موقف الصحابة من أحداث العنف في عهد الخلفاء الراشدين

حصة بنت عبد الكريم

التمهيد

موقف الصحابة من أحداث العنف في عهد الخلفاء الراشدين إعداد د. حصة بنت عبد الكريم الزيد الأستاذ المساعد في قسم الدراسات الإسلامية كلية الآداب بالرياض - كليات البنات بسم الله الرحمن الرحيم التمهيد بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد: فالعنف والتطرف نوعان شهدهما المجتمع الإنساني منذ قديم الزمان. وتأتي قصة هابيل وقابيل أول قصة تمثل كيف يصل العنف والتطرف تجاه أمر من الأمور إلى حد القتل، حينما قدّم قابيل وهابيل قربانًا فتقبل الله قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل فدفعه هذا الأمر إلى أن يتطرف ويصرخ في وجه أخيه هابيل قائلًا: " لأقتلنك ". هذه القصة التي وردت في القرآن الكريم تؤكد أن العنف والتطرف مرتبطان بالنفس الإنسانية حينما تخرج عن الاعتدال والوسطية إلى فكر التخلص من الآخر أو إنهائه رغبة في سيادة فكره ورؤيته. ومنذ ذلك التاريخ ونحن نشهد كيف أن الفكر المتطرف كان سببًا للكثير من الفتن والقلاقل التي تهدم البنيان الاجتماعي وتنزع عنه وحدته المتماسكة وتجعله يعيش في جو من الفتن والاضطراب.

ورغبة في تقديم دراسة يمكن الاستناد إليها في معالجة ظاهرة العنف فقد اخترت دراسة بعض أحداث العنف التي وقعت في عهد الخلفاء الراشدين مع بيان سبب وقوعها، ثم الحديث عن مواقف علماء السلف الصالح المعاصرين للحدث تجاه كل قصة منها ليتبين لنا المنهج الذي كان علماء السلف - رضي الله عنهم - يتعاملون مع هذه الأحداث المؤلمة التي عاشها تاريخنا الإسلامي. وتنطلق أهمية هذا البحث مما نشاهده من أحداث معاصرة اتخذت أسلوب العنف والتطرف طريقًا للتعبير عن الفكر المنحرف وتحتاج إلى فقه في التعامل مع هذه الأحداث وفق منهج رشيد يمكن الاستناد إليه. ولتحقيق ذلك فإن البحث سيتناول عددًا من الفصول خلال تلك الفترة وتتضمن: التمهيد. المقدمة وتتضمن فقرتين: الأولى: العنف (تعريفه، حكمه، آثاره) الثانية: مكانة الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - في فهم التشريع الإسلامي. الفصل الأول: العنف في عهد الصديق أبي بكر رضي الله تعالى عنه وموقف الصحابة رضي الله عنهم منه. الفصل الثاني: العنف في عهد عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وموقف الصحابة رضي الله تعالى عنهم منه.

الفصل الثالث: العنف في عهد عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وموقف الصحابة رضي الله تعالى عنهم منه. الفصل الرابع: العنف في عهد علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وموقف الصحابة رضي الله تعالى عنهم منه. خاتمة البحث ويتضمن المنهج الإسلامي في مواجهة العنف.

المبحث الأول العنف تعريفه وحكمه وآثاره

المبحث الأول العنف (تعريفه وحكمه وآثاره) يعد العنف من الأمور الطارئة في حياة الأمم والشعوب والتي يؤثر وجود العنف فيها على الاستقرار والأمن في المجتمع. ولتحقيق تماسك بنيان المجتمع وضمان أمنه، لا بد من السعي إلى القضاء على العنف أو التقليل منه، وبالرغم من أنه لا توجد تعريفات محددة للعنف نظرًا لاختلاف ظروفه ومسبباته، إلا أنه يمكن الإشارة إلى أن العنف يعد سمة من سمات الطبيعة البشرية يظهر حين يكف العقل عن قدرة الإقناع أو الاقتناع فيلجأ إلى الأنا تأكيدًا لذاته ووجوده وقدرته على الإقناع المادي أي استبعاد الآخر الذي لا يقتنع على إرادة الأنا، وإما نهائيًا بإنهاء ذات وجوده (1) . ويرى آخرون أن العنف هو الاستخدام العقلي للقوة أو التهديد باستخدامها لإلحاق الأذى والضرر بالأشخاص والإتلاف للممتلكات (2) . ونستنتج من هذين التعريفين أن العنف لا يأتي من خلال التفكير المتعقل، وإنما يأتي بعد أن يتوقف العقل عن التفكير ويرى طريقًا واحدًا فقط لإقناع الآخرين برأيه أو منهجه عن طريق القوة فينتج عن ذلك اختلافات كبرى، وزعزعة للاستقرار سواء بين الأفراد أو المجتمع.

(1) انظر: حقوق الإنسان وأسباب الضعف في المجتمع الإسلامي في ضوء أحكام الشريعة، ص13-14، وانظر أيضًا: العنف والشريعة في مصر، ص 49. (2) انظر: دراسة خاصة عن العنف السياسي في مصر، ص 568، وانظر أيضًا: العنف والشريعة في مصر، ص 50.

والعنف له صور مختلفة فمنها ما يمكن أن يطلق عليه العنف الفردي والذي يقتصر ضرره على نطاق محدود، وهناك العنف الاقتصادي الذي تعود جذوره إلى أسباب اقتصادية مثل الفقر والبطالة، وأيضًا هناك العنف الاجتماعي الذي يعود لأسباب اجتماعية مثل فقدان أحد الوالدين، أو الشعور بظلم المجتمع، أو الشعور بالرغبة في الانتقام لأسباب اجتماعية. أما أخطر صور العنف، وأكثرها تأثيرًا في بنيان المجتمع وتماسكه فهو العنف العقدي، أي الذي يعود لأسباب عقدية، فهو لا يرتبط بمشكلات شخصية ولا اجتماعية ولا اقتصادية. ولكنه يرتبط بالغلو ومجاوزة الحد والتشدد والمبالغة في الأمور الشرعية، قال تعالى محذرًا من الغلو والتشدد في الدين: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} (1) . كما حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الغلو في الدين كما يظهر لنا في أحاديث كثيرة منها حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» (2) .

(1) سورة النساء، الآية (171) . (2) رواه أحمد في المسند، وقال الشيخ شاكر إسناد صحيح، 1 / 215 رقمه (1851) .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة (1) والروحة (2) وشيء من الدُلجة» (3) " (4) . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطعون" قالها ثلاثًا» (5) . قال الإمام النووي رحمه الله: "المتنطعون " المتعمقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم (6) . ولا شك أن العنف الذي يأتي نتيجة للغلو في الدين قد ذمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه خروج عن المنهج الوسط الذي اختاره الله لهذه الأمة. ويمكن أن نتبين ملامح الغلو في الدين من خلال ما يأتي: 1- التشدد في تفسير الآيات القرآنية والأحاديث النبوية بما يعارض مقاصد الشريعة. 2- التكلف في التعمق في معاني القرآن الكريم. 3- أن يلزم الشخص نفسه بما لم يوجبه الله عليه كما فعل بنو إسرائيل. 4- أن يحِّرم الشخص على نفسه أمورًا لم يحرمها الله على الناس. 5- أن يترك الأمور الضرورية كالأكل والشرب والزواج والنوم. 6- الغلو في الموقف من الآخرين مدحًا أو ذمًا. 7- ترك الحلال وتحريمه على النفس ظنًا أنه من التدين (7) .

(1) الغدوة: بمعنى البكرة ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس. انظر: لسان العرب 10 / 26. (2) الروحة: تعني نقيض الصباح، وقيل الرَّواح العَشي. انظر: لسان العرب 5 / 362. (3) الدلجة: بمعنى سير الليل. انظر: لسان العرب 4 / 385. (4) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الدين يسر، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة» 1 / 18 رقمه (39) . (5) صحيح مسلم، كتاب العلم، باب هلك المتنطعون، 4 / 2055 رقمه (2670) . (6) شرح النووي على صحيح مسلم، 8 / 473. (7) انظر: الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة، ص 66 - 83. وانظر:التطرف والإرهاب في المنظور الإسلامي والدولي، ص 37 - 38.

كما أن للتطرف والغلو مظاهر وعلامات يأتي في مقدمتها: التعصب للرأي، والتمحور حول الشخصيات والأحزاب والجماعات، والتقليد الأعمى، وسوابق الأفكار والانطواء والتقوقع والنقص العلمي وعدم الاتزان الفكري والتجرؤ على الفتوى، والطعن في العلماء والتشنيع على المخالف، والجلافة والغلظة والشدة والفهم الخاطئ للإسلام، والتزام التشديد دائمًا (1) . والخوارج أول من بدأ في سلوك طريق التشدد في الدين حيث كانت أبرز معالم تشددهم تظهر في: 1- الطعن في مخالفيهم وتضليلهم وتكفيرهم. ودليل ذلك طغيانهم في الرسول صلى الله عليه وسلم وقسمته وتكفيرهم لأمير المؤمنين عثمان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما والحكمين وأصحاب الجمل. 2- سوء الظن، ودليل ذلك اتهامهم الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم الإخلاص في القسمة لأنهم لم يفهموا مقصده السامي لقصر نظرهم ومرض قلوبهم. 3- المبالغة في العبادة بغير علم، لقوله صلى الله عليه وسلم: «يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم. . . الحديث» (2) . 4- الشدة على المسلمين: لقوله صلى الله عليه وسلم: «يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان» (3) .

(1) انظر: المتطرفون، من ص 111 إلى ص 124. (2) صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، 2 / 744 رقمه (1064) . (3) المرجع السابق، 2 / 744 رقمه (1064) .

5- قلة الفقه لعدم تتلمذهم على الصحابة لقوله صلى الله عليه وسلم: «يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم» . (1) 6- نقص التجربة والخبرة وصغر السن وسفاهة العقل لقوله صلى الله عليه وسلم: «أحداث الأسنان سفهاء الأحلام» (2) . (3)

(1) المرجع السابق 2 / 744 رقمه (1064) . (2) صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب التحريض على قتل الخوارج , 2 / 746 رقمه (1066) . (3) انظر: المتطرفون، ص 75.

المبحث الثاني مكانة الصحابة رضي الله عنهم في فهم التشريع الإسلامي

المبحث الثاني مكانة الصحابة رضي الله عنهم في فهم التشريع الإسلامي للصحابة - رضي الله عنهم - مكانة وفضل عظيمان، حيث دلت النصوص المتواترة من الكتاب والسنة على المنزلة العظيمة للصحابة رضوان الله عليهم، وعلى وجوب حبهم وتعظيمهم وتوقيرهم والاحتجاج بإجماعهم والاستنان بآثارهم (1) . ومما يؤكد فضل الصحابة ومكانتهم العظيمة أن الله - سبحانه وتعالى - أثنى عليهم في مواضع كثيرة من القرآن الكريم مشيرًا فيها إلى أفضليتهم منوهًا بفضلهم ومن ذلك (2) : قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (3) . فلقد أثنى الله - تعالى - في هذه الآية الكريمة على المهاجرين والأنصار الذين جاهدوا في سبيل الله بأن وعدهم بالمغفرة والرزق الكريم.

(1) انظر: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، 1 / 125. (2) انظر:الجامع لأحكام القرآن، 8 / 58. (3) سورة الأنفال، الآية (74) .

وقال تعالى في مدح الصحابة من المهاجرين والأنصار: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1) . ففي الآية الكريمة دلالة على فضل المهاجرين والأنصار ووعد الله لهم بجنات تجري من تحتها الأنهار (2) . وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (3) . ففي هذه الآية أخبر الله - تعالى - بأن المؤمنين من المهاجرين والأنصار الذين بايعوا نبيهم صلى الله عليه وسلم بإخلاص تحت الشجرة في غزوة الحديبية وهي المسماة ببيعة الرضوان، قد رضي عنهم وأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحًا قريبًا وهو فتح خيبر ليأخذوا منها ومما فتحه الله عليهم من سائر البلاد والأقاليم مغانم كثيرة (4) .

(1) سورة التوبة، الآية (100) . (2) انظر: تفسير القرطبي، 8 / 235. (3) سورة الفتح، الآيتان: (18 - 19) . (4) انظر: تفسير ابن كثير 4 / 190 - 191.

وتؤكد السنة النبوية على هذا الفضل لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ذلك: ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه» (1) ". (2) كما يتبين لنا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم في نص هذا الحديث فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد نهى عن سبهم , ووصفهم بالصحبة، وأضافها إلى نفسه، تنويهًا بفضلهم، وبيانًا لشرف منزلتهم، ثم بين أيضًا أنهم يفضلون غيرهم لكونهم ينفقون أموالهم في سبيل الله، لأن نفقاتهم كانت في وقت الضرورة وضيق الحال ونصرة للنبي صلى الله عليه وسلم بخلاف غيرهم. من هنا كان إنفاق مُد طعامهم أو نصفه من أحدهم أفضل عند الله من إنفاق مثل جبل أُحد ذهبًا من غيرهم. (3) وقد أثنى على الصحابة رضوان الله عليهم علماء الأمة مقدرين فضلهم وأسبقيتهم في الدفاع عن دعوة الإسلام في بداياتها الأولى، وشاهدين بعدالتهم وجهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحملهم الأذى في سبيل الله ومن ذلك:

(1) النصيف يأتي بمعنى النصف ويأتي بمعنى الخمار، انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر, 5 / 65. (2) صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم، 4 / 1967 رقمه (2540) . (3) انظر: فتح الباري 7 / 34، شرح النووي على صحيح مسلم، 16 / 93.

قال الإمام أحمد رحمه الله:ومن الحجة الواضحة البينة المعروفة ذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم أجمعين والكف عن ذكر مساوئهم والخلاف الذي شجر بينهم، فمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحدًا منهم أو تنقصه أو طعن عليهم أو عرَّض بعيبهم أو عاب أحدًا منهم فهو مبتدع رافضي خبيث مخالف لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا، بل حبهم سنة، والدعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم خير الناس لا يجوز لأحد أن يذكر شيئًا من مساوئهم، ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا نقص. (1) وقال ابن أبي زيد القيرواني في مقدمة رسالته المشهورة: "وأن خير القرون الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضل الصحابة الخلفاء الراشدون المهديون أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين، وأن لا يُذكر أحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بأحسن ذكر، والإمساك عما شجر بينهم، وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم أحسن المخارج ويظن به أحسن المذاهب " (2) .

(1) انظر: «السنة» ، ص 78. (2) متن الرسالة، ص 11.

وعليه فإنه ينبغي للمسلم أن يرد كل خبر يطعن في هذه العدالة، وأن ينزه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ما يُسيء إليهم، أو يطعن في عدالتهم، فيكفيهم فضل الصحبة التي خصوا بها ونالوا بها من الفضل ما لم يدركه أحد بعدهم. قال أبو زرعة الرازي شيخ الإمام مسلم:"إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم حق، والقرآن الكريم حق، وما جاء به حق، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة " (1) . وقال ابن الصلاح:"ثم إن الأمة المسلمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة ومن لابس الفتن منهم، فكذلك بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع، إحسانًا بهم، ونظرًا إلى ما تمهّد لهم من المآثر، وكأن الله - سبحانه وتعالى - أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة، والله أعلم" (2) .

(1) الكفاية في علم الرواية، ص 97، وانظر: الإصابة، 1 / 10. (2) معرفة علوم الحديث، ص 428.

ومن هنا يتبين مكانة الصحابة رضوان الله عليهم وفضلهم ووجوب حبهم خاصة وأنهم جاهدوا بأموالهم وأنفسهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بد من إنزالهم المنزلة التي أنزلها لهم الله سبحانه وتعالى والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فلهم أسبقية الخير والفضل وصحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وكل هذه الفضائل تحتم علينا جميعًا أن نشيد بفضلهم وخيريتهم وأن نبتعد عن الخوض فيما دار بينهم من خلافات في الرأي، أو ما إلى ذلك فيكفيهم فضل الصحبة والأسبقية. وإذا كان الصحابة - رضي الله عنهم - بهذه المكانة سبقا إلى الخير وفضلا ومنزلة ومكانة وصواب نهج وتزكية من الله جل شانه لهم ولعملهم. فإن من الرشد أن نستلهم منهجهم الرشيد في مواجهة الفتن والغلو والتطرف. وهذا هو الذي دعاني إلى التقديم بهذه المقدمة بين يدي التعريف بمواقف الصحابة - رضي الله عنهم - في مواجهة الغلو في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين. إذ من أهم الواجبات علينا استلهام هذا المنهج والاحتكام إلى تلك التجربة الرشيدة المزكاة والاستنارة بها وخاصة في مثل هذه المواقف الحرجة التي تستدعي التأني والتروي لصعوبة القرار وعظمة النتائج.

الفصل الأول العنف في عهد الصديق أبي بكر رضي الله تعالى عنه وموقف الصحابة رضي الله عنهم منه

الفصل الأول العنف في عهد الصديق أبي بكر رضي الله تعالى عنه وموقف الصحابة رضي الله عنهم منه لما تولى أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - الخلافة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم خطب خطبته المشهورة التي أشار فيها بقوله: "إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة والضعيف فيكم قوي عندي حتى أزيح علته إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ منه الحق إن شاء الله " (1) . ومن هذه الخطبة تتضح طريقة الصديق رضي الله عنه وأسلوبه في الخلافة. وفعلًا هذا ما كان عليه طوال أيام خلافته التي دامت سنتين وأشهرًا.

(1) البداية والنهاية , 5 / 248.

وبعد مباشرة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - للخلافة كانت هناك أحداث عنف اتسمت بالخروج عن إجماع المسلمين، وهذا ما أوجب أن يقوم الخليفة برد حازم تجاهها حتى لا تكون فتنة ويضعف الإسلام ويعود إلى بداياته الأولى، وأهم حدث كاد يعصف بوحدة المسلمين في ذلك الوقت هو المرتدون الذين امتنعوا عن أداء الزكاة. لقد كان موقف أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - حينما حدثت الردة قويًا وحاسمًا حيث قال:" والله لو منعوني عناقًا (1) كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها " (2) ، فقاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه حتى أدوا الصدقة وقتل الله مسيلمة الكذاب في اليمامة والأسود العنسي في اليمن وغيرهم في عُمان والبحرين. لقد تفرغ أبو بكر الصديق خلال فترة خلافته القصيرة للقضاء على هؤلاء المرتدين سواء منهم من أراد الانفصال عن الدولة الإسلامية أو ادعى النبوة رغبة في الحصول على مجد خاص به كالأسود العنسي في اليمن.

(1) عناقًا: المراد به هو الأنثى من أولاد المعز ما لم يتم له سنة. انظر: لسان العرب، 9 / 433. (2) جزء من حديث في صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة، 2 / 135 رقمه (1400) وانظر: صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله 1 / 52 رقمه (20) .

وقد نتج عن حركة الردة والقضاء عليها إعادة وحدة الدولة الإسلامية وإكساب المسلمين المزيد من الخبرات القتالية والمعرفة بجغرافية الجزيرة العربية، وهو ما أفادهم في حشد الجيوش في حركة الفتح الإسلامي. (1) كما ساعدت على حفظ التصور الإسلامي من التحريف والتشويه، وتجريد الراية الإسلامية من العصبية الجاهلية، والولاء المختلط، والتأكيد على أن القوة الإسلامية لا ترتبط بالعدد ولا العدة، ولكن بقوة الإيمان والروح المعنوية. (2) وحينما نرغب في التعرف على مواقف الصحابة تجاه قرار خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - في حروب الردة فإن الباحث يجد أن الصحابة رضوان الله عليهم قد أشاروا إلى قوته في الحق، واقتدائه الكامل برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأثنوا على رجاحة رأيه فيما اتخذه من قرارات حازمة حفظت للإسلام قوته وللأمة وحدتها. يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن أبي بكر الصديق وموقفه من حروب الردة: فوالله ما هو إلا أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق (3) .

(1) انظر: عصر الخلافة الراشدة «محاولة لنقد الرواية التاريخية وفق منهج المحدثين، ص412. (2) انظر: الانشراح ورفع الضيق بسيرة أبي بكر الصديق شخصيته وعصره، ص361. (3) انظر: الرياض النضرة في مناقب العشرة، ص 147.

وأما عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - فقالت: لما خرج أبي شاهرًا سيفه راكبًا راحلته، يعني يوم الردة، فجاء علي بن أبي طالب فأخذ بزمام راحلته، فقال له: أين يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقول لك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد شم (1) سيفك لا تفجعنا بنفسك وارجع إلى المدينة. والله لئن أصبنا بك لا يكون بعدك نظام أبدًا (2) . ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كرهنا ذلك - يعني حروب الردة - ثم حمدنا في الانتهاء، ورأيناه رشيدًا، لولا ما فعل أبو بكر لألحد الناس في الزكاة إلى يوم القيامة. ويقول أبو رجاء العطاردي رضي الله عنه: دخلت المدينة فرأيت الناس مجتمعين ورأيت رجلًا يقبل رأس رجل وهو يقول: أنا فداؤك، ولولا أنت لهلكنا فقلت من المقبِّل؟ ومن المقَبَّل؟ قال: ذاك عمر يقبل رأس أبي بكر في قتاله أهل الردة إذ منعوا الزكاة حتى أتوا بها صاغرين (3) .

(1) شم سيفك: أي أغمده ويقال سله وهو من الأضداد. أو اجعله في منزلة من الرفعة والعلو، انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، 2 / 502. (2) انظر: الرياض النضرة في مناقب العشرة، ص 147. (3) المرجع السابق، ص 148.

الفصل الثاني العنف في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وموقف الصحابة رضي الله عنهم منه

الفصل الثاني العنف في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وموقف الصحابة رضي الله عنهم منه تميز عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه والذي استمر ما يقارب أحد عشر عامًا بالتوسع في الفتوحات وزيادة رقعة الدولة الإسلامية، كما تميز عهده بالحزم والعدل والشدة مع أهل الباطل والضلال حتى كانت خلافته سدًا منيعًا أمام الفتن، بل إن عمر نفسه - رضي الله عنه - كان بابًا مغلقًا لا يقدر أصحاب الفتن على الدخول منه إلى المسلمين في حياته ولا تقدر الفتن أن تطل برأسها في عهده (1) .

(1) انظر: أفضل الخطاب في سيرة ابن الخطاب أمير المؤمنين، شخصيته وأصله، ص 620.

فقد ورد في صحيح البخاري عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كنا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: أيكم يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفتنة فقلت: أنا أحفظه كما قال! قال: هات، لله أبوك إنك لجريء. قلت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره، يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» قال عمر: ليس هذا ما أريد. إنما أريد الفتن التي تموج كموج البحر قلت: ما لك ولها يا أمير المؤمنين؟ إن بينك وبينها بابًا مغلقًا. قال: فيكسر الباب أو يفتح؟ قلت: لا بل يكسر!! قال: ذاك أحرى ألا يغلق أبدًا حتى قيام الساعة. قال أبو وائل الراوي عن حذيفة:هل كان عمر رضي الله عنه يعلم من الباب؟ قال حذيفة: نعم. كما كان يعلم أن دون غد الليلة! إني حدثته ليس بالأغاليط. قال أبو وائل: فهبنا أن نسأل حذيفة: من الباب؟ فقلنا لمسروق: سل حذيفة من الباب؟ فقال مسروق لحذيفة: من الباب؟ قال حذيفة: هو عمر (1) .

(1) صحيح البخاري، كتاب الفتن، باب الفتنة التي تموج كموج البحر 8 / 123 رقمه (796) .

فالباب المنيع الذي يمنع الفتن كما يؤكد هذا الحديث هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأنها تكسر كسرًا بعد استشهاده رضي الله عنه. وكان عمر يعلم من إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سيلقى الله شهيدًا، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جبل أُحد، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف الجبل بهم، فضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم برجله، وقال له: اثبت أُحد: فإنما عليك نبي، وصديق وشهيدان» (1) . وإذا نظرنا إلى قصة استشهاد عمر - رضي الله عنه - التي وردت مفصلة في صحيح البخاري نتبين أنها كانت بداية لدخول الفتن إلى أمة الإسلام. يقول عمر بن ميمون: إن عمر بن الخطاب حينما كبَّر للصلاة جاءه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة فطعنه طعنة في كتفه وأخرى في خاصرته، فقال عمر: قتلني أو أكلني الكلب، وتناول عمر - رضي الله عنه - يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه للصلاة بالناس، وبعد الصلاة سأل عمر - رضي الله عنه - ابن عباس - رضي الله عنهما - عن الذي قتله فقيل: غلام المغيرة. فقال عمر رضي الله عنه: "الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدَّعي الإسلام (2) .

(1) صحيح البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب فضل أبي بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم، 4 / 237رقمه (3675) . (2) انظر: الحديث مفصلًا في صحيح البخاري كتاب فضائل الصحابة، باب قصة البيعة، 4 / 245 رقمه (3700) .

ولقد كان للصحابة - رضوان الله عليهم - موقف واحد وهو التألم مما حدث خوفًا على وحدة الإسلام، وخشية من تنامي الصراعات ودخول المنافقين والمناوئين للإسلام للنيل منه في هذه المرحلة العصيبة من تكوين الأمة الإسلامية. ولهذا كان موقف الصحابة واحدًا وهو الاستنكار والسعي إلى المحافظة على وحدة الأمة، وتوحيد الآراء حتى لا تغتال أمة الإسلام من مناوئيها. ومن أقوال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كان إسلام عمر فتحًا وكانت هجرته نصرًا، وكانت إمارته رحمة (1) .

(1) المعجم الكبير، 9 / 178.

ويصف علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الأيام الأخيرة في حياة الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بعد طعن أبي لؤلؤة المجوسي له فيقول مثنيًا له ومستنكرًا بألم ما حدث له مما يرويه ابن عباس رضي الله عنهما قال: إني لواقف في قومٍ فدعوا الله لعمر بن الخطاب - وقد وضع على سريرِه - إذا رجُلٌ من خلفي قد وضع مرفقهُ على منكبي يقول: رحمك الله، إن كنت لأرجو أَن يجعلك الله مع صاحبيك، لأَني كثيرًا ماكنتُ أَسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كنتُ وأبو بكر وعمرُ، وفعلتُ وأبو بكر وعمرُ، وانطلقتُ وأبو بكرٍ وعمر فإن كنتُ لأرجو أن يجعلَكَ الله معهما. فالتفت فإذا هو علي بن أبي طالب ". (1) . ومما قاله أبو عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - قبل مقتل عمر: إن مات عمر رق الإسلام، ما أحب أن لي ما تطلع عليه الشمس أو تغرب وأن أبقى بعد عمر، فقيل له: لم؟ قال: سترون ما أقول إن بقيتم، وأما هو فإن ولي وال بعد فأخذهم بما كان عمر يأخذهم به لم يطع له الناس بذلك ولم يحملوه، وإن ضعف عنهم قتلوه (2) .

(1) البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب فضل أَبي بكر بعدَ النبي صلى الله عليه وسلم، 4 / 238 رقمه (3482) . (2) الطبقات الكبرى، 3 / 284، انظر: العشرة المبشرون بالجنة، 44.

وأما سعيد بن زيد بن نفيل - رضي الله عنه - فقد روي أنه بكى عند موت عمر فقيل له: ما يُبكيك؟ فقال: على الإسلام، إن موت عمر ثَلَم الإسلام ثلمة لا ترتق إلى يوم القيامة (1) . ومن مواقف الصحابة أيضًا ما قاله أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه بعد مقتل عمر: والله ما من أهل بيت من المسلمين إلا وقد دخل عليهم في موت عمر نقص في دينهم وفي دنياهم (2) . وكذلك ما روي عن حذيفة بن اليمان أنه قال: إنما كان مثل الإسلام أيام عمر مثل مقبل لم يزل في إقبال، فلما قتل أدبر فلم يزل في إدبار (3) .

(1) الطبقات الكبرى، 3 / 372، أنساب الأشراف الشيخان، ص 387. (2) الطبقات الكبرى، 3 / 374. (3) المرجع السابق، 3 / 374، إسناده صحيح.

الفصل الثالث العنف في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه وموقف الصحابة رضي الله عنهم منه

الفصل الثالث العنف في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه وموقف الصحابة رضي الله عنهم منه أتم عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بعد أن تولى الخلافة بعد مقتل عمر - رضي الله عنه - مسيرة الفتوح الإسلامية. ففُتحت أرمينيا والقوقاز في عهده، وأتم فتح بلاد فارس ومملكة الروم وانتقل المسلمون إلى هذه المناطق وعم الخير البلاد الإسلامية وأقبلت الدنيا على الناس في عهده وامتلأت أيديهم من المغانم. ولعل هذه هي البداية الحقيقية للفتنة العمياء التي انتهت بقتل عثمان رضي الله عنه صابرا محتسبًا راجيًا الأجر من الله تعالى. وتعود قصة مقتل عثمان إلى ما رواه ابن جرير - رحمه الله - حيث يقول: "كان عبد الله بن سبأ يهوديًا من أهل صنعاء، أمه سوداء فأسلم زَمان عثمان، ثم تنقل في بلدان المسلمين، يحاول ضلالتهم، فبدأ بالحجاز، ثم البصرة، ثم الكوفة، ثم الشام، فلم يقدر على ما يريدُ عند أحد من أهل الشام، فأخرجوه حتى أتى مصر" (1) . وجمع حوله أناسًا من المفسدين.

(1) تاريخ الطبري، 2 / 647.

ووضع لهم خطة أوجزها بقوله: "انهضوا في هذا الأمر فحرِّكوه، وابدؤوا بالطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهيَ عن المنكر تستميلوا الناس، وادعوهم إلى هذا الأمر" (1) . "وبث دعاته، وكاتب من كان استفسد في الأمصار، وكاتبوه، ودعوا في السر إلى ما عليه رأيهم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، جعلوا يكتبون إلى الأمصار بكُتُب يضعونها في عيوب ولاتهم، ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك، ويكتب أهلُ كُل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون، فيقرؤه أولئك في أمصارهم، وهؤلاء في أمصارهم، حتى تناولوا بذلك المدينة، وأوسعوا الأرض إذاعة، وهم يريدون غير ما يظهرون، ويُسرِّون غيرَ ما يبدون، فيقول أهلُ كل مصر: إنا لفي عافية مما ابتُلي به هؤلاء" (2) .

(1) المرجع السابق، 2 / 647. (2) تاريخ الطبري، 2 / 647، انظر: الكامل في التاريخ، 3 / 77، 78.

"وأحاط الثوار بالمدينة للمرة الأولى، مظهرين الأمر بالمعروف وهم يريدون أن يذكروا لعثمان أمورًا زرعوها في قلوب الناس، حتى يرجعوا إليهم فيقولوا لهم: إنا قررناه بها فلم يَعْدِل عنها!! وقد تلطف معهم عثمان، فأجاب عن تساؤلاتهم، وقد أدرك المسلمون أنهم أصحاب شر، فأشاروا على الخليفة بقتلهم، وأبى عثمان إلا تركهم، فانصرفوا، وقد تواعدوا المجيء في شهر شوال من سنة خمس وثلاثين، حتى يَغزوهُ وكأنهم حجاج". ولما كان في الموعد المحدد خرج الثوار قاصدين المدينة، جاء في رواية أبي سعيد أن عثمان سمع أن وفد مصر أقبلوا، فاستقبلهم، فقالوا:ادعُ بالمصحف، فدعا به، وقالوا: افتح السابعة يعنون يونس، فلما قرأ: {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} أوقفوه، وقالوا: أرأيت ما حَمى من الحِمى، آلله أذن لك أم على الله تفتري؟ ثم ذكروا له أشياء أخرى، وكلما ذكروا له شيئًا قال أمْضِه نزلت في كذا. . . فيدفعهم إلى المعنى المقصود منها. ثم إنهم خرجوا راضين، وأخذ عليهم ميثاقًا ألا يشقوا ولا يفارقوا جماعة ما أقام لهم شروطهم، ورجعوا راضين.

فيما هم في الطريق إذا براكب يتعرض لهم ويفارقهم، ثم يرجع إليهم، ثم يفارقهم، قالوا: ما لك؟ قال: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر، ففتشوه، فإذا هم بكتاب من عثمان وعليه خاتمه، وفيه الأمر بصلبهم أو قتلهم، أو قطع أيديهم وأرجلهم، وأقبلوا نحو المدينة، فأتوا عليًا، فقالوا ألم تر إلى عدو الله كتب فينا بكذا وكذا؟ وأن الله قد أحل دمه، فقم معنا إليه، قال: والله لا أقوم معكم، قالوا: فلِمَ كتبت إلينا؟! قال: والله ما كتبتُ إليكم كتابًا، فنظر بعضهم إلى بعض، وخرج علي من المدينة، فانطلقوا إلى عثمان، فقالوا: كتبت فينا بكذا وكذا، فقال: إنهما اثنتان، أن تقيموا رجلين من المسلمين، أو يميني بالله الذي لا إله إلا هو ما كتبتُ، ولا أمليتُ ولا عَلِمتُ، وقد يكتبُ الكتاب على لسان الرجل، ويُنقش الخاتم على الخاتم. قالوا: قد أحل الله دمك، ونقضت العهد والميثاق، وحاصروه (1) .

(1) تاريخ الطبري، 2 / 655، 656.

ويحيط الثوار بدار عثمان رضي الله عنه، ويتسابق الصحابة في الدفاع عنه، ويستعينون بأبنائهم في الوقوف معه، فإذا هو يستقبلهم، ويقسم عليهم أن يكفوا أيديهم، فيسكنوا، حتى إن بعضهم لبس الدرع مرتين، وحتى إن الأنصار يسألونه أن يكونوا أنصار الله مرتين، فيأمرُهم بالكف، ويقول: لا حاجة ليَ في ذلك (1) . وبذلك يضرب عثمان أروع الأمثلة على قوة يقينه، ورباطة جأشه وشجاعته، وثباته على رأيه فإن أحدًا من الناس في مثل حال عثمان وشأنه، لم يلق ما لقي عثمان، ولا شيئًا منه، ولم يصبر أحد على ما لقي من البلاء والمحنة مثل ما صبر عثمان. وكيف بصبر ينتهي بصاحبه على علم منه وبصيرة إلى الموت قتلا، وكان له لو كان جزوعًا وأراد ألا يصبر عن يقين ورضا مخارج ينفذ منها، ويعيش في خفض من العيش، ولكن عثمان - رضي الله عنه - لم يكن ضعيفًا ولا مستضعفًا كما يزعم القاصرون والمقصرون بل كان قوي الإيمان، عظيم اليقين، كبير النفس، عبقري الشجاعة، نبيل الصبر، نفاذ البصيرة، ففدى الأمة، ووضع لها بذلك أعظم قواعد النظام في تكوينها الاجتماعي (2) .

(1) انظر: تاريخ الطبري، 2 / 674، وانظر: كتاب سير الشهداء، من ص48 إلى ص52. (2) انظر: الخليفة المفترى عليه، ص 65، وانظر: العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ص 129.

ومما يدل على صبر عثمان رضي الله عنه وثباته عند الفتنة ماورد عن أبي سهلة قال: قال لي عثمان يوم الدار: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليّ عهدًا، فأنا صابر عليه (1) . وقبل استشهاده بيوم يرى عثمان - رضي الله عنه - في المنام اقتراب أجله، فيستسلم لأمر الله تعالى، ويأمر من كان عنده في الدار وكانوا سبعمائة تقريبًا من المهاجرين والأنصار يأمرهم أن يكفوا أيديهم، ويذهبوا إلى منازلهم، كما قال لرقيقه: من أغمد سيفه فهو حر (2) . ويتسور الثوار داره، وتتوزع سيوفهم دماءه الطاهرة، وهو صائم يقرأ القرآن (3) . وبذلك يتحقق ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم من وقوع الفتنة , وأن عثمان رضي الله عنه على الحق وأنه سيقتل ظلمًا وذلك لما ورد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر فتنة فقال: «يُقتل فيها هذا مظلومًا» يعني عثمان رضي الله عنه (4) . وروى ابن ماجة في "سننه" من طريق عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عثمان إن ولاك الله هذا الأمر يومًا، فأرادك المنافقون أن تخلع قميصك الذي قمصك الله يعني الخلافة فلا تخلعه"، يقول ذلك ثلاث مرات» (5) .

(1) صحيح سنن الترمذي، باب مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه، 3 / 212 رقمه (2928) . (2) انظر: البداية والنهاية، 7 / 160. (3) انظر: كتاب سير الشهداء، ص 52. (4) صحيح سنن الترمذي، 3 / 210 رقمه (2925) . (5) أخرجه ابن ماجة في سننه، باب فضل عثمان، 1 / 41، وصححه الألباني «صحيح سنن ابن ماجة» ، 1 / 25 رقمه (90) .

فكان قتله - رضي الله عنه - خسارة للمسلمين ومصيبة عظيمة، حيث لم يخطر ببال الصحابة - رضي الله عنهم - أن يقتل. ولكن ظنوا أن الخوارج الذين حاصروه أعتبوه في شيء , وأن الأمر يؤدي إلى تسكين وسلامة (1) . ولهذا كان موقف الصحابة - رضي الله عنهم - من الفتنة ومن الذين قتلوا عثمان - رضي الله عنه - واضحًا. فابن عباس رضي الله عنهما يفسر قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (2) . قال: الذين يأمرون بالقسط من الناس: ولاة العدل، عثمان وضربه (3) . وروي أن عليًا - رضي الله عنه - حين أتاه الخبر بمقتل عثمان: قال: رحم الله عثمان وخلف علينا بخير، وقيل: ندم القوم فقرأ: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ} (4) . (5)

(1) انظر: كتاب تحقيق منيف الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة، ص 87. (2) سورة آل عمران، الآية: (21) . (3) تاريخ دمشق، ص 210. (4) سورة الحشر: الآية: (16) . (5) تاريخ الرسل، 4 / 392 , انظر: تاريخ دمشق، ص 447.

وفي رواية الإمام الطبري عن عائشة رضي الله عنها: "كان الناس يتجنون على عثمان رضي الله عنه ويزرون على عماله ويأتوننا فيستشيروننا فيما يخبروننا عنهم، ويرون حسنًا منه كلامنا في صلاح بينهم، فننظر في ذلك فنجده بريًّا تقيًّا وفيًّا، ونجدهم فجرة كذبة يحاولون غير ما يظهرون، فلما قووا على المكاثرة كاثروه فاقتحموا عليه داره، واستحلُّوا الدم الحرام والبلد الحرام بلا ترة (1) وعذر" (2) . وروى البلاذري من طريق عروة عن عائشة قالت: "ليتني كنت نسيًا منسيًا قبل أمر عثمان، فوالله ما أحببت له شيئًا إلا منيت بمثله حتى لو أحببت أن يقتل لقتلت" (3) . وروى ابن شبّة عن طَلْق بن خُشَّاف قال: "قلت لعائشة: فيم قتل أمير المؤمنين عثمان؟ قالت: قتل مظلومًا، لعن الله قتلته" (4) . وقالت أم سليم الأنصارية - رضي الله عنها - لما سمعت بقتل عثمان: "رحمه الله أما إنه لم يحلبوا بعده إلا دمًا" (5) . ورُوي عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنَّهنَّ قلن حين قتل عثمان: "هجم البلاء، وانكفأ الإسلام" (6) . وعن أبي مريم قال: "رأيت أبا هريرة يوم قتل عثمان وله ضفيرتان وهو ممسك بهما وهو يقول: قتل والله عثمان على غير وجه الحق" (7) .

(1) ترة: بمعنى النقص. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، 1 / 189. (2) تاريخ الرسل، 4 / 464. (3) أنساب الأشراف، 1 / 596، وفضائل الصحابة، 1 / 462. قال المحقق:إسناده صحيح. (4) تاريخ المدينة المنورة، 4 / 1244. (5) البداية والنهاية، 7 / 195. (6) تاريخ دمشق، ص 539. (7) المرجع السابق، ص 493.

وروى ابن كثير في البداية عن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: " لأن أخرّ من السماء إلى الأرض أحب من أن أُشرَك في قتل عثمان " (1) . قال ابن الزبير: "لعنت قتلة عثمان، خرجوا عليه كاللصوص من وراء القرية، فقتلهم الله كل قتلة، ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب "، يعني هربوا ليلا، وأكثر المسلمين كانوا غائبين، وأكثر أهل المدينة الحاضرين لم يكونوا يعلمون أنهم يريدون قتله حتى قتلوه (2) . وقال كنانة مولى صفية:"كنت أقود بصفية، لترد عن عثمان، فلقيها الأشتر فضرب وجه بغلتها حتى (مالت) فقالت: ردوني ولا يفضحني هذا الكلب، ولما أخفقت في الوصول إلى دار عثمان، وضعت خشبًا بين سطح منزلها وسطح منزل عثمان - وكانت جاره - لنقل الطعام والشراب " (3) . فهذا يدلنا على هذا الموقف المجمع عليه من الصحابة رضي الله عنهم في استنكارهم لهذا الحدث المفجع الذي وقع من أولئك الغلاة الذين استحلوا دم خليفة المسلمين وقتلوه وهو يقرأ القرآن الكريم ظلمًا وعدوانًا، فكان موقف الصحابة - رضي الله عنهم - موقف المستنكر لهذا التصرف.

(1) تاريخ دمشق، ص94. انظر: كتاب تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، ص 30، 31. (2) انظر: كتاب ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه، ص 203. (3) عصر الخلافة الراشدة، ص 432.

وهو كما يرشدنا إلى موقفهم يهدينا إلى أن هذا العنف لا ينتهي عند حد. فقد كان هذا الانحراف الفكري لدى أولئك السبب الرئيس في إسالة دم الخليفة الراشد الثالث وهم يظنون أنهم يؤدون عبادة ويفعلون قربة. نعوذ بالله من الضلال.

الفصل الرابع العنف في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وموقف الصحابة رضي الله عنهم منه

الفصل الرابع العنف في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وموقف الصحابة رضي الله عنهم منه ومن الخلفاء الراشدين الذين رأوا العنف أثناء خلافتهم وأرادوا إخماد الفتنة وجمع شمل المسلمين ووحدة الأمة الإسلامية علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الذي سعى إلى إخماد الفتنة مع توليه الخلافة بعد مقتل عثمان - رضي الله عنه - سنة 36 هـ. فمنذ خلافته وهو يسعى إلى وأد الفتنة التي بدأت بوادرها تظهر بين المسلمين، فحينما طالب عدد من المسلمين من علي رضي الله عنه أن يقتص من قتلة عثمان خشي رضي الله عنه أن يكون الاقتصاص من هؤلاء سببًا في إشعال فتنة جديدة تضر بالمسلمين وتؤثر في وحدتهم، ولكن هذه الفتنة التي بدأت تنمو من مجموعة من الخوارج الذين كانوا يظهرون الولاء لعلي رضي الله عنه والغيرة على الدين والحمية للشريعة، ولكنهم في الواقع كانوا ينقمون في باطن أمرهم ولاية قريش، فنتج عن ما سعى إلى بثه هؤلاء الخوارج من إشاعات، وإثارة للاضطرابات أن وقعت بين المسلمين معارك منها وقعة الجمل وصفين والتي كانت بين كل من علي ومعاوية رضي الله عنهما.

فلما شعر علي - رضي الله عنه - بتأثير هؤلاء الخوارج في وحدة الأمة الإسلامية حاربهم في وقعات كثيرة، حتى أخمد شوكتهم وقضى على معظمهم (1) . لم يترك بقايا الخوارج الأمر فقام نفر منهم بالتخطيط لقتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهم جميعًا اعتقادًا منهم بأن قتلهم سيقضي على الفتنة التي هددت وحدة المسلمين، وأحدثت شرخًا كبيرًا في الدولة الإسلامية. وقصة هؤلاء النفر كما يرويها الطبري بدأت حينما اجتمع عبد الرحمن بن ملجم والبراك بن عبد الله وعمرو بن بكر التميمي وعابوا على ولاتهم وذكروا أهل النهر فترحموا عليهم قائلين ما نصنع بالبقاء بعدهم شيئًا. إخواننا الذين كانوا دعاة الناس لعبادة دينهم، والذين كانوا لا يخافون في الله لومة لائم، فلو شرينا أنفسنا فأتينا أئمة الضلالة فالتمسنا قتلهم، فأرحنا منهم البلاد، وثأرنا بهم إخواننا. فقال ابن ملجم: أنا أكفيكم علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وكان من أهل مصر.

(1) انظر: الخلفاء الراشدين، ص 363.

وأتى ابن ملجم رجلًا من أشجع يقال له شبيب بن بجرة فقال له: هل لك في شرف الدنيا والآخرة؟ قال: وما ذاك؟ قال: قتل علي بن أبي طالب، قال ثكلتك أمك لقد جئت شيئًا إدًا كيف تقدر على علي قال: أكمن له في المسجد فإذا خرج لصلاة الغداة شددنا عليه فقتلناه، فإن نجونا شفينا أنفسنا وأدركنا ثأرنا، وإن قُتلنا فما عند الله خير من الدنيا وما فيها. قال: ويحك لو كان غير علي لكان أهون عليَّ، قد عرفت بلاءه في الإسلام وسابقته مع النبي صلى الله عليه وسلم، وما أجدني أنشرح لقتله، قال: أما تعلم أنه قتل أهل النهر، العباد الصالحين، قال: بلى قال: فنقتله بمن قتل من إخواننا، فأجابه. فذهبا في ليلة الجمعة التي قتل في صبيحتها علي رضي الله عنه وجلسا مقابل السدة التي يخرج منها علي، فلما خرج ضربه شبيب بالسيف ووقع سيفه بعضادة الباب أو الطاق وضربه ابن ملجم في قرنه بالسيف (1) . فقتل علي - رضي الله عنه - يوم الجمعة سحرًا. وذلك لسبع عشرة خلت من رمضان سنة أربعين (2) . قالت عائشة - رضي الله عنها - لما بلغها موت علي رضي الله عنه: لتصنع العرب ما شاءت، فليس لها أحد ينهاها (3) .

(1) انظر: تاريخ الطبري، 3 / 155، 156، 157. (2) انظر: البداية والنهاية، 7 / 343. (3) انظر: الرياض النضرة في مناقب العشرة، 3 / 237.

ونقل جرير عن مغيرة أنه قال: لما جاء نعي علي بن أبي طالب إلى معاوية وهو نائم مع امرأته فاختة بنت قرطة في يوم صائف، جلس وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، وجعل يبكي، فقالت: ويحك، فقال: إنما أبكي لما فقد الناس من حلمه وعلمه وفضله وسوابقه وخيره. (1) عن ابن هشام قال: قدمت دمشق وأنا أريد العراق، فأتيت عبد الملك لأسلم عليه، فوجدته في قبة على فرش تفوت القائم، وتحته سماطان فسلمت ثم جلست، فقال لي: يا ابن شهاب، أتعلم ما كان في بيت المقدس صباح قتل علي بن أبي طالب؟ قلت: نعم. قال: فقمت من وراء الناس حتى أتيت خلف القبة، وحول إلي وجهه وأحنى علي فقال: ما كان؟ فقلت: لم يرفع حجر في بيت المقدس إلا وجد تحته دم. فقال: لم يبق أحد يعلم هذا غيري وغيرك، فلا يسمعه أحد منك. فما حدثت به حتى توفي، أخرجه ابن الضحاك في الآحاد والمثاني.

(1) البداية والنهاية، 8 / 14.

الخاتمة

الخاتمة تميزت الخلافة الراشدة بالعدل والإنصاف، حيث اختص الخلفاء الراشدون بصفات تميزوا بها في سلوكهم الذاتي، وفي إدارتهم لشؤون الأمة، ورعايتهم لدينها وعقيدتها، وحفاظهم على النهج الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدعوة والجهاد وإقامة العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولقد وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالهدي والرشد كما جاء في حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه - الذي قال: «وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودَّع، فما تعهد إلينا؟ أو قال: أوصنا، فقال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة لمن ولي عليكم وإن عبدًا حبشيًا، فإنه من يعش بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ» (1) .

(1) صحيح سنن أبي داود، كتاب السنة، باب في لزوم السنة، 3 / 871 رقمه (3851) .

وفي هذا الحديث إشارة صريحة إلى وقوع الفتن، ووجوب طاعة الإمام، والالتزام بالنهج المستقيم الذي كان عليه الخلفاء الراشدون. ولذلك اختص عصرهم من بين سائر عصور الدول الإسلامية بجملة من المميزات والخصائص التي تميزه عن غيره، حيث صار العصر الراشدي معلمًا بارزًا ونموذجًا متكاملًا ذا مستوى رفيع يسعى كل مصلح إلى محاولة الوصول إليه، ويجعله كل داعية نصب عينيه، فيحاول في دعوته رفع الأمة إلى مستوى ذلك العصر أو قريبًا منه، ويجعله معلمًا من معالم التأسي والقدوة للأجيال الإسلامية (1) . ولقد كان منهج الإسلام صريحًا وواضحًا في مواجهة العنف، فلقد نبذ العنف بجميع أشكاله وألوانه، وحث المسلمين على الابتعاد عن كل ما يؤدي إلى العنف واستخدام القوة وبيَّن لهم العقوبة التي يستحقها من قام بالعنف قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (2) .

(1) انظر: سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز، ص 72، وانظر: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، ص 12 , 13. (2) سورة المائدة، الآية: (33) .

كما أكد الإسلام حرمة الدم البشري، فحرم سفكه إلا بالحق، قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} (1) . وعظم من حرمة النفس البشرية ومن وزر الاعتداء عليها فعد النفوس كلها واحدة , من اعتدى على إحداها فكأنما اعتدى عليها جميعًا، لأنه اعتداء على حق الحياة، ومن قدم لإحداها خيرًا فكأنما قدم الخير للإنسانية بأسرها، قال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} . (2) . (3)

(1) سورة الإسراء، الآية: (33) . (2) سورة المائدة، الآية: (32) . (3) انظر: حقيقة موقف الإسلام من الإرهاب، ص 84.

وقد شدّد الرسول صلى الله عليه وسلم بالوعيد في من حمل السلاح وقام بالعنف وخوَّف الآمنين فقال صلى الله عليه وسلم: «من حمل علينا السلاح فليس منا» (1) . ولعل ما رأيناه في هدي الصحابة - رضي الله عنهم - في مواجهتهم للغلو واتخاذ العنف سبيلًا في التعامل مع الآخرين. لقد رأينا مواقف الصحابة وهي تنبذ الاعتداء والظلم والغلو في الدين وأن سبب الاعتداء كان أصله الغلو في فهم بعض النصوص الشرعية. لقد اتفق الصحابة - رضي الله عنهم - على مواجهة الغلو في دين الله، وعلى مواجهة أولئك الغلاة ودعوا إلى فهم النصوص فهمًا رشيدًا سليما. والرجوع إلى أهم العلم في تفهم تلك النصوص عند أي أشكال. حتى لا تختلط المفاهيم وتقع الأمة في شراك الغلو والتطرف نتيجة لذلك والله المستعان.

(1) صحيح البخاري، كتاب الفتن، باب قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من حمل علينا السلاح فليس منا» ، 8 / 116 رقمه (7070) .

المراجع والمصادر

فهرس المراجع والمصادر * الإرهاب في القانون الجنائي دراسة قانونية مقارنة على المستويين الوطني والدولي، (لمحمد محب الدين) ، دون طبعة أوتاريخ "الناشرمكتبة الأنجلو المصرية". * أفضل الخطاب في سيرة ابن الخطاب أمير المؤمنين، شخصيته وأصله، (عبد الرحمن بن عبد الله بن عمران بن عامر) دون طبعة 1377هـ / 1957م "دار صادر للطباعة والنشر". * أنساب الأشراف (للبلاذري) دون طبعة 1400هـ / 1979م "دار النشر فرانتس شتاينر بفيسبادن بيروت" تحقيق د. إحسان عباس * البداية والنهاية، (للحافظ عماد الدين أبي الفداء أسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي) ، الطبعة الثانية 1422هـ / 2003م "مطبعة السعادة القاهرة"، "دار عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع، الرياض"، تحقيق د. عبد الله التركي. * تاريخ دمشق (ترجمة عثمان رضي الله عنه) دون طبعة 1404هـ / 1984م تحقيق سكينة الشهابي. * تاريخ الطبري (لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري) الطبعة الرابعة دون تاريخ طبع، "دار المعارف"، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم

* تاريخ المدينة المنورة، (الشبراخيتي، برهان الدين إبراهيم بن مرعي بن عطية المالكي) ، دون طبعة 1394هـ / 1974م "دار الأصفهاني للطباعة جدة" تحقيق فهيم محمد شلتوت. * تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (لمحمد أمحزون) الطبعة الثالثة 1420 هـ / 1999م "دارطيبة للنشر والتوزيع". * تحقيق منيف الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة، (للإمام خليل بن كليدى العلاني) ، الطبعة الأولى 1410هـ "دار العاصمة الرياض"، دراسة وتحقيق د. عبد الرحيم محمد أحمد القشقري. * التطرف والإرهاب في المنظور الإسلامي والدولي (المستشار سالم الهنساوي) الطبعة الأولى 1424 هـ / 2004 م "دار الوفاء". * تفسيرالقرآن العظيم (للإمام الجليل، الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي) دون طبعة 1403هـ / 1983م "دار المعرفة بيروت لبنان". * الجامع لأحكام القرآن، (لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي) الطبعة الثالثة، 1387هـ / 1967م "دار الكاتب العربي للطباعة والنشر القاهرة". * حقوق الإنسان وأسباب الضعف في المجتمع الإسلامي في ضوء أحكام الشريعة، (د. أحمد يسري) ، دون طبعة 1993 م.

* حقيقة موقف الإسلام من التطرف والإرهاب (د. سليمان الحقيل) الطبعة الثانية 1422هـ / 2001م. * حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، دون طبعة 1351هـ / 1932م "مكتبة الخانجي القاهرة". * دراسة خاصة عن العنف السياسي في مصر، (لحسنين توفيق) ، دون طبعة 1988م، "مركز الدراسات السياسية الاستراتيجية بالأهرام التقرير الإستراتيجي العربي". * ذو النورين عثمان بن عفان (ابن خلدون، ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد) دون طبعة 1394 هـ / 1974م "المطبعة السلفية القاهرة". * الرياض النضرة في مناقب العشرة، (للإمام أبي جعفر أحمد الشهير بالمحب الطبري) دون طبعة 1405هـ / 1984م "دار الكتب العلمية بيروت لبنان". * سير الشهداء دروس وعبر، (تأليف عبد الحميد بن عبد الرحمن السحيباني) ، الطبعة الأولى 1419هـ / 1999م "دار الوطن للنشر". * شرح النووي على صحيح مسلم (النووي) ، دون طبعة 1401هـ / 1981م "دار الفكر بيروت". * صحيح البخاري (للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بروزبة البخاري الجعفي) دون طبعة 1994م / 1414م، "دار الفكر للطباعة والنشر".

* صحيح سنن الترمذي، (لمحمد ناصر الدين الألباني) ، الطبعة الأولى 1408 هـ / 1988 م، "الناشر: مكتب التربية العربي لدول الخليج". * صحيح سنن أبي داود، (لمحمد ناصر الدين الألباني) ، الطبعة الأولى 1409 هـ / 1989 م، "الناشر: مكتب التربية العربي لدول الخليج". * صحيح سنن ابن ماجه (تأليف محمد ناصر الدين الألباني) الطبعة الثانية 1408 هـ / 1987 م، "الناشر: مكتب التربية العربي لدول الخليج". * صحيح مسلم (للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري) الطبعة الأولى 1412 هـ / 1991م. "طبع ونشر وتوزيع دار الحديث القاهرة". * الطبقات الكبرى (لابن سعد) ، دون طبعة 1376هـ / 1957م "دار بيروت للطباعة والنشر"، "دار صادر للطباعة والنشر". * العشرة المبشرون بالجنة، (من الطبقات الكبرى لابن سعد) ، الطبعة الثانية 1406هـ / 1986م. * عصر الخلافة الراشدة، محاولة لنقد الرواية التاريخية وفق منهج المحدثين، (د. أكرم ضياء العمري) ، الطبعة الرابعة 1424هـ / 2003م "مكتبة العبيكان".

* علي بن أبي طالب مستشار أمين. . . . للخلفاء الراشدين (د. محمد عمر الحاجي) الطبعة الأولى 1998م "دار الحافظ بدمشق". * العنف والشريعة في مصر دراسة قانونية (د. مجدي متولي) ، دون طبعة 1995 م "الهيئة المصرية العامة للكتاب". * العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم (للإمام القاضي أبي بكر بن العربي المالكي) الطبعة السادسة 1412هـ "المكتبة السلفية الدار السلفية لنشر العلم" خرج احاديثه وعلق عليه محمود مهدي الاستنبولي، حققه وعلق حواشيه الشيخ محب الدين الخطيب * الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة (للشيخ عبد الرحمن بن معلا) الطبعة الخامسة1420هـ / 1999م"مؤسسة الرسالة بيروت ". * فضائل الصحابة والدفاع عن كرامتهم، (لعبد الله عبد القادر التليدي) الطبعة الأولى 1420هـ / 1999م "دار بن حزم للطباعة والنشر بيروت لبنان". * الكامل في التاريخ (المؤرخ عز الدين أبي الحسن علي بن ابي الكرم الشيباني المعروف بأبن الأثير) الطبعة الأولى 1417هـ / 1997م "الناشر دار الكتاب العربي" حققه د. عمر عبد السلام تدمري

* لسان العرب، للإمام العلامة ابن منظور) الطبعة الثالثة 1413هـ / 1993م "دار احياء التراث العربي". * المتطرفون (د. عمر عبد الله كامل) دون طبعة أو تاريخ "مكتبة التراث الإسلامي". * المعجم الكبير، (للحافظ أبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني) ، دون طبعة 1398هـ / 1978م "الدار العربية للطباعة بغداد". حققه وخرج أحاديثه حمدي عبد المجيد السلفي. * النهاية في غريب الحديث والاثر، (للإمام مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد الجزري ابن الأثير) ، دون طبعة أو تاريخ "دار احياء الكتب العربية". تحقيق محمود محمد الطناحي وطاهر أحمد الزاوى.

§1/1