أمنتم بالله ربا وإلها لا رب غيره ولا إله سواه، وبالإسلام شرعا ودينا لا يقبل شرع ولا دين سواه {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي قولا ولا عملا، ولا رأيا ولا فكرا بمعنى لا تقولوا ولا تعملوا إلا تبعا لما قال الله ورسوله، وشرع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك لأنه من غير الأدب أن يقدم العبد رأيه، وما يراه على ما يراه ويقوله سيده ومما يوضح هذه الحقيقة ويجليها للأفهام قصة معاذ بن جبل رضى الله عنه حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فإنه سأله قائلا: " بم تحكم يا معاذ؟ قال رضى الله عنه: بكتاب الله تعالى فقال صلى الله عليه وسلم فإن لم تجد أي في كتاب الله تعالى؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فإن لم تجد أي في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال رضى الله عنه: اجتهد

النداء السبعون: في وجوب الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يتعرض المؤمن لبطلان عمله فيهلك

النداء السبعون: في وجوب الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يتعرض المؤمن لبطلان عمله فيهلك الآيتان 2 (، 3) من سورة الحجرات أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} . الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم أن سبب نزول هذا النداء هو سبب نزول النداء الذي قبله، وهو ما حدث بين الشيخين رضى الله عنهما، حيث تنازع على أمر تعيين إمارة وفد بنى تميم؛ إذ رأى أبو بكر تعيين القعقاع بن معبد، ورأى عمر تعيين الأقرع بن حابس، فاختلفا وتنازعا حتى ارتفعت أصواتهما فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي هذا النداء الإلهي العظيم ينهى الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن رفع أصواتهم أمام رسول الله، وفوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تحدثوا معه، وهذا الأدب واجب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية الكريمة وهو أدب ينبغى للمؤمن أن يتحلى به، لأن رفع الصوت بلا حاجة من سوء الآداب وهبوط الأخلاق، واذكر قول لقمان لابنه وهو يعظه إذ قال له: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِير يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُض

مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} . فلنتأمل هذه الوصية اللقمانية الربانية فإنها اشتملت على مكارم الأخلاق وأشرف الآداب، بعد أوجب الواجبات: إنها مراقبة الله، والخوف منه، والحياء إذ لا يعزب عنه مثقال ذرة من أقوالنا وأعمالنا، والأمر بإقام الصلاة، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والصبر على الأذى في ذلك، وحرمة الكبر والتكبر علي الناس، والاختيال في المشي وإظهار المرح والزهو بين المؤمنين، ثم الاقتصاد في المشي وهو أن يسرع في مشيه بقدر الحاجة التي هو ذاهب إليها، وأخيرا خفض الصوت وغضه حتى لا يرفع صوته إلا بقدر ما يسمع من يخاطبه، هذا مع عامة الناس، أما مع الوالدين والمربين والمعلمين فهو من أوجب الواجبات. هذا واذكر قصة ثابت بن قيس بن شماس رضى الله عنه فقد روى الإمام أحمد بسنده عن أنس بن مالك رضى الله عنه أنه قال: لما نزلت هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ....} الآية إلى قوله {وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} . وكان ثابت بن قيس بن شماس رفيع الصوت أي إذا تكلم، فقال أنا الذي كنت أرفع صوتي فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا من أهل النار. حبط عملي، وجلس في أهله حزينا، ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق بعض القوم، فقالوا له تفقدك رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك؟ قال أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، وأجهر له بالقول فحبط عملي، أنا من أهل النار، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما قال فقال صلى الله عليه وسلم: " لا هو من أهل الجنة"، قال أنس فكنا نراه يمشى بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة، واستشهد رضى الله عنه يوم اليمامة. ولنعلم أيها القارئ والمستمع أن رفع الصوت بقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده، أو قريبا من حجرته الشريفة فيه مكروه لهذه الآية؛ لأن حرمة الرسول صلى الله عليه وسلم ميتا كحرمته حيا، وهذا عمر يطبق هذه القاعدة فيسمع يوما صوت اثنين مرتفعا في المسجد فدعاهما وقرعهما وسألهما من أين أنتما فقالا من الطائف فقال لهما لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربا، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} هذه علة لمنع رفع الصوت مخافة أن يغضب رسول الله فيغضب الله تعالى لغضبه فيعذب من لم يتأدب مع رسول الله، وكون العمل يبطل دال على أن من تعمد إساءة الأدب مع رسول

الله صلى الله عليه وسلم يكفر بذلك ولذا يحبط عمله إذا العمل لا يحبط إلا بالشرك والكفر، لقول الله تعالى: {َئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ... } الآية. ألا فلنحذر إساءة الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا تكلمنا عنه وحدثنا بحديثه يجب أن تكون على غاية من الأدب والاحترام. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} فهذه بشرى خير عظيمة لمن يتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فبغض صوته ولا يرفعه أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله يوسع قلبه ويشرحه ليتسع لتقوى الله عز وجل ويزيده فيعده بمغفرة ذنوبه والأجر العظيم ألا وهو الجنة دار السلام. اللهم اجعلنا من أهلها وارزقنا الأدب مع رسول الله اللهم آمين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء الحادي والسبعون: وجوب التثبت في الحكم قولا أو فعلا وفى بيان أفضلية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

النداء الحادي والسبعون: وجوب التثبت في الحكم قولا أو فعلا وفى بيان أفضلية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات 6 (– 7 – 8) من سورة الحجرات أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . الشرح: اعلم أيها القارئ أن هذا النداء الإلهي كان لسبب عجيب، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبى معيط إلى بنى المصطلق ليأتي بزكاة أموالهم، وكان بينهم بين أسرة الوليد عداء في الجاهلية، فذكره الوليد وهاب أن يدخل عليهم ديارهم، وهذا من وساوس الشيطان، فرجع وستر على نفسه من الخوف الذي أصابه فذكر أنهم منعوه الزكاة وهموا بقتله فهرب منهم، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بغزوهم. وما زال كذلك حتى أتى وفد منهم يسترضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستعتب عنده خوفا من أن يكون قد بلغه عنهم سوء فأخبروه بأنهم على العهد، وأن الوليد قد رجع من الطريق ولم يصل إليهم، وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد من جهة فوصل إليهم قبل المغرب فإذا بهم يؤذنون، ويصلون المغرب والعشاء فعلم أنهم لم يرتدوا وأنهم على خير والحمد لله. وجاء بالزكاة وأنزل الله تعالى هذه الآيات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} أي ذو فسق وهو المرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب، والنبأ الخبر ذو الشأن، {فَتَبَيَّنُوا} أي تثبتوا قبل أن تقولوا أو تحكوا {أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً

بِجَهَالَةٍ} أي خشية إصابة قوم بجهالة منكم {فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} أي فتصبحوا على فعلكم الخاطئ نادمين متأسفين. وقوله تعالى: في الآية الثانية: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} ، أي فاحذروا أن تكذبوا أو تقولوا باطلا فإن الوحي ينزل، وتفضحوا بكذبكم وباطلكم. وقوله تعالى: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} أي لوقعتم في المشقة الشديدة والإثم أحيانا. وقوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} فوقاكم بذلك من أن تكذبوا على رسولكم أو تقترحوا عليه أو تفرضوا آرائكم فتؤذوه بذلك، وهذا الله تعالى بتحبيبه الإيمان إلى قلوبكم وتكريهه إليكم الكفر والفسوق والعصيان، وجعلكم من الراشدين، كفاكم بذلك خواطر السوء ورغبات الباطل فلم يبق مجالا للاقتراحات التي قد تسئ إليكم، وإلى جناب نبيكم صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} أي الذين فعل بهم ما فعل من تحبيب الإيمان وتكريه الكفر والفسوق والعصيان إليهم، أولئك هم الراشدون أي السالكون سبيل الرشاد، وهم قطعا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كأبو بكر وعمر وعثمان وعلى غيرهم وكل من حبب الله إليه تعالى الإيمان من هذه الأمة وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان فهم من الراشدين أي السالكين سبيل الرشد المفضى بصاحبه أي سالكه إلى الطهر والصفاء والعز والكرامة في الدنيا. وإلى الجنة ورضا الله في الدار الآخرة. وقوله تعالى: {فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} أي هداية من هداهم الله إلى الإيمان والإسلام والإحسان فأحبوا الإيمان والإحسان وكرهوا الكفر والفسوق والعصيان وسلكوا سبيل الرشاد فسعدوا وكملوا، كل هذا قد أفضل الله تعالى به إفضالا وأنعم به إنعاما عليهم. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بهم وبنيانهم وبواعث أنفسهم. حكيم في تدبيره لهم ولغيرهم، فها هم ذا سبحانه وتعالى أهل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن جاء بعدهم إلى يوم القيامة ممن أحبوا الإيمان وكرهوا الكفر والفسوق والعصيان أهلهم للخير وأضفاه عليهم، إلا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى الله تعالى شانهم وأعظم قدرهم لصحبتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم. فهم أفضل الأمة على الإطلاق، ولا مطمع لأحد ممن يأتى بعدهم أن يفوقهم في الفضل والكمال لا في الدنيا ولا في الآخرة فرضى الله عنهم وأرضاهم. ورضى عنا معهم آمين. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء الثاني والسبعون: في حرمة السخرية بالمؤن وحرمة التنابز بالألقاب

النداء الثاني والسبعون: في حرمة السخرية بالمؤن وحرمة التنابز بالألقاب الآية (11) من سورة الحجرات أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} . الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم والمستمع المستفيد أن في هذا النداء والثلاثة من قبله، والأتي بعده؛ هذه النداءات الخمسة من سورة الحجرات المباركة كلها في تربية المؤمنين وتهذيب أخلاقهم، وتزكية نفوسهم، والسمو بآدابهم، وهم لذلك أهل بإيمانهم بالله ولقائه، والقرآن وأحكامه، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وهديه وسنته؛ لذا يتعين على المؤمنين قراءة هذه النداءات بعناية والتدبر فيها وفهم معانيها، والعمل بها رجاء كمالهم وسعادتهم، حقق الله تعالى لنا ذلك ولهم آمين. والآن مع شرح هذا النداء الرابع من تلك النداءات. قوله تعالى: {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} أي لا يزدر أناسا منكم أيها المؤمنون إناسا آخرين منكم أيها المؤمنون ويحتقرونهم؛ فإن ذلك محرم عليكم مغضب للرب تعالى عليكم، وكيف ترضون بغضب ربكم وهو وليكم وانتم أولياؤه بإيمانكم وتقواكم. وقوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ} أي عند الله تعالى، والعبرة بما عند الله لا بما عند الناس، فلذا من القبح والسوء سخرية مؤمن بمؤمن بازدرائه واحتقاره وهو لا يدرى قد يكون من ازدراه وسخر منه خيرا عند الله وأحب

إلى الله منه، ألا فلنذكر هذا فإنه في غاية الأهمية حتى لا يرانا الله جل جلاله يسخر بعضنا من بعض ونحن أولياؤه المؤمنون المتقون له. وقوله تعالى: {وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} أي ولا يحل لمؤمنة من نساء المؤمنين أن تزدرى مؤمنة أخرى عسى أن تكون خيرا منها عند الله. وفى قوله {عَسَى} إشارة أن من ازدرى به من مؤمن أو مؤمنة هو خير عند الله تعالى ممن ازدراه وسخر منه وكما حرم الله تعالى السخرية بين المؤمنين والمؤمنات لما يفضى إليه من العداوات والمشاحنات والبغضاء وقد يؤول الأمر إلى التقاتل وسفك الدماء، وكيف يرضى المؤمن والمؤمنة بعداوة أخيه وبغضه وسفك دمه والعياذ بالله. حرم كذلك اللمز والتنابز بالألقاب، إذ قال تعالى في هذا النداء: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ} ، ومعنى اللمز: العيب أي لا تعيبوا بعضكم بعضا فإنكم كفرد واحد. فلا يحل لمؤمن أن يعيب أخاه المؤمن؛ لأن من عاب أخاه المؤمن كأنما عاب نفسه. كما أن المعاب قد يرد العيب بعيب من عابه، وهو معنى {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} . ومن آثار اللمز وهو العيب ما روى عن ابن مسعود رضى الله عنه حيث قال: " البلاء موكل بالقول، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبا ". وقوله تعالى: {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} أي لا يحل لمؤمن أن يلقب أخاه المؤمن بلقب يكرهه فإن ذلك يفضى إلى العداوة والبغضاء وحتى المقاتلة. وقوله تعالى: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ} أي قبح أشد القبح أن يلقب المسلم بلقب الفسق بعد أن أصبح مؤمنا عدلا كاملا في أخلاقه وآدابه. لذا فلا يحل لمؤمن أن يقول لأخيه المؤمن يا فاسق أو يا كافر أو يا فاجر أو يا عاهر أو يا فاسد؛ إذ بئس الاسم اسم الفسوق كما أن الملقب للمؤمن بالألقاب السوء يعد فاسقا. وبئس الاسم له أن يكون فاسقا بعد إيمانه بالله ولقائه والرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الحق والعدل والهداية والنور. وقوله تعالى في نهاية هذا النداء: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} أي ومن لم يتب من جريمة احتقار المؤمنين وازدرائهم وتلقيبهم بألقاب السوء التي يكرهونها. فأولئك هم الظالمون. المتعرضون لغضب الله تعالى وعقابه والعياذ بالله من غضب الله وعقابه. ومن الألقاب السيئة التي يجب أن يتحاشاها المؤمن فلا يلقب بها أخاه المؤمن: نحو أنف الناقة، وقرقور، وبطة وكل لقب مكروه وهو ما أشعر بخسة. أما ما لم يشعر بخسة فلا بأس به كحاتم في كرمه وعنترة في بطولته، ومالك في فقهه، وأحمد في

صبره وصدقه. فلا بأس بذلك. ولنذكر دائما أن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا فكيف يصح إذا أن يلمز أخاه ويتنابز معه أو يلقبه بلقب سوء وهذه مؤدية إلى العدوان والبغضاء ألا فلنلزم أنفسنا قول الحق والصدق مع إخواننا المؤمنين. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء الثالث والسبعون: في وجوب اجتناب كثير من الظن وحرمة التجسس والغيبة. ووجوب تقوى الله عز وجل

النداء الثالث والسبعون: في وجوب اجتناب كثير من الظن وحرمة التجسس والغيبة. ووجوب تقوى الله عز وجل الآية (12) من سورة الحجرات أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} . الشرح: هذا النداء الخامس من نداءات الرحمن لعباده المؤمنين في سورة الحجرات، وكل هذه النداءات تدور حول إصلاح الفرد المؤمن في المجتمع الإسلامي، إذ الأول دعا المؤمن أن لا يقدم رأيه على الكتاب والسنة بحال من الأحوال لتبقى الشريعة هي الحكم، وإليها التحاكم فما أشرعته، فهو الشرع، وما أوجبته فهو الواجب، وما حرمته فهو الحرام. والنداء الأول: قرر الأدب الواجب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وعلماء أمته هذا أولا. والثاني: الأدب سمة من سمات أهل الإيمان، فلا يحل التخلي عنها أبدا، إذ هي ميزة الأمة الإسلامية، والثالث: أوجب التثبت والتروى في إصدار الأحكام في كل قول وحادثة حتى لا يقع الفرد أو الأمة في خطر يزعزع أمنها ويحط من قدرها أو يحملها ما هي في غنى عنه، والرابع: حرم السخرية والاستهزاء بالمؤمن، واحتقاره والانتقاص من كرامته وشرفه كما حرم ألقاب السوء المفضية إلى النزاع والقتال بين المؤمنين؛ لأنهم أمة واحدة. وهذا الخامس من النداءات: فقد حرم على المؤمن اجتناب كثير من الظن بإخوانه المؤمنين؛ إذ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي يا من آمنتم بالله ربا، وبالإسلام دينا، ومحمد رسولا {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ} ، وعلل لذلك الأمر بالاجتناب فقال: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} . وما دام بعضه إثما

فليجتنب بالمرة حتى لا يقع المرء المؤمن في الإثم الموجب لغضب الله وعقابه ولم يبق إلا مجال ضيق جدا وهو أن يظن المؤمن بمن هو أهل للظن بالشر لوجود قرائن من أحواله تدل على ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم يقرر هذه الحقيقة فيقول " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث "… الحديث. وقوله تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} أي لا يتجسس المؤمن على المؤمن بتتبع عوراته. ومعايبه بالبحث عنها والاطلاع عليها لما في ذلك من الضرر الكبير، وكالتجسس التحسس، إلا أن التحسس غالبا يكون في الخير والتجسس لا يكون إلا في الشر الأذى، وقد حرم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله في الصحيح: " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ". فقد اشتمل هذا الحديث على المحرمات الآتية: 1-الظن السيئ بالمؤمنين وخاصة أهل الصلاح منهم. 2-حرمة التجسس وهى تتبع أحوال المؤمن في الخفاء للاطلاع عليها، إلحاق الضرر به. 3-التحسس وهو كالتجسس إلا أنه تتبع أحوال المؤمن لمعرفة النقص لإكماله، وسد حاجته الضرورية، وما دام تتبعا في الخفاء فلا ينبغى، وإن أراد شيئا فليسأل المؤمن هل لك حاجة؟ أتشكو من شئ؟ إلى غير ذلك ولا يتحسس عليه. 4-حرمة النجش وهو أن يزيد في بضاعة معروضة للبيع يزيد في الثمن وهو لا يريد شراءها. 5-حرمة الحسد وهو تمنى زوال النعمة عن أخيه لتحصل له. أو لا تحصل له، وإنما يحرمها المؤمن الذي أنعم الله تعالى عليه بها. 6-حرمة التباغض، فلا يحل لمؤمن أن يبغض أخاه المؤمن، وإن بغضك أخوك فلا تبغضه. 7-حرمة التدابر وهو الهجران، وعدم التلاقى والتحدث مع بعضهما بعضا بحيث كل يعطى ظهره للآخر. 8-وجوب تحقيق الأخوة بين المؤمن والمؤمن، وهذا الواجب يتحقق بإسداء المعروف والإحسان، وكف الأذى عن أخيه فلا ظن سوء، ولا تجسس، ولا تحسس، ولا

تناجش، ولا تحاسد، ولا تباغض، ولا تدابر. بهذا الفعل والترك تتحقق الإخوة الإيمانية. وقوله تعالى في هذا النداء: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} أي بأن يذكر المؤمن في غيبته بما يكره أن يذكر به وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة فقال صلى الله عليه وسلم للسائل: " ذكرك أخاك بما يكره " قطعا هذا في حال غيابه عن المجلس فقال السائل: أرأيت إن كان في آخى ما يكره فقال صلى الله عليه وسلم: " إن كان فيه ما يكره فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما يكره فقد بهته "، والبهتان اعظم. وهو أسوأ أنواع الغيبة. وقوله تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} ؟ والجواب معلوم هو: لا، لا، قطعا إذا، فكما عرض عليكم لحم أخيكم ميتا فكرهتموه فاكرهوا إذا أكل لحمه حيا، وهو عرضه، والعرض أعز وأغلى من الجسم، وإليك هذا البيت من الحكمة فاحفظه وتأمله: فإن أكلوا لحمى وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي في غيبة بعضكم بعضا، فإن الغيبة من عوامل الدمار والخراب والفساد بين المؤمنين وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} ، جملة تعليله للآمر بالتوبة؛ إذ من اتقى الله، خافه وترك الغيبة وتاب. فأعلمهم الله عز وجل أنه تواب رحيم يقبل توبة من تاب، ويرحمه فلا يعذبه بحال من الأحوال. فالحمد لله والمنة له، اللهم إنا تائبون إليك فتب علينا وارحمنا آمين سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

النداء الرابع والسبعون: في وجوب تقوى الله والإيمان برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وبيان الجزاء على ذلك

النداء الرابع والسبعون: في وجوب تقوى الله والإيمان برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وبيان الجزاء على ذلك الآية 28 من سورة الحديد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم ٌ} . الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم أن هذا النداء الإلهي موجه إلى مؤمني أهل الكتاب من يهود ونصارى المدعين للإيمان الزاعمين أنهم مؤمنون بالله ولقائه، ناداهم بعنوان الإيمان؛ لأنهم زعموا أنهم مؤمنون وليسوا في حاجة إلى إيمان جديد يأتى من طريق محمد صلى الله عليه وسلم. فأمرهم تعالى بتقواه؛ إذ المؤمن بالله حق الإيمان يتقى الله أي يخافه ويرهبه فيطيعه في أوامره بفعلها وفى نواهيه بتركها. ثم أمرهم بالإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم. إذ هم به كافرون جاحدون غير معترفين بنبوته ورسالته العامة للناس كافة، فلذا أمرهم بالإيمان به نبيا ورسولا. ثم وعدهم إن هم آمنوا حق الإيمان فحملهم ذلك على طاعة الله ورسوله في الأمر والنهى، وعدهم بأنه يؤتيهم أي يعطيهم كفلين أي نصيبين من رحمته ومثوبته لعباده المؤمنين، وذلك أن نصيبا وحظا من أجل إيمانهم بالأنبياء السابقين كموسى وعيسى عليهما السلام وغيرهما كإبراهيم ونوح وإسحاق ويعقوب ويوسف وداود عليهم السلام. ويجعل لهم نورا يمشون به في الدنيا وهو الهداية الإسلامية إذ الإسلام صراط مستقيم سالكه لا يضل ولا يشقى. ويمشون في الآخرة على الصراط إلى الجنة دار السلام. وهو معنى قوله تعالى في النداء: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} ، وشئ آخر هو انه يغفر لهم ذنوبهم الماضية التي قبل الدخول في الإسلام، والحاضرة التي من الجائز أن يغشى المؤمن ذنبا من الذنوب وبالتوبة والاستغفار يغفر له، وإن لم يتب منه فإنه يغفر له يوم القيامة أو

يؤاخذ به فيعذب في النار ويخرج منها بإيمانه وصالح أعماله. وقوله تعالى في ختام النداء: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم ٌ} ، فهو إذا سينجز لكم ما وعدكم من مغفرة ذنوبكم الماضية والحاضرة ويرحمكم في الدنيا والآخرة؛ لأنه غفور لذنوب عباده إن تابوا إليه رحيم بهم لا يعذبهم بدون ذنب اقترفوه، ولا سوء عملوه؟ ويشهد لصحته أن الكتابي إذا آمن بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم ودخل في الإسلام يعطى أجره مضاعفا، وهو معنى {كِفْلَيْنِ} أي حظين، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيح: " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بى فله أجران، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه فله أجران، ورجل أدب أمته فأحسن تأديبها ثم اعتقها وتزوجها فله أجران ". وهناك أيها القارئ الكريم تفسير لهذه الآية، وهو أنها لنا نحن المؤمنين من عرب وعجم ومن مشركين وأهل كتاب فهي لكل مؤمن ومؤمنة بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا إذا فالنداء بعنوان الإيمان كغيره من نداءات الرحمن جميعها لأمة محمد صلى الله عليه وسلم إذ روى أن سعيد بن جبير قال لما أفتخر أهل الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين أنزل الله تعالى هذه الآية في حق هذه الأمة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ} أي نصيبين من رحمته. وزادهم {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} يعنى هدى تبصرون به من العمى والجهالة {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ففضلهم بالنور والمغفرة. رواه بن جرير. ومما يرجح هذا التفسير قوله تعالى بعد نهاية الآية: {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ، واللام في لئلا صلة لتقوية الكلام، لذا قرأها ابن مسعود لكي يعلم. وهى قراءة بالمعنى لا غير.. إذ قوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ ….} إلي آخره، كأنه قال: أعطينا عبادنا المؤمنين الصادقين من غير أهل الكتاب هذا الذي أعطيناهم من مضاعفة الأجر والنور يمشون به ليعلم أهل الكتاب المتبجحين أنهم لا يقدرون على منع شئ من فضل الله على أحد أراد الله إعطاءه إياه فلنذكر هذا فإنه علم عظيم زادنا الله وإياكم منه. وسلام على المرسلين، والخمد لله رب العالمين

النداء الخامس والسبعون: في حرمة التناجى بالإثم والعدوان ومعصية الرسول والإذن في التناجى بالبر والتقوى

النداء الخامس والسبعون: في حرمة التناجى بالإثم والعدوان ومعصية الرسول والإذن في التناجى بالبر والتقوى الآيتان (9 - 10) من سورة المجادلة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} . الشرح: نادى الله تبارك تعالى عباده المؤمنين بقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ، لأن المؤمن بحق حي يسمع النداء ويعي ما يقال له، وذلك لكمال حياته ناداهم ليربيهم روحيا، ويهذبهم أخلاقيا. وكيف لا، وهو مولاهم ووليهم، وهم عبيده وأولياؤه. فقال لهم: {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ} لأمر استدعى ذلك منكم، {فَلا تَتَنَاجَوْا بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ} حتى لا تكون حالكم كحال اليهود والمنافقين الذين يتناجون بالإثم أي بما هو إثم في نفسه، كما يتناجون بما هو عدوان على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه، ومعصية لله والرسول؛ إذ كانوا يتواصون فيما بينهم بعدم طاعة الله والرسول؛ لذا نهى تعالى أولياءه المؤمنين أن يتناجوا {بِالْأِثْمِ} وهو الغيبة وبذاء القول وسيئه، {وَالْعُدْوَانِ} وهو الظلم، {وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ} أي بعدم طاعته في بعض ما يأمر به أو ينهى عنه. فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ} أي إذا استدعى الأمر مفاجأة بعضكم لبعض في تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول كما هي حال أعدائكم من

اليهود والمنافقين. إذ نزل فيهم قرآن وهو قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ ….} الآيات ثم بعد أن نهى الله تعالى المؤمنين عن المناجاة المشابهة لمناجاة اليهود والمنافقين، أذن لهم في التناجى بما هو خير وطاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ} الذي هو الخير بمعناه العام حيث لا لإثم فيه ولا شر والتقوى التي هي طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في أمرهما ونهيهما. ثم أمرهم عز وجل بتقواه فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} مشيرا إلى موجبها وهو كونهم يحشرون إليه يوم القيامة فيحاسبهم ويجزيهم بأعمالهم، لذا هم في حاجة إلى تقواه عز وجل بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم لينجوا ويفوزوا يوم القيامة، ينجوا من النار ويفوزوا بدخول الجنة. ولنستمع إلى حديث أحمد – رحمه الله – عن ابن عمر رضى الله عنهما فإنه يقرر ما تقدم ويوضحه أيما توضيح. قال: حدثنا بهز وعفان قالا أخبرنا همام عن قتاده عن صفوان بن محرز قال: آخذا بيد ابن عمر، إذ عرض له رجل فقال: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فى النجوى يوم القيامة؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله يدنى المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه، ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ". وقوله تعالى فى هذا النداء {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} أي هو الدافع إليها والحامل عليها من أجل أن يوقع المؤمنين في الغم والحزن، ومن هنا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التناجى فقال: " إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس من أجل أن لا يحزنه ذلك ". وقال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر في الصحيح: " إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الواحد "، وعلى هذا أكثر أهل السلف وعلماء الخلف، فلا يجوز أن يتناجى اثنان دون الثالث ولا ثلاثة دون الرابع، ولا خمسة دون السادس لما يوجده ذلك من غم وحزن وخوف للمؤمن الذين تناجى إخوانه دونه وهم في مجلس واحد، وليس هذا خاصا بحالة حرب

أو خوف بل هو عام في سائر الظروف والأحوال، وفى القرآن الكريم يقول الله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} 1 حينئذ تجوز المناجاة لأنها في الصالح العام. وقوله تعالى في نهاية النداء: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} أي هو الخامل عليها لإيجاد أذى بيت المؤمنين {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} . أي فلا ينبغى للمؤمن أن يغتم أو يحزن من المناجاة إذا حصلت من يهودي، أو منافق، فضلا عن أن تكون من مؤمن. وليتوكل على الله ويفوض أمره إليه فإنه وليه وحافظه من كل ما يؤذيه أو يسئ إليه. والعاقبة للمتقين وسلام على المرسلين، والخمد لله رب العالمين

_ 1 سورة النساء: 114

النداء السادس والسبعون: في وجوب التفسح في المجالس إذا أمر المؤمن بذلك ووجوب القيام من المجلس إذا أمر كذلك وذلك لصالح الدعوة

النداء السادس والسبعون: في وجوب التفسح في المجالس إذا أمر المؤمن بذلك ووجوب القيام من المجلس إذا أمر كذلك وذلك لصالح الدعوة الآية (11) من سورة المجادلة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} . الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم أن هذا النداء الإلهي هو كالنداء الذي سبقه إذ هو في تربية المؤمنين وتهذيبهم، ليكملوا ويسعدوا فى الدارين، فها هو ذا تعالى يناديهم بقوله الكريم الرحيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي يا من أمنتم بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، ورسولا فأصبحتم أحياء كاملين ذوى قدرة على السمع والطاعة {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ} ، أي إذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو مربيكم ومعلمكم ومهذبكم أخلاقا وآدابا، أو غيره من مربيكم ومعلميكم ومهذبيكم من علمائكم وولاة أموركم. إذا قال لكم تفسحوا في المجلس أي توسعوا ليجد غيركم مكانا بينكم فتوسعوا، ولا تبخلوا بالقرب من الرسول صلى الله عليه وسلم، أو من العالم المربى، أو المذكر الذي يذكركم وعظا لكم وتذكيرا بما ينفعكم في دنياكم وأخراكم، واعلموا أنكم إذا تفسحتم أو توسعتم عندما طلب منكم ذلك فإن الله تعالى يكافئكم فيوسع عليكم في الدنيا بسعة الرزق وفى البرزخ في القبر، وفى الآخرة بغرفات الجنان، إذ بهذا وعدكم الله ربكم بقوله: {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} . هذا أمر ووعد من الله فاغتنموه أيها المؤمنون الصادقون. ولا يفوتن الظن والبخل بالمجلس القريب من الرسول صلى الله عليه وسلم والعالم أو الوالي عليكم ما وعدكم الله تعالى به من التوسعة في الرزق والقبر والجنة دار السلام. وقوله تعالى في هذا النداء: {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} . فهو أمر ووعد أيضا

ومن امتثل الأمر فاز بالوعد الإلهي الكريم. أما الأمر فهو {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} ومعناه إذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم أيام حياته أو قال من دونه بعد وفاته من عالم مرب أو واعظ مذكر أو أمير حافظ للأمن والطهر للمؤمنين إذا قال لك انشز أي ارتفع من مكانك أي قم منه ليجلس مؤمن لحاجة تدعو إلى جلوسه لما في ذلك من مصلحة الدعوة الإسلامية أو قال: قم للصلاة، أو للجهاد أو لفعل بر وخير فقم لأمر الله تعالى بذلك، إذ قال لنا: {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} أي ارتفعوا وقوموا هذا أمر الله جل جلاله. وأما وعده الكريم فهو قوله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} أي درجات بالنصر والذكر الحسن في الدنيا، وفى غرف الجنة في الآخرة. ويرفع الذين أوتوا العلم منكم أيها المؤمنون درجات عالية لجمعهم بين الإيمان والعلم والعمل. ومما يدل على أن رفع الذين أوتوا العلم درجات لعلمهم وعملهم بعد إيمانهم قول عمر رضى الله عنه في القصة الآتية وهى أن عمر رضى الله عنه قد استخلف نافع بن عبد الحارث على مكة فلقيه يوما بعسفان فقال له: من أستخلفت على أهل الوادي؟ (أي مكة) قال: استخلفت عليهم ابن أبزى رجل من موالينا فقال عمر: استخلفت عليهم مولى؟ فقال يا أمير المؤمنين إنه قارئ لكتاب الله تعالى عالم بالفرائض قاص. أي محدث واعظ. فقال عمر رضى الله عنه: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: " إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين " رواه مسلم هذا ولنعلم أن القيام من المجلس بدون حاجة كما تقدم لا يجوز كما لا يجوز أن يقيم الرجل الرجل الرجل من مجلسه ليجلس فيه، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم " لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه فيجلس فيه، ولكن تفسحوا وتسعوا " وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن أفسحوا يفسح الله لكم ". ولنعلم أنه يجوز للمؤمن باختياره وبدون إكراه أن يقوم لذي علم أو كبر سن ويجلسه في مجلسه ولا حرج على الاثنين. كما أن الأمي إذا كان وراء الإمام في الصلاة وجاء ذو علم ونهى فإن على الأمي أن يتأخر ويقوم العالم مقامه، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " ليلينى منكم أولو الأحلام والنهى " 1 ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. وقوله تعالى فى ختام النداء: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} . إنه يذكرهم بعلمه بهم في جميع أحوالهم ليراقبوه فيلزموا طاعته وطاعة رسوله، ويحافظوا على تقواه ليحفظوا ولايته تعالى لهم فيأمنوا من الخوف والحزن في الدارين. حقق الله تعالى لنا ذلك آمين وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين

_ 1 رواه مسلم

النداء السابع والسبعون: في بيان حكم مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وتقديم صدقة قبلها ونسخ ذلك تخفيفا، ووجوب إقام الصلاة إيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله صلى الله عليم وسلم

النداء السابع والسبعون: في بيان حكم مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وتقديم صدقة قبلها ونسخ ذلك تخفيفا، ووجوب إقام الصلاة إيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله صلى الله عليم وسلم الآيتان (12، 13) من سورة المجادلة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} . الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم أن هذا النداء الإلهي كان يحمل حكما شرعيا، وهو أن من أراد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخلو بالرسول صلى الله عليه وسلم ليناجيه سرا دون غيره، وجب عليه أن يتصدق بصدقة على فقير ثم يتفضل فيناجى الرسول صلى الله عليه وسلم بعدها، إلا أنهم لظروف الحرب والاحتياج الشديد ما أقدموا على هذا المطلوب. كما شعروا أن هذا كان من باب تأديبهم وتربيتهم، إذ رغبة كل واحد في مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم تحقيقها أمر صعب واصعب منه ما يعانيه الرسول صلى الله عليه وسلم، من تعب ومضايقة، فلما كفوا عن طلب الخلوة بالرسول صلى الله عليه وسلم، نسخ الله هذا الحكم وأذن لهم في المناجاة عند الحاجة إليها، وبدون تقديم صدقة بين يدي المناجاة. ولم يثبت أن أحدا من الصحابة قدم صدقة، ثم ناجى إلا على رضى الله عنه، إذ قال عنه عبد الله بن عمر رضى الله عنهما: لقد كان لعلى رضى الله عنه ثلاث لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إلى من حمر النعم:

تزويجه فاطمة، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوى. وإليك شرح الآيتين اللتين حواهما هذا النداء الرحيم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي يا من آمنتم بالله ربا والإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} أي إذا أردتم مناجاته {فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} أمرهم تعالى إذا أراد أحدهم أن يناجى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكلمه وحده أن يقدم صدقة أولا، ثم يطلب المناجاة. وكان هذا الأمر لصالح الفقراء أولا ثم للتخفيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كل مؤمن يود أن يخلو برسول الله صلى الله عليه وسلم ويقرب منه ويكلمه. والرسول بشر لا يتسع لكل أحد فشرع الله تعالى هذه الصدقة وكان أكثرهم فقراء لا يجدون ما يتصدقون به. نسخ الله تعالى ذلك، ولم تدم مدة الوجوب أكثر من ليالى ونسخها تعالى. وقوله تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} أي تقديم الصدقة بين يدي المناجاة خير لكم حيث تعود الصدقة على الفقراء إخوانكم، وأطهر لنفوسكم، لأن النفس تزكو وتطهر بالعمل الصالح، وقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا} أي ما تقدمونه صدقة قبل المناجاة فناجوه صلى الله عليه وسلم، ولا حرج عليكم، وذلك لعدم وجود ما تتصدقون به، {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لكم {رَحِيمٌ} بكم. وقوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ} أي خفتم الفاقة والفقر على أنفسكم إن أنتم ألزمتم بالصدقة بين يدي كل مناجاة، وعليه {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} برفع هذا الواجب ونسخه، والرجوع بكم إلى عهد ما قبل وجوب الصدقة بين يدي مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} أي بأدائها مستوفاة الشروط، والأركان، والسنن والواجبات، وفى بيوت الله مع جماعة المسلمين، {وَآتُوا الزَّكَاةَ} الواجبة في أموالكم، وما فيه زكاة أنفسكم وطهارتها من سائر العبادات المزكية للنفس المطهرة للروح. هذا أولا. وثانيا: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} صلى الله عليه وسلم في الأمر والنهى ما دام الأمر للوجوب والنهى للتحريم. فيكفيكم أداء هذه الواجبات عن الصدقة بين يدي المناجاة التي نسخها الله تعالى تخفيفا عليكم أيها المؤمنون ورحمة بكم لأنكم أولياؤه وهو وليكم ومولاكم، وقوله: {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} وعليه فراقبوه فلا تفرطوا في طاعته وطاعة

رسوله فإنكم تفلحون بالفوز بالجنة والنجاة من النار. هذا وإليك أيها القارئ فائدة علمية وهى أن تعلم النسخ ثابت في الكتاب والسنة أما الكتاب فقد قال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} 1 وأما السنة فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها لأنها تذكركم الآخرة ". ومن هنا كان الواجب على العالم المذكر أن يعرف الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة. وهذا على رضى الله عنه قد أرسل إلى رجل كان يخوف الناس في المسجد فجاءه فقال له: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ فقال: لا. قال فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه. وروى عن ابن عباس مثله وقال للمذكر هلكت وأهلكت. فلنذكر هذا ولنحمد الله ونصلى ونسلم على رسوله وآله وصحابته أجمعين. وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين

_ 1 سورة البقرة: 106.

النداء الثامن والسبعون: في وجوب تقوى الله عز وجل والتزود للآخرة ووجوب ذكر الله وحرمة نسيانه لما يفضي إليه من الخسران والحرمان

النداء الثامن والسبعون: في وجوب تقوى الله عز وجل والتزود للآخرة ووجوب ذكر الله وحرمة نسيانه لما يفضي إليه من الخسران والحرمان الآيات (18، 19، 20) من سورة الحشر أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} . الشرح: اذكر أيها القارئ الكريم والمستمع أن الله تعالى ينادى عباده المؤمنين لإيمانهم؛ إذ بالإيمان هم أحياء يسمعون النداء، ويجيبون المنادى، وها هو ذا تعالى يناديهم بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي يا من أمنتم بالله، ولقائه، والرسول وما جاء به، والكتاب الحكيم، وما فيه {اتَّقُوا اللَّهَ} فأمرهم بتقواه عز وجل، وهى خوف وخشية ورهبة تحمل صاحبها على أداء الفرائض، وترك المحرمات، كما هي في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما تحمله على المسابقة إلى الخيرات والتنافس في الصالحات. أمرهم بالتقوى، ثم أمر كل نفس على حدة أن تنظر فيما قدمت من الصالحات لتثاب عليها يوم القيامة بحسن الثواب وتجزى بخير الجزاء، كما تنظر فيما قدمت من سوء وعمل غير صالح لأنها تجزى به، والمراد من الغد يوم القيامة إذ هو يوم الحساب والجزاء {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} . ثم كرر أمره السامي الحكيم بالتقوى فقال: {اتَّقُوا اللَّهَ} . أي خافوه أرهبوه واتقوا عقابه بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم إذ الطاعة لله والرسول تثمر زكاة نفس المطيع، إذ كل قول وعمل تعبدنا الله تعالى به فعله مستوفيا الشروط ينتج الحسنات التي بها تزكو النفس البشرية وكما أن كل قول أو عمل نهانا الله عنه وأوجب علينا تركه إن نحن عصيناه وفعلناه خبث نفوسنا ولوثها فتصبح في خبثها

كأرواح الشياطين وقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} ، فيه تشجيع على مراقبة الله تعالى والصبر عليها وهى تثمر حسب سنة الله تعالى الإسراع فى الطاعة لله ورسوله بفعل الصالحات وتجنب السيئات، وبذلك تطهر النفس وتزكو وتصبح أهلا لرضا الله تعالى ومجاورته في الملكوت الأعلى في الجنة دار المتقين. وقوله تعالى فى الآية الثانية من آية هذا النداء العظيم: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . إنه من رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين المتقين، وهم أولياؤه نهاهم عما يضرهم ويسئ إليهم ويعرضهم للشقاء والخسران فقال لهم: لولا تكونوا أيها المؤمنون كأناس تزكوا العمل بطاعة الله وطاعة رسوله فعاقبتهم فأنسيتهم أنفسهم. فلم يعملوا لها لتزكوا وتطهر وتتأهل لحب وجواري في دار كرامتي لأوليائىن وهذا النسيان قائم حسب سنة الله تعالى؛ إذ من نسى الله تعالى فلم يذكره ولم يطعه انغمس في الشهوات وتوغل في الذنوب والمعاصي ففسق بذلك وأصبح من عداد الفاسقين، ومن ثم هو قد نسى نفسه فلم يعمل على تزكيتها وتطهيرها، لأن زكاتها وطهارتها تكون بعبادة الله بفعل ما أمر به من العبادات وترك ما نهى عنه من الذنوب والمعاصي. وقوله تعالى في ختام النداء: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} . فكما لا يستوي أهل الطاعة مع أهل المعصية، ولا أهل الاستقامة على منهج الحق وأهل الانحراف والفسق، لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة؛ إذ أصحاب النار في شقاء وخسران، وأصحاب الجنة في سعادة ورضوان. أصحاب النار في الدركات السفلي من عالي الشقاء وأصحاب الجنة في الفراديس العلا. وإليك أيها القارئ هذه الكلمات كمذكرة لك لا تنسيك ما قرأت وفهمت وهى: 1-وجوب تقوى الله تعالى بفعل محابه وترك مكارهه. 2-وجوب مراقبة الله تعالى حتى لا تغفل فتقع في المعصية. 3-التحذير من نسيان الله تعالى فإنه يفضي بالعبد إلى الفسق والعياذ بالله تعالى. 4-خطب أبو بكر الصديق خطبة طويلة إليك منها هذه الكلمات قال رضى الله عنه: " لا خير في قول لا يراد به وجه الله، ولا خير في مال ينفق لا في سبيل الله، ولا خير فيمن يغلب جهله حلمه، ولا خير فيمن يخاف في الله لومة لائم ". فاذكر هذا وذكر به. والله لا يضبع أجر من أحسن عملا. وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين

النداء التاسع والسبعون: في حرمة اتخاذ الكفرة أحباء يودون وأولياء ينصرون. وإن من يفعل ذلك فقد ضل طريق السعادة والكمال

النداء التاسع والسبعون: في حرمة اتخاذ الكفرة أحباء يودون وأولياء ينصرون. وإن من يفعل ذلك فقد ضل طريق السعادة والكمال الآية (1، 2) من سورة الممتحنة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} . الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم أن هذه السورة المدنية قد نزلت لسبب، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإليك ما رواه مسلم في سبب نزولها عن على بن أبى طالب رضى الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: " ائتوا روضة خاخ – موضع بينه وبين المدينة اثنا عشر ميلا – فإن بها ظعبنه – امرأة مسافرة – معها كتاب فخذوه منها " فانطلقنا نهادى خيلنا أي نسرعها فإذا نحن بامرأة فقلنا أخرجي الكتاب فقالت: ما معي كتاب. فقلنا اتخرجى الكتاب، أو لتلقين الثياب (أي من عليك) فأخرجته من عقاصها (أي من ضفائر شعر رأسها) فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا به من حاطب بن أبى بلتعة

إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله " يا حاطب ما هذا "؟ فقال: لا تعجل على يا رسول الله إني كنت امرءا ملصقا في قريش؟ أي كان حليفا لقريش، ولم يكن قرشيا، وكان من معط من المهاجرين لهم فرابات يحمون بها أهليهم فأحببت إذ فاتنى ذلك من النسب فيهم؟ أن أتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي ولم أفعله كفرا ولا ارتدادا عن دينى، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، وأن الله ناصرك عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " صدقت " فقال عمر رضى الله عنه يا رسول أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنه شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " فأنزل الله عز وجل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي من صدقتم الله ورسوله {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُ} أي من الكفار والمشركينْ {أَوْلِيَاء} أي أنصارا {َ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّة} أي تصرفون إليهم مودتكم بدون تأمل في آثارها الضارة. والحال أنهم {ِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقّ} الذي هو دين الإسلام بعقائده وشرائعه، وكتابه، ورسوله صلى الله عليه وسلم، {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُم} أي من دياركم بالمضايقة لكم حتى هاجرتم فارين بدينكم {ْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُم} أي من أجل أن آمنتم بربكم. أمثال هؤلاء الكفرة الظلمة تتخذونهم أولياء تلقون إليهم بالمودة إنه لخطأ جسيم. وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي} أي إن كنتم خرجتم من دياركم مجاهدين في سبيلي أي لنصرة ديني ورسولي وأوليائي المؤمنين، وطلبا لرضاي فلا تتخذوا الكافرين أولياء من دوني تلقون إليهم بالمودة. وقوله تعالى: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} أي تخفون المودة إليهم بنقل أخبار الرسول السرية والحال أنى {أَعْلَمُ} أي منكم ومن غيركم {بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُم} وها أنذا قد اطلعت رسولي على رسالتكم المرفوعة إلى مشركي مكة والتي تتضمن فضح سر رسولي في عزمه على غزوهم مفاجأة لهم حتى يتمكن من فتح مكة بدون كثير إراقة دم وإزهاق أرواح، وقوله تعالى {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُم} أي الولاء والمودة للمشركين {ْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ

السَّبِيلِ} أي اخطأ وسط الطريق المأمون من الانحراف يعنى جانب الإسلام الصحيح المضى بالسالكين له السائرين فيه إلى سعادة الدنيا والآخرة معا. وقوله تعالى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} يريد تعالى أنهم أعداؤكم حقا عن يثقفوكم أي يظفروا بكم متمكنين منكم يكونوا لكم أعداء ولا يبالون بمودتهم إياهم، ويبسطوا إليكم أيديهم بالضرب والقتل وألسنتهم بالسب والشتم. وتمنوا كفركم لتعودوا إلى الشرك والكفر مثلهم. هذا وإليك خلاصة ما دعا إليه هذا النداء الإلهي لتزداد معرفة وقوة على الطاعة والامتثال. 1-حرمة موالاة الكافرين بنصرتهم وتأييدهم وموالاتهم دون المسلمين. 2-عظم جرم الذي ينقل أسرار المسلمين الحربية إلى أعدائهم الكافرين من يهود أو نصارى وغيرهم، وأنه على خطر عظيم وإن صلى وصام. 3-بيان أن الكافرين لا يرحمون المؤمنين متى تمكنوا نهم؛ لأن قلوبهم عمياء لا يعرفون معروفا ولا منكرا، وذلك لظلمة الكفر في نفوسهم بعدم مراقبة الله تعالى؛ لأنهم لا يعرفون ولا يؤمنون بما عنده من نعيم لأوليائه، ولا بما لديه من نكال وعذاب لأعدائه. 4-بيان فضل أهل بدر رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. 5-مشروعية قبول الصادقين الصالحين إذا عثر أحدهم اجتهادا منه فأخطأ. وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين

النداء الثمانون: في بيان حكم المهاجرات من دار الكفر إلى دار الإيمان، وكيفية معاملتهن مع أزواجهن

النداء الثمانون: في بيان حكم المهاجرات من دار الكفر إلى دار الإيمان، وكيفية معاملتهن مع أزواجهن الآية (10، 11) من سورة الممتحنة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} . الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم أن لهذا النداء سببا نزل به، وهو أن ما تم بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمشركين من صلح في الحديبية في السنة السادسة، جاء من بين مواده: أن من جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة من الرجال رده إلى مكة ولو كان مسلما مهاجرا فارا بدينه، ومن جاء المشركين من المدينة لم يردوه إليه صلى الله عليه وسلم ولم ينص، في بنود الاتفاقية على النساء وأثناء ذلك جاءت أم كلثوم بنت عقبه بن أبى معيط مهاجرة من مكة إلى المدينة فلحق بها أخواها عمار والوليد ليرداها إلى قريش، فنزل هذا النداء الكريم، فلم يردها عليهما النبي صلى الله عليه وسلم لخلو هذا من مواد الاتفاقية – اتفاقية صلح الحديبية – فأنزل الله تعالى قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي يا من أمنتم بالله ربا وإلها،

وبمحمد نبيا ورسولان وبالإسلام دينا وشرعا حكيما، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} أي من دار الكفر إلى دار الإسلام {فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} أي غلب على ظنكم أنهن مؤمنات {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} وكيفية امتحان هي أن يقال لها احلفي بالله أي قولي بالله الذي لا إله إلا هو ما خرجت إلا رغبة في الإسلام لا بغضا لزوجي ولا عشقا لرجل مسلم في هذه البلاد. وقوله نعالي: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُن} وذلك لأن الإسلام فصم تلك العصمة التي كانت بين الزوج وزوجته، إذ حرم الله نكاح المشركات وإنكاح المشركين، ولهذا لم يأذن الله تعالى في ردهن إلى أزواجهن الكافرين وقوله تعالى: ّ {َ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} أي إذا جاء زوجها المشرك يطالب بها أعطوه ما انفق عليها من مهر، والذي يعطيه هو إمام المسلمين أو جماعة المسلمين. وقوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُن} أي تتزوجوهن {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُن} أي مهورهن مع باقي شروط النكاح: وهى الولي فإن لم يكن لها ولى فالقاضى وليها أو ذو الرأي من عشيرتها إذا لم يوجد في البلد قاضى شرعي وانقضاء عدتها إذا كانت مدخولا بها وقوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِر} أي إذا اسلم الرجل: وكذا إذا ارتدت امرأة مسلمة ولحقت بدار الكفر فإن العصمة قد انقطعت بينهما ولا يحل إمساكها، وفائدة ذلك أنها لو كانت تحت الرجل نوة له أن يزيد رابعة لأن الإسلام قطع العصمة وذلك لقوله تعالى: {ِ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِر} والعصم جمع عصمة والعصمة هي المانع من أن تتزوج المرأة زوجا أخر وهى في عصمة زوجها. وقوله تعالى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ} أي اطلبوا من المرتدة ما أنفقتم عليها من مهر يؤدى لكم. {وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا} أي وليطلب أي المشركون ما أنفقوا من مهور على أزواجهن اللاتي أسلمن وهاجرن إليكم. وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} . أي فاقبلوه وارضوا به فإنه حكم عادل رحيم. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم} أي عليم بخلقه وحاجاتهم، حكيم في

قضائه عليهم وقد بينه لهم، فليسلم له الحكم وليرض به فإنه قائم على أساس المصلحة للجميع. وقوله تعالى فى هذا النداء الكريم {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} أي وإن ذهب بعض نسائكم إلى الكفار مرتدات – والعياذ بالله – وطالبتم بالمهور فلم يعطوكم، ثم غزوتم وغنمتم فأعطوا من الغنيمة قبل قسمتها، أعطوا الذي ذهبت زوجته إلى دار الكفر ولم يحصل على تعويض أعطوه مثل ما أنفق. وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} أي خافوا عقابه فأطيعوه في أمره ونهبه ولا تعوه. وطبقوا هذه الأحكام التي بينها لكم في هذا النداء حرفيا لما في ذلك من العدل والرحمة والخير الكثير: واعلم أيها القارئ ما يلي: 1-وجوب امتحان المهاجرة فإن علم إسلامها فلا يحل إرجاعها إلى زوجها الكافر. 2-حرمة نكاح المشركة. 3-لا يجوز الإبقاء على عصمة الزوجة المشركة. 4-من ذهبت زوجته ولم يرد عليه شئ، ثم غزوتم وغنمتم فأعطوه ما أنفق من مهر من الغنيمة قبل قسمتها، وإن لم تكن غنيمة، فجماعة المسلمين وإمامهم يعطونه. 5-وجوب تقواه تعالى بتطبيق شرعه وإنفاذ أحكامه والرضا بها. وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين

النداء الحادي الثمانون: في حرمة موالاة اليهود

النداء الحادي الثمانون: في حرمة موالاة اليهود الآية (13) من سورة الممتحنة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} . الشرح: اعلم أيها القارئ الريم أن هذا النداء الذي ختمت به سورة الممتحنة هو كالنداء الذي افتتحت به إذ الأول حرم موالاة الكفار والمشركين لأنهم أعداء الله ورسوله والمؤمنين، وحرم في هذا موالاة أهل الكتاب من اليهود والنصارى لأنهم أيضا أعداء الله ورسوله والمؤمنين. والموالاة المحرمة هي النصرة والمودة إذ ليس من المعقول ولا المقبول أن شخصا يعادى ربه الذي خلقه ورزقه وحفظه طوال حياته يعاديه فلا يذكره ولا يشكره، ولا يطيعه في أمر ولا نهى، ويعاكسه شر معاكسه إذ هو يحب كل ما يكره الله تعالى، ويكره كل ما يحب الله تعالى، والعياذ بالله من هذا المخلوق الذي عادى خالقه وتحداه، وحارب رسوله وأولياءه من هنا كانت موالاة الكفار من الذنب العظيم ولا توجد في قلب مؤمن صادق الإيمان محبة عبد يحاد الله تعالى ورسوله والمؤمنين، واسمع قوله تعالى في هذا الشأن: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ} 1 أي الذين نفى تعالى وجود مودة لكافر في قلوبهم ولو كان أقرب قريب {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَان} كتابة راسخة ثابتة لا تحول ولا تول {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} أي ببرهان وهدى ونور. {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} أي منها ولا يموتون فيها وزيادة شفى الأنعام عليهم أنه رضى عنهم ورضوا عنه. {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ}

_ 1 سورة المجادلة: 22.

لا حزب الشيطان إذ طاعته للخمن وليس للشيطان فيها نصيب. ثم ختم تعالى على البيان بهذا الإعلان فقل: {أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . أي الفائزون بالنجاة من النار ودخول الجنة دار الأبرار، وحزب الشيطان وهم الكفرة والمشركون والفسقة والمجرمون هم الخاسرون حيث يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة. إذ قال تعالى فيهم: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} . والأن مع هذا النداء الإلهي إذ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي يا من أمنتم بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا {لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أي لا تتولوهم بالنصرة والمودة. نهاهم الرب تبارك وتعالى عن موالاة اليهود بصورة خاصة إذ هم الذين غضب الله عليهم، وعلة غضب الله تعالى عليهم هي أنهم عرفوا الحق وأعرضوا عنه، وعرفوا ما حرم اله تعالى وفعلوه وعرفوا الهدى وتركوه واتبعوا الضلال والتزموه فهذه بعض موجبات غضب الله تعالى عليهم. وقوله تعالى: {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ} أي من السعادة فيها بدخول الجنة بعد النجاة من النار ويأسهم سببه ما عرفوه من التوراة والإنجيل من قضاء الله وحكمه فيهم وفى أمثالهم ممن عرفوا الحق وأعرضوا عنه، وعرفوا محاب الله وكرهوها، وعرفوا مساخط الله تعالى وأحبوها وأتوها وفعلوها، فلما غرقوا في خضم الجرائم والموبقات من الشرك والكفر واستباحة محارم الله يومها يئسوا من النجاة من النار ودخول الجنة. وشبه تعالى يأسهم بيأس الكفار من أصحاب القبور، هم الذين كفروا يعنى وماتوا على ذلك فإنهم يأسوا من دخول الجنة لأنهم ماتوا على الكفر. وكما يئس أصحاب القبور من العودة إلى الدنيا بعد موتهم وكما يئس أقرباؤهم من عودتهم إلى الحياة بعد موتهم إذ الكل يأس وقنوط. وهؤلاء اليهود المغضوب عليهم يئسوا من سعادة الآخرة بالنجاة من النار ودخول الجنة. كما يئس الكفار من أصحاب القبور، كما بيناه آنفا فاذمره، واستعذ بالله من غضبه وعقابه. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء الثاني الثمانون: في لوم وعتاب من يقول ولا يفعل، وأن ذلك من موجبات مقت الله تعالى للعبد. وفى بيان حب الله تعالى للمجاهدين في سبيله الثابتين في المعارك

النداء الثاني الثمانون: في لوم وعتاب من يقول ولا يفعل، وأن ذلك من موجبات مقت الله تعالى للعبد. وفى بيان حب الله تعالى للمجاهدين في سبيله الثابتين في المعارك الآيات (2، 3، 4) من سورة الصف أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوص ٌ} . الشرح: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} هذا النداء نزل في جماعة من المؤمنين جلسوا يتحدثون فقالوا لو نعلم أحب الأعمال إلى الله تعالى لفعلناه. فلما علموه ضعفوا عنه، ولم يعملوا نظير هذا ما جاء في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَة} 1 أي جبنوا عن القتال وقعدوا عنه إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، إذ المؤمنون فى كل زمان ومكان موجد بينهم من تكون حاله كحال أولئك الذين نزلت فيهم هذه الآيات، والقرآن كتاب هداية وإصلاح، والمؤمنون في حاجة إلى ذلك في كل عصر ومصر. فقوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} أي لم تعدون ولا توفون، فهذا توبيخ وتقريع لكل من يعد ولا يفي. وقد أعلم الرسول صلى الله عليه وسلم أمته أن آية المنافق ثلاث " إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اأؤتمن

_ 1 سورة النساء: 77.

خان " فجعل خلف الوعد من علامات النفاق، فلذا كان قوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ} استفهام معناه التأنيب والتوبيخ ومثل من يعد ولا يفي أي يخلف ما وعد به من يقول فعلت وهو لم يفعل أيضا إذ قوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} يحمل معنى لم تقولون فعلنا وأنتم لم تفعلوا كقول الرجل قاتلت ولم يقاتل، وطعنت وهو لم يطعن أو أعطيت وهو لم يعط وقوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ} أي أن قولكم نفعل كذا ولم تفعلوا مما يمقت عليه صاحبه أشد المقت أي يبغض أشد البغض والعياذ بالله من مقته وبغضه وغضبه. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوص} . فيه إشارة واضحة إلى أن الذين وبخهم بقوله: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} . كانوا قد وعدوا بالجهاد، ثم تخافوا عنه ولم يفوا بما وعدوا. كما يحمل إشارة أخرى إلى الذين انهزموا يوم أحد وفروا من المعركة. ولما كان تعالى يمقت أشد المقت المخلفين للوعد العظيم ذي الأثر الكبير كالوعد بالجهاد ولم يجاهدوا فإنه تعالى يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا متراصا لا فرجة فيه حال الزحف كالبنيان المرصوص أي المتلاصق بعضه ببعض لا فرجة ولا خلل بين أجزائه. ولنستمع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخبر بضحك الله تعالى إلى بعض عباده الصالحين فيقول: " ثلاثة يضحك الله إليهم: الرجل يقوم من الليل والقوم إذا صفوا للصلاة، والقوم إذا صفوا للقتال "، وكان بعض السلف يكرهون القتال على الخيل ويستحبون القتال على الأرض لقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوص} . وكان صاحب هذا الحديث وهو أبو بحرية يقول: إذا رأيتموني ألتفت في الصف أي صف القتال فجؤوا فى لحى " 1 وهذا عين ما جاء في حرمة تولى المجاهد عن الصف، وخروجه منه لغير سبب يقتضي ذلك إذ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ

_ 1 أي اضربوا، واطعنوا، يقول العرب: وجأ فلانا يجؤه وحئا ووجاء. ينظر المعجم الوسيط (ص 1023) وانظر لسان العرب 1/ 185.

فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} 1 وأخيرا خلاصة هذا النداء ولا ننسه وهى: 1-حرمة الكذب وخلف الوعد، إذ قول القائل أفعل كذا ولم يفعل، وهو كذب وخلف وعد، ولذا كان قوله من المقت الذي هو أشد البغض، ومن مقته الله فقد أبغضه أشد البغض وكيف يفلح من مقته الله؟ 2-فضيلة الجهاد في سبيل الله وفضيلة الوحدة والاتفاق. وحرمة الخلاف الممزق للصفوف. 3- اذكر أن الصف في الصلاة يجب رصه بعدم الفرج فيه وأنه مما يحب الله تعالى فنطلب ذلك فى صفوف الصلاة كما في صفوف الجهاد. والله رءوف بالعباد وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

_ 1 سورة الأنفال: 16

النداء الثالث الثمانون: في عرض بضاعة أغلى بضاعة إذ هي الحنة وبيان الثمن المحصل لها وهو الإيمان والجهاد

النداء الثالث الثمانون: في عرض بضاعة أغلى بضاعة إذ هي الحنة وبيان الثمن المحصل لها وهو الإيمان والجهاد الآيات (10، 11، 12) من سورة الصف أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم ُ} . الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم أن هذا عرض وترغيب وتشويق إلى ما يذكر بعده كقول المرء للآخر هل لك في كذا، أو هل لك إلى كذا فالاستفهام في هذا النداء هو أدلكم على تجارة وصفها كذا … من هذا الباب وذلك أنهم قالوا: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لفعلناها. فناداهم الرب تبارك وتعالى قائلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ، أي يا من آمنتم بالله ولقائه والقرآن وما فيه والرسول محمد عليه الصلاة والسلام وما جاء به: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ} وهو عذاب الدنيا تسلط العدو عليكم وقهركم، ومن الفقر والخوف. ومن عذاب الآخرة وهو النار وبئس المصير. والعذاب هو كل ما يقطع عذوبة الحياة ولذاذتها، والأليم الموجع أشد إيجاع، بعد هذا الترغيب بين لهم ما يدفعونه من مال ليستلموا البضاعة فقال في بيان الثمن المطلوب للحصول على السلعة الغالية: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} أي بألوهيته ولقائه ووعده ووعيده، وتؤمنون برسوله وما جاء به ويدعو إليه صلى الله عليه وسلم، {وَتُجَاهِدُونَ} أي أعداء الله تعالى وأعداءكم وهو كل كافر ومشرك يعلن الحرب عليكم، ويعاديكم ويعادى ربكم سبحانه وتعالى بأن يعبد غيره، ويتبع سبيلا غير سبيله.

وقوله تعالى: {بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} قدم جهاد المال على جهاد النفس، لأن العدة مقدمة على من يحملها في هذا الباب فالمال لإعداد عدة الحرب، والعدة سلاح على اختلافه وطعام وشراب ومركوب للغزاة والمجاهدين، وثنى بجهاد النفس وهو بذل أقصى الجهد والطاقة البدنية وقوله في سبيل الله وقدمه على المال والنفس إذ قال تعالى: {ِوَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} لأن الجهاد إذا لم يرد به إعلاء كلمة الله، فهو لغير الله وهو باطل مذموم والمراد من إعلاء كلمة الله أن يعبد الله وحده ويحكم شرعه في عباده ويرفع الظلم عن أوليائه وهم المؤمنون المتقون وقوله عز من قائل: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يريد تعالى أن الدخول في هذه الصفقة التجارية خير لكم من تركها والإعراض عنها حرصا على بقائكم وبقاء أموالكم مع أنه لا بقاء لشئ في هذه الحياة الدنيا، بعد أن بين لهم الثمن وهو الإيمان والجهاد بين لهم الجزاء فقال: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} وأوقع بيان السلعة موقع الجزاء إذ قوله فى بيان الثمن {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ....} فالفعلان مرفوعان، وفعلا البضاعة يغفر لكم ويدخلكم مجزومان على تقدير: إن تؤمنوا وتجاهدوا يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجرى من تحتها الأنهار على تقدير إن تعطوا الثمن المطلوب تعطوا البضاعة الموضوعة لذلك والمهيأة له. وقوله تعالى: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} هذا من أجزاء السلعة التي عرضت للبيع بثمن غال ألا وهو الإيمان والجهاد. الإيمان الحق والجهاد في سبيل الله تعالى لا غيره. وقوله تعالى فى هذا النداء: {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} . أي الحصول على السلعة المذكورة بالثمن المذكور هو الفوز العظيم، وخلاصة هذا الربح العظيم الذي لا يعادله ربح، والله إن النجاة من النار ودخول الجنة دار الأبرار مع رضوان الرحمن. وهنا ربح دنيوي أخر ذكره تعالى في قوله: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيب} . وهذا فائدة زائدة عل السلعة وهى نصرهم على أعدائهم وأعداء ربهم وفتح قريب أم القرى وغيرها من عواصم الدنيا.

وختم عز وجل هذا الإنعام والإكراه بقوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} أي وبشر يا رسولنا الذين آمنوا بنا وبرسولنا وبدعوتنا بشرهم بحصول ما ذكرناه كاملا غير منقوص. وقد تم لهم كاملا والحمد لله. فقد نصرهم على أعدائهم وفتح لهم مكة وكثيرا من عواصم العالم كعاصمتى الفرس والروم. وأخيرا اذكر أيها القارئ الكريم ما قد بين لك واذكر أخيرا ما بلى: 1-فضل الجهاد بالمال والنفس وأنه أعظم تجارة رابحه في هذه الدنيا. 2-تحقيق بشرى الله للمؤمنين التي أمر رسوله أن يبشرهم بها. فكان هذا دليلا وبرهانا ساطعا على صحة الإسلام وسلامة دعوته. وفوز أهله ونجاحهم إذ هم أقاموا دينا وعبدوا به الله تعالى عقائد وعبادات وآداب وأخلاقا وأحكاما وقوانين ثابتة محققة للأمن والرخاء والصفاء. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء الرابع والثمانون: في وجوب نصرة دين الله وأهله ائتساء بمن دعوا إلى ذلك فأجابوا ففازوا بالنصر والغلبة

النداء الرابع والثمانون: في وجوب نصرة دين الله وأهله ائتساء بمن دعوا إلى ذلك فأجابوا ففازوا بالنصر والغلبة الآية (14) من سورة الصف أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} . الشرح: أذكر أيها القارئ الكريم أن الله نعالي لا ينادى عباده المؤمنين به وبلقائه وبرسوله وما جاء به من الدين الحق ويدعو إليه، لا يناجيهم إلا ليأمرهم أو ينهاهم أو يبشرهم، أو ينذرهم أو يعلمهم ما ينفعهم وهذا مقتضى الولاية التي بينهم وبينه سبحانه وتعالى. فلذا لا يأمرهم إلا بما يزكى أنفسهم. ولا ينهاهم إلا عما بدسي أنفسهم، ولا يبشرهم إلا بما يزيد في طاقة إيمانهم بعد شرح صدورهم وذهاب الغم والهم عنهم وإبعاد والحزن والخوف عنهم. إذ أولياؤه نفى عنهم الخوف والحزن في الحيوات الثلاث الحياة الدنيا وحياة البرزخ، وهى الحياة بين الحياتين الأولى الفانية والآخرة الخالدة والحياة الآخرة وهى الخالدة الباقية. في قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} 1 وبين الرسول صلى الله عليه وسلم بشرى الحياة الدنيا، وأنها الرؤية الصالحة يراها أو ترى له. وهيا بنا بعد أن نستعرض ما جاء شفى هذا النداء الإلهي العظيم إذ قال تعالى:

_ 1 سورة يونس 62، 63, 64.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي بالله رب وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا فحيوا بذلك وأصبحوا أهلا للنداء وما يؤمرون به وينهون عنه. {كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} ، إي التزموا بنصرة ربكم وإلهكم الحق الذي لا رب غيره ولا إله سواه، التزموا بنصرته في دينه ونبيه وأوليائه المؤمنين المتقين فقولوا كما قال الحواريون لما دعاهم عيسى عبد الله ورسوله لنصرته قائلا: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} ؟ أي من ينصرني في حال كوني متوجها إلى الله أنصر دينه وأولياءه فأجابوا قاثلين {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّه} . فكونوا أنتم أيها المسلمون مثلهم في نصرة دين الله ونبيه وعباده المؤمنين. وقد أجابوا رضوان الله تعالى عليهم. {َخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} . فلم يجيبوا ونحن مع الأسف منهم واأسفاه ... واحسرتاه.... واحزناه....على ما فرطنا في جنب الله. وقوله تعالى في ختام هذا النداء: {فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} . فقوله {فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ} أي بعيسى وما جاء به من الحق والهدى، وهو أن عيسى عبد الله ورسوله، وليس بإله ولا ابن إله، ولا ثالث ثلاثة مع الله، وليس هو بساحر ولا دجال ولا مفتر كذاب، ولا هو بابن زنى. وكفرت طائفة أخرى فاليهود قالوا عبسى ابن زنى وقالوا ساحر وكفروا به وبما جاء به واحتالوا على المؤمنين الموحدين من أتباع عيسى عليه السلام فأفسدوا عقائدهم وحرفوا دينهم مكرا بهم وحسدا لهم على فوزهم بالدين الحق والولاية الإلهية حرموا هم منها والعياذ بالله. وقوله تعالى: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ} أي الكافرين {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} أي غالبين عالين منصورين إلى أن احتال اليهود أعداء الله الحسدة على إفساد الدين الصحيح الذي جاء به عيسى عليه السلام وهو الإسلام القائم على عبادة الله تعالى وحده بما شرع من أنواع العبادات الروحية والبدنية، وحينئذ لم يبق من المؤيدين إلا أنصار قليلون هنا وهناك، وعلا الكفر والتثليث. وظهر الشرك في ربوع الأرض، واستمر الوضع كذلك إلى أن بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم فانضم إلى الإسلام من انضم من النصارى فأصبحوا بالإسلام ظاهرين على عدوهم من المشركين المؤلهين لعيسى الحيارى في تقويمه إذ مرة يقولون هو ابن الله، ومرة يقولون ثالث ثلاثة مع الله. وضللهم وتركهم في هذه المتاهات الانتفاعيون من الرؤساء والجاهلون المقلدون من المرءوسين، كما فعل

نظراؤهم في الإسلام، إذ حولوه إلى طوائف وشيع. إلا أن الإسلام تعهد الله تعالى بحفظه على يوم القيامة. فمن أراده وطلبه في صدق وجده سليما صحيحا صافيا كما هو في كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) ومن لم يرده ولم يطلبه، ورضى بالضلال والجهل والفسق والكفر فهو فيها إلى أن يهلك ويمسي في أصحاب السعير. ولا يهلك على الله إلا هالك. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء الخامس والثمانون: في وجوب حضور صلاة الجمعه إذا نودي لها وحرمة البيع والشراء وسائر الأعمال بعد النداء

النداء الخامس والثمانون: في وجوب حضور صلاة الجمعه إذا نودي لها وحرمة البيع والشراء وسائر الأعمال بعد النداء الآيتان (9، 10) من سورة الجمعة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الشرح: اذكر أيها القارئ الكريم أن الله تعالى ينادى عباده المؤمنين بعنوان الإيمان؛ لأن المؤمنين أحياء بإيمانهم يسمعون النداء ويجيبون من ناداهم لكمال حياتهم. وها هو ذا سبحانه وتعالى نادى عباده المؤمنين من هذه الأمة المسلمة له وجوهها وقلوبها فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بي وبرسولي وبلقائي وما عندي لأوليائي، وما لدى لأعدائي {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ} أي إذا أذن المؤذن قائلا حي على الصلاة، وذلك من يوم الجمعة وهو اليوم الفاضل الذي فازت به أمة الإسلام وحرمه اليهود لعنادهم وحرمه النصارى لجهلهم وضلالهم؛ إذ هو أفضل الأيام خلق الله أدم وأدخله الجنة وأخرجه منها، وفيه تقوم الساعة. وفيه ساعة لا يوافقها مؤمن يصلى ويسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه ويقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: " من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة (بعيرا) ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة،

ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام أي ليرقى المنبر ويخطب الناس حضرت الملائكة يستمعون الذكر ". وقوله تعالى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أي امشوا إلى أداء صلاة الجمعة بعد سماع الخطبة. وهذا المشى يسبقه أمور منها الغسل، ولبس الثياب الجديدة أو النظيفة الخاصة بها، ومنها مس الطيب ومنها السواك. وهذا الإمام أحمد رحمه الله يروى في مسنده الصحيح الحديث التالي. يقول صلى الله عليه وسلم: " من اغتسل يوم الجمعة، ومس من طيب أهله، إن كان عنده ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج حتى يأتي المسجد فيركع ما بدا له، ولم يؤذ أحدا ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلى كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى ". وروى أصحاب السنن أن النبي (صلى الله عليه وسلم) على المنبر قال: " ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته ". وقوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} أي اتركوا البيع والشراء إذ لفظ البيع يطلق على الشراء. ولهذا يحرم أي عقد يتم والإمام على المنبر يوم الجمعة. كما يحرم أي عمل كتجارة أو حياكة أو صناعة أو زراعة. أو طهى طعام وما إلى ذلك من سائر الأعمال وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي إن ترك الأعمال من بيع وشراء وغيرها من سائر الأعمال والذهاب إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة خير ثوابا وخير عاقبة في الدنيا والآخرة. وقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} أي أديت وفرغ منها {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} أي لقضاء حوائجكم كالبيع والشراء وسائر الأعمال المأذون فيها من المباحات. وقوله: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} أي اطلبوا ما تحتاجون إليه من أمور دنياكم ومعاشكم فقد أذن الله تعالى لكم فيه بعد أن منعكم منه عند سماع النداء والإمام على المنبر وقال: {من فَضْلِ اللَّهِ} إذ كل رزق يحصل عليه العبد هو من عطاء الله وفضله، وما للعبد إلا إتيان الأسباب الموضوعة لذلك، فلذا لا يطلب المحرم سواء كان طعاما أو شرابا أو لباسا أو غيرها، إذ ذاك لم يأذن الله فيه فهو ليس من فضله تعالى، وقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} أي أثناء تفرقكم وانتشاركم في أعمالكم طلبا لفضل الله تعالى في هذه الحال اذكروا الله بقلوبكم وألسنتكم ولا تنسوه واذكروه ذكرا كثيرا، وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . أي اذكروا الله كثيرا

رجاء أن تفلحوا في سعيكم وعملكم وتعودون بحاجاتكم بعد السعي والطلب؛ لأن فى ذكر الله العون الكبير والوقاية العظمى من الخيبة والخسران، وفلاح المؤمن لا يقصر على الدنيا بل هو في الدنيا والآخرة، وفلاح الآخرة معناه الفوز بالحنة بعد النجاة من النار. وأخيرا اذكر أيها القارئ ما يلي: 1-وجوب صلاة الجمعه ولا يسقط هذا الواجب إلا على المرأة والعبد والمريض والممرض له والمسافر. 2-حرمة البيع والشراء وسائر الأعمال إذا جلس الإمام على المنبر وشرع المؤذن يؤذن الأذان الأخير. 3-لا تفهم من قوله تعالى: {فَاسَعَوْا} أن السعي هنا الجري والهرولة لا، لا وإنما هو المشى إليها بسكينة ووقار كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم 1. وإطلاق السعي على غير السرعة والهرولة كثير، من ذلك فلان يسعى على عائلته ليس معناه أنه يجرى وإنما يعمل. ومنه فلان سعى في الإصلاح بين فلان وفلان ليس معناه أنه يجرى. هذا واذكر ما علمت ولا تنسه واعمل وعلم وبارك الله فيك. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

_ 1 في الحديث الصحيح.

النداء السادس والثمانون: في حرمة الانشغال بالمال والولد عن عبادة الله تعالى ووجوب الزكاة والترغيب في الصدقات، والتحذير من فجاءة الموت قبل التوبة

النداء السادس والثمانون: في حرمة الانشغال بالمال والولد عن عبادة الله تعالى ووجوب الزكاة والترغيب في الصدقات، والتحذير من فجاءة الموت قبل التوبة الآيات (9، 10، 11) من سورة المنافقون أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} . الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم أن هذا النداء الإلهي له خطورته وشأنه العظيم فقد نادى الرب تبارك وتعالى عباده المؤمنين لكمال حياتهم بإيمانهم ناداهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا، ناداهم ليقول لهم ناهيا لهم: {لا تُلْهِكُمْ} أي لا تشغلكم أموالكم كثرت أو قلت وأي نوع كان من المال سواء كان مال تجارة أو صناعة أو زراعة أو غير ذلك لا تشغلكم عن عبادة الله تعالى وسواء كانت العبادة صلاة أو حجا أو جهادا، ولا يلهكم أولادكم أيضا عن عبادة الله تعالى لا عن صلاة ولا حج ولا جهاد ولا عن ذكر الله تعالى، وكل عبادة هي ذكر لله عز وجل، إذ لا تخلو عبادة من ذكر الله حتى الصيام فإنه ذكر لله تعالى بالقلب، إذ لولا ذكر الله لأكل الصائم أو شرب. وقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} أي بأن ألهته أمواله أو أولاده أو هما معا عن

عبادة الله تعالى التي تعبد بها عباده من أداء الفرائض والواجبات على اختلافها، فأولئك البعداء هم الخاسرون يوم القيامة بحرمانهم من الجنة ونعيمها، ووجودهم في دار العذاب حيث لا أهل ولا مال ولا ولد. كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} . وقوله تعالى لهم: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي من مال وعلم وكل خير رزقه العبد من الجاه فإنه ينفق منه في قضاء حاجات من يعجز عن قضائها إلا بالواسطة وإن كان المطلوب الأول في هذا الأمر أداء الزكاة والصدقات الواجبة كالجهاد والإنفاق المتعين كالإنفاق على الوالدين والزوجة والولد وقرى الضيف وما إلى ذلك. والحمد لله إنه تعالى لم يقل وأنفقوا ما رزقناكم بل قال مما أي من بعض ما رزقناكم فالزكاة نصابها اثنان ونصف في المائة، وفى الحبوب من عشرة أوسق أي قناطير. قنطار، إن كانت تسقى بماء العيون والمطر. أما إن كانت تسقى بالسنى والدلو، والمكائن فنصف العشر ففي عشرة قناطير نصف قنطار لا غير، وفى هذا الأمر الإلهي دليل على وجوب تعجيل إخراج الزكاة إذا وجبت وحال حولها، وكذلك سائر العبادات إذا دخل وقتها. وقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي من قبل أن ينتهي اجله ويأتي ملك الموت ليقبض روحه وفى هذا دليل قاطع على وجوب أداء الواجبات في أوقاتها وسواء كانت زكاة أو صلاة أو حجا أو غيرها كقضاء الديون من قدر على سدادها، وذلك لعدم العلم بساعة الوفاة، والموت قد يأتى بغتة. فكم من نائم مات في نومه، وكم من مسافر مات في سفره، وكم من راكب مات في ركوبه، وكم من صحيح مرض ومات في مرضه، وقوله تعالى: {فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} أي يقول المحتضر الذي حضره الموت متمنيا على الله أن يؤخره إلى وقت يمكنه فيه أن يصدق ويؤدى الحقوق وقوله: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} هذا مفاد تمنيه وهو أن يتصدق بماله، ويكون من الصالحين بان يحج ويعتمر، ويصل الرحم ويرحم الفقراء، ويساهم في مشاريع الخير كبناء المساجد ودور اليتامى والإنفاق على الجهاد وما إلى ذلك. إلا أن هذا التمني وهذا الطلب لا يجديه شيئا أبدا، لأن حضور ملك الموت لقبض الروح لا يرده أحد إلا الله والله قد قضى وحكم فلم يبق مجال للطلب والتمنى. وإنما هذا من تمنى الحسرة والندامة، وهما لا

ينفعان بل يزيدان من الكرب والحزن. وكيف والله يقول: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} ، فإذا كان تعالى القوى القدير لا يؤخرها فهل يؤخرها غيره من المخلوقين المربوبين العجزة الهالكين. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} . يحض به تعالى المؤمنين على إصلاح أعمالهم والتزود لأخرتهم بإعلامهم سبحانه وتعالى بأنه مطلع على أعمالهم خبير بها سواء ما كان منها صالحا أو فاسدا. إلا فليراقب العبد ربه فيصحح معتقده، ويحسن عمله. ويلازم ذكر ربه بقلبه ولسانه. وأخيرا أيها القارئ الكريم إليك خلاصة ما حواه هذا النداء الإلهي الكريم فاحفظه وانتفع به: 1-حرمة التشاغل بالمال والولد إذا كان يحملك ذلك على إضاعة بغض الفرائض أو ترك الحقوق والواجبات كذكر الله تعالى وفعل الخيرات. 2-حرمة تأخير الحج مع القدرة عليه، والتشاغل عنه بالمال والولد، أو تسويفا أو مماطلة. 3-وجوب الزكاة وحرمة تأخيرها عن وقتها. 4-الندب إلى فعل الخيرات كالصدقات ونوافل العبادات من صيام وصلاة وغيرهما. 5-لا تنس ذكر الدار الآخرة فإن الموت اللازم طريقها فاذكر هذا، والله يتولى الصالحين. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء السابع والثمانون: في التحذير من فتنة المال والزوجة والولد وبيان فضل العفو والصفح والغفران، وعلاج شح النفس

النداء السابع والثمانون: في التحذير من فتنة المال والزوجة والولد وبيان فضل العفو والصفح والغفران، وعلاج شح النفس الآيات (14، 15، 16) من سورة التغابن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . الشرح: اذكر أيها القارئ الكريم أن هذا النداء الإلهي يحمل تحذيرا عظيما من فتنة المال والولد، والزوجة أيضا، إنه من ولاية الله تعالى لعباده المؤمنين المتقين ناداهم بعنوان الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ، لأنهم بإيمانهم أحياء يسمعون ويجيبون ناداهم ليخيرهم محذرا منذرا فيقول {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ} ؛ لأن من للتبغيض مثل {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} ، لا كل ما رزقناكم واعلم أن الفرق بيتن العدو والصديق أن العدو يخملك على ما يضرك ويخسرك، والصديق يحملك علة ما ينفعك ويريحك، ولما كان الأمر خفيا ومختلطا قال الله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ} أي أن تطيعوهم في التأخير عن فعل الخير كترك الهجرة، أو الجهاد، أو صلاة الجماعة، أو التصدق بفضل المال على الفقراء والمحتاجين، وما إلى ذلك من الصالحات المزكية للنفس، ولنذكر هنا سبب نزول هذه الآيات لتزداد وضوحا في فهم

هذا التحذير الإلهي العظيم، إنه روى أن إناسا كان لخم أزواج وأولاد عاقوهم عن الهجرة من مكة إلى المدينة فترة من الزمن، فلما تغلبوا عليهم وهاجروا، ووجدوا الذين سبقوهم إلى الهجرة قد تعلموا وتفقهوا في الدين فتأسفوا عن تخلفهم. فهموا بأزواجهم وأولادهم الذين عاقوهم عن الهجرة فترة طويلة فهموا أن يعاقبوهم بنوع من العقاب كتجويعهم أو ضربهم، أو تثريب وعتاب شديدين فأنزل الله تعالى هذه الآيات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ} أي من بعضهم لا كلهم إذ منهم من يساعد على طاعة الله ورسوله ويكون عونا عليها والمرأة في هذا كالرجل فمن النساء الصالحات من يكون زوجها وولدها عدوا لها يحاولون صرفها عن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وهو في النساء كثير، والواقع شاهد. كم من امرأة يأمرها زوجها بكشف وجهها، ويمنعها من التصدق بمالها، ويصرفها عن بر والديها إلى غير ذلك. وقوله: {وَإِنْ تَعْفُوا} أي عن أزواجكم أو أولادكم الذين فتنوكم في دينكم فلا تؤاخذوهم بضرب أو أي عقاب، {وَتَصْفَحُوا} فتعرضوا عنهم وتعطوهم صفحة وجوهكم فلا تسبوا ولا تشتموا {وَتَغْفِرُوا} أي لهم ما حصل منهم من أذى وهم صرفوكم عن الهجرة زمنا فاتكم فيه خير كثير من العلم والفقه وصحبه الحبيب صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . فاغفروا يغفر لكم وارحموا يرحمكم، ثم قال تعالى مخبرا عن حقيقة علمية ثابتة يجهلها العباد وهى أن المال والولد فتنة يمتحن الله تعالى بها عباده أي يبتليهم ويختبرهم ليعلم الصادق في الطاعة من الكاذب والبار بحق من الفاجر، ومن يحب الله ورسوله أو يحب ماله وولده فقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} . وقوله تعالى: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} . آي فآثروا ما عند الله تعالى على ما عندكم من مال وولد. وأحسنوا التصرف فيهم فلا تعصوا الله لأجلهم، لا بترك واجب ولا بفعل محرم، واحذروا أن تسيئوا التصرف فيحملكم حبهم على التفريط في طاعة الله ورسوله. واعلموا أن ما عندكم ينفذ وما عند الله باق فآثروا الباقي على الفاني. وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} هذا من إحسان الله تعالى إلى عباده المؤمنين إنه لما أخبرهم أن أموالهم وأولادهم فتنة وحذرهم أن يؤثروهم على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم علم تعالى أن بعض المؤمنين سيزهد في المال والولد،وأن بعضا

سيعانون أتعابا ومشقة شديدة في التوفيق بين خدمة المصلحتين فأمرهم أن يتقوه في حدود ما يطيقون فقط، وخير الأمور الوسط فلا يفرط في ماله وولده ولا يفرط في علة وجوده وسبب نجاته وسعادته التي هي عبادة الله تعالى التي خلق من أجلها وعليها مدار نجاته من النار ودخوله الجنة دار الأبرار. وقوله تعالى: {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لأَنْفُسِكُمْ} . هذا أمره تعالى لعباده المؤمنين لما خفف عنهم أمر التقوى بقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ، أمر بالسمع والطاعة لله ولرسوله والإنفاق في سبيله تعالى، وأعلمهم أن ذلك خير لهم إذ بهذا تتم سعادتهم في الدارين. وقوله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} أي ومن يحفظه الله تعالى من شح نفسه فقد أفلح بالفوز بالجنة والنجاة من النار، وفى هذا الخبر إشارة صريخة إلى أن وقاية النفس تتطلب من الله تعالى ثم بالإنفاق في سبيل الله تعالى فسؤال الله تعالى أن يقي العبد شح نفسه الذي فطرت عليه، ثم الإنفاق في سبيل الله بهما يحفظ العبد من شح النفس المهلك وبهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: " إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " وكان عبد الرحمن ابن عوف رضى الله عنه إذا طاف بالبيت يدعو بقوله اللهم قني شح نفسي لا يزيد على ذلك؛ لأن شح النفس هو الذي يحمل على السرقة والزنى والكذب والخيانة وخلف الوعد وإضاعة الأمانة. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء الثامن والثمانون: في مشروعية الطلاق السني وبيان العدة وعدم إخراج المطلقة من البيت حتى تنتهي عدتها إلا أن تؤذى ومشروعية الإشهاد على الطلاق والرجعة

النداء الثامن والثمانون: في مشروعية الطلاق السني وبيان العدة وعدم إخراج المطلقة من البيت حتى تنتهي عدتها إلا أن تؤذى ومشروعية الإشهاد على الطلاق والرجعة الآيتان (1، 2) من سورة الطلاق أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} . الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم أن هذا النداء يحمل أحكاما شرعية لابد للمؤمن من معرفتها والتقيد بها، واعلم أن النداء وإن كان موجها أولا للنبي صلى الله عليه وسلم فهو لأمته صلى الله عليه وسلم وإنما بدئ برسول الله صلى الله عليه وسلم لشرفه وعلو مقامه. حتى يسهل على المؤمنين تطبيق الأحكام التي تضمنها النداء وهى: 1-أن تطلق المرأة من أجل رفع الضرر عنها أو عن زوجها أو أن تطلق في طهر لم يجامعها فيه الزوج حتى لا تطول مدة عدتها فتتأذى في ذلك. وهذا ما دل عليه قوله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي لقبل عدتهن أي الأول عدتهن وذلك بأن يكون الطلاق في طهر لا في حيض، وأن يكون الزوج ما جامعها في

ذلك الطهر بذلك تقصر مدة العدة وتقل وفى هذه الرحمة بالمؤمنات. 2-وجوب إحصاء العدة أي حفظ مدتها حتى يمكن للزوج أن يراجع فيها إن أراد المراجعة. وهذا معنى قوله تعالى: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} . وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} ، أي خافوه فامتثلوا أوامره وقفوا عند حدوده فلا تعتدوها. 3-لا يجوز إخراج المطلقة من بيت زوجها الذي كانت فيه حتى تنقضي عدتها لما في ذلك إعطاء فرصة للزوج لعله يراجعها، اللهم إلا أن تأتى المطلقة بفاحشة مبينة كزنا ظاهر، أو تكون بذيئة اللسان فتؤذى أهل البيت بأذى لا يطيقونه ففي هذه الحال يجوز إخراجها من بيتها. دل على هذا قوله تعالى: {رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} . وقوله تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أي المذكورات من الطلاق لأول الطهر وإحصاء العدة، وعدم إخراجهن من بيوتهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة. وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} أي من يتجاوز حدود الله فلم يقف عندها فقد ظلم نفسه بذلك وتعرض لعقوبة الله تعالي عاجلا أو أجلا. وقوله تعالي: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} أي شرع الله تعالى ما شرعه من الطلاق في أول العدة، ومن عدم إخراج المطلقة من بيتها، ومن إحصاء العدة بمعرفة يوم وقع الطلاق فيه ومعرفة متى تنتهي. كل هذا من أحل قد يجعل الله تعالى في قلب المطلق رغبة في مراجعة مطلقته فيراجعها. بخلاف لو لم يضع الله تلك الحدود فإن الرجل قد يرغب في المراجعة ولا يقدر عليها. 4-إذا بلغت المطلقة أجلها أي قرب نهاية عدتها هنا على الزوج أن يراجع فيمسكها بمعروف وإحسان لا إنه يراجعها بمكر بها ويؤذيها انتقاما منها، أو يفارقها بمعروف، فيعطيها باقي مهرها إن بقى منه شئ، وأن يمتعها بشيء، وأن لا يذكرها بسوء أبدا. دل على هذا قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} . 5-كما يشهد الزوج على الزواج يشهد على الطلاق وعلى الرجعة أيضا إلا أن الإشهاد على عقد النكاح بدونه، وأما في الطلاق والرجعة فهو مطلوب ولكن ليس واجبا، وليكن الشهود عدولا والعدل من لم يعرف بكبيره من كبائر الذنوب دل على هذا قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} أي عدلوا

فيها ولا تجوروا أو تحيفوا ولتكن شهادتكم لله تعالى لا للمشهود عليه ولا للمشهود له. بل لله وحده لا شريك له. وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} . إن هذه الأحكام المذكورة يؤمر بها ويطبقها عبد يؤمن بالله واليوم الآخر. وأما غيره فما هو أهل لذلك؛ لأنه كافر والكافر ميت وفى هذا حث وحض على تطبيق هذه الأحكام المتعلقة بالطلاق لما فيها من الخير لكل من المطلق والمطلقة هذا واعلم أن هناك خلاصة لما تقدم فخذها بعناية وهى: 1-أن السنة في الطلاق أن يكون في طهر لم يمسها فيه، وأن يكون بلفظ واحد لا بالثلاث. 2-أن العدد أربع؛ عدة من تحيض فهي ثلاثة قروء أي حيضات وعدة من لا تحيض لكبر أو صغر وهى ثلاثة أشهر، وعدة الحامل وهى وضع حملها ولو يوما وليلة، وعدة الوفاة وهى أربعة شهور وعشرا. 3-الطلاق في الحيض وفى طهر جامعها فيه طلاق بدعي كثير من أهل العلم لا يعدونه طلاقا. 4-الطلاق قبل الدخول لا عدة فيه على المطلقة لقول الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} وقد مضى هذا في نداء من نداءات سورة الأحزاب فارجع إليه. اللهم علمنا ما جهلنا وانفعنا بما تعلمنا ولك الحمد الشكر وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء التاسع والثمانون: في وجوب وقاية النفس والأهل من النار وذلك بالإيمان وطاعة الله ورسول (صلى الله عليه وسلم) وبيان وصف النار

النداء التاسع والثمانون: في وجوب وقاية النفس والأهل من النار وذلك بالإيمان وطاعة الله ورسول (صلى الله عليه وسلم) وبيان وصف النار الآية (6) من سورة التحريم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} . الشرح: اذكر أيها القارئ الكريم ما قد سبق أن عرفته من الله تعالى ينادى المؤمنين بعنوان الإيمان؛ لأن المؤمن حي يسمع ويعي ويعمل وذلك لكمال حياته وأن الكافر ميت فلا يسمع نداء ولا يعي ما ينادى له، ولا يمتثل ما يؤمر به أو ينهى عنه. وأن الإيمان ليس مجرد قول للعبد. أنا مؤمن وإنما هو تصديق جازم بوجود الله ربا إلها لا رب غيره ولا إله سواه، وبملائكته وكتبه ورسله، وباليوم الأخر وقضائه وقدره وآية ذلك إسلام القلب والوجه لله ويتجلى ذلك في أن يحب الله ويكره ما يكره الله، وأن يطيع الله ورسوله فيما أمرا به ونهيا عنه. اذكر هذا واستمع لما حواه هذا النداء العظيم إنه وجوب وقاية المرء المؤمن نفسه من النار، ووقاية أهله من زوجة وولد وقريب من النار إذ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} والوقاية تكون؟ إنها لا تكون أبدا بغير الإيمان والعمل الصالح وباجتناب الشرك والمعاصي. والشرك هو عبادة غير الله تعالى مع الله تعالى فالدعاء عبادة تعبد الله بها المؤمنين فمن دعا غير الله قد أشرك، والنذر عبادة فمن نذر لغير الله تعالى فقد أشرك في عبادة الله تعالى، والذبح تقربا عباده فمن ذبح لغير الله تقربا إليه فقد أشرك في عبادة الله تعالى، والحلف عبادة فمن حلف بغير

الله تعالى فقد أشرك في عبادة الله تعالى؟ والركوع والسجود عبادة فمن ركع أو سجد لغير الله فقد أشرك في عبادة الله تعالى فاذكر هذا ولا تنسه يا عبد الله. كان ذلك الشرك فما هي المعاصي؟ المعاصي: جمع معصية وهى مخالفة أمر الله أو أمر رسوله فإذا أمر الله تعالى بقول أو فعل أو أمر رسوله فمن فعل المأمور على الوجه المطلوب فقد أطاع وما عصى، ومن ترك فلم يفعل فقد عصى، وتركه معصية. وكذلك إذا نهى الله تعالى أو نهى رسوله عن قول أو عمل فمن قال المنهي عنه أو فعله فقد عصى، وقوله وفعله لما نهى عنه معصية وعلى هذا فالوقاية للنفس وللأهل من زوجة أو ولد تكون بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بعد الإيمان الصحبح، وهنا يجب على العبد أن يعرف أوامر الله وأوامر رسوله 0 صلى الله عليه وسلم) ويعلمها أهله، إذ من غير المعقول أن نطيع ونحن لا نعرف فيما نطيع أو نعصى ونحن لا نعرف فيما نعصي إذا فالعلم العلم فإنه ضروري، وإلا فلا وقاية من النار فاذكر هذا أيها القارئ واعلم أن وقاية الأهل تكون بأمرهم بإقام الصلاة والصيام، وترك المحرمات من الكذب وقول الباطل وسماعه وبذكر الله بالقلب واللسان، والبعد عن اللهو الحرام كسماع الأغانى، والنظر إلى صور الفيديو والتلفاز، ولعب الورق ومجالس اللغو والكلام السيئ وما إلى ذلك. وذكرهم بالجنة ونعيمها وخوفهم من النار وعذابها واقرأ عليهم هذا النداء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} . ذكرهم برؤيا رآها عبد صالح وهو الشيخ محمد السالك فقد بعث بها إلى فذكر فيها انه دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم محمر الوجه وقرأ هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} … إلى قوله …. {مَا يُؤْمَرُونَ} ثم قال: " ويتوب الله على من تاب " هل تدرى ما وقود النار؟ إنه أجسام المعذبين. وحجارة الكبريت وأصنام المشركين هل تدرى ما الملائكة؟ إنهم خلق يكفى في معرفة حقيقتهم وصف الله تعالى لهم بقوله {غِلاظٌ شِدَادٌ} . وإذا كان عرض الكافر في النار – مائة وخمسة وثلاثين كيلو مترا وضرسه كجبل أحد. فكيف يكون الملك الموكل بعذابه؟ إنه فوق الوصف، فاذكر هذا وق نفسك وأهلك إن كان لك أهل. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

النداء التسعون: في وجوب التوبة من كل ذنب وعلى الفور وأن تكون التوبة نصوحا، رجاء مغفرة الذنوب ودخول الجنة

النداء التسعون: في وجوب التوبة من كل ذنب وعلى الفور وأن تكون التوبة نصوحا، رجاء مغفرة الذنوب ودخول الجنة الآية (8) من سورة التحريم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . الشرح: اعلم أيها القارئ الكريم أن هذا آخر نداء من نداءات الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه في كتابه العزيز القرآن الكريم ناداهم إكراما لهم، وإنعاما عليهم ليأمرهم بما يزكى أنفسهم ويطهر أرواحهم، ولينهاهم عما يخبث أرواحهم وبدسي نفوسهم، إذ بطهرهم يتأهلون للنزول بدار السلام حيث النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، إذ أخبر تعالى به في قوله من سور ة النساء: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} قد ناداهم سبحانه وتعالى في هذا النداء الأخير ناداهم ليأمرهم بالتوبة إليه سبحانه وتعالى؛ إذ قال وقوله الحق وله الملك وهو على كل شئ قدير {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} أي ارجعوا إليه بذكره وشكره وحسن عبادته رجوعا صادقا أنتم فيه ناصحون لأنفسكم غير خادعين لها ولا غاشين إذ

من الخداع للنفس والغش أن يقلع العبد عن الذنب فتطهر نفسه ثم يعاود الذنب ويرجع إليه فيعظم خبث النفس ويكثر، إذ التوبة النصوح هي التي لا يعاود صاحبها الذنب الذي تاب منه، ولا يرجع إليه أبدا كما لا يرجع اللبن في الضرع بعد حلبه منه. وإليك أيها القارئ الكريم قائمة بمحاب الله تعالى وأخرى بمكارهه لتفعل المحبوب بشرطه، ويترك المكروه بشرطه. قائمة المحبوب لله عز وجل: 1-الإخلاص لله عز وجل في فعل المحبوب وترك المكروه، ومعنى الإخلاص أن تفعل ما تفعل وتترك ما تترك طاعة لله وخوفا منه وحبا فيه. وتترك ما تترك كذلك لا تلتفت بقلبك إلى شئ أبدا. 2-إقام الصلاة بان تؤديها في بيوت الله مع جماعة المسلمين، وأن تخشع فيها. مراعيا فيها شروطها وأركانها وواجباتها وسننها. 3-إيتاء الزكاة متى وجبت عليك لملكك مالا صامتا كالدراهم والدنانير والحبوب والثمار، أو ناطقا كالأنعام من الإبل والبقر والغنم. وبلغ مالك نصابا وحال عليه الحول إن كان غير الحبوب ولثمار. 4-صيام رمضان مع تجنب مفسداته كالغيبة وسائر الآثام والمفطرات. 5-حج بيت الله الحرام إن ملكت زادا لنفقتك ونفقة أهلك بعدك. وقدرت على المشي أو الركوب. 6-بر والديك بطاعتهما في المعروف وإيصال الخير إليهما وذلك بتقديم ما يحتاجان إليه من غذاء وكساء ودواء وإيواء. مع كف الأذى عنهما ولو بكلمة نابية بصوت مرتفع. 7-صلة رحمك بالإحسان إليهم في حدود قدرتك. 8-الجهاد في سبيل الله متى دعا إليه إمام المسلمين وعينك له. 9-الإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل. وإلى كل المسلمين بإكرامهم وعدم أذيتهم بقول أو فعل. 10-الصبر بأن تصبر على عبادة الله تعالى فلا تضجر ولا تمل. وتصبر على ما يبتليك به امتحانا لك كالمرض والجوع والخوف.

قائمة المكروه لله سبحانه وتعالى: 1-الشرك في عبادته بصرف أي شئ منها لغير الله تعالى. 2-آكل الربا وإن قل كدرهم. 3-أكل مال اليتيم. 4-عقوق الوالدين. 5-شهادة الزور. 6-قذف المؤمنين والمؤمنات بالفاحشة. 7-أذية الجار. 8-أذية المؤمنين والمؤمنات. 9-ترك محبوب لله من قائمة المحبوبات. كانت تلك بعض المحبوبات والمكروهات. فإذا تركت محبوبا منها، افعلت مكروها منها فبادر بالتوبة على الفور وهى فعل ما تركت، وترك ما فعلت وأنت تستغفر الله ونادم اشد الندم على ما تركت من محبوب الله، أو على ما فعلت من مكروه لله وأبشر بعد ذلك بما يشرك الله تعالى به في قوله: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} واعلم أن {عَسَى} من الله تفيد تحقيق المرجو وتأكيده، فأبشر بالحنة بعد تكفير السيئات. في يوم لا يخزى الله فيه النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه بأن لا يذلهم ولا يعذبهم ويعطيهم نورا يمشون فيه حتى يجتازوا الصراط ويدخلوا الجنة دار السلام. وسلام عليهم وعلى كل المرسلين وأهل الجنة أجمعين والحمد الله رب العالمين.

الخاتمة

الخاتمة بسم الله والحمد الله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد ففي يوم الاثنين الواحد والعشرين من شهر رجب سنة 1414 هـ، وفى الروضة النبوية الشريفة وفقني الله تعالى لأبيض هذه الخاتمة بيض الله وجهي ووجه كل مؤمن ومؤمنة يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، راجيا بذلك من الله تعالى أن ينفعني وينفع كل مؤمن ومؤمنة يقرأ هذه النداءات الرحمانية. أو يستمع إليها، ويجيب من دعاه وهو الله وليه ومولاه فإن أمره بأمر قام به، وإن نهاه عن شئ انتهى عنه، وإن رغبه في خير رغب فيه، وإن حذرة من شر حذره، وإن بشره بخير سر بالبشرى وحمد الله وشكر. وإن أنذره خاف وتاب واستغفر. إذ هذا شأن المؤمن الصادق الإيمان، والمسلم الحسن الإسلام المهيأ بفضل الله للجنة دار السلام. هذا ولا يفوتني أن أرغب كل مؤمن ومؤمنة في قراءة هذه النداءات الرحمانية، وحفظها وإجابة الداعي الرحمن فيها نداء بعد نداء. ولا أحسب أن مؤمنا يجد في تحصيلها حفظا وفهما وعملا يبقى في ظلام الجهل أبدا بل سيرقى إلى أفضل مستوى علمي يرفع الله تعالى إليه من يشاء من عباده المؤمنين به وبلقائه. وهنا أذكر منبها لافتا النظر على أن ما يشكوه المسلمون من فرقة وضعف وانحراف، بل وضياع وخسران مرده إلى الجهل بالله تعالى، وبمحابه ومساخطه، وما عنده لأوليائه، وما لديه لأعدائه. وأن الطريق إلى الخروج من هذه المظاهر المؤلمة المحزنة التي تعيشها أمة الإسلام منذ قرون عدة هو العلم واليقين فيه، وأن كيفية الحصول على العلم المطلوب هو أن يتعهد أهل كل حي من أحياء المدن وأهل كل قرية من القرى بأن يجتمعوا كل ليلة من المغرب إلى العشاء في مسجدهم الجامع لهم يدرسون كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وذلك طوال العام لا يتخلف رجل منهم ولا إمراة ولا ولد إلا معذورا عذرا حقيقيا. إنهم لا يمضى عليهم طويل زمن إلا وهم علماء ربانيون أولياء لله تعالى صالحون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. مع العلم أن هذا الطلب للعلم والهدى والاستقامة والرضا والحب والولاء والمودة لا يكلفهم من الجهد شيئا ولا من المال قليلا ولا كثيرا، وأمر أخر ألفت النظر إليه وهو أن العالم البشرى كله إذا دقت الساعة السادسة مساء أوقف

دولاب العمل وذهب إلى الراحة والترويح على النفس. أليس المؤمنون أولي بهذه الراحة وأية راحة هي إنها السعادة الكاملة إنها الجلوس في بيوت الله لاستمطار رحمته وتلقى الهدى والعلم من كتابه وهدى رسوله صلى الله عليه وسلم وقد وفقني ربى سبحانه وتعالى فكتبت فى هذا الأمر كتابا سميته (كتاب المسجد وبيت المسلم) ودرسته سنة كاملة بالمسجد النبوي مبينا كيفية تدريسه رجاء أن تفيق أمة الإسلام من نومها الطويل وغفلتها الطويلة العريضة. ومن فضل الله تعالى أن وفقني أيضا لكتابة هذه الرسالة (نداءات الرحمن) رجاء أن يضعها كل مؤمن قريبا من وسادة نومه فيقرأ كل ليلة قبل نومه نداء من نداءات الرحمن فيها ويعمل به حتى يصبح عالما ربانيا ذا دين وبصيره فيه وأيضا قبل هذا وأداء لواجب الدعوة والنصح لكل مؤمن ومؤمنة قد الفت كتاب (منهاج المسلم) وهو كتاب شامل جامع للعقيدة المنجية من النار، والآداب الرفيعة والأخلاق الفاضلة السامية، والعبادات والأحكام الشرعية كل ذلك رجاء أن تجتمع عليه أمة الإسلام فتنتهي بذلك الفرقة الطائفية والمذهبية. وعلى إثره وضعت دستورا إسلاميا أملا أن يضاف في الطباعة إلى كتاب (منهاج المسلم) ، فيتم به نظام الدولة الإسلامية دينا ودنيا شرعا وقانونا. ثم وضعت كتاب (عقيدة المؤمن) على ضوء كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أجل إنهاء الفرقة في العقيدة وما طرأ عليها من إفراط وتفريط كاد يطفئ نورها، ويعطل إمدادها الروحي للمؤمن بالله ورسوله فى هذه الحياة. وأخيرا فأنى وأنا في روضة الحبيب صلى الله عليه وسلم وهى روضة من رياض الجنة بالمسجد النبوي الشريف أدعو الله تعالى أن يجمع حكام المسلمين في هذه الروضة الطاهرة تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، أن يجمعهم فى يوم من الأيام فيها ويبايعوا أصلحهم لإمامة المسلمين فتصبح أمة الإسلام أمة واحدة دينا ودولة ويعهدون إلى خلاصة علماء الشريعة أن يضعوا لهم دستورا قرآنيا مستسقى من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تحكم به أمة الإسلام في سائر بلادها التي أصبحت ولايات تابعة لإمام المسلمين بالمدينة النبوية. وختاما أدعو كل مؤمن ومؤمنة أن يسأل الله تعالى تحقيق هذا الأمل وهو وحدة المسلمين في دينهم ودنياهم ليعزوا ويكملوا وينقذ الله تعالى بهم البشرية الضائعة والمدفوعة إلى الشر والشرك والخبث والفساد لينتهي أمرها إلى الخلود في عذاب النار. كما هو حكم العزيز الجبار. {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} . سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

§1/1