ميلاد مجتمع

مالك بن نبي

مالك بن نبي ميلاد مجتمع شبكة العلاقات الاجتماعية ترجمة عبد الصبور شاهين بإشراف ندوة مالك بن نبي دار الفكر الجزائر دار الفكر دمشق - سورية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مالك بن نبي مشكلات الحضارة ميلاد مجتمع الجزء الأول شبكة العلاقات الاجتماعية ترجمة عبد الصبور شاهين بإشراف ندوة مالك بن نبي دار الفكر الجزائر دار الفكر دمشق - سورية

الطبعة الثالثة 1406 هـ - 1986م

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في عام 1971م ترك أستاذنا مالك بن نبي- رحمه الله- في المحكة الشرعية في طرابلس لبنان، وصية سجلت تحت رقم 275/ 67 في 16 ربيع الثاني 1391 الموافق 10 حزيران 1971م، وقد حملني فيها مسؤولية كتبه المعنوية والمادبية. وتحملاً مني لهذه الرسالة، ووفاءً لندوات سقتنا على ظمأ صافي الرؤية، رأيت تسمية ما يصدر تنفيذا لوصية المؤلف (ندوة مالك بن نبي). وهي مشروع نطرحه كنواة لعلاقات فكرية، كان رحمه الله يرغب في توثيقها. وإنني لأرجو من أصدقاء مالك وقارئيه، مساعدتنا على حفظ حقوق المؤلف في كل ما ينشر بالعربية أو غيرها مترجماً من قبل المترجمين أو غير مترجم. فقد حمّلني- رحمه الله- مسؤولية حفظ هذه الحقوق، والإذن بنشر كتبه. فإن وجدت طبعات لم تذكر فيها إشارة إلى إذن صادر من قبلنا، فهذه طبعات غير مشروعة، ونرجو إبلاغنا عنها. طرابلس لبنان 18 ربيع الأول 1399هـ 15 شباط (فبراير) 1979م عمر مسقاوي

مقدمة

مقدمة هذه الدراسة جزء من العمل الذي نقوم بنشره تحت العنوان العام: (ميلاد مجتمع). ولكن لها بالنسبة إلى هذا العمل صفة خاصة، حبذت لدينا نشرها منفصلة تحت عنوان فرعي هو: (شبكة العلاقات الاجتماعية). وهي تشمل في الواقع بمقتضى هذا العنوان وبصورة منهجية، المفاهيم النظرية التي ترجع إليها العناصر التاريخية الخاصة بـ (ميلاد مجتمع). وقد بدا لنا من الضروري أن نفسر أولاً هذه الظاهرة عامة، قبل أن نعرضها بالنسبة للمجتمع الإسلامي خاصة. وهذا يسمح لنا أن نحدد في هذه الدراسة، شأن ما يحدث في مدخل أية دراسة، المصطلحات المستخدمة، وخاصة مفهوم لفظة (مجتمع) ذاتها. ونعتقد أننا بهذا قد استجبنا لرغبة القارئ العربي والمسلم، في الوقت الذي يحاول فيه أن يدخل إلى مسرح التاريخ، بعد أن تخطى أزمة تاريخه الكبرى، الأزمة التي نعرفها، والتي تتجلى في سباته المتطاول خلال القرون الأخيرة. فهو يحاول أن يؤدي نشاطه المشترك من جديد كما سبق أن فعل يوم كان ممسكاً بمشعل الحضارة. إننا نريد أن نعطي للقارئ العربي والمسلم فرصة التأمل في هذه المرحلة من تاريخ المجتمع، حين يولد، أو حين ينهض، وذلك بأن نريه أن النهضة الحقة تقع في ظاهرة اجتماعية عبر عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديثه المشهور: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها". القاهرة في 11 من نيسان (إبريل) عام 1962 م م. ب. ن

أوليات

أوليّات لم تبلغ العلوم الإنسانية بعد درجة تحديد مصطلحاتها عامة، كما حدث للعلوم الطبيعية، فإن في علم الاجتماع بعض المفاهيم التي تبدو أحياناً غير محددة في ذهن القارئ في البلاد الإسلامية، حيث نجد أن اللغات المحلية لا تتمثل تماماً المصطلحات الحديثة. وقد يؤدي تعقد المصطلحات إلى مناقشات أقرب إلى الطابع الأدبي منها إلى منطق العلم، كتلك المناقشة التي ثارت وتثور غالباً حول مصطلحي حضارة، ومدنية في البلاد العربية. بيد أن هذه المناقشات لا تعين على جلاء الموضوع، بل تجعله أكثر صعوبة. فمن المفيد إذن أن ننشئ أولاً الإطار النظري لموضوعنا (ميلاد مجتمع) قبل أن نعالجه من زاويته التاريخية. وهكذا نجد من المناسب أن نذكر في مستهل دراستنا تنوع الظواهر الاجتماعية، التي تنطبق عليها لفظة مجتمع، فنذكر أولاً الفرق الجوهري بين (المجتمع الطبيعي) أو البدائي، وهو الذي لم يعدّل، بطريقة مُحَسَّة، المعالم التي تجدد شخصيته منذ كان، وبين المجتمع التاريخي الذي ولد في ظروف أولية معينة؛ ولكنه عدّل من بعد، صفاته الجذرية ابتداء من هذه الحالة الأولية، طبقاً لقانون تطوره. وـ[النوع الأول]ـ يحقق نموذج المجتمع الساكن ذي المعالم الثابتة، كالمجتمعات الموجودة في مستعمرة النمل أو النحل. والقبيلة الإفريقية في عصر ما قبل الاستعمار، والقبيلة العربية في العصر الجاهلي تمثلان هذا النموذج.

أما ـ[النوع الثاني]ـ فإنه يحقق النموذج المتحرك، أعني المجتمع الذي يخضع لقانون التغيير، الذي يعدل معالمه هن جذورها. ومع ذلك فهذا النوع ليس وحيد الصورة، فهو يتنوع من جهة طريقة نشاته، ومن جهة شكل بنائه. والواقع أن المجتمع التاريخي يمكن أن ينشأ بطريقتين: فهو إما أن يتركب ابتداء من مواد جديدة، أي من مواد لم تتعرض لأي تغيير تاريخي سابق، فهو يستنفد هذه المواد، في الحالة التي تكون عليها في الطبيعة، وبهذه الطريقة نشأت المجتمعات التاريخية الأولى، إبان الثورة الزراعية في العمر الحجري الجديد. ولكن هذا النوع قد يتكون أيضاًً من عناصر استخدمت في مجتمع تاريخي سابق، تحولت عناصره المكونة له، بسبب تقادمه أو انبساط رقعته، إلى عناصر مهيأة للاستخدام في مجتمع جديد. وقد تكون الاستعارة في صورة هجرة تنزع هذه العناصر من المجتمع الأم، كالهجرة التي كونت المجتمع الأمريكي الحالي، وهو المجتمع الذي تكون من عناصر قدمها له مجتمع متحضر في حالة توسعه، هو المجتمع الأوربي في القرن السادس عشر، وكالهجرة التي كونت مجتمع الأسكيمو الذي انتزِعت عناصره المكونة له من المجتمعات المغولية الصينية في الشرق الأقصى. وقد تكون الاستعارة في صورة أخرى عندما تكون الحالة إعادة تركيب أنقاض مجتمع أو مجتمعات اختفت، ومن أمثلة ذلك أن المجتمع الروماني امتص في جيل بنائه كثيراً من المجتمعات التي اختفت، مثل المجتمع الغالي بعد معركة (أليزيا Alesia) والمجتمع القرطاجني Carthaginoise بعد معركة (زاما)، والمجتمع المصري بعد انتصار القيصر على (يومي) .. الخ.

بيد أنه مهما تكن طريقة البناء فإن ظهور مجتمع تاريخي ليس حدثاً عرضياً، بل هو نتيجة عملية تغيير مطرَدة يشترك فيها المجتمع الذي يستعير، والآخر الذي يقدم العارية، هذه العملية تتم طبقاً لتخطيط نظري عام يشتمل بالضرورة على الجوانب الآتية: أولاً: المصدر التاريخي لعملية التغيير المطردة. ثانياً: المواد التي تمر بتأثير هذا التغيير من حالتها قبل الاجتماعية، مروراً يمكن معه أن تحوزها اليد المغيرة إلى حالتها الاجتماعية الجديدة. ثالثاً: القواعد العامة أو القوانين التي تتحكم في هذا التغيير. فمن الزاوية الأولى نجد أن النموذج التاريخي من المجتمعات يتعرض أيضاً للتنوع الناشئ عن الظرف التاريخي الذي يتيح له ميلاده. وهناك من هذه الزاوية نوعان من المجتمع: أ - المجتمع التاريخي الذي يولد، فيكون ميلاده إجابة عن اختيار مفروض، تفرضه الظروف الطبيعية الخاصة بالوسط الذي يولد فيه، سواء تعرض هذا الوسط لتنوع مفاجئ، أم أن العناصر المكونة له قد واجهت فجأة ظروف وسط طبيعي جديد: ـ[وهذا هو النموذج الجغرافي]ـ. ب - المجتمع التاريخي الذي يرى النور تلبية لنداء فكرة: ـ[وهذا هو النموذج الفكري (الإيديولوجي)]ـ. وينتمي المجتمع الأمريكي إلى النوع الأول، إذ هو ثمرة هجرة أوربية، اضطرت إلى أن تتكيف مع الظروف الطبيعية في القارة الجديدة. ولقد عرضت على الشاشة قصة الاختبار الذي منح هذا المجتمع ميلاده، في صورة أفلام تناولت

موضوعاتها حياة الناس في أقصى الغرب الأمريكي ( Far-West)، وفي شخص البطل (بوفالوبيل). تلك الأفلام التي غذت خيال الجيل السابق في أوربا، وألهمته أن يختار ملابس رعاة البقر، زياً رسمياً لحركات الكشافة. أما النموذج الثاني فإليه ينتمي المجتمع الإسلامي، كما ينتمي إليه المجتمع الأوربي الأصلي، وهو الذي يعد بصورة عامة ثمرة للفكرة المسيحية. ويمكن أن نعد المجتمع السوفييتي اليوم والمجتمع الصيني من هذا النوع. وفضلاً عن هذا التنوع ذي الطابع التارخي المتصل بمنشأ المجتمع، فإن من الواجب أن نلاحظ أيضاً وجود تنوع ذي طابع تشكيلي يتصل ببناء المجتمع. وينبغي من هذه الوجهة أن نميز المجتمات التي يقوم بناؤها على طوابق كثيرة، عن المجتمعات ذات الحجر الواحد أو الطابق الواحد. والمجتمع الإسلامي الذي يعد خاصة موضوع دراستنا، هو من النموذج ذي الحجر الواحد، أعني أن بناءه قد اتخذ صورة واحده تتفق كثيراً أو قليلاً مع الحديث المشهور: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا». وهو الحديث الذي يعطي الصورة الدقيقة التي كان عليها المجتمع الإسلامي في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا التحديد الذي نضعه للمجتمع الإسلامي، لا علاقة له بالحركة المذهبية التي قسمته خلال التاريخ إلى مدارس أو طوائف. فهو تحديد مجتمع ديمقراطي يحتفظ في اتجاهاته، إن لم يكن في مؤسساته، بجوهر الديمقراطية، أعني أنه كان مجتعاً بلا طبقاًت. والتجربة الراهنة في الجمهورية العربية المتحدة هي في الواقع محاولة لإعادة التعبير عن هذا الجوهر في صورة حديثة.

أما المجتمع البرهمي، فهو على العكس من ذلك، نموذج للمجتمع المبني على طوابق، المجتمع المنقسم إلى طوائف متراكبة، حتى في داخل البناء الاجتماعي في الهند الحديثة، على الرغم من جهود غاندي. والمجتمع الأوربي في القرن التاسع عشر، يقدم لنا مثالاً آخر للتراكب الاجتماعي بين الطبقاًت المختلفة التي كان يتألف منها. فهذه إذن طائفة من الأمثلة على التنوع التاريخي أو التشكيلي في المجتمع الذي ندرسه. بيد أن في هذه الأمثلة جميعاً عدداً من الخصائص المشتركة. فالمجتمع - أيا كان نموذجه التاريخي أو التشكيلي- ليس مجرد جمع لعناصر، أو أشخاص، تدعوهم غريزة الجماعة إلى أن يتكتلوا في إطار اجتماعي معين. هذه الغريزة وسيلة لإنشاء المجتمع، وليست سبباً في إنشائه، إذ يضم المجتمع ما هو أكثر من مجرد مجموعة من الأفراد الذين يؤلفون صورته، يضم عدداً من الثوابت التي يدين لها بدوامه، وبتحديد شخصيته في صورة مستقلة تقريباً عن أفراده. ويمكن أن نفصل الأمر بطريقتين: أ - فقد يحدث في بعض الظروف التاريخية أن يفقد مجتمع ما شخصيته ويمحى من التاريخ، ومع ذلك فإن عدد أفراده قد لا يتغير في هذه الحالة، بل يحتفظ كل فرد بغريزة العيش في جماعة، وهي الغريزة التي تحدد معالم الإنسان بوصفه كائناً اجتماعياً، وإنما أصبح الأفراد مجرد أنقاض لمجتمع بائد، أنقاض مهيأة لأن تدخل في بناء جسد اجتماعي جديد. ففي أعقاب معركة (أليزيا Alésia) اختفى المجتمع الغالي، ولكن الغال أفرادا لم يختفوا، بل تحولوا إلى مواد مهيأة للدخول في بناء جسد اجتماعي آخر، هو المجتمع الروماني.

ب - فإذا حدث أن اختفى الأفراد الذين يكونون مجتمعاً ما في نهاية جيل معين، فإن المجتمع يبقى، ويحتفظ بشخصية لا يمسها شيء، كما يحتفظ بدوره في التاريخ. بل إنه يفرض على القادمين الجدد أنفسهم- حتى ولو كانوا أجانب- عبقريته وتقاليده وعاداته، وقد رأينا ذلك عندما ابتلع المجتمع الصيني قبائل المانشو والمغول، حين غزوا مملكة الصين. فالمجتمع يحمل إذن في داخله الصفات الذاتية التي تضمن اسمراره، وتحفظ شخصيته ودوره عبر التاريخ. وهذا العنصر الثابت هو المضمون الجوهري للكيان الاجتماعي، إذ هو الذي يحدد عمر المجتمع، واستقراره عبر الزمن، ويتيح له أن يواجه ظروف تاريخه جميعاً. وهو الذي يتجسد في نهاية الأمر في شبكة العلاقات الاجتماعية، التي تربط أفراد المجتمع فيما بينهم، وتوجه ألوان نشاطم المختلفة في اتجاه وظيفة عامة، هي رسالة المجتمع الخاصة به. فتكوُّن هذه الشبكة، ولو في مرحلة ابتدائية، هو الذي يعبر عن حدث (ميلاد مجتمع) في التاريخ. ***

النوع والمجتمع

النوع والمجتمع حاولنا فيما سبق أن نحدد معنى المصطلح (مجتمع)، على الأقل من الوجهة التاريخية، التي تشمل أصول الكيان الاجتماعي ومن الوجهة التشكيلية التي تتصل ببنائه. ونريد هنا أن نحدد الأمر من الوجهة الوظيفية، ولعل من نافلة القول أن نذكر أن مصطلح (مجتمع) في معناه البسيط- المعنى الأدبي الذي يعطيه القاموس- يعني: تجمع أفراد ذوي عادات متحدة، يعيشون في ظل قوانين واحدة، ولهم فيما بينهم مصالح مشتركة. وهذا تحديد خارجي وصفي، لا يعطى أدنى تفسير (للوظيفة) التاريخية التي تناط بتجمع من هذا القبيل، كما أنه لا يفسر تنظيمه الداخلي، الذي قد يكون كفئاً لأداء مثل هذه الوظيفة. فمن الضروري إذن أن نزيد في تحديد نطاق موضوعنا. ولذا ينبغي أن نستبدل بالتحديد الوصفي المقدم في الفصل السابق تحديداً جدلياً، وبعبارة أخرى: ينبغي أن نحدد (المجتمع) في نطاق (الزمن). فتجمعات الأفراد الذين لا يعدل الزمن من علاقاتهم الداخلية، ولا تتغير أشكال نشاطهم خلال المدة، لا تعد من التجمعات الخاصة التي نقصدها بمصطلح (مجتمع). والجماعات الإنسانية المقصودة منذ (ليفي بريل)، بعبارة (المجتمعات

البدائية) التي لا تتغير صورة حياتها، كما لا تتغير مستعمرات النمل خلال آلاف السنين، هذه الجماعات خارجة عن نطاق التحديد. فحياة هذه الجماعات الإنسانية تصور لنا حتى الآن مرحلة، مرت بها الإنسانية في عصور ما قبل التاريخ. وفي هذه المرحلة تتحجر الصفات الاجتماعية، ويندر تنوعها من عصر لآخر: ولو أخذنا قطاعين من حياتها الاجتماعية يفصل بينهما آلاف السنين لوجدناهما متطابقين، على ما لاحظه المختصون في (علم الأجناس)، الذين يدرسون اليوم الحياة الإنسانية في بعض أقطار إفريقية الاستوائية. وبما أن كل تغيير يطرؤ على الخصائص التشكيلية، أو يحدث في التوجيه الثقافي لجماعة إنسانية معينة، هو نتيجة مباشرة لوظيفتها التاريخية فإن كل جماعة لا تتطور، ولا يعتريها تغيير في حدود الزمن، تخرح بذلك من التحديد الجدلي لكلمة (مجتمع). وفضلاً عن ذلك فإن الجماعات التي ما زالت في هذه المرحلة الأولى من التطور، تتجه بدورها إلى الاندماج في (المجتمع العالمي)، الذي يتكون في هذه الأيام بفعل العوامل الفنية، تلك التي تدخل في ثقافة القرن العشرين مفهوم (العالمية). وأياً كان الأمر (فالمجتمع) هو الجماعة الإنسانية، التي تتطور ابتداء من نقطة يمكن أن نطلق عليها مصطلح (ميلاد). ولكن حين نتحدث عن (ميلاد) معين، فإنا نعرفه ضمناً بوصفه (حدثاً) يسجل ظهور شكل من أشكال الحياة المشتركة، كما يسجل نقطة انطلاق لحركة التغيير التي تتعرض لها الحياة. ويظهر هذا الشكل في صورة نظام جديد للعلامات بين أفراد جماعة معينة.

ومع ذلك فإن هذه الصورة الجديدة للحياة المشتركة قد تبدأ بفرد واحد، يمثل في هذه الحالة نواة المجتمع الوليد، وذلك بلا شك هو المعنى المقصود من كلمة (أمة)، عندما يطلقها القرآن الكريم على إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النمل: 16/ 120] ففي هذه الحالة نجد أن المجتمع (الأمة) يتلخص في (إنسان واحد)، أي أنه يتلخص في مجرد احتمال حدوث تغيير في المستقبل، ما زال في حيز القوة، تحمله فكرة يمثلها هذا (الإنسان). فلكي نعطي لموضوعنا تعريفاً منطقياً، ينبغي ان نربطه بمعامل الزمن، ربطاً نحدد معه لهذا العامل دلالته النفسية والاجتماعية. ومن هذا الوجه يصبح المجتمع هو: الجماعة التي تغير دائماً خصائصها الاجتماعية بإنتاج وسائل التغيير، مع علمها بالهدق الذي تسعى إليه من وراء هذا التغيير. ومن الحقائق المقررة في علم الكيمياء منذ درس العلماء المركبات المتشابهة الجوهر Isomères، أن الأجسام قد تتماثل في التركيب الكيميائي دون أن تتشابه خصائصها. واستنبط العلماء من هذا أن مجموعة الذرات ليست مجرد كلية من المادة، بل هي تنظيم هذه المادة طبقاً لنظام معين؛ فاختلاف الخصائص في الكيمياء إنما يرجع في الحقيقة إلى اختلاف التنظيم الداخلي، أو بتعبير أوضح اختلاف الهندسة الداخلية. والأمر كذلك بالنسبة للمجتمع، فهو ليس مجرد مجموعة من الأفراد، بل هو تنظيم معين ذو طابع إنساني يتم طبقاً لنظام معين. وهذا النظام في خطوطه العريضة يقوم بناء على ما تقدم على عناصر ثلاثة: " 1 " حركة يتسم بها المجموع الإنساني. " 2 " وإنتاح لأسباب هذه الحركة. " 3 " وتحديد لاتجاهها.

فهذه هي العوامل الثلاثة التي يدين لها مجموع إنساني معين، بخصائصه الاجتماعية التي تحيله (مجمتعاً) بالمعنى المنطقي للكلمة. والواقع أن فكرة الحركة، تلك التي تتطابق مع مفهوم التغير والتطور، تعد عنصراً جوهرياً في التعريف في علم الاجتماع. وهذه الفكرة نفسها قد ساعدتنا في دراسة أخرى، على التفرقة بين فكرة (رأس المال) وفكرة (الثروة)، إذ كان المصطلح الأول يعني المال المتحرك، وكان الثاني يعني المال الساكن. وفكرة الحركة ستساعدنا هنا على التفرقة بين (المجتمع)، وبين سائر أشكال الجماعات الإنسانية، التي لا تتصف بما سبق أن أشرنا إليه من خصائص اجتماعية. ومع ذلك فإن الحركة في علم الاجتماع تستتبع فكرة ذات قيمتين: فإن تطور الجماعة يؤدي بها إما إلى شكل راق من أشكال الحياة الاجتماعية، وإما أن يسوقها عل عكس ذلك إلى وضع متخلف. وعلى أية حال فإن أمام كل مجتمع غاية، فهو يندفع في تقدمه إما إلى الحضارة، وإما إلى الانهيار. وفي مقابل ذلك نجد أنه حينما تنعدم الحركة، فإن الجماعة الإنسانية تفقد تاريخها: إذ تصبح .. ولا غاية لها. فهذا هو في نهاية الأمر المقياس الأساسي الذي يساعدنا على أن نواجه مشكلة ميلاد مجتمع معين: تكسب الجماعة الإنسانية صفة (المجتمع) عندما تشرع في الحركة، أي عندما تبدأ في تغيير نفسها من أجل الوصول إلى غايتها. وهذا يتفق من الوجهة التاريخية مع لحظة انبثاق حضارة معينة. أما الجماعات الساكنة فإن لها حياة اجتماعية دون غاية، فهي تعيش في مرحلة ما قبل الحضارة.

وخلاصة القول: إن الطبيعة توجد النوع، ولكن التاريخ يصنع المجتمع. وهدف الطبيعة هو مجرد المحافظة على البقاء، بينما غاية التاريخ أن يسير بركب التقدم نحو شكل من أشكال الحياة الراقية، هو ما نطلق عليه اسم الحضارة. ***

الآراء المختلفة في تفسير الحركة التاريخية

الآراء المختلفة في تفسير الحركة التاريخية هذه الاعتبارات التي أشرنا إليها في الفصل السابق تربط فكرة (المجتمع) بوضع متحرك ذي عناصر ثلاثة: (أ) حركة مستمرة. (ب) إنتاج دائم لأسبابها. (جـ) غايتها. لكن هذا التخطيط يحبسنا داخل الحلقة المفرغة، حلقة البيضة والدجاجة عندما نريد أن نلهو بتحديد أي منهما كان سبباً في وجود الآخر. فإذا ما ذهبنا إلى أن ((الحركة هي التي تؤدي إلى أسبابها))، وجدنا انفسنا أمام تعارض ظاهر، فإن تخطيطنا الحركي يعطينا صورة عن المجتمع في حركته، ولكنه لا يفسر الشروط الأولية لهذه الحركه. وأي وسط (إنساني) ينطوي في الحقيقة على نصيب من الخمود، شأنه في ذلك شأن أي وسط من المادة، ونحن ندل على هذا الخمود في جانب الأفراد بصيغ مختلفة: فنتحدث أحياناً عن الكسل وعن نقص الطاقة، وعن نقص الإرادة .. الخ .. كما أننا ندل عليه في الجانب الجماعي حين نتحدث عن الركود أو الكساد والتخلف .. الخ. ومعنى هذا أن كل وسط إنساني مندمج في حركته، منتج لأسباب هذه الحركة، ينطوي على عامل أساسي يقهر الخمود الفطري- طبقاً لمبدأ الميكانيكا الكلاسيكي- حين يحيل عناصر الخمود في وسط معين إلى قيم حركية.

لقد فسر كثيرون هذه الظاهرة بصور مختلفة. فـ (هيجل) يرجع الأسباب التي تحكم كل حركة تاريخية، أعني كل تغيير اجتماعي إلى مبدأ التعارض الذي يتكون من قضية ونقيضها. فحينما تنشأ الحركة طبقاً لهذه الأسباب المتعارضة، فإن غايتها تتمثل أمامه في صورة اندماج وتركيب محتوم! فهذه هي الأحوال الثلاث التي تسيطر على كل حركة تاريخية في رأي هيجل، وبالتالي يتلخص فيها كل تغيير اجتماعي. فالحالة التي توجد فيها جماعة إنسانية في لحظة معينة من تاريخها هي- في رأيه- قضية. ولكن قد تظهر خلال هذه الحركات أسباب، ذات طابع اقتصادي أو أخلاقي أو مناخي تهدف إلى تعديل اتجاهها. فبتأثير الأفعال وردود الأفعال المتبادلة يصبح الوسط مجالاً لنزعات السكون المتصلة بخموده الفطري، ونزعات الحركة التي تنشئ حالة مناقضة في طريقها إلى الظهور يتكون عنها نقيض القضية. وفكرة التعارض هذه هي التي تكون في نظر هيجل القوة المحركة التي تخلق الحركة التاريخية، التي من شأنها أن تخلق أسبابها. والاندماج أو التركيب هو الغاية المنشودة من هذا الكيان كله، ذلك الكيان الذي يجدد دورته تعارض جديد يزلزل التعادل القائم المستقر. ويعد تفسير فكرة التعارض هذه هو الميدان الذي اختلفت فيه المذاهب الفكرية الحديثة. فالفكرة الماركسية ترى أن الأسباب المتعارضة التي تؤدي إلى حدوث

التغييرات الاجتماعية ذات طابع اقتصادي: فميلاد المجتمع وشكل الحضارة الذي يتخذه ناشئان عن التعارض الاقتصادي. ومع ذلك فلو أننا طبقنا على هذه الفكرة مقياسها الاقتصادي الخاص، فستبرز أمام أعيننا حدود امتدادها على الخريطة الاقتصادية للعالم. فإن تأملنا امتداد الفكرة الماركسية باعتبارها ظاهرة اقتصادية، يدلنا على أنها ترسم منطقة اقتصادية، يقع متوسط دخل الفرد السنوي فيها تقريباً بين مئتي دولار وسبع مئة دولار، وهو المستوى الذي وصلت إليه اليابان من ناحية، وإنجلترا من ناحية أخرى. وبذلك نستطيع أن نقرر- إلى أن يثبت العكس- أن انتشار الفكرة الشيوعية، محدود داخل هذه الحدود الاقتصادية المطابقة لحدود جغرافية معينة، وأن التفكير الماركسي لم يجد وراء هذه الحدود المزدوجة ظروف تأقلمه، فهو بهذه الصورة لا يستطيع أن يقدم لنا تفسيراً معقولاً للمجالات التي لم ينتشر فيها على الخريطة. بيد أن هذه الملاحظة ذاتها تؤدي بنا ضمنا إلى نظرية (جون ارنولد توينبي)، تلك التي تحدد بدقة مشكلة الحدود التي يمكن أن يتم فيها تغيير اجتماعي معين، وهي بذلك تفسر لنا: لماذا كان مجال انتشار الفكرة الماركسية على خريطة العالم الاقتصادية واقعاً داخل حدود معينة؟ لقد اتبع المؤرخ الإنجليزي الكبير منهجاً، ينطبق في جانب منه على تخطيط هيجل، وذلك حين شبه فكرة التعارض بعقبة ذات طابع اقتصادي أو فني عبر عنها بكلمة (التحدي). وفي رأيه أن التحدي يتوجه إلى ضمير الفرد أو الجماعة، وتكون مواجهته له

بالقدر الذي تكون عليه أمية الاستفزاز وخطورته، فهناك تناسب بين طبيعة الاستفزاز وبين الموقف الذي يتخذه الضمير في مواجهته. وعلى هذا فلو افترضنا ان التحدي كان ضعيفاً ضعفاً لم يصل إلى مستوى معين، فإن (الإجابة) عليه ستكون هي أيضاً ضعيفة، وبعبارة أخرى، لا ضرورة لهذه (الإجابة)، وبذلك يفقد التحدي معناه بوصفه عاملاً في إحداث التغيير الاجتماعي. فهناك إذن حد يبدأ منه ما أطلق عليه توينبي (التحدي المناسب) الذي يستلزم نشوء (إجابة) كافية لتحريك أسباب التغيير. ثم إن فاعملية الإجابة تنمو متناسبة مع قيمة التحدي، حتى يصل إلى حد معين، فإن استمر في نموه فإنه يصبح منعدم التأثير، لأنه ينصب أمام الضمير استحالة ليس في طوقه أن يحلها. فالإجابة في مثل هذه الحال تصبح عديمة الجدوى. وهكذا يضع توينبي التغيير الاجتماعي بين حدين، لا يتم خارج نطاقهما، وذلك في حالة شبيهة بالتفريط تنشأ من نقص في التحدي، أو شبيهة بالإفراط تنشأ عن زيادته على قدر معين. وبهذه الطريقة يفسر المؤرخ الانجليزي الكبير أهم المراحل في التاريخ الإنساني، فهو يذهب إلى أن العلة في بقاء بعض الجماعات الإنسانية في حالة راكدة، لا تكون (مجتمعاً) بالمعنى المقصود من هذه الكلمة، لا تخرج عن أحد احمالين: فإما أن التحدي لم يكن كافياً لدفع طاقتها إلى إجابته، وإما أن هذه الجماعات قد عمدت إلى الفرار من طريقه؛ ثم إنه يسوق لنا أمثلة على ذلك حين يحدثنا عن الشعوب التي هاجرت إلى أعالي النيل إبان العصر الحجري الجديد، فلم تستطع أن تحدث تغييراً ذا بال في شرائط حياتها منذ ذلك الحين، لأنها قد عمدت

إلى الفرار من قسوة التحدي، أما إخوانهم الذين كانوا يعيشون في الوادي المنخفض فقد آثروا مواجهة التحدي، الذي واجهتهم به الطبيعة والمناخ فغيروا بذلك شرائط حياتهم تغييراً تاماً، ونجحوا في إقامة أول مجتمع متحضر شهده التاريخ. كذلك يورد المؤرخ الإنجليزي حالة الأسكيمو، الذين يعدون اليوم نموذجاً للجماعة الإنسانية التي لا تغير شرائط وجودها، لأن تحدي الطبيعة لها- وقد أربى على إمكانياتها وقواها- جمدها في شكل من أشكال الحياة الساكنة. وبهذه الأمثلة يرينا توينبي كيف أن نقص التحدي أو زيادته وعنفه يؤثران بصورة واحدة على قوى التاريخ الإنساني. ونحن يمكننا إلى حد ما أن نصوغ هذا الرأي الذي ذهب إليه المؤرخ صياغة جديدة في ضوء القرآن الكريم، لقد نستطيع- ما دمنا لم نصل بهذه الطريقة إلى تفسير واضح لمنشأ الحركة التي ولدت المجتمع الإسلامي وغايته التاريخية- أن نفسّر هذه الحركة بالعوامل النفسية التي حفزت القوة الروحية في هذا المجتمع، أعني شروط حركته عبر القرون. والواقع أن القرآن قد وضع الضمير المسلم بين حدين هما: الوعد والوعيد، ومعنى ذلك أنه قد وضعه في أنسب الظروف التي يتسنى له فيها أن يجيب على تحدٍّ روحي في أساسه. فالوعيد هو الحد الأدنى الذي لا يوجد دونه جهد مؤثر، والوعد هو الحد الأعلى الذي يصبح الجهد من ورائه مستحيلاً، وذلك حين تطغى قساوة التحدي على القوة الروحية التي منحها الإنسان. وبذلك نجد أن الضمير المسلم قد وضع بين حدي العمل المؤثر، وهما الحدان اللذان ينطبقاًن على مفهوم الآيتين الكريمتين:

(أ) {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 7/ 99]. (ب) {إنه لا ييئس إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 12/ 87]. وبين هذين الحدين تقف القوة الروحية متناسبة مع الجهد الفعال، الذي يبذله مجتمع يعمل طبقاً لأوامر رسالة، أعني طبقاً لغايته. في هذه الحالة الروحية صبر بلال رضي الله عنه على ما كان يلقاه من عذاب ومحن، فوجدناه وهو في قمة المحنة يرفع إصبعه وهو يكرر إجابته على تحدي قريش: ((أحد ... أحد .. ))، ولم تستطع قوة في الأرض، وما كان لها أن تستطيع أن تخفض إصبعه، إذ أن روحه، في اللحظة التي كانوا يصبون فيها العذاب على بدنه كانت منغمرة في فيض نوراني لا يوصف، هو (وعد) الحق. وقصة المرأة التي طلبت من الرسول - صلى الله عليه وسلم - إقامة حد الزنا عليها تبرز لنا قيمة الوعيد في توجيه الطاقات النفسية في حالة معينة. وربما أفدنا من هذه القصة ومن سابقتها، كيف تكون الحركة التاريخية التي تقع بين حدي- الوعد والوعيد- هادفة إلى ما هو أعلى، محلقة فوق ما هو أدنى. فالقوة الروحية التي تتطابق مع العمل المثمر الفعال تقع إذن بين حالين من أحوال النفس، لا يوجد وراءها إلا الخمول والرخاوة في جانب، واليأس والعجز في جانب آخر. وإن القرآن الكريم ليعرض لنا صورة أخاذة لهذين الحدين اللذين يضمان العمل المثمر في قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: 11/ 9 و10].

التاريخ والعلاقات الاجتماعية

التاريخ والعلاقات الاجتماعية وهكذا تحتمل فكرة (الحركة التاريخية) تفسيرات عدة، فمؤرخ كتوينبي يقدم في تفسيرها تأثير الوسط الطبيعي، وعالم الاجتماع يستطيع إذا هو اعتمد على تعاليم المدرسة الماركسية أن يغلب تأثير العامل الاقتصادي. ولكنا نجد في التحليل الأخير أن آلية الحركة التاريخية إنما ترجع في حقيقتها إلى مجموع من العوامل النفسية الذي يعد ناتجاً عن بعض القوى الروحية، وهذه القوى الروحية هي التي تجعل من النفس المحرك الجوهري للتاريخ الإنساني. وهكذا وجدنا في مستهل القرن التاسع عشر أحد كبار المؤرخين (جيزو)، يحلل الحركات التاريخية في أوربا، فيرد المشكلة إلى حدود علم الاجتماع وعلم النفس معاً. فالمؤرخ الفرنسي الكبير يرى أن التاريخ بصفته (علم ما وقع فعلاً) يمكن أن يتناول موضوعه بطريقتين: فإما أن يجد مجال دراسته في الفرد نفسه، في كل ما يؤثر في حياته، وينير من صفات إنسانيته، وإما أن يجده في الوسط الذي يحيط بهذا الفرد، أعني في كل ما يؤثر في حياة المجتمع، ويغير من صفاته، والتاريخ على أية حال ليس سوى هذا التغيير الذي تتعرض له (الذات)، والمجال الذي يحوطها على سواء. أي إنه على ما ذهب إليه علم الاجتماع: (النشاط المشترك) المستمر الذي تقوم به الكائنات والأفكار والأشياء، مطبوعاً على صفحة الزمان.

وإذا أردنا تعبيراً أدق فإنا نقول: إن صناعة التاريخ تتم تبعاً لتأثير طوائف اجتماعية ثلاث: أ - تأثير (عالم الأشخاص) ب - تأثير (عالم الأفكار) جـ - تأثير (عالم الأشياء) لكن هذه العوالم الثلاثة لا تعمل متفرقة، بل تتوافق في عمل مشترك تأتي صورته طبقاً لنماذج إيديولوجية من (عالم الأفكار)، يتم تنفيذها بوسائل من (عالم الأشياء)، من أجل غاية يحددها (عالم الأشخاص). فالعمل التاريخي بالضرورة من صنع الأشخاص والأفكار والأشياء جميعاً، ومعنى هذا أنه لا يمكن أن يتم عمل تاريخي إذا لم تتوافر صلات ضرورية داخل هذه العوالم الثلاثة لتربط أجزاءها في نطاقها الخاص وبين هذه العوالم، لتشكل كيانها العام، من أجل عمل مشترك. وكما أن وحدة هذا العمل التاريخي ضرورة، فإن توافق هذه الوحدة مع الغاية منها- وهي التي تتجسم في صورة (حضارة) - يعد ضرورة أيضاً. وهذا الشرط يستلزم كنتيجة منطقية وجود (عالم) رابع، هو مجموع العلاقات الاجتماعية الضرورية أو ما نطلق عليه (شبكة العلاقات الاجتماعية). ولقد أشرنا فيما مضى إلى أن المجتمع ليس مجرد كمية من الأفراد، وإنما هو اشتراك هؤلاء الأفراد في اتجاه واحد، من أجل القيام بوظيفة معينة ذات غاية، ونضيف الآن أن (عمل) المجتمع ليس مجرد اتفاق (عفوي) بين الأشخاص والأفكار والأشياء، بل هو تركيب هذه العوالم الاجتماعية الثلاثة، التركيب الذي يحقق معه ناتجُ هذا التركيب في اتجاهه وفي مداه (تغييرَ) وجوه الحياة، أو بمعنى أصح: تطور هذا المجتمع.

أصل العلاقات الاجتماعية

أصل العلاقات الاجتماعية ومع ذلك فإن شبكة العلاقات الضرورية لأداء العمل الاجتماعي المشترك ليست نتيجة أولية تستحدثها العوالم التي يتكون منها مجتمع معين، بل هي نتيجة لظروف والشروط التي تحدث الحركة التاريخية نفسها. ولقد رأينا أن هذه الحركة يمكن تفسيرها على أنها ثمرة لتعارض معين طبقاً لمنهج (هيجل)، أو على أنها إجابة على تحدٍّ معين على ما ذهب إليه (توينبي). والمعلوم أن أول عمل يؤديه مجمتع معين في طريق تغيير نفسه مشروط باكتمال هذه الشبكة من العلاقات. وعلى هذا نستطيع أن نقرر أن شبكة العلاقات هي العمل التاريخي الأول الذي يقوم به المجتمع ساعة ميلاد .. ومن أجل ذلك كان أول عمل قام به المجتمع الإسلامي هو الميثاق الذي يربط بين الأنصار والمهاجرين. وكانت الهجرة نقطة البداية في التاريخ الإسلامي، لا لأنها تتفق مع عمل شخصي قام به النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن لأنها تتفق مع أول عمل قام به المجتمع الإسلامي، أي مع تكوين شبكة علاقاته الاجتماعية، حتى قبل أن تتكون تكوناً واضحاً عوالمه الاجتماعية الثلاثة. فإن التاريخ إنما يبدأ في الواقع قبل أن تتكون هذه العوالم، وذلك واضح في حالة المجتمع الإسلامي ساعة ميلاده. كما أنه قد ينتهي- أحياناً- بينما المجتمع غني بما فيه من (أشخاص) و (أفكار) و (أشياء). كما قد حدث أيضاً للمجتمع الإسلامي إبان أفوله، أي عندما نجم في تطوره مركب القابلية للاستعمار. لقد كان المجتمع الإسلامي آنذاك غنياً، ولكن شبكة علاقاته الاجتماعية قد تمزقت.

وهو ما ألمح إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - دون شك- للتربية لا لمجرد الخبر- في قوله: «يوشك أن تداعى الأمم عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا، بل أنتم كثير، ولكنم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور أعدائكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. قيل: وما الوهن يا رسول الله .. ؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت». لقد كان هذا الحديث ضرباً من التنبؤ والاستحضار: استحضار صورة العالم الإسلامي بعد أن تتمزق شبكة علاقاته الاجتماعية، أي عندما لا يعود مجتمعاً، بل مجرد تجمعات لا هدف لها كغثاء السيل. ولا ريب أن جيلنا الحاضر يدرك هذا الحديث أكثر مما كان يدركه أصحاب النبي، لأنه يصف في مضمونه العالم المستعمر والقابل للاستعمار، الأمر الذي تعرضنا فيه لتجربة شخصية. ومهما يكن من شيء، فإن أحداً من الناس لا يستطيع أن يدعي أن هذه العلاقات مجرد أثر ناتج عن إضافة أشخاص وأفكار وأشياء إلى المجتمع. فالواقع أننا حين نتحدث عن عالم من هذه العوالم الثلاثة، فإنما نقصد إلى الحديث عن المجتمع في مرحلة من مراحل تغييره، أي في مرحلة يعد كل عالم منها- في ذاته- ثمرة هذا التغيير. (فالشخص) في ذاته ليس مجرد فرد يكون النوع، وإنما هو الكائن المعقد الذي ينتج حضارة. وهذا الكائن هو في ذاته نتاج الحضارة، إذ هو يدين لها بكل ما يملك من أفكار وأشياء. وبعبارة أخرى كل من العوالم الاجتماعية الثلاثة يتفق مع الصيغة التحليلية التالية: ناتج حضارة = إنسان + تراب + وقت

هذه العلاقة العضوية التاريخية الأساسية تتجلى في كل عنصر من عناصر المجتمع الثلاثة لتؤكد وحدة تأثيره منفرداً، كما تتجلى في علاقاته بالعنصرين الآخرين لتؤكد وحدة تأثيرها مجتمعة. وهي تتجلى خاصة في الإطار الشخصي للفرد، حين تقدم له بصورة ما جوهر نظام علاقاته الاجتماعية؛ وخلاصة القول إن أصل شبكة العلاقات الاجتماعية- الذي يتيح لمجتمع معين أن يؤدي عمله المشترك في التاريخ- إنما يكمن في تَخلُّقِ تركيبه العضوي التاريخي. وعلى هذا فإن تاريخ هذا التركيب هو الذي يفسر أصله، كما يحدد في الوقت نفسه طبيعة العلاقات الاجتماعية لحظة نشوئها. ***

طبيعة العلاقات

طبيعة العلاقات لو أننا وجدنا في مكان معين وفي زمن معين، نشاطاً متآلفاً من الناس والأفكار والأشياء دلنا ذلك على أن الحضارة قد بدأت في هذا المجال، وأن تركيبها قد تم فعلاً (في عالم الأشخاص). إن العمل الأول في طريق التغيير الاجتماعي هو العمل الذي يغير الفرد من كونه (فرداً) (( Individu)) إلى أن يصبح (شخصاً) (( Personne)) وذلك بتغيير صفاته البدائية التي تربطه بالنوع إلى نزعات اجتماعية تربطه بالمجتمع. هذه العلاقات الخاصة بعالم (الأشخاص) هي التي تقدم الروابط الضرورية بين الأفكار والأشياء، في نطاق النشاط المشترك الذي يقوم به مجتمع ما. واجتماع الأشخاص في أي ظرف وفي أي مكان، هو التعبير المرئي عن هذه العلاقات في مجال معين من مجالات النشاط الاجتماعي. وجميع صور هذا الاجتماع- سواء كانت في هيئة تظاهرة أم مدرسة، أم جيش أم مصنع أم نقابة أم سينما .. هي تعبير عن شبكة هذه العلاقات في صور مختلفة. فالاجتماع الذي يتمثل فيه أول عمل يؤديه مجتمع إبان ميلاده يترجم ترجمة صادقة وقوية عن شبكة علاقاته. وأصدق ما يدل على ذلك في المجتمع الإسلامي اجتماع المسلمين في المسجد، في صلاة الجمعة مثلاً، فهذا الاجتماع يحمل في مضونه أكبر المعاني التي تذكره بميلاده: فهو رمزه وتذكاره.

هذه القيمة الرمزية والتذكارية لاجتماع الأشخاص موجودة في جميع المجتمعات ذات النموذج العقيدي، وهي متمثلة في المجتمع المسيحي في اجتماعات الأحد، التي تذكر بعهد المغارات الرومانية الأولى. كما أنها موجودة في المجتمع السوفييتي، حيث يتذكر الناس بمشيتهم العسكرية، وأناشيدهم الوطنية، كل عام في الميدان الأحمر، الاجتماعات العمالية الأولى، قبل السابع عشر من تشرين الأول (أكتوبر) 1917. بيد أن جميع العلاقات السائدة بين الناس تعد علاقات ثقافية، أعني أنها خاضعة لأصول ثقافة معينة، على ما ذهبنا إليه في دراسة سابقة، حيث قلنا: إن الثقافة هي المحيط الذي يصوغ كيان الفرد، كما أنها مجموع من القواعد الأخلاقية والجمالية .. إلخ. فإذا تناولنا مثلاً لوناً من الألوان باعتباره يعطي صبغة معينة في محيط ما، فإنه يعد من هذه الناحية علاقة جمالية. ومن الأمثلة على ذلك أننا نختار لون ملابسنا كيما ((يروق منظرنا في أعين الآخرين))، أو على الأقل، حتى لا ينفروا منا؛ وبهذا يظهر لنا أن الحديث عما يسمى (اللون المحلي) ليس عديم الجدوى: إذ هو اللون الذي يطبع (المحيط) في وسط معين. ولو أننا التقطنا صورة جمهور من الناس تعداده مئة ألف مثلاً، فستظهر الصورة لوناً غالباً يشيع خاصة في جو المكان الذي أخذت فيه. فلو كانت الصورة لأحد الأماكن- أينما كان على طول المحور من واشنطن إلى موسكو، فتبدو لعين الناظر قاتمة، لأن السواد هو اللون الخاص بذلك المحيط الثقافي. أما إذا كانت لأحد الأماكن على طول المحور من طنجة إلى جاكرتا- فإنها ولا شك ستكون شاحبة- لأن البياض هو اللون الخاص بذلك المحيط الجديد. وكل ما فعلته الصورة في كلتا الحالين هو أنها أظهرت العلاقة الجمالية الخاصة في وسط معين.

وهناك أيضاً العلاقة الاقتصادية، وهي التي تتجلى في وسط تم فيه تقسيم العمل، نتيجة لاكتمال التركيب العضوي التاريخي لعناصر: الإنسان والتراب والوقت. وبذلك نستطيع أن نقرر عامة أن كل ما يكون صلة من أي نوع في نطاق العوالم الثلاثة: عوالم الأشخاص والأفكار والأشياء، أو بينها، هو في الحقيقة علاقة مشروطة بوجود ثقافة، وبالتالى تكون جميع أشكال الاتصال الفكري، كالفن أو اللغة- من باب أولى- علاقة اجتماعية. وجدير بالملاحظة أن نذكر أن المدرسة الماركسية ترجع الشبكة الاجتماعية بأكملها إلى المخطط الاقتصادي، وهي تجعل العلاقات الاقتصادية في المجتمع، أساساً يقوم عليه نشاطه المشترك. ولا ريب أنه ينبغي أن تدور مناقشة النظرية الماركسية في هذه النقطة، في الاتجاه الذي سلكناه في كتابنا (مشكلة الثقافة) (¬1). والواقع أن هناك نقطة مشتركة بيننا وبين المصطلحات الماركسية. فلقد قررنا فيما يتعلق بمفهوم كلمة (ثقافة) أن النظرية الماركسية ليست مخطئة، ولكنها ناقصة بالنسبة إلينا، لأنها بهذه الصورة لا تسمح لنا أن نحقق بناء نموذج الثقافة الخاصة بنا على هذا التعريف. وليس لدينا- على هذا- فيما يتعلق بالتعريف الماركسي أية مقدرة على التفسير، إلا في حدود تعبير النظرية نفسه، التي تظل بالنسبة إلينا، وفي حدود هذا التعبير، غير مفهومة وغير قابلة للتطبيق، على حين أنها بعكس ذلك تماماً، فهي مفهومة وصالحة للتطبيق بالنسبة للماركسي، على ما تؤكد له تجربته اليومية ذاتها، إذ هو يجد في ذهنه العناصر التي تكمل التعريف، وتمنحه فاعليته عند التطبيق في وسطه. ¬

_ (¬1) انظر كتابنا (مشكلة الثقافة).

وتلك مع ذلك حالة خاصة لمشكلة عامة، وهي تترجم عن الفرق بين الفكرة المعروضة، ذات الطابع الشخصي الذي ينسبها إلى واضعها، بوصفها كانت نتاج عقله، وصورة خاصة لرؤيته الأشياء، وبين الفكرة المفروضة، ذات الطابع غير الشخصي، لأنها تنبثق عن اتجاه في الفلسفة خاص بوسط اجتماعي بأكمله، انبثاقاً يمكننا معه تعريفه بأنه صورة الفكر العام في هذا الوسط، أو بحسب تعبير (والترشوبارت Walter Shubart) روحه الموهوبة التي تنتسب إلى الخلود. هذا الروح الماركسي لا يظهر في براهين الماركسية، وإن كانت هي التي تجعلها مفهومة قابلة للتطيق في المجتمع الماركسي. فإذا قال ماركسي: إن من الممكن تطوير مجتمع معين بالتأثير في ظروفه الاقتصادية، كانت هذه العبارة كاملة في عقله، صادقة في تجربته اليومية. أما بالنسبة لنا فهي عبارة جوفاء، لا تثبت تجربتنا الشخصية أو الاجتماعية منها شيئاً. وأنا أرى مثلاً تأثير عامل اقتصادي قوي كالبترول، على تطور بعض البلاد العربية، منذ ربع قرن، وأراني مضطراً في ضوء هذه التجربة وغيرها إلى رفض الفكرة الماركسية: فإن البترول لم يعجز عن رفع المستوى الاجتماعي في هذه البلاد فحسب، بل لقد هبط بهذا المستوى، بما في ذلك القيم الأخلاقية. حتى إنه في بلد يعتمد على البترول كالعربية السعودية، دوى فيه منذ حوالى ثلاثين عاماً نفير الفكرة الوهابية، وهي التي كان جيلنا ينظر إليها على أنها خميرة البعث العربي والنهضة الإسلامية، في مثل هذا البلد لم يكن للبترول- من وجهة نظر التاريخ- سوى نتيجة واحدة هي: أنه أحرق الفكرة الوهابية (¬1). ¬

_ (¬1) هذه النظرة تعود إلى تاريخ وضع الكتاب عام 1962، وهي بالطبع لا تعكس أي رأي للمؤلف يتعلق بتطور العربية السعودية في السنوات العشر الأخيرة. ((الناشر)).

اللهم إلا إذا قررنا أن للحركة الرجعية والحركة التقدمية في نظرة الماركسي المعنى نفسه، فنحن مضطرون إلى القول أخيراً: إن المجتمع لا يخضع في تطوره لحكم العوامل الاقتصادية وحدها. بيد أننا نبادر إلى القول: إن البرهان الماركسي صحيح، مؤكد لفاعليته في واقع الحياة العملية، لأنه مكمل في هذا الواقع بالروح الذي يحرك الأشخاص والأفكار والأشياء، وهي العناصر التي تؤدي (النشاط المشترك) في البلاد الشيوعية وغيرها. ولا شك أن هذا (الروح) الماركسي هو الذي يخلق بين الأشخاص العلاقات الفردية التي تدفعهم إلى المشاركة في هذا النشاط. فإذا حدث في لحظة معينة أن زادت فاعملية هذا النشاط المشترك- صانع التاريخ- أو نقصت فإن المؤرخ يستطيع أن يعبر بطرق كثيرة عن هذه الظاهرة الاجتماعية، فمثلاً يمكنه أن يعزوها إلى تغيير في الظروف الاقتصادية، حين ينظر إلى الأمور من وجهة النظر الماركسية. ويمكن أيضاً أن يعزوها إلى تغيير في الظروف الثقافية عامة، حين ينظر إليها من وجهة نظر مادية دون أن يبالغ في هذه المادية. فهذان التحديدان مختلفان متقابلان، يعبر كل منهما عن جانب خاص من الظاهرة، وما لا يتضمنان تعبيراً عن التغيير الأساسي في (الروح)، الذي يعد كل تغييرآخر بالنسبة إليه مظهراً جزئياً من مظاهره، وعرضاً من أعراضه. وهكذا يترجح لدينا أن نعزو الظاهرة المذكورة إلى تغيير في (شبكة العلاقات الاجتماعية). وبهذه الطريقة نتناول التغيير في مجموعه حين نعبر عنه تعبيراً جذرياً فنقول إن: (شبكة العلاقات الاجتماعية) تغيرت، فكانت هذه هي النتيجة الأولى الرئيسية لـ (روح) المجتمع.

وإن الطبيعة لتمدنا في هذا الصدد بمثال رائع، فهي لا تجري التغييرات الحيوية في الكائن الحي، تلك التغييرات التي تحفظ حياته، حين تقدم إليه المنتجات العضوية، في صورة كميات من المادة، إذ الواقع أن هذه المادة لا تتغير طبيعتها خلال العمليات الحيوية، فالإيدروجين يظل كما هو عند تمثيل عناصر الغذاء في خلايا الجسم، والكربون يظل كربوناً. فليست العناصر إذن- أعني المادة- هي التي تتغير في عملية التمثيل، ولكنها العلاقات الكائنة بين هذه العناصر وحدها. والحياة الحيوانية والنباتية هي الأخرى خاضعة لهذه العلاقات، فضلاً عن مادة العناصر العضوية ذاتها، وبذلك يمكننا أن نرى في النظام الحيوي (البيولوجي)، أعني في عمل الطبيعة ذي الأهمية البالغة، كيف يجري تغيير الطاقة إلى مادة، بواسطة الكائن الحي، تماماً كما يحدث في نطاق النظام الطبيعي، طبقاً لنظرية (انشتين). كذلك الأمر في الحياة الاجتماعية: فإن التغييرات التي تتم فيها لا يصح أن تعزى ابتداء إلى (المادة الاجتماعية) أعني: الاقتصاد وكل ما يتصل بالعمل الحسي، وإنما تعزى إلى (العلاقات) التي تحول الشروط السابقة للظاهرة الاقتصادية ذاتها، حين توحد عناصرها في خلق حياة إنسانية منظمة، من أجل الاضطلاع ببعض الوظائف الاجتماعية، في نطاق (العمل المشترك) الذي يصنع التاريخ. ***

الثروة الاجتماعية

الثروة الاجتماعية لا يقاس غنى المجتمع بكمية ما يملك من (أشياء)، بل بمقدار ما فيه من أفكار. ولقد يحدث أن تلم بالمجتمع ظروف أليمة، كأن يحدث فيضان أو تقع حرب، فتمحو منه (عالم الأشياء) محواً كاملاً، أو تفقده إلى حين ميزة السيطرة عليه، فإذا حدث في الوقت ذاته أن فقد المجتمع السيطرة على (عالم الأفكار) كان الخراب ماحقاً. أما إذا استطاع أن ينقذ (أفكاره) فإنه يكون قد أنقذ كل شيء، إذ أنه يستطيع أن يعيد بناء (عالم الأشياء). لقد مرت ألمانيا بتلك الظروف ذاتها، كما تعرضت روسيا لبعضها، إبان الحرب العالمية الأخيرة. ولقد رأت الدولتان- وخاصة ألمانيا- الحرب تدمر (عالم الأشياء) فيهما. حتى أتت على كل شيء تقريباً. ولكنهما سرعان ما أعادتا بناء كل شيء، بفضل رصيدهما من الأفكار. هذا البناء هو في ذاته نوع من العمل المشترك الذي يقوم به مجتمع معين، ولقد رأينا فيما تقدم أن تمام هذا العمل ضرب من المستحيل، ما لم تكن هناك شبكة العلاقات التي تنظمه، وتجعله سبيلاً إلى غاية معينة. وبذلك نستنتج أن ثروة الأفكار وحدها ليست بكافية، كما دلنا على ذلك تاريخ المجتمع الإسلامي في موقفين. فعندما بدأ هذا المجتمع دخوله حلبة التاريخ في القرن السابع الميلادي كان (عالم أفكاره) ما زال جنيناً غامضاً، إذا ما قيس بالمجتمعات المتحضرة التي غزاها وهزمها في مصر وفي فارس وفي الشام.

فإذا ما نظرنا إليه وقد أخذ بعد ذلك بستة قرون يترنح في مهاوي التدهور والانحطاط، وجدناه يملك أغنى مكتبات العالم آنذاك .. !! .. لقد انهار تحت ضربات شعوب حديثة العهد بالوجود، كالإسبانيين الذين كان (عالم أفكارهم) لا يزال فقيراً نسبياً. وبذلك نرى أن المكتبات لا تغني من الهزيمة شيئاً. ففاعملية (الأفكار) تخضع إذن لشبكة العلاقات، أي إننا لا يمكن أن نتصور عملاً متجانساً من الأشخاص والأفكار والأشياء دون هذه العلاقات الضرورية. وكما كانت شبكة العلاقات أوثق، كان العمل فعالاً مؤثراً. وعليه، فإذا كانت ثروة مجتمع معين يتوقف تقديرها على كمية أفكاره من ناحية، فإنها مرتبطة بأهمية شبكة علاقاته من ناحية أخرى. والحد المثالي للتطور الاجتماعي الذي يمكن أن يبلغه مجتمع ما، متوقف على الحالة التي يحقق فيها هذا المجتمع أفضل الظروف النفسية الزمنية لأداء نشاطه المشترك. وهذا يحدث بوجه عام عندما يكون المجتمع في حالة النشوء: كالمجتمع الإسلامي في العهد المدني، وكالمجتمع المسيحي في مغارات روما، إذ إنه في هذه الحالة يحقق أرفع درجات الاندماج والانسجام، فيكون التوتر الأخلاقي قد بلغ ذروة درجاته. ويبلغ المجتمع الحد النهائي في تطوره عندما يفقد بالتدريج خاصة الانسجام، فيتفرق أفراده ذرات، ويصبح في نهاية تحلله عاجزاً تماماً عن أداء نشاطه المشترك. أي إنه يتوقف عن أن يكون (مجتمعاً) بالمعنى الدقيق الذي نقصد إليه من هذه الكلمة في عرضنا. وطبيعي أن نجد العناصر الوظيفية في المجتمع تتغير بين هذين الحدين، في

الاتجاه نفسه. ويمكننا أن نمثل هذا التطور بطريقتين: من ناحية الكم بوساطة معادلة تترجم عن عدد العلاقات التي تحتويها شبكة العلاقات الاجتماعية، ومن ناحية الكيف بوساطة معادلة تترجم عن المستوى النفسي الزمني، أو بعبارة أخرى: عن فاعملية هذه الشبكة. وأساس الترجمة الكمية متمثل في عدد العلاقات التى تربط الفرد بغيره من أعضاء الجماعة، في لحظة معينة من تطور الجماعة. فإذا كان المجموع الكلي للأفراد أعضاء الجماعة هو (ن)، فإن فرداً واحداً يستطيع أن يحوز عدداً من العلاقات هو (ك)، هكذا: ك = ن - س وإذن فالمجموع الكلي للأفراد (ن) الذي يكون الشبكة الاجتماعية في مجموعها، مع اشتمالها على المجموع الكلي للعلاقات هو (ل) هكذا: ل = ن ك = ن (ن - س) والعدد (س) هو الذي يمثل- كما نرى- دليل التطور من ناحية الكم. وقيمة هذا العدد تقع بالضرورة بين حدي التطور الاجتماعي الذي أشرنا إليه، كما أنها تدل عليهما. فهي إذن بالضرورة واقعة بين (أ) و (ن)، أو بتعبير الجبر: ن > س > أ وعليه فإذا ما بلغ المجتمع ذروة نموه فإن شبكته الاجتماعية تكون: ل1 = ن (ن - أ)، أعني الحد الأقصى. وهذه هي الحالة التي يشير إليها حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً». وهو قول يعكس حالة المجتمع الإسلامي الأول، حين حقق بالمدينة نموذج

المجتمع المنسجم في طبقة واحدة، وكان كل فرد مرتبطاً ارتباطاً واقعياً بكل الآخرين من أعضاء المجتمع بوساطة علاقات شخصية. أما حين يبلغ المجتمع نهاية تحلله فإن شبكته الاجتماعية تكون على صورة: ل2 = ن (ن - ن) = صفر. أي إن الشبكة الاجتماعية قد بليت، فلم تعد قادرة على مواجهة نشاط مشترك، غدا منذئذ مستحيلاً. والواقع أن هذا الانتقال من الحالة المثالية إلى الحالة النهائية يحدث في هيئة انفصال داخلي، تنشأ عنه ألوان من التمزق في الجسد الاجتماعي، أو صدوع وثغرات في انسجامه وتوافقه. والعدد (س) الذي يرمز إلى كمية هذه الثغرات والانفصالات يدل إذن وبصورة ما على الفراغ الاجتماعي، وهو ينطبق من الوجهة العددية على درجة الافتقار في الشبكة بأكملها. ويمكن التعبير عن هذا التطور بطريقة أخرى، من ناحية الكيف، في الرسم البياني الذي يترجم عن الدورة التطورية التي تمر بها كل حضارة (¬1). والمراحل الثلاث في هذه الدورة تعبر عن الأدوار الثلاثة التي يمر بها المجتمع: الحالة الكاملة، فيها تكون جميع الخصائص والملكات تحت سيطرة (الروح)، ومتصلة بالاعتبارات ذات الطابع الميتافيزيقي. والمرحلة التالية هي المرحلة التي تكون فيها جميع الخصائص والملكات تحت سيطرة (العقل) خاصة، ومتجهة نحو المشكلات المادية. أما المرحلة الثالثة فتصور نهاية تحللها تحت سلطان (الغرائز) المتحررة من وصاية الروح والعقل، وفيها يصبح النشاط المشترك مستحيلاً، ضارباً بأطنابه في أغوار الفوضى ¬

_ (¬1) يجد القارئ تخطيط هذه الدورة في صفحة 55 من هذا الكتاب.

والاضطراب، وهو ما نجده في حالة المجتمع الإسلامي في الأندلس، في العصر المشؤوم المسمى بعصر (ملوك الطوائف). ومن الممكن أيضاً أن نصف هذه العصور المختلفة للنمو الاجتماعي حين ندل عليها بتخطيط ثقافي، هو الذي أوردنا تحليله في كتابنا (مشكلة الثقافة). والواقع أن بإمكاننا أن نعد كل مرحلة من مراحل النمو الاجتماعي متميزة بغلبة عنصر ثقافي محدد. وبديهي أن تكون ثقافة أي مجتمع ناشئ ثقافة أخلاقية. وعلى عكس ذلك حالة المجتمع لحظة أفوله، إذ نجده يفرق في نزعة جمالية تبتعد قليلاً قليلاً عن أصول الجمال الحق. ومن ناحية أخرى ينبغي ان نذكر أن المجتمعات الحديثة تحقق انسجامها وتوافقها حين تنشئ شبكة علاقات حكومية، غير شخصية، وهي شبكة منبسطة وكاملة بقدر الإمكان. وما صناديق التأمينات الاجتماعية في البلاد المتقدمة إلا صورة مادية لهذه الشبكة. وبديهي أن الدولة التي تحقق في هذا النطاق التقدم الانساني في أعظم أشكاله هي التي تحقق شبكة العلاقات الاجتماعية على أقرب ما تكون من التي نسجها الإسلام في العهد المدني. ***

المرض الاجتماعي

المرض الاجتماعي وهكذا الأمر دائماً، فإذا ما تطور مجتمع ما على أية صورة، فإن هذا التطور مسجل كماً وكيفاً في شبكة علاقاته .. وعندما يرتخي التوتر في خيوط الشبكة، فتصبح عاجزة عن القيام بالنشاط المشترك بصورة فعالة، فذلك أمارة على أن المجتمع مريض، وأنه ماض إلى نهايته. أما إذا تفككت الشبكة نهائياً، فذلك إيذان بهلاك المجتمع، وحينئذ لا يبقى منه غير ذكرى مدفونة في كتب التاريخ. ولقد تحين هذه النهاية والمجتمع متخم بالأشخاص والأفكار والأشياء كما كانت حال المجتمع الإسلامي في الشرق، في نهاية العصر العباسي، وفي الغرب، في نهاية عصر الموحدين. وربما كانت هذه الحالة من التحلل والتمزق في المجتمع الإسلامي- حين أصبح عاجزاً عن أي نشاط مشترك- هي التي أشار إليها قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يوثك أن تداعى الأمم عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ - قال: لا .. بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من قلوب أعدائكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل وما الوهن يارسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت». ولكن هذا ليس خاصاً بالمجتمع الإسلامي، فعندما اختفت الامبراطورية

الآشورية القوية في القرن الخامس قبل الميلاد لم يكن هذا الحدث التاريخي ليعزى إلى صدفة الحرب، ولكن إلى تحلل المجتمع الذي كان يمثل هذه الإمبراطورية، والذي أصبح فجأة عاجزاً عن أي نشاط مشترك. فشبكة علاقته المتمزقة لم تعد تتيح له أن يحافظ على إمبراطورية (آشور بانيبعل) القوية. ومع ذلك فقبل أن يتحلل المجتمع تحللاً كلياً، يحتل المرض جسده الاجتماعي في هيئة انفصالات في شبكته الاجتماعية، للأسباب التي ذكرناها كماً وكيفاً. وهذه الحالة المرضية قد تستمر قليلاً أو كثيراً، قبل أن تبلغ نهايتها في صورة انحلال تام. وتلك هي مرحلة التحلل البطيء الذي يسري في الجسد الاجتماعي. بيد أن جميع أسباب هذا التحلل كامنة في شبكة العلاقات، فلقد يبدو المجتمع في ظاهره ميسوراً نامياً، بينما شبكة علاقاته مريضة، ويتجلى هذا المرض الاجتماعي في العلاقات بين الأفراد. وأكبر دليل على وجوده يتمثل فيما يصيب (الأنا) عند الفرد من (تضخم) ينتهي إلى تحلل الجسد الاجتماعي لصالح الفردية، عندما يختفي (الشخص) أو خاصة عندما يسترد (الفرد) استقلاله وسلطته في داخل الجسد الاجتماعي. فالعلاقات الاجتماعية تكون فاسدة عندما تصاب الذوات بالتضخم فيصبح العمل الجماعي المشترك صعباً أو مستحيلاً، إذ يدور النقاش حينئذ لا لإيجاد حلول للمشكلات، بل للعثور على أدلة وبراهين. في حالة الصحة يكون تناول المشكلات من أجل علاجها هي، أما في الحالة المرضية فإن تناولها يصبح فرصة لتورم (الذات) وانتفاشها، وحينئذ يكون حلها مستحيلاً، لا لفقر في الأفكار أو في الأشياء، ولكن لأن شبكة العلاقات لم تعد أمورها تجري على طبيعتها.

وفي هذه المرحلة أيضاً لا يهتم أحد بالمشكلات الواقعية، كما كان يفعل أئمة الفقه الإسلامي، بل يكون الاهمام منصباً على مشكلات خيالية، على ما كان عليه فقهاء (عصر الانحطاط)، حيث لم يعودوا يكبون على المشكلات التي يثيرها نمو المجتمع، بل على حالات (خيالية محضة) كالبحث في جنس الملائكة، أو كالتوضؤ من وطء البهيمة. وبوسعنا أن نتخيل ما كان يمكن أن يحدث- في مجتمع مريض- لو أن خليفة من طراز عمر بن الخطاب أراد أن يعزل رجلاً كخالد بن الوليد من قيادة جيش الشام!! إن محاولة كهذه كانت كفيلة بزلزلة العالم الإسلامي لو أنها حدثت بعد ذلك بقرنين أو ثلاثة قرون فحسب. ولكن (الأنا) الإسلامية كانت في العهد الأول سليمة سوية، فكان (فعل) عمر دون عقدة، وكان (رد فعل) خالد دون عقدة أيضاً. لأن علاقاتهما كانت علاقات سوية منزهة. ومن الوقت الذي تظهر فيه العقد النفسية على صفحة (الأنا) في مجتمع معين، يغدو عمله الجماعي صعباً أو مستحيلاً. وهنا يحق لنا أن نطلق على هذه الحالة (مأساة اجتماعية Socio-drame) على ما ذهب إليه (مورينو) (¬1). وهي مأساة اجتماعية في مستوى: ن (ن - س) من علاقات اجتماعية. وعلى هذا، فإذا ما درسنا أمراض مجتمع معين، من مختلف جوانبه الاقتصادية والسياسية والفنية .. الخ .. فإننا ندرس في الواقع أمراض (الأنا) في هذا المجتمع، وهي الأمراض التي تتجلى في لا فاعملية شبكته الاجتماعية. وعندما ننسى أو نغفل هذا الاعتبار النفسي فإن حكمنا يكون على ظواهر الأشياء لا على جواهرها. ¬

_ (¬1) عالم نفسي يعد مؤسساً للمدرسة الأميركية التي ترى أن العقد النفسية توجد بين الأفراد، على حين ترى مدرسة فرويد أنها موجودة داخل الأفراد.

وهكذا نجد بعض الساسة في بعض البلدان الافريقية والآسيوية يحاولون في الميدان الاقتصادي تطبيق حلول فنية يقترحها بعض الاختصاصيين الأوربيين، على الرغم من أن هذه الحلول قد تكون عديمة الجدوى في تلك البلاد، لأنها لا تتفق مع عناصر (الأنا) فيها، كما سبق أن بينت ذلك في كتابي (فكرة الإفريقية الآسيوية). فالحلول الفنية ينبغي إذن أن تتكيف مع نفسية البلد الذي تطبق فيه ومع مرحلة تطوره، كما أن (الأنا) ينبغي أن تتكيف طبقاً للحلول الفنية التي يحاول تطبيقها. ففي الحالة الأولى يكون تناولنا للأشياء من وجهة نظر مرضية، وفي الحالة الثانية يكون تناولنا لها من وجهة علاجية. والجانبان كلاها ينبغي ألا ينفك أحدهما عن الآخر، إذا ما أريد علاج حالة مجتمع يقاسي لوناً من ألوان الاضطراب في شبكة علاقاته الاجتماعية. وتلك حالة تستوجب أقصى ما يمكن من الاهتمام والعناية، لأن كل علاقة فاسدة بين الأفراد تولد فيما بينهم عقداً كفيلة بأن تحبط أعمالهم الجماعية، إما بتصعيبها أو بإحالتها. فالعلاقة الفاسدة في (عالم الأشخاص) لها نتائجها السريعة في (عالم الأفكار) وفي (عالم الأشياء). والسقوط الاجتماعي الذي يصيب (عالم الأشخاص) يمتد لا محالة إلى الأفكار وإلى الأشياء، في صورة افتقار وفاقة. فهناك أفكار رأت النور في المجتمع الإسلامي في القرن الرابع عشر الميلادي، كفكرة الدورة الدموية، ومع ذلك ظلت غائبة عن (عالم الأفكار) لأدق شبكة علاقاته كانت قد تمزقت. وهناك أشياء بسيطة كانت تمد جزءاً من (عالم الأشياء) مثل ما كان يطلق

عليه اسم (الجوَّال) في بغداد، في القرن العاشر الميلادي، لقد اختفى هذا (الشيء) من العاصمة العباسية بعد قرنين من الزمان (¬1). تلك هي أمارة (الافتقار) في (عالم الأشياء) في المجتمع الإسلامي، إبان تلك الحقبة. وطبيعي أن يمتد تأثير هذا الافتقار إلى تكاليف الحياة، كما تدلنا عليه قائمة الأسعار الخاصة بذلك العهد، وسنجد فيها إشارات مفيدة وهامة عن حياة المسلمين اليومية في العصور الوسطى. وقد نقلنا هذه القائمة عن كتاب الأستاذ (علي مزاهيري) الذي استقاها بدوره من الكتاب القيم الذي وضعه (مسيو هنري سوفير) في هذا الموضوع. وحسبنا أن نقبس منها الإشارات التالية الخاصة بسعر الكيلو جرام من الخبز في أسواق بغداد، وقد حسب المسيو (هنري سوفير) هذا السعر بالفرنك الذهبي: السنة .............................. كمية الخبز ................... السعر 813 ............................. 1كيلو ........................ 0،1 945 ............................. " .............................. 0،31 992 ............................. " ............................. 0،59 1152 ........................... " ............................. 7،50 فنحن نرى أن سعر الخبز قد تغير خلال ثلاثة قرون بنسبة 1 - 75. ولو أننا فسرنا هذه الظاهرة في ضوء قانون العرض والطلب فمعنى ذلك أن المنتج قد قل في سوق بغداد، وهذه القلة لا تأتي إلا من الإنتاج- أي إنها في جوهرها عائدة إلى الأرض والتوزيع- لكن صفات الأرض الطبيعية فيما بين دجلة والفرات لم ¬

_ (¬1) كان (الجوال) سلة صغيرة من نسيج معدني مزودة بسلسلة صغيرة. ويوضع فيه كمية ضئيلة من الفحم والخشب وقطعة قماش مشحمة ثم تدار السلة بسرعة فيتولد عن ذلك جمرات توقد منها النار المطلوبة.

يعترها تغير منذ آلاف السنين، فإذا كان الإنتاح قد تغير فما ذلك إلا لأسباب اجتماعية تتصل بتنسيق الأعمال الزراعية والتوزيع، أعني: لاضطراب في شبكة العلاقات. وطبيعي أن يصيب السقوط الاجتماعي أيضاً (عالم الأفكار) كما قررنا من قبل، وكما نلاحظ خاصة فيما يتصل بتراث ابن خلدون الذي ظل حروفاً ميتة في المجتمع الإسلامي حتى نهاية القرن التاسع عشر. ومع ذلك فينبغي أن نعلم أنه إذا كان لقائمة أسعار الخبز مثلاً أن تكشف عن سير هذا الانحطاط والتدهور في القرن التاسع حتى القرن الحادي عشر، فإن قائمة من القيم الخلقية المتفشية آنذاك ستكشف لنا من باب أولى عن درجة هذا الانحطاط!! .. فكلا الأمرين يفسر الآخر على حٍّ سواء. إن فن خداع المشتري قد يعود في تاريخه إلى ذلك العصر، فلقد شهد القرن الثالث عشر الميلادي بداية ظهور حرفة المحاكاة أو تقليد السلع، وذلك قبل أن تعرفها ألمانيا لأغراض أخرى بستة قرون. والواقع أنه إذا كانت ألمانيا قد اخترعتها كيما تستعيض بمواد صناعية عن المواد الأولية التي لا تجدها في زمن الحرب، فإن العصر العباسي قد لجأ إلى استخدام البدل من أجل خداع المشترين، فكان لديهم سكر بديل، بل لحم بديل. كما وضعت كتب لترشد (الهواة) إلى أسرار هذه التراكيب الكيماوية. ***

المجتمع والقيمة الخلقية

المجتمع والقيمة الخلقية هذه الاعتبارات التي فرغنا من عرضها يمكن أن تعود إلى ملاحظتين سبق أن أكدناهما، هما: 1 - أن مجتمعاً معيناً لا يمكن أن يؤدي نشاطه المشترك دون أن توجد فيه شبكة العلاقات التي تؤلف عناصره المختلفة؛ النفسية والزمنية. 2 - وأن كل علاقة هي في جوهرها قيمة ثقافية يمثلها القانون الخلقي، والدستور الجمالي الخاص بالمجتمع. فمن الطبيعي إذن أن نعد القيمة الخلقية عنصراً جوهرياً في النشاط المشترك الذي يتم بفضل وجود شبكة العلاقات الاجتماعية. هنا تواجهنا مشكلة ذات طابع تكويني هي: هل ينتج المجتمع تلقائياً القيمة الخلقية التي تدفع تغييره في اتجاه غايته .. ؟. ليكن مجال بحثنا للإجابة عن هذا السؤال المجتمع العربي الجاهلي، ولنأخذ منه للتجربة عادة وأد البنات، فتلك (حالة) سوف نجد فيها قيمة خلقية تؤثر كقوة من قوى التغيير في نطاق مجتمع، هو المجتمع الجاهلي، في الوقت الذي كان يتهيأ فيه لدخول التاريخ. ولدينا إلى جانب هذا شهادة مباشرة على العوامل التي كان لها دور مؤثر في هذه الحالة، ففي القرآن الكريم- بوصفه وثيقة تاريخية- شهادة لا ترد على منشأ عادة وأد البنات، فلقد وجه القرآن إلى عرب الجاهلية خطابه في موضعين:

أ - {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام 6/ 150]. ب - {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء 17/ 30]. فإذا تناولنا هذين النصين باعتبارهما وثيقتين من وثائق ذلك العصر، وجدنا أنهما لا تدعان أدنى ريب فيما يتعلق بمنشأ عادة الوأد، فلقد كان للظروف الاقتصادية التي عاشها العصر الجاهلي أكبر الأثر في نشأة تلك العادة الأليمة، إن لم تكن هي العامل الوحيد. ولكن النصين يعبران في الوقت ذاته عن قيمة خلقية معينة في الوقت الذي تدخل فيه في حياة المجتمع- لا عن طريق الظروف الاقتصادية التي لم تكن تغيرت بعد، ولكن مباشرة، عن طريق النفس- لتحدث تغييره. فنحن إذن أمام مثال مفيد يتيح لنا أن نبحث مشكلة القيمة الخلقية متمثلة في حالة واقعية. ولنأخذ الآيتين الكريمتين في مجموعهما، على أنهما تشريع لقانون معين، تماماً كما تسن الشرائع الحديثة في زماننا قوانينها. إن تفسير قانون معين في عصرنا إنما يكون على اعتبار أنه مجرد حدث اجتماعي، أي إن الذي يسنه إنما هو حقائق المجتمع وحدها. فهل الأمر كذلك بالنسبة للحالة التي ندرسها؟. ذلك يقتضينا أن ندرس الآيتين اللتين تشرعان (قانون) الموءودة، على أنهما نتيجة للظروف الاقتصادية التي كات تسود المجتمع الجاهلي، تمشياً مع منطق عصرنا في تفسير الأشياء. لكنا نلاحظ أن هذا التفسير يؤدي بنا تلقائياً إلى تناقض صريح، إذ لا يمكن أن يحمل إثبات واقع اجتماعي معين ونفي هذا الواقع على أسباب واحدة.

فلو قيل إن (الوأد) نشأ في البيئة الجاهلية بتأثير أسباب اقتصادية خاصة بذلك المجتمع، كما تشهد بذلك وثائق العصر، وفي مقدمتها القرآن، فإن من العسر أن ينسب نفي هذا الوأد إلى تأثير العوامل الاقتصادية ذاتها ما دامت لم تتغير. وإذا كانت الآيتان المذكورتان تعدان من الناحية التاريخية إبطالاً (للوأد) فإننا نجد أنفسنا أمام تناقض صريح إذا ما فسرنا (قانون) الوأد تفسيراً اقتصادياً. ولقد يؤدينا هذا الموقف إلى أن نفسره تفسيراً نفسياً، حين نعزوه لأسباب تتصل بالتغيير الأخلاقي الذي سبق أو صاحب نزول القرآن في الوسط الجاهلي، ومع ذلك فليس هذا التغيير مقبولاً أيضاً، لأن الذين عاصروا قانون التحريم المذكور قد مارسوا بأنفسهم تلك العادة الأليمة. وحسبنا أن نضيف أن عمر بن الخطاب نفسه كان من بين هؤلاء المعاصرين، حتى يصبح التفسير النفسي التلقائي غير ذي موضوع أو قيمة، شأن التفسير الاقتصادي. والحق أن عادة وأد البنات كانت ثابتة في عقلية العصر، وأن هذه العقلية في ذاتها لم تتغير عند نزول قانون التحريم، فلقد ذكر مؤلف الأغاني قصة عن جد الفرزدق الشاعر العربي الكبير، الذي لقب (محيي الموءودات) لقاء ما كان يبذله من فضل في هذا السبيل (¬1). ولكننا نجد في هذه القصة شهادة غير مباشرة على ما نحن بصدده، فالواقع أنها تضيف أن جد الشاعر الأموي، عندما أقدم على إنقاذ أول ضحية من الموت بأن دفع لأبويها فدية- أراد أن يسوغ لنفسه هذا السلوك فقال: ((هذه مكرمة ما سبقني إليها أحد من العرب))، فلو أننا لمسنا في هذه القولة معناها التاريخي ¬

_ (¬1) أورد هذه القصة السيد بشير العوا في كتابه القيم (االأسرة بين الجاهلية والاسلام) [ص:63].

لعلمنا أن شيئاً ما لم يكن قد تغير بعد في الوسط وفي العقلية الجاهلية، فيما يتعلق بمسألة الموءودة إبان نزول قانون التحريم. وعليه، فإن القيمة الخلقية التي عبر عنها هذا القانون لا يمكن أن تكون على أية حال ثمرة من ثمرات المجتمع الجاهلي. فلكي نعمم هذه النتيجة ينبغي أن نضع السؤال التالي: هل يمكن لمجتمع معين أن ينتج قيمه الخلقية؟ وهنا ايضاً يستطيع المجتمع الجاهلي ان يعطينا مثالاً نحتذيه في وضع إجابتنا عن هذا السؤال، إن لم يكن له أن يعطينا مفتاحاً للمشكلة في صورتها العامة. فالحق أن هذا المجتمع قد شهد وجوه حياته تتغير فجأة بتأثير بعض القيم الخلقية التي شهد مولدها. وهو إلى جانب ذلك يتيح لنا أن نعقد موازنة بين هذه الحقبة من التغيير وبين ما مضى من تاريخه، وهذا التاريخ يمتد في الواقع أكثر من ألفي عام، أبتداء من الجد الأكبر إسماعيل حتى محمد عليهما الصلاة والسلام. ولقد أثمر هذا التاريخ الطويل فناً شعبياً غنياً، وخلف تراثاً أدبياً لا نظير له بين آداب الأمم الأخرى. وتلك هي القائمة التاريخية للمجتمع الجاهلي خلال تلك الحقبة من الزمان. ولو استخدمنا لغة علم الاجتماع لقلنا: إن هذا هو كل ما أثمره المجتمع الجاهلي، كثمرة نشاط استقطب حول (الحاجة) و (المنفعة). وبذلك نلاحظ أولاً أن هذا المجتمع لم ينتج في جلته كثيراً، ما دام نشاطه قد استقطب على تلك الصورة، أي ما دام لم يخضع إلا لاتجاهات الحياة اليومية وقواعدها.

وفي مقابل ذلك نجده وقد هب فجأة لينتج حضارة رائعة منذ بدأ نشاطه يستقطب حول مجموع من القيم الخلقية التي ولدت في نطاقه، والتي لا يمكن أن نفسر سر تخلقها بما كان فيه من الأوضاع الاقتصادية والنفسية، كما وجدنا ذلك واضحاً في الموءودة. هذه الاعتبارات لا تقدم لنا حتى الآن الإجابة العامة على السؤال الذي قد وضعناه، وإنما تقدم لنا قرائن قوية تزكيها اعتبارات أخرى. ... فالزواج مثلاً يعد علاقة اجتماعية جوهرية، وهو من الناحية التاريخية يعد أول عقدة في شبكة العلاقات التي تتيح لمجتمع معين أن يؤدي نشاطه المشترك. ومع ذلك فمن الواضح أنه لو كان أمر الإنسانية يجري تبعاً (لحاجة) النوع و (منفعته) فحسب، فإن مجرد اختلاط الرجل بالمرأة- كما كانت الحال في العصر الجاهلي- يتفق كثيراً مع القواعد البيولوجية التي يخضع لها النوع، علماً بأن عدد الأفراد ستكاثر حتماً، بفعل ما يطلق عليه (الاتصال في نطاق الحرية الجنسية). ييد أننا نجد أن كل مجتمع معاصر، بما في ذلك المجتمعات التي تخلع على نفسها الصفة (المدنية)، لا يتم فيه اتحاد الجنسين إلا على أساس قيمة خلقية معينة، هي الزواج، الذي يبارك اتحادهما بإشهاره طبقاً لخطة دينية رمزية؛ وبهذا الإشهار يأخذ اتحاد الرجل والمرأة كل معناه الاجتماعي باعتباره عقداً يتفق، لا مع حاجة النوع، بل مع غاية المجتمع. وهكذا تجري الأمور بصورة عامة فيما يتصل بقضية المجتمع، فإن تنظيمه يجري طبقاً لمقاييس وقواعد، وهي في حقيقتها قيم خلقية لم ينتجها، ولكنها تنظم نشاطه في سبيل غايته.

وكلما حدث إخلال بالقانون الخلقي في مجتمع معين، حدث تمزق في شبكة العلاقات التي تتيح له أن يصنع تاريخه. بل إن محدثي مثل هذا الإخلال، أولئك الذين يدعون- مثلاً- إلى حرية الأخلاق من أجل التقدم، ليسوا في أعماق نفوسهم سوى أطفال استثارتهم حواسهم، وهم لا يرتابون لحظة فيما يجرونه على المجتمع من أخطار هائلة. فهم يلعبون بحواسهم كما يلعب الأطفال باأعواد الكبريت دون أن يشكوا في أنهم يتركون حيث يلعبون بوادر حريق يلتهم المدينة بأسرها. ***

الدين والعلاقات الاجتماعية

الدين والعلاقات الاجتماعية رأينا أن المجتمع لا ينتج القيمة الخلقية التي تنظم حياته، أو بحسب ما اصطلحنا عليه: تنظيم العلاقة التي تتيح له أن يتم نشاطه المشترك. ورأينا من ناحية أخرى أن هذا العمل يبدأ إذا ما تم تركيب الإنسان والتراب والوقت. لكن هذا التركيب- الذي يتفق من الوجهة التاريخية مع ظهور حضارة معينة- لا ينتج تلقائياً، إذ أن هناك جماعات بشرية ما زالت تعيش حتى الآن في حالة ما قبل الحضارة. وإنما يتم هذا التركيب على أثر حدوث (عارض غير عادي)، أو بعبارة أخرى (ظرف استثنائي). لقد اختلفت آراء المدارس المختلفة فيما بينها في تفسير ماهية هذا (العارض). فتوينبي يرى أنه يظهر في صورة (تحدٍّ) يخلقه الوسط الطبيعي أو البشري، خلقاً يصبح معه المجتمع ملزماً بمواجهته والإجابة عليه، كما سبق أن رأينا. وهيجل يرى أن (الظرف الاستثنائي) إنما يظهر في صورة تعارض بين قضية ونقيضها. والمجتمعات المعاصرة لا تخرج عن إحدى مجموعتين: مجموعة المجتمعات

التاريخية، أعني المجتمعات التي تتفق مع تعريفنا الذي وضعناه فيها سبق لتلك الكلمة، ومجموعة المجتمعات الراكدة التي يطلقون عليها كلمة (بدائية). فأما المجموعة الأولى- وهي المجموعة التاريخية، التي تتفق مع تعريفنا من ناحية، والتي تكون 80% من مجموع سكان البسيطة من ناحية أخرى- فإن (الظرف الاستثنائي) الذي يسجل نقطة الانطلاق في تاريخ مجتمع معين منها يتفق في الحقيقة مع ظهور فكرة دينية، في فجر حضارة معينة. ويتمثل تطور هذه الحضارة المعينة حسب التخطيط البياني في دورة ذات مراحل ثلاث: ـ[تخطيط بياني]ـ فنقطة الصفر من الدورة تسجل الحالة السابقة على الحضارة، كما تسجل بدء ظهور (الظرق الاستثنائي) اللازم لإحداث التركيب العضوي التاريخي بين العناصر الثلاثة: الإنسان والتراب والوقت، وهو التركيب الذي يتفق مع ميلاد مجتمع معين، كما يتفق بصورة ما مع بداية عمله التاريخي. فالقيم الاجتماعية في هذه النقطة لم تصبح بعد واقعاً قائماً. وإنما هي مجرد

احتمالات. والمجتمع ذاته ليس حينئذ سوى (احتمال) في ضمير الغيب، و (بذرة) من الإمكانيات في غضون التاريخ. وفي هذه الحالة يحتمل وجوده أن يكون أو ألا يكون، إذ أن (عالم أشخاصه) و (عالم أشيائه) لم يوجدا بعد، ولكن عالم أفكاره يحتوي على الأقل بذرة إمكانياته، كما تحتوي النطفة كل العناصر العضوية والنفسية المسهمة في تركيب الكائن المقبل. فليس وجوده حينئذ سوى فكرة متجسدة، أحياناً في رجل مثل (إبراهيم) الذي قال فيه القرآن الكريم حقاً: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 16/ 120]. فسواء كنا بصدد المجتمع الإسلامي أو المجتمع المسيحي، أم كنا بصدد المجتمعات التي تحجرت اليوم أو اختفت تماماً من الوجود، نستطيع أن نقرر أن الفكرة التي غرست بذرتها في حقل التاريخ هي فكرة دينية. ومعنى هذا أن (الظرف الاستثنائي) الذي يلد مجتمعاً يتفق في الواقع مع الفكرة الدينية التي تحمل مقاديره. كما تحمل النطفة جميع عناصر الكائن الذي سيخرج فيما بعد إلى الوجود. ومعنى هذا أيضاً أن شبكة العلاقات بكل ما تحتويه من خيوط وأطراف، والتي سيتسنى للمجتمع بفضلها أن يؤدي عمله التاريخي- هي ذاتها تعد في حيز القوة، داخل البذرة التي تشتمل جميع أقدارها. إذن فالعلاقة الروحية بين الله وبين الإنسان، هي التي تلد العلاقة الاجتماعية، وهذه بدورها تربط ما بين الإنسان وأخيه الإنسان، ولقد علمنا من حديثنا في الفصل السابق أنها تلدها في صورة القيمة الأخلاقية. فعلى هذا يمكننا أن ننظر إلى العلاقة الاجتماعية والعلاقة الدينية معاً من الوجهة التاريخية على أنهما حدث، ومن الوجهة الكونية على أنهما عنوان على حركة تطور اجتماعي واحد. فنحن نرى من الوجهة التاريخية أن الحدثين يتوافقان، ونلاحظ من الوجهة

الكونية بناء على ما أسلفنا من اعتبارات أن الحدثين يرتبطان ارتباط الأثر بالسبب في حركة التطور الاجتماعي، فالعلاقة الاجتماعية التي تربط الفرد بالمجتمع هي في الواقع ظل العلاقة الروحية في المجال الزمني. لكنا قد رأينا في فصل مضى أن عدد العلاقات التي تربط الفرد بمجتمع معين متكون من (ن) من الأفراد هو: (ن - س) من العلاقات. وبهذا نستطيع أن نقدر بصورة ما درجة الفاعملية الاجتماعية في العلامة الدينية، بأن نقر نسبة حسابية بن عدد العلاقات الدينية في مجتمع معين وعدد العلاقات التي تكون شبكته الاجتماعية. على أنه من المعلوم أن فرداً ما يحتفظ ب (ن - س) من العلاقات الاجتماعية في مجتمع مكون من (ن) من الأفراد، ولكنه يحتفظ بعلاقة دينية واحدة، ففاعملية هذه العلاقة في المجتمع تتضح إذن في النسبة الإجمالية التالية: ن (ن - س) / ن = (ن - س) ومعنى هذا أن الدين يخلق نظاماً اجتماعياً يستحيل فيه الفرد إلى أفراد كثيرين، حين يضرب في العدد (ن - س) من العلاقات الاجتماعية. وكلما ضعفت العلاقة الدينية تناقص هذا العدد، أي إنه يتناقص كلما تجاوز المجتمع المرحلة التي تنطبق عليه نقطة (أ) من تخطيط تطوره البياني. ومن هنا تزداد درجة الفراغ الاجتماعي بين الأفراد في محيط هذا المجتمع. وعلى عكس ذلك نجد أنه عندما تقوى العلاقة الدينية، وبقدر ما تقوى هذه العلاقة مثلاً بين نقطتي صفر وأ- فإن درجة الفراغ الاجتماعي تقل، قلة تصبح معها صورة المجتمع بعض ما يوحي به قوله - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن للؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» فتلك صورة المجتمع الذي لا يوجد فيه فراغ اجتماعي.

لكننا نعلم أنه للوصول إلى هذه الدرجة من الكمال ينبغي أن تتوافر في المجتمع شبكة علاقات اجتماعية نامية، كيما تمنح البناء الاجتماعي ما يلزمه من متانة واتساق. كما نعلم مدى الصعوبة التي تحول دون الوصول إلى تلك الدرجة، وهي المثل الأعلى الذي تستهدفه الشرائع جميعاً، الشرائع التي تحاول بما لديها من وسائل إنسانية خالصة أن تسد الفراغ الاجتماعي. ذلكم ولا ريب هو الدرس الذي أراد القرآن أن يعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال له: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. [الأنفال 8/ 63]. ***

شبكة العلاقات والجفرافيا

شبكة العلاقات والجفرافيا أتاحت لنا دراسة دورة الحضارة عامة في الفصل السابق أن نستخرج بعض الاعتبارات عن التأثير الاجتماعي للفكرة الدينية. مع أخذنا في الاعتبار عنصر الزمن. ولسوف تتيح لنا دراسة الدورة المسيحية في هذا الفصل، أن نرى تأثير الفكرة الدينية حين ترتبط بعنصر المكان خاصة. فالفكرة المسيحية لم تتخذ مجالها في الظروف التاريخية نفسها، التي كانت للفكرة الدينية الإسلامية: فلقد أدت هذه في الواقع دورها في مهدها ذاته. فإذا كانت قد استطاعت أن تحقق أهدافها، فما ذلك إلا لأن شبه الجزيرة العربية كانت أرضاً عذراء، تستطيع أية فكرة دينية جديدة أن تمد فيها جذورها. أما الفكرة المسيحية فهي، على العكس من ذلك، قد ولدت على أرض مزدحمة بالثقافات والأديان القديمة، فكان من العسير عليها في هذه الظروف أن تجد عناصر اجتماعية حرة كافية كيما تحدث تركيباً جديداً. وقد كانت الثقافة الإغريقة والرومانية والديانة اليهودية تحتل منذ عهد بعيد مجال عملها. فلكي تجد المسيحية مجالها المناسب كان عليها إذن أن تغادر مهدها، وهذا هو الذي يفسر لنا كيف أن المسيحية، وقد ولدت قبل الإسلام بستة قرون، لم تبدأ مهمتها التاريخية إلا بعد الإسلام بستة قرون، بعيداً عن مسقط رأسها. وهذه الحالة ترينا أن تأثير فكرة دينية معينة رهن ببعض شروط الجغرافية الإنسانية، فإذا لم تجدها في موطنها هاجرت لتجدها في مكان آخر. والبوذية ذاتها قد اضطرت إلى هجرة مسقط رأسها في الهند، بحثا عن ظروف أكثر ملاءمة، هنالك في الصين حيث غرست تعاليمها.

وإذن فقد غادرت الفكرة المسيحية أرض مولدها (فلسطين)، بحثاً عن هذه الظروف في أوربا الغربية، حيث أنهت الحضارة الرومانية دورتها خلال القرنين الرابع والخامس الميلاديين. وبقدر ما كان مجتمع غربي أوربا يتحلل ويتفكك، وبالمواد المتخلفة عن هذا التحلل ذاتها، استطاعت المسيحية أن تبني المجتمع الجديد خطوة خطوة، وهو المجتمع الذي نطلق عليه في هذه الأيام (المجتمع الغربي). وبدهي أن هذه المواد، بحكم كونها متخلفة عن عملية تحلل، لم تكن لتشمل على أدق رباط عضوي فيما بينها. ولقد خلف اختفاء الامبراطورية الرومانية في الواقع جميع مكونات المجتمع الروماني من أشخاص وأفكار وأشياء على حال من الفوضى، كانت هي السمة الظاهرة لما يطلق عليه اسم (العصور الوسطى). وإذن فلكي تستخدم هذه المواد في بناء جديد، كان من المحتم تنظيمها بطريقة أخرى. وكانت الفكرة المسيحية هي التي استخرجت النسق الغربي من غضون الفوضى التي أعقبت الحضارة الرومانية. ولقد ألمح جيزو إلى تبيان هذه الحالة، وهو المؤرخ الذي يظل- حتى بعد قرن من الزمن- صاحب الكلمة المسموعة بصدد الحضارة الأوربية، فقد حدثنا جيزو عن: كيف أن تركيب هذه الحضارة كان من عمل الفكرة المسيحية. قال: ((تلكم هي السمة العظيمة الأصيلة للحضارة الأوربية، منذ أن تطورت تحت تأثير الإنجيل، تأثيره الظاهر والخفي، المنكر أو المرضي، حيث عاش القهر والحرية وكبرا معاً)). فإذا ما ترجمنا حكم هذا المؤرخ، إلى لغة علم الاجتماع كان معناه أن الفكرة المسيحية هي التي صاغت شبكة العلاقات الضرورية التي أتاحت للمجتمع الغربي

منذ نشأته أن يسجل نشاطه في التاريخ وهكذا أعطانا جيزو الخيط الموجه الذي يدخلنا إلى صميم الموضوع. فلقد شكلت الفكرة المسيحية (أنا) الأوربي أو ذاته، كما صاغت (منظر) أوربا الذي نشهده في منتصف هذا القرن العشرين. ولا ريب أن الناظر المتطلع سوف يذوب دهشة من وحدة هذا المنظر، والشخصية التي تعطيه الحياة وتحركه، فإن أوجه التشابه بين الأشخاص والأفكار والأشياء هناك تعد في الواقع في منتهى الوضوح. وبرغم هذا فإن تلك ظاهرة عامة. والحق أن تطور الإنسانية هو ما يحدث من نمو في مشاعرها الدينية المسجلة في واقع الأحداث الاجتماعية، تلك التي تطبع حياة الإنسان وعمله على وجه البسيطة. نشرت المجلة العالمية (ديوجين) في عددها الثاني عام 1953 مقالاً هاماً في الموضوع، بقلم بيير دي فونتين Pierre Desfontaines الذي أعطانا لمحة أخاذة عن ((التقسير الديني في الجغرافية الإنسانية)). وقد أرانا الكاتب تحت هذا العنوان كيف أن الإنسان لم يستخدم ذكاءه في جهات كفاحه ضد عناصر الطبيعة وحدها، فهناك على ما ذهب إليه الكاتب: الإنسان والغابة، والإنسان والريح، والإنسان والماء، والإنسان والقفر .. إلخ .. وهناك أيضاً الإنسان في مواجهة ذاته، بل في صراعه مع عناصر هذه الذات، مع أفكارها، ومع مشاعرها، وهذا العمل (الروحي) قد طبع أيضاً الجفرافية الإنسانية، حين نثر على سطح الأرض الواقع الديني، ونتائجه المرئية في (المنظر)، ولا سيما فيما يتصل بالإعمار والاستيطان والاستثمار والمواصلات. ونحن نرى اليوم أيضاً في المنظر الأوربي نتائج هذا العمل (الروحي) الذي تم خلال ألفي سنة من تاريخ المسيحية.

وما كان لعمل كهذا أن يتم إلا بفضل شبكة العلاقات الضرورية لوجود النشاط المشترك في المجتمع الأوربي. بيد أننا إذا أردنا أن نتتبع أداء هذا العمل خلال القرون، فكأننا نتتبع إجمالاً مجرى تاريخ أوربا كله. وعليه، فإن كتابة تاريخ أوربا، أو وصف عملها (الروحي) هو تعبير عن اطراد واحد بطريقتين مختلفتين: أي إننا إذا ما تحدثنا عن الظاهرة الأوربية أو الظاهرة المسيحية، فإن حديثنا سيكون مخلصاً لشيء واحد، لأن إحداهما متركبة على الأخرى على الخريطة، وهي تتفق معها في الزمن، والظاهرتان كلتاهما ترجع إلى الأخرى، مهما بدا لنا أن بينهما أحياناً تعارضاً ظاهرياً. ومع ذلك فإن هذا التعارض الظاهري يختفي حين نعود إلى الوراء قرنين أو ثلاثة قرون، لأن كلمة (أوربي) ذاتها تختفي. إذ الواقع أنها لم تدخل في اللغة الدبلوماسية إلا منذ الحروب النابليونية، وعلى وجه التحديد في مؤتمر فيينا عام 1814. وعلى الرغم من هذا فقد كانت هناك (ظاهرة أوربية) منذ العصر الوسيط الأول، ونحن مضطرون إلى أن نطلق عليها هذا الوصف لأنها متصلة بالمجال الجغرافي لأوربا. وإن كان الواقع مرتبطاً بالإطار التاريخي، أي بالفكرة المسيحية، أو إذا شئنا تعبيراً آخر، بالعمل الروحي للفكرة المسيحية، تحت تأثير العامل الزمني خلال رحلتها من مسقط رأسها وتأقلمها بأوربا. فكل حدث يسجله الزمن في ملحمة من ملاحم التاريخ الأوربي هو في الواقع نوع من التجسيد للفكرة المسيحية. ومن الممكن أن نتتبع النشاط المشترك الذي قام به المجتمع الأوربي، وأن

نلاحظ خاصة بعض جوانب هذا النشاط حتى نخرج منه باللوحة التالية على سبيل المثال: الظاهرة الأوروبية:… :…نهاية الحضارة الرومانية :…الإقطاع :…اللاتينية: لغة الكنائس والجامعات :…الحروب الصليبية :…النهضة :…الإصلاح :…الاستعمار الذي بدأ منذ اكتشاف أميركا :…ثورة 1848، التي أثرت على أوربا كلها ولو أننا ذهبنا إلى أن الحروب الصليبية وثورة 1848 هما تجسيد مختلف لفكرة دينية واحدة، فمن المحتمل أن نتوهم أن في الأمر تناقضاً، لأن الحدث الأول ذو دلالة مباشرة على نشاط الفكرة المسيحية، بينما يترجم الثاني عن نوع من التيار الصادر عن الأفكار الاجتماعية واللادينية التي نمت في الثقافة الأوربية، مع فلسفة لوك Loche، والعلمانيين الفرنسيين. فهناك إذن تعارض ظاهر بين ما ينبعث مباشرة عن الفكرة المسيحية وما يأتي عن الأفكار اللادينية. والواقع أن هذين الحدثين نتيجة النشاط المشترك لعالم واحد من الأشخاص والأفكار والأشياء، أعني أنها نتاج النشاط المشترك لمجتمع واحد يفكر ويعمل في صف واحد، بفضل شبكة العلاقات الاجتماعية وحدها. ومن ناحية أخرى، لو أننا نظرنا إلى أحداث اللوحة السابقة منفصلاً بعضها عن بعض، فربما هدمنا بذلك وحدة التاريخ العضوي. بل على العكس من ذلك نرى أن كل حدث منها يجد تفسيره في الأحداث السابقة عليه:

فثورة 1848 قد تخلقت بالصورة نفسها التي تخلقت بها النهضة أو الحروب الصليبية، أعني أنها تمثل نوعاً من تجسيد الفكرة المسيحية. وبصفة عامة، كل ما ينتسب إلى (عالم أشياء) أوربا، و (عالم أفكارها) أو (عالم أشخاصها) إنما ينتسب بالضرورة إلى تكوين الظاهرة الأوربية، فهو ذاته ظاهرة أوربية، أعني أنه هو ذاته ناتج عن شبكة العلاقات التي أنتجت الحروب الصليبية أو ثورة عام 1848. ولو أننا نظرنا في (عالم أشياء) أوربا مثلاً إلى جهاز الراديو البسيط، وحاولنا أن نرسم على الخريطة العلاقات العقلية التي انتهت إليه، منذ التجارب المتواضعة التي قام بها جلفاني، حتى اختراع ماركوني، مارين بهرتز، وبوبوف وبرانلي، وكثيرين آخرين من مشاهير الرواد، لأنشأ هؤلاء شبكة واحدة. ولو أننا رسمنا بعد ذلك على الخريطة ذاتها العلاقات التي أنتجت (الإصلاح) أو النهضة، فلسوف نجد أنفسنا أمام الشبكة نفسها، التي تفسر كل ظاهرة أوربية على أنها ظاهرة مسيحية. ***

العلاقات الاجتماعية وعلم النفس

العلاقات الاجتماعية وعلم النفس بينا فيما سبق أن الوجود الحقيقي لمجتمع ما يبدأ بتكوين شبكة علاقاته، وحاولنا أن نشرح في أي الظروف والشروط التاريخية تتكون هذه الشبكة، تبعاً لوجهات النظر المختلفة باختلاف المدارس الفكرية. ولقد تناولت هذه المحاولة في التفسير الأشياء في المستوى الاجتماعي، مستوى العدد، ورأينا الدور الذي يؤديه الدين في هذا المستوى حين يتدخل في التركيب الاجتماعي في شكل قيم أخلاقية، متجسدة في العرف والعادات، والتقاليد والقواعد الإدارية والمبادئ التشريعية، وأحياناً تتجسد في أكثر تشكيلات المجتمع ظهوراً، كما في طوائف المجتمع الهندي. ونحاول الآن أن نرى في أي الظروف يندمج الفرد في الحياة الاجتاعية. ولئن كانت المشكلة قد صيغت من قبل بلغة الاجتماع، فمن الواجب الآن أن نصوغها قصداً بلغة علم النفس والاجتماع، أي إننا ينبغي أن نلجأ خاصة إلى نظرية الفعل (المنعكس الشرطي) لجوءاً نخلع معه على مصطلح بافلوف تفسيراً اجتماعياً. ولقد سبق أن قلنا: إن المجتمع ليس مجرد عدد من الأفراد، وينبغي أن نحدد هنا أن وحدة هذا المجتمع ليست الفرد، ولكنها الفرد المشروط (المكيف). فإن الطبيعة تأتي بالفرد في حالة بدائية، ثم يتولى المجتمع تشكيله، ليكيفه طبقاً لأهدافه الخاصة، وهو المعنى الذي يقصد إليه رسول الله! في قوله: «كل مولود يولد على الفطرة ة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجّسانه».

فذلك هو التكييف الذي يجعل الفرد أهلاً لأن يتخذ مكانه، ولأن يقوم بدوره في المجتمع. أي إننا ينبغي إجمالاً أن نحدد العلاقة التي يحتمل أن تكون بين مجموعة من الأفعال المنعكسة المنظمة لسلوك الفرد، وبين شبكة العلاقات التي تتيح لمجتمع ما أن يؤدي نشاطه المشترك. فكما أن الفرد والمجتمع- في الظروف العادية- يعملان في الاتجاه نفسه، فإن هناك تبادلاً بين الانعكاس الفردي والعلاقة الاجتماعية. وبفضل هذا التبادل ينبغي أن نتوقع تدخل الواقع الديني في هذا الجانب الجديد من المسألة. ويجب أن نلاحظ مباشرة تأثير الانعكاس في الحياة الاجتماعية، إذ نجد أن هذا التأثير يتطور مع عمر المجتمع. فإذا وجدنا أن أبا ذر الغفاري يسيء إلى بلال في لحظة من لحظات السأم، كان ذلك أمارة على أن المجتمع الإسلامي لما يزل جنيناً في نفسية المسلم. ومع ذلك فإن أبا ذر الغفاري تعاوده صحوة ضميره، فينقلب من فوره مرتمياً على قدمي بلال يسترضيه ويعتذر إليه. وعليه، فالفرد يكتسب مجموعة انعكاساته، كما يكتسب المجتمع شبكة علاقاته، والعلاقة وثيقة بين جانبي المسألة: فهي علاقة كونية تاريخية. إذ أن المجتمع يخلق الانعكاس الفردي، والانعكاس الفردي يقود تطوره. ويمكننا بفضل هذا التبادل أن نتخذ من المرض الاجتماعي دليلاً على الفساد في شبكة العلاقات، أو أمارة على التحلل في نظام الأفعال المنعكسة. ولقد بينا فيما سبق، فيما يتصل بالمجتمعات التاريخية المعاصرة- بصرف النظر عن المجتمعات التي خرجت من التاريخ، أو التي تحجرت فأصبحنا نطلق عليها (المجتمعات البدائية)، ولا نستطيع أن نصدر عليها حكماً ما- أن أصول هذه المجتمعات تمتد إلى أعماق غيب ميتافيزيقي.

فإذا ما صغنا الآن المشكلة بلغة علم النفس ننتهي إلى الملاحظة نفسها من طريق أخرى. فالفرد لكي يدخل في شبكة علاقات اجتماعية معينة ينبغي أن يجسد في ذاته واقعاً نفسياً معيناً، وهذا الواقع الذي يعد شرطاً لإقرار الفرد وقبوله داخل الحياة الاجتماعية يمد هو أيضاً جذوره في أعماق غيب ميتافيزيقي. لقد قررنا من قبل أن وحدة المجتمع لا تتمثل في الفرد، ولكن في الفرد المشروط. ولقد عرف علم النفس التجريي- منذ التجارب التي أجراها بافلوف- الفعل المنعكس الشرطي، حين تناول الأشياء من الناحية الوظيفية لا من ناحية التحليل. ونحن نتناولها هنا من الناحية الاجتماعية. إن إدماج الفرد في شبكة اجتماعية عملية تنحية، وهو في الوقت ذاته عملية انتقاء. وتتم هذه العملية المزدوجة في الظروف المادية، أي في حالة المجتمع المنظم- بوساطة المدرسة- وذلك ما يسمى التربية. أما إذا كان المجتمع في طريق التكوين فإن العملية تبدأ تلقائياً في الظروف النفسية الزمنية التي تتفق مع ما أطلقنا عليه من قبل: (الظرف الاستثنائي)، الذي يتوافق مع ظهور المجتمع والحضارة. فجهاز الأفعال المنعكسة لدى رجل كالغزالي قد تكون في المدرسة، ولكنه لدى صحابي كأبي ذر الغفاري تكون تلقائياً. فالاطراد النفسي في كلتا الحالتين واحد: إذ يجد الفرد نفسه متخلياً عن عدد من الانعكاسات المنافية للنزعة الاجتماعية، ليكسب مكانها أخرى أكثر توافقاً مع الحياة الاجتماعية. وذلك هو تكييف الفرد: فهو عملية تنحية تجعل الفرد لا يعبأ ببعض المثيرات ذات الطابع البدائي (كتلك الحمية التي كانت تعتري عرب الجاهلية وتدفعهم إلى الأخذ بالثأر)، وهو عملية انتقاء أو إحساس، تجعل الفرد قابلاً لمثيرات ذات طابع أكثر سمواً، طابع أخلاقي أو جمالي مثلاً.

وتعد هذه العملية من الوجهة النفسية المحضة عملية بناء للذات أو (الأنا) أو بعبارة أخرى: عملية تحديد لعناصر الشخصية. ولقد أوضح (يونج) أن كل بناء شخصي يقوم دائماً على أساس نفسي عام في مجموع النوع، ويتمثل في التجارب المتلاحقة التي خاضتها الإنسانية منذ عهودها الأولى. فالفرد على هذا يحمل في نفسه لدى مجيئه إلى الدنيا ملخصاً لهذه التجارب: فهو يستقبل عند ولادته ميراثاً نفسياً معيناً، كما يستقبل تراثاً حيوياً. هذا الميراث هو الذي يكون مجال اللاشعور ويمثل رصيد العقائد والخرافات التي كدستها الإنسانية في نفسيتها منذ بدء التاريخ. والماضي الديني للإنسانية في نظر يونج حاضر في نفسية الفرد، وهو يظهر هنا وهناك في ألوان نشاطه النفسي، ويتجلى في أحلامه في هيئة رموز، أو في أفكاره في صورة مجازات لا شعورية. بل إن رجعة التاريخ الديني على هذه الصورة تتجلى أيضاً لدى الملحد في صورة مجازات. وهذه عبارة على سبيل المثال: ((منذ أكثر من ثلاثين عاماً طبقت فلسفة تقوم على أساس فكرة أن الحياة الإنسانية لا معنى لها- على طول الزمن- إلا أن تكون في خدمة الخلود)) (¬1). ولقد يتساءل القارئ عن الصوفي أو القديس الذي كتب هذا النص، ومع ذلك فهي فكرة ملحد أرسلها إلى صديقه تروتسكي- ملحد آخر- قبيل إقدامه على الانتحار. ¬

_ (¬1) هذا النص مقتبس من كتاب (أوربا وروح الشرق) [ص:191]، لوالتر شوبارت الذي قبسه بدوره عن كتاب تروتسكي (حقيقة الحال في روسيا).

لقد انطلقت العبارة على هذه الصورة من لا شعور الرجل، كأنه يجدها في رصيد حركاته الفطرية، ولكن سرعان ما تتدخل جدليته المادية كأنما لتطمس الانعكاس الذي خطه قلمه على الورق، فإذا به يختم حديثه قائلاً: ((وبالنسبة لنا .. الوحدة هي الخلود)). فالرجل قد عاش لحظة حماسة، لم يستطع فيها أن يلتزم فكره المشروط، ولكنه بعد هذه اللحظة لم يرد أن يترك لدى محدثه- تروتسكي- شكاً في تعصبه الماركسي. ومع ذلك فهذا المثال لا يعطينا صورة كاملة للظاهرة التي نشير إليها، ولكن يرينا كيف أن الماضي الديني- وهو هنا ماض جد قريب- يتجلى في صورة انعكاس، صادر عن فكر ملحد. فنفسية الفرد في المجتمعات التاريخية على الأقل مفعمة بالنزعة الدينية، تلك التي تعد جزءاً من طبيعته، وهو ما جعل علم الاجتماع يقول في تعريف الإنسان بأنه (حيوان ديني)، وهو بذلك يحدد جانباً من الأساس النفسي العام في أفراد النوع، وكل فرد يبني شخصيته الخاصة على هذا الأساس. ومعنى ذلك أن الدين يتدخل أيضاً في هذا البناء؛ أعني في تحديد العناصر الشخصية للفرد، أو (الأنا). وهو هنا يتدخل مباشرة في عملية التكييف، التي عرفناها على أنها عملية ترشيح أو تنحية من جانب، وعملية انتقاء أو بعث للإحساس من جانب آخر. ولكي نحدد أهميته الاجتماعية تحديداً دقيقاً ينبغي أن نقول إن العملية هنا عملية تخالُفٍ من ناحية، وتَوافُقٍ من ناحية أخرى. فالفرد المشروط أو المكيف يختلف عمن ليس كذلك، وهو من جانب آخر لا بد أن يتفق مع نموذج يحتويه المجتمع الذي يكيفه ليدخل في شبكة علاقاته.

فالاطراد النفسي يفسر بطرق مختلفة. ويذهب يونج الى التمييز بين جانبين في الفرد القناع la Persona (¬1) وما وراء القناع، وأطلق عليه كلمة الظل ( l'ombre) ، ويقصد بالقناع الجانب المتجه ناحية المجتمع. ويقصد بالظل الجانب المتجه نحو الطبيعة والغريزة، أي نحو ما هو حيوي. والظل هو مجال الطاقة الحيوية في حالة البدائية غير المكيفة، بالنسبة للحالة الاجتماعية، هو مجال الغرائز الناشطة فردياً، كل غريزة من أجل إشباع ذاتها، دون أي قانون آخر سوى هذا الإشباع. والقناع هو المجال الذي تتم فيه عملية تكييف هذه الطاقة الحيوية الخام، من أجل تحويلها إلى طاقة قابلة للاستخدام اجتماعياً. وهو المجال الذي يصبح فيه الأفراد المهذبون المثقفون وسائل في خدمة ضمير، كما يتم اتصالهم بالحياة عن طريق الضمير، لا عن طريق الغريزة مباشرة. إنها عملية إدماج رئيسية تمنح نشاط الغرائز كل فاعليته الاجتماعية، حين تضع طاقاتها في خدمة الأفكار والمبادئ. فالإنسان يجب أن يشرب ويأكل وينسل ويملك، ويكافح من أجل استمرار النوع. ولكنه يجب أن يراقب هذه الأعمال الأولية جميعها، وأن يوجهها لغايات تتفق وتقدم النوع. وهو بهذه الطريقة يشترك واقعياً في عمل الله عز وجل، ومع ذلك فهو محكوم- إذا ما نظرنا إلى الأمر من الوجهة الدينية- تبعاً لهذا الاشتراك المنوط بتكليفه الديني، أعني تبعاً لخضوعه لقانون التقدم الأخلاقي، فإذا ما حملته طبيعته على العمل فإن ضميره هو الذي يعطي لعمله معنى تاريخياً وأخلاقياً. ¬

_ (¬1) Persona تعني القناع الذي كان يضعه الممثل اللاتيني في المسرح الروماني ليحاكي الشخصية التي يريد تمثيل دورها.

وهكذا يعمل الإنسان بداعٍ من طبيعته من أجل الحفاظ على النوع، وبوحي من ضميره من أجل تقدمه، فهو إذن مزود بسلطة مزدوجة، لكن التكليف هو الذي ينظم العلاقة الداخلية لهذه السلطة المزدوجة، تنظيماً يكون معه عمل الغرائز واندماجها مطابقاً لرسالته الاجتماعية. ومن هذا التركيب ينتج نظام الأفعال الاجتماعية المنعكسة، تلك التي تتفق مراحلها مع عمليات البناء الأولية، والتي قد تكون أحياناً ذات طابع مرضي كما في حالة الكبت. لقد تحدث علماء النفس بإفاضة عن هذه العمليات التي تماثل ما أطلقنا عليه من قبل: التنحية والانتقاء، والتي تحدد في نهاية المطاف السلوك الاجتماعي للفرد. ولو أننا تتبعنا مثلاً تفسير (هدفيلد Z.A. Hodfield)، فسوف ندرك دور الأفكار والمبادئ في هذه العمليات وهو في الواقع دور العنصر الديني في بناء الأنا. وبعض هذه العمليات بنائي، بمعنى أنها تنظيم للغرائز في علاقتها بالتوازن الأساسي داخل الفرد، وبعضها- على العكس - مرضي، لأنه يعارض جانباً من الطاقة الحيوية، أعني حين يكبت جانباً من الغرائز. فدور العنصر الديني بوصفه عامل تنظيم نفسي دور رئيسي، لا من حيث إنه يعمل في صورة مبادئ موجهة تنطبع في ذاتية (الأنا) لتصبح دوافع وقواعد للسلوك فحسب، ولكن لأنها تستطيع أن تتجلى في صورة تحريم مانع في بعض الظروف المرضية، كما في حالة الكبت. فتأثير الدين على (الأنا) هو إذن تأثير عام سواء كان ذلك لتحديد عناصر الشخصية الأساسية، أم كان لأنه في بعض الحالات الشاذة يؤدي إلى نشأة جوانب

مرضية، إذا بدا هذا التأثير في صورة يتحلل فيها العنصر الديني أو يفسد وفق ما ستشير إليه الفقرة التالية. فالعنصر الديني عامة- فضلاً عن أنه يغذي الجذور النفسية العامة على ما بينا- يتدخل مباشرة في الشخصية التي تكون (الأنا) الواعية في الفرد، وفي تنظيم الطاقة الحيوية التي تضعها الغرائز في خدمة هذه (الأنا). ولما كانت هذه الطاقة الحيوية المنظمة تتحول إلى نشاط اجتماعي لدى الفرد، وكان هذا النشاط لدى الفرد سبباً في وجود النشاط المشترك للمجتمع خلال التاريخ، فإن ذلك يرينا بصورة واضحة أهمية دور العنصر الديني، بطريقتين مختلفتين. ومن ناحية أخرى فإن الآلية النفسية- أكثر من أي شيء آخر- هي التي تولد (الحركة الدائمة): إذ أن نشاطها يبدأ بعمليات متكررة. والطاقة الحيوية الصادرة عن الغرائز والمنظمة بفعل التكيف، والموضوعة تحت تصرف (الأنا)، هذه الطاقة إنما تتصرف فيها الإرادة. أي إن الإرادة هي التي ستتصرف في توزيع تلك الطاقة الحيوية في مختلف قطاعات النشاط الاجتماعي لدى الفرد، وبالتالي تتحكم في توزيع النشاط المشترك للجماعة. فالإرادة هي التي تتحكم في هذا التوزيع، ولكن حركتها الخاصة تخضع هي ذاتها لاطراد نفسي. ومن هنا تأتي مشكلة توجيه الطاقة الحيوية الخاضعة لتصرف (الأنا). ولنعد الآن إلى ما كتبه (هدفيلد) تفسيراً لهذه المشكلة من بين التفسيرات التي ضمنها بالتحديد كتابه (علم النفس والأخلاق) فهي تفيدنا في هذا المجال، فهو ينظر إلى الأشياء نظرة طبيب، أعني من جانبها المرضي.

بدأ هدفيلد بالسؤيل التالي: ((ما هو المنبه المناسب لتنشيط الإرادة؟)) واستطرد يجيب عن سؤاله بقوله: ((إن المثل الأعلى هو أقوى عامل في تقرير خلق الإنسان، وفي تعيين مسلكه، لأنه هو وحده الذي يستطيع تنبيه الإرادة، وتنظيم جميع الغرائز)). فهو هنا يبين لنا أن الطاقة الحيوية الموضوعة تحت تصرف (الأنا)، هي في نهاية الأمر في ظل مراقبة ما أسماه (المثل الأعلى). فقد أعلمنا بصورة عارضة أن تنظيم الغرائز الحيوية ليس هو وحده الواقع تحت المراقبة، وإنما يخضع لها أيضاً توجيه هذا التنظيم داخل النشاط الاجتماعي للفرد، وهو ما عبر عنه بقوله: ((تقرير خلق الإنسان وتعيين مسلكه)). وعلى ذلك فإن مشكلة اختيار المثل الأعلى من أهم المشكلات، التي تصادف الفرد في إطاره الخاص لتنظيم (الطاقة الحيوية)، وفي الإطار الاجتماعي (لتوجيه هذه الطاقة الحيوية). وهنا يأتي سؤال أورده هدفيلد على هذه الصورة: ((هل نترك لكل إنسان إذن اتباع الطريق الذي يبدو له مؤدياً إلى المثل الأعلى؟!)): إننا إن فعلنا ذلك فسوف يجد اللص مثله الأعلى في السرقة، كما سيجده في عبادة القوة. وبديهي أن هذه (الحرية) لا تتفق في النهاية، لا مع مصالح الفرد، ولا مع مصالح الجماعة.

ومن ناحية أخرى، لو أننا حرمنا الفرد من حرية الاختيار فسنجعل منه آلة صماء، أو مخلوقاً صناعياً، أكثر من أن يكون كائناً إنسانياً يتصرف في طاقته الحيوية لغايات يلمحها ضميره لمحاً جلياً. فهناك إذن شرط مزدوج لهذا الاختيار، بينه هدفيلد حين قال: ((لقد أثبتت التجربة أن اختيار الفرد لمثله الأعلى أهدى طريق إلى السعادة)). ولكن هذا الاختيار من ناحية أخرى ((أعظم من أن يكون حكماً خاصاً نتيجة تفكير الفرد))، فهدفيلد يرى إذن أن هناك (مثلاً أعلى موضوعياً) يتفق مع (التقاليد الأخلاقية التي تلخص تجربة الجنس). ولما كانت هذه (التقاليد) معبرة عن القيم الأخلاقية، تلك التي بينا من قبل أهمية العنصر الديني فيها، فإن مشكلة توجيه الطاقة الحيوية ترجع بدورها إلى مشكلة دينية في جوهرها. وهكذا يظهر لنا من وجهة نظر علم النفس أن العنصر الديني يتدخل في تكوين الطاقة النفسية الأساسية لدى الفرد، وفي تنظيم الطاقة الحيوية الواقعة في تصرق (أنا) الفرد، ثم في توجيه هذه الطاقة تبعاً لمقتضيات النشاط الخاص بهذه (الأنا) داخل المجتمع، تبعاً للنشاط المشترك الذي يرديه المجتمع في التاريخ. ***

فكرة التربية الاجتماعية

فكرة التربية الاجتماعية هل يمكن أن نستخرج مما سبق فكرة تربية اجتماعية، أعني: منهجاً يهدي سير مجتع ما؟ لقد رأينا أن عجلة المجتمع تدور بفضل شبكة علاقاته، وأن هذا النشاط هو الذي ينشأ عنه تغير صورته. بيد أننا رأينا نوعاً من التعادل بين شبكة العلاقات في مجتع ما، ونظام الاستجابة أو رد الفعل لدى الفرد المكيف. فالمشكلة على هذا واحدة، ولكنها متصورة بمستويين، أو في نطاقين مختلفين: نطاق النفس الإنسانية من ناحية، ونطاق الزمن الاجتماعي من ناحية أخرى. هذا التعادل هو الذي ترجم عنه مؤرخ مثل جيزو بلغته حين قال- على ما ذكرنا سابقاً-: ((إن شبكة التاريخ يمكن أن تتصور بطريقتين، فإما أن نحلها في نفس الفرد ذاته، ناظرين إلى ما يغير ذاته الإنسانية، وإما أن نحلها في نطاق ما يحيط به، ناظرين إلى ما يغير إطاره الاجتماعي)). فإذا قلنا إن هناك تربية اجتماعية فإن قواعدها العامة ينبغي أن تستقى من علم التاريخ، وعلم الاجتماع، وعلم النفس. ومنهجنا الذي اتبعناه حتى الآن يرجع بالتحديد إلى التاريخ، وذلك لكي نستخرج هذه القواعد في صورتها النظرية والواقعية معاً.

هذه القواعد هي ثوابت التاريخ، تلك التي لا يغيرها الزمن على حين يغير المجتمعات. إن نهضة مجتمع ما تتم في الظروف العامة نفسها التي تم فيها ميلاده، كذلك يخضع بناؤه وإعادة هذا البناء للقانون نفسه. هذا القانون هو الذي عبر عنه حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن بلغة أخرى حين قال: «لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها». وهو أيضاً القانون العام الذي حاولنا تصويره في الرسم البياني السابق، ولعلنا نستطيع الآن إدراكه على وجه التحديد. وربما أدركنا خاصة معنى (القيم النفسية- الزمنية) التي أشرنا إليها ببعض أضلاع الرسم المذكور: فهي تمثل درجة النمو في شبكة العلاقات، والمستوى الاجتماعي في نظام الأفعال المنعكسة في مجتمع معين، في لحظة معينة من تاريخه. وكل مرحلة من المراحل الثلاث في الرسم البياني المذكور يمكن الآن أن تستبين في علاقتها بهذين المصطلحين. فمثلاً، المرحلة (الروحية) (وهي المرحلة الأولى في الرسم البياني) يمكن أن نفسر بطريقتين، تفسر أولاً بلغة علم الاجتماع حين نقول: إنها تتفق مع شبكة العلاقات الاجتماعية حين تكون في أكثف حالاتها، لا في أكثرها امتداداً، هذه الكثافة هي ما توحي به عبارة (البنيان المرصوص) في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 61/ 4]. ويمكننا أيضاً أن نفسر هذه المرحلة بلغة علم النفس حين نقول: إنها تتفق مع المرحلة التي يكون الفرد خلالها في أحسن ظروفه، أعني الظروف التي يكون فيها نظام أفعاله المنعكسة في أقصى فاعليته الاجتماعية، وتكون طاقته الحيوية أيضاً في أتم حالات تنظيمها.

هذا هو العصر الذهي بالنسبة لأي مجتمع، لا من أجل أنه يبلغ آنئذٍ أوج ازدهاره، وإنما لأنه يتمتع بميزتين: فقواه جميعاً في حركة، وهذه الحركة دائمة صاعدة. وهذه هي المرحلة الديناميكية التي يدان فيها كل اتجاه نحو التقاعس أو السكون، وهو ما حدث في تاريخ المجتمع الإسلامي الناشئ في قصة (الثلاثة الذين خلفوا) المشهورة. أما في المرحلة التالية (المرحلة الثانية في الرسم البياني) فإن المجتمع يتمتع بشبكة علاقاته الاجتماعية، حين تكون في أكثر حالاتها سعة وامتداداً، ولكن حين تكون أيضاً بعض الشوائب قد طفت على وجهه، وبعض النقائص قد برزت في صورته: وهذه- مثلاً- هي الحالة التي كان عليها المجتمع العباسي، عندما ظهرت مملكة الأغالبة في المغرب، في إفريقية الشمالية، وحين بدأت النزعة الشعوبية في الظهور في المشرق، في بلاد فارس. ومعنى هذا بلغة علم النفس أن نظام الأفعال المنعكسة في المجتمع الإسلامي قد تعرض لصدمة (صدمة صفين)، تعرّضاً لم يعد معه الفرد المسلم يتصرف في كل طاقاته الحيوية، وهو يباشر وظيفته الاجتماعية، أعني إن جانباً من غرائزه لم يعد تحت رقابة نظام أفعاله المنعكسة. وفي هذه المرحلة يواصل المجتمع نموه بفضل السرعة المكتسبة، ولكن قواه لا تكون جميعها في نطاق الحركة، وما كان منها في حركة قد لا يكون على الطريق الصاعدة: فهناك جانب من الطاقة مضى إلى السكون، وهو ما يمكن أن نمثل له في التخطيط الإسلامي بحركة المرجئة، ومضى جانب آخر إلى الهاوية، كحركة القرامطة: فمجموع من الطاقات لم يعد يعمل، ومجموع آخر يعمل في اتجاه مضاد، وبعبارة أصح: ضد المثل الأعلى للمجتمع. وفي المرحلة الثالثة، تتفكك الغرائز، فلا تعود تعمل بشكل منسجم

متوافق، ولكن بصورة فردية، كل منها يعمل لحسابه الخاص، وهنا يختل نظام الطاقة الحيوية، ويفقد قيمته الاجتماعية حين يهرب من مراقبة نظام الأفعال المنعكسة الناشئ عن عملية التكييف. في هذه المرحلة تسود الفردية تبعاً لتحرر الغرانز، وتتفسخ شبكة العلاقات الاجتماعية نهائياً: وهو ما يطلق عليه في التاريخ عصر الانحطاط، كذلك العصر الذي هيأ في المجتمع الإسلامي ظروف القابلية للاستعمار والاستعمار. وبذلك نرى أن تاريخ مجتمع ما هو تاريخ شبكة علاقات ونظام الأفعال المنعكسة لدى نموذجه، وهو الفرد المكيف. فكل فكرة عن التربية الاجتماعية يجب أن تصدر من هنا: إنه لكي يمكن التأثير في أسلوب الحياة في مجتمع ما، وفي سلوك نموذجه الذي يتكون منه، وبعبارة أخرى: لم يمكن بناء نظام تربوي اجتماعي ينبغي أن تكون لدينا أفكار جد واضحة، عن العلاقات والانعكاسات التي تنطم استخدام الطاقة الحيوية، في مستوى الفرد، وفي مستوى المجتمع. ولقد حاولنا حتى الآن أن نستنبط هذه الأفكار بطريق التحليل، أي بطريقة نظرية. ولكن يحسن في كل عمل من هذا القبيل تحقيق النتائج النظرية التي يسفر عنها التحليل بواسطة اختبار مضاد، أعني: بواسطة التركيب. ومع ذلك، فقد لجأنا خلال بحثنا أحياناً إلى تأكيد الواقع النظري بواقع التاريخ، الذي سقناه شاهداً على ما نذهب إليه. ولربما كان هذا التأكيد غير كاف، إذا ما علمنا أن الواقع التاريخي المقطوع عن سياقه لا يعطي فكرة دقيقة عن نشاط قوى التاريخ، الذي استخلصنا وصفه النظري.

إن من الواجب أن نرى هذا النشاط في حيويته، نراه وهو يمنح الفرد القدرة على التكيف حسبما يعرض له من المواقف، ثم وهو ينتقل تحت رقابة نظام انعكاساته إلى المجتمع الذي يحيله نشاطاً مشتركاً بفضل شبكة علاقاته. وخير طريقة نرى بها دليل التاريخ على الاحتمالات النظرية المتعلقة بمجتمع ما، هي أن نرى التاريخ نفسه في تكونه، أي أن نتتبع العملية المتصلة بتكوين مجتمع ما إبان ولادته. فبهذه الطريقة نستطيع أن نشهد دور الدين في حيويته، وهو يحقق عمله الاجتماعي، بطريقة غير مباشرة، أو غير أساسية، حين يهدف إلى غاياته الخاصة: فالدين حين يخلق الشبكة الروحية التي تربط نفس المجتمع بالإيمان بالله، وهو يخلق بعمله هذا أيضاً- كما بينا- شبكة العلاقات الاجتماعية التي تتيح لهذا المجتمع أن يضطلع بمهمته الأرضية، وأن يؤدي نشاطه المشترك: وهو بذلك يربط أهداف الماء بضرورات الأرض. فإذا قال الدين قوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات 51/ 57] فإن الله عز وجل لم يرد بهذا القانون أن يفصل الناس عن الأرض، ولكن أراد أن يفتح لهم طريقاً خيراً ليضطلعوا بعملم الأرضي. والتاريخ يرينا مدى القدرة التي امتاز بها أصحاب الدين، وخاصة المسلمون، حين ساروا في هذه الطريق. بيد أننا نعلم أن أول شيء في هذه الطريق هو تكوين نظام الانعكاسات الذي يغير سلوك الفرد، وهذا التغيير النفسي هو الذي يستهل حياة المجتمع، وهو أيضاً الشرط النفسي في كل تغيير اجتماعي. أليس ذلك وارداً بوضوح في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد 13/ 11].

وهكذا نرى أن كل ما يغير النفس، يغير المجتمع، ومن المعلوم أن أعظم التغييرات وأعمقها في النفس قد وقعت في مراحل التاريخ مع ازدهار فكرة دينية. ولو أننا استطعنا أن نتتبع في دقة عمل الفكرة الدينية إبان ولادتها فربما أصابتنا الدهشة لما نشهد في عملها من جوانب غير متوقعة. بل ينبغي أيضاً أن يمارس المرء بعض التجارب التربوية كما يفهم التغيرات المثيرة التي يمكن أن تتم في كيان الفرد بهذه الطريقة. وذلك هو ما يلاحظ عندما يدخل التعليم وسطاً بدائياً، فإن الأفكار التي يتولى نشرها لا تؤثر في عقلية التلاميذ فحسب، بل يبرز أثرها على ملامحهم أيضاً. إن الفكرة الدينية تحدث تغييرها حتى في سمت الفرد ومظاهره، حين تغير في نفسه، وبذلك يكون لمنهج التربية الاجتماعية أثره في تجميل ملامح الفرد، أي إن مجموعة من الانعكاسات تؤدي إلى خلق صورة جديدة، كأنها تتمثل في وجه جديد. أي إن الرأس لها شكل الأفكار التي تحملها. وإذا أردنا الاختصار قلنا: إن المجتمع يصوغ نموذجه، لا من الناحية العقلية فحسب، بل من الناحية العضوية أيضاً. ولو أن أحداً شهد ميلاد المجتمع الإسلامي فلعله- فيما أظن- كان يشهد موجة التغيير تغمر الذين عاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا في خصائصهم النفسية فحسب، بل في سماتهم العضوية أيضاً. ولم يدع لنا التاريخ الإسلامي وثيقة عن التغيير ذي الطابع التجميلي الذي

ربما كان قد صحب ميلاد المجتمع الإسلامي، ولكنه أعطانا وثائق يمكن أن تكون تأكيداً لما سبق إيراده من اعتبارات نظرية، تخول لهذه الاعتبارات قيمة تربوية قابلة للتطبيق، لدى نهظة المجتمع الإسلامي وإعادة بنائه. ومع ذلك فلقد عرفنا في ضوء ما سبق ما هي العناصر التي يمكن أن تكون موضوع تربية اجتماعية، إذ يجب أن نغير أساساً الصفات النوعية الخاصة بالفرد، إلى صفات اجتماعية تحدد معالم (الشخص)، أعني تغيير الطاقة الحيوية المنطلقة بواسطة الغرائز إلى طاقة اجتماعية خاضعة لمراقبة نظام الانعكاسات المتكونة لدى الفرد بفضل تكييفه. ومعنى ذلك خلق شبكة العلاقات القادرة على توحيد هذه الطاقات المنطلقة بواسطة الغرائز، توحيدها في صورة نشاط مشترك، يقوم به مجتمع، وظيفته تجميع هذه الطاقات الفردية لمصلحته بفضل هذه الشبكة. وهذا هو موضوع التربية الاجتماعية عامة. ولقد بينا نصيب العنصر الديني في هذا الموضوع، وهو أنه يعمل على تكوين نظام الانعكاسات لدى الفرد المكيف المشروط، كما يعمل على تكوين شبكة العلاقات التي تتيح للمجتمع أن يؤدي نشاطه المشترك. فبقدر ما تكون هنالك فكرة واضحة تمام الوضوح عن دور هذا العنصر في (ميلاد مجتمع) معين، يمكن أن تكون هنالك فكرة دقيقة تمام الدقة عن دورها الذي يمكن أن تؤديه في (نهضة) هذا المجتمع. وبهذا ندرك معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها)) بمفهومه الاجتماعي الدقيق.

شبكة العلاقات الاجتماعية والاستعمار

شبكة العلاقات الاجتماعية والاستعمار بينا فيما سبق أن شبكة العلاقات الاجتماعية هي التي تؤمن بقاء المجتمع، وتحفط له شخصيته، وأنها هي التي تنظم طاقته الحيوية لتتيح له أن يؤدي نشاطه المشترك في التايخ. وبديهي أننا لا نستطيع أن نفترض أن الاستعمار يجهل أهمية هذه العوامل في بلد مستعمَر، فهو يطبق بصددها سياسة مناسبة. هذه السياسة تتجلى في ألف صورة، وحسبنا فيما أعتقد، أن نصرب لها مثلاً تلك القصة الصغيرة التي حكاها لي أبي الموظف بأحد المراكز جنوب شرقي الجزائر، حيث كان يعمل في إحدى الوظائف المتواضعة، فقد كان المدير الفرنسي لهذا المركز رجلاً عالماً (¬1)، ينظم سلوكه وفقاً لما يمليه ضميره، أكثر من أن يكون وفقاً لتقديرات الإدارة العليا. وكانت في هذا المركز عائلتان جزائريتان كبيرتان، ظلتا في شجار دائم، على أثر خلاف نشب بينهما منذ أمد بعيد. ولكن المدير الفرنسي أفلح في إقرار المصالحة يينهما. ولما كان سعيداً بمأثرته في إقرار السلام بين الأسرتين، فقد حكى قصته أمام جمهور كبير لأحد رؤسائه الإداريين، أثناء التفتيش في المنطقة. وانحدرت القصة إلي من طريق أبي. قال: لقد استشاط الرئيس الأعلى غضباً، حتى إنه لم يتمالك أن صاح بأعلى صوته قائلاً للعالم التائه بين دواليب الإدارة الاستعمارية: ¬

_ (¬1) هو البروفسور ريجاس Reygass المعروف في الميدان العلمي للأبحاث، المتصلة بعصر ما قبل التاريخ في الشمال الأفريقي، وهو أستاذ هذا الكرسي في جامعة الجزائر.

سيدي المدير: إننا لم نرسلك هنا قاضي مصالحات، لتهدئة المعارك، التي قد تفيد أحياناً مصلحتنا العليا .. هذه القصة الصغيرة كافية فيما أعتقد لترينا أن الاستعمار يطبق في سياسته إزاء البلد المستعمَر روح الحكمة القائلة: ((فرق تسد)). بيد أنه ينبغي أن ندرك ماذا يعني هذا في الأحداث اليومية لهذه السياسة. ونحن نحمل في كياننا بكل أسف (النظارة) التي تحدد بصورة شاذة مدى بصرنا في هذا الميدان. فنحن ندرك جيداً النشاط الاستعماري عندما يكون مرئياً واضحاً، كأنه لعبة أطفال. ولكنا لا ندرك مجال هذا النشاط ولا وسائله منذ اللحظة التي يصبح فيها دقيقاً ... كلعبة الشيطان. نحن ندرك مثلاً وسائله التي استخدمها لقتل الثورة الجزائرية، كالدبابة والطائرة، وقنابل النابالم ... فذلك شيء مرئي واضح، وهو بهذه الوسائل قد قتل مليوناً من الجزائريين، أعني أنه قضى على جانب كبير من الطاقة الحيوية في بلادنا، وهذا أيضاً شيء مرئي واضح. وقد ندرك أيضاً نشاط الاستعمار في هذا البلد، عندما نجح الشعب الجزائري- في إحدى المراحل الحاسمة من تاريخه- في أن يجمع طاقته الحيوية كلها لخدمة فكرة معينة، وتبلورت هذه الطاقة في شبكة علاقات اجتماعية هائلة، تجلت في أجلى صورها عام 1936، في المؤتمر الشعبي الجزائري. إن الاستعمار هذه المرة لم يخرج فرقه العسكرية لتحطيم الطاقة الحيوية في الشعب الجزائري، وهدم شبكة علاقاته الاجتماعية. فقد كان بحسبه أن يغتال رجلاً واحداً حتى يبث الفوضى والاضطراب ... وقد فعل!!

ثم إنه ألقى ببعض المال في ضمير أحد الزعماء السياسيين، الذين كانت تتجسد فيهم في فترة معينة طاقة البلاد الحيوية، وفكرة نضالها. وتكفلت الأحزاب السياسية ببقية العمل، كل منها يريد أن يرث المؤتمر الشعبي الجزائري، وأن يحول لمصلحته الشخصية شبكة العلاقات الاجتماعية، التي تمثلت للمرة الأولى على مستوى قومي. هذا عمل دقيق نوعا ما، ولكنه أيضاً مرئي واضح بقدر كاف. إن عمل الاستعمار يتلاحق كل يوم في صورة أكثر دقة وخفاء، تلاحقاً لا يعود معه في مقدورنا أن ندرك منه شيئاً، فإن لنا أوضاعاً عقلية تحول بيننا وبين أن نتتبع اللعب حين لا يكون مرئياً أو واضحاً، وحين تكون الوسائل المستخدمة في قدر حبات الرمل. ذلك أن حبة رمل واحدة كافية أحياناً لإيقاف محرك، إذا ما تسربت إلى أحد أجهزته. وبعبارة أخرى: قد تكفي لذعة إبرة في مكان مناسب ليحل الشلل بشبكة العلاقات الاجتماعية في بلد مستعمر، كما يكفي (لا شيء) لشل الجهاز العصبي في مكان حي أحياناً. ذلك فن دقيق شبيه بفن زرع اللآلئ الذي أتاح لليابان أن تحقق أرقى طرق الزراعة، زراعة الجواهر. وإنا لندرك جيداً أن الاختصاصيين الذين يعملون لحساب الاستعمار أساتذة في ذلك الفن المطبق على الشبكات الاجتماعية، وعلى الطاقة الحيوية التي يملكها شعب، مستعمر فعلاً، أو مهدد بمؤامرات الاستعمار. ولا ريب أن الأمثلة السابقة ترينا كيف يعمل هؤلاء الفنانون في بلد عربي كالجزائر، لتمزيق شبكة علاقاته السياسية في لحظة معينة، ولشتيت طاقته الحيوية المنظمة، والمتمثلة آنذاك في المؤتمر الشعبي.

ولسوف نبين في الفصل التالي أيضاً كيف يستخدم الاستعمار نوعاً من القوارض المجازة، التي ربيت بعناية في بؤره الثقافية لمهاجمة شبكة العلاقات الثقافية والأخلاقية في بلد معين، وهم أنفسهم الذين يدعون أنهم يمثلون ثقافته. وحسبنا أن ننظر حوالينا لنرى هؤلاء القوارض يعملون في بلادنا، وكيف أنهم مدفوعون دائماً إلى المسرح بيد خفية، ولقد يكون صرحاً دولياً، أعني حيثما وجدت قيم صالحة للقرض يمكن أن تتحول إلى لاقيم. ولا جدوى من القول في كيفية توصل الاستعمار إلى هذا الضرب من المخاتلة: فربما احتجنا أن نقول أشياء تبدو لنا غير محتملة، فإننا بعيدون عن الواقع ... عن واقعنا. ولكن لنذكر بعض الأمثلة في تحفظ: لنفترض أن رجلاً مشهوراً- له مواقف واضحة في توجيه الصراع الفكري، في البلاد العربية هذة الأيام- يريد أن يبرهن على عطفه تجاه مثقف يشترك في هذا الصراع، وهذا المثقف يضطر في بعض الظروف الخاصة أن يستريح بعيداً، في عزلة ضرورية تمليها تلك الظروف. ولنفترض أن هذا الرجل المشهور منحه إقامة شهر في أي مكان على نفقته الخاصة، وأنه أعطاه من أجل ذلك إذناً مطلقاً فيما يتعلق بالنفقات. هذه حالة تعبر طبعاً عن علاقة اجتماعية معينة من الجانبين الأخلاقي والثقافي معاً. وهي تهم أيضاً من هذين الجانبين مجموعة الفنانين الذين نتحدث عنهم. ولا حاجة بنا إلى القول إنهم سوف يحاولون جهدهم أولاً أن يجعلوا الإقامة كريهة ما أمكنهم، فتفقد جدواها من الناحية النفسية والطبية معاً. فنحن هنا نريد أن نظهر الأشياء من زاوية الفاعلية المتوافرة لحبة الرمل فحسب.

كيف سيمضي هؤلاء الفنانون في عملهم .. ؟ ... إن لهم ولا ريب ألف طريقة، ولكن ها هي ذي واحدة من بينها: ففي نهاية الإقامة يطلب الرجل أن يرى قائمة حسابه قبل مغادرة الفندق. وهنا يلاحظ أن جانباً من النفقات قد حمل على بند (بار) .. بينما هو لم يضع رجله في بار الفندق مرة واحدة. وربما كان لدينا من الأسباب ما يدعو إلى الاعتقاد بأن كلمة (بار) هي حبة الرمل الصغيرة المخصصة لتحطيم علاقة ما، في شبكة الصراع الفكري. ولا شك أن الموظف المختص قد وضع كلمة (بار)، حين لم يستطع أن يضع مباشرة كلمة (ويسكي) أو (كونياك)، لأن الكلمتين كلتيهما تلفتا النظر أكثر من كلمة (بار)، وهو يعلم مقدماً أن النزيل سيوقع على القائمة قبل الرحيل. وطبيعي أن يعتذر الموظف وأن يصحح الخطأ، واضعاً مثلاً كلمة (كوكا كولا) مكان كلمة (بار) لو أن النزيل اكتشف الأمر كما حدث فعلاً. ولكن لنفترض أن هذه الكلمة بقيت في القائمة .. فكيف يمكنه استخدامها كحبة الرمل .. ؟ الأمر بكل بساطة هو أن تمضي القائمة إلى هدفها، بطريقة أو بأخرى، حيث يلفت اهتمام رجل الخير إلى كلمة (بار) مع ما تيسر من تعليق موجز. ومن الممكن أن نتخيل حينئذ تأثير هذه الكلمة على مشاعر الرجل الطيب، لا سيما إذا كان التعليق عليها لبقاً. ولقد يتخذ هؤلاء الفنانون في حالة أخرى، الموقف نفسه بطريقة مختلفة. إذ ينفخون في ميزانية الإقامة حتى تتورم بمصروفات عديمة الجدوى، تورّماً تضر معه الضيافة بمن أفاد منها، وبمن أذن بها.

بيد أن المشكلة التي نواجهها في هاتين الحالتين تكمن في أننا لا نكترث بهذه الألاعيب، لدرجة أنها لا تثير اهتمامنا، على حين تشغل آثارها في خسائرنا الاجتماعية اليومية جانباً كبيراً. ولسنا نستطيع، بكل أسف، وبتأثير أوضاعنا العقلية، أن نفهم عمل الاستعمار إلا ريثما يثير ضجيجاً، كضجيج الدبابة والمدفع والطائرة. أما حين يكون من تدبير فنان، أو من عمل قارض فإنه يغيب عن وعينا، لسبب واحد، هو أنه لا يثير ضجيجاً. ولعل أشق الأمور على النفس أن خيرة مثقفينا أنفسهم ليسوا بكل أسى، بريئين من هذا النقص، الذي يعزى- فيما أعتقد- إلى تطور مجتمعنا العام، مجتمعنا الذي لم يكوّن بعد مقاييسه في هذا المجال، أو هو يصوغها على الأقل طبقاً لأصول الأشياء، لا طبقاً لأصول الأفكار. وأوضاعنا العقلية التي نلتزمها لا تقعد بنا عن متابعة عمل الاستعمار فحسب، عمله الذي يمزق به شبكة مجتمنا، بل إنها تستخدم أحياناً معطفاً يختفي تحته استهتارنا وعدم اكتراثنا. لي صديق أعده أكثر من أخ، وهو طيب كبير، ويعد واحداً من خيرة مثقفينا الذين أعرفهم بالجزائر. كنت أتفق معه حين كنا نفكر سوياً، لأن أفكارنا كانت دائماً متماثلة، ولكني كنت أختلف معه وأفترق عنه كلما حتمت الظروف أن نعمل معاً. فتجاربنا تختلف اختلافاً كلياً، فحيثما أريد أن أتخذ بعض الاحتياطات في كفاحنا ضد الاستعمار- وهي احتياطات تعد من وجهة نظر أحد المثقفين الأوربيين مثلاً غير كافية- إذا بصديقي يراها مفرطة إلى درجة الغلو. حتى إن الاستعمار يجد خير حليف في أوضاعنا العقلية ذاتها.

ولنفرض مثلاً أنه يريد أن يعطل بعض المشروعات في إدارة معينة، هنالك يكفيه أن يخلق في أجهزتها فراغاً مؤقتاً، أعني عورة مادية لما أطلقنا عليه من قبل (الفراغ الاجتماعي)، موظف صغير يتغيب في اليوم نفسه، وهنا يتوقف التنفيذ. هذا منهج، ولكن ما يهمنا معرفته هو رد الفعل الصادر عنا إزاء ما يحدث. ولكي تعرف رد الفعل .. اسأل واحداً من رؤساء هذه الإدارة: لماذا توقف التنفيذ؟ .. ولسوف يجيبك: - لأن السيد فلاناً .. الموظف المكلف عمل كذا- غائب. ولو أنك قلت لهم: - السيد فلان .. ؟! ولكن الموظف بإحدى الإدارات إذا غاب أو مات فإن الوظيفة تستمر، وإلا حكمتكم تفاهة أحد الموظفين. ولسوف ترى علائم الاستغراب ترتسم في الحال على وجه محدثك، لأنه يجهل أن هذا الموظف الصغير يمكن أن يؤدي بمهارة دور حبة الرمل التي توقف آلة بأكملها عن الدوران. وفي حالة أخرى، تتحدث مثلاً مع رجل من الطيبين المثقفين تشرح له نقائص المجتمع الإسلامي، طبقاً لمقاييس اهتممت بتمحيصها خلال تجربة طويلة، أعني أنها مستقاة من واقع الأشياء ذاته. لكن محدثك يقاطعك في لحظة معينة قائلاً: - سيدي .. إن أفكارك عظيمة ولكن ينبغي أن نعود إلى الواقع. وعندئذ اسأله: - ما هو هذا الواقع .. أرجوك أن تذكره لي .. ؟!

ولسوف تلاحظ أن الرجل يطلق (الواقع) لا على ما يراه مثلك بعينيه، بل على ما يفكر فيه دون الرجوع لأي مقياس من التاريخ أو الاجتماع، فتكوينه العقلي يمنعه من أن يرى ما هو أمام عينيه بلحمه وعظمه، كما أن هذا التكوين هو الذي يمنع الموظف الكبير في الإدارة من أن يدرك الفرق الضروري بين تفاهة الموظف وضرورات الوظيفة. بيد أن مشكلة الأوضاع العقلية تتصل، عامة، بأمن شبكة العلاقات الاجتماعية، في المجتمع الإسلامي، في بلد مستعمر أو مهدد بمؤامرات الاستعمار. فهذه الشبكة معرضة لضرباته؛ لأن المسلمين لم يطبقوا نظاماً واقعياً فعالاً ضد هذه الضربات، التي تأتي خاصة من القوارض الذين يعدهم لتحقيق هدفه، كما تأتي بوجه عام من جميع أنواع القوارض، التي تُعمِل أسنانها في العلاقات الاجتماعية بالمجتمع الإسلامي. وبعكس ذلك نرى كيف أن المجتمع السوفييتي دافع عن علاقاته ضد كل القوارض، حين اتخذ إجراءات جريئة ضد ما أطلق عليه: (المواطنة العالمية COSMOPOLISME)، كما يدافع عن وحدته الثقافية، وضد ما أطلق عليه: (الانحرافية DEVIATIONNISME) كيما يدافع عن علاقاته الفكرية (الايديولوجية)، وضد ما أطلق عليه (التروتسكية TROTSKYSME) كما يدافع عن علاقاته السياسية. وقد رأينا أخيراً كيف أن خروشوف أنذر نوعاً من القوارض المنبثين في صفوف الشعب، واعداً إياهم بإرسالهم إلى حيث يستروحون هواء سيبيريا، حتى يحول بينهم وبين أن يلتهموا شبكة العلاقات الأخلاقية اولثقافية في المجتمع السوفييتي. فهذا الموقف إزاء مشكلة اجتماعية معينة، لم تزل بعد وليدة، جدير أن يلفت انتباهنا من جانبين، إذ أنه يرينا، في حالة مسحة سرعة الإدراك الواعي

لدى المسؤولين السوفييت إزاء هذه المشكلة التي مازالت في مهدها، كما يرينا الإجراءات الرادعة التي أزمعوا اتخاذها منذ البداية، حتى يعطوا المشكلة حلاً فعالاً. ومن المسلم به أن هذا الحل لم يخرج عن أن يكون مخططاً في صيغة إنذار لخروشوف، الذي يفكر دون شك تفكيراً هادئاً في وسائل أكثر فاعلية من مجرد إرسال القوارض ضد الاجتماعية إلى سيبيريا، إذ أن المشكلة قد طرحت منذئذ على بساط البحث في المجلس السوفييتي الأعلى، شأنها شأن أية مشكلة ذات أهمية بالغة الخطورة. ولكم نتمنى أن يكون لدينا في المجتمع الإسلامي هذا الوعي لمشكلتنا، وأن يطبق عليها الإجراءات التي تناسبها. هذا وإننا لم نفعل في هذا الفصل أكثر من رسمنا الخطوط العامة للمشكلة، كيما ندل على وجودها. وبديهي أن طرق الاستعمار شديدة التنوع في هذا المجال، حيث يقتضيه الأمر أن ينشئ في مجتمعنا أعظم قدر من الفراغ الاجتماعي، مستخدماً جميع الوسائل الاقتصادية والسياسية والثقافية والنفسية. والاستعمار لا يطبق سياسة دون أن يقدر آثارها السلبية التي يمكن أن تنشأ عنها بالنسبة لمصلحته، وهو في هذا المجال يتخذ الاحتياطات التي يمليها الفن العسكري، أعني أنه عندما يعد خطة هجوم يجب أن يقدر مقدماً احتمال الانسحاب، وهو يقتضي دفاعاً عن خطوط الرجعة. وربما كان إحداث تخريب في شبكة العلاقات الاجتماعية في قطاع من قطاعات الحياة في بلد ما، كفيلاً بإثارة اهتمام الدولة أو بعض الأفراد، ففي هذه الحالة يجد الاستعمار في أنفسنا ما وضعه للدفاع عن خطته، فهو يجده، في صورة مجموعة من التقاليد ضد الاجتماعية، تؤثر على ضمير الشعب الذي يواجه

الهجوم، فهذه التقاليد هي التي تقدم تفسير الهجوم، بل تمنحه صفة الشرعية، حتى كأنه أمر عادي تماماً، فتؤكد أنه لا يوجد ثمة هجوم، وإنما مجرد وهم وخيال. وهكذا يتم تمويه الإحساس النقدي بالمعركة، وينتهي الموقف بتأثير نوع من التيه العقلي الذي يدعى أنه سعة في العقل وتسامح، ينتهي بالتغاضي عن كل شيء، وبالتفريط في كل شيء، لأن التقاليد ضد الاجتماعية تشلنا من النواحي العقلية والقانونية والإدارية. ومن الواضح مثلاً أن أية رسائل ذات أهمية معينة سياسية أو ثقافية، هي بسبب هذا جزء لا يمكن إهماله من شبكة العلاقات الاجتماعية في بلد ما. وينتج عن هذا أن مثل هذه الرسائل تهم الاستعمار. فلنفترض الآن أنك أبديت دهشتك ذات يوم، سواء لأن بريدك لم يصل إلى من أرسل إليهم أم لأن أي بريد لم يعد يصلك. أتدهش من ذلك؟ .. ، هذا أمر لا يجوز .. وها هو ذا أحدهم يتطوع ليشرح لك أن الأمور تجري بصورة عادية، وأن غير العادي هو أنت!! لأنك تدهش!! ولسوف يتخذ أحد التقاليد ضد الاجتماعية شاهداً على ما يقول، سيقول لك مثلاً: إن شخصية كبيرة معينة لم تتسلم ذات مرة برقية مرسلة إليها، فعادت إلى المرسل مع ذكر أن (العنوان مجهول). ويقول لك إن الصحافة ذكرت هذا. ولسوف تتذكر فجأة أنك قرأته فعلاً في إحدى الصحف الكبرى، فلن تجرؤ بعد ذلك على أن تقول شيئاً. وبهذا لا يكونون قد صادروا بريدك فحسب، بل يكونون قد ألغوا في الوقت ذاته إحساسك النقدي بتفصيل من تفاصيل الحياة اليومية، وهو جدير أن يبحث في ضوء آخر، في نطاق مشروع التخريب الاستعماري.

ففي هذا الضوء الآخر، وفي هذا النطاق، يمكن أن يأخذ هذا العمل تفسيراً مختلفاً: إذ يمكن أن يحدث عمداً، بوساطة موظف ضعيف تختفي المؤامرة وراء ضعفه، أو يكون هو ذاته شريكاً فيها، وكل هذا من أجل خلق تقليد معادٍ للمجتمع، أعني أساساً لتفسير يخلع صفة الشرعية على جميع ضروب التخريب المستقبلية. وفي هذه الحالة، يتمثل التقليد المعادي للمجتمع في سابقة، مجرد تفصيل يومي، يرتفع إلى مستوى مفتاح للتفسير، إذ هو يمثل لنا هذه الألاعيب على أنها أمور عادية كثيرة الوقوع (¬1). وفي حالات أخرى تستخدم أوضاعنا العقلية مفتاحاً لهذا التفسير، فلو فرضنا مثلاً أن إجراء عاماً لحماية القطن لم ينفذ، فلسوف يفسرون ذلك بكل بساطة على أن مرده إلى (الروتين)، أعني إلى تقليد معادٍ للمجتمع، تقليد مستورد، وأسيء استيراده، إذ أن هذه الكلمة في موطنها تعني من الوجهة الاشتقاقية أن يوضع شيء في (الطريق ROUTE) ، والطريق الإداري العادي يمكن في الواقع أن يشتمل على بعض أشكال البطء، وهو مع هذا يبقى في نطاق توقيت مقدر وإن طال. اما في بلادنا فقد تغير معنى الكلمة، فأصبح مرادفاً لعبارة (الطريق المسدود)، أي الوضع الذي تتجمد فيه الحركة الإدارية تجمداً لا تصبح معه المسألة مسألة توقيت قصير الأجل، أو طويل الأجل. ¬

_ (¬1) واجهت أنا نفسي ذات يوم هذا الموقف، فقد وجدتني مضطراً أن أوجه بياناً إلى أربع صحف مختلفة راجياً إياها نشره، لأنه يتعلق بالدفاع عن شبكة العلاقات الثقافية ضد التخريب الاستعماري، ولكن البيان لم ينشر، ولم يكن أمامي سوى فرضين: 1 - إذا لم يكن البيان قد وصل إلى الصحف فتلك كارثة. 2 - إذا لم تكن الصحف قد أرادت نشره، فذلك ادهى وأمر.

هذا التقليد المعادي للمجتمع يسبب عجزاً اجتاعياً هائلاً كل عام، دون أن يحاول المسؤولون التخلص منه. فأنت تبدي دهشتك مثلاً لأحد الرؤساء الإداريين، لأن إجراء ذا طابع ثقافي- قد يهمك شخصياً- لم ينفذ منذ خمسة أشهر، فيرفع الرجل عينيه ويديه إلى السماء ويقول لك: - سيدي .. هذا هو الروتين. ثم يخفض ذراعيه ليدعك مشلولاً في عملك الشخصي، مادام الأجر الذي تطلبه متصلاً بعمله، قليلاً أو كثيراً. ولكنك لا تستطيع أن تقول له وخاصة إذا كان رجلاً أميناً ذا همة: - لا يا سيدي .. ليس السبب هو الروتين ولكنه التخزين، تخزين العلاقات الاجتماعية في حوزة موظف، سواء أكان عاجزاً وضع قصداً هناك لتجميد الحركة بضعفه وخموده، أم كان متآمراً يقوم عن عمد بدور السدادة ليوقف الحركة. والحق أننا لا ندعي أن جميع التقاليد المعادية للمجتمع من عمل الاستعمار، على الرغم من أن أغلبها من صنعه، ولكننا نقول إن جميع التقاليد تخدم عمله الهدام، وتولد في نشاطنا عجزاً اجتماعياً سنوياً هائلاً. ومهما يكن أمر الوسائل المستخدمة، فإن الهدف المقصود دائماً، تحطيم العلاقات الاجتماعية، ونشر العفونة في الطاقة الحيوية، بقدر ما يبلغه جهد الا ستعمار. والاستعمار فنان في هذا الميدان، فهو يعرف كيف يطلق الغرائز غير الاجتماعية لدى القوارض من كل نوع، يستخدمها جميعاً في هدم شبكة العلاقات الاجتماعية، التي تتيح لمجتعنا أن يؤدي نشاطه المشترك في التاريخ. ***

دفاع عن شبكة العلاقات الاجتماعية

دفاع عن شبكة العلاقات الاجتماعية هناك ظروف يشعر فيها الجسم مباشرة وبطريقة عفوية بالمعنى الأولي لبعض الأشياء، التي لا يدرك مغزاها أحياناً الفكر نفسه، بوساطة الطرق التي يتبعها العقل. وهكذا يمكن أن نتعلم في هذه الظروف المعنى الأولي للحضارة، وأن معنى التحضر: أن يتعلم (الإنسان) كيف يعيش في جماعة، ويدرك في الولت ذاته الأهمية الرئيسية لشبكة العلاقات الاجتماعية، في تنظيم الحياة الإنسانية، من أجل وظيفتها التاريخية. فإذا فهمنا هذا أدركنا في هذه الحالة قيمة نظام الدفاع الذي ينصبه مجتمع بطريقة غريزية حول شبكة علاقاته، كما يحميها من أي مساس بها. فجميع التعاليم المقدسة التي يحيط بها مجتمع ما- ولو كان بدائياً- حياته الاجتماعية، هي في الواقع ترجمة ذات أشكال خاصة عن هذا النظام الدفاعي الذي يحوط شبكته، ولكنها ترجمة ذات حظ متفاوت من التوفيق. وجميع القوانين التي أملتها السماء، أو وضعتها محاولات البشر، هي في حقيقة الأمر إجراءات دفاعية لحماية شبكة العلاقات الاجتماعية، وبدونها لا تستطيع الحياة الإنسانية أن تستمر، لا أخلاقياً، ولا مادياً. فالوصايا العشر الموحاة إلى موسى هي أقوى الصور التي تظهر فيها تلك الإرادة العليا التي تحوط وجودنا من كل جانب بشبكة من الحماية الإلهية، وهي تعلمنا أن نعيش مع أهلينا وأقربائنا: ((أمك وأبوك، وقرهما، لا تقتل، لا تسرق، لا تكذب .. )).

هذا هو أول نظام للدفاع الفعال الذي يحوط شبكة العلاقات الاجتماعية من أجل حمايتها، في أي مجتمع وليد، ذلك المجتمع الذي سيحقق وعد الله لذرية إبراهيم، ويتم هذا في رسالة النبي العربي، وفي النشاط المشترك الذي تضطلع به أمته، تلك الأمة (الوسط) التي يناط بها تحقيق العلاقة بين الإنسانية المتحضرة الممثلة في شخص (سلمان)، والإنسانية العذراء الممثلة في شخص (بلال)، وهي العلاقة التي تمد جذورها البعيدة في أعماق تلك الوصية الإلهية الأولى: ((لا يكن لك من آلهة أمامي)) (¬1). إن جميع المبادئ الأخلاقية، دينية كانت أو لا دينية إنما تنتهي إلى هذا الأساس المقدس الذي يرتفع فوقه بناء الأنسانية الأخلاقية، كما أنه هو الذي يؤمن نشاطها المشترك. بل إن جميع التعاليم المقدسة التي دانت لها الإنسانية العذراء وجميع المبادئ الأخلاقية التي اتخذتها الإنسانية المتحضرة ليست إلا تطبيقاً متنوعاً لتعاليم أخلاقية مشتركة، يختلف التطبيق فيها تبعاً لتعاقب ظروف التاريخ الإنساني، والهدف الأساسي لهذه التعاليم هو الدفاع عن شبكة العلاقات الاجتماعية، التي يقوم عليها كل مجتمع، كيما يؤدي نشاطه المشترك في التاريخ. وليست القوانين الحديثة سوى تطبيق لهذه التعاليم في حالات خاصة، ناشئة عن الحياة، وعن التجربة الخاصة لمجتمع يؤدي نشاطه المشترك، في مستوى قومي وعالمي معاً. وكل قانون من هذه القوانين، هو في نهاية الأمر، للإقلال من الآثار المفرقة الطردية، والإكثار من الآثار الموثقة الجذبية في شبكة العلاقات، التي تتيح له جميع أوجه النشاط الاجتماعي، وتشملها جميعاً، ابتداء من أكثرها بساطة، في المجتمعات، إلى أشدها تعقيداً، في المجتمعات التي ارتقت سلم الحضارة صعداً. ¬

_ (¬1) العهد القديم- سفر الخروج- الإصحاح العشرون.

وإلا فماذا يقصد بالإقلال من الآثار المفرقة الطردية، والإكثار من الآثار الموثقة الجذبية في العلاقات المتحققة بين أفراد مجتمع معين، إن لم يكن يقصد بها تعليم هؤلاء الأفراد كيف يعيشون معاً، أعني: كيف يتحضرون. لا تصرق .. لا تقتل .. لا تكذب .. ماذا تعني هذه الكلمات .. إنها تعني بلا شك أشياء كثيرة، ولكن أهم هذه الأشياء هو الإقلال من الآثار الطردية في ميول الأفراد الذين يكونون المجتمع. وكلمات مثل: ((تصدق .. أحبب أخاك كما تحب نفسك .. احترم الوعد الذي تبذله .. )) ماذا يقصد بها.؟ أشياء كثيرة ولا شك. ولكن أمها جميعاً هو الإكثار من الآثار الجذبية في الميول الجماعية التي توحد الأفراد في مجتمع. وماذا يقصد بهذه التعاليم الأخلاقية- التي يستخف بها أحياناً أولئك الذين يدعون تحضيرنا، بإطلاق غرائزنا من عقالها- سوى أنها تضعنا على طريق الحضارة، وهي تعلمنا فن الحياة مع أقراننا.؟؟ وبهذا وحده تختلف الثقافة في جوهرها عن العلم. فليست الثقافة سوى تعلم الحضارة، أعني استخدام ملكاتنا الضميرية والعقلية في عالم الأشخاص. وليس العلم سوى بعض نتائج الحضارة، أي إنه مجرد جهد تبذله عقولنا حين تستخدم في عالم الأشياء. فالأولى تحركنا وتقحمنا كلية في موضوعها. وأما الثاني لإنه يقحمنا في مجاله جزئياً. والأولى تخلق علاقات بيننا وبين النظام الإنساني، والآخر يخلق علاقات بيننا وبين نظام الأشياء.

ومن هنا يتبين لنا أن الذين عملوا على تحرير غرائزنا، مدعين أنهم يحضروننا بعملهم هذا- يكشفون تماماً عن جهلهم: فهم يعرفون كلمة: (حضارة)، وربما كان مصدر تعلمهم هذه الكلمة معجم لغوي، أو صحيفة سيارة، على حين يجهلون تماماً ماذا تعني في الواقع. هؤلاء الأساتذة المتساهلون في الحضارة هم في الواقع شر أعداء التقدم: إنهم قوارض، يقرضون جوهر الحضارة ذاته، كما تقرض الفئران كومة من القمح، لتحيله غير صالح لشيء. فإذا احتجنا اليوم أن نعد في بلادنا دفاعاً من أجل الحضارة، فمن الواجب أن يكون دفاعاً ضد هذه القوارض. ومن الواجب أن يعد مجتمعنا جائزة كبرى لمن يستطيع أن يكشف عن أحسن مبيد للفئران، دفاعاً عن شبكة علاقاته ضد هذه القوارض. ومع ذلك فليست هذه القوارض وحدها النوع الحيواني الذي يهدم المجتمع، حين يقرض شبكة علاقاته التي تعينه على أداء نشاطه المشترك، بل إن هناك نوعين من خيانة المجتمع: ـ[نوع يهدم روحه، وآخر يهدم وسائله]ـ. والخيانة الأولى تخلق الفراغ الاجتماعي حين تهدم المبادئ والأخلاق والروح، وهي الأمور التي تبقي للمجتمع التوتر الضروري، كيما يواصل نشاطه المشترك في التاريخ. والخيانة الثانية تخلق الفراغ حين توجه جميع الملكات المبدعة وجميع الفضائل الأخلاقية في المجتمع خارج عالم الوقائع والظواهر. فإحدامها تجهل أوامر السماء، والأخرى تجهل مقتضيات الأرض، ولكنهما

تنتهيان بطرق مختلفة، وأحياناً متعارضة إلى نتيجة واحدة هي: الفراغ الاجتماعي، حيث تغور الروح، وتغور معها وسائل الحضارة. وإنما تختان الحضارة إذا ما فارق دعاتها سبيلهم التي يسلكونها لأداء نشاطهم المشترك. واتبعوا سبلاً وطرائق متخالفة، تجعل النشاط مستحيلاً: فسبل تنسل إلى حظيرة التصوف، وأخرى تنحدر إلى عالم العجائب الذي هبت منه الريح ألف ليلة وليلة، وثالثة تختار طريق الرقص والغناء بدعوى أنها تَحَضُّر. وهنا تأتي الساعة التي يقع فيها حكم الله، كأنه شاطور على رأس المجتمع: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 6/ 153] فمن الواجب إذن أن نواجه مشكلة الدفاع عن شبكة العلاقات، لا بالنسبة لنوع معين من القوارض الخاصة، أولئك النواتج المجازون من قبل ثقافة أجنبية أساؤوا تمثلها، ولكن بالنسبة لجميع الأنواع التي تخلق بطريقة أو بأخرى حالة الفراغ الاجتماعي. فمبيدات القوارض إذن لا تكفي، تدلنا على ذلك التجربة اليومية، فنحن نرى مثلاً أنه في اللحظة التي تعلن فيها السلطات المختصة في شوارع إحدى العواصم العربية لسائقي السيارات ألا يستخدموا النفير إلا في حالات الضرورة القصوى، في هذه اللحطة بالذات نجد هؤلاء السائقين يلعبون بهذه الآلة بصورة غير معقولة. ذلك واقع صغير ولا شك، ولكنه عرض من أعراض التبطل وانعدام الفاعلية في دفاعنا عن شبكة علاقاتنا الاجتماعية. ومن الممكن بداهة أن نكتب في هذا الموضو كتاباً كاملاً ولكنه لا يساوي هذا القدر من المشقة.

وعلى ذلك ينبغي أن نتصور المشكلة بوجه عام، وأن نصوغها بلغة التربية الاجتماعية، فليس الأمر أن نتصور حلولاً جزئية أثبتت التجربة بعد فوات الأوان عدم جدواها، وأنها ضرب من ضروب العبث والسخرية، عندما نلاحظ مثلاً في مدخل أحد المستشفيات لافتة تدعو الزوار إلى احترام راحة المرضى، على حين نرى مدير المبنى نفسه يربي داخله كلباً ضخماً ينبح طول النهار. هل يجب في هذه الحالة أن نقول للسيد المدير: إنه قد نسي أن يضع هذه اللافتة على مكتبه .. (¬1)؟ إننا لو اتبعنا هذه اللغة فلربما فقدت التربية الاجتماعية أهميتها وكرامتها. إذ ليس الهدف منها أن نعلم الناس أن يقولوا أو يكتبوا أشياء جميلة، ولكن الهدف أن نعلم كل فرد فن الحياة مع زملائه، أعني: أن نعلمه كيف يتحضر. فإذا ما تصورنا التربية الاجتماعية في نطاق هذه المصطلحات أمكننا أن نلخصها في كلمة واحدة هي: الثقافة. هل هذا يكفي .. ؟. لا لأن هذه الكلمة ذاتها قد تعرضت للتشويه والابتذال نتيجة الاستعمال السيئ، على ما شرحناه في دراسة سابقة (¬2). فليست التربية مجموعة من القواعد والمفاهيم النظرية التي لا سلطان لها على الواقع، على عالم الأشخاص، وعالم الأفكار، وعالم الأشياء. وليست هي من إنتاج المتعالمين وبحار العلوم، الذين يعرفون جميع كلمات ¬

_ (¬1) طبيعي أننا لو سألنا هذا المدير عن سلوكه الشاذ، فلسوف نجد لديه أسباباً لتفسيره. ولكن ليس من شك في أن هذه الأسباب ذاتها هي التي تضطرنا إلى ان نجعله بين القوارض التي تهدم المجتمع من حيث تظن أنها تخدمه. (¬2) انظر كتاب (مشكلة الثقافة).

المعاجم، دون أن يلموا بما تترجم عنه هذه الكلمات من وقائع، خيراً كانت أم شراً، أو أولئك الذين يعرفون جميع المبادئ والتعاليم التي جاءت في الإسلام، دون أن يستطيعوا تطبيق مبدأ أو تعليم واحد لتغيير أنفسم، أو تغيير بيئتهم. فكل حقيقة لا تؤثر على الثالوث الاجتماعي: الأشخاص، والأفكار، والأشياء، هي حقيقة ميتة. وكل كلمة لا تحمل جنين نشاط معين، هي كلمة فارغة، كلمة ميتة مدفونة في نوع من المقابر، نسميه: القاموس. وكلمة (تربية اجتماعية) تشترك في هذا المصير العام: فهي لا تعني شيئاً إذا لم تكن- في الواقع وبما تحمل من معنى- وسيلة فعالة لتغيير الإنسان، وتعليمه كيف يعيش مع أقرانه، وكيف يكون معهم مجموعة القوى التي تغير شرائط الوجود نحو الأحسن دائماً، وكيف يكون معهم شبكة العلاقات التي تتيح للمجتمع أن يؤدي نشاطه المشترك في التاريخ. وكذلك كلمة (ثقافة)، ليست سوى كلمة فارغة رنانة لو لم تخلع على (التربية الاجتماعية) المضمون الضروري، الذي يتيح لها الاضطلاع بوظيفتها المغيرة. ومن الواجب أن نفكر مليا في هذه المصطلحات، لا من طريق الاستعانة بقاموس تمسك به اليد، ولكن من طريق الاستعانة برأس مستقر بين اليدين. فليس الأمر إذن أن تقول: إن الثقالة تحتوي بصفة عامة عدداً من الفصول هي: الأخلاق، والجمال، والمنطق العملي، والصناعة الفنية. ولكن الأمر يقتضينا أن نتساءل: كيف ينبغي أن ندركها في صورة برنامج تربوي يصلح لتغيير الإنسان الذي لم يتحضر بعد، في ظروق نفسية زمنية معينة، أو لإبقاء الانسان المتحضر في مستوى وظيفته الاجتماعية، وفي مستوى أهداف الإنسانية-

أما فيما يتعلق بحالتنا، أعني البلاد العربية والإسلامية، فينبغي أن نفكر في الإنسان الذي لم يتحضر بعد، أو الذي خرج من دورة حضارته في أزمة تاريخية معينة، كيما نحدد- بالنسبة إليه- شروط الفاعلية التي يمكن أن تقوم على منهج للأخلاق أو الجمال مثلاً. أي إنه ينبغي أن نحدد من أجل الإنسان الشروط الأولية التي تحقق له ما يبتغي من ثقافة. ***

الشروط الأولية للتربية الاجتماعية

الشروط الأولية للتربية الاجتماعية لمشكلات الإنسان طبيعتها الخاصة، فهي تختلف اختلافاً كلياً عن مشكلات المادة، لا يمكن معه أن تطبق عليها دائماً حلول تستقي براهينها من الخارج. ولعلم الاجتماع مناهجه الخاصة، فإذا ما صرفنا النظر عن مناهجه وقعنا أحياناً في ذلك النقص، كمن يداوي بالكي رجلاً من خشب. كما يقول المثل الفرنسي. ويحدث هذا غالباً في البلاد الإسلامية، فالحلول كلها مستعارة من بلاد متحضرة، لا تحدث عندنا التأثير نفسه الذي لها في أوطانها، حتى كأنها تفقد فاعليتها في الطريق، بمجرد انفصالها عن إطارها الاجتماعي. ومجال المجتمع ليس كمجال الميكانيكا، وهو لا يرتضي كل الاستعارات، لأن أي حل ذي طابع اجتماعي يشتمل تقريباً ودائماً على عناصر لا توزن، ولا يمكن تعريفها، ولا يمكن أن تدخل في صيغة التعريف، على حين تعد ضمناً جزءاً منه لا يستغنى عنه، عندما تطبق في ظروف عادية، أي في ظروف البلاد التي نستوردها منها. وبعبارة أدق، هذه العناصر جزء من المحيط الاجتماعي،- في الحالة التي يطبق التعريف خارج هذا المحيط- تطبق تلقائياً في صورة فكرة يفرضها الوسط على سلوكنا. فإن لم توجد يصبح التعريف زائفاً تقريباً، إذ تنقصه بعض الأشياء التي ضاعت حين انفصل عن ظروفه الأصلية. ولقد سبق أن لفتنا اهتمام القارى إلى هذا الجانب في (مشكلة الثقافة)،

وبوسعنا أن نزيد من إيضاحه بالقياس على مناهج الكيمياء. ولنفترض أن بلداً أياً كان عرف للمرة الأولى الصيغة الكيميائية للماء، وهي التي نعرفها في دراستنا الابتدائية، حيث تعلمنا أن: هيدروجين2 + أوكسجين1 = ماء فهذه الصيغة صحيحة من حيث التحليل. ولكن لنفزض أن أحداً من الناس قبسها هكذا، ليطبقها في صناعة الماء، فإنه لن يصل إلى شيء، إذ ينقصه عند التطبيق عنصر جوهري هو: المركب الذي لم تعبر عنه الصيغة، ولا يمكن أن تعبر عنه، لأنها من حيث كانت تعبيراً عن علاقات كمية بين عنصري الايدروجين والأكسجين، اللذين يكونان الماء- تعد صحيحة على وجه الدقة. فهي صحيحة، ولكنها غير قابلة للتطبيق في يد من لا يجد في ذهنه ما يكملها. فجميع أنواع الحلول ذات الصيغة الاجتماعية التي نقبسها عن بلاد أخرى ثبتت لها فيها صلاحيتها، تشبه الصيغة الكيميائية المشار إليها، هي صحيحة في هذه البلاد على وجه التأكيد، ولكنها تقتضي عند التطبيق عناصر مكملة لا تأتي معها، ولا يمكن أن تأتي معها، لأنه لا يمكن حصرها. ولا يمكن فصلها عن المحيط الاجتماعي في بلادها، أي لا يمكن فصلها عن (روحها). وإذن، فلكي نواجه بطريقة فنية أية مشكلة اجتماعية، ينبغي ألا يقتصر عملنا على اقتراض الحلول التي تأكدت صحتها خارج بلادنا، إذ أن الصيغة المقتبسة صحيحة بلا أدق شك، ولكن في إطارها الاجتماعي، في محيطها الذي تَخَلَّقَتْ فيه، في نفحة (الروح) التي تخيلتها. هل معنى ذلك أن ندين كل اقتباس؟ .. ليس أوهن ولا أضعف من أن نرفض الاستنارة بتجارب الآخرين،

والإفادة من جهودهم، ولكن بشرط أن نرد الحل المستعار إلى أصول البلد المستعيرة. وبعبارة أخرى، ينبغي أن نهيئ بلادنا المحيط اللازم لتطبيق ما نتصور من حلول لمشكلاتنا الاجتماعية. تلكم هي مشكلة الشروط الأولية، وهي مشكلة تثور أمامنا لا بالنسبة إلى الحلول الجاهزة التي نقبسها من الخارج، بل بالنسبة لجميع الحلول التي نتصورها لحل ما يواجه مجتمعنا من مشكلات، في مرحلته التاريخية الراهنة. وقد يدهش بعض الناس أحياناً في أوساطنا المفكرة، حيث الفكرة الإصلاحية دائماً موضوع الاهتمام، يدهشون من أن الحلول التي أكدت صلاحيتها من قبل في المجتمع الإسلامي الأول لم تعد لها اليوم فاعليتها. ولننظر مثلاً إلى (الزكاة)، وقد كانت الدعامة التي قام عليها بناء الإمبراطورية الإسلامية، بجميع مؤسساتها الدينية والحربية، وجميع إداراتها الثقافية، وأعمالها الاجتماعية. أما الآن، فلقد فقد هذا النظام الإسلامي تقريباً كل فاعليته الاجتماعية. بل لننظر أكثر من ذلك إلى فكرة (إسلام) ذاتها، وهي التي نعرف دويها العميق في ضمير المسلمين الأولين، هذه الفكرة لم يعد لها اليوم الدوي نفسه، وقوة التوجيه لسلوكنا الفردي، ولأعمالنا وأفكارنا ومشاعرنا؟! وبعض المسلمين- الذين ما زالوا يحسون بقلوبهم بالمأساة، ولكن ليس لديهم ما يكفي من الصبر والأناة لدراستها- هؤلاء يترجمون دائماً عن المأساة قائلين: ((إننا لم نعد مسلمين إلا بشهادة الميلاد)). وإنهم ليقرون الحقيقة ولكنهم ربما فعلوا شيئاً أكثر فائدة لو أنهم لاحظوا ملاحظات أولية في وسطنا.

ومع ذلك فمن السهل أن نقوم ببعض الملاحظات لأشياء كثيرة الوقوع، لنوجه خطانا في الموضوع. فيمكن أن نلاحظ مثلاً التأثير العظيم للحقيقة الإسلامية على الحضور الذين يشهدون صلاة الجمعة، وينصتون إلى خطبتها عند قدمي المنبر في المساجد. إن كلمات الإمام التي تهبط من المنبر على هذا المستمع المنصت تزلزل كيانه. وكثيراً ما رأينا في جوانب المسجد أحد المصلين ذائباً في دموعه، بل لقد نرى الإمام نفسه، وقد خنقته شهقاته وانفعالاته. ومع ذلك فإذا ما قضى هذا المستمع صلاته، بقيت (الحقيقة) التي زلزلت كيانه في المسجد، ولم تتبعه إلى الشارع. فالمسلم حين يتخطى عتبة المسجد ينتقل إذن من حال إلى حال أخرى. وهذا يضطرنا إلى أن نسجل ملاحظتنا: إن هناك انفصالاً بين العنصر الروحي والعنصر الاجتماعي، هناك افتراق بين المبدأ والحياة. والمسلم يعيش اليوم هذا الانفصال الذي يمزق شخصه شطرين: شطر ينظم سلوكه في المسجد، وشطر ينظمه في الشارع. إن المسلم يخضع لنظام يشبه إلى حد كبير (الدش الاسكتلندي) (¬1) فهو يتعرض لأشد التأثيرات النفسية تعارضاً، فإذا ما تخطى عتبة المسجد يوم الجمعة فإنه يشعر بدفء في قلبه، ودفء في نفسه. ولكنه بمجرد أن يضع قدمه في الشارع يعاوده البرد فيحتل قلبه ونفسه. إنه يسمع عند قدمي المنبر مثلاً موعظة في فضائل رمضان، ولكنه منذ يعود إلى بيته يستمع في الراديو إلى العرض الأسبوعي لرئيس إحدى الدول الإسلامية، يحرض خلاله المواطنين في بلاده أن ¬

_ (¬1) هذا التعبير يطلق على تقاليد الاسكتلنديين في استخدام (الدش)، لأنهم يصبون منه ماء ساخناً، يتبعونه بماء بارد.

يفطروا رمضان لمواجهة ضرورات البناء الاجتماعي، كأن هذا البناء يمكن أن تقوم قائمته دون أسس أخلاقية، أو كأنما يمكن في أي بلد فصل الجهد الاجتماعي عن القوى الأخلاقية التي تسانده، دون هدم هذا الجهد ذاته، وطبيعي أن هذا مستحيل. وإن التجربة الحالية في الاتحاد السوفييتي لترينا إلى أي حد يهتم هذا البلد في تخطيط بنائه الاشتراكي بجميع إمكانيات الإيمان الشيوعي، وبجميع القوى الأخلاقية التي يحركها؛ فلو فرض أن قال أحد القادة الشيوعيين أية قولة تضر بوحدة النشاط التي تضم جميع القوى الأخلاقية والمادية في البلد، في عمله المشترك، إذن لاتّهم بالجنون، وفصل فوراً من قيادة الحزب. وهذا كله يبين لنا أن المسلم لا يستطيع أن يحقق وحدة شخصه في هذه الظروف. وتاريخ هذا الانفصال يرجع بلا شك إلى عهد جد بعيد، فقد حدث أولاً بين العنصر الروحي والعنصر السياسي، بين الدولة والفكرة الدينية. ويمكن أن نؤرخ هذا الانفصال الأول بمعركة صفين، ولكن آثاره أخذت تتفشى في العالم الإسلامي كأنها مرض عضال لم يوجد له علاج. واليوم غدا الانفصال بين الروحي والاجتماعي، وآثاره هي ما نلاحظ في سلوك المسلم الحديث في المسجد وفي الشارع. وبعبارة أخرى: يجد المسلم (نفسه) في محيط المسجد، لأن المسجد هو الذي ينشئ بالنسبة لضميره الوسط الأولي الذي تكون فيه، فهو يجد (شخصه). ولكنه على عتبة المسجد يفقد صلته بهذا الوسط الأولي، ويجد نفسه في نطاق الظروق الاجتماعية التي تمحو (شخصه) وتبعث فيه (الفرد) الخام.

ولكي نعطي لهذه المأساة تعبيرها الحديث الروماني نقول: إن المسلم يعيش اليوم تارة في حالة الدكتور جيكل، الذي يجسد تفوق الشخص على (الأنا)، وتارة في حالة مستر هايد الذي يجسد رذائل الفرد (¬1). فالمجتمع مضطر أن يستعير من الطبيعة، أعني من غرائز الفرد طاقته الحيوية اللازمة لأداء نشاطه المشترك في التاريخ. ولكن الطاقة الحيوية قد تهدم المجتمع ما لم يسبق تكييفها، أعني ما لم تكن خاضعة لنظام دقيق تمليه فكرة عليا، تعيد تنظيم هذه الطاقة، وتعيد توجيهها فتحولها من طاقة ذات وظائف بيولوجية خالصة في المقام الأول - حيث تشترك في حفظ النوع- إلى طاقة ذات وظائف اجتماعية يؤديها الإنسان، حين يسهم في النشاط المشترك لمجتمع ما. فالمشكلة التي نواجهها هنا إذن ذات جانبين: جانب اجتماعي وجانب نفسي. وقد أرتنا أوجه التعارض السالفة أنه لكي نعالجها من كلا جانبيها يجب أن تكون لدينا (فكرة) عليا، تصل ما بين الروحي والاجتماعي، وتجري من جديد تركيب الشخص المسلم تركيباً يجعله يتماثل مع ذاته، في المسجد وفي الشارع. ولقد أكدت الفكرة الإسلامية فيما مضى صلاحيتها في بناء مجتمع استطاع أن يؤدي نشاطه المشترك بطريقة بالغة التوفيق. لقد أخضعت هذه الفكرة الطاقة الحيوية لدى البدوي العربي لنظامها الدقيق، فجعلت منه إنساناً متحضراً ومحضراً. والأمثلة كثيرة على أن هذه الفكرة ¬

_ (¬1) هذه إشارة إلى قصة أوسكار وايلد المشهورة، وهي قصة عالم طبيب يطبق على نفسه طرقاً عملية تنتهي بتحليل ذاته إلى سخصيتين: شخصية الوحش المجرم في شخص مستر هايد، وشخصية العالم الفاضل في الدكتور جيكل.

أظهرت فاعليتها الكاملة في إعادة تتظيم وتوجيه الطاقة الحيوية التي أسلمتها شبه الجزيرة العربية إلى عصر النبي عليه الصلاة والسلام. فعندما كان النبي مشغولاً في المدينة بالمطالب المادية للدولة الإسلامية الفتية، من أجل مواجهة ضرورات الحرب، التي ستبدأ بمعركة بدر، كان صحابته يقدمون له عن طيب خاطر جزءاً من أموالهم، ويعقب سعد بن عبادة على عمله بتلك الكلمة المعبرة: ((يا رسول الله: خذ من أموالنا ما شئت، وما أخذته منها أحب إلينا مما تركت)). هذا مثال يرينا كيف أن الطاقة الحيوية في صورة غريزة التملك المطبوعة في الإنسان، تتحول إلى طاقة محكومة منظمة موجهة نحو المهام الاجتماعية. وأياً ما كان الأمر فإن عملية إعادة التنظيم والتوجيه ينبغي أن تكون المهمة الأولى في خطة النهضة الإسلامية، لأن تحقيقها هو الذي يوجد الشرط الأول لتحويل الجهود في نطاق هذه النهضة إلى جهود فعالة. وقد تم هذا العمل في المجتمع الإسلامي الأول بفضل رعاية الفكرة القرآنية، لا على أنها مفاهيم تدرس وتعلم على يد فقهاء الشريعة، ولكن على أنها (حقيقة) عاملة مؤثرة، تجمع في نظامها مباشرة كل ما يقوم به الفرد من أعمال وإشارات، على ما جاء في حديث ابن عمر وحديث جندب رضي الله عنهما: ((لقد عشنا دهراً طويلاً وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، فتنزل السورة على محمد - صلى الله عليه وسلم - فيتلعم حلالها وحرامها، وآمرها وزاجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها)). وقد خططنا في فصل سابق عملية إعادة تنظيم الطاقة الحيوية من الناحية النظرية.

ويمكن أن نزيد في إيضاحها هنا من حيث هي عمل فكرة (الإسلام) ذاتها في الوسط المسلم، ونريد أن نبين كيف يتم تكييف الفكرة الدينية للطاقة الحيوية، وإخضاعها لنظامها. ولذا يتعين علينا اللجوء إلى لغة التحليل النفسي بغية تتبع اطراد الحضارة، باعتباره صورة زمنية للأفعال وردود الأفعال المتبادلة، والتي تتولد منذ بداية هذا الاطراد بين الفرد والفكرة الدينية التي تثير فيه الحركة والنشاط. فعندما نعد الفرد عند نقطة الصفر في الصورة التخطيطية التي قدمناها، نجده في الحالة التي يطلق عليها بعض المؤرخين المسلمين كلمة: (الفطرة) أي مع جميع غرائزه كما وهبته إياها الطبيعة، فالفرد في هذه الحالة ليس في أساسه إلا (الإنسان الطبيعي). غير أن الفكرة الدينية سوف تتولى إخضاع غرائزه لعملية تكييف تمثل ما يعرف في علم النفس (الفرويدي) بـ (الكبت). وليس من شأن هذه العملية القضاء على الغرائز، ولكنها تتولى تنظيمها في علاقة وظيفية مع مقتضيات الفكرة الدينية، فالحيوية الحيوانية الممثلة في الغرائز بصورة محسة لم تلغ، ولكنها خضعت لقواعد نظام معين. في هذه الحالة يتحرر الفرد جزئياً من قانون الطبيعة المفطور في ذاته، ويخضع وجوده كله للمقتضيات الروحية التي أوجدتها الفكرة الدينية في نفسه، إيجاداً يمارس معه حياته في هذه الحالة الجديدة طبقاً لقانون الروح. وهذا القانون عينه هو الذي كان يحكم بلالاً تحت سياط العذاب، فيرفع سبابته وهو يقول: ((أحد! أحد!)). ومن الواضح أن هذه القولة لا تمثل صيحة الغريزة، فموت الغريزة قد صمت، ولكنه لا يمكن أن يكون قد ألغي بوساطة التعذيب، كما أنها لا تمثل نداء العقل فالألم لا يتعقل الأمور.

إنها صيحة الروح تحررت من إسار الغرائز بعد ما تمت سيطرة العقيدة عليها نهائياً في ذات (بلال بن رباح). كذلك كان المجتمع الإسلامي يحكمه هذا التغيير ذاته، إذ كان شأنه شأن (بلال)، لا يتحدث بلغة اللحم والدم، كما أن صوت العقل كان لا يزال صامتاً في المجتمع الوليد. فكل لغة هذا العصر كانت روحية المنطق، إذ هي بنت الروح أولاً وقبل كل شيء. ذلكم هو الطور الأول من أطوار حضارة معينة، الطور الذي تروض فيه الغرائز وتلك في نظام خاص يكبح جماحها، ويقيد انطلاقها. الروح في صوت بلال هي التي تتكلم، وتتحدى بلغتها اللحم والدم، وكأنما كان يتحدى هو أيضاً بسبابته المرفوعة طبيعة البشر، ويرفع بها في لحظة معينة مصير الدين الجديد. والروح أيضاً هي التي كانت تتحدث بصوت (الزانية) حين أقبلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تعلن عن خطيئتها، وتطلب إقامة حد الزنا عليها. فهذه الوقائع جميعها تخرج عن معايير الطبيعة، وتدل على أن الغريزة قد كبتت، غير أنها ظلت محتفظة بنزوعها إلى التحرير. وهنا ينشب الصراع المحتدم بين هذا النزوع وسيطرة الروح. وفي الوقت نفسه يواصل المجتمع، ربيب الفكرة الدينية، طريق تطوره، وتكتمل شبكة علاقاته الداخلية، بقدر امتداد إشعاع هذه الفكرة في العالم، فتنشأ المشكلات المادية لهذا المجتمع الوليد، نتيجة توسعه، كما تتولد ضرورات جديدة نتيجة اكتماله. وحتى تتفق تلك الحضارة مع المقاييس المستجدة تسلك منعطفاً جديداً، يتطابق مع (النهضة)، كما نراها بالنسبة إلى الدورة الأوربية، ومع استيلاء الأمويين على الخلافة بالنسبة للدورة الإسلامية.

وفي الحالتين كلتيهما فإن المنعطف هو منعطف العقل. غير أن هذا العقل لا يملك سيطرة الروح على الغرائز، وحينئذ تشرع الغرائز في التحرر من قيودها بالتدريج على الصورة التي عرفناها عن عهد بني أمية، إذ أخذت الروح تفقد نفوذها، كما كف المجتمع عن ممارسة ضغطه على الفرد. وطبيعي ألا تنطلق الغرائز دفعة واحدة، وإنما تتحرر بقدر ما يضعف سلطان الروح. وكلما واصل التاريخ سيره، واصل التطور عمله في نفسية الفرد، وفي البناء الأخلاقي للمجتمع، الذي يكف عن تعديل سلوك الأفراد. وبقدر ما تتحرر هذه النزعة من قيودها في المجتمع، ينكمش التحرز الأخلاقي في أفعال الفرد الخاصة شيئاً فشيئاً. ولو استطعنا مراقبة هذه الظروف النفسية بوسيلة دقيقة، بغية تتبع نتائجها- كما هو الشأن في معامل الطبيعة- لأمكننا أن نلاحظ انخفاضاً في مستوى أخلاق المجتمع. وبعبارة أخرى: نلاحظ نقصاً في الفاعلية الاجتماعية للفكرة الدينية، وإن هذه الفكرة تتناقص دائماً، منذ أن دخلت الحضارة منعطف العقل. فأوج الحضارة، وأعني به ازدهار العلوم والفنون فيها، يلتقي من وجهة نظر (علم العلل Ethiologie) مع بدء مرض اجتماعي معين لا يلفت انتباه المؤرخين وعلماء الاجتماع، لأن آثارها المحسة لا تزال بعيدة، وبهذا تواصل الغريزة- المكبوحة الجماح بيد الفكرة الدينية- سعيها إلى الانطلاق والتحرر، وتستعيد الطبيعة سيطرتها على الفرد، وعلى المجتمع، شيئاً فشيئاً. فإذا ما بلغ هذا التحرر تمامه، عادت الغرائز إلى سيطرتها على مصير الإنسان، وبدأ التطور الثالث من أطوار الحضارة، بظهور الغريزة التي تسفر

عن وجهها تماماً. وهنا تنتهي الوظيفة الاجتماعية للفكرة الدينية، وتعود الأشياء كما كانت في مجتمع منحل، ضرب نهائياً في ليل التاريخ، وبذلك تتم دورة في الحضارة. هذه الدورة الكاملة تضيء لنا جميع المراحل التي تمر بها الطاقة الحيوية خلال حضارة، ولكنها تضيء خاصة المرحلة الأولى، عندما تخضع خضوعاً تاماً لنظام فكرة دينية. وهي ترينا في أي الظروف تتم عملية التنظيم لتلك الطاقة الحيوية، في ظل سيطرة الفكرة الدينية. وهذه النظرة أساسية في أي مشروع يستهدف إعادة تنظيم الطاقة، بغية إعادة بناء شبكة علاقات معينة. فإعادة التنظيم تستلزم الظروف نفسها، أعني فكرة دينية جديدة. ولقد برهنت تجربتنا اليومية على أمرين: 1 - إن الفكرة الاسلامية لم يعد لها في سلوك الفرد ما كان لها من فاعلية على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. 2 - وأنها تستعيد خلقها بصورة تلقائية عند قدمي المنبر، في محيط المسجد. ونستخلص من الملاحظة الأولى أن المسلم لا يحتفظ باستقلاله الأخلاقي، ابتداء من اللحظة التي يغادر فيها المسجد، فهو يسقط تحت سطوة قانون العدد. وبدلاً من أن يؤثر على الوسط طبقاً لمثله الأعلى ومبادئه، نجد أن الوسط هو الذي يؤثر عليه، فيجرده من مثله الأعلى، ويهدم مبادئه. وقد تبرز هذه الملاحظة أحياناً بصورة روائية مؤسية، عندما نجد أحد قادة الحركة الإصلاحية في بلد إسلامي، كالشيخ العقبي بالجزائر، يبذل جهده في دفع حركة كهذه خلال أعوام طويلة، ثم إنه يفقد استقلاله الأخلاقي ليصبح نهائياً

حليفاً للاستعمار. ويجب أن نضيف أن الفرق ليس كبيراً عندما يصبح الفرد حليفاً للقابلية للاستعمار. والملاحظة الثانية ترينا أن المسلم يعثر على استقلاله الأخلاقي في جو المسجد، إذ يكون اجتماع أشخاص، يخلق تأثير الوعظ لديهم الظروف الأولية التي ظهرت فيها الفكرة الإسلامية على عهد المسلمين الأولين. وقد كانت الطاقة الحيوية لدى صحابة النبي عليه الصلاة والسلام في تلك الظروف لا منظمة فحسب، وإنما موجهة لأداء نشاط مشترك، نعرف تاريخه. فإذا ما شعر المسلم في عصرنا هذا، في جو المسجد، بسيطرة الفكرة الإسلامية على غرائزه، وإذا ما وجد نفسه يضل عن هذا الشعور بمجرد خروجه إلى الشارع، فمعنى ذلك أنه لا يجد في الحياة الإطار الضروري الذي ينقذ استقلاله الأخلاقي، حين يوجه طاقته وجهة أغراض حسية ليست مناقضة لمثله الأعلى فحسب، من الناحية النظرية، ولكنها تذكره دائماً بأنه مدفوع مع غيره من المسلمين في نشاط مشترك يجب أن يحقق عملياً هذا المثل الأعلى المشترك. ومن الممكن أن نقيس، بالنظر إلى الماضي، أهمية هذه الملاحظة حين نسأل أنفسنا عما كان يمكن أن يحدث من المسلمين الأولين لو أنهم بدلاً من أن يدعوا إلى تحقيق مثلهم الأعلى بالطرق العملية، اكتفوا بصلاة داخل مسجد من أجل تحقيقه؟ .. من المؤكد في هذه الحالة أنهم ما كانوا ليغيروا من الوسط الجاهلي باحتفاظهم باستقلالهم الأخلاقي في جميع الظروف، وإنما هو الوسط الجاهلي الذي ربما كان قد حولهم إلى مشركين. فالنشاط المشترك هو الذي أنقذهم، وهو الذي أنقذ الوسط الجاهلي في الوقت ذاته. إن المشكلة التي تواجه المسلم اليوم هي تقريباً المشكلة نفسها التي عبر عنها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قوله:

((لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها)). فنحن بحاجة إلى إعادة تنظيم طاقة المسلم الحيوية وتوجيهها، وأول ما يصادفنا في هذا السبيل هو أنه يجب تنظيم تعليم (القرآن) تنظيماً (يوحي) معه من جديد إلى الضمير المسلم (الحقيقة) القرآنية، كما لو كانت جديدة، نازلة من فورها من السماء على هذا الضمير. وثاني ما يصادفنا هو أنه يجب تحديد رسالة المسلم الجديدة في العالم. فبهذا يستطيع المسلم منذ البداية أن يحتفظ باستقلاله الأخلاقي، حتى ولو عاش في مجتمع لا يتفق مع مثله الأعلى ومبادئه، كما أنه يستطيع أن يواجه- على الرغم من فقره أو ثرائه- مسؤولياته مهما يكن قدر الظروف الخارجية الأخلاقية أو المادية. وهو بهذه الطريقة يستطيع أيضاً أن ينشئ وسطه الخاص شيئاً فشيئاً، حين يؤثر على الظروف الخارجية بحياة نموذجية ينتقل أثرها إلى ما عداها، كما كانت حياة حفنة الرجال الذين عاشوا حول النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة، أيام الإسلام الأولى. ومع ذلك فإن هذه التأملات لا تنشئ حلاً، ولكنها مجرد خطوة على طريق المشكلة ذات الأهمية الخطيرة بالنسبة لمستقبل العالم الإسلامي. ولكي نعطي هذه التأملات قيمة عملية يجب أن نعرضها لاختبار الحياة، في صورة إجراءات تربوية فعلية، في المستوى الإسلامي، ومن أجل هذا لابد من الممارسة العملية. ولكي تكون مثمرة يجب أن يتولاها مجمع من المتخصصين، الخالين من العقد البيروقراطية التي تنتاب الموظف، ومن (نظارة) رجل السياسة، المحدودة حريته الأخلاقية بأوامر حزبه أو جماعته، ومن أخلاق الفوضويين المغرمين بتملق الرأي العام. يجب أن نحفظ لكل مشكلة استقلالها بالنسبة إلى غيرها، وإلا أغرقنا مشكلة

العلاقات بين المسلين في ألف مشكلة أخرى، كمشكلة فلسطين أو كشمير أو الجزائر. وعلى أية حال، ينبغي على الحكومات الإسلامية أن تعقد هذا المشروع لبعث المسلمين، إذ أن كل ما يقوي ثبكة العلاقات الاجتماعية في المستوى الإسلامي، يقويها من باب أولى في المستوى القومي. هذا دون أن ننسى أنه باسم الفكرة السامية يرتضي المواطنون في أي بلد قساوة نظام التقشف الذي يسوي بين الأغنياء والفقراء، ويعطي لكل إنسان حظه، مع أكبر قدر من الفاعلية، في ظل الحكمة القائلة: ((الفرد للمجموع - والمجموع للفرد)). وهذا ما يعبر عن شبكة العلاقات الاجتماعية في أرقى معانيها، وفي أقصى فاعليتها. القاهرة في 10 من المحرم 1382 هـ 13 من حزيران (يونيو) 1963 م

المسارد

المسارد 1 - مسرد الآيات القرآنية 2 - مسرد الأحاديث النبوية 3 - مسرد الأعلام يشمل الأشخاص والدول والأمكنة 4 - مسرد الشعوب والجماعات والمذاهب 5 - مسرد المؤتمرات والمعاهدات والاتفاقيات 6 - مسرد المراجع والمصادر 7 - مسرد الموضوعات

1 - مسرد الآيات القرآنية ¬

¬

2 - مسرد الأحاديث النبوية ¬

3 - مسرد الأعلام (يشمل الأشخاص والدول والأمكنة)

¬

_ "ر" روسيا (الاتحاد السوفيتي) 37، 106 روما 38 ريجاس ح 82 "ز" زاما (معركة) 10 "س " سلمان الفارسي 95 سيبريا 89، 90 سعد بن عبادة 108 "ش " الشام 37، 44 "ص " صفين 77، 106 الصين (مملكة) 59،14 "ط " طرابلس (لبنان) "ع " العريية السعودية 34 العقبي (الشيخ) 112 علي مزاهيري (كاتب) 46 عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) 44، 50 عمر مسقاوي 6 "غ " الغزالي 67 "ف " فارس 37، 77 الفرات 46 الفرزدق 50 فرويد ح 44 فلسطين 60، 115 "ق " القاهرة 7، 115 "ك" كشمير 115 "ل" لوك (فيلسوف) 63 ليفي بريل 15 "م" ماركوي 64 محمد (- صلى الله عليه وسلم -) 51، 108، 110، 112، 113، 114 المدينة 39 مصر 37 مولا ينو (عالم نفسي) 44 موسكو 32 موسى (عليه السلام) 94 "هـ " هايد 107 هدفيلد 71، 72، 74 هرتز (عالم) 64

¬

_ الهند 59 هنري سوفير 46 هيجل 21، 28 "و" وشنطن 32 والترشوبارت 34، ح 68 "ي " اليابان 22، 84 يونج 68، 70

4 - مسرد الشعوب والجماعات والمذاهب ¬

6 - مسرد المراجع والمصادر ¬

7 - مسرد الموضوعات ¬

المسارد 1 - مسرد الآيات القرآنية 2 - مسرد الأحاديث النبو ية 3 - مسرد الأط م لثل الأشخاص والدول والأمكنة،- مرد الثوب والجماعات والمذاهب 5 - مسرد المؤتمرات والمماهدات والاتفاقيات 6 - مسرد المراجع والصادر 7 - مسرد الموضوعات رقم الإيدل القانولط 92/ 28 الجز ائر - 128 - 119 122 125 125 126 127 مبعة النخلة نجدسة- الجزاثر

§1/1