موقف الاستشراق من السنة والسيرة النبوية

أكرم العمري

إنَّ موضوع الاستشراق ليس من الموضوعات التي تُطْرَقُ للمرة الأولى، وإنما تُطْرَقُ في العقدين الأخيرين على وجه الخصوص مراراً في مؤلفات، وكُتُب، ومحاضرات، ومقالات صُحُفية، وتحقيقات في المجلات والدوريات، ولكن النظرة إلى الاستشراق كانت تتغيَّرُ باستمرار حتى انتهت إلى الصورة التي يمكن أنْ تُعتبر واضحة في الأذهان. فعندما كنا نطلب العلم في المرحلة الجامعية في مطلع الخمسينات كنا نستمع إلى آراء تتصل بالعقيدة، أو الشريعة، أو التاريخ، أو التفسير، أو الثقافة الإسلامية، وكانت هذه الآراء تطرح بلسان عربي من قِبَلِ أساتذة ينتمون إلى أُمَّتِنَا ويتكلَّمُون بلساننا، وكنا نظنُّ أنَّ الأقوال هي اجتهاداتهم في هذه الموضوعات المختلفة، لكن بعضهم كان أحياناً يعزو، فإذا ما عزا القول لصاحبه عرفنا أنه يتبنَّى رأياً لأحد الدارسين الذين كانوا يُسَمَّوْنَ دارسين غربيِّين، لكن معظم الآراء ما كانت تُعْزَى وهذا أخطر بالطبع، لأنَّ الأستاذ يتكلَّم وكأنه يجتهد في فهم النصوص فيوجِّهُهَا في حين أنه يكون قد درس كتاباً باللغة الألمانية أو الفرنسية أو الإنجليزية، وهو يحاضرنا من خلال ذلك الكتاب. ومع مرور الأيام بدأت صورة الاستشراق تتَّضح وأبعاده تَسْتَبِينُ، ولكن بعض الدارسين يرى أنَّ ذلك لم يتم أو لم يصبح واضحًا في أذهان المُثَقَّفين من أبناء أمَّتنا إلاَّ قبل عقدين من الزمان فقط. ليس معنى ذلك أنَّ اسم الاستشراق ما كان يظهر على أَلْسِنَةِ الناس، وما كانت بعض أقوال المستشرقين المتداولة في الأوساط الجامعية وغيرها لتعرف بأنها أفكار وآراء استشراقية، ولكن معرفة أنّض الاستشراق ليس مشروعاً فردياً وإنما هو مؤسسة متضامنة متعاونة على اختلاف البلدان التي ينتسب إليها المستشرقون، وعلى اختلاف اللغات التي ينطقها المستشرقون، على اختلاف سياسات الدول التي ينتمون إليها تبقى المؤسسة من وراء ذلك تتَّسِمُ بصفات ثابتة في التعامل مع التراث الإسلامي. منذ مائة وخمسين سَنَةٍ وحتى الوقت الحاضر يصدر في أوروبا بلغاتها المختلفة كتاب كل يوم عن الإسلام، هذه الإحصائية التي ننتهي إليها عندما نعرف أنَّ

ستين ألف كتاب قد صدرت بين 1800 - 1950 م أي عبر قرن ونصف، وعندما نعرف أن في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها يوجد حوالي خمسين مركزاً مختصاً بالعالم الإسلامي، وأن المستشرقين يصدرون الآن ثلاثمائة مجلة متنوعة بمختلف اللغات كما قرر ذلك بوزوارث في " تراث الإسلام "، وأنَّ المستشرقين عقدوا مؤتمرات دورية خلال قرن واحد - هو المائة سَنَةٍ الأخيرة - ثلاثين مؤتمراً، هذا سوى المؤتمرات الإقليمية، وسوى الندوات، وبعض هذه المؤتمرات مثل مؤتمر أوكسفورد ضم قرابة تسعمائة عالم، فلماذا كل هذا الاهتمام بالإسلام، وبالشرق، وبالعَربِ، وبالقضايا التى تتصل بمنطقة بعيدة عنهم؟. طبعًا هناك بدايات لاستشعارالغرب لقوته العسكرية والسياسية بعد أَنْ استقرت فيه معالم نهضته الفكرية والحضارية عبر القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر، ثم بدأ في اكتساح العالم خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وكان هذا يقتضي أمرين: أن يُهيأ الرأي العام الغربي لمثل هذا العمل، لأن الاقتحام العسكري والاختراق الثقافي والسياسى والاقتصادي سيكلف الغرب الكثير، وينبغي أن يضحي من أجل ذلك بقوى عسكرية، وبإمكانات اقتصادية، وبتسخير قدرة الأجهزة العلمية - إلى حين - لهذه المشكلة المثارة. فالمستشرقون هم الذين صوروا الشرق أمام الغرب، هم الذين قالوا من هم المسلمون ماهي خصائصهم العقلية، ما هي ثقافتهم، ما هي أعرافهم وتقاليدهم، إلى أي شيء يدفعهم الإسلام، وكم يؤثر فيهم، في الوقت الذي توضع فيه الخطط العسكرية والاقتصادية. هذا الأمر - تصوير الشرقيين أمام الغربيين - كان هدفًا من الأهداف الكبيرة لحركة الاستشراق، إذ كان المطلوب إعطاء صورة معينة تمكن من الغزو العسكري، والاقتصادي، والثقافي، وهكذا بدأت الدراسات التي اتسمت بطابع عرقي في بدايات القرن التاسع عشر الميلادي، والتي أدت أولاً إلى تقسيم البشر إلى ساميين وآريين وحاميين، وأن هؤلاء البشر يتمايزون تمايزاً عرقياً، وأن خصائصهم العقلية والجنسية تتباين، فالساميون لا يمتلكون القدرة على التفكير

البعيد في المستقبل، وهم أيضًا لا يمتلكون القدرة الكافية على التنظير العقلي والربط بين الجزئيات، وهذا ما سماه المستشرق جب Gib - وهو يعتبر معاصرًا، لأنه إلى سَنَةِ 1965 م كان يدير مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة هارفارد - عقلية ذرية تتسم بتجزئة الأشياء وعدم القدرة في تجميعها وتركيبها والنظر إليها بصورة شاملة. إن الدراسات ذات الطابع العرقي قام بها أولاً أرنست رينان، حيث كتب عدة مؤلفات عن أصول الساميين وعن فقه اللغات السامية، وفقه اللغات كان يتجه نحو تكريس الفرق بين الساميين والآريين أو بين الشرق والغرب. ويعتبر العرب والمسلمون هم المركز الذي تدور حوله دراسات الاستشراق أكثر من بقية الأمم والشعوب، والدراسات التي تناولت الإسلام والمسلمين تختلف عن تلك الدراسات لبقية أرجاء الشرق، ولعل هذا لافت للنظر، لماذا تتسم الدراسات المتعلقة بالإسلام والمسلمين بالتحيز والتعصب والغضب؟ ولماذا لا تتسم بذلك الدراسات عن البوذية مثلاً، أو الهندوسية، أو الثقافات الأخرى أو الحضارات الأخرى كالصين مثلاً؟ ولماذا عندما تختص القضية بجانب إسلامي، أو بجانب يتصل بمجتمعات إسلامية عندئذ تظهر جذور الانفعالات المختلفة والعصبيات المتنوعة والغيظ؟ هذه إحدى الملاحظات التى سجلها إدوارد سعيد، وهي في الحقيقة تستحق الانتباه إليها خاصة إذا راجعنا الاستشراق في بدايات نشاطه، لأن بداياته الأولى ترجع إلى فترات مبكرة أكثر وترتبط بقصة الصراع بين المسلمين والغرب من خلال فتح الأندلس، ومن خلال الحروب الصليبية ومن خلال الصراع في صقلية وجنوب أوروبا، وهذا الأمر كان يجعل الإسلام يحتك بصورة مباشرة بالنصرانية التى كانت مؤسساتها الكنسية تسود العالم الغربى، وكانت هى التي تتوج الأباطرة والملوك، وتتمتع بملكية أرض واسعة مِمَّا جعلها القوة الرئيسية في الغرب، وهذا كله كان يجعل الإسلام في مواجهة مع الكنيسة النصرانية، ومن ثم اندفعت أعداد من القسس لدراسة الإسلام. فهذه البدايات الدينية كانت تتسم بالتشنج والعاطفية، والدراسات

فيها اتهامات ممجوجة، وهي من السخف بحيث أَنَّ ذكرها في مثل هذا العصر ليس له من أثر وإنما يدل على طبيعة العلاقات المنفعلة والمتسمة بالطوابع الذاتية في تلك الدراسات الاستشراقية الأولى. والبعض يرى أن أوروبا كانت تخشى من غزو إسلامي فكري في تلك الفترة، لأن المسلمين نقلوا الفكر اليوناني إلى أوروبا - أقصد عن طريق حفظ الكتب اليونانية التي ترجمت إلى اللغات الأوروبية عن العربية. هذا الجانب لا يهمنا بوصفنا الإسلامي، ولكنه حدث وحدث معه أَنْ ذهب أوروبيون ربما لطلب مثل هذه العلوم ابتداءً، ولكنهم احتكّوا ببيئة إسلامية في الأندلس، وكان البابوات يرصدون هذه الحركة، ويرون أنها خطرة على أوروبا، وأنها تمثل غزوًا حضاريًا فكريًا إسلاميًا. ومن هنا أنشئت مراكز الدراسات الاستشراقية المختلفة في أوروبا بإذن من البابوات، وبتنسيق المجالس الكنسية، ووضعت في كمبردج وأوكسفورد وفي مراكز أخرى مثل ألمانيا. كانت هناك قضية الصراع الفكري الديني واستمر هذا التيار إلى أَنْ ظهرت المرحلة الجديدة المقترنة بالتوسع الاستعماري، عندئذ صار من مهام الحكومات أَنْ تُسَخِّرَ عدداً كبيراً من الباحثين ليكتبوا عن الإسلام والمسلمين باللغات الأوروبية، إذن الخطاب لم يكن مُوَجَّهًا ابتداءً لناطقى العربية أو اللغات الشرقية وإلا لكانت الكتابة باللغة العربية، بل كان مُوَجَّهًا لأوروبا، أنه هذه هي صورة الإسلام فلا تتحولوا إليه، وإذا كانت هذه هى صورة المسلمين فلا تلوموننا إذا اقتحمنا ديارهم، ولا تلوموننا إذا استنزفنا خيراتهم، ولا تلوموننا إذا تعصبنا ضدهم، لأن هؤلاء القوم يتسمون بخصائص عقلية وجنسية وثقافية لا تمكنهم من النهوض بأنفسهم، وهم بحاجة إلى عوننا والدور الذي سنقوم به والذي سنحدثه إنما هو لصالح الحضارة الإنسانية. ويستمر هذا الخطاب عبر قرن من الزمان وهوالقرن التاسع عشر، وهو القرن الذي اشتد فيه الاستشراق واشتدت فيه مؤسساته وأوزرت من قبل الحكومات المختلفة الأوروبية.

ومنذ مطلع القرن العشرين وإلى الوقت الحاضر نعلم كيف برزت منطقة الشرق الأوسط، وأهمية هذه المنطقة استراتيجياً واقتصادياً وبالتالي فإن الدراسات الاستشراقية استمرت واتصلت، كما أَنَّ مؤتمرات المستشرقين واصلت طريقها بدعم من الحكومات ومن المؤسسات ومن الأغنياء (الأفراد) من الأمريكيين والأوروبيين. ونجد أَنَّ الاستشراق الروسي يبرز بشكل أقوى منذ الثوره البلشفية سنة 1917 م. إذ لا بد من دراسة القوم الذين يراد لهم أَنْ يُسْتَعْمَرُوا، ولا بد أَنْ يعتقد الغربي أَنَّ العمل إنساني وحضاري وكيف مُثَّل الإسلام أمام الغرب؟ أولاً لا وجود حقيقي للإسلام في الغرب لعدم وجود المؤسسات القوية القادرة على تمثيله، وهذا ولَّد فراغاً وَمَكَّنَ المؤسسات الاستشراقية ومن ورائها عدد كبير من الدارسين الغربيين الذين لا يعرفون العربية، ولكنهم يتلقون الصورة من خلال المؤلفات الاستشراقية. لقد ظهرت دراسات تحليلية كثيرة في القرن العشرين عن الإسلام والمسلمين وعن القرآن الكريم، وعن السُنَّةِ النبوية، وعن السيرة النبوية، وعن الثقافة الإسلامية وعن الشريعة الإسلامية، وهذه المؤلفات قامت بعقد دراسات مقارنة، والمقارنات منذ القديم تستهدف شيئاً أساسياً وهو تصوير الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه مصلح اجتماعي عكس ضرورات البيئة العربية في مكة. ويقول جب Gib : « إنه نجح لكونه أحد المكيين» بمعنى أنه عَبَّرَ عن الحاجيات المحلية، ومهما اختلفت العبارات ما بين قسوة كاملة تتسم بسوء الأدب عند ذكر الرسول، - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - وهذا ما يقوله المستشرقون المتأخرون عن المتقدمين بأنهم أساءوا جدًا - وبين دراسات أكثر موضوعية وحيادًا. ومهما اختلفت الصورة تبقى هناك قضية أساسية وهي أَنَّ جميع المستشرقين - متسامحهم ومتعصبهم - يتأثرون بوسطهم الثقافي المعادي للإسلام إلاَّ من أسلم منهم، وهم قلة كما تعلمون مثل " أتين دينيه "، صاحب " محمد رسول الله " و " أشعة من نور الإسلام " وهو فرنسي، ومثل " موريس بوكاي " الذي قارن بين القرآن والانجيل والتوراة، ولما تَبَيَّنَ له أَنَّ

الكتب السماوية المًحَرَّفَةِ تتناقض مع العلم، وَأَنَّ القرآن لا يتناقض مع أية حقيقة علمية ثابتة عندئذ أعلن تشهده وإيمانه بنبوة محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبأن القرآن كلام الله، وهو من كبار العلماء الفرنسيين في الطبيعيات، وهؤلاء قلة أمام الكثرة الكاثرة التي استمرت تصور الرسالة الإسلامية على أنها هرطقة - هرطقة: اصطلاح يطلق على المنشقين عن الكنيسة النصرانية - فهم يرون أَنَّ الإسلام هرطقة وحركة خارجة عن النصرانية، وأَنَّ الرسول - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - لم يكن نبياً مُوحَى إليه وإنما كان على حد أحسن تعبيراتهم وهو ما يقوله مونتغمري وات - أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة لندن، وهو من أحدث الذين كتبوا في السيرة النبوية من المستشرقين في كتابيه: " محمد في مكة "، " محمد في المدينة " Mohammad At Mekka . Mohammad At Medina وهو يقول: «إِنَّ محمدًا صادق، لأنه يُخَيَّلُ إليه أنه بُعِثَ نَبِيًّا، وأنه يحمل رسالة، وأنه يُوحَى إليه». هذا المستشرق، لأنه يعيش في هذا القرن الذي تبلورت فيه علوم جديدة لم تكن موجودة عند المستشرقين في القرن التاسع عشر أو القرن الثامن عشر أو القرن السابع عشر أو مع البدايات الاستشراقية، مثل علم النفس التحليلي، علم الاجتماع والعلوم الاقتصادية والاجتماعية الحديثة، لذلك نجد أَنَّ تقنية البحث عند مونتغمري وات Montogomry Watt تختلف عن التقنية القديمة من حيث أنه يمزج دراسته بهذه الألوان الجديدة من العلم، وهذا قد يولد قناعة عند بعض القارئين مِمَّنْ لا يعرفون السيرة النبوية معرفة دقيقة، أو مِمَّنْ لا يعرفون الإسلام بصورة تفصيلية، فهو يزعم أَنَّ عملية الوحي إنما هي استشعار داخلي ولكن بصدق، فهو لا يشكك بصدق شعور النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالنبوة، ولكنه يظن أَنَّ هذا إنما هو استشعار داخلي وقناعة ذاتية دون أَنْ يكون هناك شيء خارجي اسمه الوحي. وعندما يأتي إلى قضية الاختلاف بين أسلوب الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أحاديثه وبين أسلوب القرآن المتميز هنا يلجأ إلى علم النفس التحليلي، فيقول إن النبي عندما يقرأ القرآن على الناس يكون في حال يضعف فيها الوعي الخارجي ويعمل وينشط

اللاشعور أو العقل الباطن، فعندئذ يكون الأسلوب مُغَايِرًا لأسلوبه عندما يكون في يقظته العقلية الكاملة أو وعيه الظاهر الكامل، ومن هنا يأتي أسلوب الحديث مُغَايِرًا لأسلوب القرآن. نحن نعلم أَنَّ مغايرة أسلوب القرآن لأسلوب الحديث هو أحد الوسائل التى بُنِيَتْ عليها موضوعات الإعجاز القرآني، باعتبار أن أسلوب القرآن أسلوب فريد متميز عن الأساليب البشرية، وأن الإسلام تحدى العرب - وهم أساطين البلاغة - بأن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، وأن عدم استجابتهم للتحدي مع رغبتهم في ذلك يدل على أن الأمر كان عندهم ظاهرًا بحيث تميزت أمامهم الحقيقة وهي أن هذا أسلوب مغاير لأساليب البشر. ومن هنا تبرز أهمية هذه الفذلكة التي يقدمها مونتغمري وات لأنها تستهدف نقض قضية الإعجاز باعتبار أن هناك أساليب متغايرة تنجم إحداها عن الوعي الظاهر والثانية عن اللاشعور، بالطبع مثل هذا إذا قُيِل ينبغي أن يطبق على سائر الأساليب لسائر الكُتَّابِ والشعراء والمفكرين في أرجاء الدنيا، وإلا لماذا يختص محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحده بالأسلوبين؟ ونحن نعلم أن الدراسات المقارنة والدراسات الأدبية النقدية كلها مبنية على وحدة الأسلوب بحيث يقال إن هذا الكلام ليس من كلام فلان لأنه مغاير لأسلوبه. إن محاولات إلقاء الرؤى الثقافية المعاصرة على الاسلام، منهج خطير، ومن الناحية العلمية لا يمكن قبوله لأنه مجرد إسقاط تاريخى لرؤية ثقافية حديثة، فقبل مونتغمري وات كان المستشرقون يحتارون في تفسير ظاهرة الوحي قبل أن تبرز فكرة التحليل النفسي التي جاء بها فرويد الطبيب المشهور في مطلع هذا القرن والتي أخذت مجالها في الدراسات النفسية والاجتماعية وفي عالم الرواية الأدبية. كانت مشكلة الوحي تواجه المستشرقين ولا يتمكنون من إعطاء تفسير لها إلا باللجوء إلى الاتهامات التى سبق أن ذكرت على لسان الجاهلين في مكة عند نزول الإسلام، وللأسف في دراساتنا الجامعية، وربما المرحلة الثانوية كانت تطالعنا أسماء لدارسين يسمون دارسين غربيين، وهذه الأسماء أصبح

موقف دانتي من الرسول - صلى الله عليه وسلم -:

يطلق عليها فيما بعد اسم الاستشراق أو المستشرقون، وكانت انطباعاتنا عن البعض أنه معتدل، فكان يقال لنا مثلا إِنَّ دانتي له تأثير كبير على نشوء الثورة الفرنسية، والتمهيد لها، ومعاداة الآراء الكنسية الباطلة والمخالفة للعلم، ودانتي الذي أُبرز والذي يعرفه ربما الكثير من العرب والمسلمين لأنه يأتي في المناهج الثانوية في كثير من الدول الإسلامية، ودانتي الذي ظهر لنا بمظهر الشاعر النابه صاحب " الكوميديا الإلهية " التي ربطت عن طريق الدراسات المقارنة بقصة الإسراء والمعراج، وربطت أحياناً في الدراسات الأدبية برسالة المعري " رسالة الغفران "، ودانتي قيل لنا إنه شاعر نابه وإن له تأثيرًا في مجرى التاريخ الإنساني، وإنه أحد المُمَهِّدِينَ للثورة الفرنسية - في رأيهم - مصدر الحرية والمساواة والتحرر الإنساني الذي يظنون أنه شمل أهل الأرض خلال القرون الأخيرة على إثر ظهور تلك الثورة. موقف دانتي من الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دانتي يضع النبي - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - في طبقة متأخرة من طبقات الجحيم، هذا الوجه الآخر من العملة لم يقولوه لنا، وإنما فقط قالوا لنا إِنَّ له أثراً إيجابياً، وعندما يقتنع الإنسان وهو صغير بأن هؤلاء هم نماذج الأبطال في التاريخ الإنساني، وإنهم هم رجال الفكر ورجال التحرر، ثم يأتي بعد ذلك - بعد أن يشب - ويقرأ مثل هذا الكلام لدانتي لن يغضب كثيرًا، لأن ماعرفه عن دانتي يخفف من هذا العمل، ولأنه لم يعرف شيئًا عن محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلماذا يغضب؟ ولكن يبقى أن أشير إلى ما ذكرته في البداية من كون خطاب دانتي بالفرنسية العالمية المستوى ليس موجهاً للعرب ولا للمسلمين، إنما هو في الأصل موجه لقراء الفرنسية، وأن المراد تشويه صورة محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -بغية الخلاص مِمَّا كانت تظنه الكنيسة ويظنه مفكرو الغرب حتى أعداء الكنيسة غزوًا فكريًا إسلاميًا.

نسب حسنات الإسلام إلى اليهودية والنصرانية:

نَسْبُ حسنات الإسلام إلى اليهودية والنصرانية: إنَّ تلمس كل حسنات الإسلام ومحاوله نسبتها إلى أصول يهودية أو نصرانية، هذا المنهج كان منذ البدء معمولاً به ولا يزال حتى الوقت الحاضر يظهر في عبارات المستشرقين المعاصرين، فالقضايا التي تتصل بتوحيد الإله، وبطرح العقيدة الدينية يشار فيها إلى أثر بَحِيرَا الرَّاهِبْ، وأثر ورقة بن نوفل، فكتب الحداد الذي لا نعرف اسمه - لأنه لم يصرح به - سواء في كتابه عن " المسيح والقرآن " أو " محمد والقرآن " أو كتبه الأخرى التى ظهرت حديثًا، وهذه الدراسات التى قيل إنها للأستاذ الحداد ركزت كثيراً على هذا الجانب وهو أن محمداً - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان على صلة بورقة بن نوفل خلال خمسة عشر عامًا، وكان هذا الوقت منذ زواجه بخديجة الذي يزعم الكاتب أَنَّ ورقة زوجه بها، وهو أمر طبعًا منقوض تاريخيًا لأنه معروف أن الذي زوجها هو عمها عمرو بن أسد، ولكن المهم إيجاد الصلة بورقة الذي يقول إنه كان نصرانيًا وكان على ثقافة كتابية، وأن محمدًا - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلقى عنه الوحي الأول، ثم جاء الوحي الثاني في الغار. هذه الكتابات الحديثة، هذه الرؤى ليست جديدة، وإنما منذ البداية كان المنهج يركز على أَنَّ حسنات الإسلام مقتبسة من سواه، لعدم إمكان إنكارها لأن القرآن جاء بها ولأن السُنَّةَ أثبتتها، إِذًا لا يوجد إلا طريق واحد وهو أَنْ يقال: نعم إن الإسلام فيه هذا الجانب ولكنه مأخوذ عن النصرانية بواسطة ورقة بن نوفل، والإسلام فيه هذه الحسنة ولكن الذي أوحى بها إنما هو بَحِيرَا الرَّاهِبْ وبعضهم يريد أن ينسب الأمر إلى بعض اليهود الذين كانوا في شبه الجزيرة العربية، ونحن نعرف تمامًا أن مكة لم يكن فيها يهود. القصص الديني: نعم هناك أوجه تشابه في القصص الديني بين ماورد في التوراة وشرحه التلمود، والإنجيل، وبين ما ورد في القرآن الكريم، ولكن هذا التشابه لا يعود إلى كون القرآن اقتبس تلك الصور عن التوراة والإنجيل، وإنما لكون الأصل

ترجمات معاني القرآن:

واحدًا، نحن لا ننكر أن الإنجيل وأن التوراة من عند الله، ولكننا نقول ما أثبته القرآن من كون الإنجيل والتوراة لم يعودا كلمة الله تعالى بسبب التحريف الذي وقع والذي لا يمكن تمييزه وتحديده وتخليصه بدقة من الحق، فكون الوحي الإلهي واحدًا وكون العقائد الدينية واحدة والشرائع هى التى تختلف، هذا الأمر يؤدي بالطبع إلى أَنْ يلتقي الوحي الإلهي للأنبياء جميعًا في بعض الجوانب. ترجمات معاني القرآن: هناك ترجمات كثيرة لمعاني القرآن الكريم قام بها المستشرقون وهي تزيد على خمس وسبعين ترجمة، ونحن لا نعرف هذه التراجم، بل لا تكاد تجتمع في مكتبة من مكتبات العالم الإسلامي، وهذا بلا شك تقصير كبير، إننا لا نعرف ماذا يُكْتَبُ عنا، وكيف يترجم كتاب الله تعالى، وماذا يقال في تصديره للعالم الغربي، لا بد أن نمثل أنفسنا وخاصة بعد أن أصبح عندنا العديد من المثقفين وَالكُتَّابِ مِمَّنْ يعرفون اللغات الأجنبية، يجب أن نتكلم عن أنفسنا، ولا ندع المستشرقين يتكلمون عنا ويمثلوننا. يقول جورج سيل George Sail في مقدمة الترجمة الإنكليزية لمعاني القرآن الكريم سَنَةَ 1736 م: «أما أن محمدًا كان في الحقيقة مؤلف القرآن والمخترع الرئيسي له فأمر لا يقبل الجدل، وإن كان من المُرَجَّحِ مع ذلك أن المعاونة التي حصل عليها من غيره في خطته هذه لم تكن معاونة يسيرة، وهذا واضح في أن مواطنيه لم يتركوا الاعتراض عليه بذلك، يشير إلى آيات القرآن {إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} (¬1) وقول الحق تعالى: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} (¬2) المقصود أن هذه مقدمة لترجمة لمعاني القرآن إلى الإنكليزية، وهي من أقدم الترجمات!!. هناك دراسة لمالك بن نبي وهي " الظاهرة القرآنية " وفيها مناقشة دقيقة ومنطقية لما قيل من تشابه بين القصص الديني القرآني والقصص الديني التوراتي. وينبغى أيضاً أن نلاحظ أن تمثيل الاستشراق للإسلام وللمسلمين بالنسبة للغرب ينعكس على قضايانا السياسية، وعلى علاقاتنا مع الغرب حيث يتصور ¬

_ (¬1) [الفرقان: 4]. (¬2) [النحل: 103].

الرأي العام الغربي أننا أُمَّةٌ همجية وأننا برابرة كما تزعم كثير من الدراسات، وأننا لا نمتلك مقومات حضارية، ولا نمتلك عقلية منطقية، ولا نفكر في المستقبل، هذا كله يمكن أن يؤدي إلى مشكلة في نطاق العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية، والصراع بين الشرق والغرب، لذلك فإن قيامنا بتمثيل أنفسنا هو الحل الأمثل، نحن الذين نطرح فكرنا وديننا وعاداتنا لكنه ينبغي أن نعترف أننا حتى الآن لم نمثل أنفسنا أمام أنفسنا، أقصد لازلنا ندرس الإسلام، ولازلنا ندرس أوضاع المسلمين وندرس شرائح كثيرة تاريخية، وجغرافية، واقتصادية، واجتماعية، وثقافية، من خلال الدراسات الغربية والاستشراقية، وأن مناهج جامعاتنا في أرجاء العالم الإسلامي مليئة بمثل هذه الكتب وحتى تلك الكتب التى ألفها عرب لو قارناها بدقة فإننا سنجد أن كثيرًا من الأفكار مترجمة دون عزو عن الاستشراق. فلا بد إذًا من أن نبني صرحنا الثقافي الفكري الديني بأنفسنا وأن تكون دراستنا مستقلة ذات مناهج مستقلة، ورؤى مستقلة، وأن هذا الذي يطرح لا يكون متأثرًا وغارقًا في بؤرة الاستشراق. أن نمثل أنفسنا أولاً عن طريق بناء الصرح العلمي والرؤى الإسلامية الخالصة المنبثقة عن كتاب الله تعالى وَسُنَّةَ محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم أن نعكس هذا على الغرب بترجمات إلى اللغات العالمية المختلفة، لكن الذي حدث أن المستشرقين مثلونا أمام الغرب وبعد أن شَوَّهُوا الصورة تمامًا خلال قرنين من الزمان وعادوا إلى عكس الصورة، فبدل أن يكون الإنشاء يخاطب به الغربي باللغة الألمانية أو الفرنسية أو الإنكليزية صار الخطاب - بعد الترجمة للعربي وللمسلم الذي يقرأ العربية أو بعض اللغات الإسلامية الأخرى - إذن عكس الخطاب الذي شَوَّهَ الصورة أمام الغربي، بحيث قبل أن نُستعمر «لأننا بحاجة إلى الاستعمار، قبِل أن نُخْتَرَقَ لأننا لا نستطيع النهوض بأنفسنا ولئلا نبقى بعيدين عن الحياة الطيبة التي لا بد أن تكون ثمرة من ثمرات الاستعمار وخيراته علينا!!».

وتعكس الصورة منذ مطلع القرن العشرين إلى الآن بشكل ترجمة إلى لغاتنا فَتُحَوِّلُ الخطاب القديم - إلى الأوروبى - إلى خطاب جديد للمسلم وبنفس الأفكار والتوجيهات التي تولِّد الشك في نفس المسلم. أولاً: لأن التربة صالحة لبذر أية فكرة فلا توجد تربية إسلامية مو جهة لكل أبناء العالم الإسلامي، ولأجياله الصاعدة، ولا يوجد تغذية بالقرآن وَالسُنَّةِ ومفاهيم الإسلام بشكل يحصن الشاب المسلم عن تقبل مثل هذه الأفكار. ثانياً: هذا الخطاب يحطم الأُمَّةَ لأن المعنوية التي تأتيها من صلتها بالقرآن، بالوحي الإلهى كتابًا وَسُنَّةً، واستشعارها بأنها الأُمَّةَ الوحيدة التي تحمل وحيًا إلهيًا خالصًا من التحريف، هذا الاستشعار يمكن أَنْ يعيدها إلى مجد حضاري جديد، والمجد الحضاري الجديد معناه وقف المصالح للعالم الغربي، معناه توجه المنطقة توجهًا مستقلاً يحفظ كرامتها وشخصيتها وهويتها الإسلامية وثقافتها التاريخية وتطلعاتها نحو مستقبل أفضل. قبل ثلاثة عقود في المرحلة الجامعية كان الأستاذ يتكلم بلسان الآخرين، وطبعاً هناك أناس متدينون في القاعة، ولازالت الطينة بصورة عامة فيها بقايا خير كثير، ولازالت لم تتسخ كثيرًا، من الصعب أََنْ يقول الإنسان ائتمر أبوبكر وعمر وأبو عبيدة على انتزاع الخلافة، ولكن يستطيع أََنْ يقول ذلك على لسان الأب " لا مانس " ويسوق هذا الكلام ثم يسكت. والمهم أَنَّ الصورة التي تكونت في أذهان الطلبة الجامعيين أَنَّ هؤلاء الصحابة أناس يأتمرون بينهم على انتزاع سلطة وخلافة دنيوية، وأنهم ليس كما يقول المسلمون عنهم من كونهم رُبُّوا على عين النبوة، ونشأوا مع آيات الوحي وتمثلوها قولاً وعملاً وبما أنهم نماذج الإسلام الأولى فلا يعقل أَنَّ آخرين سيأتون بعدهم يصبحون نماذج أفضل. وهكذا فإن الإسلام ليس دينًا واقعيًا يُرَبِّي رجالاً نظيفين وأقوياء، وإنما مجرد خيال ومثاليات.

كم أُثْنِيَ على " توماس كارليل Thomas Carlyle صاحب " الأبطال " الذي ترجم إلى العربية، إنه جعل النبي بطلاً تاريخيًا وأنه مستشرق منصف، والآن اقرأوا فقرة من كلام كارليل عن القرآن، يقول: «هو خليط مهلهل مُشَوَّشٌ، محل خام، مستغلق تكرار لا نهاية له، وإسهاب وإطناب ومعاضلة، خام إلى أقصى الدرجات، ومستغلق وبإيجاز غباء فارغ لا يطاق». هذا الكلام نقله إدوارد سعيد - وهو أستاذ جامعي أمريكي نصراني من أصل عربي - نقله عن كارليل في كتابه " الاستشراق " (¬1) وكتاب " الاستشراق " هذا يعد من أقوى ما كتب في فضح المستشرقين ومناهجهم وتعريتهم، ووضعهم في الإطار الكلي من قبل رجل ليس مسلماً ليقال إنه يتعصب للإسلام وللمسلمين، وإنما هو رجل نصرانى، ومنذ أن كُتب هذا الكتاب وَصُدِّرَ إلى أسواقنا بالعربية سنة 1981 م تتالت كتابات مسلمين أستثيروا، فظهرت عدة دراسات أثارت نفس القضايا الكبرى سواءً ما تعرض له إدوارد سعيد أو أخذت نماذج من الاستشراق كالهولندي، كما فعل الدكتور قاسم السامرائي في " الاستشراق بين الموضوعية والافتعالية "، وكما فعل الدكتور زقزوق في محاضرته التى نشرت في سلسلة كتب مجلة " الأمة " عن الاستشراق، وثمة كتاب يستحق أَنْ يشار إليه وهو " مناهج المستشرقين " الذي طبعه مكتب التربية لدول الخليج العربي والذي يقع في مجلدين تحت عنوان " مناهج المستشرقين في الدراسات العربية والإسلامية " فلا شك أن هذا الكتاب يعد عملاً نقديًا رائعًا في مجاله، ولكن الكُتَّاب لم يتمكنوا أن يقولوا كل ما يريدون لأنهم كتبوا بحوثًا ومقالات اجتمعت في المجلدين، والأمر يحتاج إلى جهد أكبر لِيُفْحَصَ كلام الاستشراق وكيف طُرِحَ على الغرب وكيف تَكَوَّنَتْ صورة العربي والمسلم في ذهن الغربي المعاصر. ثم إذا ما عُدِّلَ المخاطب أو المراد بالخطاب إلى الشرقي المسلم العربي ما الذي سينتج بعد ربع قرن إذا ترجم ستون ألف كتاب أو عشرون ألف منها إلى لغات العرب والمسلمين. ¬

_ (¬1) " الاستشراق ": ص 169.

لا ينظر إلى الأمر من زوايانا ونحن ندرس في كلية قرآن وكلية حديث وكلية شريعة وكلية لغة عربية، لا ينظر الأمر من هذه الزاوية، وإنما ينبغي أَنْ ننظر برؤية واسعة إلى العالم الاسلامي إلى تلك الأجيال التى تعد بالملايين والتي لا تعرف عن الإسلام إِلاَّ الشهادة وَإِلاَّ بعض المظاهر العامة. ماذا لو نُوقِشَتْ قضية الوحي الإلهي، وتطبيقات علم النفس التحليلي عليه؟ ألا يتسرب الشك إلى عقل خال وليس عنده مِنْ تَصَوُّرٍ لقضية الوحي الإِلهي؟ بالطبع ليس معنى ذلك أن هذه القضية هي من بنات أفكار هذا القرن، نعم إن استخدام التحليل النفسي هو من أفكار القرن لارتباطه بعلم مُعَيَّنٍ أو فرع مُعَيَّنٍ من فروع علم النفس ولكن قبل ذلك ماذا قيل؟ قيل إن النبي - عَلَيْهِ الصَلاَةُ وَالسَّلاَمُ - يُصْرَعُ، ولكن المستشرقين الذين تأخروا لما درسوا ظاهرة الصَّرَع من الناحية الطبية وجدوا أَنَّ الدعوى لا يمكن أَنْ تقبل لأن المصروع يفقد عقله، أما رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان على أتم اليقظة والوعي واستحضار العقل بل شِدَّةِ التركيز، بحيث قال له الله تعالى أَلاَّ يفعل ذلك إشفاقًا عليه {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (¬1). وعده الله تعالى بأن يجمع ذلك له، بأن يُحْفِظَهُ إِيَّاهُ دون هذا التركيز العقلي المشدود، فأين هذا من حال المصروع؟ فالمصروع كما نعلم يَهْذِي لكنه لا يأتي بقرآن مُبِينٍ لا يتناقض إطلاقاً، وعدم التناقض إطلاقاً ليس إلا من صفات الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال الحق: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (¬2). أيضاً قالوا لنا بأن " جوستاف لوبون " الفرنسى الذي كتب " حضارة العرب " رجل حصيف، ورجل عادل وهو يثني على العرب وحضارتهم، وكتابه هذا اعتراف بمكاننا، ولكنهم لم يقولوا لنا ماذا يقول جوستاف لوبون عن القرآن، يقول: «ليس في عامية القرآن ولا صوتيته أو هويته الصبيانية التى هي من صفات الأديان السماوية ما يقاس بنظريات الهندوس». يَعْنِي: لوبون يرى أَنَّ القرآن الكريم في لغته وفي أفكاره لا يرقي إلى الهندوسية، ثم ينكر شمولية القرآن، ويرى أنه مؤقت لعصره، وأنه لا يحقق حاجات الفرد في عصور لاحقة بل يجعله سبب تخلف المسلمين. ¬

_ (¬1) [القيامة: 16 - 19]. (¬2) [النساء: 82].

إِنَّ خلط السم بالدسم، بالثناء على الحضارة العربية وأنها تستحق الإشادة بها، ومن ناحية ثانية الطعون في القرآن والرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفي ظاهرة الوحي يعنى أن المقصود هو الطعن، وأما الإطار بالثناء على حضارة العرب فهو للتخدير، لأنه في حالة الوعي الكامل سيرفض القارىء الشتم، ولكن إذا قيل له إنك إنسان نبيل ونابغة ومهذب ولا ينقصك إلا كذا - وهذا الكذا يفقد الإنسان قيمته - هذا هو الأسلوب والمنهج المتبع في معظم الدراسات الاستشراقية في القرن العشرين، فهي لا تتجه إلى الأساليب المباشرة، وإنما تتجه إلى تغليف الكلام. وقد كتب جولدتسيهر (¬1) مئات البحوث عن الإسلام والمسلمين وعشرات الكتب الكبيرة، وأشهر كتبه " مذاهب التفسير الإسلامي " الذي يمثل نضجه الثقافي حيث كتب قبل ذلك " دراسات إسلامية " و " العقيدة والشريعة "، وهذا المؤلف المَجَرِي اليهودى أَثَّرَ على كثير من أساتذتنا الذين تكلموا عن تاريخ الحديث النبوي في مطلع القرن، واستمرت آراؤه تحظى باحترام العديد من الدارسين في الغرب هو و" شاخت " صاحب كتاب " أصول الفقه الإسلامي ". ولا يمكن في هذا البحث الوجيز استعراض كل ما قيل في هذا المجال وإنما المراد هو إيضاح أَنَّ الاستشراق وَإِنْ كان قد بدأ حركة دينية ثم تحول إلى حركة مقترنة بالسياسية بحيث اشتغل معظم المستشرقين بل كلهم إلا اليسير في دوائر المخابرات الأجنبية وخدموا وزارات الخارجية، وهذا معروف عن أساطينهم مِمَّا لا يُوَلِّدُ الشك في اقترانهم بالسياسة وأن ما يكتبونه يراد منه خدمة واقع سياسي، وأنه حتى بعد التطور الحديث من مطلع القرن العشرين وحتى الآن لازال يواصل خطاه، وأن مايبدو عليه من تعميق لبحوثه بالإفادة والاستثمار للعلوم الحديثة لن يخلصه من الإطار القديم المرسوم له، فأهداف طرح الشرق أمام الغرب بصورة مُشَوَّهَةٍ ثم عكس القضية لإضعاف ثقة المسلمين بأنفسهم، بدينهم، بماضيهم، هذا كله إضافة إلى زرع بذور العنصرية والتفرقة بين الأُمَّةِ الإسلامية بشتى الطرق. ¬

_ (¬1) [البعض يكتب باللغة العربية اسم Goldziher هكذا «جولد زيهر» بينما كتبتها في أغلب البحوث المنقولة للمكتبة الشاملة هكذا «جولدتسيهر» لتسهيل عملية البحث في كل البحوث حفاظا على نفس النسق].

المستشرقون والسنة:

وفيما يلى عرض لجملة من آراء المستشرقين في السُنَّةِ النبوية: المستشرقون والسُنّة: لم يفرد المستشرقون القدامى السُنَّةَ بدراسات مستقلة بل ركزوا على العقيدة والقرآن والسيرة والتاريخ. في نهاية القرن السابع عشر كتب هربلو De Herbelot وهو فرنسي (1635 - 1695 م) صاحب " المكتبة الشرقية " وهي دائرة معارف عن الشرق نُشرت 1738 م - بحثًا في «حديث، قصة، خبر مسموع مقول، أحاديث الرسول، حديث عن أشياء قالها الرسول الزائف وقد نقل من فم إلى فم ومن شخص إلى آخر». وخلاصة رأيه أَنَّ جملة الأحاديث التى في " الكتب الستة " و " الموطأ " و" الدارمي " و" الدارقطني " و" البيهقي " و" السيوطى " مأخوذة إلى حد كبير من " التلمود ". ويلاحظ أنه يُفَرِّقُ بين السُنَّةِ التى التزم المسلمون بتطبيق أحكامها وبين الحديث الذي هو مُجَرَّدُ خبر تاريخى غير موثوق ‍‍‍‍!! (¬1). كذلك يلاحظ في دراسة هربلو التكذيب للرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاتِّهَامِهِ بِالزَّيْفِ والألقاب الأخرى الشائنة. والزعم بأن المُحَمَّدِيَّةَ (¬2) مستقاة من " التلمود "، واليهود الذين دخلوا في الإسلام، مِمَّا سيتطور فيما بعد إلى الاستقاء من عدة ديانات وحضارات كانت على صلة بجزيرة العرب. وكذلك اتهام المسلمين بعدم التمييز في دراسة أصول شريعتهم، مِمَّا تبناه كجولدتسيهر وشاخت وهما أبرز من تناول موضوع السُنَّةِ من المستشرقين. وقد جعل الزُّهْرِي أول من جمع الحديث، مِمَّا يُوَلِّدُ فجوة تاريخية بين مرحلة النطق بالأحاديث وتدوينها مِمَّا يُشَكِّكُ في إمكانية الثقة بها. وفي القرن الثامن عشر قَسَّمَ المستشرقون حقول الدراسات الشرقية بصورة موضوعية، وفي نهاية القرن برز Caetani الأمير كايتاني (1869 - 1926 م) وميور Muir ( ت 1905 م) وشبرنجر Sprenger ( ت 1893 م). وكانوا ¬

_ (¬1) De Herbelot, B, Bibliotheque Orientale P.416,827 وراجع عنه نجيب العقيقي: " المستشرقون ": 1/ 159. See also Von Denffer,A,Literature on Hadith in European Languages, P.12-14 (¬2) يُسَمِّي الكثيرون من المستشرقين الإسلام بـ «المحمدية» نسبة إلى نبينا محمد - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قياسًا على المسيحية. وهذه التسمية مبتدعة لا أساس لها في الإسلام وتاريخه الثقافي.

مهتمين بتاريخ السُنَّةِ واعتقدوا الشك في صحة الأحاديث وسعوا للكشف عما أسموه (المادة الأصلية للحديث). أفاد من الثلاثة أحد المتضلعين بأصول اللغات السامية والتاريخ الإسلامي هو إجناس جولدتسيهر (¬1) الذي دَرَسَ بالأزهر، وهو مجري الجنسية يهودي الديانة، وقد اعتبره المستشرقون - ومن تأثر بهم - الرائد الأول في دراسة الحديث ونقده بالاستعانة بمنهج النقد التاريخي، حيث توصل إلى فكرة تطور الأسانيد والمتون في الفكر الإسلامي، ولا شك في أهمية تأثيره على سَيْرِ الدراسات الاستشراقية في حقل السُنَّةِ، ويرى أَنَّ وضع الحديث بدأ في جيل الصحابه المبكر، وإن كان يثبت وجود مادة أصلية، فهو يعترف بوجود أحاديث مكتوبة في الصحف في أيدي الصحابة، لكنه رغم ذلك يرى أَنَّ التدوين لِلْسُنَّةِ لم يبدأ إلا فى القرن الثانى (¬2). وأن معظم الأحاديث - في رأي جولدتسيهر - وَضَعَتْهَا الفِرَقُ السياسية الكلامية والمذهبية في القرنين الثاني والثالث، لذلك هى تعكس تطور المسلمين السياسي والفكري خلال القرنين ولا تَمِتُّ غالبًا إلى القرن الأول بصلة، وَيُرَكِّزُ على الصراع بين الأمويين الذين يصورهم بصورة الطغاة الجهلة وبين العلماء الأتقياء وأنصار أهل البيت، ويتهم الزهري بوضع حديث «لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ ... ». وقد عَزَا جولدتسيهر أصول الإسلام إلى اليهودية والمسيحية، وأكد على تأثير الهلينية في تطور الإسلام، وتأثير القانون الروماني في نمو التشريع الإسلامي. لقد صارت دراساته دستورًُا للمستشرقين من بعده، وقليل منهم انتقد بعض آرائه أو عدَّل فيها مثل فيوك Fueck ( ت 1939 م) وهوروفتس Horovitz ( ت 1931 م)، أما الأكثرية الساحقة فاكتفوا بتعميق آرائه بإضافة براهين جديدة أو تعميمها على حقول جديدة مثل كيوم Cullaume ونيكلسون Nickolson وهاملتون جب Gibb وواط watt وفنسنك Wensink ( ت 1939 م). وقد ركز فنسنك على أحاديث العقيدة في كتابه The Muslim Creed " العقيدة الإسلامية " في حين ركز جوزيف شاخت Schacht ( ولد 1902 م) ¬

_ (¬1) [" إجناس جولدتسيهر Ignas Goldziher 1850 - 1921 يهودي ولد في المجر (هنغاريا)، درس في أشهر مدارس الاستشراق في برلين وليبزيغ وبودابست ثم رحل إلى سوريا سَنَةَ 1873 حيث تتلمذ على العلاَّمة الشيخ طاهر الجزائري ثم نزح إلى فلسطين ومصر، ثم درس اللغة العربية على شيوخ الأزهر وقد شهد له علماء الغرب بطول الباع وَبُعْدِ النظر. له مؤلفات عديدة في الفِرَقِ الإسلامية والفقه]. (¬2) إِنَّ دراسات سيزكين وحميد الله والأعظمي تُفَنِّدُ ذلك بالطبع.

على أحاديث الأحكام في كتابه " أصول الشريعة المحمدية " The Origins Of Muhammadan Jurisprudence وكتابه الآخر Introduction to Islamic Law، " مقدمة في الفقه الإسلامي " وهو يهودي الديانة بريطاني الجنسية، وقد أكد شاخت على اختلاق الأحاديث، وأثنى كيب وسافوري [ Savory] على كتابه، واعتبره كيب أساسًا لكافة الدراسات في الحضارة الإسلامية والتشريع الإسلامي في الغرب - على الأقل - في حين عَدَّهُ سافوري من أكبر علماء الشريعة الإسلامية في العالم (¬1). وقد درس شاخت في مؤلفه " أصول الشريعة المحمدية " كتابي " الموطأ " لمالك و" الأم " للشافعي ثم عَمَّمَ نتائج دراسته على كتب الحديث والفقه الأخرى، فقال بنظرية «القذف الخلفي» لتفسير تطور الأسانيد، وتتلخص آراؤه في زعمه اختلاق الجزء الأكبر من الأسانيد، واعتقاده أَنَّ أقدم الأحاديث لا يرقى إلي ما قبل سَنَةِ 150هـ، وَأَنَّ الأحاديث اختلقها الفقهاء وأصحاب الفرق، وأن الشافعى هو الذي استحدث مبدأ حُجِيَّةَ السُنَّةِ، وكان العمل قبله على السُنَّةِ المذهبية، وقد كان أثره كبيرًا على جيله من المستشرقين. لقد طعن شاخت في سند مالك عن نافع عن ابن عمر بِأَنَّ نافعًا مات ومالك صغير، وهذا خطأ، فمالك كان صاحب حلقة في مسجد المدينة في حياة نافع. وقد رَدَّ روبسون على شاخت في هذا السند في مقاله «الإسناد في الحديث النبوي» (¬2) وفي هذه المقالة عَدَلَ عن آرائه التي تابع فيها شاخت عندما نشر بحثه (¬3)، حيث كان يَشُكُّ في جملة الأحاديث ويرى أَنَّ ما يمكن عزوه إلى الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو القرآن وحده. والملاحظ أن كيوم وواط وروبسون كلهم من رجال الكنيسة. وقد ظهر توجه نحو دراسة موارد الحديث وَنَقْدِ بعض وثائقه عند روبسون (ولد 1890 م) الأستاذ في مانشستر منذ سَنَةِ 1949 م، وقد أثبت أَنَّ ثمة مادة أصلية من الأحاديث خِلاَفًا لما ذهب إليه شاخت ومن قبله جولدتسيهر، كما أنه لم يوافق كايتاني وشبرنجر (1813 - 1893 م) في القول بأن أسانيد عُروة بن الزبير (ت 93 هـ) مختلقة ألصقها به المُصَنِّفُونَ المُتَأَخِّرُونَ (¬4). ¬

_ (¬1) R. M. Savory. Introduction to Islamic Civilisation P.54 (¬2) Robson, The Isnad in Muslim Tradition P. 22-23 (¬3) James Robson, 'Muslim Tradition: The Question of Authenticity',. Memoires and Proceedings of the Manchester Literary and Philosophical. Society q3 , 1951-1952, P. 84-102 (¬4) Sprenger, A, Origin and Progress of Writing Down Historical Facts Among the Musulmans in Journal and Proceeding of the Asiatic [Society] of Bengal 25, 1856, P303-318

لقد أشار شبرنجر (ت 1893 م) إلى تعاسة نظام الإسناد وأنَّ اعتبار الحديث شيئًا كاملاً سندًا ومتنًا قد سبب ضَرَرًا كثيرًا وفوضى عظيمة، وَأَنَّ أسانيد عُروة مختلفة ألصقها به المُصَنِّفُونَ المُتَأَخِّرُونَ. وكذلك مقالة «أصول تدوين الوثائق عند المسلمين» (¬1) ولكنه أثبت تدوين الحديث في عهد النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالاعتماد على كتاب " تقييد العلم " للخطيب. وهذا ما خالفه فيه جولدتسيهر فيما بعد. أما ميور [ Muir] معاصر شبرنجر فينتقد طريقة اعتماد الأسانيد في تصحيح الحديث لاحتمال الدَسِّ في سلسلة الرُوَاةِ، ورغم أنه مثل شبرنجر أَقَرَّ بِأَنَّ ثمة مادة أصلية في الحديث لكنه اعتبر نصف أحاديث " صحيح البخاري " ليست أصلية ولا يوثق بها. وأما كايتاني (ت 1926 م) فقد ذكر في حولياته (¬2) أَنَّ الأسانيد أضيفت إلى المتون فيما بعد بتأثير خارجي لأن العرب لا يعرفون الإسناد، وأنها استعملت ما بين عُرْوَةَ وابن اسحق، وأن عُرْوَةَ لم يستعمل الإسناد مُطْلَقًا، وابن إسحق استعملها بصورة ليست كاملة. وقد أثبت هوروفتس (1874 - 1931 م) معرفة عُرْوَةَ للإسناد، وأن الإسناد دخل في الحديث منذ الثلث الأخير من القرن الأول. وألمح إلى الإسناد الجمعي عند الزهري حيث يفيد وقوفه على عدة أسانيد للمتن الواحد (¬3). ولكن هوروفتس يرى أَنَّ العرب أخذوا فكرة الإسناد عن المدارس التلمودية عند اليهود. ويرى - ويوافقه كيوم - تشابه المسلمين واليهود في نسبة شرائعهما إلى نَبِيَّيْهِمَا (¬4). وَرَدَّ فيوك Fueck ( ت 1939 م) على جولدتسيهر فَبَرَّأَ المُحَدِّثِينَ والفقهاء من تُهْمَةِ وضع الأحاديث، وكشف عن منهج جولدتسيهر في التعامل مع الإسلام وأنه يستخدم المذهب المادي لنقد التاريخ ( Materialistic) ومنهج الشك ( Skepticism) فانتهى إلى أَنَّ كل أحاديث الأحكام تعتبر زائفة حتى يثبت العكس. ¬

_ (¬1) On the Origins of Writing down historical records among Musulmans 1837 P.381 (¬2) Annali dell Islam. Milan-1905 (¬3) Horovits, J , AL Ter Und Urprung des Isnad Der Islam, 8, 1918, P 39-47 (¬4) James Robson, Muslim Tradition: The Question of Authenticity P. 100.AND: Guillaume, Muslim Hadith on P 53-54

نماذج من نقد المستشرقين للأحاديث:

أما مرجليوث المعاصر لجولدتسيهر (1858 - 1940 م) فقد تابع جولدتسيهر بل ذهب إلى أَنَّ الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يترك أوامر ولا أحكامًا سوى القرآن!! (¬1). ويرى كيوم أنه لا يمكن إثبات صحة نسبة الأحاديث في " الكتب الستة " إلى الصحابة ولكن لعل بعضها تَسْلَمُ نِسْبَتُهُ (¬2). ويفسر كيوم قول الزهري: «إِنَّ هَؤُلاَءِ الأُمَرَاءِ أَكْرَهُونَا عَلَى كِتَابَةِ الأَحَادِيثِ» تفسيرًا خاطئًا لِيُدَلِّلَ على وضعه للأحاديث وهو فهم جولدتسيهر من قبله. وَيَتَشَبَّثُ نيكلسون بقول أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلُ: «مَا رَأَيْتُ الصَّالِحَ يَكْذِبُ فِي شَيْءٍ أَكْثَرَ مِنَ الْحَدِيثِ» (¬3). فذهب إلى أَنَّ شواهده في " دراسات محمدية " لجولدتسيهر وَأَنَّ أتقى العلماء كان يستعمل الغش في الحديث لتأييد أغراض سياسية ومذهبية. وقد بَيَّنَ الإمام مسلم أَنَّ الكذب يجري على لسانهم ولا يَتَعَمَّدُونَهُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانَ: «مَا رَأَيْتُ الْكَذِبَ فِي أَحَدٍ أَكْثَرَ مِنْهُ فِيمَنْ يُنْسَبُ إِلَى الْخَيْرِ وَالزُّهْدِ» والكذب هنا على لغة أهل الحجاز وهو مطلق الخطأ. ويرى كولسون وكيوم أَنَّ المُحَدِّثِينَ يبحثون في الأسانيد شَكْلِيًّا بدون الاهتمام بنقد المتون. يقول كولسون: «إذا كانت سلسلة الإسناد متصلة، وكان كل فرد من أفراده عدلاً - من وجهة نظرهم - فحينئذ قبلوا الحديث وصار شرعًا واجبًا، ولا يمكن بسبب الإيمان السؤال عن متن الحديث لأنه وحي إلهي فلا يقبل أي نقد تاريخي» (¬4). ويقول كيوم: «متى اقتنع البخاري بتحديد بحثه في سلسلة الرُوَاةِ في السند مفضلاً ذلك على نقد المتن، صار كل حديث مقبول الشكل حتميًّأ بحكم الطبع» (¬5). نماذج من نقد المستشرقين للأحاديث: 1 - جولدتسيهر واتهامه الزُّهْرِي بوضع حديث «لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ ... » مع أَنَّ الحديث تعددت طُرُقُهُ عن غير الزُّهْرِي. ¬

_ (¬1) Margliouth, Early Development of Islam 1914 (¬2) Guillaume, Alfred: The Traditions of Islam, P 17.50, Oxford-1927 (¬3) ابن عَدي، " الكامل ": 1/ 46 أ. (¬4) Coulson: European Critisism of Hadith literature. P. 55 (¬5) Guillaume, Alfred: The Traditions of Islam, P. 55

2 - استدلال جولدتسيهر وكيوم ونيكلسون بحديث «سَيَكْثُرُ الحَدِيثُ عَنِّي فَمَنْ حَدَّثَكُمْ بِحَدِيثٍ فَطَبِّقُوهُ عَلَى كِتَابِ اللهِ، فَمَا وَافَقَهُ فَهُوَ ِمنِّي، قُلْتُهُ أَوْ لَمْ أَقُلْهُ». 3 - زعم نيكلسون أَنَّ حديث شق الصدر أسطورة نشأت عن تفسير {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] ولو صح لدل على الصرع. 4 - زعم واط أنَّ قصة الغرانيق صحيحة لأنها في غاية الغرابة فلا بُدَّ أَنْ تكون حقيقة في جوهرها، إذ لا يُتَصَوَّرُ أَنْ يخترعها واحد ثم يقنع جماعة ضخمة بقبولها (¬1) والحق أنَّ عددًا كبيرًا من علماء المسلمين أنكرها مثل ابن خزيمة والبيهقي وعياض وابن العربي والرازي والقُرطبي وَالعَيْنِي وَالأَلُوسِي والشوكاني. 5 - تكذيب كيب لحديث «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» بِحُجَّةِ أنه وضع لِلْرَدِّ على حركة الوضع!! (¬2) مع أنَّ الحديث متواتر، رواه مائتان من الصحابة وله أكثر من أربعمائة طريق (¬3). 6 - دعوى فنسنك أنَّ حديث «بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ ... » موضوع بعد الالتقاء مع نصارى الشام والتأثر بهم (¬4) متناسبًا أنَّ الشهادتين تردان في الأذان والصلاة!!. 7 - يشكك موريس بوكاي ببعض الأحاديث في " صحيح البخاري " في كتاب بدء الوحي وكتاب الطب لأنها لا توافق العلم الحديث، والأحاديث التي تكلم فيها من المشكل الذي تكلم فيه العلماء القدامى (¬5). إنَّ أخطاء المستشرقين في موضوع السُنَّة يمكن أَنْ ترجع إلى عوامل متباينة منها: [1] عدم تَذَوُّقِ اللغة العربية بالقدر الكافي. [2] ضحالة الفهم للثقافة الإسلامية وتاريخ صدر الإسلام. [3] إهمال المنهج النقدي عن المُحَدِّثِينَ. [4] التَعَسُّفُ في تفسير النصوص بسبب الأهواء الدينية والقومية. ¬

_ (¬1) Watt; Mohammed, Prophet and statesman P.61 (¬2) Gibb; Mohammedanism P.82-84 (¬3) المناوي " فيض القدير ": 6/ 216. (¬4) Gibb; Muslim greed P.32 (¬5) Maurice Bucaille; The Bible, Quoran, and Science P.242-248

الخاتمة:

الخاتمة: الاستشراق حقق كثيرًا من أغراضه لكنه لم يستنفد تلك الأغراض، لذلك هو يواصل التأليف ويواصل الحوار في الندوات والاجتماعات الإقليمية والاجتماعات الدولية وهو ماض بمؤسساته الضخمة وإمكانات نشره الهائلة ُصْدِرُ دورياته الثلاثمائة والتي تتناول المسلمين من شتى النواحي، وإذا كان الأمر كذلك فما العمل؟ العمل يتلخص في جانبين: الأول: أَنْ نُمَثِّلَ أنفسنا أمام أنفسنا، بأن تقوم مؤسساتنا العلمية برسم الصورة الثقافية، والتاريخية، والعقدية لأُمَّةِ الإسلام دون أَنْ تخضع للأفكار المُسْبَقَةِ التي رسمها المستشرقون، فهذا جانب مُهِمٌّ وَأَوَّلِي، وهو أحرى بالاهتمام لأنَّ فيه تحصينًا لِلأُمَّةِ. والثاني: يتحقق إذا بلغنا المستوى المناسب من تهيئة أصحاب الخبرات فنقوم عندئذ بتمثيل أنفسنا أمام الآخرين وبلغاتهم. هذا هو طريق المنافسة الصحيحة وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

§1/1