موقف الإمامين البخاري ومسلم من اشتراط اللقيا والسماع في السند المعنعن بين المتعاصرين

خالد الدريس

الإهداء إلى أغلى وأعز من لقيت إلى والديّ الكريمين حفظهما الله. هذا الكتاب لكما فيه مثل الذي لي وأكثر فإن لصبركما الطويل ومساعداتكما المستمرة أكبر الأثر ـ بعد الله ـ في هذا الإنجاز. ابنكما خالد

أصل هذا الكتاب رسالة علمية قدمت استكمالاً لمتطلبات درجة الماجستير في قسم الثقاة الإسلامية (تخصص التفسير والحديث) كلية التربية جامعة الملك سعود.

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له. وصلى الله وسلم على خير عباده وخاتم أنبيائه قدوتنا وحبيبنا المصطفى عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم. أما بعد فإن علم الحديث من أشراف العلوم وأجلها، والاشتغال به لمن صدقت نيته من أفضل القربات وأحسن الطاعات، وكيف لا يكون كذلك؟! وهو مشتمل على بيان أحوال وأخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي أمرنا ربنا بطاعته واتباعه في قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهو} [الحشر:7] فبيَّن لنا الحلال والحرام، والخير والشر، ومايقربنا إلى ربنا وما يبعدنا عنه. فأساس الدين كتاب وسُنة، والسُّنة منها صحيح وضعيف، والسبيل إلى معرفة ذلك النظر في الإسناد الذي خصَّ المولى سبحانه وتعالى به هذه الأمة. لذا قال العلماء: " الإسناد من الدين" وقالوا أيضاً: " الإسناد سلاح المؤمن" وأهم ما يُبحث عنه في الإسناد بعد ثقة الرواة اتصال السند، ومن أهم مسائل اتصال السند مسألة " الاحتجاج بالسند المعنعن" وشروط الأئمة في ذلك. ومن المقرر عند العلماء أنه لا يُحتج من السُّنة إلا بالحديث الصحيح، ولا تطلق الصحة على حديث حتى يجمع شروطاً هي: 1 ـ اتصال السند في جميع طبقاته. 2 ـ ثقة الرواة وعدالتهم. 3 ـ عدم الشذوذ.

4 ـ عدم العلة. وموضوع هذا البحث في الحقيقة مرتبط بشرط مهم من شروط الحديث الصحيح وهو أن يكون السند متصلاً. وسأعرض فيما يلي: أهمية هذا البحث، وأهم مشكلاته، وأسباب اختياري له، ومنهجي الذي سرتُ عليه. 1 ـ أهمية البحث: تتجلى أهمية هذا البحث في النقاط التالية: 1 ـ أنه شديد العلاقة بشرط مهم من شروط الحديث الصحيح وهو "اتصال السند" فالإمام البخاري يرى أن السند المعنعن غير متصل حتى يثبت اللقاء أو السماع بين التلميذ وشيخه، وأما الإمام مسلم فيرى أن السند المعنعن متصل إذا وجد ما يدل على المعاصرة، والبراءة من التدليس، ومالم ترد أدلة بينة على عدم سماع التلميذ من الشيخ. 2 ـ أن لفظة " عن " صيغة أداء تحتمل السماع وعدم السماع، فقد استخدمت في أسانيد متصلة كما أنها استخدمت في غير المتصلة كالأسانيد المدلسة، والمرسلة، والمنقطعة. وقلما يخلو سند في كتب الحديث من صيغة الأداء" عن " وهي في حد ذاتها لا تدل على انقطاع، ولا على اتصال في السند، لذا كان من الأهمية بمكان معرفة الشروط التي تجعل الأسانيد المعنعنة متصلة عند إمامين هما أهم من صنف وجمع الأحاديث الصحيحة في تاريخ الإسلام. 3 ـ وقع خلاف بين المحدثين حول هذه المسألة " هل يكون الحديث متصلاً اكتفاء بالمعاصرة في السند المعنعن أم لابد من ثبوت السماع فيه؟ ". فاختار جمع من المحققين مذهب الإمام البخاري ومن هؤلاء الذهبي وابن رجب وابن رشيد والعلائي وابن حجر. وذهب آخرون إلى اختيار مذهب الإمام مسلم ومن هؤلاء المزي وابن كثير، وجمهور أساتذة الصناعة الحديثية في القرن الرابع عشر والخامس عشر كالشيخ أحمد شاكر ـ رحمه الله ـ والشيخ المعلمي اليماني ـ رحمه الله ـ والشيخ

محمد ناصر الدين الألباني والشيخ عبد الفتاح أبو غدة وغيرهم. وقوة الخلاف حول هذه المسألة ذات الأثر العملي في علم الحديث يجعل بحثها مع التحرير والتدقيق من المهمات. 4 ـ إن المتابع لإنتاج المشتغلين بعلم الحديث من المعاصرين يلحظ شيئاً من الاضطراب لدى البعض منهم في فهم هذه المسألة وذلك لغموض بعض جوانبها ـ وسيأتي مزيد بيان لهذا خلال الحديث عن أسباب اختياري لهذا البحث. 5 ـ إن هذه المسألة من المسائل العملية التي يحتاج الباحث في علم الحديث إلى تطبيقها في حكمه على الأحاديث التي يتصدى لنقدها خارج الصحيحين. 6 ـ إن بحث هذه المسألة عند الإمامين البخاري ومسلم يأخذ أهميته من كون الإمام مسلم أول من أثار هذه المسألة وناقشها في "مقدمة صحيح" ومن كون الإمام البخاري أكثر في كتبه النقدية " كالتاريخ الكبير"، و" التاريخ الصغير"، وغيرهما، من الكلام على الأسانيد بعدم ثبوت السماع فيها. ثم إن الإمامين البخاري ومسلماً هما أجلّ وأعلم من صنّف في الأحاديث الصحيحة، وهذه المسألة ـ كما أسلفت ـ قوية العلاقة بشرط مهم من شروط الحديث الصحيح ألا وهو " اتصال السند" فكان من المناسب أن تعرف شروط الحديث الصحيح وتفريعاتها من كلامها وصنيعهما رحمهما الله تعالى. 2 ـ مصطلحات البحث: سأعرض فيما يلي تعريفاً ـ موجزاً ـ لمصطلحات عنوان: أـ اشتراط اللقيا والسماع: يقصد باللقيا: ثبوت لقاء التلميذ لشيخه الذي يروي عنه ولو لمرة واحدة. والغرض من عطف كلمة (لقيا) على (سماع) لأن ثبوت الاجتماع والمشافهة بين التلميذ وشيخه قد يرد من خلال خبر أو قصة فيها إثبات للالتقاء نصاً وللسماع ضمناً، وقد يعرف الاجتماع بينهما والمشافهة عن طريق ورود لفظة مثل " سمعت" أو " حدثني" في السند.

ب ـ السند المعنعن: يقصد بذلك السند الذي ترد فيه لفظة " عن " كقولنا: روى عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة عن قتادة عن أنس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ويدخل في حكم السند المعنعن عند الجمهور ما يسمى "بالمؤنن" وهو الذي يقال فيه: فلان أن فلاناً قال.. الحديث، كما يدخل أيضاً في حكم العنعنة عند الجمهور كل لفظ لا يدل على ثبوت السماع، ولا يدل على الانقطاع، فلفظة "حدثنا" و "أخبرنا" مثلاً تدلان على ثبوت السماع ولفظة "بلغني" أو " حدثت عن فلان" تدلان على الانقطاع (¬1) . وإنما خصص ذكر العنعنة في هذا البحث لأنها أكثر استعمالاً في الأسانيد من غيرها. ج ـ المعاصرة: هي العيش في زمن واحد، ومن ذلك إدراك التلميذ من حياة شيخه ما يؤهله للسماع منه. 3 ـ مشكلة البحث: تتلخص قضية البحث الأساسية في موقف الإمام البخاري وموقف الإمام مسلم إذا ورد حديث بسند فيه فلان عن فلان، فلا يحكم البخاري باتصال سند هذا الحديث حتى يعثر على ما ينص صراحة من أن التلميذ لقي شيخه وسمع منه، ولا يشترط البخاري ثبوت لفظ " حدثنا" أو " سمعت " بعد ذلك، في كل حديث يرويه التلميذ عن شيخه بل يكتفي بإثبات السماع واللقاء ولو لمرة واحدة. وأما الإمام مسلم فلا يشترط ما يشترطه البخاري في الإسناد المعنعن بل يكفي عنده لجعل السند المعنعن متصلاً معرفة المعاصرة والسلامة من التدليس، مع التسليم بأن ثبوت اللقاء والسماع بين المتعاصرين أبلغ في تأكيد اتصال السند. هذه هي قاعدة البحث الأساسية أو أصله، فما هي أهم المشكلات التي ترتب عليها والتي يعني البحث بمناقشتها؟ . وأوجز أهم مشكلات البحث في النقاط الآتية. 1 ـ هل توجد مواطن اتفاق بين رأي الإمام البخاري ورأي الإمام مسلم في ¬

(¬1) منهج النقد في علوم الحديث (ص350 ـ 353) .

هذه المسألة؟ والذي حملني على وضع هذا السؤال ضمن أهم مشكلات البحث وجود بعض النصوص التي يظهر منها احتمال وجود نقاط بين الإمامين، ومن ذلك مثلاً: أـ قال الإمام مسلم: (ومحمد بن علي لا يعلم له سماع من ابن عباس، ولا أنه لقيه، أو رآه) (¬1) وهذه العبارة هي نفسها التي يستخدمها البخاري في تطبيق المسألة في "كتابه الكبير" وغيره من الكتب. وقد أدرك محمد بن علي عبد الله بن عباس من حياة جده عبد الله بن عباس ما يقارب عشر سنوات أو ثمان، فقد ورد في "تاريخ دمشق " لابن عساكر (ولد محمد بن علي سنة ثمان وخمسين ومات سنة خمس وعشرين ومائة) (¬2) . وفيه قول آخر أنه ولد سنة (ستين) (¬3) ، ومن المعلوم أن عبد الله بن عباس مات سنة 68هـ. فهل خالف مسلم مذهبه في الاكتفاء بالمعاصرة؟! ب ـ وقد سأل الإمام مسلم الإمام البخاري عن علة حديث " كفارة المجلس " الذي يرويه: ابن جريج عن موسى بن عقبة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر البخاري علته ومنها: (لا يذكر لموسى بن عقبة سماع من سهيل ((¬4) وقد أقر مسلم ما قاله البخاري. ج ـ وقفت على بعض النصوص المتعلقة بهذه المسألة في "التاريخ الكبير" للبخاري يقول فيها (لا أدري سمع فلان من فلان أم لا؟) ، ومتى ما طبقت الشروط التي ذكرها الإمام مسلم في "الاكتفاء بالمعاصرة" على نصوص البخاري تلك، لا تجد هذه النصوص قد استوفت شروط اتصال السند المعنعن على مذهب مسلم، مما يجعل احتمال وجود اتفاق بين الإمامين على بعض صور هذه المسألة قائم ومحتمل فمثلاً: ¬

(¬1) التمييز للإمام مسلم (ص265) . (¬2) تاريخ دمشق لابن عساكر (15/748) . (¬3) معرفة علوم الحديث للحاكم (ص114) . (¬4)

قال الإمام البخاري في ترجمة الحسن بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري (لا أدري سمع من ابن عمر أم لا؟) (¬1) . وعند مراجعة ترجمة الحسن بن سهيل في "التهذيب" (¬2) لا تجد ما يدل على معاصرة الحسن لابن عمر، ومعرفة المعاصرة أهم شروط اتصال السند المعنعن عند مسلم. لهذا سيكون من أهم المشكلات التي يناقشها هذا البحث التفتيش عن جواب لهذا السؤال: ماهي مواطن الاتفاق والاختلاف بين الإمامين في هذه المسألة؟ 2 ـ هل " ثبوت اللقاء" كشرط لاتصال السند المعنعن مؤثر في أصل صحة الحديث عند البخاري أم أنه لم يشترط ذلك إلا في الأحاديث التي خرجها في صحيحه فقط؟ 3 ـ ماهي الحجج التي يمكن أن يكون البخاري استند إليها عندما اختار مذهبه في هذه الدراسة؟. ومن المعلوم أن الإمام البخاري لم يناقش خصومه ويعرض مذهبه بحججه وأدلته كما صنع الإمام مسلم في "مقدمة صحيحه" مما أحوج الباحث إلى التنقيب عما يحتج به للبخاري في هذه المسألة. 4 ـ ماهي معالم المنهج النقدي الذي مارسه البخاري عند تطبيقه العملي للمسألة؟ رغم توفر معالم نصوص تطبيقية للإمام البخاري لهذه المسالة إلا أننا لا نقف له على نصوص تشخص موقفه النظري من هذه المسألة وكيف استخدم هذه المسألة في نقده للأسانيد؟ وأصبح الكثير من الباحثين لا يعرفون مذهب البخاري إلا من خلال ما قاله مسلم في "مقدمة صحيحه" وبما أن لدينا ثروة من نصوص البخاري التطبيقية فليس من المتعذر ـ إن شاء الله ـ دراسة هذه النصوص بعد جمعها لاستخلاص مفاتيح هامة من خلالها نتعرف على معالم المنهج النقدي الذي

مارسه البخاري عند تطبيقه العملي للمسألة، مما يؤدي إلى تاصيل الجانب النظري من المسألة عند البخاري. وحتى يتأتى الإجابة على هذا السؤال الهام يتوجب ابتداء وضع عدة أسئلة افتراضية تخضع للاختبار حتى يميز الفرض القوي الذي يرتقي إلى منزلة الحقيقة من غيره ومن هذه الأسئلة: - هل يراعي البخاري بلدان الرواة فيتشدد في البحث عن السماع في الأسانيد الكوفية والشامية أكثر من الأسانيد المدنية؟ - هل المدلس وغير المدلس عند البخاري بمنزلة واحدة من حيث اشتراط السماع في السند المعنعن؟ . - هل يفحص البخاري عن سماعات المجاهيل من الرواة عن شيوخهم أكثر من غيرهم؟ - هل يقتصر البخاري في تطبيقاته للمسألة على التنقيب عن سماعات التابعين من الصحابة؟ - لماذا يعبر البخاري في تطبيقاته للمسألة بلفظ السماع بدل الإدراك واللقاء؟ - هل يقرن البخاري في كلامه على الأسانيد بين عدم ثبوت السماع وأمور أخرى كالتفرد، والجهالة.. إلخ؟ - هل يطبق البخاري اشتراط السماع على أحاديث الأحكام فقط؟ 5 ـ الاكتفاء بالمعاصرة ماهي ضوابطه عند الإمام؟ * هل الأصل عند الإمام مسلم في السند المعنعن الاتصال حتى يثبت الانقطاع كما فهم ذلك بعض المعاصرين؟ . * هل الراوي المجهول والضعيف يكفي في اتصال معنعنه احتمال اللقاء والمعاصرة عند مسلم؟ * هل يكتفي الإمام مسلم باحتمال المعاصرة أم لابد من العلم اليقيني بالمعاصرة؟ * ما هي وسائل إثبات المعاصرة عند الإمام مسلم؟ .

* ذكر الإمام مسلم " أن يكون اللقاء والسماع ممكناً وجائزاً" بين التلميذ والشيخ فما هو المقصود بإمكانية اللقاء؟ * اشتراط الإمام مسلم في الاكتفاء بالمعاصرة ألا يكون الراوي مدلساً، فماذا عن الراوي كثير الإرسال هل يعامل معاملة المدلس؟ . * إذا روى التلميذ حديثاً عن شيخ عاصره، ولم يثبت ما يدل على اللقاء والسماع بينهما، ثم روى عن ذلك الشيخ حديثاً آخر ولكن أدخل في سنده بينه وبين شيخه رجلاً أو رجلين فأكثر، فهل يكتفي في هذه الحالة بالمعاصرة عند الإمام مسلم أم لابد من دليل على ثبوت السماع أو اللقاء؟ . 6 ـ ذكر الإمام مسلم في "مقدمة صحيحه" أدلة رد بها على خصومه فما هو موقف العلماء الذين ناقشوه من هذه الأدلة؟ . وماهي مؤاخذاتهم عليه؟ وهل كانت الأدلة التي ذكرها الإمام مسلم قوية وكافية في الرد على خصومه؟ وهل الإلزامات التي ذكرها في "مقدمة صحيح" تلزم خصومه حقاً؟ وماهي الأدلة التي يمكن إضافتها إلى جانب الأدلة التي ذكرها مسلم في تأييد مذهبه؟ . 7 ـ هل أخرج الإمام مسلم في كتابه "الصحيح" اسانيد تكلم البخاري في سماع بعض رجال تلك الأسانيد من شيوخهم؟ . فمثلاً قال البخاري في ترجمة سليمان بن أبي سليمان: (لم يذكر سماعاً من أبي سعيد) (¬1) فننظر هل أخرج مسلم هذا السند في صحيحه؟ 8 ـ تحديد مواطن القوة في مذهب البخاري، وفي مذهب مسلم أيضاً وذلك حتى يتسنى للباحث أن يرجح ما يراه المسلك الأقرب للصواب الذي يحسن اتخاذه تجاه السند المعنعن بين المتعاصرين. 4 ـ أسباب اختياري لهذا البحث: 1 ـ أهمية المسألة عملياً للمشتغل بعلم الحديث كلما تصدى للحكم على حديث في سنده عنعنة خارج الصحيحين، واحتياجه المستمر إلى معرفة شروط ¬

(¬1) التاريخ الكبير (4/15) .

اتصال السند المعنعن في مذهب الإمامين البخاري ومسلم. 2 ـ ومما حفزني إلى اختيار هذا البحث أنه موضوع لم يبحث من قبل بصورة محررة وشاملة. 3 ـ ومما دعاني إلى اختيار هذا البحث ما رأيته من تسرع بعض المعاصرين إلى رد مذهب الإمام البخاري في هذه المسألة بدعوى أنه خلاف قول جمهور علماء الحديث، ومن ذلك صنيع الأستاذ محمد ناصر الدين الألباني في معرض رده على الإمام البخاري لما قال: لا أدري أسمع محمد بن عبد الله بن حسن من أبي الزناد أم لا؟ فقد قال الشيخ الألباني: (هذه ليست بعلة إلا عند البخاري بناء على أصله المعروف وهو اشتراط معرفة اللقاء، وليس بذلك شرط عند جمهور المحدثين) (¬1) . بينما نرى الإمام ابن رجب يقول (وأما جمهور المتقدمين فعلى ما قاله ابن المديني والبخاري، وهو القول الذي أنكره مسلم على من قاله) (¬2) . فرأيت أن تجلية مذهب الإمامين البخاري في هذه المسألة ومعرفة من قال بمثل قوله وأيده من أهم الأسباب التي تدعوني لاختيار هذا البحث. 4 ـ رأيت من بعض المعاصرين تقويتهم لأسانيد فيها انقطاع أو يشك في اتصالها، مع تبنيهم نظرياً لمذهب الإمام مسلم، حتى يتساءل الباحث هل فهم هؤلاء مذهب مسلم على أن السند المعنعن الأصل فيه الاتصال حتى يثبت الانقطاع البين؟ . وهل هذا الفهم صحيح أم لا؟ فمثلاً: حكم الألباني على حديث يرويه شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله (وهذا إسناد صحيح) (¬3) . وبالرجوع إلى ترجمة شريح بن عبيد في "تهذيب التهذيب" (¬4) نجد أن ¬

(¬1) إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (2/79) . (¬2) شرح علل الترمذي (1/365) . (¬3) سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/394) . (¬4) تهذيب التهذيب (4/329) .

الحافظ ابن حجر ينص على أن شريحاً لم يدرك أبا مالك الأشعري. كذلك حكم على حديث يرويه محمد بن المنكدر عن خزيمة بن ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (إسناد حسن) (¬1) . وخزيمة بن ثابت رضي الله عنه مات سنة 37هـ، ومحمد بن المنكدر ولد قبل سنة 60هـ بقليل. وحكم الشيخ أحمد شاكر على حديث يرويه عطاء بن فروخ عن عثمان بن عفان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله (إسناد صحيح. عطاء فروخ: ثقة، وليس له في الكتب الستة غير هذا الحديث، ولكن نقل الحافظ في التهذيب عن العلل لعلي بن المديني أنه لم يلق عثمان، ولم أجد ما يؤيد هذا؟) (¬2) . وفي مسند البزار قول البزار: (وعطاء بن فروخ رجل من أهل البصرة حدث عنه يونس بن عبيد وعلي بن زيد، ولا نعلمه سمع من عثمان) (¬3) وفي هذا تأييد لكلام ابن المديني ولم أعثر في ترجمة عطاء بن فروخ ما يدل على معاصرته لعثمان بن عفان. فهذه الأمثلة وغيرها كثير جعلتني أتساءل هل فَهمُ مذهب مسلم لدى بعض كبار أساتذة علم الحديث في عصرنا صواب أم يحتاج إلى إعادة نظر؟ لا سيما وأن هناك عدد من القضايا التي ذكرتها في مشكلات البحث تحت البند رقم (5) لا تجد عند أكثر المعاصرين بياناً واضحاً لموقفهم منها مما جعل البحث في هذا الموضوع من الأهمية بمكان في نظري. 5 ـ ومما حفزني إلى هذا البحث أن موضوعه من ضمن الموضوعات التي كنت شديد التعلق والاهتمام بها من قبل التحاقي بالدراسات العليا حتى أنني لما عزمتُ على اختياره وبدأت أكتب خطة البحث وجدُ عناوين الفصول تنثال على ذهني انثيالاً كأنها نقشت في نفسي من زمن. ¬

(¬1) السلسلة الصحيحة (5/408) . (¬2) مسند الإمام أحمد بتحقيق: أحمد شاكر (1/335) . (¬3) مسند البزار (2/48) .

5 ـ الدراسات السابقة: لم يبحث هذا الموضوع ـ في حدود علمي ـ بحثاً شمولياً يحرر فيه مذهب كل إمام على حدة ويجلى فيه مواطن الاتفاق والاختلاف بين المذهبين، فبقيت مسائل عدة من هذا الموضوع محل إشكال وغموض. وقد تناول عدد من العلماء مسألة " السند المعنعن هل يشترط لاتصاله ثبوت السماع أم تكفي المعاصرة؟ " بالبحث الجزئي حيناً، وحيناً باقتضاب. فقد كتب الإمام ابن رشيد (¬1) الفهري رسالة سماها: " السنن الأبين في المحاكمة بين الإمامين البخاري ومسلم في السند المعنعن" وقد طبعت محققة في تونس، ومضمون هذا الكتاب هو رد على أدلة الإمام مسلم وانتصار لمذهب البخاري، وفي رده في بعض المواضع إجمال، كما أنه ترك قضايا عدة في هذه المسألة لم يعرج عليها مما جعل فائدة الكتاب مقصورة على مناقشة أدلة الإمام مسلم. وكذلك كتب الإمام العلائي (¬2) في كتابه "جامع التحصيل في أحكام ¬

(¬1) ابن رُشيد هو محمد بن عمر بن محمد بن إدريس ابن رُشيد أبو عبد الله الفهري السبتي المحدث الحافظ ولد في جمادي الأولى سنة 657هـ برع في عدة فنون وبالأخص ففي علم الحديث، ورحل في طلب العلم إلى بلاد كثيرة وصنَّف مصنفات عديدة منها "ملء العيبة" المسماة بالرحلة المشرقية، "وكتاب ترجمان التراجم على أبواب البخاري" وكتاب "إيضاح المذاهب فيمن يطلق عليه اسم الصاحب" وكان ورعاً مقتصداً منقبضاً على الناس ذا هيبة ووقار، وذكر عنه أنه كان على مذهب أهل الحديث في باب الصفات الإلهية يمرها ولا يتأول، وكانت وفاته في أواخر المحرم سنة 721هـ بفاس. رحمه الله. انظر ترجمته في الدرر الكامنة (4/111 ـ 113) وذيل طبقات الحفاظ للسيوطي (ص 355) وشجرة النور الزكية (ص216 ـ 217) . (¬2) العلائي هو صلاح الدين خليل بن سيف الدين كيكلدي بن عبد الله العلائي الحافظ الفقيه على مذهب الشافعي، ولد سنة 694هـ بدمشق. طلب العلم ورحل في سبيل ذلك وله عناية كبيرة بعلم الحديث وبالفقه، وقد صنَّف كتباً كثثيرة جداً سائرة ومشهورة منها "المجموع المذهب في قواعد المذهب" و "تحقيق المراد في أن النهي يقتضي الفساد " وقد كانت وفاته سنة 671هـ ببيت المقدس. رحمه الله. انظر ترجمته، في ذيل تذكرة الحفاظ للحسيني (ص43 ـ 47) والدرر الكامنة (2/90) وشذرات الذهب (6/190) .

المراسيل " عن هذه المسألة، وكذا صنع الحافظ ابن رجب (¬1) الحنبلي في كتابه " شرح علل الترمذي" وكذا أيضاً العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي البماني كتب حول هذه المسألة في "التنكيل لما ورد في تأنيب الكوثري من الأباطيل" وله أيضاً بحث حول هذه المسألة في كتابه "عمارة القبور"، وله أيضاً رسالة صغيرة في "الأحاديث التي استشهد بها مسلم على مخالفة " وكذا أيضاً الشيخ عبد الفتاح أبو غدة له رسالة أسماها "التتمة الثالثة في بيان مذهب الإمام مسلم في الحديث المعنعن بشرطه وبيان المعنى بالنقد والرد في كلامه" ضمن تتمات خمس ألحقها بتحقيقه على كتاب "الموقظة" للذهبي. وقد عرضت هذه الكتب لبعض الجوانب من المسألة، فكان على الباحث أن يجمع ما قيل في المسألة ليكوّن صورة عامة ثم يتمم ما يراه نقصاً حتى يظهر الموضوع بما يليق بأهميته وخطورته. 6 ـ أهداف البحث: يهدف هذا البحث إلى أمور: 1 ـ تحديد معالم المسألة عند الإمام البخاري بدقة. 2 ـ معرفة حدود المسألة عند الإمام مسلم بدقة. 3 استخلاص أقوم الطرق في معالجة هذا الموضوع عند الحكم على ¬

(¬1) ابن رجب زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمن الملقب رجب بن الحسن بن محمد بن أبي البركات البغدادي ثم الدمشقي الحنبلي، ولد سنة 736هـ ببغداد. طلب العلم صغيراً وله عناية بالفقه والأصول ولكن اشتهر بعلم الحديث حتى صار أعرف أهل عصره بالعلل وتتبع الطرق، وصنف كتباً كثيرة منها، "فتح الباري شرح صحيح البخاري" و "شرح جامع الترمذي" و "جامع العلوم والحكم" وكان ورعاً زاهداً قليل الاختلاط بالناس معروفاً بالعبادة والتهجد، وقد كانت وفاته سنة 795هـ بدمشق رحمه الله. انظر ترجمته في إنباء الغمر بأبناء العمر (1/460) والدرر الكامنة (2/428) وشذرات الذهب (6/339) .

الأحاديث خارج الصحيحين. 4 ـ إضافة ما أحسبه نافعاً وجديداً إلى تراث أمتي. 7 ـ منهجي في البحث: 1 ـ سأذكر ـ إن شاء الله ـ أقوال العلماء في كل قضية من قضايا هذا البحث وذلك بالرجوع إلى كتب علم الحديث المعتمدة. 2 ـ سأقوم ـ إن شاء الله ـ باستقراء وتتبع لنصوص البخاري التطبيقية المتعلقة بالمسألة، وذلك من كتبه المطبوعة ـ وكتبه المهمة بحمد الله مطبوعة ـ 3 ـ سأقوم إن شاء الله ـ بمقارنة نصوص البخاري التطبيقية بما في صحيح مسلم من أسانيد لمعرفة هل أخرج مسلم في صحيحه أحاديث سبقه البخاري في الكلام عليها من حيث ثبوت السماع فيها؟ مراعياً ما لصحيح مسلم من مكانة جليلة عند بحث هذه القضية. 5 ـ سأقوم ـ إن شاء الله ـ بعرض نصوص البخاري التطبيقية على " شروط الاكتفاء بالمعاصرة" التي حددها مسلم، وستشمل هذه المقارنة كل نصوص البخاري التطبيقية. 6 ـ بما أن الإمام مسلماً قد حدد مذهبه وعرضه نظرياً، ولأن معظم كتب الإمام مسلم النقدية مفقودة إلا قطعة صغيرة من كتاب " التمييز" مما حرمنا من نصوص تطبيقية قد توجد في تراث هذا الإمام لو وصلتنا بعض من كتبه المفقودة لذا فأن من أهم ما سأعتني به تحديد "شروط الاكتفاء بالمعاصرة" تحديداً دقيقاً. 7 ـ سأقوم ـ إن شاء الله ـ بعرض أدلة الإمام مسلم وأُناقشها مناقشة علمية موضوعية مستعيناً بكلام العلماء الذين ناقشوا تلك الأدلة. والأبواب والفصول التي تضمنتها خطة البحث هي:

خطة البحث 1 ـ المقدمة. 2 ـ الباب الأول: تعريف بالإمامين والمسألة. الفصل الأول: تعريف موجز بالبخاري ومسلم. المبحث الأول: تعريف بالإمام البخاري. المبحث الثاني: تعريف بالإمام مسلم. الفصل الثاني: الإسناد المعنعن والاختلاف في الاحتجاج به. المبحث الأول: تعريف العنعنة. المبحث الثاني: العنعنة وعلاقتها بالتدليس والانقطاع. المبحث الثالث: الاختلاف في الاجتجاج بالعنعنة. المبحث الرابع: حكم الألفاظ التي بمنزلة " عن ". المبحث الخامس: العنعنة في السند هل هي من الشيخ أم من تصرف التلميذ ومن دونه؟ الفصل الثالث: تمييز هذه المسألة من المسائل المشابهة. المبحث الأول: تمييزها من مسائل عدم الاتصال في السند. المبحث الثاني: تمييزها من مسألة شرط البخاري ومسلم. 3 ـ الباب الثاني: موقف الإمام البخاري: الفصل الأول: عناية البخاري الفائقة بهذه المسألة. المبحث الأول: تأثر البخاري في هذه المسألة بمن سبقه. المبحث الثاني: اهتمام البخاري بالمسألة في مصنفاته. الفصل الثاني: وسائل إثبات اللقاء والسماع عند الإمام البخاري. المبحث الأول: هل يكتفي البخاري بثبوت اللقاء أم يشترط التصريح بالسماع؟

المحبث الثاني: وسائل إثبات اللقاء. المبحث الثالث: شروط الاحتجاج بوسائل اللقاء. المبحث الرابع: كم يكفي لإثبات اللقاء؟ المبحث الخامس: ما يقوم مقام اللقاء. الفصل الثالث: هل عدم ثبوت اللقاء مؤثر في صحة الحديث عند الإمام البخاري؟ المبحث الأول: هل ثبوت اللقاء شرط في أعلى الصحة أم في أصل الصحة؟ المبحث الثاني: قل قوَّى البخاري أحاديث لم يثبت فيها اللقاء؟ الفصل الرابع: ما يُحتج به للبخاري على اشتراط اللقاء. الفصل الخامس: منهج البخاري في نصوصه النقدية المتعلقة باشتراط اللقاء. المبحث الأول: وصف لطريقة نقد البخاري لسماع الرواة. المبحث الثاني: فرز النصوص النقدية. المبحث الثالث: معالم في النصوص النقدية. الفصل السادس: العلماء الذين أيدوا البخاري في هذه المسألة. الفصل السابع: المآخذ على الإمام البخاري في هذه المسألة. 4 ـ الباب الثالث: موقف الإمام مسلم. الفصل الأول: تحرير الإمام مسلم لمحل النزاع مع مخالفه. المبحث الأول: من الذي عناه مسلم بالرد عليه؟ المبحث الثاني: عرض الإمام مسلم لرأيه ورأي مخالفه. الفصل الثاني: ضوابط الاكتفاء بالمعاصرة عند الإمام مسلم. المبحث الأول: ثقة الرواة. المبحث الثاني: العلم بالمعاصرة. المبحث الثاث: تحديد المقصود بإمكانية اللقاء. المبحث الرابع: السلامة من التدليس. المبحث الخامس: عدم وجود ما يدل على نفي السماع أو اللقاء.

الفصل الثالث: أدلة الاكتفاء بالمعاصرة عند مسلم وغيره من العلماء ومناقشتها. المبحث الأول: ذكر الأدلة. المبحث الثاني: مناقشة الأدلة. الفصل الرابع: هل أخرج مسلم في صحيحه أسانيد معنعنة بمجرد الاكتفاء بالمعاصرة؟ الفصل الخامس: هل أخرج مسلم في صحيحه أسانيد تكلم البخاري فيها بعدم ثبوت السماع؟ الفصل السادس: العلماء الذين أيدوا مسلماً في هذه المسألة. الفصل السابع: المآخذ على الإمام مسلم في هذه المسألة. 5 ـ الباب الرابع: الموازنة بين الرأيين والترجيح. الفصل الأول: مواطن الاتفاق والاختلاف بين الرأيين. الفصل الثاني: الترجيح وأسبابه. 6 ـ الخاتمة. ا7 ـ الفهارس. وغني عن القول ما اكتف هذا البحث من مصاعب ومشاق بسبب طبيعة الموضوع البالغة الدقة وقصر الوقت المخصص لمثل هذا الموضوع الشائك. ولقد واجهتني مصاعب جَمَّة أثناء جمع المعلومات، وأثناء دراسة النصوص وتحقيقها من أجل الاستنباط، وكذلك أثناء فرز وانتقاء المادة العلمية بغرض كتابة البحث وتحريره. مما جعلني هممت بتغيير الموضوع لكثرة المتاعب التي واجهتني، ولولا توفيق المولى سبحانه وتعالى ثم شعوري بالواجب لما استطعت تجاوز تلك الصعاب. وحديثي عن المصاعب مقدمة للاعتذار عما سيوجد في البحث من جوانب الخلل والقصور، فإن النقص وصف ملازم للذات البشرية لا ينفك عنها. ومع علمي بأن هذا البحث قد يثير ضدي انتقادات إلا أنني أرى أن من أهم الواجبات على الباحثين في علم الحديث تحرير المسائل الخلافية في علم المصطلح مع ضرورة التركيز في ذلك على الجوانب التطبيقية عند كبار أئمة

الحديث من المتقدمين، ويجب ألا يصرفنا الخوف من الوقوع في الخطأ عند البدء في ذلك فإنه من الطبيعي أن البدايات يرافقها عادة النقص والضعف وتجيء بعدها مراحل التجويد والتهذيب والتحسين. فعسى أن يكون هذا البحث خطوة أولى على ذلك الطريق الطويل فإن مسائل المصطلح التي تحتاج إلى تحرير وتحقيق ليست بقليلة. ويطيب لي أن أتقدم بالشكر والعرفان على فضيلة المشرف أستاذي القدير الدكتور شاكر فياض، فكما وأشكر القائمين على مكتبة الرشد لعنايتهم بنشر هذا الكتاب، وأتوجه كذلك بالشكر إلى كل الزملاء الذين ساعدوني في الحصول على بعض المراجع النادرة وهم: الأخ خالد السبيت، والأخ عبد الله دمفو، والأخ عصام السناني، والأخ علي بن نافع المخلفي، والأخ منصور السماري. وختاماً أسأل المولى سبحانه وتعالى أن يرزقني الإخلاص، وأن يجزيني خيراً ويختم لي بالحسنى، كما وأسأله سبحانه أن يكتب لهذا العمل القبول وأن ينفع به. {سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين} (الصافات: الآيات 180 ـ 182) . خالد بن منصور بن عبد الله الدريس

الباب الأول تعريف بالإمامين والمسألة

الباب الأول تعريف بالإمامين والمسألة

الفصل الأول تعريف موجز بالبخاري ومسلم

الفصل الأول تعريف موجز بالبخاري ومسلم المبحث الأول: تعريف بالإمامين البخاري. المبحث الثاني: تعريف بالإمامين مسلم. المبحث الأول تعريف بالأمام البخاري أولاً: اسمه ونسبه: هو أبو عبد الله محمد بن اسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبَه الجعفي البخاري (¬1) . ومعنى " بَرْدِزْبَه" (¬2) بالعربية؛ الزراع (¬3) . وإنما قيل في نسبه الجعفي لأن أبا جده المغيرة أسلم على يد اليمان الجعفي. قال الحافظ ابن حجر: (فنسب إليه نسبة ولاء عملاً بمذهب من يرى أن من أسلم على يده شخص كان ولاؤه له، وإنما قيل له الجعفي لذلك) (¬4) . ثانياً أسرته: قال الحافظ ابن حجر متحدثاً عن أسرة الإمام البخاري: (بَرْدِزَبْه فارسياً ¬

(¬1) الكامل لابن عدي (1/140) وتاريخ بغداد (2/5 ـ 6) . (¬2) ضبط ابن حجر في تغليق التعليق (5/384) : (بفتح الباء الموحدة، ثم راء ساكنة ثم باء موحدة مفتوحة، ثم هاء) . (¬3) تاريخ بغداد (2/11) والإكمال لابن ماكولا (1/259) . (¬4) هدي الساري (ص501) .

على دين قومه، ثم أسلم ولده المغيرة على يد اليمان الجعفي ... وأما ولده إبراهيم بن المغيرة فلم نقف على شيء من أخباره، وأما والد محمد فقد ذكرت له ترجمة في كتاب "الثقات" (¬1) لابن حبان فقال في الطبقة الرابعة: "إسماعيل بن إبراهيم والد البخاري يروي عن حماد بن زيد ومالك، وروى عنه العارقيون"، وذكره ولده في التاريخ الكبير (¬2) فقال: "إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة سمع من مالك وحماد بن زيد، وصافح ابن المبارك"، وسيأتي بعد قليل قول إسماعيل عند موته أنه لا يعلم في ماله حراماً ولا شبهة، ومات إسماعيل ومحمد صغير؛ فنشأ في حجر أمه) (¬3) . وللبخاري أخ اسمه أحمد ورد ذكره في قول البخاري: (خرجت مع أمي وأخي أحمد إلى مكة، فلما حججت رجع أخي بها) (¬4) ويحتمل أن يكون له أخ يُسمى الحسن لأن كنية والده "أبو الحسن" (¬5) ولكن لم يرد له أي ذكر في المصادر. ثالثاً: ولادته: قال أبو حسان مهيب بن سليم: (سمعتُ محمد بن إسماعيل البخاري يقول: ولدتُ يوم الجمعة بعد الصلاة لثنتي عشر ليلة خلت من شوال سنة أربع وتسعين ومائة) (¬6) . وقد ذُكر خلاف في يوم مولده فقيل: إنه كان لثلاث عشرة ليلة خلت من ¬

(¬1) الثقات لابن حبان (8/98) . (¬2) التاريخ الكبير (1/342 ـ 343) وكناه بأبي الحسن، وليس في التاريخ الكبير أن إسماعيل هو الذي صافح ابن المبارك كما نقل الحافظ في هدي الساري بل الذي فيه (رأى حماد بن زيد صافح ابن المبارك) . (¬3) هدي الساري (ص501) . (¬4) تاريخ بغداد (2/7) . (¬5) التاريخ الكبير (1/342) . (¬6) الإرشاد للخليلي (3/959) .

شوال (¬1) وما عدا ذلك فلا خلاف في تاريخ مولده. وكان مسقط رأسه مدينة " بخاري" (¬2) . رابعاً: بداية طلب العلم: قال أبو جعفر محمد بن أبي حاتم الوراق النحوي "وراق البخاري": (قلتُ لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري: كيف كان بدء أمرك في طلب الحديث؟ قال: ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكتاب. قال: وكم أتى عليك إذ ذاك؟ قال: عشر سنين أو أقل، ثم خرجتُ من الكتاب بعد العشر، فجعلتُ أختلف إلى الداخلي وغيره، وقال يوماً فيما كان يقرأ على الناس: سفيان عن أبي الزبير عن إبراهيم، فقلت له: يا أبا فلان إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم. فانتهرني، فقلت له: ارجع إلى الأصل إن كان عندك، فدخل ونظر فيه ثم خرج فقال لي: كيف هو ياغلام؟ قلت: هو الزبير بن عدي عن إبراهيم، فأخذ القلم مني وأحكم كتابه فقال: صدقت. فقال له بعض أصحابه: ابن كم كنت إذ رددت عليه؟ فقال: ابن إحدى عشرة. فلما طعنت في ست عشرة سنة حفظت كتب ابن المبارك ووكيع، وعرفت كلام هؤلاء (¬3) . ثم خرجت مع أمي وأخي أحمد إلى مك ة، فلما حججت رجع أخي بها، وتخلفت في طلب الحديث) (¬4) . ومن هذا النص يظهر أن البخاري بدأ بطلب العلم وهو صغير، وبدأ حبه واهتمامه بعلم العلل في مرحلة مبكرة من عمره، كذلك كان للفقه والمعرفة بكلام المذاهب الفقهية نصيب من اهتمامه في بداياته العلمية. خامساً: مشايخه: لقد كان البخاري شغوفاً بالعلم، محباً له كأشد ما يكون الحب. فحرص على طلب العلم، وتتبع مصادره، وسعى إلى أئمته، حتى كثر عدد مشايخه فبلغ ما ¬

(¬1) هدي الساري (ص501) . (¬2) سيرة الإمام البخاري للمباركفوري (ص5) . (¬3) يعني أصحاب الرأي قاله ابن حجر في هدي الساري (ص502) . (¬4) تاريخ بغداد (2/6 ـ 7) .

يزيد على الألف شيخ. فلقد قال رحمه الله: (كتبت عن ألفِ شيخ أو أكثر) (¬1) . ومع ذلك فقد كان يتحرى في شيوخه أن يجتمع فيهم صحة المعتقد، والاتقان في طلب الحديث، كما قال: (كتبت عن ألف وثمانين نفساً، ليس فيهم إلا صاحب حديث) (¬2) وقال: (لم أكتب إلا عمن قال: الإيمان قول وعمل) (¬3) . وشيوخ البخاري ينحصرون في خمس طبقات كما ذكر الحافظ ابن حجر: الطبقة الأولى: من حدثه عن التابعين مثل محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثه عن حميد، ومثل مكي بن إبراهيم حدثه عن يزيد بن أبي عبيد، ومثل أبي نعيم حدثه عن الأعمش، ومثل خلاد بن يحيى حدثه عن عيسى بن طهمان، ومثل علي بن عياش وعصام بن خالد حدثاه عن حريز بن عثمان، وشيوخ هؤلاء كلهم من التابعين. الطبقة الثانية: من كان في عصر هؤلاء لكن لم يسمع من ثقات التابعين، كآدم بن أبي إياس، وأبي مسهر عبد الأعلى بن مسهر، وسعيد بن أبي مريم، وأيوب بن سليمان بن بلال، وأمثالهم. الطبقة الثالثة: هي الوسطى من مشايخه وهم: من لم يلق التابعين بل أخذ عن كبار تبع الأتباع، كسليمان بن حرب، وقتيبة بن سعيد، ونعيم بن حماد، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي بكر وعثمان ابني أبي شيبة، وأمثال هؤلاء. وهذه الطبقة قد شاركه مسلم في الأخذ عنهم. الطبقة الرابعة: رفقاءه في الطلب، ومن سمع قبله قليلاً كمحمد بن يحيى الذهلي، وأبي حاتم الرازي، ومحمد بن عبد الرحمن "صاعقة" وعبد بن حميد، وأحمد بن النضر، وجماعة من نظرائهم، وإنما يخرج عن هؤلاء مافاته عن مشايخه أو مالم يجده عند غيرهم. الطبقة الخامسة: قوم في عداد طلبته في السن والإسناد. سمع منهم الفائدة، كعبد الله بن حماد الآملي، وعبد الله بن أبي العاص الخوارزمي، وحسين بن محمد ¬

(¬1) تاريخ بغداد (2/10) . (¬2) تغليق التعليق لابن حجر (5/389) . (¬3) هدي الساري (ص503) وتقسيم شيوخ البخاري إلى خمس طبقات ذكره الذهبي قبل الحافظ ابن حجر في كتابه سير أعلام النبلاء (12/395 ـ 396) وإنما سقت كلام ابن حجر لأنه أوفى.

القباني، وغيرهم، وقد روى عنهم أشياء يسيرة (¬1) . سادساً: تلاميذه: يصعب جداً حصر تلاميذ الإمام البخاري لكثرة عددهم، ولانتشارهم وتفرقهم في البلاد، وقد حُمِل العلم عن البخاري وهو لم يزل شاباً حديث السن، قال أبو بكر بن الأعين: (كتبنا عن محمد بن إسماعيل وهو أمرد على باب محمد بن يوسف الفريابي) (¬2) وعقب ابن حجر بقوله (كان موت الفريابي سنة اثنتي عشرة ومائتين، وكان سن البخاري إذ ذاك نحواً من ثمانية عشر عاماً أو دونها ((¬3) ... ولم يزل يؤخذ عن البخاري ويُسمع منه حتى وفاته. ويتضح مدى كثرة تلاميذ البخاري إذا نظرنا إلى قول محمد بن يوسف الفربري: (سمع الجامع من محمد بن إسماعيل تسعون ألفاً) (¬4) . ومن أشهر تلاميذ البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ: 1 ـ إبراهيم بن معقل النسفي. 2 ـ الحسين بن إسماعيل المحاملي. 3 ـ حماد بن شاكر. 4 ـ صالح بن محمد الملقب " جزرة". 5 ـ محمد بن إسحاق بن خزيمة. 6 ـ أبو جعفر محمد بن أبي حاتم ورَّاق البخاري. 7 ـ محمد بن سليمان بن فارس. 8 ـ أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي. 9 ـ محمد بن يوسف الفربري. ¬

(¬1) هدي الساري (ص502) . (¬2) هدي الساري (ص502) . (¬3) تغليق التعليق (5/436) . (¬4) انظر سير أعلام النبلاء (12/397) وهذي الساري (ص516 ـ 517) .

10 مسلم بن الحجاج (¬1) . سابعاص: رحلاته: كانت الرحلة في طلب الحديث من أهم الأمور التي يُعنى بها طلبة الحديث في العصور الذهبية لعلوم الحديث، ولقد كان للبخاري منها أوفر الحظ والنصيب، قال الخطيب البغدادي: (رحل في طلب العلم إلى سائر محدثي الأمصار) (¬2) ، وقال البخاري: (لقيتُ أكثر من ألف رجل من أهل الحجاز والعراق والشام ومصر، لقيتهم كرات، أهل الشام ومصر والجزيرة مرتين، وأهل البصرة أربع مرات، وبالحجاز ستة أعوام، ولا أُحصي كم دخلت الكوفة وبغداد) (¬3) . ثامناً: ثناء العلماء عليه: لقد تواتر ثناء أهل العلم على الإمام البخاري، واشتُهر أمر حفظه وعلمه وبراعته في علم الحديث حتى علمه القاصي والد اني، ويكفي البخاري فخراً أن مئات الملايين من المسلمين على مدار تاريخ الإسلام يتعبدون الله بتصحيحه، ويكفيه ثقةً وأمانةً أن يكون كتابه الصحيح أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل. ولقد جاء الثناء على البخاري من شتى علماء الأمصار، وأثنت الأمة بأسرها على هذا الإمام الفحل وسأقتصر هنا على بعض ما ورد في مدحه ممن أدركه من شيوخه وأقرانه وتلاميذه. فممن أثنى عليه من شيوخه قتيبة بن سعيد الذي قال: (لو كان محمد بن إسماعيل في لاصحابة لكان آية) (¬4) . ¬

(¬1) تاريخ بغداد (2/4) . (¬2) سير أعلام النلاء (12/407) . (¬3) هدي الساري (ص502) . (¬4) هدي الساري (ص506) .

وكذلك أحمد بن حنبل قال: (ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل) (¬1) . وقال علي بن المديني في الثناء على البخاري: (ما رأى مثل نفسه) (¬2) . وممن أثنى عليه من أقرانه أبو حاتم الرازي الذي قال: (لم تخرج خراسان قط أحفظ من محمد بن إسماعيل) (¬3) . وقال عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي: (قد رأيت العلماء بالحرمين، والحجاز، والشام، والعراق، فما رأيت فيهم أجمع من محمد بن إسماعيل، وهو أعلمنا وأفقهنا وأكثرنا طلباً) (¬4) . وقال حاتم بن منصور: (محمد بن إسماعيل آية من آيات الله في بصره ونفاذه في العلم (¬5) . وممن أثنى عليه من تلاميذه محمد بن إسحاق بن خزيمة الذي قال: (ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحفظ له من محمد بن إسماعيل) (¬6) . وقال مسلم بن الحجاج: (دعني أقبل رجليك ياأستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله) (¬7) . وقال أبو عيسى الترمذي: (لم أر أحداً بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد كثير أحدٍ أعلم من محمد بن إسماعيل) (¬8) . ¬

(¬1) هدي الساري (ص507) . (¬2) تغليق التعليق (5/406) . (¬3) تغليق التعليق (5/409) . (¬4) تغليق التعليق (5/410) . (¬5) تغليف التعليق (5/410) . (¬6) سير أعلام النبلاء (12/431) . (¬7) سير أعلام النبلاء (12/432) . (¬8) كتاب العلل "الصغير" (5/738) الملحق بآخر كتاب سنن الترمذي.

تاسعاً: مصنفاته: ترك الإمام البخاري من خلفه ثروة عظيمة القدر من الكتب النفيسة التي أذهلت العلماء حتى قال أبو أحمد الحاكم: (لو قلتُ: إني لم أر تصنيف أحدٍ يشبه تصنيفه في الحسن والمبالغة رجوتُ أن أكون صادقاً في قوله) (¬1) . وقال أيضاً: (رحم الله الإمام محمد بن إسماعيل، فإنه الذي ألف الأصول وبين للناس) (¬2) . وقد جمع أسماء هذه المؤلفات الحافظ ابن حجر (¬3) وهي: 1- الأدب المفرد (مطبوع) . 2- أسامي الصحابة. 3- الأشربة. 4- التاريخ الكبير (مطبوع) 5- التاريخ الأوسط. 6- التاريخ الصغير (مطبوع) (¬4) 7- التفسير الكبير. 8- الجامع الصحيح (مطبوع) 9- الجامع الكبير. 10- خلق أفعال العباد (مطبوع) . 11- رفع اليدين في الصلاة (مطبوع) . 12- الضعفاء (مطبوع) 13- العلل. 14- الفوائد. 15- القراءة خلف الإمام (مطبوع) . 16- الكنى. 17- المبسوط. 18- المسند الكبير. 19- كتاب الهبة. 20- الوحدان. ¬

(¬1) تغليق التعليق (5413) . (¬2) الإرشاد للخليلي (3/692) . (¬3) هدي الساري (516 ـ 517) . (¬4) هناك عدة أدلة تدل على أن كتاب "التاريخ الصغير" المطبوع بهذا الاسم أنه هو "التاريخ الأوسط" انظر ما قاله الأستاذ صبحي السامرائي في تحقيقه على شرح"علل الترمذي" لابن رجب (ص150) وانظر ايضاً ما كتبه الأستاذ محمود الحداد في "فهرس مصنفات البخاري" (ص28 ـ 30) ولأن هذا الأمر لم يستقر في الأذهان بعد فقد عزوتُ له باسم "التاريخ الصغير" كما هو عنوان المطبوع.

المبحث الثاني تعريف بالإمام مسلم

عاشراً وفاته: بعد حياة حافلة بالعطاء والنفع للمسلمين، تخلُ من بعض المحن والشدائد القاسية التي اصابت هذا الإمام في آخر عمره، وبعد أن ترك الإمام البخاري للأمة الإسلامية أغلى الكنوز في علم الحديث، بعد هذا كله فاضت تلكم الروح الطاهرة إلى بارئها. يقول عبد القدوس بن عبد الجبار السمر قندي: (جاء محمد بن إسماعيل إلى خرتَنْك ـ قرية من قرى سمرقند على فرسخين منها ـ وكان له بها أقرباء فنزل عندهم، قال: فسمعته ليلة من الليالي وقد فرغ من صلاة الليل يدعو ويقول في دعائه: اللهم إنه قد ضاقت عليّ الأرض بما رحبت فاقبضني إليك. قال: فما تم الشهر حتى قبضه الله تعالى إليه، وقبره بخرتنك) (¬1) (وتوفي ليلة السبت عند صلاة العشاء، ليلة الفطر، ودُفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر، يوم السبت لغرة شوال من سنة ستٍ وخمسين ومائتين، عاش اثنتين وستين سنة، إلا ثلاثة عشر يوماً) (¬2) . ولم يُخلف من بعده ذرية ـ فيما ظهر لنا ـ قال الحاكم: (وأما البخاري ومسلم فإنهما لم يعقبا ذكراً) (¬3) . ولم تذكر كتب التراجم أنه تزوج أصلاً، ولم يذكر أحد أنه ترك ذرية من بعده رحم الله أبا عبد الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء. المبحث الثاني تعريف بالإمام مسلم أولاً: اسمه ونسبه: هو أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم بن وَرْدِ بن كوشان القشيري ¬

(¬1) تاريخ بغداد (2/34) . (¬2) الكامل لابن عدي (1/140) . (¬3) معرفة علوم الحديث (ص 52) .

النيسابوري (¬1) . قال ابن الصلاح: (القشيري النسب، النيسابوري الدار والموطن، عربي صليبة) (¬2) . وقال الذهبي: (لعله من موالي قُشير) (¬3) . ثانياً: ولادته: لم يرد تاريخ محدد بالضبط لمولد الإمام مسلم ـ رحمه الله ـ حتى أن ابن الصلاح قال: (لكن تاريخ مولده، ومقدار عمره كثيراً ما تطلب الطلاب علمه فلا يجدونه، وقدوجدناه والحمد لله، فذكر الحاكم أبو عبد الله بن البيع الحافظ في كتاب " المُزكين لرواة الأخبار" أنه سمع ابا عبد الله بن الأخرم الحافظ يقول: توفي مسلم بن الحجاج رحمه الله عشية يوم الأحد، ودفن يوم الاثنين لخمس بقين من رجب سنة إحدى وستين ومائتين، وهو ابن خمس وخمسين سنة، وهذا يقتضي أن مولده ك ان في سنة ست ومائتين) (¬4) . وقال الذهبي: (قيل إنه ولد سنة أربع ومائتين) (¬5) فالخلاف بين التاريخين قريب ولعل ما ذهب إليه ابن الصلاح في تحديد تاريخ ميلاد الإمام مسلم هو الأرجح. ثالثاً: طلبه للعلم: لم تتعرض أكثر المصادر التي ترجمت للإمام مسلم إلى بدء طلبه للعلم، وكيف كان تحصيله للمعرفة؟ ، إلا أن الإمام الذهبي تعرض لذلك بقوله: (وأولُ سماعه في سنة ثمان عشرة من يحيى بن يحيى التميمي، وحجَّ سنة عشرين وهو أمرد، فيسمع بمكة من القعنبي، فهو أكبر شيخ له، وسمع بالكوفة من أحمد بن ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (12/577 ـ 558) . (¬2) صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط، لابن الصلاح (ص56) . (¬3) سير أعلام النبلاء (12/558) . (¬4) صيانة صحيح مسلم لابن الصلاح (ص64) . (¬5) سير أعلام النبلاء (12/558) .

يونس، وجماعة. وأسرع إلى وطنه، ثم ارتحل بعد أعوام قبل الثلاثين. أكثر عن علي بن الجعد، لكنه ما روى عنه في " الصحيح" شيئاً. وسمع بالعراق والحرمين ومصر) (¬1) . رابعاً: مشايخه: لم يتوفر لدينا إحصاء دقيق لعدد شيوخ الإمام مسلم الذين سمع منهم العلم سوى ما ذكره الإمام الذهبي من أن عدة شيوخ مسلم الذي أخرج لهم في الصحيح (مئتان وعشرون رجلاً) (¬2) ومن المؤكد أن عدد شيوخ مسلم يزيد على ذلك. ومن أشهر شيوخه: 1- الإمام أحمد بن حنبل. 2- إسحاق بن راهويه. 3- سعيد بن منصور. 4- عبد الله بن مسلمة القعنبي. 5- علي بن الجعد. 6- علي بن المديني. 7- قتيبة بن سعيد. 8- محمد بن إسماعيل البخاري. 9- يحيى بن معين. 10- يحيى بن يحيى النيسابوري. (¬3) خامساً: تلاميذه: من أشهر تلاميذه: 1- إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه. 2- أحمد بن سلمة الحافظ. 3- أحمد بن علي القلانسي (شهرته بالنسبة لروايته لصحيح مسلم المنتشرة عند المغاربة، وأما هو فلا نعرف من حاله شيئاً) . ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (12/558) . (¬2) سير أعلام النبلاء (12/561) . (¬3) تاريخ بغداد (13/100) وسير أعلام النبلاء (12/558 ـ 561) .

4- أبو حامد بن محمد بن الشرقي. 5- عبد الرحمن بن أبي حاتم. 6- محمد بن إسحاق بن خزيمة. 7- محمد بن عيسى الترمذي. 8- مكي بن عَبدان. 9- يحيى بن صاعد. 10- أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الإسفراييني (¬1) . سادساً: رحلاته: رحل الإمام مسلم إلى العراق، والحجاز، والشام، ومصر (¬2) وغيرها من بلدان العالم الإسلامي، لذلك قال ابن الصلاح: (رحل فيه ـ يعني الحديث ـ رحلة واسعة) (¬3) . وقد نبه الذهبي إلى أن مسلماً لم يدخل دمشق فقال: (وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في "تاريخه" مسلماً بناءً على سماعه من محمد بن خالد السكسكي فقط. والظاهر أنه لقيه في الموسم، فلم يكن مسلم ليدخُل دمشق فلا يسمع إلا من شيخ واحد) (¬4) . سابعاً: ثناء العلماء عليه: الإمام مسلم بن الحجاج (أشهر من أن تذكر فضائله) (¬5) كما قال أبو يعلى الخليلي. ولقد حطي رحمه الله بثناء علماء عصره، وما بعد عصره، وحباه الله منزلة عظمى في نفوس المسلمين بسبب كتابه "الصحيح" الذي يعد مع كتاب ¬

(¬1) تاريخ بغداد (13/101) وسير أعلام النبلاء (12/562) . (¬2) تاريخ بغداد (13/100) وسير أعلام النبلاء (12/558) . (¬3) صيانة صحيح مسلم (ص56) . (¬4) سير أعلام النبلاء (12/562) وانظر ترجمة مسلم في تاريخ دمشق لابن عساكر (6/468 ـ 472) وانظر ترجمة مسلم في تاريخ دمشق لابن عساكر (6/468 ـ 472) نسخة الظاهرية المخطوطة، عناية مكتبة الدار بالمدينة المنورة. (¬5) الإرشاد في معرفة علماء الحديث (3/825) .

البخاري "الصحيح" اصح وأجلّ كتب السنة النبوية على الإطلاق فمما قيل في الثناء عليه رحمه الله تعالى: قال أحمد بن سلمة (رأيت أبا زرعة، وأبا حاتم، يقدمان مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما) (¬1) . قال ابن أبي حاتم (كان ثقة من الحفاظ، له معرفة بالحديث، سئل عنه أبي فقال: صدوق) (¬2) . وقال محمد بن بشار: (حفاظ الدنيا أربعة: أبو زرعة بالري، ومسلم بن الحجاج بنيسابور، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي بسمرقند، ومحمد بن إسماعيل البخاري ببخاري) (¬3) . وقال ابن الصلاح: (رفعه الله تبارك وتعالى بكتابه الصحيح إلى مناط النجوم، وصار إماماً حُجة يبدأ ذكره ويُعاد في علم الحديث، وغيره من العلوم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) (¬4) . وقال النووي: (أحد أعلام أئمة هذا الشأن، وكبار المبرزين فيه، وأهل الحفظ والإتقان، والرحالين في طلبه إلى ائمة الأقطار والبلدان، والمعترف له بالتقدم فيه بلا خلاف عند أهل الحذق والعرفان) (¬5) . وقال أيضاً: (الإمام الحافظ حجة الإسلام) (¬6) وقال أيضاً: (الإمام الكبير الحافظ المجود الحجة الصادق) (¬7) . وقال ابن حجر: (حصل لمسلم في كتابه حظ عظيم مفرط لم يحصل لأحد ¬

(¬1) تاريخ دمشق لابن عساكر (16/470) وسير أعلام النبلاء (12/563) . (¬2) الجرح والتعديل (8/182) . (¬3) تاريخ بغداد (2/16) . (¬4) صيانة صحيح مسلم (ص61) . (¬5) شرح صحيح مسلم للنووي (1/10) . (¬6) تذكرة الحفاظ (2/588) . (¬7) سير أعلام النبلاء (12/557) .

مثله بحيث أن بعض الناس كان يفضله على صحيح محمد بن إسماعيل.. فسبحان المعطي الوهاب) (¬1) . وماهذه الفضائل إلا غيض من فيض بحر فضائل هذا الإمام الجليل رحمه الله تعالى. ثامناً: مصنفاته: صنف الإمام مسلم تصانيف عديدة، لم يصلنا منها إلا القليل، ويظهر من استعراض أسماء هذه المؤلفات عناية الإمام مسلم الكبيرة بعلم الحديث وفنونه، وأسماء هذه المؤلفات التي ذكرها بعض أهل العلم هي: 1- الأسماء والكنى. (ط) . 2- أفراد الشاميين. 3- الأقران. 4- الانتفاع بأُهُب السباع. 5- أولاد الصحابة. 6- أوهام المحدثين. 7- التمييز (ط) . 8- الجامع على الأبواب. 9- حديث عمرو بن شعيب. 10- سؤالاته لأحمد بن حنبل. 11- الطبقات (ط) . 12- العلل. 13- المخضرمون. 14- المسند الصحيح (ط) . 15- المسند الكبير. 16- مشايخ الثوري. 17- مشايخ شعبة. ¬

(¬1) تهذيب التهذيب (10/127) .

18- مشايخ مالك. 19- المنفردات والحدان (¬1) . (ط) . تاسعاً: وفاته: بعد حياة قصيرة من عمر الزمن، مليئة بالخير والعلم والصلاح، قضى الإمام مسلم نحبه، وكان سبب موته فيما ذُكر أنه (عقد لأبي الحسين مسلم بن الحجاج مجلس للمذاكرة، فذكر له حديث لم يعرفه فانصرف إلى منزله وأوقد السراج، وقال لمن في الدار: لا يدخلن أحد منكم هذا البيت، فقيل له: أهديت لنا سلة فيها تمر، فقال: قدموها إلي، فقدموها إليه، فكان يطلب الحديث، ويأخذ تمرة تمرة يمضغها، فأصبح وقد فني التمر ووجد الحديث قال محمد بن عبد الله [الحاكم] : زادني الثقة من أصحابنا أنه منها مات) (¬2) . وقد ك انت وفاته عشية يوم الأحد، ودفن يوم الاثنين لخمس بقين من رجب سنة إحدى وستين ومائتين (¬3) . ولم يعقب ذرية ذكوراً (¬4) ، وقد ذكر الحاكم أنه رأى من أعقابه من جهة البنات (¬5) . فرحم الله الإمام مسلم بن الحجاج وجزاه خير الجزاء عن الإسلام والمسلمين. ¬

(¬1) تذكرة الحفاظ (2/590) وسير أعلام النبلاء (12/579) وليس هذه كل مؤلفات الإمام مسلم لأن الذهبي عبدما سردها قال: (ثم سرد الحاكم تصانيف له لم أذكرها وللاستزادة حول مؤلفات مسلم ينظر " كتاب الكنى والأسماء " الذي قدّم له الأستاذ مُطلع الطرابيشي ونشرته دار الفكر 0ص21 ـ 27) فقد جمع وأحسن. (¬2) تاريخ بغداد (13/103) وصيانة صحيح مسلم لابن الصلاح (ص65) وهذه القضية فيها نظر. (¬3) تاريخ بغداد (13/104) وصيانة صحيح مسلم (ص64) . (¬4) معرفة علوم الحديث للحاكم (ص52) . (¬5) سير أعلام النبلاء (12/570) .

الفصل الثاني الإسناد المعنعن والاختلاف في الاحتجاج به

الفصل الثاني الإسناد المعنعن والاختلاف في الاحتجاج به المبحث الأول: تعريف العنعنة. المبحث الثاني: العنعنة وعلاقتها بالتدليس والانقطاع. المبحث الثالث: الاختلاف في الاحتجاج بالعنعنة. المبحث الرابع: حكم الألفاظ التي بمنزلة " عن ". المبحث الخامس: العنعنة في السند هل هي من الشيخ أم من تصرف التلميذ ومن دونه؟ المبحث الأول: تعريف العنعنة يُعرف الإسناد المعنعن بأنه الذي يقال فيه "فلان عن فلان" (¬1) . (والعنعنة هي مصدر عنعن الحديث) (¬2) على وزن (فعللة من عنعن) (¬3) (وعنعن الحديث: إذا رواه بعن، من غير بيان للتحديث، أو الإخبار أو السماع) (¬4) . ومثال ذلك: الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها. ¬

(¬1) التمهيد لابن عبد البر (1/12) وعلوم الحديث لابن الصلاح (ص56) . (¬2) توضيح الأفكار للصنعاني (1/330) . (¬3) فتح المغيث للسخاوي (1/163) . (¬4) فتح المغيث للسخاوي (1/163) .

المبحث الثاني: العنعنة وعلاقتها بالتدليس والانقطاع

المبحث الثاني: العنعنة وعلاقتها بالتدليس والانقطاع لفظة "عن" صيغة أداء، استعملت في الأسانيد المتصلة، كما أنها أيضاً استعملت في الأسانيد غير المتصلة، وهي في حد ذاتها لا تُفيد الاتصال كما أنها أيضاً لا تُفيد عدم الاتصال، فهي تستعمل في الأمرين كليهما. وقد كَثُر ورودها في الأسانيد المُدلسة والمنقطعة، واستعملها المُدِلسون في أسانيدهم غير المتصلة، كذلك المُرسِلون استعملوها في أسانيدهم المُرسلة، قال الخطيب البغدادي: (وقول المحدث: ثنا فلان قال ثنا فلان أعلى منزلة من قوله ثنا فلان عن فلان. إذ كانت "عن" مستعملة كثيرة في تدليس ماليس بسماع) (¬1) . وقال ابن الصلاح ـ في معرض كلامه عن المُدلِّس ـ (ومن شأنه أن لا يقول في ذلك: "أخبرنا فلان" ولا " حدثنا" وما أشبهها، وإنما يقول: " قال فلان" أو " عن فلان" ونحو ذلك) (¬2) . فالإتيان بلفظة "عن" فيما لم يُسمع من الأسانيد المرسلة والمنقطعة؛ معروف ومُشتهر بين الحديثين، وهو من عادتهم في الرواية بالعنعنة (¬3) . لهذا لم يُنقل عن أحدٍ من أهل العلم بالحديث ونقده الحكم باتصال السند المعنعن بدون أي شروط، والذي نُقل عن الأئمة النقاد والحفاظ هو الحكم باتصال السند المعنعن ولكن بشروط سَهَّل بعضهم فيه كالإمام مسلم، وتوسط بعضهم فيها واحتاط كالإمام البخاري، ولكنهما لم يحكما باتصال السند المعنعن إلا بشروط مُعينة. ¬

(¬1) الكفاية في علم الرواية (ص325 ـ 326) . (¬2) علوم الحديث (ص66) . (¬3) السنن الأبين لابن رشيد (ص22) والنكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر (2/584) .

المبحث الثالث الاختلاف في الاحتجاج بالعنعنة

المبحث الثالث الاختلاف في الاحتجاج بالعنعنة ذهب بعض أهل الحديث إلى عدم الاحتجاج بالإسناد المعنعن مطلقاً، وخالفهم جمهور أهل العلم في ذلك فقبلوا الإسناد المعنعن، ولكن بشروط وقع خلاف بينهم فيها، فكانت أقوال العلماء المحكية في الإسناد المعنعن ترجع إلى مذاهب أربعة هي: الأول: عدم الاحتجاج بالسند المعنعن مطلقاً، واعتباره كالمرسل والمنقطع من حيث عدم الاحتجاج، ويذهب أصحاب هذا القول على أنه لا يُعد من الحديث المتصل إلا ما نُص فيه على السماع، أو حصل العلم به من طريق آخر (¬1) . ولم يصرح ابن الصلاح بنسبة هذا القول إلى قائله، واكتفى بقوله: _ (عده بعض الناس) (¬2) إلا أن الرامهرمزي عزى هذا القول إلى بعض المتأخرين من الفقهاء (¬3) . ويبدو أن هذا القول قديم فقد ذكره الحارث المحاسبي في كتابه "فهم السنن" ضمن أقوال ذكرها لأهل العلم فيما يثبت به الحديث، فقال: (الأول: أنه لابد أن يقول كل عدل في الإسناد: حدثني أو سمعت إلى أن يتنهي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا لم يقولوا كلهم ذلك، أو لم يقله إلا بعضهم، فلا يثبت، لأنهم عرف من عادتهم الراوية بالعنعنة فيما لم يسمعوه) (¬4) . ولعل من القائلين بهذا القول شعبة بن الحجاج، فقد نُقل عنه أنه قال: (فلان عن فلان مثله لا يُجزي) (¬5) ، وقال أيضاً (كل حديث ليس فيه حدثنا أو أخبرنا فهو خل وبقل) (¬6) ، وقال أيضاً: (كل حديث ليس فيه حدثنا وأخبرنا فهو مثل الرجل ¬

(¬1) السنن الأبين (ص21) وعلوم الحديث لابن الصلاح (ص56) . (¬2) علوم الحديث (ص56) . (¬3) المحدث الفاصل (ص450) . (¬4) النكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر (2/584) . (¬5) العلل للإمام أحمد برواية ابنه عبد الله (2/21) . (¬6) المحدث الفاصل (ص517) .

بالفلاة معه البعير ليس له خِطام) (¬1) غير أن أبا عمر بن عبد البر ذكر أن شعبة قد رجع عن هذا القول (¬2) . واحتج أصحاب هذا القول علىمذهبهم: بأن الحديث إذا (لم يقل حدثنا فلان أن فلاناً حدثه، ولا ما يقوم به مقام هذا من الألفاظ، أُحتمل أن يكون بين فلان الذي حدثه وبين فلان الثاني رجل آخر لم يُسمه، لأنه ليس بمنكر أن يقول قائل: حُدِّثنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بكذا وكذا، وفلان حدثنا عن مالك والشافعي، وسواء قيل ذلك فيمن عُلِم أن المخاطب لم يره أو فيمن لم يُعلم ذلك منه، لأن معنى قوله "عن"، إنما هو أن ردّ الحديث إليه، وهذا سائغ في اللغة، مستعمل بين الناس) (¬3) . فعمدتهم فيما ذهبوا إليه هو الاحتياط لأن " عن" لا تقتضي الاتصال، ولأنه قد عُرِف أن المحدثين من الرواة يأتون بها في موضع الإرسال والانقطاع (¬4) . وقد رد العلماء هذا المذهب فقال النووي (وهذا المذهب مردود باجماع السلف) (¬5) وقال ابن رُشيد: (هذا المذهب رفضه جمهور المحدثين بل جميعهم) (¬6) وقال: (ولو اشترط ذلك لضاق الأمر جداً، ولم يتحصل من السُنة إلا النزر اليسير) (¬7) . الثاني: وهو مذهب من يقول: يشترط في الاحتجاج بالسند المعنعن طول الصحبة بين الراوي ومن يروي عنه (¬8) مع السلامة من التدليس (¬9) . ¬

(¬1) كتاب المجروحين والضعفاء لابن حبان (1/27) . (¬2) التمهيد (1/13) . (¬3) المحدث الفاصل (ص450) . (¬4) السنن الأبين (ص22) . (¬5) شرح صحيح مسلم (1/128) . (¬6) السنن الأبين (ص23) . (¬7) السنن الأبين (ص25) . (¬8) علوم الحديث لابن الصلاح (ص60) وجامع التحصيل للعلائي (ص116) . (¬9) السنن الأبين (ص31) وجامع التحصيل (ص116) .

وهذا هو مذهب أبي المظفر بن السمعاني (¬1) لم يُحكَ عن غيره (¬2) وحجة هذا المذهب (أن طول الصحبة يتضمن غالباً السماع لحمله ماعند المحدث أو أكثره فتحمل "عن" على الغالب، وإن كانت محتملة للإرسال) (¬3) ، وزاد ابن رُشيد الأمر بياناً بقوله: (وحجة هذا المذهب هي الأولى بعينها ـ أي حجة المذهب الأول ـ ولكنه خفّف في اشتراط السماع تنصيصاً في كل حديث لتعذر ذلك، ولوجود القرائن المفهمة للاتصال. من إيراد الإسناد وإرادة الرفع بعضهم عن بعض عند قولهم (فلان عن فلان) مع طول الصحبة) (¬4) . وهذا المذهب أيضاً فيه تشدد لا يخفى، وتعنت لا موجب له، وهل يمكن أن تُثبت طول الصحبة في كل الأسانيد التي صححها كبار الأئمة النقاد؟ , ومن دلائل وهن هذا المذهب أنه حادث في القرن الخامس الهجري بعد أن استقر عمل المحدثين على قبول السند إذا جمع شروطاً ثلاثة هي: 1 ـ عدالة المحدثين. 2 ـ لقاء بعضهم بعضاً مجالسة ومشاهدة. 3 ـ البراءة من التدليس (¬5) . ولهذا قال ابن رُشيد: (وهو أيضاً من مذاهب أهل التشديد) (¬6) . ¬

(¬1) هو أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد التميمي، السمعاني، المروزي، الحنفي ثم الشافعي، ولد سنة ست وعشرين وأربع مائة، وتوفي سنة تسع وثمانين وأربع مائة، له مصنفات فيها، التفسير، وكتاب "القواطع" في أصول الفقه، وكتاب " الاصطلام" وكتاب "البرهان" وغيرها. انظر تذكرة الحفاظ الذهبي (4/1227) وسير أعلام النبلاء (19/114) والأنساب لأبي سعد السمعاني (3/299) . (¬2) انظر علوم الحديث (ص60) وجامع التحصيل (ص116) والسنن الأبين (ص31) . وفتح المغيث للسخاوي (1/166) . (¬3) جامع التحصيل (ص116) . (¬4) السنن الأبين (ص31) . (¬5) التمهيد لابن عبد البر (1/21) . (¬6) السنن الأبين (ص30) .

الثالث: وهو مذهب من يحتج بالسند المعنعن، والمعنعن عنه، ولو مرة واحدة، وكان الراوي بريئاً من تهمة التدليس (¬1) . وهذا هو رأي علي بن المديني، والإمام البخاري، وأكثر الأئمة (¬2) بل حكى ابن عبد البر (¬3) وأبو عمرو المقرئ (¬4) الإجماع على قبول المحدثين للسند المعنعن إذا توفرت فيه الشروط السابقة. ولا نخوض الآن في حجج هذا المذهب، لأننا سنعرض لها ـ إن شاء اللهـ بالتفصيل في الباب الثاني من هذا البحث. ومما تجدر الإشارة إليه هنا ما ذكره أبو عمرو بن الصلاح بقوله: (ومنهم من يقتصر في ذلك على اشتراط مطلق اللقاء أو السماع وزاد عليه، فاشترط أبو عمرو الداني المقرئ الحافظ: أن يكون معروفاً بالرواية عنه، واشترط أبو الحسن القابسي المالكي (¬5) أن يكون قد أدرك المنقول عنه إدراكاً بيناً (¬6) . وفيما قاله أبو عمرو المقرئ وأبو الحسن القابسي إجمال يستدعى التساؤل: هل قصدا بقولهما " أن يكون معروفاً بالرواية" و"أن يكون أدرك المنقول عنه إدراكاً ¬

(¬1) جامع التحصيل (ص116) . (¬2) جامع التحصيل (ص116) . (¬3) التمهيد (1/12، 13) . (¬4) علوم الحديث لابن الصلاح (ص56) وأبو عمرو المقرئ هو عثمان بن سعيد بن عثمان الأموي القرطبي ثم الداني، ويُعرف بابن الصيرفي، ولد سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة، وتوفي سنة أربع وأربعين وأربعمائة، بلغت مؤلفاته مائة وعشرين كتاباً، وإليه المنتهى في علم القراءات مع البراعة في علم الحديث والتفسير والنحو وغير ذلك، انظر سير أعلام النبلاء (18/77) . (¬5) هو أبو الحسن علي بن محمد بن خلف القابسي المالكي، كان عارفاً بالعلل والرجال، والفقه والأصول والكلام، له عدة مصنفات من أشهرها "الملخص"، ولد سنة أربع وعشرين وثلاثمائة، وتوفي سنة ثلاث وأربعمائة، انظر سير أعلام النبلاء (17/158) (، وتذكرة الحفاظ (3/1079) . (¬6) صيانة صحيح مسلم (ص128 ـ 129) .

بيناً" طول الصحبة كما هو مذهب أبي المظفر بن السمعاني؟ أم أنهما قصدا تحقق اللقاء بدليل يقيني؟ أم أنهما قصدا العلم بالمعاصرة؟ . وعندما تأملتُ ذلك وجدت أن قول أبي الحسن القابسي ثابت عنه ولم يقع اختلاف عليه في حكايةمذهبه، فقد ذكر ابن رُشيد قول القابسي بقوله (وقال الفقيه المحدث أبو الحسن القابسي: "وكذلك ما قالوا فيه: (عن، عن) ، فهو أيضاً من المتصل إذا عُرف أن ناقله أدرك المنقول عنه إدراكاً بيناً، ولم يكن ممن عُرف بالتدليس) (¬1) فقوله هذا يحتمل أحد الأمرين: 1 ـ أن يكون قصد بقوله "الإدراك البين" ثبوت المعاصرة البينة، وإلى هذا مال ابن رشيد (¬2) . 2 ـ أن يكون قصده مطلق اللقاء كما هو مذهب الإمام البخاري، وهذاهو الذي أميل إليه ولكن لا أقطع به، فقد ألمح السخاوي إلى هذا الاحتمال بقوله: (قد يحتمل الكناية بذلك عن اللقاء) (¬3) ويُفهم من صنيع العلائي (¬4) أنه يُرجح هذا الاحتمال، إذ ذكر قول القابسي ضمن مذهب ابن المديني والبخاري، ولعل مما يقوي هذا الاحتمال أيضاً زيادة كلمة " بيّناً " فلو كان أراد العلم بالمعاصرة لكانت كلمة " أدرك " كافية في الدلالة على مقصودها ذاك. وأما قول أبي عمرو الداني المقرئ فقد وقع اختلاف في نقل عبارته حول هذا الموضوع فبينما نقل ابن الصلاح عنه أنه قال: (أن يكون معروفاً بالرواية عنه) ، نجد أن ابن رُشيد نقل قوله في موضعين ليس فيهما نص العبارة التي نقلها ابن الصلاح، قال ابن رشيد: (وقال الحافظ أبو عمرو المقرئ: " وما كان من الأحاديث العنعنة التي يقول فيها ناقلوها: (عن، عن) فهي ايضاً مسندة متصلة بإجماع أهل النقل، إذا عُرف أن الناقل أدرك المنقول عنه إدراكاً بيناً، ولم يكن ممن عرف بالتدليس، وإن لم يذكر سماعاً") (¬5) . ¬

(¬1) السنن الأبين (ص35) ، (ص42) . (¬2) فتح المغيث (1/166) . (¬3) جامع التحصيل (ص116 ـ 117) (¬4) السنن الأبين (ص30) . (¬5) السنن الأبين (36) .

وهذا شبيه بكلام القابسي السابق، والموضع الثاني الذي نقل فيه ابن رُشيد قول أبي عمرو المقرئ هو ما جاء في قوله: (قال أبو عمرو المقرئ الداني في جُزيء له وضعه في "بيان المتصل والمرسل والموقوف والمنقطع": "المسند من الآثار الذي لا إشكال في اتصاله: هو ما يرويه المحدث عن شيخ يظهر سماعه منه بسن يحتملها، وكذلك شيخه عن شيخه إلى أن يصل الإسناد إلى الصحابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1) . وتعريف المسند هو في حقيقة الأمر ليس لأبي عمرو المقرئ بل هو للحاكم أبي عبد الله ذكره في كتابه "معرفة علوم الحديث" (¬2) والذي يتحصل من هذين النصين أنه ليس لأبي عمرو المقرئ رأي مستقل، أو مذهب مغاير للآخرين، فالنص الأول في حقيقة الأمر هو من كلام أبي الحسن القابسي الذي هو أكبر سناً وأقدم وفاة منه، وقد أوضحتُ آنفاً الترجيح الذي أميل إليه في فهم كلام القابسي، والنص الثاني كما رأينا هو ايضاً لأبي عبد الله الحاكم المتوفي سنة (405هـ) وهو أكبر سناً وأقدم وفاة من أبي عمرو المقرئ. ولكن إن كان أبو عمرو بن الصلاح لم يتصرف في عبارة أبي عمرو المقرئ، فإن العبارة تحتمل الأمور التي ذكرتُها سابقاً، ولا تقتضي المعرفة بالرواية عن المنقول عنه السماع، فهذا سعيد بن المسيب كان يسمى " راوية عمر" والنقاد مختلفون في سماعه من عمر، فالبعض ينفيه، والبعض يثبت سماعه من عمر في قليلٍ مما يرويه لا في كل ما يحدث به عنه (¬3) . وكذلك سليمان بن بُريدة معروف بالرواية عن أبيه، ورغم ذلك فإن البخاري لم يثبت سماع سليمان من أبيه، وقال في ذلك: (ولم يذكر سليمان سماعاً من أبيه) (¬4) . وصفوة القول: أن قول أبي عمرو المقرئ: (أن يكون معروفاً بالرواية ¬

(¬1) معرفة علوم الحديث (ص17) . (¬2) تُراجع ترجمة سعيد بن المسيب في تهذيب التهذيب (4/84 ـ 88) . (¬3) التاريخ الكبير (4/4) . (¬4) صيانة صحيح مسلم (ص129) وعلوم الحديث (ص60) .

عنه) (¬1) فيه إجمال ويحتمل أن يدخل تحت المذهب الثاني أو الثالث أو الرابع، وليس هو مذهب خامس في المسألة. الرابع: وهو مذهب من احتج بالسند المعنعن وحكم باتصاله إذا كان اللقاء ممكناً مع السلامة من التدليس، عُلم السماع أو لم يعلم، إلا أن يأتي ما يعارض ذلك مما يدل على عدم المعاصرة أو عدم السماع (¬2) . وهذاهو قول الإمام مسلم وجمع من الأئمة والعلماء، وقد احتج مسلم لهذا المذهب بحجج وأدلة، وسأعرض لها ـ إن شاء الله تعالى ـ في الباب الثالث من هذا البحث بتفصيل وتوسع. وبعد أن عرضنا للمذاهب الأربعة التي حكيت في كتب " أصول الحديث " في الاحتجاج بالإسناد المعنعن، يتضح لنا أن المذهب الأول لم يقبل بالسند المعنعن مطلقاً ولم يحتج إلا بالأسانيد التي يظهر فيها السماع والإخبار نصاً، والسند المعنعن في حكم المنقطع لدى اصحاب هذا القول، ولم ينقل العلماء مذهباً يُقابل هذا المذهب في قبول السند المعنعن مطلقاً وبدون أي شروط، وربما يكون أكثر المذاهب تساهلاً في الاحتجاج بالسند المعنعن هو مذهب الإمام مسلم، قال الحافظ ابن حجر: (من حكم بالانقطاع مطلقاً شدَّد، ويليه من شرط طول الصحبة، ومن اكتفى بالمعاصرة سَهّل، والوسط الذي ليس بعده إلا التعنت مذهب البخاري ومن وافقه) (¬3) . والذي نخلص إليه أن المذهب الأول والثاني، هما من مذاهب أهل التشديد، وأن عمل الأئمة النقاد وأهل العلم والدراية على خلافهما، بل إن بعض العلماء نقل الإجماع على قبول السند المعنعن إذا توفرت فيه شروط تضمن تقوية احتمال الاتصال على احتمال الانقطاع، وسأورد كلام بعض العلماء في الاحتجاج بالسند المعنعن فيما يلي: ¬

(¬1) مقدمة صحيح مسلم (1/29-30) والسنن الأبين (ص48) . (¬2) تدريب الراوي (1/216) . (¬3) تدريب الراوي (1/216) .

قال ابن عبد البر: (اعلم ـ وفقك الله ـ أني تأملت أقاويل أئمة أهل الحديث، ونظرت في كتب من اشترط الصحيح في النقل منهم، ومن لم يشترطه، فوجدتهم أجمعوا على قبول الإسناد المعنعن لا خلاف بينهم في ذلك إذا جمع شروطاً ثلاثة، وهي: 1 ـ عدالة المحدثين في أحوالهم. 2 ـ ولقاء بعضهم بعضاً مجالسة ومشاهدة. 3 ـ وأن يكونوا براء من التدليس (¬1) . وقال أبو عبد الله الحاكم: (هذا النوع من هذه العلوم هو معرفة الأحاديث المعنعنة، وليس فيها تدليس، وهي متصلة بإجماع أئمة أهل النقل على تورع رواتها عن أنواع التدليس) (¬2) . وقال الخطيب البغدادي: (وأهل الحديث مجمعون على أن قول المحدث حدثنا فلان عن فلان صحيح معمول به، إذا كان شيخه الذي ذكره يُعرف أنه قد أدرك الذي حدث عنه ولقيه، وسمع منه، ولم يكن هذا المحدث ممن يدلس، ولا يعلم أنه يستجيز إذا حدثه به أن يسقط ذلك، ويروي الحديث عالياً، فيقول: حدثنا فلان عن فلان، أعني الذي لم يسمعه منه، لأن الظاهر من الحديث السالم من رواية ما وصفنا، الاتصالًُ وإن كانت العنعنة هي الغالبة على إسناده) (¬3) . وقال ابن الصلاح: (والصحيح والذي عليه العمل أنه من قبيل الإسناد المتصل، وإلى هذا ذهب الجماهير من أئمة الحديث وغيرهم، وأودعه المشترطون للصحيح في تصانيفهم وقبلوه.. وهذا بشرط أن يكون الذين أضيفت العنعنة ¬

(¬1) التمهيد (1/12) . (¬2) معرفة علوم الحديث (ص34) تحت عنوان " ذكر النوع الحادي عشر من علوم الحديث ". وفي كلام الحاكم إجمال نبّه عليه ابن رشيد في "السنن الأبين" (ص35) قال: (لابد أن يكون مراد الحاكم ثبوت المعاصة أو السماع، إذ لا يقبل معنعن من لم تصح له معاصرة، فلابد من قيد) . (¬3) الكفاية (ص 328) .

المبحث الرابع حكم الألفاظ التي بمنزلة "عن"

إليهم قد ثبتت ملاقاة بعضهم بعضاً مع براءتهم من وصمة التدليس، فحينئذٍ يحمل على ظاهر الاتصال إلا أن يظهر فيه خلاف ذلك) (¬1) . وبهذا يتقرر أن الذي يصفو من المذاهب الأربعة السابقة هو المذهب الثالث الذ1ي هو مذهب الإمام البخاري، والمذهب الرابع الذي هومذهب الإمام، مسلم وهذان المذهبان هما موضوع دراستي هذه، وسأتناولهما بالبسط والبحث في البابين الثاني والثالث ـ إن شاء الله تعالى ـ (¬2) . المبحث الرابع حكم الألفاظ التي بمنزلة "عن" هناك ألفاظ وصيغ أداء تَرِد في اسانيد المحدثين، وهي مُحتملة للسماع، وفي الوقت نفسه تُطلق فيما ليس بسماع، وهذه الألفاظ مثل: "أنّ" و "قال"، و"ذكر فلان" و "حدث فلان" و " كان فلان" (¬3) ..إلخ. فهل حكم هذه الألفاظ كحكم العنعنة؟ فيكون فيها مذاهب أربعة كالمذاهب التي تمت دراستها سابقاً. أم أنها مختلفة عنها؟ . وسأتناول بالبحث فيما يلي صيغتي الأداء "أنّ" و "قال"، وعليهما تقاس باقي الصيغ والألفاظ المُحتملة للسماع، وعدم السماع. أولاً: صيغة الأداء "أنّ" ومثالها: (مالك عن الزهري أن سعيد بن المسيب قال كذا) (¬4) ولأهل العلم في حكمها من حيث الاتصال ثلاثة مذاهب هي: ¬

(¬1) علوم الحديث (ص 56) . (¬2) قال ابن الصلاح في علوم الحديث (ص56) : (وكثر في عصرنا وماقاربه بين المنتسبين إلى الحديث استعمال "عن" في الإجازة، فإذا قال أحدهم: "قرأت على فلان عن فلان" أو نحو ذلك فظُن به أنه رواه عنه بالإجازة، ولا يخرجه ذلك من قبيل الاتصال على مالا يخفى) . (¬3) علوم الحديث (ص 60) . (¬4) التمهيد (1/26) وعلوم الحديث (ص57) .

1 ـ أن لفظة "أن" مثل " عن" سواء بسواء، فما يشترط في "عن" حتى يكون السند متصلاً، يشترط في "أنّ " أيضاً. وهذا المذهب ينسب للإمام مالك (¬1) وللجمهور من أهل العلم، قال ابن عبد البر: (فجمهور أهل العلم، على أن "عن" و"أن" سواء، وأن الاعتبار بالحروف، وإنما هو باللقاء والمجالسة والسماع والمشاهدة، فإذا كان سماع بعضهم من بعض صحيحاً، كان حديث بعضهم عن بعض أبداً بأي لفظ ورد محمولاً على الاتصال، حتى تتبين فيه علة الانقطاع) (¬2) . ولم يكن المتقدمون (¬3) يفرقون بين "عن" و "أن" بسبب عدم استقرار المصطلحات، ولأن قواعد الرواية لم تتأصل بعد. قال ابن رجب: (وقد ذكر الإسماعيلي في صحيحه أن المتقدمين كانوا لا يفرقون بين هاتين العبارتين، وكذلك ذكر أحمد أيضاً أنهم يتساهلون في ذلك ... وكان يقع ذلك منهم أحياناً على وجه التسامح وعدم التحرير. قال أحمد في رواية الأثرم في حديث سفيان عن أبي النضر عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن حُذافة في النهي عن صيام أيام التشريق: " ومالك قال فيه: عن سليمان بن يسار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث عبد الله بن حُذافة". قال أحمد: " هو مرسل، سليمان بن يسار لم يدرك عبد الله بن حذافة، قال: وهم كانوا يتساهلون بين " عن عبد الله بن حذافة" وبين " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث عبد الله بن حذافة". ¬

(¬1) مسائل الإمام أحمد لأبي داود (ص311) قال الإمام أحمد) كان مالك ـ زعموا ـ يرى عن فلان وأن فلاناً سواء، ... مثل حديث جابر أن سليكاً جاء والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، أو عن جابر عن سليك أنه جاء) . (¬2) التمهيد (1/26) . (¬3) أي الرواة من التابعين غالباً.

قيل له: وحديث أبي رافع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه يخطب ميمونة، وقال مطر: عن أبي رافع؟ قال: " نعم، وذاك أيضاً") (¬1) . وقد احتج ابن عبد البر لهذا المذهب بقوله: من المجمع عليه (أن الإسناد المتصل بالصحابي سواء قال فيه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل ذلك سواء عند العلماء) (¬2) وهذا المذهب هو اختيار ابن عبد البر. 2 ـ أن صيغة الأداء " أن" محمولة على الانقطاع، حتى يتبين السماع من جهة أخرى، فهي و" عن " ليستا سواء عند أصحاب هذا القول (¬3) . قال البرديجي (¬4) "أن" محمولة على الانقطاع، حتى يتبين السماع في ذلك الخبر بعينه من طريق آخر أو يأتي ما يدل على أنه قد شهده وسمعه) (¬5) . وقد نُسب هذا المذهب إلى البرديجي، ونسبه ابن الصلاح (¬6) إلى الإمام أحمد بن حنبل، وإلى يعقوب بن شيبة، وقال: (ووجدت مثل ما حكاه ـ يعني ابن عبد البر ـ عن البرديجي أبي بكر الحفاظ، للحافظ الفحل يعقوب بن شيبة في مسنده الفحل فإنه ذكر ما رواه أبو الزبير عن ابن الحنفية عن عمار قال: "أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي فسلمت عليه، فرد عليّ السلام" وجعله مسنداً موصولاً وذكر رواية قيس بن سعد لذلك عن عطاء بن أبي رباح عن ابن الحنفية: "أن عماراً ¬

(¬1) شرح علل الترمذي (1/381 ـ 382) وانظر كلام الإمام أحمد في المراسيل لابن أبي حاتم (ص 71 ـ 72) . (¬2) التمهيد (1/26) . (¬3) التمهيد (1/26) وعلوم الحديث (ص57) وجامع التحصيل (ص122) . (¬4) هو أبو بكر أحمد بن هارون البرديجي البغدادي، من الحفاظ الأثبات، قال الدارقطني: ثقة جبل، وقال الخطيب: كان ثقة فهماً حافظاً، له تصانيف، مات سنة إحدى وثلاثمائة انظر تذكرة الحفاظ (2/746) . (¬5) التمهيد (1/26) . (¬6) علوم الحديث (ص57) .

مر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي، فجعله مرسلاً من حيث كونه قال: " أن عماراً فعل" ولم يقل " عن عمار"، والله أعلم) (¬1) . ولكن العراقي خالف ابن الصلاح فيما ذهب إليه من نسبة هذا المذهب إلى الإمام أحمد ويعقوب بن شيبة، فقال: (وما حكاه المصنف ـ يعني ابن الصلاح ـ عن أحمد بن حنبل وعن يعقوب بن شيبة من تفرقتهما بين "عن" و "أن" ليس الأمر فيه على مافهمه من كلامهما، ولم يفرق أحمد ويعقوب بين " عن" و "أن" لصيغة "أن" ولكن لمعنى آخر) (¬2) . وسيأتي بيان مذهب الإمام أحمد بن حنبل في المذهب الثالث. 3 ـ أن صيغة الأداء "أنَّ" لها حالتان. أـ إذا قالها الراوي في سند (وكان خبرها قولاً لم يتعد لمن لم يدركه (¬3) التحقت بحكم " عن" بلا خلاف. كأن يقول التابعي: إن أبا هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت كذا، فهو نظير ما لو قال: عن أبي هريرة أنه قال: سمعتُ كذا) (¬4) . ب ـ إذا جاءت في سند، (وكان خبرها فعلاً، نُظر إن كان الراوي أدرك ذلك التحقت بحكم " عن"، وإن كان لم يدركه لم تلتحق بحكمها. فقول يعقوب بن شيبة في رواية عطاء عن ابن الحنفية: أن عماراً مر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - هذا مرسل. إنما هو من جهة كونه أضاف إلى الصيغة الفعل الذي لم يدركه ابن الحنفية، وهو مرور عمار. إذ لا فرق أن يقول ابن الحنفية: أن عماراً مر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بعمار، فكلاهما سواء في ظهور الإرسال. ولو كان أضاف إليها ـ أي الصيغة ¬

(¬1) علوم الحديث (ص58) . (¬2) التقييد والإيضاح (ص85) . (¬3) قوله "لم يتعد لمن لم يدركه " يعني: أن لا يكون في خبر " أن " الذي هو قول وليس بفعل؛ ذكرٌ لأحدٍ لم يدركه الراوي، فإذا لم يكن في خبرها القولي إلا من عُلم بأن الراوي أدركه حُكم بأنها تلحق"عن" في الحكم. (¬4) النكت على كتاب ابن الصلاح (2/591) .

"أن" ـ القول كأن يقول: عن ابن الحنفية أن عماراً قال: مررت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لكان ظاهر الاتصال) (¬1) . وقد قال الحافظ زين الدين العراقي مُبيناً هذا المذهب المبني على التفصيل: (وجملة القول فيه أن الراوي إذا روى قصة، أو واقعة، فإن كان أدرك ما رواه بأن حكى قصة وقعت بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين بعض أصحابه، والراوي لذلك صحابي قد أدرك تلك الواقعة حكمنا لها بالاتصال، وإن لم نعلم أن الصحابي شهد تلك القصة، وإن علمنا أنه لم يدرك الواقعة فهو مرسل صحابي، وإن كان الراوي كذلك تابعياً كمحمد بن الحنفية مثلاً فهي منقطعة. وإن روى التابعي عن الصحابي قصة أدرك وقوعها كان متصلاً، ولو لم يصرح بما يقتضي الاتصال وأسندها إلى الصحابي بلفظ: "أن فلاناً قال " أو بلفظ " قال قال فلان" فهي متصلة أيضاً ... بشرط سلامة التابعي من التدليس، وإن لم يدركها ولا أسند حكايتها إلى الصحابي فهي منقطعة) (¬2) . وقد سئل الإمام أحمد فقيل له: (إن رجلاً قال: عروة أن عائشة قالت: يارسول الله، وعن عروة عن عائشة سواء. فقال: كيف هو سواء؟ ليس هو بسواء) (¬3) . قال العراقي موجهاً كلام الإمام أحمد: (وإنما فرَّق بين اللفظين لأن عروة في اللفظ الأول لم يسند ذلك إلى عائشة، ولا أدرك القصة، وإلا فلو قال عروة: إن عائشة قالت: قلت: يارسول الله، لكان ذلك متصلاً لأنه أسند ذلك إليها، وأما ¬

(¬1) النكت على كتاب ابن الصلاح (2/592) وإنما ذكرت كلام الحافظ ابن حجر في التعريف بين حالتي ورود صيغة "أن" مع كونه مسبوقاً بهذا، إذ نصّ ابنُ رجب في شرح علل الترمذي (1/377 ـ 382) على ذلك، وأيضاً شيخُ ابن حجر زينُ الدين العراقي نص على ذلك في كتابه "التقييد والإيضاح" (ص85 ـ 86) أقول: إنما آثرتُ كلام ابن حجر على كلام من سبقه لأن عباراته هنا كانت محررة ودقيقة في تصوير الفرق. (¬2) التقييد والإيضاح (ص86) . (¬3) مسائل الإمام أحمد لأبي داود (ص312) ووقع فيه خطأ فعدلته من الكفاية (ص447) والتقييد والإيضاح (ص85) .

اللفظ الثاني فأسنده عروة إليها بالعنعنة فكان ذلك متصلاً) (¬1) . وهذا المذهب حكى ابن المواق (¬2) اتفاق أهل النقل عليه، وأقره العراقي على هذا وقال: (وليس في ذلك خلاف بين أهل النقل.. وممن حكى اتفاق أهل النقل على ذلك الحافظ أبو عبد الله بن المواق في كتاب "بغية النقاد" (¬3) فذكر من عند أبي داود حديث عبد الرحمن بن طرفة "أن جده عرفجة قطع أنفه يوم الكلاب" الحديث (¬4) ، وقال: إنه عند أبي داود هكذا مرسل. قال: وقد نبّه ابن السكن على إرساله، فقال: فذكر الحديث مرسلاً. قال ابن المواق: وهو أمر بيِّن لا خلاف بين أهل التمييز من أهل هذا الشأن في انقطاع ما يروى كذلك، إذا عُلم أن الراوي لم يُدرك زمان القصة كما في هذا الحديث) (¬5) . وقد تعقب الحافظ ابن حجر ذلك فقال: (لكن في نقل الاتفاق نظر، وقد قال ابن عبد البر ـ في الكلام على حديث ضمرة عن عبيد الله بن عبد الله قال: "أن ¬

(¬1) التقييد والإيضاح (ص86) . (¬2) هو محمد بن أبي يحيى أبو بكر بن خلف بن فرجد بن صاف الأنصاري، المراكشي، قرطبي الأصل قديماً، فاسي حديثاً، أبو عبد الله بن المواق كان فقيهاً حافظاً محدثاً ناقداً محققاً ذاكراً أسماء الرجال وتواريخهم وأحوالهم. لازم أبو الحسن ابن القطان الفاسي، وله تعقبات علىكتابه "بيان الوهم والإبهام" سماها "المآخذ الحفال السامية" ومن مصنفاته "بغية النقاد" و"شيوخ الدارقطني" و"شرح مقدمة صحيح مسلم" وغير ذلك، ولد سنة 583 هـ، وتوفي بمراكش 642هـ انظر الذيل والتكملة " السفر الثامن" (1/272) ـ 274) والإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام (4/231 ـ 234) وعن كتابه " بغية النقاد " ينظر الرسالة المستطرفة (ص178-179) . وقد وهم في ترجمة ابن المواق هذا حاجي خليفة في كشف الظنون (1/251) وعمر كحالة في معجم المؤلفين (6/157) وغيرهما ظناً منهم أنه هـ ومحمد بن يوسف بن المواق الفقيه المتوفي سنة 898هـ المترجم له في شجرة النور الزكية (ص262) . (¬3) انظر بغية النقاد (ق1-2/أ) . (¬4) أخرجه أبو داود في سننه (4/92/ [4232] ) . (¬5) التقييد والإيضاح ص86.

عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبا واقد الليثي: ماذا كان يقرأ به النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأضحى والفطر (¬1) .. الحديث. قال: قال قوم: هذا منقطع، لأن عبيد الله لم يلق عمر بن الخطاب ري الله عنه، وقال قولم: بل هو متصل، لأن عبيد الله لقي أبا واقد. قلت: وهذا وإن كنا لا نسلمه لأبي عمر، فإنه يخدش في نقل الاتفاق) (¬2) . ومع التسليم بأن نقل اتفاق أهل النقل على هذا المذهب فيه نظر كما قرر الحافظ ابن حجر، إلا أن هذا المذهب هو الذي اختاره أحمد بن حنبل، وغيره من كبار الحفاظ، كأبي زرعة، وأبي حاتم، والدارقطني، وغيرهم من الأئمة (¬3) ، وذهب كبار المحققين إلى ترجيح هذا المذهب واختياره، كالعراقي، وابن رجب، وابن حجر. والذي يُفهم من كلام العراقي، وابن رجب، أن هذا المذهب الثالث هو عين المذهب الأول والثاني، فلا يكون في الصيغة "أن" أي خلاف، فقد قال العراقي: (فما فعله أحمد ويعقوب بن أبي شيبة صواب سواء ليس مخالفاً لقول مالك، ولا لقول غيره، وليس في ذلك خلاف بين أهل النقل) (¬4) . وقال ابن رجب: (وأما إذا روى الزهري مثلاً عن سعيد بن المسيب ثم قال مرة إن سعيد بن المسيب قال: فهذا محمول على الرواية عنه دون انقطاع، ولعل هذا هو مراد مالك الذي حكاه أحمد عنه، ولم يخالفه) (¬5) . وقد تعقب ابنُ رجب ابن عبد البر في نقله لكلام البرديجي الذي يمثل المذهب الثاني في المسألة، فقال: (ولم يذكر لفظ البرديجي، فلعله قال ذلك ¬

(¬1) أخرجه مالك في الموطأ (1/180 [8] ) ومن طريق مالك أخرجه مسلم في صحيحه (2/607) . (¬2) النكت على كتاب ابن الصلاح (2/592) . (¬3) شرح علل الترمذي (1/381) . (¬4) التقييد والإيضاح (ص8) . (¬5) شرح علل الترمذي (1/380) .

في القسم الثاني) (¬1) . ورغم ما في كلامي العراقي، وابن رجب، من وجاهة، فقد اخترت ذكر المذاهب في صيغة الأداء "أنّ"، لأن المذهبين الأول والثاني، نُقلا على وجه الإطلاق، دون تقييد أو تفصيل. وعَقِبَ أن ألممنا بمذاهب أهل الفن في الصيغة "أن" يأتي الآن دور التساؤل عن موقف الإمامين البخاري ومسلم من السند "المؤنن" ماهو؟ فأما الإمام البخاري، فقد قال الحافظ ابن رجب: (والبخاري قد يخرج من هذا القسم ـ يعني الحالة الثانية التي ذكرت في المذهب الثالث ـ في صحيحه، كحديث عكرمة أن عائشة قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة امرأة رفاعة (¬2) .. هذا على تقدير أن يكون عكرمة سمع من عائشة) (¬3) . وما قاله ابن رجب صحيح فقد أخرج البخاري في صحيحه عدداً من الأحاديث على هذه الهيئة، وقد تتبع الدارقطني بعضاً من ذلك (¬4) ، وانتقدها على البخاري، ومثالاً على ذلك قال الدارقطني: (وأخرج البخاري عن سليمان بن حرب عن محمد بن طلحة عن أبيه عن مصعب: رأى سعد أن له فضلاً فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -.. (¬5) وهذا مرسل) (¬6) . والحقيقة أن هناك ضوابط قد التفت إليها البخاري عند احتجاجه بالسند "المؤنن". ¬

(¬1) شرح العلل لابن رجب (1/380) . (¬2) أخرجه البخاري في صحيحه (10/293/ [5825] ) كتاب اللباس، باب الثياب الخضر. (¬3) شرح علل الترمذي (1/381) . (¬4) ينظر هدي الساري (ص381-387-392-394-398) أرقام الأحاديث المُنتقدة [40، 62، 74، 78، 95] . (¬5) أخرجه البخاري في صحيحه (6/104 [2896] ) كتاب الجهاد، باب من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب. (¬6) الإلزامات والتتبع (ص194) .

ومن هذه الضوابط التي راعاها الإمام البخاري في الأسانيد "المؤمننة" التي أخرجها في صحيحه ما يلي: 1 ـ أن يكون الراوي معروفاً بالرواية عمن ذكره (¬1) . 2 ـ أن يترجح له بالقرائن أن الراوي أخذه عن الشيخ المذكور في السياق (¬2) ومن هذه القرائن أن يكون الحديث موصولاً في الأصل من طريق ذلك الراوي عن شيخه. ففي الحديث الذي انتقده الدارقطني آنفاً، نصّ ابن حجر على أنه وجد الحديث موصولاً من طريق مصعب بن سعد عن أبيه أنه رأى فذكره (¬3) . ومن هذه القرائن أن يوجد في متن الحديث ما يدل على الاتصال، وأن الراوي يحكي الحديث عن شيخه (¬4) فيُستدل بهذا على أن أصل الحديث مسموع للراوي من شيخه. ولذا قال ابن حجر: (البخاري يعتمد على هذه الصيغة إذا حفت بها قرينة تقتضي الاتصال) (¬5) . وجماع القول في موقف البخاري من صيغة "أن" أنه يهتم بحال القرائن التي تحف كل سند ورد بهذه الصيغة، فإن كانت القرائن تُرجح الاتصال، فإن البخاري لا يتوانى في الاحتجاج به، وإن كان لا تتوفر له قرائن تُرجح اتصاله، فإن البخاري لا يحتج بمثله. وموقف البخاري قريب من المذهب الثالث، ولكن ليس هو بحذافيره، ولم يطبقه بحرفية، وإنما جعل القرائن هي الحكم في القبول والرفض، والحق أن في هذا الموقف وسطية وإنصافاً جليين، لا سيما إذا استحضرنا ما ذُكر من أن ¬

(¬1) هدي الساري (ص381) ، ورقم الحديث [40] . (¬2) هدي الساري (ص387) رقم الحديث [62] (¬3) هدي الساري (ص281) ورقم الحديث [40] (¬4) هدي الساري (392) ورقم الحديث [74] (¬5) هدي الساري (ص398) ورقم الحديث [95] .

المتقدمين لا يُفرقون بين "عن" و"أن" في بعض الأحيان (¬1) . وأما الإمام مسلم فلم تسعفنا المصادر بشيء عن موقفه حيال هذه الصيغة، ولكن الذي يغلب على الظن أن موقفه موافق لجمهور أهل الحديث الذي قالوا بالتفصيل بين حالتي ورود الصيغة "أن" وهو المذهب الثالث. ولكن يتبقى سؤال هام جداً حول موقف الإمام مسلم من صيغة "أن" والسؤال هو إذا روى رجل حديثاً عن آخر فقال فيه: "أن فلاناً فعل كذا" هل يكتفي في هذه الحالة عند الإمام مسلم بمجرد إمكان اللقاء فقط؟ . وقد أجاب الحافظ ابن رجب على هذا بقوله: (وهذا إنما يكون فيمن اشتهر بالرواية عن المحكي قصته، كعروة عن عائشة ـ أي التسوية بين "أن" و "عن" أما من لم يعرف له سماع منه فلا ينبغي أن يحمل على الاتصال ولا عند من يكتفي بإمكان اللقي) (¬2) . ومما يؤيد أن صيغة "أن" لا يكفي لاتصالها مجرد المعاصرة والسلامة من التدليس، ما قاله العلائي: ("عن" استقر شيوعها في الاتصال بالشروط المتقدمة، والاحتمال قائم في "أن".. والذي يقتضيه النظر أن "أن" تقتضي الاتصال بالشروط المتقدمة ـ في الحديث، لكنها أنزل درجة من "عن") (¬3) . ثانياً: صيغة الأداء "قال" ومثالها: "عن همام قال: قال قتادة: كذا " فهل هذه الصيغة تفيد الانقطاع؟ أم هي محتملة للاتصال والانقطاع؟ قال الخطيب البغدادي: (وأما قول المحدث قال فلان، فإن كان المعروف من حاله أنه لا يروي إلا ما سمعه جعل ذلك بمنزلة ما يقول فيه غيره: ثنا، وإن كان قد يروي سماعاً، وغير سماع، لم يحتج من رواياته إلا بما بين الخبر فيه) (¬4) . ¬

(¬1) انظر شرح علل الترمذي (1/381) . (¬2) شرح علل الترمذي (1/381) . (¬3) جامع التحصيل (ص122 ـ 123) . (¬4) الكفاية (ص326) .

وذكر ابن رجب أن لهذه الصيغة ثلاثة أحوال: (أحدثها: أن يكون القائل لذلك ممن يُعلم منه عدم التدليس، فتكون روايته مقبولة محتجاً بها، كهمام، وحماد بن زيد، وحجاج بن محمد، وغيرهم. قال همام: "ماقلت: قال قتادة فأنا سمعته من قتادة " وقال حماد بن زيد: "إني أكره إذا كنت لم أسمع من أيوب حديثاً أن أقول: قال أيوب كذا وكذا فيُظن أني قد سمعته " وقال شعبة ""لأن أزني أحب إلي من أن أقول؛ قال فلان، ولم أسمعه منه " وكذلك حجاج بن محمد كان إذا قال: " قال ابن جريج: فقد سمعه. والحال الثاني: أن يكون القائل لذلك معروفاً بالتدليس: فحكم قوله قال فلان، حكم قوله: عن فلان: كما سبق، وبعضهم كانت هذه عادته كابن جريج، قال أحمد: " كل شيء قال ابن جريج: قال عطاء، أو عن عطاء، فإنه لم يسمعه " وقال أيضاً: " إذا قال ابن إسحاق: وذكر فلان، فلم يسمعه منه ". الحال الثالث: أن يكون حاله مجهولاً. فهل يحمل على الاتصال أم لا؟ قد ذكر الفقهاء من أصحابنا، وأصحاب الشافعي خلافاً في الصحابي إذا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل يحمل على السماع أم لا؟ وأن الأصح حمله على السماع. وحكى ابن عبد البر عن الجمهور من العلماء أن من روى عمن صح له لقيه والسماع منه، وقال: " قال فلان" حمل على الاتصال. بل كلامه يدل على أنه إجماع منهم) (¬1) . لاريب أن الحالتين الأولى والثانية ـ اللتين ذكرهما ابن رجب ـ ليستا محل خلاف عند أحدٍ من نقاد أهل الحديث، ويتوجه النظر إلى الحالة الثالثة ـ والتي لم يُزِل ابن رجب عنها الغموض ـ في غير ما رواه الصحابة، إذ مرسل الصحابي محكوم باتصاله عند الجمهور، والذي جرى عليه عمل المحدثين هو قبول مرسل الصحابي، فإذا روى رجل فقال: " قال فلان" ولا يُعرف هل لقي من يروي عنه أم لا، ولم يتهم بتدليس، فهل يحكم باتصال حديثه؟ ¬

(¬1) شرح علل الترمذي (1/376 ـ 377) .

الذي يظهر لي أن مذهب من يقول بأنه لا يُحتج من الأسانيد إلا بما ثبت فيه اللقاء، ولو لمرة واحدة لا إشكال فيه. لأن مثل هذه الصيغة غير كافية لإثبات اللقاء فيكون السند في هذه الحالة غير متصل حتى يثبت اللقاء. وأما على مذهب من يكتفي بالمعاصرة وإمكان اللقاء، فتكون الأسانيد المروية بالصيغة "قال" محل إشكال، وإن كان من المُسلَّم به أن " العنعنة" أشهر، وأقوى في دلالة العُرف على الاتصال من الصيغة "قال " ولكن أيضاً هذه الصيغة محتملة، وليس من السهل أن أُصدر حكماً على موقف الإمام مسلم من هذه الصيغة هل هي عنده كالعنعنة أم هي أحط رتبة، وهل يكفي لاتصالها مجرد المعاصرة وإمكان اللقاء؟ لا سيما وأن أحداً لم يعرض لهذا السؤال، وكما أنه لم يوجد في نصوص الإمام مسلم التي وقفت عليها ما يجلي الأمر، فأدع الأمر على الاحتمال. قال العلائي مبيناً منزلة صيغة "قال" من أخواتها: (إن رتبة "قال" مجردة منحطة عن رتبة " عن"، و"أن" أياً، إلا أن يصرح الراوي بأنه لا يقولها إلا فيما سمعه، أو يُعرف ذلك من عادته) (¬1) . ومما يحسن أن أختم به هذا المبحث كلام ابن عبد البر قاله في الألفاظ والصيغ المحتملة يُعد بمثابة قاعدة في هذا الشأن، قال ـ رحمه الله تعالى ـ: (إن الاعتبار ليس بالحروف، وإنما هو باللقاء والمجالسة والسماع والمشاهدة، فإذا كان سماع بعضهم من بعض صحيحاً، كان حديث بعضهم عن بعض أبداً بأي لفظ ورد محمولاً على الاتصال، حتى تتبين فيه علة الانقطاع) (¬2) . ولابد من تقييد هذا الإطلاق، فيمن لم يكن مدلساً، إذ عنعنة المدلس، وكل صيغ الأداء غير الصريحة في ثبوت السماع؛ إذا جاءت في أسانيد المدلسين، لا تحمل على الاتصال، ولابد أيضاً من استحضار ماقيل في الإسناد"المؤنن" من تفصيل تبناه أكثر المحدثين لتقييد الكلام السابق. ¬

(¬1) جامع التحصيل (ص124) . (¬2) التمهيد (1/26) .

المبحث الخامس العنعنة في السند هل هي من الشيخ أم من تصرف التلميذ ومن دونه؟

المبحث الخامس العنعنة في السند هل هي من الشيخ أم من تصرف التلميذ ومن دونه؟ قد يكون من المُسلّم به لدى البعض الاعتقاد بأن العنعنة في السند هي من لفظ الراوي عن المروي عنه، فسفيان بن عيينة إذا روى عن الزهري عن أبي سلمة عن عائشة، فإن الزهري هو الذي قال: " عن أبي سلمة " وأبو سلمة هو الذي قال: " عن عائشة". ولكن الأمر ليس على إطلاقه، وإن كان البعض بتوهم ذلك، والذي أُرجحه أن العنعنة قد تكون من تصرف التلاميذ أيضاً، بل ذهب الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي إلى أكثر من ذلك فقال: (كلمة "عن" ليست من لفظ الراوي الذي يذكر اسمه قبلها بل هي من لفظ من دونه) (¬1) . ولأهمية هذه القية في تصور موضوع بحثنا، شعرت بضرورة تسليط بعض الأضواء عليها قدر الطاقة، وبما يتناسب مع طبيعة موضوع البحث، وسأذكر فيما يلي نصوصاً، فيها ما يشير إلى أن رواة الأسانيد قد يتصرفون في إبدال لفظ "حدثنا" و"سمعت" إلى لفظة "عن". 1 ـ قال الخطيب البغدادي: (إنما استجاز كتبة الحديث الاقتصار على العنعنة لكثرة تكررها، ولحاجتهم إلى كتب الأحاديث المجملة بإسنادواحد، فتكرار القول من المحدث ثنا فلان عن سماعه من فلان يشق ويُضعف، لأنه لو قال: أحدثكم عن سماعي من فلان، وروى فلان عن سماعه من فلان، وفلان عن سماعه من فلان، حتى يأتي على أسماء جميع مسندي الخبر إلى أن يرفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل حديث يرد مثل ذلك الإسناد، لطال وأضجر، وربما كثر رجال الإسناد حتى يبلغوا عشرة وزيادة على ذلك، وفيه إضرار بكتبة الحديث، وخاصة ¬

(¬1) التنكيل لما ورد في تأنيب الكوثري من أباطيل (1/86) .

المقلين منهم، والحاملين لحديثهم في الأسفار، ويذهب بذكر ما مثلناه مدة من الزمان، فساغ لهم لأجل هذه الضرورة استعمال "عن فلان") (¬1) . 2 ـ (قال الحاكم: قرأت بخط محمد بن يحيى سألتُ أبا الوليد: أكان شعبة يفرق بين "أخبرني" و "عن"؟ فقال: أدركت العلماء وهم لا يفرقون بينهما) (¬2) . وعقَّب ابن رجب على ذلك بقوله (وحمله البيهقي على من لا يُعرف بالتدليس، ويمكن حمله على من ثبت لقيه أيضاً) (¬3) . 3 ـ قال يعقوب بن سفيان الفسوي: (سمعت عبد الرحمن بن إبراهيم دحيماً قال: حدثنا الوليد (¬4) قال: كان الأوزاعي إذا حدثنا يقول: حدثنا يحيى قال: حدثنا فلان ثنا فلان حتى ينتهي. قال الوليد: فربما حدثت كما حدثني، وربما قلت: عن عن تخففنا من الأخبار) (¬5) . 4 ـ وسأل عبد الله بن أحمد أباه: (أبو معاوية فوق شعبة ـ أعني ـ في حديث الأعمش؟ فقال: أبو معاوية في الكثرة والعلم ـ يعني علمه بالأعمش ـ وشعبة صاحب حديث يؤدي الألفاظ والأخبار، أبومعاوية عن عن..) (¬6) . 5 ـ وقال الإمام أحمد: (كنت أسأل يحيى بن سعيد عن أحاديث إسماعيل بن أبي خالد عن عامر عن شريح وغيره، فكان في كتابي "إسماعيل قال حدثنا عامر عن شريح" فجعل يحيى يقول: إسماعيل عن عامر، فقلت: إن في ¬

(¬1) الكفاية (ص429) . (¬2) شرح علل الترمذي (1/364) . (¬3) المرجع نفسه. (¬4) هو الوليد بن مسلم، ويُحتمل أن يكون الوليد بن مزيد، فكلاهما يرويان عن الأوزاعي ويروي عنهما دحيم. ولكن مما يرجح أنه الوليد بن مسلم ما ذكر في ترجمة الوليد بن مزيد من أن أصوله جيدة ومتقنة وأكثرها "سمعت الأوزاعي" ينظر تهذيب التهذيب (11/150 ـ 151) . (¬5) المعرفة والتاريخ (2/464) والكفاية (ص429) من طريق يعقوب بن سفيان به. (¬6) العلل لأحمد برواية ابنه عبد الله (1/399) .

كتابي حدثنا عامر، حدثنا عامر، فقال لي يحيى: هي صحاح إذا كان مما ليس يسمعه إسماعيل من عامر أخبرته) (¬1) . 6 ـ وقال الإمام أحمد: (قال عفان: جاء جرير بن حازم إلى حماد بن زيد فجعل يقول: حدثنا محمد قال: سمعت شريحاً، حدثنا محمد قال: سمعت شريحاً. فجعل حماد يقول: ياأبا النضر عن محمد عن شريح، عن محمد عن شريح) (¬2) . فبعض الرواة من المحدثين طلباً للتخفيف يتصرفون في صيغ الأداء فيبدّلون "حدثنا" و "سمعت" و"أخبرنا" إلى صيغة أخف واسهل هي "عن" ولكن أيقتصر تصرف بعض الرواة على صيغ الأداء الثابتة الاتصال أم أن التصرف يمكن أن يكون أيضاً بتبديل صيغ الأداء المحتملة كالصيغة "حدث فلان"، "قال فلان"، "ذكر فلان"، "كان فلان يقول" مما ليس بصريح في الاتصال؟ . تولى العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي الإجابة عن هذا السؤال فقال: (اُشتهر في هذا الباب العنعنة مع أن كلمة "عن" ليست من لفظ الراوي الذي يذكر اسمه قبلها، بل هي من لفظ من دونه، وذلك كما لو قال همام: "حدثنا قتادة عن أنس" فكلمة "عن" من لفظ همام، لأنها متعلقة بكلمة " حدثنا" وهي من قول همام، ولأنه ليس من عادتهم أن يبتدئ الشيخ فيقول: "عن فلان" وإنما يقول: "حدثنا" أو أخبرنا، أو قال أو ذكر، أو نحو ذلك، وقد يبتدئ فيقول: " فلان ... " كما ترى بعض أمثلة ذلك في بحث التدليس من (فتح المغيث) (¬3) ، وغيره، ولهذا يكثر في كتب الحديث إثبات "قال " في أثناء الإسناد قبل "حدثنا " و "أخبرنا" وذلك في نحو قول البخاري: " حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال: حدثنا يحيى بن سعيد" وكثيراً ما تحذف فيزيدها الشراح أو قراء الحديث (¬4) ولا تُثبت قبل كلمة "عن" وتصفح إن شئت (شرح القسطلاني على صحيح البخاري) . ¬

(¬1) العلل برواية عبد الله بن أحمد (1/208) ، (2/65 ـ 66) ، (2/152) . (¬2) العلل برواية عبد الله بن أحمد (2/146) . (¬3) انظر فتح المغيث (1/183) . (¬4) نص العلماء على أن كلمة "قال" وإن لم تكتب في السند فيجب التلفظ بها وقت القراءة، انظر علوم الحديث (ص204) وشرح مسلم للنووي (1/36) .

فبهذا يتضح أنه في قول همام " حدثنا قتادة عن أنس" لا يُدرى كيف قال قتادة، فقد يكون قال: " حدثني أنس"، أو "قال أنس" أو " حدث أنس"، أو " ذكر أنس" أو "سمعت أنساً" أو غير ذلكمن لاصيغ التي تصرح بسماعه من أنس أو تحتمله لكن لا يُحتمل أن يكون قال: "بلغني عن أنس " إذ لو قال هكذا لزم همام أن يحكي لفظه أومعناه كأن يقول: "حدثني قتادة عمن بلغه عن أنس " وإلا كان همام مدلساً تدليس التسوية وهو قبيح جداً) (¬1) . وما قاله الشيخ المعلمي ـ رحمه الله تعالى ـ هو الصواب في نظري، إلا أنني لا أرى التعميم في أن صيغة "عن" هي من التلميذ وليست من الشيخ ـكما يقول هو رحمه الله ـ لأنه أحياناً قد يبتدئ بهذا الشيخ لتلاميذه، ويشهد لذلك: 1 ـ ما أخرجه أبو زرعة الدمشقي في تاريخه إذ قال: (حدثني عبد الرحمن بن إبراهيم عن عمرو بن أبي سلمة قال: قلت للأوزاعي في المناولة، أقول فيها: حدثنا؟ قال: إن كنت حدثتك فقل. فقلت: أقول: أخبرنا؟ قال: لا. قال: قلت: فكيف أقول؟ قال: قل: قال أبو عمرو، وعن أبي عمرو) (¬2) . فلم يمانع الاوزاعي من أن يُبدأ التحديث بـ"عن" وهذا يدل على أن الأمر كان سائغاً عندهم أن يبتدئ الشيخ أحياناً بقوله: " أحدثكم عن فلان" أو "عن فلان قال.. " أو " عن فلان".2 ـ أخرج مسلم في صحيحه هذا الحديث الذي قال فيه: (وحدثني أبو أيوب الغيلاني، سليمان بن عبد الله، وحجاج بن الشاعر، قالا: حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا قُرة عن أبي الزبير حدثنا جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به دخل النار ". قال أيوب: قال أبو الزبير: عن جابر) (¬3) . ¬

(¬1) التنكيل (1/86) . (¬2) تاريخ أبي زرعة الدمشقي (1/264) . (¬3) صحيح مسلم (1/94) .

فأثبت أبو أيوب الغيلاني: أن كلمة "عن" متعلقة بقول أبي الزبير، فهو قائلها. 3 ـ قال الذهبي: (فإذا قال الوليد أو بقية: عن الأوزاعي، فواهٍ، فإنهما يدلسان كثيراً عن الهلكى) (¬1) . فنسب الذهبي إلى الوليد وبقية كلمة "عن" على أنهما قد قالاها. 4 ـ قال النسائي في شأن بقية بن الوليد: (إذا قال: حدثنا، وأخبرنا، فهو ثقة وإذا قال: عن فلان، فلا يؤخذ عنه، لأنه لا يُدرى عمن أخذه) (¬2) . وهنا جعل النسائي قائل كلمة "عن" هو بقية فأضافها إليه، وبقية بن الوليد، والوليد بن مسلم مشهوران بالتدليس (¬3) ومعروفان به. ولاشك في أن ما ذهب إليه المعلمي، مذهب قوي ومتين، والملاحظة التي أبديتها تقتصر فقط على جانب التعميم الذي يفهم من كلامه، فإذا تقرر أن بعض الرواة يُبدِّلون الصيغة " عن" بصيغ الأداء الدالة على السماع أو المحتملة له، وأنه ليست كل كلمة "عن" في السند هي من تصرف رواة السند بل قد تكون من الشيخ يبتدئ بها مجلسه فيحملها الرواة عنه دون تصرف منهم. إذا تقرر ذلك تتضح لنا أهمية هذا المبحث إذ يكون من المحتمل في الأسانيد المعنعنة التي لم يثبت فيها لقاء أو سماع، أن الراوي قد قال في حديثه عن شيخه: " حدثني" أو " حدثنا" أو "سمعت" أو "أخبرنا" ونحو ذلك ولكن التلميذ أو أحد رواة السند طلباً للتخفف اختصر وقال: "عن" عوضاً عن "حدثني" أو "سمعت" ومن المحتمل أيضاً أن الراوي قد قال: " ذكر فلان" أو "قال فلان" إلا أن التلميذ أو أحد رواة السند قال: "عن". فقد يكون السماع ثابتاً، ولكن السند المنقول ليس فيه غلا العنعنة دون لفظ السماع، وهذا الاحتمال يكون قائماً في الأسانيد المعنعنة التي لم يثبت لقاء بعض ¬

(¬1) الموقظة (ص46) . (¬2) تهذيب التهذيب (1/475) . (¬3) ذكرهما الحافظ ابن حجر في الطبقة الرابعة من طبقات المدلسين، انظر تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس (ص121، 134) .

رواتها من بعض، أو يرد سماعٍ بعضهم من بعضٍ، فتصبح عملية مراعاة القرائن مع قيام ذلك الاحتمال، أمراً وجيهاً، بل يكون متعيناً.

الفصل الثالث تمييز هذه المسألة من المسائل المشاهبة

الفصل الثالث تمييز هذه المسألة من المسائل المشاهبة المبحث الأول: تمييزها من مسائل عدم الاتصال في السند المبحث الثاني: تمييزها من مسألة شرط البخاري ومسلم. المبحث الأول تمييزها من مسائل عدم الاتصال في السند تتلخص المسألة موضع البحث فيما يلي: إذا روى محدث غير مدلس عن محدث آخر حديثاً، فهل يكفي للاحتجاج به مجرد المعاصرة مع إمكان اللقاء؟ ، أم لابد من ثبوت اللقاء بين المُحدِث والمُحدَث عنه ولو مرة واحدة؟ . فأما إذا كان في ذلك الحديث إرسال (¬1) أو إعضال (¬2) ، أو انقطاع (¬3) أو تدليس (¬4) ، فلا يكون ذلك الحديث موضع احتجاج، لأنه سيكون حينذاك ضعيفاً لعلة عدم الاتصال. فالفرق بين المسألة التي هي موضع البحث، وهذه الأمور التي تُعِل الحديث ¬

(¬1) المرسل: ما قال فيه التابعي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواء كان من كبار التابعين أومن صغارهم، وهذاهو المشهور عند كثير من أهل الحديث، ويطلق كثير من أئمة الحديث المتقدمين مسمى "المرسل" على: ما سقط من سنده رجل واحد، سواء كان المُرسل له تابعياً أو من بعده، انظر جامع التحصيل (ص31) . (¬2) المعضل: هو ما سقط من إسناده اثنان فصاعداً، انظر الباعث الحثيث (ص43) . (¬3) المنقطع: هو أن يسقط من الإسناد رجل، انظر الباعث الحثيث (ص41) . (¬4) التدليس: أن يروي عمن لقيه مالم يسمعه منه، انظر الباعث الحثيث (ص45) وهذا هو المشهور عند أكثر المتأخرين في تعريف تدليس الإسناد.

المبحث الثاني تمييزها من مسألة شرط البخاري ومسلم

بعدم الاتصال، أن السند في مسألتنا سليم في الظاهر من الإرسال والانقطاع والتدليس لذا أصبح موضع نظر هل يُحتج به بعد سلامته من كل ما يسبب عدم الاتصال بمجرد المعاصرة وإمكان اللقاء؟ أم لابد من ثبوت اللقاء ولو مرة واحدة؟ أما فإذا كان السند مرسلاً أومعضلاً أو منقطعاً أو مُدلَّساً، فلا يبحث فيه عن المعاصرة وإمكان اللقاء أو ثبوته، وهذا في ـ نظري ـ ليس محل اشتباه فالفرق واضح وجلي بين الأمرين. ولكن السؤال الذي يحتاج إلى إجابة هو: ما الفرق بين المرسل الخفي والمسألة السابقة؟ والمرسل الخفي هن: رواية المحدث عمن عاصره ولم يلقه (¬1) . فالاشتراك بينهما في المعاصرة، إلا أنه في المرسل الخفي قد قام الدليل على عدم لُقي المحدث لمن عاصره، إما بتصريح المحدث نفسه، أو بتصريح إمام مطلع (¬2) فأمر المعاصرة لم يعد على الاحتمال بل تأكدنا من أن عدم التلاقي هو الراجح. بينما في المسألة السابقة لم يأتِ ما يُثبت عدم التلاقي بين المتعاصرين. بل الأمر باقٍ على الاحتمال إذ اللقاء ممكن وجائز، ولا يوجد ما يدل على عدم الاتصال. وبهذا يتجلى الفرق بين أنواع عدم الاتصال، والمسألة التي هي موضع البحث. المبحث الثاني تمييزها من مسألة شرط البخاري ومسلم. يكثر في كلام بعض العلماء على الأحاديث أن يقولوا: هذا الحديث على ¬

(¬1) نزهة النظر (ص43) . (¬2) انظر نزهة النظر (ص43) حول كيف تعرف عدم الملاقاة؟ .

شرط البخاري، وهذا الحديث على شرط مسلم، وهذا على شرط الشيخين فما الذي يقصده من يطلق مثل هذه العبارات كأبي عبد الله الحاكم، ومن جاء بعده؟ هل القصد من قولهم: هذا الحديث على شرط البخاري أي أن هذا الحديث قد ثبت فيه لقاء كل رواته بعضهم من بعض، كما هو شرط البخاري في السند المعنعن؟ . وهل القصد من قولهم: هذا الحديث على شرط مسلم أي أن هذا الحديث متصل ولو لم يثبت فيه لقاء بعض رواته من بعض اكتفاءً بالمعاصرة وإمكان اللقاء؟ ثم إذا كان مما في السؤالين الآنفين صحيحاً فماذا يعني قولهم: هذا الحديث على شرط الشيخين، وقد عُلِم أن مذهبيهما في السند المعنعن مختلفان؟ . في البدء لابد من التأكيد على أن ما ورد في الأسئلة السابقة ليس صواباً، والصحيح أني لم أجد أحداً من الأئمة قد بيّن مراد العلماء في قولهم: على شرط البخاري أنه بمعنى ثبوت اللقاء بين رواة السند، أو قولهم: على شرط مسلمٍ أنه بمعنى أن المعاصرة وإمكان اللقاء متحققان في السند ومما يزيدنا يقيناً أنه يستحيل أن يكون المراد من شرط البخاري أو مسلم ما سبق هو مفهوم قولهم: على شرط الشيخين، مع معرفتنا باختلاف قولهما في الحديث المعنعن، ولأن مذهب البخاري في السند المعنعن إذا تحقق في سندٍ لزم أن يتحقق مذهب مسلم، فالأولى ـ لو كان الأمر كذلك ـ أن يقال: على شرط البخاري فقط. والحق الذي رجحه عدد من المحققين أن معنى قول العلماء في حكمهم على بعض الأحاديث: هذا على شرط الشيخين، وهذا على شرط البخاري، وهذا على شرط مسلم، يعني أن رجال سند هذا الحديث قد أخرج لهما الشيخان، لذا يصفونه بأنه على شرطهما، فأما إذا كان رجال سنده مُخرج لهم في صحيح البخاري، فإنهم يصفون الحديث الذي هذه حاله بأنه على شرط البخاري، وإذا كان رجال سند الحديث مُخرج لهم في صحيح مسلم، يصفون الحديث بأنه على شرط مسلم.

وهذا هو مراد الحاكم إذا أطلق هذه العبارات (¬1) ، وهو اختيار ابن الصلاح (¬2) والنووي (¬3) وابن دقيق العيد (¬4) والذهبي (¬5) وابن حجر (¬6) وغيرهم. وقد قيّد غير واحد من المحققين ما سبق بأنه لا يصح إطلاق الحكم على حديث بأنه على شرط الشيخين، أو على شرط أحدهما إلا في حالة كون ذلك السند قد أُخرج عندهما بصورة الاجتماع، فأما إن كانا أخرجا لرجاله بصورة الانفراد فلا يكون على شرطهما. قال ابن الصلاح: (من حكم لشخص بمجرد رواية مسلم عنه في صحيحه بأنه من شرط الصحيح عند مسلم، فقد غفل وأخطأ، بل ذلك يتوقف على النظر في أنه كيف روى عنه، وعلى أي وجه روى عنه) (¬7) . وقال ابن حجر: (فعلى من يعزو إلى شرطهما، أو شرط واحد منهما، أن يسوق ذلك السند بنسق رواية من نسب إلى شرطه، ولو في موضعٍ من كتابه) (¬8) . وقال أيضاً: (لا يكون الحديث على شرطهما إلا إذا احتجا برواته على صورة الاجتماع، فإذا كان الإسناد قد احتج كل واحد منهما برجل منه، ولم يحتج بآخر منه كالحديث الذي يروى عن طريق شعبة مثلاً عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فإن مسلماً احتج بحديث سماك إذا كان من رواية الثقات عنه، ولم يحتج بعكرمة، واحتج البخاري بعكرمة دون ¬

(¬1) انظر النكت على كتاب ابن الصلاح (1/320) . (¬2) صيانة صحيح مسلم (ص72-73) . (¬3) إرشاد طلاب الحقائق إلى معرفة سنن خبر الخلائق (1/124) وتدريب الراوي (1/127) . (¬4) التقيد والإيضاح (ص29-30) . (¬5) نزهة النظر (ص31 ـ 32) والنكت على كتاب ابن الصلاح (1/320-321) ، وتدريب الراوي (1-128) . (¬6) صيانة صحيح مسلم (ص99) وتدريب الراوي (1/129) . (¬7) تدريب الراوي (1/129) . (¬8) أبو الفتح القشيري هو ابن دقيق العيد، واسمه محمد بن علي بن وهب بن مطيع القشيري

سماك، فلا يكون الإسناد والحالة هذه على شرطهما حتى يجتمع فيه صورة الاجتماع. وقد صرح بذلك الإمام أبو الفتح القشيري (¬1) ، وغيرهما) (¬2) . وقال السخاوي: (الشرط إنما يتم إذا خُرِّج لرجال السند بالصورة المجتمعة) (¬3) . وبما تقدم يُعلم أنه لا يصح وصف حديث بأنه على شرط الشيخين، أو على شرط أحدهما، حتى يجمع أموراً ثلاثة هي: 1 ـ أن يكون إسناد ذلك الحديث محتجاً برواته في الصحيحين أو أحدهما. 2 ـ أن يكون إسناد ذلك الحديث مُخرج في الصحيحين أو أحدهما على صورة الاجتماع، وليس على صورة الاجتماع، وليس على صورة الانفراد. 3 ـ أن يكون الإسناد بالإضافة إلى الأمرين السابقين سالماً من العلل، كعنعنة مدلس أو وجود من اختلط في آخر عمره.. (¬4) . فحيثما وُجد الحكم على حديث بأنه على شرط الشيخين أو على شرط أحدهما، فإن معنى ذلك رجال الإسناد في كتابيهما مع التقييد السالف بيانه قبل أسطر، ولا ينصرف المعنى إلى مذهبيهما في السند المعنعن لما تقرر. ¬

(¬1) النكت على كتاب ابن الصلاح (1/325) بتصرف يسير. (¬2) فتح المغيث (1/49) . (¬3) هذه الأمور الثلاثة موجودة في كلام الحافظ ابن حجر في النكت (1/314 ـ 315) . (¬4) .

الفصل الرابع الجذور التاريخية للمسألة

الفصل الرابع الجذور التاريخية للمسألة إن أقدم وثيقة بين أيدينا شرحت شروط الاحتجاج بالسند المعنعن، وعرضت الآراء في المسالة وأدلة كل رأي، هي مقدمة صحيح الإمام مسلم بن الحجاج. ومن المعروف أن شيخي الإمام مسلم، علي بن المديني، ومحمد بن إسماعيل البخاري قد قالا باشتراط ثبوت اللقاء ولو مرة واحدة في السند المعنعن كي يحتج به، وأظهرا ذلك في مصنفاتهما، ولكنهما لم يتعرضا إلى شرح مذهبهما وتحديده وأدلته، بل اكتفيا بالتطبيق العملي للمذهب الذي ينتحلانه. وهذا ما يدعو إلى التساؤل: متى بدأ النقاد يتكلمون في شروط اتصال السند المعنعن؟ ولأهمية هذا السؤال، ولأن المصادر التي وقفتُ عليها ـ لم تتعرض للإجابة عليه فقد تطلبتُ قدر طاقتي، النصوص التي فيها إشارات حول هذه النقطة في أثناء البحث عن موضوع رسالتي هذه. وقد عثرت على نصوص لشعبة بن الحجاج، ويحيى بن سعيد القطان، فيها إشارات واضحة على أن السند المعنعن لا يعتبر متصلاً مالم يثبت سماع رواته بعضهم من بعض، ومن هذه النصوص: أولاً: بعض ما جاء عن شعبة بن الحجاج في ذلك: 1 ـ قال وكيع بن الجراح (قال شعبة: فلان عن فلان مثله لا يجزي، قال وكيع: وقال سفيان الثوري يجزي) (¬1) . وقال شعبة ايضاً (كل حديث ليس فيه "حدثنا" و"أخبرنا" فهو مثل ¬

(¬1) العلل لأحمد برواية ابنه عبد الله (2/21) .

الرجل بالفلاة معه البعير ليس له خطام) (¬1) . وقال أيضاً: (كل حديث ليس فيه "حدثنا"، و"أنبأنا"؛ فهو خل أو بقل) (¬2) . وكل هذه النصوص تؤكد اعتناء شعبة بتفقد السماعات في الأسانيد، وقد طبَّق كلامه السابق في عدة نصوص سآتي على ذكرها الآن. 2 ـ قال شعبة: (قد أدرك رُفيع أبو العالية علي بن أبي طالب، ولم يسمع منه شيئاً) (¬3) . ورُفيع بن مهران، أبو العالية الرياحي، البصري، أدرك الجاهلية وأسلم بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بسنتين، ودخل على أبي بكر، وصلى خلف عمر (¬4) . وقد أثبت علي بن المديني سماعه من عمر بن الخطاب ومن علي بن أبي طالب (¬5) . والبخاري أيضاً أثبت سماعه من علي (¬6) . وليس معنى قول شعبة: (ولم يسمع منه شيئاً) أنه لم يرو عنه، فقد قال البخاري: (وقال آدم حدثنا شعبة عن قتادة قال: سمعت أبا العالية، وكان أدرك علياً قال: قال علي: القضاة ثلاثة) (¬7) . وشعبة لم يقنع بمجرد المعاصرة وإمكان اللقاء، بل جزم بأن أبا العالية لم يسمع من علي بن أبي طالب مع تيقنه بأنه أدركه وروى عنه. 3 ـ وقال حجاج بن محمد الأعور: (قلت لشعبة: قد أدرك ربعي علياً؟ ¬

(¬1) كتاب المجروحين لابن حبان (1/37) . (¬2) كتاب المجروحين لابن حبان (1/92) والمحدث الفاصل (ص517) وسير أعلام النبلاء (7/208) . (¬3) تهذيب التهذيب (3/284) . (¬4) تهذيب التهذيب (3/285) ، ولم أجد نص علي بن المديني في القطعة المطبوعة من كتابه " العلل". (¬5) التاريخ الكبير (3/326) . (¬6) التاريخ الكبير (3/226 ـ 327) . (¬7) طبقات ابن سعد (6/127) وتاريخ دمشق لابن عساكر (6/200) .

قال: نعم. حَدَّث عن علي، ولم يقل: سمع) (¬1) . وربعي هو ابن حِراش بن جحش العبسي، أبو مريم الكوفي، قدم الشام وسمع خطبة عمر بالجابية (¬2) . وحديث ربعي عن علي في الصحيحين (¬3) وليس في الصحيحين أو أحدهما لربعي عن علي غيره. ومن العجب أن شعبة هو راوي حديث ربعي عن علي وفيه التصريح بسماع ربعي من علي، قال البخاري: (حدثنا علي بن الجعد قال: أخبرنا شعبة قال: أخبرني منصور قال: سمعت ربعي بن حِراش يقول: سمعتُ علياً يقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "لا تكذبوا عليَّ، فإنه من كذب عليَّ فليلج النار") وعند مسلم أيضاً من طريق محمد بن جعفر غندر عن شعبة عن منصور عن ربعي أنه سمع علياً رضي اللهع نه يخطب.. الحديث. فلعل شعبة لم يجد سماع ربعي من علي في أول الأمر فقال ما نقله عنه حجاج بن محمد، ثم بعد ذلك وجد نص السماع في رواية منصور عن ربعي. وليس الذي يعنينا في هذا الفصل ماهو الصواب في سماع ربعي من علي، وإنما كيف تعامل شعبة مع الأسانيد المعنعنة التي لم يثبت عنده سماع رواتها من بعض، وقد لاحظنا في هذا النص أن شعبة مقر بإدراك ربعي لعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ ولكنه لم يقبل بذلك وقال: (لم يقل: سمع) أي أنه لم يرد عنه ما يثبت أنه سمع من علي. 4 ـ قال الإمام أحمد بن حنبل: (حدثنا محمد بن جعفر وبهز وحجاج قالوا: حدثنا شعبة قال: سمعتُ علقمة بن مرثد يحدث عن سعد بن عُبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان بن عفان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن خيركم من علَّم القرآن أو تعلمه ". ¬

(¬1) تهذيب التهذيب (3/326) . (¬2) صحيح البخاري (1/241/ [106] وصحيح مسلم "المقدمة" (1/9) . (¬3)

قال محمد بن جعفر وحجاج: فقال أبو عبد الرحمن: فذاك الذي أقعدني هذا المقعد. قال حجاج: قال شعبة: ولم يسمع أبو عبد الرحمن من عثمان، ولا من عبد الله (¬1) ولكن قد سمع من علي) (¬2) . وشعبة يقول ذلك في أبي عبد الرحمن السلمي مع علمه أن أبا عبد الرحمن قد أدرك عثمان بن عفان وعاصره، فقد أخرج البخاري في صحيحه (¬3) الحديث السابق عن شعبة بسنده وورد فيه: (قال: واقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج) والقائل هو سعد بن عبيدة كما رجح الحافظ ابن حجر (¬4) . فلم يكن خافياً على شعبة بأن أبا عبد الرحمن السلمي لم يسمع من عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ ولا يُعرف أبو عبد الرحمن بتدليس حتى يقال: لعل شعبة جزم بعدم سماعه لأن أبا عبد الرحمن مدلس. وقد جزم البخاري بسماع أبي عبد الرحمن من عثمان ومن عبد الله بن مسعود (¬5) . 5قال يحيى بن سعبد القطان: (سمعت شعبة ينكر أن يكون مجاهد سمع من عائشة) (¬6) . وقال يحيى بن سعيد القطان: في تحديث موسى الجهني عن مجاهد ¬

(¬1) هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (¬2) المسند للإمام أحمد 01/336/ [412] تحقيق أحمد شاكر، وفي كتاب "المراسيل" لابن أبي حاتم (ص94) نقل كلام شعبة. (¬3) صحيح البخاري (8/692/5027] ) كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه. (¬4) فتح الباري (8/695) . (¬5) انظر التاريخ الكبير (5/73) والتاريخ الصغير (1/232) فقد قال البخاري: (سمع علياً وعثمان وابن مسعود) . (¬6) المراسيل لابن أبي حاتم (ص161) .

"خرجت علينا عائشة رضي الله عنها " (¬1) : (حدث به شعبة فأنكره - يعني أنكر أن يكون مجاهد سمع من عائشة -) (¬2) . وموسى الجهني هو موسى بن عبد الله الجهني، وثقه يحيى بن سعيد القطان، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والنسائي، والعجلى، وابن حبان، وابن سعد، وقال أبو زرعة: صالح، وقال أبو حاتم: لا بأس به (¬3) . وقال الحافظ ابن حجر: (ثقة عابد لم يصح أن القطان طعن فيه) (¬4) . ورغم أن في حديث موسى الجهني - الذي بلغ شعبة - نص سماع مجاهد من عائشة، ومع وجود المعاصرة إذا ولد مجاهد سنة إحدى وعشرين للهجرة تقريباً وما نسبة إحدى وعشرين للهجرة تقريباً ومات سنة 101هـ وقيل 103 وقيل غير ذلك من سنة وفاته (¬5) . وعائشة - رضي الله عنها - ماتت سنة ثمان وخمسين (¬6) ، إلا أن شعبة أنكر سماع مجاهد من عائشة. وقد أخرج الشيخان لمجاهد عن عائشة عدة أحاديث، وعند البخاري (¬7) في صحيحه نص صريح في أن مجاهداً قد سمع عائشة. والمحصلة التي نخرج بها من النصوص السابقة هي أن شعبة بن الحجاج من أوائل من فتش عن سماعات رواة الأحاديث بعضهم من بعض إذا لم تكن الأسانيد التي تروى عنهم ظاهر فيها السماع بصيغ صريحة الاتصال. ولاغرو أن يكون شعبة من أوائل من بدأوا التفتيش عن السماعات، فقد قال صالح جزرة: (أول من تكلم في الرجال شعبة، ثم تبعه القطان، ثم أحمد ¬

(¬1) أخرجه النسائي في سنته (1/127) . (¬2) المراسيل الابن أبي حاتم (ص161) . (¬3) تهذيب التهذيب (10/354-355) . (¬4) تقريب التهذيب (ص552) . (¬5) تهذيب التهذيب (ص10/43) . (¬6) تهذيب التهذيب (12/436) . (¬7) انظر صحيح البخاري (3/701/ [1775، 1776] ) كتاب العمرة، باب كم اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم -؟

يحيى) (¬1) ، وذكر أبو داود الطيالسي: أنه رأى (رجلاً يقول لشعبة: قل حدثني، أو أخبرني، فقال شعبة: فقدتكوعدمتك، وهل جاء بهذا أحد قبلي؟) (¬2) . وقد أخذ يحيى بن سعيد القطان عن شعبة ذلك الأمر، وحذى حذوة وتعلم منه هذه الصناعة، قال الإمام أحمد بن حنبل: (لم يكن في زمان يحيى القطان مثله، كان تعلم من شعبة) (¬3) ، وقال يحيى بن سعيد القطان مبيناً طول ملازمته لشعبة: (اختلفت إلى شعبة عشرين سنة) (¬4) . وسأذكر فيما يلي بعضاً من النصوص التي نقلت عن يحيى بن عيد القطان في ذلك الأمر. ثانياً: بعض ما جاء عن يحيى بن سعيد القطان في ذلك: 1- قال يحيى بن سعيد: (كل شيء يحدث به شعبة عن رجل فلا تحتاج أن تقول عن ذاك الرجل انه سمع فلاناً؟ ، قد كفاك أمره) (¬5) . ويفهم من هذا النص أن منهج يحيى بن سعيد القطان والأصل عنده هو البحث عن سماعات الرواة مطلقاً سواء أكانوا مدلسين أم لم يكونوا، ويستثنى ما رواه شعبة عن شيوخه فلا يحتاج أن يسأل: هل شيخ شعبة سمع من الذي يروي عنه أم لا؟ ، لأن شعبة قد كفى من بعده. 2- قال علي بن المديني: (قلت ليحيى - يعني القطان - سمع زرارة من ابن عباس؟ قال: ليس فيها شيء سمعت) (¬6) . 3- قال يحيى بن سعيد: (قلت لابن أبي رواد: من ابن زبيبة (¬7) هذا؟ قال: قد أدرك عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، قال يحيى: أظنه قال: أدرك ابن ¬

(¬1) تهذيب التهذيب (4/345) . (¬2) مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (1/166) . (¬3) مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (1/233) . (¬4) مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (1/249) . (¬5) مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (1/162) . (¬6) جامع التحصيل (ص176) . (¬7) اسمه عبد الرحمن بن زبيبة. انظر الجرح والتعديل (5/234) .

عمرو، ولم يقل: سمعت ابن عمرو، ولا رأيت) (¬1) . 4- قال يحيى بن سعيد: (قلت لابن أبي داود: أبو سعد الكوفي (¬2) ؟ . قال: ليس هو ذاك، وكان كبيراً. قال يحيى: ولم يقل: سمعتُ زيد بن أرقم) (¬3) . ففي النصوص الثلاثة الماضية لم يقنع يحيى بن سعيد بتلك الأسانيد لأنها لم يثبت فهيا سماع رواتها من بعض، وتظهر دقة يحيى القطان في قوله: "ليس فيها شيء سمعت"، و "لم يقل سمعت ابن عمرو، ولا رأيت"، و "لم يقل: سمعت زيد بن أرقم"، فقد كان حريصاً كل الحرص على البحث عن مواطن السماع في الأسانيد امتداداً لمذهب شيخه شعبة بن الحجاج. 5- نقل على بن المديني عن شيخه يحى بن سعيد القطان نصاً حول موضوع "الرواة عن زيد بن ثابت"، وجاء فيه قوله: (ومن أهل المدينة ممن روى عنه ممن أدركه، ولا يثبت له القاؤه، ولا يثبت له السماع منه) (¬4) . ¬

(¬1) التاريخ الكبير (5/286) . (¬2) لا يعرف إلا بكنيته يروي عن زيد بن أرقم، روى عنه ابن أبي داود. التاريخ الكبير (8/36) . (¬3) التاريخ الكبير - قسم الكُني - (8/36) . (¬4) العلل لعلي بن المديني (ص48) ، بدأ نقل علي عن شيخه في 0ص 47) بقوله ك (سمعت يحيى يقول: من روى عن زيد بن ثابت من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -..) ثم عطف الكلام على ما قبله: (ومن روى عن زيد بن ثابت ممن لقيه من أهل المدينة من التابعين..) وفي (ص49) انتهى كلام يحيى في "الرواة عن زيد بن ثابت" بدلالة وجود عبارة: (قال علي: قيس بن أبي حازم ... ) ، ومما يرجع أن النص المنقول أعلاه عن يحيى بن سعيد وليس عن علي بن المديني ما يلي: 1- ابتدأ الكلامُ في (ص47) معزوراً إلى يحيى ثم استمر أداة العطف "الواو". 2- أن علي بن المديني تكلم في موضوع الرواة عن زيد بن ثابت قبل (ص47) في (ص44-45) وفي (46) فليس من حاجة لان يكرر كلامه، ولكن لتدعيم ما سبق وأن قاله نقل نصاً عن شيخه يحيى بن سعيد في ذلك. 3- في (ص48) أن سعيد بن المسيب وعروة لم يسمعا ولم يقليا زيداً، بينما في (ص45) قال علي: (فأما من لقيه منهم، وثبت عند لقاؤه: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير ... ) ، فلو كان في (ص48) عن علي لكان هذا تناقضاً منه، والأصل عدم التناقض.

فذكر: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وغيرهما. وبالنظر إلى ما كل ما تقدم نستطيع أن نقول: إن ما ورد في كلام الغمام مسلم بن الحجاج من نفيه أن يكون أحد من أئمة السلف قد فتش عن موضع السماع في الأسانيد؛ ليس بدقيق، وقد ذكرت فيما سبق ما يدل على أن شعبة ويحيى بن سعيد، وهما من أجل أئمة السلف النقاد للأخبار قد جاء عنهما ما يثبت أنهما فتشا عن مواضع السماع في الأسانيد ولو لم يكن فيها من شهر بالتدليس وعرف به. قال الإمام مسلم: (ما علمنا أحداً من أئمة السلف، ممن يستعمل الأخبار ويتفقد صحة الأسانيد. وسقمها، مثل أيوب السختياني، وابن عون، ومالك بن أنس، وشعبة بن الحجاج، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، ومن بعدهم من أهل الحديث، فتشوا عن موضع السماع في الأسانيد. كما أدعاه الذي وصفنا قوله من قبل وإنما كان ممن عرف بالتدليس في الحديث وشهر به. فحينئذ يبحثون عن سماعه في روايته، ويتفقدون ذلك منه كي ينزاح عنهم علة التدليس. فمن ابتغى ذلك من غير مدلس، على الوجه الذي زعم من حكينا قوله، فما سمعنا ذلك عن أحدٍ ممن سمينا، ولم نسم من الأئمة) (¬1) . فمن خلال ما أثبته من نصوص في هذا الفصل يتحقق لنا فائدتان: 1- إيجاد الجذور التاريخية، والبدايات العملية، لمسألة البحث عن السماعات في الأسانيد المعنعنة، وأن البحث عن ذلك قد ترافق مع الظهور الحقيقي لعلم الجرح والتعديل والذي كان من رواده المؤسسين له شعبة بن الحجاج ثم يحيى بن سعيد القطان. ¬

(¬1) مقدمة صحيح مسلم (ص32-33) .

2- عدم التسليم بنفي الإمام مسلم المطلق، بأن قول خصمه قول مخترع ليس له جذوراً تاريخية لدى أئمة السلف. والله أعلم.

الباب الثاني موقف الإمام البخاري

الباب الثاني موقف الإمام البخاري

الفصل الأول عناية البخاري الفائقة بهذه المسألة

الفصل الأول عناية البخاري الفائقة بهذه المسألة المبحث الأول: تأثر البخاري في هذه المسألة بمن سبقه. المبحث الثاني: اهتمام البخاري بالمسألة في مصنفاته. المبحث الأول تأثر البخاري في هذه المسألة بمن سبقه من السنن الثابتة في حياة البشر، أن يتأثر الصغير بالكبير، والتلميذ بشيخه، واللاحق بالسابق، وهذه الحقيقة تقودنا إلى البحث عمن تأثر به الإمام البخاري في هذه المسألة، وبالأخص من شيوخه؟. وعندما يكون الحديث عن شيوخ البخاري، نجد أن أعظمهم تأثيراً عليه هو الإمام علي بن المديني، الذي قال فيه البخاري: (ما اسصتغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني) (¬1) ، وقال أيضاً: (علي بن عبد الله أعلم أهل زمانه) (¬2) ، وسأل محمد بن إسحاق السراج الإمام البخاري: (ما تشتهي؟ قال: أشتهي أن أقدم العراق وعلي بن عبد الله حي فأجلسه) (¬3) . وقال الذهبي: (وهذا أبو عبد الله البخاري - وناهيك به - قد شحن صحيحه بحديث علي بن المدين) (¬4) . وقد كان علي بن المديني ذا عناية بمسألة اشتراط السماع في السند المعنعن. ¬

(¬1) تاريخ بغداد (11/463) . (¬2) جزء رفع اليدين (ص34) بتخريج الشيخ بديع الدين الراشدي. (¬3) تاريخ بغداد (11/463) . (¬4) ميزان الأعتدال (3/140) .

يظهر هذا فيما نُقل عنه في كتب الجرح والتعديل، وكتب المرسيل (¬1) ، وقد وجدتُ له في كتاب "العلل" برواية ابن البراء عدداً من النصوص حول هذه المسألة، سأذكر منها على سبيل الاستشهاد نصين: 1- قال علي بن المديني: (وأصحاب زيد بن ثابت الذين كانوا يأخذون عنه ويفتون بفتواه، منهم من لقيه، ومنهم من لم يلقه، اثناء عشر رجلاً: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وقبيصة بن ذؤيب، وخارجة بن زيد، وسليمان بن يسار، وأبان بن عثمان، وعبيد الله بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وطلحة بن عبد الله بن عوف، ونافع بن جبير بن مطعم. فأما من لقيه منهم، وثبت عندنا لقاؤه: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وقبيصة بن ذؤيب، وخارجة بن زيد، وأبان بن عثمان، وسليمان بن يسار. ولم يثبت عندنا من الباقين سماع من زيد فيما ألقى إلينا، إلا أنهم كانوا يذهبون مذهبه في الفقه والعلم) (¬2) . 2- وقال أيضاً: (قيس بن أبي حازم سمع من أبي بكر، وعمر وعثمان، وعلي، وسعد بن أبي وقاص. فقيل لعلي: هؤلاء كلهم سمع منهم قيس بن أبي حازم سماعاً؟ قال: نعم، سمع منهم سماعاً، ولولا ذلك لم نعد له سماعاً) (¬3) . واشتهار علي بن المديني بأنه ممن يرى اشتراط السماع للاحتجاج بالسند المعنعن أمر قد أثبته كتب المصطلح (¬4) . مما لا يدع مجالاً للشك أن علي بن المديني أبرز من تأثر به البخاري من شيوخه في هذه المسألة. وبتمام هذا المبحث تتجلى لنا شجرة نسب هذه المسألة التي رعاها شعبة بن الحجاج، ثم يحيى بن سعيد القطان، ثم علي بن المديني، ومن بعده محمد بن ¬

(¬1) ككتاب المراسيل البن أبي حاتم، وكتاب جامع التحصيل في أحكام المراسيل للعلائي. (¬2) العلل (ص44-54) . (¬3) العلل (ص49-50) . (¬4) انظر "علوم الحديث" (ص60) ، و "جامع التحصيل" (ص116) ، و "شرح علل الترمذي" (1/365، 372) ، و "النكت على كتاب ابن الصلاح" (2/595) .

المبحث الثاني اهتمام البخاري بالمسألة في مصنفاته

إسماعيل البخاري، وهذا لعمر الله سند مسلسل بأئمة النقد وعلماء العلل. المبحث الثاني اهتمام البخاري بالمسألة في مصنفاته لقد أعطى البخاري مسألة "اشتراط اللقاء أو السماع للاحتجاج بالسند المعنعن" اهتماماً وعناية فائقتين، وأظهر اهتمامه بها في معظم كتبه، وعنايته بهذه المسألة تتبع من موقفه أن السند المعنعن الذي لم يثبت فيه سماع أو لقاء رواته من بعضهم البعض لا يكون هذا السند صالحاً للاحتجاج (¬1) . وحتى يتضح لنا مدى اهتمام البخاري بهذه المسألة في مصنفاته، فقد جعلت هذه المصنفات على قسمين: الأول: مصنفاته في رواية الحديث النبوي. الثاني: مصنفاته في علم الرجال. وبينت في كل قسم منها أوجه مظاهر عناية البخاري بهذه المسألة. القسم الأول: مصنفاته في رواية الحديث النبوي: إن كتاب "الصحيح" للإمام البخاري هو أهم مصنفات البخاري على وجه الإطلاق، وقد اعتمد البخاري في الأحاديث التي أخرجها في صحيحه على أن يكون اللقاء أو السماع متحققاً بين الرواة الذين يحتاج بهم، وهذا الأمر جعل عدداً من كبار المحققين يعتبرونه سبباً من أسباب ترجيح صحيح البخاري على صحيح مسلم. قال ابن الصلاح - في معرض رده على من قدم صحيح مسلم على صحيح البخاري -: (وإن أراد ترجيح كتاب مسلم على كتاب البخاري في نفس الصحيح، وفي إتقانه، والاضطلاع بشروطه، والقضاء به فليس ذلك كذلك كما قدمناه، وكيف يسلم لمسلم ذلك؟ وهو يرى على ما ذكره من بعد في خطبة كتابه، أن ¬

(¬1) انظر مقدمة صحيح مسلم (ص29) .

الحديث المعنعن، وهو الذي يقال في إسناده. فلان عن فلان، ينسلك في سلك الموصول الصحيح بمجرد كونهما في عصر واحد مع إمكان تلاقيهما وإن لم يثبت تلاقيهما وسماع أحدهما من الآخر، وهذا منه توسع يقعد به عن الترجيح في ذلك) (¬1) . قال ابن كثير: (والبخاري أرجح، لأنه اشترط في إخراجه الحديث في كتابه هذا: أن يكون الراوي قد عاصر شيخه وثبت عنده سماعه منه، ولم يشترط مسلم الثاني، بل اكتفى بمجرد المعاصرة، ومن ههنا ينفصل لك النزاع في ترجيح تصحيح البخاري على مسلم، كما هو قول الجمهور) (¬2) . قال الحافظ ابن حجر - في أثناء كلامه على أوجه ترجيح صحيح البخاري على صحيح مسمل: ("الوجه الخامس" وذلك أن مسلماً كان مذهبه على ما يصرح به في مقدمة صحيحه، وبالغ في الرد على من خالفه أن الإسناد المعنعن له حكم الاتصال إذا تعاصر المعنعن ومن عنعن عنه، وإن لم يثبت اجتماعهما إلا إن كان المعنعن مدلساً، والبخاري لا يحمل ذلك على الاتصال حتى يثبت اجتماعهما ولو مرة، وقد أظهر البخاري هذا المذهب في تاريخه، وجرى عليه في صحيحه وأكثر منه حتى إنه ربما خرج الحديث الذي لا تعلق له بالباب جملة إلا ليبين سماع راو من شيخه لكونه قد أخرج له قبل ذلك شيئاً معنعناً، وسترى ذلكواضحاً في أماكنه - إن شاء الله تعالى - وهذا مما ترجح به كتابه لأنا وإن سلمنا بما ذكه مسلم من الحكم بالاتصال فلا يخفى أن شرط البخاري أوضح في الاتصال) (¬3) . ومما يوضح مبلغ عناية البخاري بهذه المسألة في صحيحه أنه - كما قال الحافظ ابن حجر -: (ربما خرج الحديث الذي لا تعلق له بالباب جملة إلا اليبين سماع راو من شيخه لكونه قد أخرج له قبل ذلك شيئاً معنعناً) (2) . وسنضرب فيما يلي مثالاً لما ذكره الحافظ ابن حجر، فقد أخرج البخاري في ¬

(¬1) صيانة صحيح مسلم (ص70) . (¬2) الباعث الحثيث (ص18) . (¬3) هدي الساري (ص14) .

صحيحه (¬1) في كتاب التفسير، باب {إذا يبايعونك تحت الشجرة} ، حديثاً من رواية شعبة عن قتادة قال: سمعت عقبة بن صُهبان عن عبد الله بن معقل المزني ممن شهد الشجرة: "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحذف" ثم عقب البخاري على هذا الحديث بقوله: وعن عقبة بن صهبان قال: سمعت عبد الله بن المغفل المزني "في البول في المغتسل") (¬2) . قال الحافظ ابن حجر: (وأما الحديث الثاني فأورده لبيان التصريح بمساع عقبة بن صهبان من عبد الله بن مغفل، وهذا من صنيعه في غاية الدقة وحسن التصرف فلله رده) (¬3) . والحديث الثاني لا علاقة له بالباب مطلقاً من حيث الموضوع، وإنما أخرجه البخاري لإثبات سماع عقبة ابن صهبان من عبد الله بن المغفل (¬4) ، فلولا أهمية هذه المسألة عند البخاري لما صنع ذلك. لم يقصر البخاري اهتمامه بالمسألة على صحيحه فقط، بل أظهر اهتمامه بهذه المسألة في كتاب آخر هو "جزء القراءة خلف الإمام"، وتمثل مظاهر اهتمامه بالمسألة في هذا الجزء فيما يلي: 1- أعل البخاري عدداً من الأحاديث لكونها لم يتوفر في أسانيدها ثبوت السماع، ومن ذلك قوله: (وروى عمرو بن موسى بن سعد عن زيد بن ثابت قال: "من قرأ خلف الإمام فلا صلاة له"، ولا يُعرف لهذا الإسناد سماع بعضهم من بعض، ولا يصح مثله) (¬5) . ومما قاله أيضاً: (وروى علي بن صالح عن الأصبهاني المختار بن عبد الله بن أبي ليلى عن أبيه عن علي رضي الله عنه: "من قرأ خلف الإمام فقد ¬

(¬1) صحيح البخاري (8/451/ [4841] . (¬2) صحيح البخاري (8/451/ [4842] . (¬3) فتح الباري (8/452) . (¬4) انظر التاريخ الكبير (6/431) فقيه ثبوت سماع عقبة من ابن مغفل. (¬5) جزء القراءة خلف الإمام (ص14) .

أخطأ الفطرة"، وهذا لا يصح لأنه لا يعرف المختار، ولا يدري أنه سمعه من أبيه أم لا؟ وأبوه من علي؟) (¬1) . 2- أخرج البخاري (¬2) حديث شعبة عن قتادة عن زرارة بن أبي أوفى عن عمران بن حصين "أن رجلاً صلى خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ بسبح اسم ربك الأعلى فلما فرغ قال: أيكم القارئ بسبح؟ فقال رجل من القوم: أنا. فقال: قد عرفت أن بعضكم خالجنيها". وبعد أن أخرج هذا الحديث أتبعه بحديث آخر: عن أبي عوانة عن قتادة عن زرارة قال: "رأيت عمران بن حصين يلبس الخز" (¬3) . وكما نرى فإن الحديث الثاني ليس له علاقة بموضوع الكتاب وهو القراءة خلف الإمام، ولا يمت بصلة - من حيث الموضوع - للحديث الذي قبله. وما أخرجه البخاري إلا ليدلل على أن زرارة بن أبي أوفى قد لقي عمران بن حصين، وهذا شاهد على عنايته الفائقة بهذه المسألة في مصنفاته. القسم الثاني: مصنفاته في عالم الرجال: يبرز اهتمام البخاري واعتناؤه بالمسالة في كتبه المتعلقة بعلم الرجال في النقاط الآتية: 1- أولى عناية عند الترجمة لأي رجل من الرجال إلى بيان سماع ذلك الرجل ممن روى عنهم إن كان قد ثبت سماعه عنهم، فيصدر أغلب التراجم في تاريخه الكبير بقوله: فلان بن فلان سمع فلاناً وفلاناً.. إلخ، بينما نجد أبن أبي حاتم في كتابه " الجرح والتعديل" يستبدل لفظ سمع بلفظ آخر هو: روى عن فلان وفلان.. الخ، مما يجعل المطلع لا يميز ما هو سماع مما ليس بسماع، وأما البخاري لشدة عنايته بالمسألة حرص على بيان سماعات الرواة بعبارة واضحة لا لبس فيها وسأورد بعض الأمثلة على ذلك: في التاريخ الكبير ترجم لمحمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي فقال: ¬

(¬1) جزء القراءة خلف الإمام (ص12-13) . (¬2) المرجع السابق (ص26) . (¬3) المرجع السابق (ص26) .

(محمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي، مدني، سمع علقمة بن وقاص وأبا سلمة، سمع منه يحيى بن سعيد الأنصاري ومحمد بن إسحاق..) (¬1) . وفي أيضاً ترجم لزهير بن قنفذ فقال: (زهير بن قنفذ، سمع ابن عمر، روى عنه عبد الله بن ميمون) (¬2) . وفي التاريخ الصغير ترجم لأبي طوالة فقال: (اسم أبي طوالة عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر الأنصاري المدني سمع أنساً وعامر بن سعد، سمع منه مالك وخالد بن عبد الله) (¬3) . وفي الضعفاء الصغير ترجم لعمرو بن شعيب فقال: (عمرو بن شعيب أبو إبراهيم السهمي القرشي: سمع أباه وسعيد بن المسيب وطاوساً، وروى عنه عبد الوارث، وابن جريج، وعطاء بن أبي رباح والزهري) (¬4) . واهتمامه ببيان سماعات الرواة من شيوخهم في كتبه المتعلقة بعلم الرجال قضية واضحة لمن يُطالع تلك الكتب. 2- يُخرج أحياناً في بعض التراجم - وخاصة في "التاريخ الكبير" - أحاديث يظهر لنا أن ليس له غاية من إخراجها إلا ليبين لقي المترجم له بعض من روى عنهم. فمن ذلك أنه قال في ترجمة سليمان الأسود: (سليمان الأسود الناجي البصري، روى عنه أبن أبي عروبة ووهيب، وقال موسى نا عبد العزيز بن المختار عن سليمان أنبائي أبو المتوكل: شهدت أبا هريرة - في السارق - وزيادة بن أيوب أنا هشيم أنا سلميان أبو محمد سمعت ابن سيرين) (¬5) . فهو هنا يريد إثبات سماع سليمان الأسود من أبي المتوكل الناجي علي بن داود، ومن محمد بن سيرين فأخرج هذين السندين لإثبات ذلك. ¬

(¬1) التاريخ الكبير (1/22) . (¬2) التاريخ الكبير (3/426) . (¬3) التاريخ الصغير (2/74) . (¬4) الضعفاء الصغير (ص88) . (¬5) التاريخ الكبير (4/3) .

وجاء في ترجمة أبي نضرة العبدي فقال: (منذر بن مالك بن قطعة أبو نضرة العبدي.. سمع أبا سعيد وابن عباس، وروى عنه قتادة وسليمان التيمي وسعيد أبو سلمة..، وحدثني سالم بن نوح قال نا الجريري عن أبي نضرة قال؛ خرج إلينا طلحة بن عبيد الله في ثوبين ممصرين) (¬1) . 3- يذكر أحياناً احتمال سماع المتراجم له ممن روى عنه دون أن يجزم بأنه سمع منه، ومن ذلك قوله في ترجمة أبي إدريس الخولاني: (عائذ الله بن عبد الله، أبو إدريس الخولاني، الشامي، ولد عام حنين قاله أبو مسهر، ويمكن أن يكون سمع من معاذ..، ابن معسود، والمغيرة بن شعبة) (¬2) . فلما كان سماع أبي إدريس من معاذ موضع احتمال وتردد، بين البخاري ذلك بعبارة تُشعر بالاحتمال. وعندما ترجم لعطاء بن يسار قال: (عطاء بن يسار أبو محمد مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، سمع أبا سعيد وأبا هريرة رضي الله عنهما، ويقال: ابن مسعود وبان عمرو رضي الله عنهم) (¬3) . فألمح بقوله: (ويقال ... ) إلى عدم رجحان ثبوت سماع عطاء من ابن مسعود وابن عمر، وما هذا إلا دليل على تحريه العبارات الدقيقة في هذه المسألة لأنها عنده في غاية الأهمية. 4- أعل البخاري عشرات الأسانيد في تاريخه الكبير بسبب عدم ثبوت السماع بين بعض رواة السند. من ذلك أنه قال في ترجمة الحسن بن سهيل: (الحسن بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري القرشي، المدني، عن ابن عمر، روى عنه يزيد بن ¬

(¬1) التاريخ الكبير (7/355-356) . (¬2) التاريخ الكبير (7/83) . (¬3) التاريخ الكبير (6/461) .

أبي زياد، لا ادري سمع من ابن عمر أم لا؟) (¬1) . وقال في ترجمة عبد الله بن سراقة: (عبد الله بن سراقة عن أبي عبيدة بن الجراح قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لم يكن نبي بعد نوح إلا أنذر الدجال قومه"، قال موسى عن حماد بن سلمة عن خالد بن عبد الله بن شقيق عن عبد الله بن سراقة، لا يعرف له سماع من أبي عبيدة) (¬2) . والمثالان السابقان خير شاهد على عناية البخاري واهتمامه البالغ بهذه المسألة في مصنفاته المتعلقة بعلم الرجال، وأنه حريص على إظهار مذهبه فيما يعلله من أحادي ثلم يتوفر في أسانيدهم ثبوت اللقاء بين رواتها، وقد قال ابن حجر: (فقد أكثر من تعليل الأحاديث في تاريخه بمجرد ذلك) (¬3) . 5- في بعض التراجم لا يذكر كلمة "سمع" فيما يرويه المترجم له عمن روى عنهم، وإنما يذكر كلمة "عن" بدلاً من "سمع" كقول البخاري: (سعد مولى طلحة عن ابن عمر) (¬4) ، وكقوله: (شريح بن عبيد الحضرمي أبو الصلت الشامي، سمع معاوية بن أبي سفيان، وعن فضلة بن عبيد) (¬5) . فالبخاري هنا بلغ من شدة عنايته، وعظيم اهتمامه بهذه المسألة أن يذكر كلمة "عن" بدل "سمع" في تراجم الذين لم يثبت عنده سماعهم ممن رووا عنهم، فهو يفرق بين ما ثبت سماعه لصاحب الترجمة ممن روى عنهم بقوله: "سمع"، وما لم يثبت عنده أنه سمع ممن روى عنهم بقوله: "عن". ولأهمية هذه النقطة، ولأن فيها بعض الغموض سأذكر بعض الأدلة التي تدل على أن كلمة "عن" إذا ذكرها البخاري في تراجم كتابه قبل أسماء من روى عنهم صاحب الترجمة، فإنه تشير إلى أن سماع صاحب الترجمة من أولئك الذين روى ¬

(¬1) التاريخ الكبير (2/294-295) . (¬2) التاريخ الكبير (5/97) . (¬3) النكت على كتاب ابن الصلاح (2/595) . (¬4) التاريخ الكبير (4/58) . (¬5) التاريخ الكبير (4/230) .

عنهم لم يقف عليه البخاري أو لم يثبت عنده، وهذه الأدلة كما يلي: 1- ن البخاري يذكر كلمة "سمع" في التراجم بين اسم صاحب الترجمة، وأسماء من روى عنهم، وهذا نراه بكثرة - في التاريخ الكبير على وجه الخصوص -، مما يدعونا إذا رأينا كلمة "عن" محل كلمة "سمع" أن نتساءل: لماذا لم يقل "سمع"؟ لا سيما وأن بين الكلمتين مغايرة وتباين جليلاً فكلمة "سمع" تدل على ثبوت السماع، والأخرى لا تدل على السماع، والبخاري - كما لا يخفى - عظيم الاهتمام والحرص في إيضاح هذه المسألة والحكم بها؛ فيكون من المترجح أنه عندما يذكر كلمة "عن" محل كلمة "سمع" قد أراد أن الأولى غير الثانية في إثبات السماع. وهذا مما يتفق مع المنهج العام للبخاري في مصنفاته التي تتميز بالعبارات الدقيقة جداً، يقول الشيخ المعلمي: (للبخاري - رحمه الله - ولوع بالاجتزاء بالتلويح عن التصريح، كما جرى عليه في مواضع من جامعة الصحيح حرصاً منه على رياضة الطالب، واجتذاباً له إلى التنبه والتيقظ والتفهم) (¬1) . 2- وقفت على بعض التراجم في التاريخ الكبير - على وجه الخصوص - يقول البخراي في نفس الترجمة: "فلان سمع فلاناً وفلاناً، وعن فلان وفلان"، مما يزيدنا يقيناً أن بين العبارتين فرقاً في الدلالة عند البخاري. فمن ذلك قوله: (حصين بن قبيصة الفزاري، سمع علياً وعن عبد الله) (¬2) . وقوله: (خليد بن دعلج، سمع الحسن وعن ابن سيرين، وسمع عطاء وقتادة) (¬3) . وقوله: (عبد الله بن نيار بن مكرم الأسلمي، سمع أباه وعن عروة) (¬4) . وقوله: (عبد الله بن سخبرة الأزدي، ويقال الأسدي أسد شنوءة، وأبو معمر ¬

(¬1) مقدمة المحقق من كتاب "الموضح لأوهام الجمع والتفريق" للخطيب البغدادي (1/14) . (¬2) التاريخ الكبير (3/5) . (¬3) التاريخ الكبير 3/199) . (¬4) التاريخ الكبير (5/214) .

الكوفي، سمع خباباً وعن عمر رضي الله عنهما) (¬1) . وفي ترجمة عبد الرحمن بن ابي ليلى قال البخاري: (سمع عالياً وعثمان وسهل بن حنيف وقيس بن حنيف أبا أيوب وأم هانئ وزيد بن أرقم وعبد الله بن ربيعة والبراء وحذيفة وكعب بن عجزة وأبا الدرداء وسعد بن عبيد رضي الله عنهم، وعن أبي موسى رضي الله عنه، وسمع عبيد الله بن حكيم، وعن المقداد رضي عنه..، ويروي عن أبي وسمرة وأنس وأبيه رضي الله عنه) (¬2) . وكذلك قال في ترجمة مغيث بن سمي الأوزاعي: (سمع عبد الله بن عمر، وعن كعب) (¬3) . وبما تقدم من شواهد يتبين لنا أن البخاري إذا لم يثبت عنده سماع صاحب الترجمة ممن روى عنه فإنه يأتي بكلمة "عن" محل "سمع". 3- وجدت في بعض التراجم التي يقول فيها "عن فلان" كلاماً للبخاري في مواضع أخرى ينص - رحمه الله - بصريح العبارة بأنه لا يعرف لفلان سماع من فلان. ففي ترجمة عبيد بن نضلة قال: (عن ابن مسعود والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما) (¬4) . ثم وجدت أن البخاري قال ك (لا أدري عبيد بن نضلة سمع من المغيرة بن شعبة أم لا؟) (¬5) . وفي ترجمة عمرو بن بجدان قال: (عن أبي ذر رضي الله عنه) (¬6) . ثم وجدت قول البخاري: (لا أعرف لعمرو بن بجدان سماعاً من أبي ذر) (¬7) . وقال - في ترجمة المطلب بن عبد الله بن حنطب -: (سمع رجلاً من ¬

(¬1) التاريخ الكبير (5/97) . (¬2) التاريخ الكبير (5/368 - 369) . (¬3) التاريخ الكبير (8/24) . (¬4) التاريخ الكبير (6/5) . (¬5) العلل الكبير للترمذي (2/587) . (¬6) التاريخ الكبير (6/317) . (¬7) العلل الكبير للترمذي (2/650) .

أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن أبي موسى وعائشة وأم سلمة) (¬1) . وفي موضع آخر وجدت البخاري يقول: (لا أعرف للمطلب من حنطب عن أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - سماعاً إلا أنه يقول: حدثني من شهد النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬2) . وهذه النصوص توضح لنا الإجابة على سؤال: لماذا قال البخاري "عن" ولم يقل "سمع" فيما رواه صاحب الترجمة عمن حدث عنهم؟ 4- اتضح لي بمقارنة عدد من المواضع التي ذكر فيها البخاري أن المترجم له قال فيما يرويه عمن يروي عنهم "عن" بأقوال بعض العلماء والنقاد أن رواية صاحب تلك الترجمة عن ذلك الرجل تكون مرسلة وغير متصلة. ومن ذلك أن البخاري قال: (ممطور أبو سلام الحبشي الأعرج الأسود الدمشقي عن ثوبان..) (¬3) . وقد قال يحيى بن معين عندما سئل (هل سمع أبو سلام من ثوبان؟ قال: لا) (¬4) ، وبمثل ما قال ابن معين قال علي بن المديني وأحمد بن حنبل (¬5) ، وقال ابن أبي حاتم: (سالت أبي: هل سمع أبو سلام من ثوبان؟ قال: قد روى، ولا أدري سمع منه أم لا) (¬6) . ومن ذلك أن البخاري قال: (عطاء بن فروخ عن عثمان) (¬7) . وقد قال علي بن المديني: (لم يلق عثمان رضي الله عنه) (¬8) ، وقال البزار: (وعطاء بن فروخ رجل من أهل البصرة حدث عن يونس بن عبيد وعلي بن زيد، ولا نعلمه سمع من عثمان) (¬9) . ¬

(¬1) التاريخ الكبير (8/8) . (¬2) العلل الكبير للترمذي (2/964) . (¬3) التاريخ الكبير (8/57) . (¬4) المراسيل لابن أبي حاتم (ص168) . (¬5) المراسيل ابن أبي حاتم (168) ، وجامع التحصيل (ص286) . (¬6) المراسيل لابن ابي حاتم (ص168) . (¬7) التاريخ الكبير (6/467) . (¬8) تهذيب التهذيب (7/210) . (¬9) مسند البزار (2/48/ [392] ) .

ومن ذلك أن البخاري قال - في ترجمة خلاس بن عمرو الهجري -: (روى عن أبي هيرة ... ) (¬1) ، وقال الإمام أحمد بن حنبل: (لم يسمع من أبي هريرة شيئاً) (¬2) . ومن ذلك أن البخاري - في ترجمة ميمون بن أبي شبيب - قال: (يروي عن المغيرة بن شعبة وسمرة ومعاذ) (¬3) ، وقد قال عمرو بن علي الفلاس - في ترجمة ميمون بن أبي شيب ها -: (كان رجلاً تاجراً كان من أهل الخير، وليس يقول في شيء من حديث سمعت، ولم أخبر أن أحداً يزعم أنه سمع من الصحابة) (¬4) وبهذه المقارنات يتقرر أن مراد البخاري عندما يذكر كلمة "عن" فيما يرويه صاحب الترجمة عمن حدث عنهم أن سماع ذلك الراوي عن أولئك الشيوخ لم يثبت إذ لو كان السماع ثابتاً لقال: "سمع" ولم يقل "عن". ومن المهم أن أؤكد هنا أن كلمة "عن" كما أسلفت تعني أن البخاري يرى أن سماع صاحب الترجمة ممن روى عنهم غير ثابت، إلا أنها لا تعني نفي السماع بيقين، لذا لا أستجيز أن يقال فيمن ذكر البخاري في ترجمة "عن فلان" أن البخاري حكم على روايته عن ذلك الشيخ بأنها منطقعة أو أن ذلك الرجل لم يسمع من ذلك الشيخ، والذي أرتضيه وأراه - بعون الله - صواباً في مثل هذه الحالة أن يقال: إن سماع ذلك الرجل لم يثبت من ذلك الشيخ الذي روى عنه فهذه العبارة أكثر دقة في بيان المعنى من غيرها من العبارات التي قد يفسر بها صنيع البخاري ذلك. ومما ينبغي أن يُعلم أنه يوجد التصريح بالسماع في بعض ما قال فيه البخاري: "روى عن فلان"، وذلك لأن العلم بحر لا ساحل له، ولا يستطيع أحد الإحاطة به {وفوق كل ذي علم عليم} (¬5) ، كما أن اجتهاد العالم قد يتغير تبعاً ¬

(¬1) التاريخ الكبير (3/227-228) . (¬2) جامع التحصيل (ص173) . (¬3) التاريخ الكبير (7/338) . (¬4) تهذيب التهذيب (10/389) . (¬5) سورة يوسف آية 76.

لنمو معلوماته وازدياد معارفه. وقد وجدت في كلام الإمام البخاري ما يشهد لهذا، فقد قال في "التاريخ الكبير": (عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي الأخنس حجازي عن سعيد المقبري..) (¬1) فلم يثبت في كتابه "التاريخ الكبير" السماع لعثمان بن محمد بن الأخنس من سعيد المقبري، ولكنه بين في محل آخر أن رأيه تغير، فقد حكم على حديث يرويه عثمان بن محمد الأخنس عن سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعاً بقوله: (هو حديث حسن ... وعثمان بن محمد الأخنس ثقة، وكنت أظن أن عثمان لم يسمع من سعيد المقبري) (¬2) . فيكون الغالب فيمن قال البخاري في ترجمته: "روى عن فلان" أو "عن فلان" أنه لم يثبت في ذلك الشيخ، وقد يوجد التصريح بالسماع في بعض ذلك، فالحكم في هذا على الأغلب وليس مطرداً. وقبل أن أنهى هذا المبحث أود أن أنبه على الملاحظتين هامتين لهما علاقة بأهم كتب البخاري في علم الرجال وهو كتاب "التاريخ الكبير". الملاحظة الأولى: في تراجم قليلة ينص البخاري على أن صاحب الترجمة قد سمع ممن يروي عنه ولكن يذكر في أثناء الترجمة ما يدل على أن صاحبها لم يسمع من ذلك الشيخ الذي نص على أنه سمع منه. ومن ذلك ما جاء في هذه الترجمة: _ (زياد بن ميمون، ابو عمارة البصري الثقفي، صاحب الفاكهة، سمع أنساً، تركوه، قال علي بن نصر أخبرنا بشر بن عمر: سألت زياد بن ميمون أبا عمارة عن حديث رواه أنس قال: وبحكم احسبوا كنت يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً، قد رجعت عما كنت أحدث به عن أنس، "لم أسمع من أنس شيئاً" (¬3) . فأثبت - البخاري - سماعه من أنس في صدر الترجمة ثم ساق ما يدل على أنه كذاب وأنه لم يسمع من أنس أي شيء، وقد قال أبو داود الطيالسي: ¬

(¬1) التاريخ الكبير (6/249) . (¬2) العلل الكبير للترمذي (1/437) . (¬3) التاريخ الكبير (3/371) .

(لقيته أنا وعبد الرحمن بن مهدي، فسألناه فقال: هبوا أن الناس لا يعلمون أني لم ألق أنساً لا تعلمان أني لم ألق أنساً؟!. ثم بلغنا أنه يروي عنه فأتيناه فقال: هبوا أن رجلاً أذنب ذنباً فيتوب ألا يتوب الله عليك؟! قلنا: نعم. قال: فإني أتوب، ما سمعت من أنس قليلاً ولا كثيراً. وكان بعد ذلك يبلغنا عنه أنه يروي عنه فتركناه) (¬1) ، وزياد هذا متروك ومتهم بالوضع (¬2) . ومن ذلك قوله: (جميل بن زيد الطائي، سمع ابن عمر, روى عنه الثوري وعباد بن العوام، قال أحمد عن أبي بكر بن عياش عن جميل: هذه أحاديث ابن عمر ما سمعت من ابن عمر شيئاً إنما قالوا: اكتب أحاديث ابن عمر فقدمت المدينة فكتبتها) (¬3) . ومع أن البخاري نقل في ترجمة جميل ما يثبت بأنه ما رأى ابن عمر ولا سمعه إلا أنه صدر الترجمة بعبارة. "سمع ابن عمر"، وقد قال ابن حبان - في ترجمة جميل بن زيد - ك (يروي عن ابن عمر ولم يره، روى عنه الثوري، دخل المدينة فجمع أحاديث ابن عمر بعد موت ابن عمر ثم رجع إلى البصرة ورواها عنه) (¬4) ، وقد قال ابن معين: (جميل بن زيد يروي عن ابن عمر - ليس بثقة) (¬5) . ويحق لنا أن نتساءل: لماذا يقول البخاري "سمع" مع علمه بأنه لم يسمع؟. ويظهر لي أنه من الممكن الإجابة على هذا الإشكال بمايلي: 1- إن البخاري لشدة اهتمامه بالفحص عن سماع الرواة التزم أن يُصدر كل ترجمة بصيغة الأداء التي بلغته ووصلت إليه، فتراه تارة يقول في بعض التراجم مثلاً: (عبد الرحمن بن الأسود العنسي أن عمر رضي الله عنه، روى عنه أبو بكر بن ¬

(¬1) المراسيل لابن أبي حاتم (ص58) . (¬2) ميزان الاعتدال (2/94-95) . (¬3) التاريخ الكبير (2/215) ، والتاريخ الصغير (2/74-75) ، والخبر في "العلل ومعرفة الرجال" للإمام أحمد برواية ابنه عبد الله (1/194-260) . (¬4) كتاب المجروحين (1/217) . (¬5) كتاب المجروحين (1/217) ، وميزان الاعتدال (1/423) .

أبي مريم) (¬1) ، وتراه تارة يقول في بعض التراجم مثلاً: (عبد الرحمن بن أيمن المخزومي المكي، رأى أبا سعيد رضي الله عنه) (¬2) وكثيراً ما تراه - رحمه الله تعالى - يُصدر تراجم الرواة بصيغتي الأداء "سمع"، و "عن". فلما كان قد ذكر في بعض الأسانيد التي وصلت للبخاري - حمه الله تعالى- أن زياد بن ميمون قال حدثنا فيما رواه عن انس - رضي الله عنه -، وكلك جميل بن زيد قال حدثنا ابن عمر - رضي الله عنهما - كما في رواية إسماعيل بن زكريا عن جميل بن زيد فقد قال البخاري: (وقال إسماعيل بن زكريا حدثنا جميل ثنا ابن عمر ... ) (¬3) ؛ لعل البخاري رأى من الأفضل أن يذكر السماع حتى لا يعترض عليه البعض بأنه قد فاته ذكر السماع مع وروده. 2- إن البخاري بين وبجلاء بطلان صحة السماع المذكور بنقله ما ينص على الصواب، فأبرأ ذمته من أي تبعة أو تناقض لأنه نبه على الخطأ وأوضح الراجح والصحيح بما نقله، كما يظهر مما تقدم في ترجمتي زيادة بن ميمون، وجميل بن زيد. والذي يترجح لدي أن البخاري - رحمه الله تعالى - صنع ما صنع في بعض التراجم من ذكر السماع ثم نقل ما يدل على نفيه حتى يسلم من النقد والاستدراك. الملاحظة الثانية: الإمام البخاري عندما يسمي تلاميذ صاحب الترجمة يقول أحياناً: "سمع منه فلان ... "، وكثيراً ما يقول: "روى عنه فلان ... "، فهل بين الصيغتين فرق في المعنى؟ ومن الواضح أن عبارة "سمع منه" نصف في السماع، ولا شك، ولكن يتوجه النظر إلى عبارة "روى عنه" فهل تفيد هذه العبارة أن سماع التلاميذ غير ثابت من صاحب الترجمة؟ للإجابة على هذا السؤال فقد راجعتُ تراجم كثيرة لأتحقق من ذلك؛ فظهر لي أن عبارة "روى عنه" ليست نصاً في عدم السماع: ¬

(¬1) التاريخ الكبير (5/254) . (¬2) التاريخ الكبير (5/255) . (¬3) التاريخ الصغير (2/75) .

1- فقد وجدت الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- قد ذكر عبارة "روى عنه" في حق تلاميذ لا يشك في سماعهم من صاحب الترجمة، فمن ذلك: قال البخاري في ترجمة عروة بن الزبير: (روى عنه الزهري وابنه هشام) (¬1) . وسماع الزهري وهشام بن عروة من عروة بن الزبير لا يخفى عن أهل الحديث لاشتهاره جداً (¬2) . وقال البخاري في ترجمة قتادة بن دعامة: (روى عنه هشام وشعبة وسعيد بن أبي عروبة) (¬3) . واشتهار هؤلاء الثلاثة بملازمة قتادة والإكثار عنه أمر مسلم به (¬4) . وقال البخاري فيترجمة نافع مولى ابن عمر: (روى عنه الزهري ومالك بن أنس وايوب وعبيد الله بن عمر) (¬5) . ولا يتطرق الشك أبداً في سماع هؤلاء الأئمة الثقات مع نافع مولى ابن عمر (¬6) . 2- ووجدتُ البخاري أيضا يذكر الرجل ممن يروى عن صاحب الترجمة بقوله: "روى عنه"، ولكنه في موضع آخر من نفس كتابه التاريخ الكبير ينص صراحة على سماع من ذلك الشيخ، فمن ذلك: قال البخاري في ترجمة هارون بن أبي عيسى: (روى عنه ابنه عبد الله) (¬7) . وفي ترجمة عبد الله بن هارون بن أبي عيسى قال: (سمع أباه) (¬8) . ¬

(¬1) التاريخ الكبير (7/31) . (¬2) انظر تهذيب التهذيب (7/182) ففيه نصوص تدل على ثبوت السماع. (¬3) التاريخ الكبير (7/186) . (¬4) انظر تهذيب التهذيب (4/64) ترجمة سعيد بن أبي عروبة، و (11/44) ترجمة هشام بن أبي عبد الله الدستوائي. (¬5) التاريخ الكبير (8/85) . (¬6) انظر شرح علل الترمذي (1/401) طبقات أصحاب نافع مولى ابن عمر. (¬7) التاريخ الكبير (8/224) . (¬8) التاريخ الكبير (5/220 - 221) .

وقال في ترجمة قيس أبي مريم الثقفي: (روى عنه نعيم وعبد الملك ابنا حكيم) (¬1) . وفي ترجمة عبد الملك بن حكيم قال: (سمع أبا مريم قيسا) (¬2) . وقال في ترجمة مالك بن نمير: (روى عنه عصام بن قدامة) (¬3) . وفي ترجمة عصام بن قدامة قال: (سمع من مالك بن نمير) (¬4) . وبما تقدم يتضح أن عبارة "روى عنه" باقية على أصل مدلولها تحتمل الوجهين: ثبوت السماع، وعدم ثبوته. وم نهنا يُعلم أن قول البخاري فيما يرويه صاب الترجمة "عن فلان" يختلف عن قوله فيما يروي عن صاحب الترجمة "روى عنه فلان". فالعبارة الأولى تدل - في الغالب - على عدم اطلاع البخاري على ما يثبت السماع. وأما العبارة الثانية فهي محتملة للوجهين معاً. ¬

(¬1) التاريخ الكبير (7/151) . (¬2) التاريخ الكبير (8/99) . (¬3) التاريخ الكبير (5/411) . (¬4) التاريخ الكبير (7/70) .

الفصل الثاني وسائل إثبات اللقاء والسماع عند الإمام البخاري

الفصل الثاني وسائل إثبات اللقاء والسماع عند الإمام البخاري المبحث الأول: هل يكتفي البخاري بثبوت اللقاء أم يشترط التصريح بالسماع؟ المبحث الثاني: وسائل الاحتجاج بوسائل اللقاء. المبحث الرابع: كم يكفي لإثبات اللقاء؟ المبحث الثاني: ما يقوم مقام اللقاء. المبحث الأول هل يكتفي البخاري بثبوت اللقاء أم يشترط التصريح بالسماع؟ ذهب بعض أئمة الحديث والنقد إلى أنه يشترط للسند المعنعن حتى يُعد متصلاً أن يكون السماع ثابتاً بين الراوي ومن يروي عنه ولا يكتفي بمجرد اللقيا والاجتماع (¬1) . وذهب البعض الآخر من أئمة الحديث والنقد إلى أنه يثبت اتصال السند المعنعن بأحد أمرين: إما السماع، وإما اللقاء والاجتماع (¬2) . ¬

(¬1) انظر شرح علل الترمذي (1/365، 366، 367، 368) . (¬2) المرجع السابق.

والفرق بين القولين: أن الفريق الأول لا يعد السند متصلاً إلى بثبوت السماع أما لو أن الراوي رأى أو جالس من روى عنه؛ فلا يحكم بمجرد ذلك على أن السند متصل. وأما الفريق الثاني فتوسع في الحكم على السند المعنعن بالاتصال، ولا يقتصر في ذلك على ثبوت السماع، بل يعد اللقاء والاجتماع بين الراوي ومن يروي عنه - ولو لم يأتِ ما يثبت السماع بينهما - صالحين للحكم بالاتصال أيضاً. فيكون المذهب الثاني أوسع من المذهب الأول من حيث الحكم بالاتصال على الأسانيد المعنعنة. فإلى أي الفريقين يقف البخاري؟ رجح ابن رشيد أن مذهب البخاري هو اشتراط السماع فقال: (ولقد كان ينبغي من حيث الاحتياط أن يشترط تحقق السماع في الجملة لا مطلق اللقاء. فكم من تابع لقي صاحباً ولم يسمع منه وكذلك من بعدهم، وينبغي أن يحمل قول البخاري وابن المديني على أنهما يريدان باللقاء السماع، وهذا الحرف لم نجد عليه تنصيصاً يعتمد، وإنما وجدت ظواهر محتملة أن يحصل الاكتفاء عندهما باللقاء المحقق وإن لم يذكر سماع. وأن لا يحصل الاكتفاء إلا بالسماع، وأنه الأليق بتحريهما والأقرب إلى الصواب. فيكون مرادهما باللقاء والسماع معنى واحداً) (¬1) . ولكن ابن رجب يخالف ابن رشيد إذ يقول: (فدل كلام أحمد، وأبي زرعة، وأبي حاتم على أن الاتصال لا يثبت إلا بثبوت التصريح بالسماع، وهذا أضيق من قول ابن المديني والبخاري، فإن المحكي عنهما: أنه يعتبر أحد أمرين: إما السماع وإما اللقاء، وأحمد ومن تبعه عندهم لابد من ثبوت السماع) (¬2) . والذي يترجح لي أن الصواب ما قاله الحافظ ابن رجب، فقد رأيت في كلام الإمام البخاري إثبات سماع بعض الرواة ممن يروون عنهم لأنهم رأوهم، وهذا ¬

(¬1) السنن الأبين (ص33) . (¬2) شرح علل الترمذي (1/367) .

يدل على أن يشترط اللقاء بمفهومه الأوسع من مجرد السماع، وفيما يلي شواهد تدل على ذلك: 1- ذكر البخاري في ترجمة محولالدمشقي أنه سمع من واثلة بن الأسقع (¬1) وقد خولف في ذلك إذ جاء عن أبي مسهر أنه نفي سماع مكحول من وأثلة فقد سأله أبو حاتم: (هل سمع مكحولمن أحد من أصحاب النبي صلى الله علهي وسلم؟ قال: ما صح عندنا لا أنس بن مالك. قلت: واثلة؟ فأنكره) ؟ (¬2) . ونفاه أيضاًَ أبو حاتم فقال: (محول لم يسمع من واثلة دخل عليه) (¬3) . ونفاه ابو زرعة فقال: (لم يسمع مكحول من واثلة بن الأسقع) (¬4) . والبخاري إنما احتج على سماع مكحول من واثلة بما قال مكحول: (دخلت أنا وأبو الأزهر على واثلة بن الأسقع) (¬5) ، والرواية بتمامها كما جاءت عن مكحول: (دخلت أنا وأبو الأزهر على واثلة بن الأسقع فقلنا له: يا أبا الاسقع حدثنا بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وهم لا تزيد ولا نسيان، قال: هل قرأ أحدكم الليلة من القرآن شيئاً؟ فقلنا: نعم وما نحن له بالحافظين جداً إنا لنزيد الواو والألف وننقص، قال: فهذا القرآن مكتوب بين أظهركم لا تألون حفظه وأنتم تزعمون أنكم تزيدون وتنقصون فكيف بأحاديث سمعناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم عسى أن لا يكون سمعناها منه إلا مرة واحدة. حسبكم إذا حدثناكم بالحديث على المعنى) (¬6) . 2- ذكر البخاري في ترجمة إبراهيم بن أبي عبلة أنه سمع أبن عمر (¬7) . ¬

(¬1) التاريخ الكبير (8/21) ، والتاريخ الصغير (1/307) . (¬2) المراسيل لابن أبي حاتم (ص165) . (¬3) المرجع السابق (ص116) . (¬4) جامع التحصيل (ص285) . (¬5) تاريخ أبي زرعة الدمشقي (1/327) ، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم (8/408) . (¬6) المعجم الكبير للطبراني (22/54، 65) ، ومسند الشاميين له (2/368/ [1510] ) . والمستدرك للحاكم (3/569) . (¬7) التاريخ الكبير (1/310) .

وقال أبو حاتم: (رأى ابن عمر) (¬1) ، وقال ابن حبان ك (وقد رأى ابن عمر) (¬2) ، وقال الذهبي: (وقيل: إنه أدرك ابن عمر. وإلا فروايته مرسلة) (¬3) ، وقال: (أرسل عن ابن عمر) (¬4) وقال العلائي: (وذكر في التهذيب أنه روى عن ابن عمر رضي الله عنهما، ولم يدركه بل هو مرسل) (¬5) ، وحكم الحافظ أبو نعيم الأصبهاني بأن رواية إبراهيم عن ابن عمر مرسلة (¬6) ". جميع هؤلاء الأئمة الخمسة لم يثبتوا السماع لإبراهيم من ابن عمر، وفي قول أبي حاتم وابن حبان إشارة بأنه لم يصح عندهما سماع إبراهيم من ابن عمر، وإلا لقالا: سمع أو قالا روى عن ابن عمر. وبعد والفحص والتفتيش عن مرويات إبراهيم بن أبي عبلة عن ابن عمر وقفت على هذين الحديثين: (عن إبراهيم بن أبي عبلة قال: رأيت ابن عمر يحتبي يوم الجمعة، والإمام يخطب، فيخفق الخفقات وهو محتب) (¬7) . (عن إبراهيم بن أبي عبلة قال: رأيت عبد الله بن عمر يؤثر على راحلته) (¬8) . وليس في هذين الحديثين إلا إثبات الرؤية فقط ولم يرد ما يدل على السماع، وأغلب ظني أن البخاري أثبت سماع إبراهيم من ابن عمر لمجرد الرؤية. ومما يزيد ظني قوة أني وجدت إبراهيم بن أبي عبلة يدخل بيته وبين أبي عمر رجلين في بعض الأسانيد فيروي أحاديث ابن عمر من طريق ابن شهاب عن سالم ¬

(¬1) الجرح والتعديل (2/105) . (¬2) الثقات (4/11) . (¬3) سير أعلام النبلاء (6/323) . (¬4) تهذيب التهذيب (1/143) . (¬5) جامع التحصيل (ص140) . (¬6) حلية الأولياء (5/245) . (¬7) مسند الشاميين للطبراني (1/35) وليس فيه لإبراهيم عن ابن عمر غير هذا الحديث فقط. (¬8) تاريخ أبي زرعة الدمشقي (1/448) .

عن ابن عمر (¬1) ، فلو كان قد جالس ابن عمر كثيراً ما احتاج لينزل في حديثه عنه إلى هذه الدرجة، وبهذا يعلم أنه التقى بابن عمر ورآه ولكن لم يرد ما يثبت أنه سمع منه. 3- أخرج البخاري في "القراءة خلف الإمام" حديثاً من طريق زارة بن أبي أوفى عن عمران بن حصين أن رجلاً صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ بسبح اسم ربك الأعلى ... الحديث. ثم إن البخاري أخرج بعد هذا الحديث مباشرة: (عن زرارة قال: رأيت عمران بن حصين يلبس الخز) (¬2) . ثم رجع فساق الحديث الأول بخمسة أسانيد عن زرارة عن عمران وليس فيها التصريح بالسماع. ولا أجدُ تفسيراً لصنيع الإمام البخاري إلا أنه أراد إثبات أن زرارة قد لقي عمران بن حصين - رضي الله عنه - لاسيما وأن موضوع الكتاب كله عن مسألة القراءة خلف الإمام، وليس ثمة علاقة بين لبس الخز وموضوع الكتاب ألبته، فلا يبقى إلا القول بأن الإمام البخاري ساق ذلك الأثر ليقرر أن زارة بن أبي أوفي لقي عمران بن حصين - رضي الله عنه -، ومما يزيد الأمر قوة أن سماع زرارة من عمران غير معروف بنص بعض أهل العلم فقد قال الغمام أبو محمد عبد العزيز بن محمد النخشبي (¬3) : (لا يعرف سماع زرارة من عمران بن حصين، وإنما يعرف سماعه من أبي هريرة وعبد الله بن سلام) (¬4) . ¬

(¬1) انظر مسند الشاميين (1/64-65/ [69، 70، 71] ) ولعل من حكم على حديثه عن ابن عمر بأنه مرسل نتيجة روايته عن ابن عمر بواسطة ولأنه لم يوجد ما يثبت سماعه منه. (¬2) القراءة خلف الإمام (ص47) حديث رقم [89] بتحقيق زغلول. (¬3) هو عبد العزيز بن محمد بن محمد بن عاصم النخشبي، إمام حافظ، رحل إلى الآفاق في طلب الحديث، وأثنى عليه العلماء، قال يحيى بن مندة: كان أوحد زمانه في الحفظ والاتقان لم نر في الحفظ في عصرنا، توفي سنة 456هـ. انظر تذكرة الحفاظ (3/1156) والنبلاء (18/267) . (¬4) فوائد أبي قاسم الحنائي المسماة "بالحنائيات" تخريج النخشبي (ق 130) ، ونقل نص النخشبي في جامع التحصيل (ص176) .

والإمام البخاري هنا احتج بالرؤية على إثبات اللقاء الذي هو شرطه في الاحتجاج بالحديث المعنعن. 4- ذكر البخاري - رحمه الله - في التاريخ الكبير عند ترجمته لمسروق بن الأجدع أنه: رأى أبا بكر وعمر (¬1) ولكنه قال في التاريخ الصغير: (سمع من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما) (¬2) . فأثبت له السماع مع أن مسروقاً لم يثبت له عنما إلا الرؤية، قال علي بن المديني: (وصلى خلف أبي بكر، ولقي عمر وعلياً، ولم يرو عنهم شيئاً) (¬3) . 5- رأيت شيخ الإمام البخاري علي بن المديني يستخدم لفظ اللقيا كثيراً في كتابه "العلل" عند إثباته سماع الرواة من شيوخهم مما يدل على أنه لا يشترط السماع فقط وإنما اللقاء، فمن ذلك: قوله: (حبيب بن أبي ثابت لقي ابن عباس، وسمع من عائشة، ولم يسمع من غيرهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) (¬4) . والملاحظ هنا أنه فرق بين سماع حبيب من ابن عباس، وسماعه من عائشة، فقال علي بن المديني في رواية حبيب عن ابن عباس بأنه "لقي" وقال في رواية حبيب عن عائشة بأنه "سمع"، ثم سمى اللقاء سماعاً في قوله: (ولم يسمع من غيرهما) . وقال ابن المديني: (سالم بن أبي الجعد قد لقي عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقى جابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمرو، والنعمان بن بشير، ورأى أنس بن مالك) (¬5) . ¬

(¬1) التاريخ الكبير (8/35) . (¬2) التاريخ الصغير (1/150) . (¬3) العلل لابن المديني (ص61) . (¬4) االعلل لابن المديني (ص66) . (¬5) العلل لابن المديني (ص63) .

وقد ذكر البخاري في ترجمة سالم بن أبي الجعد أنه سمع أنساً (¬1) ، مع أن ابن المديني لم يذكر إلا الرؤية فقط، فهذه قرينة تضاف على ما تقدم. وقال ابن المديني: (زياد (¬2) لقي سعداً عندي وكان كبيراً) (¬3) ، واستخدم لفظ اللقاء في مواضع أخر عديدة (¬4) . وتأثر البخاري بأستاذه وشيخه على بن المديني لا يخفى على فطن، فإذا كان علي بن المديني يرى أن اللقاء يكفي للاحتجاج بالسند المعنعن فغالب الظن أن البخاري كذلك يرى مثل ما يراه شيخه لاسيما إذا أخذنا بعين الاعتبار كل ما تقدم من شواهد. ومما يؤيد - بل يكاد يقطع - بأن مذهب البخاري وابن المديني في الاحتجاج بالحديث المعنعن اشتراط اللقاء أو السماع ما نقله الإمام مسلم عندما حكى قول خصمه فقال: (وزعم القائل الذي افتتحنا الكلام على الحكاية عن قوله، والإخبار عن سوء رويته، أن كل إسناد لحديث فيه فلان عن فلان، وقد أحاط العلم بأنهما قد كان في عصر واحد، وجائز أن يكون الحديث الذي روى الراوي عمن روى عنه قد سمعه منه وشافهه به. غير أنه لا نعلم له منه سماعاً، ولم نجد في شيء من الروايات أنهما التقيا قط، أو تشافها بحديث أن الحجة لا تقوم عنده بكل خبر جاء ي المجيء، حتى يكون عنده العلم بأنهما قد اجتمعا من دهرهما مرة فصاعداً، أو تشافها بالحديث بينهما، أو يرد خبر فيه بيان اجتماعهما وتلاقيهما مرة من دهرهما فما فوقهما) (¬5) . ولعل قائلاً يقول: إذا كان البخاري يكتفي للإحتاج بالحديث المعنعن بمجرد اللقاء فلماذا استخدام لفظ "السماع" ولم يستخدم لفظ "اللقاء" في مثل قوله: "فلان سمع فلاناً وفلاناً"، وفي نقده للأحاديث التي لم يثبت فيه السماع ¬

(¬1) التاريخ الكبير (4/107) . (¬2) زيادة هو ابن علاقة. (¬3) العلل لابن المديني (ص67) . (¬4) انظر مثلاً العلل (ص45، 46، 48، 60، 61، 63، 64، 66، 68) . (¬5) مقدمة صحيح مسلم (1/29) .

المبحث الثاني وسائل إثبات اللقاء

كقوله: "لا يعرف لفلان سماع من فلان؟ ". هذا الكلام صحيح فالبخاري اختار لفظ "السماع" واستخدمه كثيراً، ولكن وربما لأن إثبات اللقاء أكثر ما يكون بوجود التحديث والسماع في الأسانيد، وهذا هو الغالب الأعم أن معرفة البقاء أكثر ما يكون بوجود التحديث والسماع في الأسانيد، وهذا هو الغالب الأعم أن معرفة اللقيا تكون بورود التصريح بالتحديث في الأسانيد، فيكون استخدام الإمام البخاري للفظ السماع من باب التغليب وأن الحكم للأغلب، والله تعالى أعلم. المبحث الثاني وسائل إثبات اللقاء وسائل إثبات اللقاء هي الأمور التي يحكم بسببها الناقد محتجاً بها على سماع رجل من رواة الحديث من رجل آخر، وهذه الأمور هي: أولاً: التصريح بالسماع في السند. ثانياً: ثبوت اللقاء في قصة أو حادثة مرورية. ثالثاً: ورود ألفاظ غير صريحة في اللقاء ولكنها قرائن قوية على وقوعه. وسأذكر أمثلة توضيحية على كل وسيلة من وسائل الإثبات هذه فيما يلي: أولاً: التصريح بالسماع في السند: إذا ورد في سند من الأسانيد - التي تصلح للاحتجاج - أن فلاناً قال: سمعت فلاناً، أو حدثني، أو حدثنا، أو قال لي، أو أخبرنا، ونحو ذلك من العبارات الدالة على السماع، فإن ذلك يحتج به على أن السماع ثابت وصحيح، فكل ما جاء بمثل ذلك السند عن الشخصين نفسيهما بالعنعنة فإنه يعد متصلاً وصالحاً للاحتجاج ما لم يحل دون ذلك مانع من الموانع القادحة كالتدليس ونحوه. وهذه الوسيلة هي الأكثر استخداماً في إثبات الاتصال في السند المعنعن، فأغلب إثبات السماع واللقاء إنما تكون من خلال التسريح بالسماع أو التحديث في السند ومن الأمثلة على هذا في كلام الإمام البخاري - رحمه الله تعالى -.

1- سأل الترمذي الإمام البخاري: (محمد بن المنكدر سمع من عائشة؟ فقال نعم روى مخزمة بن بكير عن أبيه عن محمد بن المنكدر قال: سمعت عائشة) (¬1) . 2- ساق الإمام البخاري حديثاً من طريق الحسن البصري وفيه: (فقال الحسن: ولقد سمعت أبا بكر يقول: رأيت رسول الله صلى الله علهي وسلم على المنبر - والحسن بن علي إلى جنبه - وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول: "إن أبني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظمتين من المسلمين". قال أبو عبد الله: قال لي علي بن عبد الله: إنما ثبت لنا سماع الحسن من أبي بكرة بهذا الحديث" (¬2) . فالبخاري اقر ورضي قول شيخه علي بن المديني في أن تصريح الحسن بالسماع من ابي بكرة في هذا الحديث هو الذي أثبت سماعه منه. والأمثلة على هذا كثير، ولكن لوضوح الأمر واشتهاره أكتفي بهذين المثاليين. ثانياً: ثبوت اللقاء في قصة أو حادثة مرورية: يحدث أحياناً أن راوياً يحدث عن شيخ بعدة أحاديث ولا يوجد في أسانيده ما يدل على سماعه في الشيخ، ولكن يأتي في خبر ما إثبات لحصول الالتقاء بينهما، ويكون هذا من خلال قصة أو حادثة تروى، فتحصل الفائدة بأنهما قد ألتقيا لذا يحتاج بما ورد من طريقهما من أحاديث معنعنة، والإمام البخاري - رحمه الله تعالى - كما قد تقرر في المبحث السابق يثبت الاتصال عنده إمام بالسماع أو اللقاء، ومن الأمثلة على الاعتماد البخاري على وسيلة الإثبات هذه ما يلي: 1- أخرج البخاري من طريق (عبد الله بن عثمان بن خثيم المكي عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه: أخر الوليد بن عقبة الصلاة بالكوفة، فانكفأ ابن مسعود إلى مجلسه، وأنا ... مع أبي. ¬

(¬1) العلل الكبير للترمذي (1/373) . (¬2) صحيح البخاري (5/361/ [2704] ) ، كتاب الصلح، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي ... ، وانظر كذلك التاريخ الصغير (1/122) .

قال شعبة: لم يسمع عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود من أبيه. وحديث ابن خثيم أولى عندي) (¬1) . يشير الإمام البخاري هنا إلى أن ما في حديث ابن خيثم من أن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قد ذكر أنه حضر تلك الحادثة مع أبيه مثبت لسماعه من أبيه - عند البخاري-، ومقدم على قول شعبة من أن عبد الرحم لم يسمع من أبيه. والمتأمل في هذا النص لا يقف فيه على سماع عبد الرحمن من أبيه عبد الله بن مسعود، ولكن يجد فيه أنه حضر مع والده تلك الواقع، واحتاج البخاري على سماع عبد الرحمن من أبيه بهذا الحديث. 2- سأل الترمذي الإمام البخاري: (أبو الزبير سمع عائشة وابن عباس؟ قال: أما ابن عباس فنعم؟ وإن في سماعه في عائشة نظرا) (¬2) . وأبو الزبير المكي روى عن ابن عباس مباشرة أحاديث قليلة جداً وليس فيها سماع، وإنما ثبت سماعه من ابن عباس في حديث يرويه أبو الزبير عن ابي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي الأنصاري والحديث كما ورد: (عن أبي الزبير الملكي قال: سمعت أبا أسيد الساعدي وابن عباس يفتي بالدينار بالدينارين، فقال ابو أسيد وأغلظ له في القول، فقال ابن عباس: ما كنت أظن أن أحداً يعرف قرابتي من رسول الله يقول ليمثل هذا يا ابا أسيد.. الحديث) (¬3) . والبخاري إنما أثبت سماع أبي الزبير من ابن عباس لهذا الحديث الذي شهد فيه أبو الزبير هذه المناظرة رغم أنه لم يأت سماع صحيح من أبي الزبير فيما يرويه عن ابن عباس من أحاديث، ولعل هذا ما جعل سفيان بن عيينة يقول: (يقولون أبو ¬

(¬1) التاريخ الصغير (1/99) . (¬2) العلل الكبير للترمذي (1/388) . (¬3) المعجم الكبير للطبراني (19/268-269) ، والمستدرك للحاكم (2/19-20) ، وقال الهيثمي في المجمع (4/114) : إسناد حسن.

الزبير المكي لم يسمع من ابن عباس) (¬1) ، وأبو حاتم الرازي يقول: (أبو الزبير رأى ابن عباس رؤية) (1) . وقد تقدم في المبحث الأول من هذا الفصل عدة شواهد تندرج تحت وسلة الإثبات الثانية المعنونة بإثبات اللقاء في قصة أو حادثة مرورية، فأغنى ذكرها هناك عن إعادتها هنا. وقد ذكر مسلم - رحمه الله تعالى - الوسيلتين السابقتين أثناء عرضه لقول مخالفه إذا قال: (إن الحجة لا تقوم عنده بكل خبر جاء هذا المجيء، حتى يكون عنده العلم بأنهما قد اجتمعا من دهرهما مرة فصاعداً، أو تشافها بالحديث بينهما، أو يرد خبر فيه بيان اجتماعهما، وتلاقيهما مرة من دهرهما، فما فوقها) (¬2) . وبقي وسيلة لم يذكر مسلم، وليس ذلك إلا لندرتها، ولكون الوسلة الأولى، والثانية أكثر في الاستخدام والتطبيق منها، وسنتحدث عنها الآن. ثالثاً: ألفاظ غير صرحية في اللقاء ولكنها قرائن قوية على وقوعه: وجدت في بعض الأحايين أحاديث صححها البخاري، ولم يثبت لبعض رواتها السماع من البعض الآخر، ولا يوجد للبخاري كلام في ثبوت السماع لرواة تلك الأحاديث، ولا حتى كلام في تفسير ما صنع، ولكن التأمل في هذه الأحاديث يقودنا إلى الاستنباط إلى أن البخاري إنما صحح تلك الأحاديث لوجود قرائن قوية تدل على وقوع اللقاء بين بعض رواة السند من بعضهم الآخر، ولا أدعي أن الشواهد التي سأسوقها هي محل اتفاق، فالأمر اجتهادي ولا يخرج عن حدود الاستنباط، ولم ينم إلى علمي أن احداً ذكر هذه الوسيلة ضمن وسائل إثبات اللقاء عند البخاري أو علي بن المدين، مما جعلني أتردد وأفكر في إلغاء هذا الجزء من مبحث وسائل إثبات اللقاء، ولكن رأيت أن الإقدام خير من الإحجام، وأن المصلحة في كتابة هذا الجزء راجحة مع ما قد يستعرض له من نقد، وفيما يلي شواهد على هذه الوسلة: 1- أخرج البخاري في صحيحه من طريق أبي عبد الرحمن السلمي عن ¬

(¬1) المراسيل لابن أبي حاتم (ص154) . (¬2) مقدمة صحيح مسلم (1/29) .

عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ("خيركم من تعلم القرآن وعلمه"، قال (¬1) : وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عُثمان حتى كان الحجاج، قال (¬2) : وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا) (¬3) . وثبت عن شعبة بن الحجاج أنه قال (لم يسمع أبو عبد الرحمن السلمي من عثمان) (¬4) ، وكذا قال يحيى بن معين (¬5) ، ولم يُنكر الإمام أحمد قول شعبة (¬6) ، وأما أبو حاتم فأجاب على من سأله (سمع من عثمان بن عفان؟ قال: روى عنه ولا يذكر سماعاً) (¬7) . فلماذا صحَّح البخاري الحديث إذا كان يخالف شرطه في الاحتجاج بالسند المعنعن؟ . قل يُقال لعل البخاري وقف على طريقٍ للحديث نفسه فيه تصريح أبي عبد الرحمن السلمي بالسماع من عثمان رضي الله عنه، ولكن الواقع أن الحافظ ابن حجر ذكر في شرحه على صحيح البخاري أنه لم يجد التصريح بالحديث عن طريقٍ يعتمد عليه وذلك خلال مناقشته لقول شعبة السابق، فقد قال (قد وقع في بعض الطرق التصريح بتحديث عثمان لأبي عبد الرحمن، وذلك فيما أخرجه ابن عدي (¬8) في ترجمة عبد الله بن محمد بن محمد بن أبي مريم من طريق ¬

(¬1) القائل الأول هو سعد بن عبيدة راوي الحديث عن أبي عبد الرحمن السلمي، والقائل الثاني هو أبو عبد الرحمن نفسه، انظر فتح الباري (8/695) . (¬2) صحيح البخاري) . (8/692/ [5027] كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه. (¬3) مسند الإمام أحمد (1/36/ [412] تحقيق أحمد شاكر، والمراسيل لابن أبي حاتم (ص 94) (¬4) فتح الباري (8/693) . (¬5) المراسيل لابن أبي حاتم (ص 95) . (¬6) المراسيل لابن أبي حاتم (ص 94) . (¬7) الكامل في الضعفاء لابن عدي (4/1568) وقد قال ابن عدي في ابن أبي مريم هذا: يحدث بالبواطيل، وقال: إما أن يكون مغفلاً أو متعمداً. (¬8) فتح الباري (8/649) .

ابن جريج عن عبد الكريم عن أبي عبد الرحمن حدثني عثمان، وفي إسناده مقال) (¬1) . إذن على ماذا استند الإمام البخاري في تصحيحه لاتصال هذا الحديث؟ أجاب الحافظ ابن حجر في قوله: (ظهري لي أن البخاري اعتمد في وصله، وفي ترجيح لقاء أبي عبد الرحمن لعثمان على ما وقع في رواية شعبة عن سعد بن عبيدة من الزيادة، وهي أن أبا عبد الرحمن أقرأ من زمن عثمان إلى زمن الحجاج، وأن الذي حمله على ذلك هو الحديث المذكور، فدل على أنه سمعه في ذلك الزمان، وإذا سمعه في ذلك الزمان ولم يوصف بالتدليس اقتضى ذلك سماعه ممن عنعنه عنه وهو عثمان رضي الله عنه، ولا سيما مع ما اشتهر بين القراء أنه قرأ على عثمان، وأسندوا ذلك عنه من رواية عاصم بن أبي النجود وغيره (¬2) ، فكان هذا أولى من قول من قال إنه لم يسمع منه) (¬3) . وفي كلام ابن حجر إشارة إلى أن البخاري اعتمد في تصحيحه لهذا الحديث على لفظٍ غير صحيح في إثبات اللقاء، ولكنه قرينة قوية، بالإضافة إلى قرينة أخرى هي ما اشتهر عند القراء من أن أبا عبد الرحمن السلمي قرأ القرآن على عثمان، وإن كان في أسانيد أخبار قراءة السلمي على عثمان ضعف ووهن (¬4) والمحفوظ عن عاصم بن أبي النجود أن أبا عبد الرحمن السلمي قرأ على علي رضي الله عنه، بل سند عاصم في القراءة هكذا: (عاصم عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن ¬

(¬1) رُوي أن أبا عبد الرحمن قرأ على عثمان ولكن من طرقٍ لا تسلم من مقال، انظر معرفة القراء الكبار للذهبي (1/52 ـ 57) وسير أعلام النبلاء (4/267 ـ 272) . (¬2) فتح الباري (8/694) . (¬3) وانظر نقد الذهبي لها في سير أعلام النبلاء (4/268، 271) ولا تصلح لأن يقوي بعضها بعضاً لما فيها من شذوذ ومعارضة للطرق القوية، وليس من المناسب في هذا الموضع تفصيل هذه الجزئية. (¬4) معرفة القراء الكبار (1/91، 92، 94) وسير أعلام النبلاء (4/269) .

أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) (¬1) فلو كان لعاصم عن أبي عبد الرحمن السلمي طريق وسند في القراءة عن عثمان رضي الله عنه لشهر ذلك وأظهره لأنه كان عثمانياً ويُقدم عثمان على علي في الأفضلية (¬2) على عكس ما هو مشهور عن أكثر الكوفيين. وأغلب الظن أن البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ لم يأخذ بقول شعبة هذا لأن القرينة قوية جداً كما يتضح من كلام ابن حجر السابق، وهذا مما يؤكد أن البخاري لا يطبق شرطه في الحديث المعنعن تطبيقاً جامداً بل ينظر للقرائن القوية ولا يُهملها، فلله دره من إمام واسع الأفق لا تسجنه الألفاظ، ولا تأسره العبارات. 2- سأل الترمذي البخاري عن حديث يرويه (حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في العيدين والجمعة بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية، وربما اجتمعا في يوم فيقرأ بهما. فقال البخاري: هو حديث صحيح (¬3) . والإمام البخاري عندما ترجم لحبيب بن سالم قال: (حبيب بن سالم مولى النعمان بن بشير الأنصاري، عن النعمان، روى عنه أبوبشير وبشير بن ثابت ومحمد بن المنتشر وخالد بن عرقطة وإبراهيم بن مهاجر، وهو كاتب النعمان، فيه نظر (¬4)) (¬5) . وفي قوله: "عن النعمان" مما يدل على أن سماع حبيب عن النعمان لم يثبت بيقين عند البخاري وإلا لقال - كما هي عادته - "سمع النعمان". لاسيما وقد ¬

(¬1) معرفة القراء الكبار (1/91، 92، 94) وسير أعلام النبلاء (4/270) . (¬2) معرفة القراء الكبار (1/91، 93) . (¬3) العلل الكبير للترمذي (1/285-286) . (¬4) هذه فائدة نفيسة جدًا لم تذكر في شيء من كتب علم الجرح والتعديل، وهي أن البخاري صحيح لمن قال: فيه نظر، وهذه الفائدة تحرضنا على البحث عن حقيقة مراد البخاري بقوله: فيه نظر، إذ تحتاج المسألة لبحث استقرائي متأن.. (¬5) التاريخ الكبير (2/318) .

ذكر أن حبيبًا أدخل بينه وبين النعمان واسطة في بعض ما حدث (¬1) ، ففي هذين الأمرين ما يدعو للشك في ثبوت سماعه من النعمان - عند البخاري -. ويظهر لي أن الإمام البخاري إنما صحح حديث حبيب بن سالم عن النعمان. للفظ يتضمن قرينة قوية على وقوع النعمان"، والظن الغالب أن الكاتب عند أمير أو قاض (¬2) يكون قد التقى سيده، يضاف إلى ذلك قرينة أخرى وهي أن حبيبًا مولى النعمان بن بشير، فيكون تصحيح البخاري للحديث مع عدم ثبوت السماع أو اللقاء لقوة القرائن الدالة على وقوع اللقاء. 3- حكم البخاري على حديث يرويه عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة في صلاة الخوف أنه حديث حسن (¬3) . وقد رجعت إلى التاريخ الكبير لأرى هل نص البخاري على سماع عبد الله بن شقيق من أبي هريرة؟، فوجدته نص على سماعه من عائشة ولم ينص على سماعه من أبي هريرة، ولكن نقل قولاً لعبد الله بن شقيق فيه قرينة قوية جدًا على لقائه لأبي هريرة! إذ قال: (جاورت أبا هريرة سنة) (¬4) . فلعل البخاري قوى حديث عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة معتمدًا على هذه الكلمة التي هي قرينة على وقوع اللقاء، بل لعلها أقوى من حيث احتمال اللقاء والتصريح بمدة الملازمة من مجرد ورود لفظ "سمعت"، أو "حدثنا" مرة واحدة. وربما أن البخاري اختار هذه الكلمة وفضلها على أن يقول "سمع أبا هريرة" لما في هذه الكلمة من زيادة على مجرد السماع. وأخيرًا يجب أن نقرر أنه ليس هناك قاعدة مطردة فيما يصلح، وما لا يصلح ¬

(¬1) تهذيب الكمال (2/374) تحقيق بشار معروف. (¬2) النعمان بن بشير رضي الله عنه تولى إمارة الكوفة في زمن معاوية رضي الله عنه، ثم ولي قضاء دمشق، ثم ولي إمارة حمص. أنظر سير أعلام النبلاء (3/412) . (¬3) العلل الكبير للترمذي (1/303) ولم يذكر متن الحديث، وقد ساقه الترمذي في سننه (5/243/ [3035] ) . (¬4) التاريخ الكبير (5/116) .

المبحث الثالث شروط الاحتجاج بوسائل اللقاء

من الألفاظ التي هي قرائن على قوة احتمال وقوع اللقيا، والعمدة في هذا الباب على القرائن، ومدى قوتها. المبحث الثالث شروط الاحتجاج بوسائل اللقاء يشترط للاحتجاج بوسائل اللقاء أمران: 1- صحة السند. 2- السلام مما يمنع ثبوت اللقاء. 1- صحة السند: إذا روي ما يدل على لقاء راو بشيخ في خبر من الأخبار، ولكن من طريق ضعيف فلا يعتد بذلك حتى يجيء من طريق صحيح، فصحة السند شرط للأخذ بوسيلة اللقاء. قال البخاري: (قال: إنما صح عندنا سماع الحسن من أبي بكرة بهذا الحديث) (¬1) . وقال: (وسماع الحسن من سمرة من جندب صحيح) (¬2) . ومعنى هذا أن سماع الحسن من هذين الصحابين ثبت بسند صحيح، وقد تكلم الإمام البخاري في سماعات بعض الرواة لأنها لم ترد من طرق يعتمد عليها، فقال في ترجمة عبد الله بن عكيم: (لا يعرف له سماع صحيح) (¬3) ، وقال في موضع آخر: (قال عباد بن ميسرة حدثنا الحسن قال ثنا أبوهريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أبوعبد الله: ولا يصح سماع الحسن من أبي هريرة في هذا) (¬4) . ¬

(¬1) التاريخ الصغير (1/122) . (¬2) العلل الكبير للترمذي (2/963) ، والتاريخ الصغير (1/282) نقلاً عن علي بن المديني. (¬3) التاريخ الكبير (5/39) ، والضعفاء (ص66) . (¬4) التاريخ الكبير (5/35) .

ومما ينبغي التنبيه عليه أن الإمام البخاري - رحمه الله تعالى - لا يبالغ في التشدد إزاء رجال سند الخير الذي يتضمن ثبوت اللقاء أو السماع فمن ذلك: قال الترمذي: (سألت محمدًا عن هذا الحديث، وقلت له: محمد بن المنكدر سمع من عائشة؟ فقال: نعم. روى مخرمة بن بكير عن أبيه عن محمد بن المنكدر قال: سمعت عائشة) (¬1) . ومخرمة بن بكير متكلم في سماعه من أبيه فقد قال مخرمة: (هذه كتب أبي لم أسمع منها شيئًا) (¬2) ، وقد تكلم ابن معين وعلي بن المديني وأبوداود وابن حبان في سماع مخرمة من أبيه (¬3) ، وقيل إنه سمع منه بعض الشيء قال ابن المديني: (لعله سمع الشيء اليسير، ولم أجد أحدًا بالمدينة يخبرني عن مخرمة أنه كان يقول في شيء من حديثه سمعت أبي) (¬4) . فهذا السند فيه انقطاع، ولكن لعل البخاري احتج بخبر مخرمة بن بكير عن أبيه لأن التدليس كان نادرًا جدًا في المدينة، والسند الذي هو محمد بن المنكدر عن عائشة سند مدني لذا ساغ التساهل فيه، ولعل هناك قرائن أخرى أملت على الإمام البخاري الأخذ بهذا السند، وتساهل البخاري هو في اعتماده هنا على الوجادة، وقد احتج بالوجادة بعض أهل العلم. 2- السلامة مما يمنع من ثبوت اللقاء: أ - موانع قادحة: 1- وجود ما يمنع ثبوت اللقاء تاريخيًا: إذا جاء في خبر أن فلانًا اجتمع مع فلان إلا أن التاريخ لا يسمح بحدوث ذلك لكون أحدهما مات قبل مجيء الآخر، أو رجل عن بلدة قبل دخول الآخر ¬

(¬1) العلل الكبير للترمذي (1/373) ، وقد تكلم في سماع ابن المنكدر من عائشة، انظر تهذيب التهذيب (9/474، 475) . (¬2) التاريخ الكبير (8/16) . (¬3) تهذيب التهذيب (10/70 - 71) . (¬4) تهذيب التهذيب (10/71) .

إليها، فإن الراجح أخذ ما جاء في التاريخ إلا أن يكون هناك ما يطعن في صحة النقل التاريخي أو يشكك في صدقه. ساق البخاري حديثًا من طريق: (محمد بن عبد الله عن المطلب عن أبي هريرة: "دخلت على رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة عثمان وفي يدها مشط") (¬1) . ثم عقب عليه منتقدًا بقول: (لا أدري حفظ؟!، لأن رقية بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - ماتت أيام بدر، وأبوهريرة هاجر بعد ذلك بنحو من خمس سنين أيام خيبر، ولا تقوم به الحجة) (¬2) . فرفض البخاري الحديث ولم يحتج بما ذكر فيه من لقاء أبي هريرة لرقية بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعارضة ذلك لحقائق التاريخ. 2- ... تصريح الراوي بنفسه أنه لم يسمع ممن روى عنه: إذ صرح الراوي بنفسه أنه لم يسمع من فلان الذي روى عنه كان ذلك التصريح أقوى من غيره إذا كان سند النص المصرح فيه بعدم السماع صحيحًا، ومن ذلك: جاء في بعض الأسانيد أن جميل بن زيد قال حدثنا ابن عمر (¬3) ، وقد قال جميل بن زيد نفسه: (هذه أحاديث ابن عمر بما سمعت من ابن عمر شيئًا، إنما قالوا لي: اكتب أحاديث ابن عمر فقدمت المدينة فكتبتها) (¬4) . 3- دخول التحديث خطأ في الإسناد: يحدث أحيانًا أن يروى سند فيه التصريح بالسماع بين راو وشيخه، ولكن يكون ذلك خطأ وليس صوابًا، فلا يحتج بالتصريح بالسماع لمجرد وروده في سند حتى يتأكد من أنه ليس بخطأ، وقد نبه البخاري على بعض من ذلك: ¬

(¬1) التاريخ الكبير (1/129) ، والتاريخ الصغير (1/43) . (¬2) التاريخ الصغير (1/43) . (¬3) التاريخ الصغير (2/75) . (¬4) التاريخ الصغير (2/74 - 75) ، وسند النص أحمد بن حنبل عن أبي بكر بن عياش عن جميل، فالسند إلى جميل قوي.

قال البخاري: (قال لي ابن حجر: ولد عبد الجبار (¬1) بعد موت أبيه بستة أشهر، وقال فطر عن أبي إسحاق عن عبد الجبار سمعت أبي، ولا يصح) (¬2) . وقال البخاري في سند روي فيه تصريح الحسن البصري بسماعه من أبي هريرة: (ولا يصح سماع الحسن من أبي هريرة) (¬3) . وقال البخاري: (أبولقمان سمع أبا هريرة، قال ابن مهدي، وابن صالح نا أبولقمان عن عبد الله عن أبي هريرة، وهذا أصح) (¬4) . يعني بينه وبين أبي هريرة رجل، ومقتضى هذا أن السماع دخل خطأ. ولابن رجب كلام طيب حول هذه النقطة، فقد قال: (وكان أحمد يستنكر دخول التحديث في كثير من الأسانيد، ويقول: هو خطأ، يعني ذكر السماع: قال في رواية هدية عن حماد عن قتادة نا خلاد الجهني: "هو خطأ، خلاد قديم، ما رأى قتادة خلادًا، وذكروا لأحمد قول من قال: عن عراك بن مالك سمعت عائشة فقال: "هذا خطأ" وأنكره، وقال: عراك أين سمع من عائشة؟ إنما يروي عن عروة عن عائشة". وكذلك ذكر أبوحاتم الرازي: أن بقية بن الوليد كان يروي عن شيوخ ما لم يسمعه، فيظن أصحابه أنه سمعه، فيروون عنه تلك الأحاديث ويصرحون بسماعه لها من شيوخه، ولا يضبطون ذلك. وحينئذ فينبغي التفطن لهذه الأمور، ولا يغتر بمجرد ذكر السماع والتحديث في الأسانيد، فقد ذكر ابن المديني أن شعبة وجدوا له غير شيء يذكر فيه الإخبار عن شيوخه، ويكون منقطعًا. وذكر أحمد أن ابن مهدي حدث بحديث عن هشيم أنا منصور بن زاذان، قال أحمد: "ولم يسمعه هشيم من منصور") (¬5) . ¬

(¬1) هو عبد الجبار بن وائل بن حجر الحضرمي. (¬2) التاريخ الكبير (1/69) . (¬3) التاريخ الكبير (2/35) . (¬4) التاريخ الكبير (8/66) . (¬5) شرح علل الترمذي (1/369 - 370) .

ب - موانع غير قادحة: 1- معارضة أحد الأئمة المتقدمين: في بعض الأحيان نجد تعارضًا في بعض الأقوال بين البخاري وأحد الأئمة المتقدمين عليه في العمر، فذلك الإمام يقول: فلان لم يسمع من فلان، والبخاري: يقول سمع، وفي هذا ما يدل على أن الإمام البخاري لم يجعل أحكام الأئمة من قبله إذا عارضها الدليل مانعًا تسوغه حجة: لعله بلغهم ما لم يبلغني، ومن الشواهد على ذلك: أثبت البخاري لمجاهد السماع من علي بن أبي طالب رضي الله عنه (¬1) ، بينما أنكر ابن معين ذلك (¬2) . وأخرج البخاري في صحيحه (¬3) لمجاهد عن عائشة عدة أحاديث مثبتًا بذلك سماع مجاهد عن عائشة، وقد قال شعبة، ويحيى بن سعيد القطان، وابن معين، أن مجاهدًا لم يسمع من عائشة (¬4) . وأثبت البخاري سماع عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود من أبيه، ونفي ذلك شعبة، قال البخاري: (قال شعبة: لم يسمع عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود من أبيه، وحديث ابن خثيم أولى عندي) (¬5) . وهذه الأقوال تثبت إمامة البخاري ومكانته الاجتهادية في العلم. 2- عدم صحة ما ينفي اللقاء تاريخيًا: إذا جاء في سند صحيح ما يثبت اللقاء، ولكن هناك ما يعارضه من أقوال المؤرخين غير المعتمدين فإن ما في السند الصحيح يقدم على قول أهل التاريخ ¬

(¬1) التاريخ الكبير (7/412) . (¬2) المراسيل لابن أبي حاتم (ص161) . (¬3) صحيح البخاري (3/701/ [1776] ) ، كتاب الحج، باب كم اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي الحديث سماع مجاهد لصوت عائشة. (¬4) المراسيل لابن أبي حاتم (ص161-162) . (¬5) التاريخ الصغير (1/99) وفي حديث ابن خثيم إثبات أن عبد الرحمن كان مع أبيه شاهدًا لما أخر الوليد بن عقبة الصلاة.

الذين فيهم نظر، وهذا ما فعله البخاري في حديث مسروق عن أم رومان الذي أخرجه في صحيحه (¬1) ، فقد قال: (وروى علي بن زيد عن القاسم: ماتت أم رومان زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه نظر، وحديث مسروق أسند) (¬2) ، ويعني البخاري أن تصريح مسروق بلقائه لأم رومان أصح سندًا من قول القاسم أنها ماتت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن قول القاسم من رواية علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف. وقد طعن غير واحد في حديث مسروق عن أم رومان الذي أخرجه البخاري في صحيحه، ومن هؤلاء ابن السكن، والخطيب البغدادي، والقاضي عياض، والسهيلي، وابن سيد الناس، والمزي، والذهبي (¬3) ، والعلائي (¬4) ، وحجتهم في ذلك ما ذكره ابن كثير عنهم بقوله: (وذلك لما ذكره أهل التاريخ أنها ماتت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬5) . وممن أيد البخاري ونصره ابن القيم (¬6) ، وكذلك الحافظ ابن حجر الذي قال: (والذي ظهر لي بعد التأمل أن الصواب مع البخاري، لأن عمدة الخطيب ومن تبعه في دعوى الوهم الاعتماد على قول من قال: إن أم رومان ماتت في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة أربع وقيل سنة خمس، وقيل ستة ست، وهو شيء ذكره الواقدي، ولا يتعقب الأسانيد الصحيحة بما يأتي عن الواقدي، وذكره الزبير بن بكار بسند منقطع فيه ضعف أن أم رومان ماتت سنة ماتت سنة ست في ذي الحجة، وقد أشار البخاري إلى رد ذلك في تاريخه الأوسط والصغير، فقال بعد أن ذكر أم رومان في فصل من مات في خلافة عثمان: روى علي بن زيد عن القاسم قال ماتت أم رومان في زمن ¬

(¬1) صحيح البخاري (7/500/ [4143] ) ، كتاب المغازي، باب حديث الإفك، وفيه قال مسروق: "حدثتني أ/ رومان". (¬2) التاريخ الصغير (1/63) . (¬3) فتح الباري (7/503) . (¬4) جامع التحصيل (ص277 - 278) . (¬5) تفسير ابن كثير (5/68) . (¬6) زاد المعاد (3/266-267) .

النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة ست، قال البخاري: وفيه نظر، وحديث مسروق أسند أي أقوى إسنادًا وأبين اتصالاً) (¬1) . 3- دخول واسطة في السند بين من ثبت لهما اللقاء: معنى الواسطة في السند أن يدخل في سند بين راو وآخر رجل مثل أن يروي عراك بن مالك عن عائشة، ثم يجيء في سند آخر بينهما واسطة فيكون السند هكذا: عراك بن مالك عن عروة بن الزبير عن عائشة، وهذه المسألة لا تخرج عن حالتين: الحالة الأولى: دخول واسطة في السند بين من ثبت لهما اللقاء. الحالة الثانية: دخول واسطة في السند بين من لم يثبت لهما لقاء. ولكل حالة من هاتين الحالتين حكم سأذكره مع الأمثلة من نصوص الإمام البخاري فيما يلي: الحالة الأولى: دخول واسطة في السند بين من ثبت لهما اللقاء: دل صنيع البخاري وأقواله على أنه لا يعد دخول الواسطة بين من ثبت لهما اللقاء من الموانع القادحة التي يحتج بها على نفي ثبوت اللقاء، ورد النص المنقول الذي ثبت فيه اللقاء، والشواهد على ذلك من كلامه عديدة، وسأكتفي بذكر الآتي: أثبت البخاري سماع عبد الله البهي من عائشة (¬2) رضي الله عنها، وقد ثبت أنه حدث عن عروة بن الزبير عن عائشة (¬3) ، ,قد أجاب الإمام أحمد بن حنبل لما سئل: عبد الله البهي سمع من عائشة؟ بقوله: (ما أرى في هذا شيئًا، إنما يروي عن عروة، وقال في حديث زائدة عن السدي عن البهي قال: حدثتني عائشة في حديث الخمرة: وكان عبد الرحمن قد ¬

(¬1) فتح الباري (7/502) ، وقد فصل ابن حجر الأدلة في الرد على خطأ الخطيب البغدادي ومن تبعه. في هدي الساري (ص392) ، والإصابة (4/450 - 452) ، والتهذيب (12/467 - 468) . (¬2) التاريخ الكبير (5/56) . (¬3) تحفة الأشراف (12/14) وللبهي ثلاثة أحاديث بهذا الإسناد.

سمعه من زائدة، فكان يدع فيه "حدثتني عائشة" وينكره) (¬1) . وأثبت البخاري سماع عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود من أبيه (¬2) ، وقد ثبت أن عبد الرحمن حدث عن مسروق عن عبد الله بن مسعود (¬3) ، وقد ذهب شعبة، وابن معين في رواية عنه، والحاكم إلى أن عبد الرحمن لم يسمع من أبيه (¬4) ، ولعل حجتهم في ذلك أن عبد الرحمن كان صغيرًا عند وفاة والده، ولأنه أدخل في بعض حديثه عن أبيه واسطة. وأثبت البخاري سماع أبي الزبير من ابن عباس (¬5) ، وقد ثبت أن أبا الزبير روى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (¬6) ، وروى عن طاووس عن ابن عباس (¬7) ، وروى عن مجاهد عن ابن عباس (¬8) ، ورى عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس (¬9) ، وعن عكرمة عن ابن عباس (¬10) ، وقد تكلم ابن عيينة، وأبوحاتم الرازي في سماع أبي الزبير من ابن عباس (¬11) ، ولعل مستندهم أن أكثر حديث أبي الزبير عن ابن عباس جاء بواسطة. وفي كل الأمثلة السابقة رأينا أن البخاري أثبت سماع أولئك الرواة عن شيوخهم رغم أنهم يدخلون في بعض ما رووه عن أولئك واسطة، وذلك لأن البخاري - رحمه الله - ثبت عنده لقاء أولئك الرواة بيقين. ولعله يحمل دخول ¬

(¬1) المراسيل لابن أبي حاتم (ص101) ، وانظر جامع التحصيل (ص218) . (¬2) التاريخ الكبير (5/299) . (¬3) تحفة الأشراف (7/145) روى عبد الرحمن بهذا الإسناد حديثًا واحدًا، والحديث في الصحيحين. (¬4) تهذيب التهذيب (6/215-216) . (¬5) العلل الكبير للترمذي (1/388) . (¬6) تحفة الأشراف (4/441) ، لأبي الزبير بهذا الإسناد أربعة أحاديث. (¬7) تحفة الأشراف (5/27-29) ، لأبي الزبير بهذا الإسناد سبعة أحاديث. (¬8) تحفة الأشراف (5/236) ، لأبي الزبير بهذا الإسناد حديثان. (¬9) تحفة الأشراف (5/99) ، ولأبي الزبير بهذا الإسناد حديث واحد. (¬10) تحفة الأشراف (5/167) ، ولأبي الزبير بهذا الإسناد حديث واحد. (¬11) المراسيل لابن أبي حاتم (ص154) .

الواسطة على تنوع مصادر الرواية، ولا يحمله على تناقض الراوي، والاستدلال بذلك على عدم سماعه من شيخه. الحالة الثانية: دخول واسطة في السند بين من لم يثبت لهما لقاء: يختلف موقف الإمام البخاري، وحكمه على هذه الحالة عن حكمه على الحالة الأولى، وقد ثبت لدي أنه يستدل على دخول الواسطة بين من لم يثبت لهما اللقاء على عدم السماع، ومن الشواهد التي تثبت هذا: قال البخاري: (مكحول لم يسمع من عنبسة، روى عن رجل عن عنبسة عن أم خبيبة "من صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة") (¬1) . وقال: (لم يسمع الحسن من سلمة بينهما قبيصة بن حريث) (¬2) . وقال: (ما أرى يونس بن عبيد سمع من نافع، وروى يونس بن عبيد عن ابن نافع عن أبيه حديثًا) (¬3) . وقال: (عمرو بن دينار لم يسمع من البراء، وبينهما عندي رجل) (¬4) . وبما سبق يتأكد أن الإمام البخاري - رحمه الله تعالى - يفرق بين دخول الواسطة في سند ثبت اللقاء بين رواته، ودخول الواسطة في سند لم يثبت اللقاء بين رواته. فبينما يستدل في الحالة الثانية على عدم سماع الراوي، نجده في الحالة الأولى لا يستدل بذلك لأن اللقيا بين الراوي وشيخه صحيحة، ومن الجائز أن يروي الراوي عن شيخ سمع منه، ثم يحدث عن رجل عن ذلك الشيخ الذي ثبت سماعه منه، وبهذا يتقرر حكم البخاري في دخول الواسطة في السند. ¬

(¬1) العلل الكبير للترمذي (1/160) . (¬2) التاريخ الكبير (4/72) . (¬3) العلل الكبير للترمذي (1/523) . (¬4) العلل الكبير للترمذي (1/476) .

المبحث الرابع كم يكفي لإثبات اللقاء؟

المبحث الرابع كم يكفي لإثبات اللقاء؟ يكتفي الإمام البخاري - رحمه الله تعالى - بثبوت اللقاء أو السماع مرة واحدة بين الراوي وشيخه ليحكم بالاتصال على كل ما جاء بذلك السند معنعنا. قال مسلم - رحمه الله تعالى - عارضًا لرأي مخالفه: (إن الحجة لا تقوم عنده بكل خبر جاء هذا المجيء، حتى يكون عنده العلم بأنهما قد اجتمعا من دهرهما مرة فصاعدًا، أو تشافها بالحديث بينهما، أو يرد خبر فيه بيان اجتماعهما، وتلاقيهما، مرة من دهرهما فما فوقها) (¬1) . وقد ذكر غير واحد من العلماء أن البخاري يكتفي لإثبات اللقاء بمرة واحدة، من هؤلاء العلماء: أبوعمرو بن الصلاح (¬2) ، وابن رشيد (¬3) ، والعلائي (¬4) ، وابن حجر العسقلاني (¬5) ، وغيرهم كثير. ومن الأمثلة من كلام البخاري على أنه يكتفي في إثبات اللقاء أو السماع بمرة واحدة. قول البخاري: (وسماع الحسن من سمرة بن جندب صحيح) (¬6) ، وقد ذهب عدد من العلماء إلى أن الحسن لا يصح له السماع من سمرة إلا في حديث واحد (¬7) ، والظاهر من صنيع البخاري أنه اكتفى بهذا الحديث الواحد في إثباته لسماع الحسن من سمرة، لاسيما وأنه لا يعرف للحسن عن سمرة سماع في غير ¬

(¬1) مقدمة صحيح مسلم (1/29) . (¬2) صيانة صحيح مسلم (ص128) . (¬3) السنن الأبين (ص32) . (¬4) جامع التحصيل (ص116) . (¬5) هدي الساري (ص14) ، وشرح نخبة الفكر (ص64) . (¬6) العلل الكبير للترمذي (2/963) . (¬7) نصب الراية (1/89 - 90) ، وهذا الحديث هو حديث العقيقة ذكره البخاري مختصرًا في صحيحه (9/504/ [5472] ) ، كتاب العقيقة، باب إماطة الأذى عن الصبي في العقيقة.

المبحث الخامس ما يقوم مقام اللقاء

حديث العقيقة. قال الإمام البيهقي: (أكثر الحفاظ لا يثبتون سماع الحسن البصري من سمرة في غير حديث العقيقة) (¬1) . وقول البخاري: (قال علي: إنما صح عندنا سماع الحسن من أبي بكرة بهذا الحديث) (¬2) . وقوله لما سئل عن محمد بن المنكدر هل سمع عائشة؟: (نعم. وروى مخرمة بن بكير عن أبيه عن محمد بن المنكدر وقال: سمعت عائشة) (¬3) . المبحث الخامس ما يقوم مقام اللقاء لقد احتج الإمام البخاري بالمكاتبة وهي أن يقول أحد رواة الحديث الثقات: "كتب إلى فلان" فيذكر حديثًا أو أحاديث، ولكن هل تنزل المكاتبة منزلة اللقاء من حيث الاحتجاج بالحديث المعنعن؟ للإجابة على هذا السؤال سأتناول أولاً احتجاج البخاري بالمكاتبة، ثم سأحاول الإجابة على السؤال ثانيًا. أولاً: احتجاج البخاري بالمكاتبة: قال البخاري: (باب "ما يذكر في المناولة، وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان"، وقال أنس: نسخ عثمان المصاحف فبعث بها إلى الآفاق، ورأى عبد الله بن عمر ويحيى بن سعيد ومالك ذلك جائزًا، واحتج بعض أهل الحجاز في المناولة بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كتب لأمير السرية كتابًا وقال: لا تقرأه حتى تبلغ ¬

(¬1) السنن الكبرى للبيهقي (5/288) . (¬2) التاريخ الصغير (1/122) . (¬3) العلل الكبير للترمذي (1/373) .

مكان كذا وكذا، فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس وأخبرهم بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬1) . ثم ساق البخاري حديثين فيهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استخدم الكتابة في تبليغ الدعوة ليؤكد أن المكاتبة تقوم بها الحجة. والاحتجاج بالمكانية هو مذهب أئمة الحديث، قال القاضي عياض: (وقد استمر عمل السلف ومن بعدهم من المشايخ بالحديث بقولهم: كتب إلي فلان قال: أخبرنا فلان، وأجمعوا على العمل بمقتضى هذا التحديث وعدوه في المسند بغير خلاف يعرف في ذلك، وهو موجود في الأسانيد كثير) (¬2) . ومن الأمثلة على احتجاج البخاري عمليًا بالمكاتبة في صحيحه: أخرج حديث أبي عثمان النهدي قال: (أتانا كتاب عمر ونحن مع عتبة بن فرقد بأذربيجان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الحرير إلا هكذا، وأشار بأصبعيه اللتين تليان الإبهام قال: فيما علمنا أنه يعني الأعلام) (¬3) . وأخرج حديث سالم أبي النصر مولى عمر بن عبيد الله قال: (كنت كاتبًا له - يعني لعمر بن عبيد الله -، قال: كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى حين خرج إلى الحرورية فقرأته فإذا فيه: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس، ثم قام في الناس فقال: لا تمنوا لقاء العدو وسلو الله ¬

(¬1) صحيح البخاري (1/185) ، كتاب العلم، باب ما يذكر في المناولة. (¬2) الإلماع للقاضي عياض (ص86) ، وللاستزادة حول مسألة المكاتبة ينظر: المحدث الفاصل (ص435-458) ، ومعرفة علوم الحديث (ص261) ، والكفاية (ص273-382) ، وفتح المغيث للسخاوي (ص135-143) ، وتدريب الراوي (2/56) ، وتوضيح الأفكار (2/338-341) . (¬3) صحيح البخاري (10/295/ [5828] ) ، كتاب اللباس، باب لبس الحرير للرجال، وقدر ما يجوز منه، وقد قال الدارقطني في كتابه التتبع (ص261) : (وهذا لم يسمعه أبوعثمان من عمر، وهو مكاتبة، وهو حجة في قبول الإجازة) ، وكلام الدراقطني يدل على أنه تراجع عن استدراك الحديث، كما قال الحافظ في الفتح (10/298) .

العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا ... الحديث) (¬1) . وأكثر من ذلك أن البخاري عد المكاتبة سماعًا، فقال في ترجمة عبيد الله بن أبي جعفر: (سمع منه الليث) (¬2) ، وقد صرح الليث بأنه لم يسمع من عبيد الله فقد قال: (لم أسمع من عبيدا لله بن أبي جعفر إنما كان صحيفة كتب إلي، ولم أعرضها عليه) (¬3) ، وقد احتج البخاري في صحيحه بعدة أحاديث من طريق الليث عن عبيد الله بن أبي جعفر (¬4) . ثانيًا: هل المكاتبة كثبوت اللقاء؟ إذا جاء في حديث أن فلانًا بحديث واحد أو بأحاديث معينة، ثم وردت أسانيد من هذا الطريق بالعنعنة، وليست من ضمن المكاتبة، ولم يثبت اللقاء، فهل تقوم المكاتبة مقام ثبوت اللقاء في الاحتجاج بما جاء عنهما معنعنًا؟ لا يخلوا الأمر من حالتين: 1- ثبوت ما يدل على أن أحد الرواة كاتب آخر بجملة من الأحاديث - ويكون الأمر على الإبهام دون تحديد لماهية الأحاديث - فما ورد في هذه الحالة معنعنًا يحمل على أنه من ضمن المكاتبة إلا أن يقوم ما يدل على خلاف ذلك من أن ما روى ليس من المكاتبة. 2- أن تثبت المكاتبة بين راويين في حديث واحد، ولكن يرد عنهما أسانيد معنعنة، فلا يدري هل ثبت بينهما لقاء أم لا؟ أو هل كاتب أحدهما الآخر بأكثر من حديث أم لا؟ فالحكم في هذه الحالة أن المكاتبة كافية لإثبات اتصال الحديث الذي رويت ¬

(¬1) صحيح البخاري (6/180/ [3024] ) ، كتاب الجهاد والسير، باب لا تمنوا لقاء العدو، وقد قال الدارقطني في التتبع (ص305) : (وهو صحيح حجة في جواز الإجازة والمكاتبة، لأن أبا النضر لم يسمع من ابن أبي أوفى وإنما رآه في كتابه) . (¬2) التاريخ الكبير (5/376) . (¬3) المراسيل لابن أبي حاتم (ص146) . (¬4) انظر صحيح البخاري (1/468/ [288] ) ، كتاب الغسل، باب الجنب يتوضأ ثم ينام، وانظر أيضًا (12/399/ [6995] ) ، كتاب التعبير، باب من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام.

به فقط، أما أن تكون مجرد المكاتبة ولو لمرة كثبوت اللقاء ولو مرة واحدة، فلا. ففي هذه الحالة تكون المكاتبة حالة خاصة لا عموم لها لا يثبت بها اتصال في الأسانيد المعنعنة مطلقًا كما هي الحال في اللقاء، وإنما يحتج بالمكاتبة - من حيث اتصال السند - في نفس الحديث الذي كتب وبعث به للملتقى أو الراوي الآخر. وخلاصة الجواب على سؤال: هل المكاتبة كثبوت اللقاء؟ أن يقال: من حيث الخصوص نعم، ومن حيث العموم لا، فالمكاتبة كثبوت اللقاء فيما علم أن المكاتبة وقعت به من أحاديث معينة ومحددة، وليست المكاتبة كثبوت اللقاء من حيث أن مجرد العلم بوقوع المكاتبة بين راويين ولو في حديث واحد يكفي لإثبات الاتصال في الأسانيد المعنعنة المروية عنهما، بل يجب البحث عن اللقاء فيما روي عن هذين الراويين معنعنًا مع ثبوت وقوع المكاتبة بينهما في حديث بعينه.

الفصل الثالث هل عدم ثبوت اللقاء أوالسماع مؤثر في صحة الحديث عند الإمام البخاري؟

الفصل الثالث هل عدم ثبوت اللقاء أوالسماع مؤثر في صحة الحديث عند الإمام البخاري؟ المبحث الأول: هل ثبوت اللقاء شرط في أعلى الصحة أم في أصل الصحة؟ المبحث الثاني: هل قوى البخاري أحاديث لم يثبت فيها لقاء أو سماع؟ المبحث الأول هل ثبوت اللقاء شرط في أعلى الصحة أم في أصل الصحة؟ ذهب بعض أهل العلم إلى أن الإمام البخاري - رحمه الله تعالى - يشترط ثبوت اللقاء فيما يعتبر أعلى درجات الصحة من الأحاديث فقط، أما أن يكون ثبوت اللقاء شرط في أصل الصحة إذا انتفى وجوده لا يعد الحديث صحيحًا فليس هذا مذهب البخاري. وأول من قال بهذا الطريق - فيما بلغه علمي - الحافظ ابن كثير الذي قال في معرض تحديد اسم من عناه الإمام مسلم بالرد في مقدمة صحيحه: (قيل: إنه يريد البخاري، والظاهر أنه يريد علي بن المديني، فإنه يشترط ذلك في اصل صحة الحديث، وأما البخاري فإنه لا يشترطه في أصل الصحة، ولكن التزم ذلك في كتابه "الصحيح") (¬1) . ¬

(¬1) الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث لابن كثير (ص43) .

وقال الإمام البلقيني مثل قول ابن كثير: (قيل: يريد مسلم بذلك البخاري، إلا أن البخاري لا يشترط ذلك في أصل الصحة، ولكن التزمه في جامعه، ولعله يريد ابن المديني فإنه يشترط ذلك في أصل الصحة) (¬1) . وقد أيد الشيخ عبد الفتاح أبوغدة كلام ابن كثير والبلقيني بقوله: (وبهذا التعليل والتمييز بين مذهب البخاري وشيخه علي بن المديني، يخرج البخاري من أن يكون المعني بقول مسلم وإنكاره الشديد، لأنه توسط بين مذهب ابن المديني ومذهب مسلم في المسألة، واستوثق لكتابه "الصحيح" أكثر من مسلم رحمهما الله تعالى، ويكون مذهب الإمام علي بن المديني رحمه الله تعالى إلى التشدد أقرب، فتكون غضبة مسلم وشدته موجهة إليه) (¬2) . ولم يسق أصحاب هذا القول أي شاهد من كلام البخاري أو من أحكامه النقدية التطبقية ما يدل على رأيهم من أن البخاري لا يشترط ثبوت اللقاء في أصل صحة الحديث، مما يجعل قولهم من السهل نقضه والرد عليه. وقد خالف القول السابق بعض العلماء الذين ذهبوا إلى أن ثبوت اللقاء شرط في أصل الصحة عند البخاري، وليس كما يقول أصحاب الرأي الأول أنه شرط في أعلى درجات الصحة. فقد قال الحافظ ابن رجب: (وأما جمهور المتقدمين فعلى ما قاله ابن المديني والبخاري وهو القول الذي أنكره مسلم على من قاله) (¬3) . وقال أيضًا وهو يتكلم على مذهب ابن المديني والبخاري: (فإن المحكي عنهما: أنه يعتبر أحد أمرين: إما السماع وإما اللقاء) (¬4) . فيفهم من كلام ابن رجب أن مذهب البخاري هو عين مذهب ابن المديني، ¬

(¬1) محاسن الاصطلاح وتضمين كتاب ابن الصلاح للبلقيني (ص158) . (¬2) الموقظة للذهبي، التتمة الثالثة المحال إليها في التعليق على "الموقظة" (ص137-138) . (¬3) شرح علل الترمذي (1/365) . (¬4) شرح علل الترمذي (1/367) .

ولا فرق بينهما، وأن المذهب الذي أنكره مسلم هو مذهبهما الذي مقتضاه أن ثبوت اللقاء شرط في أصل الصحة. وقد قال الحافظ ابن حجر: (ادعى بعضهم أن البخاري إنما التزم ذلك في جامعه لا في أصل الصحة، وأخطأ في هذه الدعوى، بل هذا شرط في أصل الصحة عند البخاري فقد أكثر من تعليل الأحاديث في تاريخه بمجرد ذلك) (¬1) . وقال السخاوي: (وممن صرح باشتراط ثبوت اللقاء علي بن المديني والبخاري وجعلاه شرطًا في أصل الصحة) (¬2) . وقال المعلمي: (وزعم بعض علماء العصر أن اشتراط البخاري العلم باللقاء إنما هو لما يخرجه في "صحيحه" لا للصحة في الجملة، كذا قال، وفي كلام البخاري على الأحاديث في عدة من كتبه "كجزء القراءة" وغيره ما يدفع هذا) (¬3) . والحجة التي يستند إليها أصحاب هذا القول هي أن البخاري تكلم على أحاديث "في تاريخه الكبير"، و"جزء القراءة خلف الإمام"، وغيرهما من مصنفاته، وعللها بعدم ثبوت السماع أو اللقاء. والذي أراه أن القول الثاني هو الصواب لما يلي: 1- لم يأت أصحاب القول الأول بأي دليل أو شاهد يدل على رأيهم، مما جعل قولهم يفتقر إلى الأساس الذي يحتاج إليه في مثل هذا الموطن. 2- إن الحجة التي استند إليها أصحاب القول الثاني وجيهة جدًا، وهي: كيف لا يكون ثبوت اللقاء شرطًًا في أصل الصحة عند البخاري، وقد علل أحاديث كثيرة بسبب عدم ثبوت اللقاء في مصنفاته كـ "التاريخ الكبير" و"القراءة خلف الإمام"؟! وفي نصوص عديدة وجدنا البخاري يحكم على أسانيد بعدم الصحة بسبب عدم ثبوت السماع بين بعض رواة السند، فيقرن عدم الصحة بعدم ثبوت السماع، مما يدل على أن البخاري يشترط ثبوت اللقاء أو السماع في أصل الصحة، وإلا لما ¬

(¬1) النكت على كتاب ابن الصلاح (2/595) . (¬2) فتح المغيث للسخاوي (1/165) . (¬3) التنكيل للمعلمي (1/83) .

ضعف تلك الأحاديث بسبب عدم السماع ومن هذه النصوص: قول البخاري: (لا يصح عندي حديث خزيمة بن ثابت في المسح لأنه لا يعرف لأبي عبد الله الجدلي سماع من خزيمة بن ثابت) (¬1) . وقوله: (ولا تقوم الحجة بسالم بن رزين، ولا برزين لأنه لا يدري سماعه من سالم، ولا من ابن عمر) (¬2) . وقد قال في حديث طويل أخرجه: (فيه نظر لأنه لم يذكر سماع بعضهم من بعض) (¬3) . وقد قال أيضًا: (وروى عمر بن محمد عن موسى بن سعد عن زيد بن ثابت قال: "من قرأ خلف الإمام فلا صلاة له"، ولا يعرف بهذا الإسناد سماع بعض من بعض ولا يصح مثله) (¬4) . وقال في سند يرويه عبد الله بن نافع بن العمياء عن ربيعة بن الحارث عن الفضل بن عباس رضي الله عنهما: (لا يعرف سماع هؤلاء بعضهم من بعض) (¬5) . وقال في ترجمة عبد الله بن نافع: (لم يصح حديثه) (¬6) . والنصوص السابقة يظهر فيها بجلاء أن الإمام البخاري يضعف جملة من الأحاديث معللاً عدم تصحيحه لها لكون السماع بين بعض رواتها لم يثبت، ولهذا ذهبت إلى ترجيح القول الثاني لقوة حجته وظهور دليله. وأود أن أشير هنا أنني خلال مرحلة جمع المعلومات قد قمت بجمع ما وقع ¬

(¬1) العلل الكبير للترمذي (1/173) . (¬2) التاريخ الكبير (4/13) . (¬3) التاريخ الكبير (5/183) . (¬4) جزء القراءة خلف الإمام (ص15) ، وقد وقع في المطبوع تصحيف فذكر اسم عمر بن محمد هكذا [عمرو بن موسى بن سعد] والتصحيح من السنن الكبرى للبيهقي (2/163) وقد نقل نص البخاري السابق. (¬5) التاريخ الكبير (3/284) . (¬6) التاريخ الكبير (5/213) وليس لعبد الله بن نافع إلا هذا الحديث فقط كما يظهر من ترجمته.

المبحث الثاني هل قوى البخاري أحاديث لم يثبت فيها لقاء أو سماع؟

تحت يدي من الأحاديث التي قواها البخاري خارج صحيحه لأتحقق مما قاله الإمام ابن كثير ومن تبعه، فجمعت كل الأحاديث التي قال فيها البخاري أنها صحيحة أو حسنة أو قواها بلفظ آخر، فوجدت أن معظمها السماع فيها ظاهر في أسانيدها، والبعض الآخر يعرف سماع رواة السند بالرجوع إلى التاريخ الكبير أو الصغير، والبعض الآخر منها يعرف سماع رواة السند من طرق أخرى. ولكن استوقفتني أحاديث قواها البخاري، وفي الوقت نفسه قد تكلم في ثبوت لقاء بعض رواتها من بعض أو لمح بعدم ثبوت السماع. وفيما يلي مناقشة لهذه الأحاديث في المبحث التالي. المبحث الثاني هل قوى البخاري أحاديث لم يثبت فيها لقاء أو سماع؟ قبل البدء في مناقشة الأحاديث الآتية أرى أنه من المناسب جدًا أن أنبه على خاصية مهمة في منهج البخاري في علم الحديث بشكل عام. وهي أن هذا الإمام يعتمد على "القرائن" كثيرًا، ولا يتعامل مع القضايا والأمور المتعلقة بعلم الحديث بسطحية وجمود على الكلمات والشعارات. وتجد في تحقيقات الحافظ ابن حجر في "هدي الساري" و "فتح الباري" ما يدل على ذلك وسأقتطف فيما يلي بعضًا من هذا: قال الحافظ ابن حجر وهو يرد على الدارقطني في انتقاده على البخاري حديثًا بدعوى أن نافعًا لم يدرك عمر: (في سياق الخبر ما يدل على أن نافعًا حمله عن عبد الله بن عمر، فقد قدمنا مرارًا أن البخاري يعتمد مثل ذلك إذا ترجح بالقرائن أن الراوي أخذه عن الشيخ المذكور في السياق) (¬1) . وقال في حديث أختلف فيه على هاشم بن هاشم هل هو عن عامر بن سعد عن أبيه أم عن سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص؟: (والظاهر أن البخاري ¬

(¬1) هدي الساري (ص387) .

أخرجه على الاحتمال لقرينة معرفة عامر بن سعد بحديث أبيه، وصحة سماع هاشم منه ومن سعيد جميعًا) (¬1) . كما أن البخاري ينتقي من أحاديث المتكلم فيهم، ولا يدعها مطلقًا، فقد انتقى من أحاديث إسماعيل بن أبي أويس، وأخرج في صحيحه عن إسماعيل ما اعتقد فيه أنه من صحيح حديثه (¬2) . وأسلوب "الانتقاء" ركيزة هامة في منهج البخاري، لذا قال ابن حجر في أحاديث سعيد بن أبي عروبة التي أخرجها البخاري، والتي حدث بها سعيد بن أبي عروبة بعد اختلاطه: (فإذا أخرج من حديث هؤلاء انتقى منه ما توافقوا عليه) (¬3) . وقال عن ذكر البخاري لأحاديث عبد الله بن صالح كاتب الليث في صحيحه: (إن الذي يورده من أحاديثه صحيح عنده قد انتقاه من حديثه) (¬4) . وقال قال البخاري: (كل رجل لا أعرف صحيح حديثه من سقيمه لا أروي عنه، ولا أكتب حديثه) (¬5) . فالانتقاء والقرائن من أهم ما يعتمده البخاري في منهجه. إذا تقرر هذا، فسأشرع الآن في مناقشة الأحاديث التي قواها البخاري، وفيها نظر من حديث ثبوت السماع بين بعض رواتها: الحديث الأول: قال البخاري في ترجمة سليمان بن بريدة: (ولم يذكر سليمان سماعًا من أبيه) (¬6) . ¬

(¬1) هدي الساري (ص386) . (¬2) هدي الساري (ص410) . (¬3) هدي الساري (ص410) . (¬4) هدي الساري (ص435) . (¬5) العلل الكبير للترمذي (2/978) ، وهذا يشمل فيمن روى حديثهم بواسطة وبدون واسطة كما يظهر من نصوص أخرى. (¬6) التاريخ الكبير (4/4) .

ومع ذلك فإن البخاري قال: (وحديث سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن ابن بريدة (¬1) عن أبيه في المواقيت هو حديث حسن) (¬2) . فالبخاري ينص على أن سليمان بن بريدة لم يذكر في شيء من أحاديثه عن أبيه أنه قال سمعت أبي أو حدثني أبي أو قال لي، ونحو ذلك من عبارات الاتصال وثبوت اللقاء، ولكنه حكم على حديث يرويه سليمان بن بريدة عن أبيه بأنه حسن (¬3) ، فلماذا صنع ذلك؟ يظهر من الحديث السابق أن البخاري يناقض نفسه، وقد يقول البعض: إن هذا ما يؤيد رأي ابن كثير ومن تبعه بأن البخاري ثبوت اللقاء في أعلى الصحة وليس في أصل الصحة، ولكن أقول: ظهر لي أن البخاري قوى حديث سليمان عن أبيه، مع كلامه الدال على أن سليمان بن بريدة لم يذكر سماعًا من أبيه لقرائن من أهمها: 1- إن السماع بين سليمان ووالده أقوى بكثير من عدم السماع لما يلي: أ - أن بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه - هو والد سليمان. ب - أن سليمان أدرك من حياة أبيه أكثر من أربعين سنة، فقد ولد سنة 15 للهجرة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومات سنة 105هـ وله ن العمر تسعون سنة (¬4) . وأما بريدة بن الحصيب رضي الله عنه والد سليمان فقد مات سنة 63هـ (¬5) ، فيكون سليمان أدرك من حياة والده ثماني وأربعين سنة. ¬

(¬1) هو سليمان بن بريدة وليس هو عبد الله يظهر هذا من صحيح مسلم (1/428) وسسن النسائي (1/258) وصحيح ابن خزيمة (1/166) . (¬2) العلل الكبير للترمذي (1/202-203) . (¬3) رأيت البخاري حكم على عدد من الأحاديث التي أخرجها في صحيحه بنفس السند بأنها حسنة، انظر مثال ذلك: العلل الكبير (1/257) ، وقارنه بصحيح البخاري (8/431 [4819] ) . (¬4) تهذيب التهذيب (4/174) ، وتقريب التهذيب (ص250) . (¬5) تهذيب التهذيب (1/433) ، وتقريب التهذيب (ص121) .

فالظن الغالب أن يكون سليمان قد سمع من أبيه لاسيما وقد أدرك من حياته عمرًا طويلاً، ويبعد جدًا أن يكون الابن يمكث في الحياة أكثر من أربعين سنة ولا يرى أباه ويجتمع به هذا بعيد الحدوث جدًا، ولو وقع ذلك أو حدث لبين علماء الحديث ورواته هذا الأمر ولاشتهر لاسيما وأن أحاديث سليمان عن أبيه ليست قليلة وهي مشهورة ومتداولة بكثرة بين رواة الحديث ونقاده (¬1) . 2- ... إن الحديث له شواهد عديدة تدل على أنه صحيح، وأن سليمان بن بريدة لم ينفرد بهذا الحديث. وحديث سليمان عن أبيه هو أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن مواقيت الصلاة فقال: "اشهد معنا الصلاة" فأمر بلالاً فأذن بغلس (¬2) .. الحديث. ويشهد له حديث أبي موسى (¬3) ، وحديث جابر (¬4) ، وحديث أبي هريرة (¬5) . فالإمام البخاري إنما قوى حديث سليمان بن بريدة هذا لما يعضده من شواهد صحيحة وقرائن قوية تدل على أن احتمال السماع أقوى من عدمه. الحديث الثاني: قال البخاري: (حديث حمنة بنت جحش في المستحاضة هو حديث حسن إلا أن إبراهيم بن محمد بن طلحة هو قديم، ولا أدري سمع منه عبد الله بن ¬

(¬1) ذكر عن إبراهيم الحربي قوله: (عبد الله أم من سليمان ولم يسمعا من أبيهما) كما في تهذيب التهذيب (5/158) ، , لكن لم يذكر دليله على ما يقول وأيضًا لم يتابعه على هذا القول أحد ممن صنف في المراسيل ولا غيرهم، ويعارض هذا أن الإمام مسلم وغيره ممن صنف في الصحيح - ماعدا البخاري - قد أخرجوا أحاديث لسليمان عن أبيه. (¬2) صحيح مسلم (1/429) ، الترمذي (1/286) ، النسائي (1/258) ، ابن خزيمة (1/166) ، ابن حبان (3/35) ، المنتقى لابن الجارود (ص60) . (¬3) انظر مسلم (1/429) ، والنسائي (1/260) . (¬4) انظر سنن الترمذي (1/281) ، وسنن النسائي (1/251) ، وصحيح ابن خزيمة (1/182) ، وصحيح ابن حبان (3/16) ، والحاكم في المستدرك (1/195) . (¬5) انظر سنن النسائي (1/249) ، وصحيح ابن حبان (3/24) ، والحاكم في المستدرك (1/194) .

محمد بن عقيل أم لا؟، وكان أحمد بن حنبل يقول: هو حديث صحيح) (¬1) . فالبخاري يحسن (¬2) الحديث، مع تشككه في سماع عبد الله بن محمد بن عقيل من إبراهيم بن محمد بن طلحة، ويظهر لي أن بعض القرائن هي التي حملت البخاري على تحسين هذا الحديث، وأهمها ما يلي: 1- إن احتمال السماع أقوى من عدم السماع، وذلك يظهر بمعرفة وفاة إبراهيم بن محمد بن طلحة فقد مات كما قال علي بن المديني وغيره سنة 110هـ (¬3) ، وقد ثبت أن ابن عقيل سمع ممن هو أقدم وأكبر سنًا من إبراهيم بن محمد، فقد قال البخاري في ترجمة ابن عقيل: (سمع ابن عمر، وجابرًا، والطفيل بن أبي) (¬4) فإذا عرفنا أن ابن عمر مات سنة 73هـ، وفرضنا أن ابن عقيل سمع منه وعمره ثمان سنوات - مع بعد هذا الاحتمال - فتكون ولادة ابن عقيل 65هـ، ويكون أدرك من حياة محمد بن إبراهيم بن طلحة ما يقارب الخمس والأربعين سنة وهو معه في نفس البلد. وأظن أن البخاري أعطى اعتبارًا عندما حسن هذا الحديث لكون السند مدنيًا فإن الحديث أهل المدينة وضعية تختلف عن أحاديث البلدان الأخرى، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقد اتفق أهل العلم بالحديث على أن أصح الأحاديث أحاديث أهل المدينة) (¬5) ، ولم يكن التدليس في المدينة معروفًا. قال الحاكم: ¬

(¬1) العلل الكبير للترمذي (1/187-818) ، في السند عبد الله بن محمد بن عقيل قال عنه البخاري: مقارب الحديث، وهو مختلف فيه، التهذيب (6/15) . (¬2) قد يفهم من نص البخاري السابق الاستثناء أي كأنه قال: هذا حديث حسن لولا هذه العلة، ولكن رأيت الترمذي في سننه (1/226) جزم بتحسين البخاري للحديث وحذف كلامه حول سماع ابن عقيل من ابن طلحة، ونقل تحسين البخاري بالجزم كل من البيهقي فيمعرفة السنن والآثار (2/159) ، وابن عبد الهادي في المحرر (1/148) ، وابن حجر في بلوغ المرام حديث رقم (151) . (¬3) تهذيب التهذيب (1/154) . (¬4) التاريخ الكبير (5/183) . (¬5) صحة أصول مذهب أهل المدينة (ص33) .

(أهل الحجاز والحرمين، ومصر والعوالي ليس التدليس مذهبهم) (¬1) . 2- تصحيح الإمام أحمد بن حنبل لهذا الحديث، ولا يخفى ما للإمام أحمد من مكانة في علم الحديث، يعطي إشارة إلى أن الحديث يحتج به. 3- وجود شواهد لأكثر فقرات هذا الحديث الذي يرويه عبد الله بن محمد بن عقيل عن إبراهيم بن محمد بن طلحة عن عمران بن طلحة عن أمه حمنة بنت جحش قالت: (كنت استحاض حيضة كثيرة شديدة، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أستفتيه وأخبره فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش ... فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما هي ركضة من الشيطان فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام، في علم الله ثم اغتسلي ... " الحديث) (¬2) . ويشهد لهذا الحديث حديث عائشة في شأن فاطمة بنت أبي حبيش (¬3) ، وحديث عائشة في شأن حبيبة (¬4) ، وحديث عائشة عن امرأة استحيضت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5) . فالبخاري إنما حسن هذا الحديث مع اطلاعه على أن ابن عقيل لم يرد ما يثبت سماعه أو لقاءه من إبراهيم بن محمد بن طلحة لأن احتمال السماع أقوى من عدمه، ولأن شيخ البخاري الإمام أحمد قد صحح الحديث، ولأن للحديث شواهد صحيحة. الحديث الثالث: سأل الترمذي الإمام البخاري عن حديث يرويه عطاء بن يسار عن أبي واقد ¬

(¬1) معرفة علوم الحديث (ص111) . (¬2) أخرجه الترمذي (1/221/ [128] ) واللفظ له، وأبوداود (1/76) ، وأحمد (6/381، 439) ، والحاكم (1/173) ، والبيهقي في السنن الكبرى (1/338) . (¬3) البخاري (1/396/ [228] ) ، كتاب الوضوء، باب غسل الدم، ومسلم (1/262) . (¬4) البخاري (1/508/ [327] ) ، كتاب الحيض، باب عرق الاستحاضة، ومسلم (1/263) . (¬5) انظر سنن أبوداود (1/79) .

الليثي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ما قطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة) (¬1) . فقال: "أترى هذا الحديث محفوظًا؟ قال: نعم. قلت له: عطاء بن يسار أدرك أبا واقد؟ ينبغي أن يكون أدركه، عطاء بن يسار قديم) (¬2) . فالبخاري هنا أقر بأن الحديث محفوظ، ولم يتطرق إلى ثبوت سماع عطاء من أبي واقد الليثي لأن عطاءًا قديم. فلماذا اكتفى بمجرد الإدراك لتقوية هذا الحديث؟ وقيل الإجابة لا يفوتني أن أذكر أنني لم أقف على ما يثبت سماع عطاء من أبي واقد، ولا ما ينفيه. فبقي الأمر على الاحتمال، والمؤكد أن عطاء بن يسار أدرك أبا واقد الليثي. وللإجابة على السؤال السابق. أقول ظهر لي أن الإمام البخاري قوى حديث أبي واقد مع أن اللقاء بين عطاء وأبي واقد لم يثبت لأمرين هما: 1- أن اللقاء أقوى احتمالاً من عدمه، فأبو واقد الليثي توفي سنة 68هـ (¬3) ، وعطاء بن يسار ولد سنة 19هـ (¬4) فيكون أدرك من حياة أبي واقد ما يقارب الخمسين سنة، وهما من نفس البلد فكلاهما مدني، فيبعد أن لا يلتقيا خلال هذه المدة الطويلة من الزمن وهما في نفس البلد، مع توفر دواعي الالتقاء وانتفاء موانعه. فاحتمال اللقاء بينهما قوي جدًا. 2- ورد للحديث شاهد من رواية أبي سعيد الخدري (¬5) مرفوعًا، مما يقوي الظن بأن الحديث محفوظ وينفي التفرد عن حديث أبي واقد الليثي. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (4/74/ [1480] ) ، وأبوداود (3/111/ [2858] ) . (¬2) العلل الكبير للترمذي (2/633) . (¬3) انظر المعجم الكبير للطبراني (3/242-243) ، تهذيب التهذيب (12/270) . (¬4) انظر تهذيب التهذيب (7/218) . (¬5) انظر مستدرك الحاكم (4/239) وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وصححه الألباني في غاية المرام (ص43) ، وفيما قالاه نظر.

الحديث الرابع: قال البخاري: (عبد الله بن بريدة بن حصيب الأسلمي قاضي مرو عن أبيه، سمع سمرة وعمران بن الحصين) (¬1) . ذكرت فيما سبق أن قول البخاري "عن" بدل سمع فيما يرويه صاحب الترجمة عن شيوخه تدل على أن البخاري لم يثبت عنده سماع صاحب الترجمة ممن روى عنه وإلا لقال: "سمع" بدل "عن" (¬2) . وهنا أشار الإمام البخاري أن عبد الله بن بريدة روى عن أبيه بالعنعنة مما يدل على أن البخاري لم يقف على ما يثبت سماع عبد الله من أبيه، ورغم هذا فقد أخرج البخاري في صحيحه لعبد الله بن بريدة حديثين ليس فيهما ما يثبت السماع أو اللقاء بينهما وهما: أ - عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: "بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - عليًا إلى خالد ليقبض الخمس ... " (¬3) . ب - عن ابن بريدة عن أبيه قال: "غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ست عشرة غزوة" (¬4) . فعلى أي شيء اعتمد البخاري في تصحيحه لهذين الحديثين؟ يبدو أن البخاري أخرج هذين الحديثين لعبد الله بن بريدة عن أبيه مع عدم ثبوت سماع من أبيه لأمرين: 1- أن احتمال سماع عبد الله من أبيه أقوى بكثير من احتمال عدم السماع فقد أدرك عبد الله بن بريدة من حياة والده ما يقارب الثماني والأربعين سنة، فقد ولد عبد الله سنة 15هـ (¬5) ، وتوفي بريدة سنة 63هـ (¬6) ، ثم إن بريدة هو والد ¬

(¬1) التاريخ الكبير (5/51) . (¬2) انظر الباب الثاني، الفصل الأول، المبحث الثاني، القسم الثاني، فقرة رقم (5) . (¬3) صحيح البخاري (7/664/ [4350] ) ، كتاب المغازي، باب بعث علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجة الوداع. (¬4) صحيح البخاري (7/760/ [4473] ) ، كتاب المغازي، باب كم غزا النبي - صلى الله عليه وسلم -؟. (¬5) انظر تهذيب التهذيب (5/157-158) ، تقريب التهذيب (ص297) . (¬6) انظر تهذيب التهذيب (1/433) ، تقريب التهذيب (ص121) .

عبد الله، فمدة الإدراك طويلة، وموانع الالتقاء والاجتماع بين عبد الله وأبيه معدومة، فكونه سمع من أبيه أرجح من عدم سماعه منه (¬1) . 2- أن البخاري لم يعتمد على الحديث الأول أو الثاني في بابهما، فالحديث الأول أورده البخاري في باب "بعث علي وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجة الوداع" وقد خرج في هذا الباب خمسة أحاديث كان منها حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه، فلم يكن هو عمدته في الباب. والحديث الثاني أورده في باب "كم غزا النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ " وقد خرج في هذا الباب ثلاثة أحاديث كان منها حديث عبد الله بن بريدة عنه أبيه، فلم يكن هو عمدته في الباب كذلك. ثم إن هذين الحديثين مما يجوز فيهما التساهل لإخراج البخاري لهما في كتاب المغازي فلا ينبني عليهما كبير أثر في أحكام الشرع. الحديث الخامس: قال علي بن المديني في قيس بن أبي حازم: (وروى عن بلال ولم يلقه) (¬2) . وقد أخرجه البخاري في صحيحه عن قيس أن بلالاً قال لأبي بكر: "إن كنت إنما اشتريتني لنفسك فأمسكني، وإن كنت إنما اشتريتني لله فدعني وعمل الله" (¬3) . ¬

(¬1) ينبغي أن أنبه هنا أن الإمام أحمد سئل: سمع عبد الله من أبيه شيئًا؟ قال: "ما أدري. عامة ما يروى عن بريدة عنه، وضعف حديثه"، وقد قال إبراهيم الحربي عن عبد الله وسليمان أنهما "لم يسمعا من أبيهما" انظر تهذيب التهذيب (5/158) ، وقد وقفت على تصريح عبد الله بالسماع من أبيه في مسند أحمد (5/347، 354، 360) ولكن جميعها من طريق الحسين بن واقد عنه والحسين بن واقد مع كونه صدوقًا إلا أن الإمام أحمد قال: "ما أنكر حديث حسين بن واقد وأبي المنيب عن ابن بريدة" انظر العلل لعبد الله بن أحمد (1/115، 239) وقال: "في أحاديثه زيادة ما أدري أي شيء هي ونفض يده" تهذيب التهذيب (2/374) ، لذا لم أطمئن لإثبات سماع عبد الله من أبيه من طريق الحسين بن واقد، وأظن أن هذا رأي البخاري بدليل أنه قال: "عن أبيه" ولم يقل: "سمع أباه". (¬2) العلل لابن المديني (ص50) . (¬3) صحيح البخاري (7/125/ [3755] ) ، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب بلال بن رباح رضي الله عنهما.

وقد بحثت في مصنفات البخاري فلم أقف له على رأي حول سماع قيس من بلال، ولم أجد ما يثبت لقاء قيس بن أبي حازم لبلال رضي الله عنه، فلماذا صحح البخاري هذا الحديث مع أن الغالب أنه قد اطلع على كلام شيخه؟ يحتمل أن البخاري أخرج الحديث السابق اعتمادًا على ثبوت سماع قيس من أبي بكر (¬1) ، وله نظائر في صحيحه (¬2) على ذلك، ولكن العبارة برمتها لبلال وليس لأبي بكر رضي الله عنه فيها كلمة واحدة. وأكبر ظني أن الإمام البخاري اعتمد في إخراج الحديث السابق على ما يلي: 1- ... أن احتمال سماع قيس بن أبي حازم من بلال أقوى بكثير من عدمه، فإن قيسًا أدرك الجاهلية وجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليبايعه فوجده قد توفي (¬3) . وقد ثبت سماعه من أبي بكر وعمر (¬4) وغيرهما من كبار الصحابة (¬5) ، فدخل المدينة في أول خلافة أبي بكر رضي الله عنه والصحابة بها متوافرون. وأما بلال رضي الله عنه قد مات سنة سبعة عشر أو ثمانية عشر للهجرة (¬6) ، فاحتمال لقاء قيس لبلال أرجح وأقوى من احتمال عدم لقائهما، ولعل هذا الذي جعل العلائي يرد على ابن المديني بقوله: (في هذا القول نظر فإن قيسًا لم يكن مدلسًا، وقد ورد المدينة عقب وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة بها مجتمعون فإذا روى عن أحد الظاهر سماعه منه) (¬7) . 2- ... الحديث في باب المناقب، وقد جوز عدد من أهل الحديث وعلمائه التساهل في هذا الباب فلا ضير على البخاري أنه أورد في المناقب حديثًا مثل ¬

(¬1) التاريخ الكبير (7/145) وفيه إثبات سماع قيس من أبي بكر. (¬2) هدي الساري (ص381، 387، 392، 394، 398) . (¬3) انظر تاريخ بغداد (12/452) . (¬4) انظر العلل لابن المديني (ص49) ، التاريخ الكبير للبخاري (7/145) . (¬5) انظر العلل لابن المديني (ص49 - 50) . (¬6) انظر تهذيب التهذيب (1/503) . (¬7) جامع التحصيل (ص257) .

حديث قيس بن أبي حازم فيكون تساهل البخاري كتشدد البعض من المحدثين، وهذا منتهى الإتقان. 3- ... إن الحديث موقوف على بلال وليس مرفوعًا من كلام المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ولا ريب أن مقام الأحاديث المرفوعة ومنزلتها من الدين توجب إيلاءها قدرًا من العناية والاحتياط يفوق ما عداها، فلكل قدره كما قال تعالى: {قد جعل الله لكل شيء قدرًا} (¬1) . الحديث السادس: ومن الأحاديث التي صححها البخاري، وفي ثبوت اللقاء بين بعض رواتها نظر. حديث أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان بن عفلان رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" (¬2) وفيه قال سعد بن عبيدة - راوي الحديث عن أبي عبد الرحمن السلمي -: (وأقرأ أبوعبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج) (¬3) . ولم أجد بعد التفتيش الشديد تصريح لأبي عبد الرحمن من طريق صحيح بأنه سمع أو التقى عثمان بن عفان رضي الله عنه، إلا ما جاء في "الكامل" (¬4) لابن عدي من تصريح أبي عبد الرحمن بالسماع من عثمان، ولكن السند إلى أبي عبد الرحمن ضعيف جدًا فيه عبد الله ابن أبي مريم قال فيه ابن عدي: (يحدث بالبواطيل) وقال أيضًا: (إما يكون مغفلاً أو متعمدًا) . بل ثبت عن شعبة بن الحجاج أنه قال: (لم يسمع أبوعبد الرحمن السلمي من عثمان) (¬5) ، وأقر الإمام أحمد بن حنبل قوله (¬6) ، وجزم يحيى بن معين أيضًا ¬

(¬1) سورة الطلاق، آية 3. (¬2) صحيح البخاري (8/692/ [5027] ، كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه. (¬3) الكامل في الضعفاء (4/1568) . (¬4) المسند للإمام أحمد (1/336/ [412] ) بتحقيق أحمد شاكر، والمراسيل لابن أبي حاتم (ص94) . (¬5) المراسيل لابن أبي حاتم (ص95) . (¬6) فتح الباري (8/693) .

بعدم سماع أبي عبد الرحمن من عثمان (¬1) ، وسئل أبوحاتم الرازي عن سماع أبي عبد الرحمن من عثمان فقال: (روى عنه، ولا يذكر سماعًا) (¬2) . وكلام هؤلاء الأئمة الأعلام يؤكد ما قاله الحافظ ابن حجر في سبب تصحيح الإمام البخاري لهذا الحديث فقد قال: (ظهر لي أن البخاري اعتمد في وصلة، وفي ترجيح لقاء أبي عبد الرحمن لعثمان على ما وقع في رواية شعبة عن سعد بن عبيدة من الزيادة وهي: أن أبا عبد الرحمن أقرأ من زمن عثمان إلى زمن الحجاج، وأن الذي حمله على ذلك هو الحديث المذكور، فدل على أنه سمعه في ذلك الزمان، وإذا سمعه في ذلك الزمان، ولم يوصف بالتدليس، اقتضى ذلك سماعه ممن عنعنه عنه، وهو عثمان رضي الله عنه، ولاسيما مع ما اشتهر بين القراء أنه قرأ على عثمان (¬3) ، وأسندوا ذلك عنه من رواية عاصم بن أبي النجود وغيره، فكان هذا أولى من قول من قال: إنه لم يسمع منه) (¬4) . ويدل كلام الحافظ ابن حجر هنا على أنه يرجح أن البخاري اعتمد في تصحيح هذا الحديث على قوة القرائن الدالة على احتمال لقاء أبي عبد الرحمن لعثمان رضي الله عنه لا على ثبوت ذلك بنص صريح يدل على السماع أو اللقاء. وهناك نص كنت أدخلته هنا في هذا الفصل ثم اتضح لي عدم صلاحيته لثبوت السماع فيه، ولكني آثرت ذكره مع التنبيه عليه حتى لا يستدرك علي. فقد قال البخاري: (لا أعرف لأبي إسحاق سماعًا من سعيد بن جبير) (¬5) . وقد أخرج البخاري في "صحيحه" عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير قال: (سئل ابن عباس مثل من أنت حين قبض النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أنا يومئذ ¬

(¬1) المراسيل لابن أبي حاتم (ص94) . (¬2) ورد من طرق لا تسلم من مقال، انظر معرفة القراء الكبار للذهبي (1/52-57) ، والثابت أن أبا عبد الرحمن قرأ القرآن على علي رضي الله عنه. (¬3) فتح الباري (8/693-694) . (¬4) العلل الكبير للترمذي (2/965) . (¬5) صحيح البخاري (11/91/ [6299] ، كتاب الاستئذان، باب الختان بعد الكبر ونتف الإبط.

مختون. قال: وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك) (¬1) . وأبوإسحاق السبيعي معروف بالتدليس، حتى أن الحافظ ابن حجر عده في الطبقة الثالثة من المدلسين (¬2) ، وليس في صحيح البخاري التصريح بسماع أبي إسحاق، كما أن الحديث ليس في "الصحيح" من رواية شعبة عن أبي إسحاق. ولكن وجدت تصريح أبي إسحاق بسماعه من سعيد بن جبير خارج "صحيح البخاري"، عند البخاري في "تاريخه الصغير" (¬3) ، وعند الإمام أحمد في "السند" (¬4) ، والحاكم في "المستدرك" (¬5) . وهو أيضًا برواية شعبة (¬6) الذي قال: (كفيتكم تدليس ثلاثة: الأعمش، وأبي إسحاق، وقتادة) (¬7) . وبهذا يعلم أن البخاري قال قولاً ثم تبين له أن الصواب في خلافه فأثبت في صحيحه ما رآه صوابًا، وهذه الحالة تشبه ما قاله البخاري عندما قوى حديثًا لعثمان بن محمد الأخنس قال: (كنت أظن أن عثمان لم يسمع من سعيد المقبري) (¬8) . ومما يحسن التنبيه عليه قبل أن أختم هذا الفصل لغفلة بعض الناس عنه أن البخاري يخرج في صحيحه متابعات لا يتوفر فيها ثبوت اللقاء، وليس ذلك لأن البخاري يستجيز الاحتجاج بإمكان اللقاء كمسلم، وإنما لأن أمر المتابعات مبني ¬

(¬1) تعريف أهل التقديس (ص101) . (¬2) تعريف أهل التقديس (ص101) . (¬3) التاريخ الصغير (1/161) . (¬4) مسند أحمد (5/181/ [3543] تحقيق أحمد شاكر. (¬5) المستدرك للحاكم (3/533) . (¬6) انظر ما تقدم مسند أحمد، والمستدرك، وأيضًا مسند الطيالسي (ص343) ، والمعجم الكبير للطبراني (10/289) . (¬7) معرفة السنن والآثار للبيهقي (1/152) ، وتعريف أهل التقديس لابن حجر (ص151) . (¬8) العلل الكبير للترمذي (1/437) .

على المسامحة فيجوز إيراد ما كان ضعيفًا في المتابعات مادام هذا الضعف مما ينجبر. قال ابن الصلاح: (ثم اعلم أنه قد يدخل في باب المتابعة والاستشهاد رواية من لا يحتج بحديثه وحده بل يكون معدودًا في الضعفاء، وفي كتابي البخاري ومسلم جماعة من الضعفاء ذكراهم في المتابعات والشواهد) (¬1) . وقال الحافظ ابن حجر: (والبخاري يرى الانقطاع علة، فلا يخرج ما هذا سبيله إلا في غير أصل موضوع كتابه كالتعليقات والتراجم) (¬2) . فلا ينبغي والأمر كذلك أن يحتج على البخاري بحديث علقه (¬3) أو ذكره متابعة بأنه خالف مذهبه في اشتراط اللقاء لإيراده لهذا الحديث الذي لم يدخله في أصل كتابه الصحيح، وإنما يحتج عليه بالأحاديث التي أخرجها مسندة في صحيحه. والذي حملني على هذا التنبيه أني رأيت الأستاذ عبد الفتاح أبوغدة ذكر حديثًا أخرجه البخاري بقوله: (حدثنا عبدان قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا الأوزاعي عن يحيى عن أبي سلمة عن جعفر بن عمرو (¬4) عن أبيه قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح على عمامته وخفيه. وتابعه ومعمر عن يحيى عن أبي سلمة عن عمرو قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬5) . ثم نقل كلامًا لابن حجر في شرح صنيع البخاري السابق، قال ابن حجر: (وقال الأصيلي: متابعة معمر مرسلة، لأن أبا سلمة لم يسمع من عمرو. قلت: سماع أبي سلمة من عمرو ممكن، فإنه مات بالمدينة سن ستين، وأبومسلمة مدني، ولم يوصف بالتدليس، وقد سمع من خلق ماتوا قبل عمرو) (¬6) . ¬

(¬1) علوم الحديث (ص76) . (¬2) هدي الساري (ص12) . (¬3) المعلق هو: الذي حذف من مبتدأ إسناده واحد أو أكثر. انظر علوم الحديث لابن الصلاح (ص20) . (¬4) هو جعفر بن عمرو بن أمية الضمري. (¬5) صحيح البخاري (1/369/ [205] ) ، كتاب الوضوء، باب المسح على الخفين. (¬6) فتح الباري (1/369) ، وقد ذكر ابن حجر أن معمرًا تابع الأوزاعي في المتن لا في الإسناد.

ثم عقب الأستاذ عبد الفتاح أبوغدة على ذلك بقوله: (فهذا إسناد فيه عنعنة الثقة غير المدلس عمن لم يثبت لقاؤه له، وإنما يمكن لقاؤه له، فهذا مذهب مسلم، وقد سار عليه البخاري هنا في كتابه وفي ذكره هذه المتابعة) (¬1) . وهذا الاستنباط غريب جدًا لاسيما وأن الأستاذ أبوغدة ذكره بعد قول الحافظ ابن حجر: (وإنما يتم لمسلم النقض والإلزام لو رأى في صحيح البخاري حديثًا معنعنًا لم يثبت لقي راويه لشيخه فيه) (¬2) مشعرًا بصنيعه أنه قد رأى في صحيح البخاري ذلك. والحقيقة أن ما قاله الأستاذ أبوغدة محل نظر لما يلي: 1- لم يسند البخاري حديث معمر السابق وإنما ذكره تعليقًا ونوه إلى أنه ذكره متابعة فهو لم يدخله في صلب الصحيح حتى يقال أن البخاري احتج به، ولو فعل ذلك لاستقام للأستاذ قوله، ولكن البخاري ذكر حديث معمر متابعة، وباب المتابعات كما ذكرت فيه تقدم يجوز فيه إيراد ما ليس بصحيح من الأسانيد. قهل يصح أن نحكم على مذهب البخاري في الحديث المعنعن بما يخرجه في المتابعات؟ ‍‍!. 2- أن المحفوظ عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة هو ذكر جعفر بن عمرو بن أمية بين أبي سلمة وعمرو بن أمية، هكذا روى أربعة من الثقات هذا الحديث عن يحيى وهم شيبان (¬3) والأوزاعي (¬4) وحرب بن شداد (¬5) وأبان بن يزيد ¬

(¬1) الموقظة (ص124) . (¬2) النكت على كتاب ابن الصلاح للحافظ ابن حجر (2/598) وقصد ابن حجر في صلب الصحيح أي ما أخرجه البخاري في الأصول لا في الشواهد والمتابعات التي هي مظنة الأحاديث المتكلم فيها. (¬3) النكت على كتاب ابن الصلاح للحافظ ابن حجر (2/598) وقصد ابن حجر في صلب الصحيح أي ما أخرجه البخاري في الأصول لا في الشواهد والمتابعات التي هي مظنة الأحاديث المتكلم فيها. (¬4) صحيح البخاري (1/368-369/ [204، 205] ) ، كتاب الوضوء، باب المسح على الخفين. (¬5) سنن النسائي (1/81) .

العطار (¬1) والبخاري في صحيحه أخرج الحديث من طريق شيبان والأوزاعي فدل صنيعه أنه احتج بالحديث المتصل الذي فيه ذكر جعفر بن عمرو، فهل من العدل أن نهمل ما أخرجه في الأصول ونحتج عليه بما ذكره للمتابعة؟! 3- ورد في بعض الطرق التصريح بسماع أبي سلمة من عمرو بن أمية الضمري فقد قال الحافظ ابن حجر: (وجزم ابن حزم (¬2) بأن أبا سلمة هذا الحديث من جعفر بن عمرو عن أبيه، ومن أبيه أيضًا، واستند في ذلك إلى ما أخرجه من طريق مبشر بن إسماعيل عن الأوزاعي عن يحيى عن أبي سلمة حدثني عمرو) (¬3) . أليس من الممكن أن يكون الإمام البخاري اطلع على هذا ورجح سماع أبي سلمة من عمرو بن أمية؟ فيكون لقاء أبي سلمة لعمرو ليس محتملاًٍ وإنما متحققًا، وبهذا يعلم أن مقولة إن البخاري سار على مذهب مسلم في هذا الحديث مقولة باطلة، وحجتها واهية. وفي ختام هذا الفصل يجدر بي أن ألفت الأنظار إلى حقيقتين بالغتي الأهمية: الأولى: الأصل عند الإمام البخاري هو اشتراط اللقاء في السند المعنعن، وهذا هو الذي مشى عليه فيما صححه وقواه من أحاديث سواء في صحيحه أو خارجه، ولكن ثبت لنا أن البخاري - وإن كان ذلك نادرًا - قد قوى بعض الأحاديث مما لم يثبت فيها اللقاء إذا اجتمع فيها أمران: 1- أن يكون احتمال اللقاء قويًا وظاهرًا مع السلامة مما يمنع اللقاء، وقد مر معنا في الأحاديث السابقة كيف أن احتمال اللقاء كان قويًا جدًا بدرجة ظاهرة تجعل التوقف في شأن اللقاء أمر مستبعد وغير وجيه. 2- انتفاء التفرد بوجود عدد من الشواهد، أو يكون الحديث متعلقًا بباب ¬

(¬1) مسند أحمد (4/179) . (¬2) المحلي لابن حزم (2/81-82) . (¬3) تغليق التعليق (2/136-137) .

من أبواب يجيز أهل الحديث تخفيف شروط القبول في مثلها كأبواب المغازي والمناقب والترغيب والترهيب. ومع قلة ما قواه من أحاديث لا يثبت فيها اللقاء نصًا إلا أن هذا يؤكد على أنه - رحمه الله - نظر إلى مسألة اشتراط اللقاء في السند المعنعن على أنها وسيلة وليست غاية، إذ الغاية هي أن لا يدخل في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ليس منه، وما اشتراط اللقاء إلا وسيلة للكشف عن الأسانيد التي فيها شبهة انقطاع خشية أنيكون فيها من لا يحتج بحديثه، فإذا غلب على الظن - بعد اتخاذ الاحتياطات اللازمة - أن اللقاء محتمل احتمالاً قويًا جدًا فما الذي يمنع من تقوية السند بعد ذلك؟!. ومن هنا يظهر أنه - رحمه الله - لم يتعامل مع المسألة بجمود وحرفية بل أعطى للقرائن حقها من النظر ولم يهملها - فلله دره من إمام قل نظيره-. الثانية: يختلف موقف البخاري عن مسلم في نقطة احتمال اللقاء، أن مسلمًا يكتفي بمجرد الاحتمال، وأما البخاري فيزيد على ذلك - في الأحاديث التي قواها ولم يثبت فقيها اللقاء نصًا - بأن يكون الاحتمال قويًا وظاهرًا. فتكون المسألة على ثلاث مراتب: 1- ما ثبت فيه اللقاء. وكل الأحاديث التي قواها البخاري - إلا القليل النادر - اللقاء فيها ثابت. 2- ما لم يثبت فيه اللقاء ولكن احتمال اللقاء راجح لقوته وظهوره، وقد قوى البخاري بعض الأحاديث القليلة من هذه المرتبة. 3- ما لم يثبت فيه اللقاء مع وجود إمكانيته واحتماله فهذا لا يقبله البخاري، وأما مسلم فيحتج بالمراتب الثلاث كلها. وسيأتي - إن شاء الله - مزيد بيان لهذه النقطة في الباب الرابع.

الفصل الرابع ما يحتج به للبخاري على اشتراط اللقاء

الفصل الرابع ما يحتج به للبخاري على اشتراط اللقاء لم يخلف الإمام البخاري - رحمه الله - أي نص يوضح فيه حججه على مذهبه القاضي باشتراط اللقاء في السند المعنعن، ولكن أمكن جمع بعض الحجج التي تؤيد مذهب مشترطي اللقاء بشكل عام، وأغلب الظن أن حجج الإمام البخاري تتوافق معها. أولاً: أن اشتراط اللقاء هو الأحوط والأسلم لمن استعمله من أن تدخل عليه الأسانيد المرسلة والمنقطعة، فقد كثر استخدام الرواة للفظة "عن" في الأسانيد غير المتصلة فكان من الواجب على الناقد أن يحتاط، كما قال عبد الرحمن بن مهدي: (خصلتان لا يستقيم فيهما حسن الظن، الحكم والحديث) (¬1) . وقال الخطيب البغدادي: (وقول المحدث ثنا فلان قال ثنا فلان أعلى منزلة من قوله ثنا فلان عن فلان إذ كانت "عن" مستعملة كثيرًا في التدليس وما ليس بسماع" (¬2) . ثانيًا: أن الأسانيد غير المتصلة قد تفشت في أوساط الرواة حتى أن شعبة ابن الحجاج قال: (لو أتيت محدثًا عنده خمس أحاديث أصبت ثلاثة لم يسمعها) (¬3) . وقال: (ما رأيت أحدًا من أصحاب الحديث إلا وهو يدلس إلا ابن عون وعمرو بن مرة) (¬4) . وقال ابن عبد البر - في حديث الرجل عمن لم يلقه-: (فإن كان هذا ¬

(¬1) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (2/35) . (¬2) الكفاية (ص326) . (¬3) الكامل لابن عدي (1/91) . (¬4) سير أعلام النبلاء (6/367) والتمهيد لابن عبد البر (1/34) ، ولعل هذا مقيد بحديث أهل الكوفة فقد اشتهر عنهم التدليس.

تدليسًا فما أعلم من العلماء سلم منه في قديم الدهر ولا في حديثه اللهم إلا شعبة ويحيى بن سعيد القطان) (¬1) . وقال مسلم: (وإ، هو ادعى فيما زعم دليلاً يحتج به قيل له: وما ذاك الدليل؟ فإن قال: قلته لأني وجدت رواة الأخبار قديمًا وحديثًا يروي أحدهم عن الآخر الحديث ولما يعاينه، ولا سمع منه شيئًا قط، فلما رأيتهم استجازوا رواية الحديث بينهم هكذا على الإرسال من غير سماع، والمرسل من الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة احتجت لما وصفت من العلة إلى البحث عن سماع راوي كل خبر عن رواية، فإذا أنا هجمت على سماعه منه لأدنى شيء ثبت عندي بذلك جميع ما يروى عنه بعد. فإذا عزب عني معرفة ذلك، أوقفت الخبر ولم يكن عندي موضع حجة لإمكان الإرسال فيه) (¬2) . وقال ابن حجر: (والحامل للبخاري على اشتراط ذلك تجويز أهل ذلك العصر للإرسال) (¬3) . ثالثًا: يقع كثيرًا أن يكون المحدث معاصرًا لآخر، ولا يحمل عنه شيئًا، لذا لا يلزم من وجود المعاصرة وجود السماع ولا حتى ترجح احتمال السماع لأنه يبقى احتمال عدم السماع قائمًا، مما يجعلنا لا نكتفي بمجرد المعاصرة للحكم على الحديث المعنعن بالاتصال بل لابد من ثبوت اللقاء ولو مرة. ومن ذلك أن الذهبي قال في ترجمة أيوب السختياني: (وقد رأى أنس بن مالك وما وجدنا له عنه رواية مع كونه معه في البلد، وكونه أدركه وهو ابن بضع وعشرين سنة) (¬4) . وقال أبوحاتم الرازي: (جماعة بالبصرة قد رأوا أنس بن مالك ولم يسمعوا منه، منهم ابن عون) (¬5) . ¬

(¬1) التمهيد (1/15) . (¬2) مقدمة صحيح مسلم (1/30) . (¬3) النكت على كتاب ابن الصلاح (2/596) . (¬4) سير أعلام النبلاء (6/16) . (¬5) المراسيل لابن أبي حاتم (ص99) .

وأسند ابن أبي حاتم: (عن عاصم قال: قلت لأبي الغالية: من أكثر من رأيت؟ قال: أبوأيوب غير أني لم أخذ منه) (¬1) . وقال الذهبي في ترجمة هشام بن عروة: (ولقد كان يمكنه السماع من جابر وسهل بن سعد وأنس وسعيد بن المسيب فما تهيأ له عنهم رواية) (¬2) . وقد أدرك هشام من حياةأنس ما يقارب الثلاثين سنة، وقد كان يعيش في المدينة التي هي بلد جابر وسهل وابن المسيب. أفلا يكون من المحتمل أن المتعاصرين لا يلتقيان ولا يسمع أحدهما من الآخر؟! ولا يمكن دفع احتمال عدم السماع بالمعاصرة، فكان من الضروري اشتراط ثبوت اللقاء بين المتعاصرين ولو لمرة حتى يترجح احتمال السماع بدليل بين على احتمال عدم السماع. قال النووي: (إذا ثبت التلاقي غلب على الظن الاتصال، والباب مبني على غلبة الظن فاكتفينا به وليس هذا المعنى موجودًا فيما إذا أمكن التلاقي ولم يثبت فإنه لا يغلب على الظن الاتصال فلا يجوز الحمل على الاتصال، ويصير كالمجهول فإن روايته مردودة لا للقطع بكذبه، أو ضعفه بل للشك في حاله) (¬3) . رابعًا: أن الرواي غير المدلس إذا ثبت لقيه لمن روى عنه يصبح احتمال أن يكون لم يسمع بضع ما رواه عن شيخه احتمالاً بعيدًا. لأننا لو فرضنا وجود ذلك لكان الراوي مدلسًا، والأصل في الرواة السلامة من التدليس، وأما من اكتفى بالمعاصرة فإن احتمال عدم سماع المتعاصرين من بعضهما قائم لا يدفعه ثبوت المعاصرة وإمكان اللقاء لكثرة الإرسال بين الرواة - كما تقدم -. لذا قال ابن الصلاح: (والجواب عما احتج به مسلم: أنا قبلنا المعنعن وحملناه على الاتصال بعد ثبوت التلاقي ممن لم يعرف منه تدليس، لأنه لو لم يكن قد سمعه ممن رواه عنه لكن بإطلاقه الرواية عنه مدلسًا، والظاهر سلامته من ¬

(¬1) المراسيل لابن أبي حاتم (ص54) . (¬2) سير أعلام النبلاء (6/35) . (¬3) شرح صحيح مسلم للنووي (1/128) .

وصمة التدليس، ومثل هذا غير موجود فيما إذا لم يعلم تلاقيهما) (¬1) . وقال ابن حجر: (والحامل للبخاري على اشتراط ذلك تجويز أهل ذلك العصر للإرسال، فلو لم يكن مدلسًا، وحدث عن بعض من عاصره لم يدل ذلك على أنه سمع منه، لأنه وإن كان غير مدلس، فقد يحتمل أن يكون أرسل عنه لشيوع الإرسال بينهم، فاشترط أن يثبت أنه لقيه وسمع منه ليحمل ما يرويه عنه بالعنعنة على السماع، لأنه لو لم يحمل على السماع لكان مدلسًا، والغرض السلامة من التدليس) (¬2) . وزاد السخاوي على كلام شيخه ابن حجر بقوله: (ويؤيده قول أبي حاتم (¬3) في ترجمة أبي قلابة الجرمي أنه روى عن جماعة لم يسمع منهم، لكنه عاصرهم كأبي زيد عمرو بن أخطب، وقال في ذلك أنه "لا يعرف له تدليس"، ولذا قال شيخنا عقب حكايته في ترجمة أبي قلابة من تهذيبه (¬4) : "إن هذا مما يقوي من ذهب إلى اشتراط اللقاء غير مكتف بالمعاصرة) (¬5) . خامسًا: أن القول باشتراط اللقاء هو مذهب كبار أئمة النقد أمثال شعبة بن الحجاج ويحيى بن سعيد القطان وعلي بن المديني وغيرهم (¬6) ، بل قيل هذا محل إجماع. قال علي بن المديني: (سمعت يحيى بن سعيد يقول: كلما حدث به شعبة ¬

(¬1) صيانة صحيح مسلم لابن الصلاح (ص129) . (¬2) النكت على كتاب ابن الصلاح (2/596) . (¬3) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (5/58) . (¬4) تهذيب التهذيب (5/226) . (¬5) فتح المغيث (1/166) . (¬6) يراجع الباب الأول، الفصل الرابع "الجذور التاريخية للمسألة"، فقد نقلت نصوصًا مهمة عن شعبة ويحيى بن سعيد تثبت أنهما يذهبان إلى اشتراط السماع في السند المعنعن.

عن رجل فقد كفاك أمره فلا تحتاج أن تقول لذلك الرجل سمع ممن حدث عنه؟) (¬1) . وكما ترى فليس النص يخص من عرف بالتدليس ولكنه عام، فدل هذا على أن منهج شعبة ويحيى بن سعيد هو البحث عن سماع الرواة. وأنهما لم يجعلا الإدراك أو المعاصرة مع إمكانية اللقاء كافيًا للاحتجاج بالحديث المعنعن. وقد حكى الإجماع على اشتراط اللقاء في الحديث المعنعن ابن عبد البر فقد قال: (اعلم - وفقك الله - أني تأملت أقاويل أئمة أهل الحديث، ونظرت في كتب من اشترط الصحيح في النقل منهم ومن لم يشترطه فوجدتهم أجمعوا على قبول الإسناد المعنعن لا خلاف بينهم في ذلك إذا جمع شروطًا ثلاثة وهي: 1- عدالة المحدثين في أحوالهم. 2- ولقاء بعضهم بعضًا مجالسة ومشاهدة. 3- وأن يكونوا براء من التدليس) (¬2) . وقال: (وقد أعلمتك أن المتأخرين من أئمة الحديث، والمشترطين في تصنيفهم الصحيح، قد أجمعوا على ما ذكرت لك، وهو قول مالك وعامة أهل العلم) (¬3) . وقال ابن رجب بعد أن نقل أقوالاً لبعض الأئمة تؤيد مذهب البخاري: (بل اتفاق هؤلاء الأئمة على قولهم هذا يقتضي حكاية إجماع الحفاظ المعتد بهم على هذا القول، وأن القول بخلاف قولهم لا يعرف عن أحد من نظرائهم، ولا عمن قبلهم ممن هو في درجتهم وحفظهم) ، و (ولهذا المعنى تجد في كلام شعبة، ويحيى، وأحمد، وعلي، ومن بعدهم، التعليل بعدم السماع، فيقولون: لم يسمع فلان من فلان، أو لم يصح له سماع منه، ولا يقول أحد منهم قط: لم يعاصره، ¬

(¬1) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (2/35) . (¬2) التمهيد (1/12) ، وقد قال ابن الصلاح: (كاد أبوعمر بن عبد البر الحافظ أن يدعي إجماع أئمة الحديث على ذلك) . فرد عليه العراقي: (ولا حاجة إلى قوله كاد فقد أدعاه) انظر التقييد والإيضاح (ص83) . (¬3) التمهيد (1/13) .

وإذا قال بعضهم: لم يدركه فمرادهم الاستدلال على عدم السماع منه بعدم الإدراك) (¬1) . وقال ابن رشيد في نقض هو بالغ القوة والحسن لما ذكره الإمام مسلم من انعقاد الإجماع على مذهبه: (وما ادعيت من أنا أدخلنا فيه الشرط زائدًا، فلنا أن نعكسه عليك، بأن نقول: بل أنت نقصت من الإجماع شرطًا. فإنا قد اتفقنا نحن وأنت على قبول المعنعن من غير المدلس إذا كان قد ثبت لقاؤه له، فنقصت أنت من شروط الإجماع شرطًا، فتتوجه عليك المطالبة بالدليل على إسقاطه، وكأنك لما استشعرت توجه المطالبة عدلت على النقض باشتراط السماع في كل حديث. وتبين الآن أنا قائلون بمحل الإجماع، وأنا لم نزد شرطًا بل أنت نقصته) (¬2) . فهذا أهم ما يمكن أن يحتج به لمذهب البخاري في اشتراط اللقاء. ¬

(¬1) شرح علل الترمذي (1/372، 375) . (¬2) السنن الأبين (ص76) .

الفصل الخامس منهج البخاري في نصوصه النقدية المتعلقة باشتراط اللقاء

الفصل الخامس منهج البخاري في نصوصه النقدية المتعلقة باشتراط اللقاء المبحث الأول: وصف لطريقة نقد البخار لسماعات الرواة. المبحث الثاني: فرز النصوص النقدية. المبحث الثالث: معالم في النصوص النقدية. توطئة لهذا الفصل: هذا الفصل قوامه وعماده على النصوص النقدية للبخاري المتعلقة باشتراط اللقاء في السند المعنعن. وقد جمعت نصوص البخاري - رحمه الله - من كتبه النقدية وهي: "التاريخ الكبير"، "التاريخ الصغير"، "الضعفاء الصغير"، "جزء القراءة خلف الإمام"، "جزء رفع اليدين"، "خلق أفعال العباد". والنصوص التي جمعتها كل نص له علاقة مباشرة باشتراط البخاري للسماع أو اللقاء مثل قوله: "لا يعرف سماع فلان من فلان" أو مثل قوله: "لا أدري أسمع فلان من فلان أم لا؟ " ونحو ذلك. أما النصوص التي لها علاقة بالانقطاع، والتدليس، وما شابه ذلك فلم أدخلها في دراستي هنا لعدم علاقتها المباشرة بموضوع البحث وهو مسألة اشتراط السماع أو اللقاء في السند المعنعن. وعدد النصوص التي جمعتها مما له صلة بموقف البخاري من هذه المسألة من الكتب السابقة، واحد ومائة نص من غير المكرر إذ قد يتكرر النص في "التاريخ الكبير"، "والتاريخ الصغير" أحيانًا. وبعض هذه النصوص يجيء فيها نقد سماع راويين فأكثر في نص واحد

المبحث الأول وصف لطريقة نقد البخاري لسماعات الرواة

وعدد ذلك عشرة نصوص من إجمالي كل النصوص، وأحيانًا ينتقد البخاري سماع سند بأكمله دون تحديد لأسماء رواته الموجه لهم النقد وعدد ذلك أحد عشر نصًا من إجمالي كل النصوص. وبعد جمع النصوص نظرت في أسلوب البخاري في نقده للسماعات، وألفاظه وتراكيبه التي استخدمها، ومضمون ذلك في المبحث الأول من هذا الفصل. ثم قمت بدراسة لنصوص البخاري، ثم فرزت تلك النصوص على أساس أسئلة طرحتها في بداية المبحث الثاني، وفي آخر هذا المبحث ذكرت ما خرجت به من نتائج هي ثمرة الإجابة على تلك الأسئلة. ثم ذكرت في المبحث الثالث المعالم الأساسية لمنهج البخاري في نصوصه النقدية المتعلقة باشتراط اللقاء في السند المعنعن. المبحث الأول وصف لطريقة نقد البخاري لسماعات الرواة أولاً: يذكر نقده أحيانًا في غير الترجمة المتعلقة بالراوي المنتقد: 1- فمثلاً أخرج في ترجمة "أحمد بن يزيد بن إبراهيم أبي الحسن الحراني" (¬1) حديثًا يرويه من طريق عثمان الطويل عن أنس بن مالك، ثم قال بعده: (ولا يعرف لعثمان سماع من أنس) (¬2) . 2- وأخرج أيضًا في ترجمة "جعفر بن ميمون أبي علي البصري بياع الأنماط" (¬3) حديثًا من طريق عمرو (¬4) عن ابن مسعود، ثم أتبعه بقوله: (ولا ¬

(¬1) التاريخ الكبير (2/2) . (¬2) التاريخ الكبير (2/3) . (¬3) التاريخ الكبير (2/200) . (¬4) (ولعله يكون الكبالي) كما جاء فلي السند الذي أخرجه البخاري في تاريخه.

يعرف لعمرو سماع من ابن مسعود) (¬1) . وفي نفس الترجمة أيضًا أخرج حديثًا من طريق طلحة بن عبيد الله بن عمرو عن ابن لعبد الله بن مسعود، ثم قال بعده: (ولا يعرف لطلحة سماع من ابن عبد الله) (¬2) . وفي كلا الطريقين لم يكن اسم جعفر بن ميمون موجودًا. 3- وأخرج في ترجمة "حرملة بن إياس الشيباني" (¬3) حديثًا من طريق عبد الله بن معبد عن أبي قتادة ولا أثر لاسم حرملة في سنده، ثم قال: (ولا يعرف سماع عبد الله بن معبد من أبي قتادة) (¬4) . 4- وأخرج في ترجمة "سلم بن جعفر" (1) من طريق سلم نفسه عن سيف السدوسي عن عبد الله بن سلام حديثًا ثم أتبعه بقوله: (ولا يعرف لسيف سماع من ابن سلام) (¬5) . وذكر النقد في غير الترجمة المتعلقة بالراوي المنتقد إنما يكون أحيانًا - كما ذكرت آنفًا -، والغالب أن النقد يكون في نفس الترجمة الخاصة بالراوي المنتقد، ويظهر لي أن نقد البخاري لسماع بعض الرواة في غير الترجمة المتعلقة بالراوي المنتقد راجع لأحد سببين هما: 1- أن يكون صاحب الترجمة أحد رواة السند الذي فيه الراوي المنتقد، ووقع هذا في المثال الأول والرابع. 2- أن يكون الراوي المنتقد يروي حديثًا يشهد لحديث آخر رواه صاحب الترجمة، ووقع هذا في المثال الثاني والثالث. ثانيًا: يذكر نقده غالبًا بعد ذكر سند الحديث: في الغالب أن البخاري يتكلم على سماعات بعض الرواة بعد إخراجه لسند ¬

(¬1) التاريخ الكبير (2/200) . (¬2) التاريخ الكبير (2/201) . (¬3) التاريخ الكبير (3/67) . (¬4) التاريخ الكبير (3/68) . (¬5) التاريخ الكبير (4/158) ، ولمزيد من الأمثلة ينظر (1/412) ، (3/197) .

حديث ومتنه، أو لسند حديث فقط، والأمثلة على ذلك كثيرة جدًا (¬1) ، فمن ذلك: 1- قوله: (شعيب بن كيسان، أراه السمان، نا إسحاق أنا عمر بن عبيد الطنافسي عن شعيب بن كيسان عن أنس بن مالك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فمن استغفر للمؤمنين رد الله عليه من آدم فما دونه"، ولا يعرف له سماع من أنس، ولا يتابع عليه) (¬2) . 2- قوله: (عبد الله بن سراقة عن أبي عبيدة بن الجراح قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لم يكن نبي بعد نوح إلا أنذر الدجال قومه"، قاله موسى عن حماد بن سلمة عن خالد عن عبد الله بن شقيق عن عبد الله بن سراقة، لا يعرف له سماع من أبي عبيدة) (¬3) . 3- وقوله: (وروى غيلان بن جرير عن عبد الله بن معبد الزماني عن أبي قتادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يعرف سماع عبد الله بن معبد من أبي قتادة) (¬4) . وفي بعض الأحيان يتكلم البخاري على سماعات بعض الرواة دون أن يسوق حديثًا أو سندًا للراوي الذي وجه له النقد، ومن الأمثلة (¬5) على ذلك: 1- قال البخاري: (البراء بن ناجية الكاهلي قال لي ابن أبي شيبة عن قبيصة: هو المحاربي، وقال ابن عيينة: الكاهلي، عن ابن مسعود ولم يذكر سماعًا من ابن مسعود) (¬6) . 2- وقال: (الحسن بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري القرشي ¬

(¬1) تبلغ نسبة هذا القسم أكثر من 75% من مجموع نصوص البخاري التي وقفت عليها. (¬2) التاريخ الكبير (4/219) . (¬3) التاريخ الكبير (5/97) . (¬4) التاريخ الكبير (3/68) . وهذا النص مذكور في ترجمة حرملة بن إياس، وقد ساق البخاري قبله عدة أسانيد مختلفة. (¬5) تبلغ نسبة هذا القسم ما يقارب من 25% من مجموع نصوص البخاري التي وقفت عليها. (¬6) التاريخ الكبير (2/118) .

المدني، عن ابن عمرو، روى عنه يزيد بن أبي زياد، لا أدري سمع من ابن عمر أم لا؟) (¬1) . 3- وقال: (محمد بن نافع عن عائشة، ولم يذكر سماعًا منها، عنه الوصافي) (¬2) . والأمثلة متعددة على ذلك (¬3) . ثالثًا: يوجه نقده غالبًا لراو واحد: في الغالبية العظمى من نصوص البخاري النقدية حول سماعات الرواة تكون موجهة لراو واحد، والأمثلة على ذلك كثيرة، ومنها: 1- قال البخاري: (الحارث بن محمد، عن أبي الطفيل، ولم يذكر سماعًا منه) (¬4) . 2- قال البخاري: (ولا يعرف سماع الحسن من دغفل) (¬5) . 3- وقال في محمد بن صفوان الجمحي الذي يروي عن سعيد بن المسيب: (لم يذكر سماعًا من سعيد فلا أدري أسمع منه أم لا؟) (¬6) . وفي بعض الأحيان نجد الإمام البخاري يوجه نقده لسند ما، أو إلى أكثر من راو، ومن الأمثلة على ذلك: ¬

(¬1) التاريخ الكبير (2/294) . (¬2) التاريخ الكبير (1/250) . (¬3) للمزيد ينظر التاريخ الكبير (2/283) ، (3/450) ، (4/4) ، (3/271) ، (4/14) ، (5/192) ، (5/88) ، (5/159) ، (5/198) ، (6/9) ، (6/185) ، (6/418) ، (2/46) ، (1/110) ، (5/431) ، (3/80) ، (4/333) ، والعلل الكبير للترمذي (2/965) ، (2/964) ، (2/965) . (¬4) التاريخ الكبير (2/283) (¬5) التاريخ الصغير (1/56) . (¬6) التاريخ الكبير (1/115) .

1- قال البخاري: (محمد بن ركانة القرشي، إسناده مجهول لا يعرف سماع بعضهم من بعض) (¬1) . 2- وقال البخاري: (وهذا إسناد لا يعرف سماع يزيد من محمد، ولا محمد بن كعب من ابن خثيم ولا ابن خثيم من عمار) (¬2) . 3- ... وقال في ترجمة حمران بن أبان: (ومن روى عنه فلم يذكر سماعًا، مسلم بن كيسان، وابن المنكدر، وزيد بن أسلم، وبكير، والمطلب بن حنطب، وابن أبي المخارق، وعبد الملك بن عبيد، وعثمان بن موهب) (¬3) . وهذا النص هو الوحيد الذي انتقد فيه البخاري سماع ثمانية من الرواة في موضع واحد (¬4) . رابعًا: لم يستخدم غير لفظ "السماع" في نصوصه النقدية: جميع النصوص النقدية التي جمعتها للبخاري لم يستخدم فيها لفظ اللقاء كأن يقول: "لا أدري فلان لقي فلانًا أم لا؟ " أو "لا يعرف لقاء فلان لفلان" ونحو ذلك من العبارات بل لم يستخدم غير لفظ "السماع" في نقده، ومن ذلك: 1- قوله: (ولا يعرف لخثيم سماع من أبي هريرة) (¬5) . ¬

(¬1) التاريخ الكبير (1/82)) . وانظر فيه السند. (¬2) التاريخ الكبير (1/71) ، ويزيد هو ابن محمد بن خثيم، ومحمد هو ابن كعب القرظي، وابن خثيم اسمه محمد، وعمار هو ابن ياسر صحابي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3) التاريخ الكبير (3/80) . (¬4) وتبلغ نسبة هذا القسم الذي انتقد فيه البخاري سماع أكثر من راو واحد نحوًا من 20% من النصوص التي وقفت عليها، ولمزيد من الاطلاع بالنسبة لهذا القسم ينظر التاريخ الكبير: (1/43) ، (1/144) ، (2/27) ، (2/257) ، (3/203) ، (3/283) ، (3/512) ، (4/12) ، (4/13) ، (4/76) ، (4/204) ، (4/190) ، (4/333) ، (5/183) ، (5/192) ، (5/431) . وجزء القراءة (ص15، 59) ، وعلل الترمذي الكبير (1/112) . (¬5) التاريخ الكبير (3/210) .

2- وقوله في ترجمة سليمان بن بريدة: (ولم يذكر سليمان سماعًا من أبيه) (¬1) . 3- وقوله: (ولا نعلم لسمعان من سمرة، ولا للشعبي من سمعان) (¬2) . وأغلب الظن أن الإمام البخاري اختار لفظ "السماع" مع أنه يرى أن مجرد اللقاء كافيًا لإثبات اتصال السند المعنعن - كما تقدم تحقيقه في هذه الرسالة - بسبب أن إثبات اللقاء في الغالب الأعم يكون بوجود التحديث والتصريح بالسماع في الأسانيد، فيكون اختيار لفظ "السماع" من باب الاعتماد على الغالب والأكثر، ولأن إثبات السماع يثبت اللقاء لزومًا لكن إثبات اللقاء لا يثبت السماع دائمًا فإثبات السماع أقوى في إثبات اتصال السند. خامسًا: تنوع عباراته النقدية: استخدم البخاري في نقده لسماعات الرواة عدة عبارات، ترجع في جملتها إلى ست عبارات هي: 1- "لا يعرف لفلان سماع من فلان"، مثل قوله: (لا يعرف لزهير سماع من علقمة) (¬3) . وهي أكثر العبارات استخدامًا (¬4) . ويندرج تحتها عبارة أخرى مبدوءة بـ "لا ¬

(¬1) التاريخ الكبير (4/4) . (¬2) التاريخ الكبير (4/204) . (¬3) التاريخ الكبير (7/40) . (¬4) تبلغ نسبة استخدام هذه العبارة وما يندرج تحتها نحوًا من 60% من مجموع نصوص البخاري النقدية، وللمزيد من الأمثلة ينظر التاريخ الكبير: (2/257) ، (2/230) ، (6/121) ، (2/180) ، (3/210) ، (3/72) ، (4/76) ، (4/77) ، (4/23) ، (4/39) ، (5/192) ، (4/158) ، (4/219) ، (2/201) ، (5/88) ، (5/97) ، (5/39) ، (3/68) ، (4/304) ، (6/9) ، (2/3) ، (6/500) ، (2/200) ، (1/72) ، (1/110) ، (3/512) ، (1/112) ، (2/170) ، (1/71) ، (5/192) ، (3/283) ، (3/203) ، (4/333) ، (4/12) . وينظر التاريخ الصغير (1/56) ، (1/43) ، (1/329) ، (1/250) . وينظر العلل الكبير للترمذي (2/964) ، (1/115) ، (1/173) . وجزء القراءة (ص15) .

أعرف" مثل قول البخاري: (لا أعرف ليونس بن عبيد سماعًا من عطاء بن أبي رباح) (¬1) . ومن العبارات التي تندرج تحتها أيضًا عبارة مبدوءة بـ "لا نعرف" مثل قول البخاري: (ولا نعرف لمحمد سماعًا من عائشة) (¬2) ، وعبارة مبدوءة بـ "غير معروف" وردت مرة واحدة في قول البخاري: (ويزيد هذا غير معروف سماعه من عبد العزيز) (¬3) . 2- "لا أدري سمع من فلان أم لا؟ " مثل قوله في عثمان بن شبرمة: "لا أدري سمع من عاصم أم لا؟) (¬4) . ويندرج تحت هذه العبارة عبارة مشابهة لها يبدأها البخاري بكلمة "لا يدري" بدل "لا أدري"، ومثال على ذلك قول البخاري: (ولا يدري أسمع جابر من أبي الزبير؟) (¬5) . ووردت عبارة أخرى هي "لا ندري" في قول البخاري: (ولا ندري الحكم سمع هذا من مقسم أم لا) (¬6) . ولم ترد إلا مرة واحدة فقط. ¬

(¬1) العلل الكبير للترمذي (2/965) ، ووردت هذا العبارة في العلل الكبير: (2/877) ، (2/778) ، (2/911) ، (2/650) ، (1/422) ، (2/964) ، (2/750) ، (2/955) ، (2/964) ، (1/149) . وفي التاريخ الكبير (3/197) ، (5/371) . (¬2) التاريخ الكبير (1/32) ، وردت هذه العبارة في التاريخ الكبير (5/198) ، (6/54) . (¬3) التاريخ الصغير (2/62) . (¬4) التاريخ الكبير (6/228) ، ووردت هذه العبارة في التاريخ الكبير (1/115) ، (1/139) ، (1/453) ، (2/294) ، (3/170) ، (3/272) ، (5/109) ، وفي العلل الكبير للترمذي (1/187) ، (2/587) . (¬5) جزء القراءة (ص9) ، ووردت هذه العبارة في جزء القراءة (ص13) ، والتاريخ الكبير (4/13) ، والتاريخ الصغير (1/163) . (¬6) التاريخ الصغير (1/331) ، وتبلغ نسبة العبارة الثانية وما يندرج تحتها ما يقارب 14% من مجموع النصوص.

3- "لم يذكر سماعًا من فلان" مثال على هذه العبارة من كلام البخاري قوله في عبيد بن الخشخاش: (لم يذكر سماعًا من أبي ذر) (¬1) ، ووردت عبارة مشابهة لهذه العبارة وهي قول البخاري في عمرو بن أبي عمرو: (ولم يذكر في شيء من ذلك أنه سمع من عكرمة) (¬2) . 4- "لا نعلم لفلان سماعًا من فلان" مثال على هذه العبارة من كلام البخاري قوله: (لا نعلم لمحمد بن كعب سماعًا من شبث) (¬3) . وجاءت مرة "لا يعلم" بدل "لا نعلم" وذلك في قول البخاري: (ولا يعلم لمحمد - بن قنفذ - سماع من أبي هريرة) (¬4) . 5- "لم يتبين سماع فلان من فلان" مثال على هذه العبارة من كلام البخاري قوله: (ولم يتبين سماع وهب من الحكم) (¬5) . 6- "في سماعه من فلان نظر" كما قال البخاري في أبي الزبير: (إن في سماعه من عائشة نظرًا) (¬6) . وهذه العبارة هي أقل العبارات ورودًا. ¬

(¬1) التاريخ الكبير (5/447) ، ووردت هذه العبارة في التاريخ الكبير (2/118) ، (2/283) ، (4/4) ، (4/15) ، (5/26) ، (6/185) ، (6/418) ، (2/46) ، (1/250) ، (4/225) ، (2/27) ، (4/105) ، (1/115) ، (1/144) ، (3/80) ، (5/183) . (¬2) العلل الكبير للترمذي (2/622) ، وتبلغ نسبة العبارة الثالثة وما يندرج تحتها ما يقارب 16% من المجموع. (¬3) التاريخ الكبير (4/266) ، ووردت هذه العبارة في التاريخ الكبير (4/304) ، (4/204) ، (5/159) ، وفي العلل الكبير للترمذي (2/965) . (¬4) التاريخ الكبير (4/221) ، وتبلغ نسبة العبارة الرابعة وما يندرج تحتها ما يقارب 5% من مجموع النصوص. (¬5) التاريخ الكبير (2/332) ووردت هذه العبارة فيه 3/320) ، (5/431) ، وفي جزء القراءة (ص59) ، وتبلغ نسبة العبارة الخامسة ما يقارب 4% من مجموع النصوص. (¬6) العلل الكبير للترمذي (1/388) ، ووردت هذه العبارة في التاريخ الكبير (2/22) ، وتبلغ نسبة العبارة السادسة تقريبًا 1% من مجموع النصوص.

ولا ريب أن اختلاف عبارات البخاري النقدية في هذه المسألة لا يعد اختلاف تضاد وتناقض بل من قبيل اختلاف التنوع والعبارة لأن المعنى في كل تلك العبارات واحد لا يختلف من عبارة إلى أخرى. سادسًا: أحيانًا يعطف نقده للسماع على ألفاظ نقدية أخرى: في بعض الأحيان نرى الإمام البخاري ينتقد سماع بعض الرواة في إحدى الأسانيد ويضيف إلى ذلك علة أخرى في السند كالجهالة أو النكارة أو غير ذلك من ألفاظ نقدية. وقد وجدت في حصر تلك الألفاظ أهمية بالغة إذ تساعدنا على فهم منهج البخاري في هذه المسألة وأنه استخدم مسألة اشتراط اللقاء السند المعنعن لتأكيد ضعف السند أو لتعضيد علة أخرى وذلك في بعض الأحيان. وهذه الألفاظ النقدية هي: 1- التدليس: ورد في كلام للبخاري على سند يرويه سعيد بن أبي عروبة عن الأعمش فقال فيه: (ولا أعرف لسعيد بن أبي عروبة سماعًا من الأعمش وهو يدلس ويروي عنه) (¬1) . 2- الاضطراب: قال البخاري: (وحديث الحكم هذا عن مقسم مضطرب لما وصفنا ولا ندري الحكم سمع هذا من مقسم أم لا؟) (¬2) . 3- الجهالة: قال البخاري: (وأبومعان لا يعرف له سماع من ابن سيرين وهو مجهول) (¬3) وقال في حديث مصارعة ركانة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إسناده مجهول لا يعرف سماع بعضهم من بعض) (¬4) . ¬

(¬1) العلل الكبير للترمذي (2/877) . (¬2) التاريخ الصغير (1/331) . وقد ذكر في التاريخ الصغير أحاديث تدل على أن حديث الحكم عن مقسم مخالف للصحيح. (¬3) التاريخ الكبير (2/170) . (¬4) التاريخ الكبير (1/82) . وقد ورد لفظ الجهالة وما يشابهه في نقد البخاري لسماعات بعض الرواة في المواضع الآتية: التاريخ الكبير (3/197) ، والصغير (1/250) ، وجزء القراءة (ص13) .

المبحث الثاني فرز النصوص النقدية

4- عدم المتابعة: قال البخاري: (لا يتابع عليه، ولا يعرف سماع سليمان من معاذة) (¬1) . وقال في شعيب بن كيسان: (لا يعرف له سماع من أنس، ولا يتابع عليه) . 5- النكارة: قال البخاري في أبي سورة: (عنده مناكير، ولا يعرف له سماع من أبي أيوب) (¬2) وقال في عمر بن غياث: (منكر الحديث، ولم يذكر سماعًا من عاصم) (¬3) . المبحث الثاني فرز النصوص النقدية عندما قمت بدراسة النصوص التي انتقد فيها البخاري سماعات بعض الرواة حددت منطلق دراستي من هذا السؤال: هل الأسانيد المنتقدة لا علة فيها إلا عدم توفر اللقاء؟ وكان قصدي من وراء هذا المنطلق التساؤلي الإجابة عن فرضية تخدم بحثي جدًا، وهذه الفرضية هي: لو طبقت الشروط التي ذكرها مسلم في "الاكتفاء بالمعاصرة" على نصوص البخاري تلك، هل سأجد شروط مسلم مستوفاة في تلك النصوص؟ أم أني سأجدها غير مستوفاة ولا تنطبق على تلك النصوص؟ وفي هذه الحالة الأخيرة تكون نصوص البخاري النقدية أو بعضها موضع ضعف باتفاق الإمامين البخاري ومسلم. ¬

(¬1) التاريخ الكبير (4/23) . (¬2) التاريخ الكبير (4/219) . وقد وردت لفظة عدم المتابعة في نقد البخاري لسماعات بعض الرواة في المواضع الآتية: التاريخ الكبير (2/283) ، (3/255) ، (3/210) ، (1/139) ، (3/17) ، (3/284) ، والتاريخ الصغير (1/250) . (¬3) العلل الكبير للترمذي (1/115) .

وقد أقمت دراستي للنصوص التي انتقد فيها بعض سماعات الرواة تحديدًا على ثلاثة أسئلة: 1- هل الأسانيد المنتقدة إنما تنتقد بعدم توفر اللقاء فقد أم هناك مطاعن أخرى في اتصالها؟ 2- هل المعاصرة متحققة في كل الأسانيد المنتقدة؟ 3- هل الرواة المنتقد سماعهم كلهم ثقات؟ وقد أظهرت دراستي بعض السمات الأساسية في النصوص النقدية مما أمكن من تحليلها إلى مجموعات تنضوي تحت قسمين: القسم الأول: سمات راجعة إلى اتصال السند. القسم الثاني: سماع راجعة إلى عدالة الرواة. ويندرج تحت كل قسم ثلاث سمات رئيسة هي: القسم الأول: 1- السمة الأولى: عنعنة المدلس. 2- السمة الثانية: العنعنة ممن يرسل. 3- السمة الثالثة: الشك في اتصال السند لوجود قرينة. القسم الثاني: 1- السمة الأولى: المجهولون. 2- السمة الثانية: الضعفاء. 3- السمة الثالثة: الموثقون. وعلى هذا الأساس تم فرز النصوص، وسأتناول فيما يلي تفصيل ذلك - إن شاء الله -. القسم الأول: سمات راجعة إلى اتصال السند: 1- السمة الأولى: عنعنة المدلس. تكلم البخاري في سماع بعض الرواة، وهم موصوفون بالتدليس - وإن كان عندي نظر في ثبوت ذلك في بعضهم - وهؤلاء هم: 1- جابر الجعفي. قال البخاري: (ولا يدري أسمع جابر من أبي الزبير) (¬1) . وجابر موصوف بالتدليس مع ضعفه (¬2) . ¬

(¬1) التاريخ الكبير (6/185) . وقد وردت لفظة النكارة في نقد البخاري لبعض سماعات الرواة في المواضع الآتية: التاريخ الكبير (6/501) ، والعلل الكبير للترمذي (2/622) ، وجزء القراءة (ص59) . (¬2) جزء القراءة (ص9) .

2- الحجاج بن أرطاة. سأل الترمذي البخاري: (الحجاج بن أرطاة سمع من عمرو بن دينار؟) (لا أعلمه) (¬1) . وهو موصوف بالتدليس ذكره الحافظ في المرتبة الرابعة (¬2) . وفي نص آخر قال البخاري: (لا يعرف لحجاج سماع من عامر) (¬3) . 3- الحسن البصري. قال البخاري: (ولا يعرف سماع الحسن من دغفل) (¬4) . وقال: (والحسن لا يعرف له سماع من أسامة) (¬5) . وهو موصوف بالتدليس ذكره الحافظ في المرتبة الثانية (¬6) . 4- الحكم بن عتيبة. قال البخاري في سند يرويه الحكم عن زياد بن مالك عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما: (ولا يعرف لزياد سماع من علي وعبد الله، ولا للحكم من زياد) (¬7) . وقال البخاري: (ولا ندري الحكم سمع هذا من مقسم أم لا؟) (¬8) . وهو موصوف بالتدليس ذكره الحافظ في المرتبة الثانية (¬9) . 5- سعيد بن أبي عروبة. قال البخاري: (ولا أعرف لسعيد بن أبي عروبة سماعًا من الأعمش، وهو يدلس ويروي عنه) (¬10) . وقد ذكره الحافظ في المرتبة الثانية (¬11) . ¬

(¬1) تهذيب التهذيب (2/47-51) . وقد وصفه بالتدليس شعبة والثوري وزهير بن معاوية، وابن سعد والعجلي. (¬2) العلل الكبير للترمذي (2/965) . (¬3) تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس (ص125) . (¬4) التاريخ الكبير (6/121) . وعامر هو ابن عبد الله بن الزبير. (¬5) التاريخ الكبير (3/254-255) ، والتاريخ الصغير (1/56) . (¬6) التاريخ الكبير (2/180) ، وأسامة هو ابن زيد الصحابي المعروف رضي الله عنهما. (¬7) تعريف أهل التقديس (ص56) . (¬8) التاريخ الكبير (3/372) . (¬9) التاريخ الصغير (1/331) . (¬10) تعريف أهل التقديس (ص58) . (¬11) العلل الكبير للترمذي (2/877) .

6- سليمان التيمي. قال البخاري في ترجمة ربيع بن أنس البكري: (وروى عنه سليمان التيمي، قال أبوعبد الله: فلا أدري سمعه أم لا؟) (¬1) . وهو موصوف بالتدليس وذكره الحافظ في المرتبة الثانية (¬2) . 7- سليمان بن مهران الأعمش: قال البخاري في ترجمة عبد الله بن مليل: (ولا يعرف سمع منه الأعمش أم لا؟) (¬3) . والأعمش مشهور بالتدليس وقد ذكره الحافظ في المرتبة الثانية (¬4) . 8- عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج. قال البخاري: (لا أعرف لابن جريج عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة غير هذا الحديث الواحد، ولا أعرف له سماعًا منه) (¬5) . وابن جريج مشهور بالتدليس وقد ذكره الحافظ في المرتبة الثالثة (¬6) . 9- عمرو بن عبد الله أبوإسحاق السبيعي. قال البخاري في ترجمة أرقم بن شرحبيل: (ولم يذكر أبو إسحاق سماعًا منه) (¬7) . وقال: (ولا أعرف لأبي إسحاق سماعًا من خالد بن عرفطة) (¬8) . وقال أيضًا: (ولا أعرف لأبي إسحاق سماعًا من سعيد بن جبير) (¬9) . وأبو إسحاق ¬

(¬1) تعريف أهل التقديس (ص63) . (¬2) التاريخ الكبير (2/272) . (¬3) تعريف أهل التقديس (ص66) . (¬4) التاريخ الكبير (5/192) . (¬5) تعريف أهل التقديس (ص67) . (¬6) العلل الكبير للترمذي (2/911) . (¬7) تعريف أهل التقديس (ص95) . (¬8) التاريخ الكبير (2/46) . (¬9) العلل الكبير للترمذي (1/422) .

السبعي مشهور بالتدليس معروف به، وقد ذكره الحافظ في المرتبة الثالثة (¬1) . 10- قتادة بن دعامة السدوسي. قال البخاري: (لا أعرف لقتادة سماعًا من زهدم الجرمي) (¬2) وقال: (ولم يذكر قتادة سماعه من أيمن) (¬3) . وقتادة من المشهورين بالتدليس عند أهل الحديث وعلمائه، وقد ذكره الحافظ في المرتبة الثالثة (¬4) . وفي نص آخر قال البخاري: (ولا يعرف سماع قتادة من ابن بريدة) (¬5) . 11- محمد بن مسلم أبو الزبير المكي. قال البخاري وقد سأله الترمذي: (أبوالزبير سمع من عبد الله بن عمر؟) : (قد روى عنه، ولا أعرف له سماعًا منه) (¬6) وقال: (إن في سماعه من عائشة نظرًا) (¬7) . وأبوالزبير قد وصف بالتدليس، وذكره الحافظ في المرتبة الثالثة (¬8) . 12- يونس بن عبيد. قال البخاري: (لا أعرف ليونس بن عبيد سماعًا من عطاء بن أبي رباح) (¬9) . ويونس موصوف بالتدليس، وقد ذكره الحافظ في المرتبة الثانية (¬10) . 13- أبوخالد الدالاني. قال البخاري: (ولا أعرف لأبي خالد الدالاني سماعًا من قتادة) (¬11) . وقد وصف أبوخالد بالتدليس، وذكره الحافظ في المرتبة ¬

(¬1) العلل الكبير للترمذي (2/965) ، وقد أخرج البخاري في صحيحه لأبي إسحاق عن سعيد بن جبير. انظر فتح الباري (11/91/ [6299] ) ، وقد عثرت على تصريح أبي إسحاق بالسماع من سعيد بن جبير في مسند أحمد (5/181/ [3543] ) تحقيق شاكر، وفي التاريخ الصغير للبخاري (1/161) ، وفي مستدرك الحاكم (3/533) . (¬2) تعريف أهل التقديس (ص101) . (¬3) العلل الكبير للترمذي (2/964) . (¬4) التاريخ الكبير (2/27) . وأيمن هذا غير معروف النسب. (¬5) تعريف أهل التقديس (ص102) . (¬6) التاريخ الكبير (4/12) . (¬7) العلل الكبير للترمذي (2/955) . (¬8) العلل الكبير للترمذي (1/388) . (¬9) تعريف أهل التقديس (ص108) . (¬10) العلل الكبير للترمذي (1/519) . (¬11) تعريف أهل التقديس (ص77) .

الثالثة (¬1) . 2- السمة الثانية: العنعنة ممن يرسل (¬2) : تكلم البخاري في سماع بعض الرواة، وقد وصفوا بالإرسال - أي رواية الأسانيد غير المتصلة - وهؤلاء هم: 1- سالم بن أبي الجعد ذكر البخاري بأنه: لا يعرف لسالم سماع من جابان ولا من نبيط (¬3) وسالم مشهور بالإرسال فقد قال العلائي: (كثير الإرسال عن كبار الصحابة كعمر وعلي وعائشة وابن مسعود وغيرهم رضي الله عنهم) (¬4) . وقال الحافظ: (كان يرسل كثيرًا) (¬5) . 2- عامر بن شراحيل الشعبي. روى حديثًا عن سمعان بن مشنج عن سمرة بن جندب رضي الله عنه، فقال البخاري: (ولا نعلم لسمعان سماعًا من سمرة، ولا للشعبي من سمعان) (¬6) . والشعبي يرسل كثيرًا (¬7) ؛ فقد بلغ عدد الذين أرسل عنهم ثلاثة عشر راويًا. 3- مجاهد بن جبر. قال البخاري: (روى عن أم هانيء، ولا أعرف له سماعًا منها) (¬8) . ¬

(¬1) العلل الكبير للترمذي (1/149) . (¬2) تعريف أهل التقديس (ص118) . (¬3) اشتهر استخدام المرسل فيما يرويه التابعي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن المحدثين وبالأخص القدامى استخدموا لفظ "المرسل" في غير المتصل عمومًا، قال الخطيب البغدادي في الكفاية (ص37) : (وأما المرسل فهو ما انقطع إسناده بأن يكون في رواته من لم يسمعه ممن فوقه ... ) ، وانظر الكفاية (ص423) ، وللأهمية ينظر جامع التحصيل (ص31) فقد ذكر ذلك عن أئمة الحديث. (¬4) التاريخ الكبير (2/257) ولفظ البخاري: (ولا يعرف لجابان سماع من عبد الله بن عمرو ولا لسالم من جابان ونبيط) . (¬5) جامع التحصيل (ص179) . (¬6) تقريب التهذيب (ص226) . (¬7) التاريخ الكبير (4/204) . (¬8) انظر التحصيل (ص204) ، وتهذيب التهذيب (5/67-69) .

ومجاهد يرسل كثيرًا (¬1) ؛ فقد بلغ عدد الذين أرسل عنهم ستة عشر راويًا. 4- المطلب بن عبد الله بن حنطب. قال البخاري: (ولا يعرف للمطلب سماع من أبي هريرة) (¬2) ، وقال: (لا أعرف للمطلب بن حنطب عن أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - سماعًا إلا أنه يقول: حدثني من شهد النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬3) ، وذكر البخاري المطلب من ضمن من روى عن حمران بن أبان ولم يذكروا سماعًا (¬4) . وقد قال أبوحاتم الرازي في المطلب: (عامة أحاديثه مراسيل) (¬5) ، وقال الحافظ ابن حجر: (كثير التدليس والإرسال) (¬6) . والذي أراه أن من حدث بما لم يسمع - على جهة الإرسال - فأكثر من ذلك يجب أن يعامل معاملة المدلس من حيث عدم الاكتفاء بمجرد المعاصرة - على مذهب الإمام مسلم - بل لابد من ثبوت سماعه عمن حدث عنه هذا ما يوجبه علينا الاحتياط، والقياس الصحيح، وسيأتي بيان لهذه النقطة في ضوابط الاكتفاء بالمعاصرة عند الإمام مسلم - إن شاء الله -. 3- السمة الثالثة: الشك في اتصال السند لوجود قرينة: ترد أحيانًا قرائن تبعث الشك في نفس الناقد حول اتصال السند الذي حفت به القرينة فيحمله هذا الشك على التوقف وطلب المرجحات إما لإثبات الاتصال أو لإثبات الانقطاع. وأهم القرائن الباعثة للشك في اتصال السند: 1- وجود قرينة مشككة في تحقق الإدراك بين الراويين. ¬

(¬1) العلل الكبير للترمذي (2/750) . (¬2) انظر جامع التحصيل (ص273-274) ، وتهذيب التهذيب (10/42-44) . (¬3) التاريخ الصغير (1/43) . (¬4) العلل الكبير للترمذي (2/964) . (¬5) التاريخ الكبير (3/80) . (¬6) المراسيل لابن أبي حاتم (ص164) . وصححت عبارته من جامع التحصيل (ص281) .

2- زيادة رجل في السند بين الراوي ومن يروي عنه. وقد وجدت في بعض النصوص التي تكلم البخاري في سماعات رواتها توفر هذه القرائن الباعثة للشك في اتصال السند. 1- وجود قرينة مشككة في تحقق الإدراك بين الراويين: 1- أخرج البخاري في تاريخه (¬1) حديثًا من طريق إسماعيل بن إبراهيم المخزومي عن أبيه عن جده عبد الله بن أبي ربيعة. ثم أتبعه بقوله: (إبراهيم لا أدري سمع من أبيه أم لا؟) . إبراهيم هو ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة (¬2) ، ولا أعلم لمولده أو وفاته تاريخًا، أما جده عبد الله بن أبي ربيعة فهو صحابي وقد مات في آخر خلافة عثمان رضي الله عنه (¬3) . والقرينة التي تشكك في إدراك إبراهيم لجده هي أن أم إبراهيم هي أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولم تولد أم كلثوم إلا بعد وفاة أبيها (¬4) ، وقد تزوجت من طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، ومن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة، وقال البخاري: (وكانت أم كلثوم تحت طلحة، فكأن عبد الرحمن تزوجها) (¬5) . يشير بهذا إلى أن عبد الرحمن تزوجها بعد طلحة، ولكن البخاري لم يجزم بذلك. ومن المعلوم أن طلحة رضي الله عنه قتل في موقعة الجمل سنة ست وثلاثين (¬6) ، وليس هناك ما يثبت أن عبد الرحمن لم يتزوج أم كلثوم إلا بعد مقتل ¬

(¬1) التقريب (ص534) . ولم يذكره ابن حجر في "طبقات المدلسين" ولا أعلم أن أحدًا قبل الحافظ وصفه بالتدليس، والمثبت عليه هو كثرة الإرسال. (¬2) التاريخ الكبير (5/9-10) . (¬3) انظر تهذيب التهذيب (1/138-139) . وثقه ابن حبان وأخرج له البخاري في صحيحه. (¬4) التاريخ الكبير (5/9) . (¬5) انظر تهذيب التهذيب (12/477) . (¬6) التاريخ الكبير (1/296) .

طلحة إلا ما جاء عن الواقدي (¬1) في ذلك، ولكن ليس الواقدي بثقة ليقبل قوله، ولو ثبت ذلك لكان في هذا نص قاطع على أن إبراهيم بن عبد الرحمن لم يدرك جده عبد الله بن أبي ربيعة لأنه سيكون ولد بعد وفاة جده. ولوجود هذه القرينة التاريخية المشككة في إدراك إبراهيم لجده يصبح من الضروري إثبات السماع حتى يزول الشك، وهذا حتى على مذهب مسلم أيضًا. 2- أخرج البخاري في تاريخه حديثًا من طريق الجريري عن سيف السدوسي عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه، ثم قال البخاري بعده: (ولا يعرف لسيف سماع من ابن سلام) (¬2) . لم أجد في كتب الرجال من يسمى سيف السدوسي، وأظن أن في اسمه تصحيفًا لأني لم أجد في ترجمة الجريري (¬3) راويًا اسمه سيف إلا سيفًا أبا عائذ السعدي. فغلب على ظني أن كلمة السعدي تصحفت إلى السدوسي وهذا ما أميل إليه أن تصحيفًا قد وقع في اسم سيف هذا. بناء على ما تقدم من ترجيح فإن كتب التراجم لم تذكر لسيف السعدي تاريخ ولادة أو وفاة، وإنما ذكر البخاري في تاريخه - ولم يزد أحد بعده على ما قال - في ترجمة سيف ما يلي: (سيف أبوعائذ السعدي سماه ابن علية عن الجريري وأثنى عليه خيرًا، سمع يزيد بن البراء قال البراء: تعالوا أعلمكم وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - فتوضأ ثلاثًا ثلاثًا) (¬4) . ومن المعلوم أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه متوفي سنة 43هـ (¬5) ، ¬

(¬1) التقريب (ص282) . (¬2) انظر طبقات ابن سعد (8/462) فقد ذكر أن طلحة قتل عن أم كلثوم يوم الجمل، ثم نقل الواقدي: (ثم تزوجت أم كلثوم بعد طلحة بن عبيد الله عبد الرحمن بن أبي ربيعة فولدت له إبراهيم الأحول، وموسى، وأم حميد، وأم عثمان) . (¬3) التاريخ الكبير (4/158) . (¬4) تهذيب الكمال (1/478) . (¬5) التاريخ الكبير (4/170) . وانظر الجرح والتعديل (4/275) ، والثقات لابن حبان (6/424) ، وتعجيل المنفعة (ص174) .

وسيف هذا مقل الرواية إذا لم يذكر له العلماء غير روايته عن يزيد بن البراء عن البراء، ومعلوم أن البراء بن عازب رضي الله عنه متوفي سنة 72هـ (¬1) . فإذا كان سيف يروي عن البراء بواسطة وهو متأخر الوفاة بنحو ثلاثين سنة عن ابن سلام فإن ذلك يشكك في إدراكه لعبد الله بن سلام، وإن كان من المحتمل أن يكون مدركًا له إلا أن القرينة السابقة مع عدم وجود ما يدل على السماع يقوي الظن بأن حديثه عن عبد الله بن سلام غير متصل. 3- أخرج البخاري في تاريخه حديثًا من طريق محمد بن قنفذ عن أبي هريرة رضي الله عنه، ثم قال: (ولا يعلم لمحمد سماع من أبي هريرة) (¬2) . ومحمد بن قنفذ ثقة (¬3) ، ولم يذكر في ترجمته تاريخ لولادته أو وفاته إلا أن جل روايته عن التابعين (¬4) ، وقد رأى ابن عمر رؤية (¬5) ، وروى عن بعض الصحابة ممن تأخرت وفاتهم كعمير مولى أبي اللحم المتوفي سنة 70هـ تقريبًا (¬6) ، وعبد الله بن عامر العنزي المتوفي سنة بضع وثمانين (¬7) ، وقد روى عن أمه (¬8) أم حرام عن أم سلمة رضي الله عنها، وأم سلمة ماتت سنة 62هـ (¬9) . ومن المعلوم أن أبا هريرة رضي الله عنه مات سنة 57هـ وقيل 58هـ وقيل 59هـ (¬10) . فيظهر مما سبق أن إدراكه لأبي هريرة محل شك وتردد لاسيما أن قرينة إكثاره من الرواية عن التابعين، وأن أقدم صحابي روى عنه هو عمير مولى ¬

(¬1) التقريب (ص307) . (¬2) التقريب (ص121) . (¬3) التاريخ الكبير (4/221) . (¬4) انظر تهذيب التهذيب (9/173) فقد وثقه أحمد وابن معين وأبوزرعة. (¬5) تهذيب الكمال (3/1199) . (¬6) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (7/255) . (¬7) التقريب (ص432) . (¬8) التقريب (ص309) . (¬9) تهذيب التهذيب (12/462) . (¬10) التقريب (ص754) .

أبي اللحم المتوفي سنة 70هـ تقريبًا تجعل حديثه عن أبي هريرة فيه نظر من جهة اتصال السند. 4- قال البخاري في حديث يرويه وهب بن منبه عن الحكم بن مسعود الثقفي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ولم يتبين سماع وهب من الحكم) (¬1) . والحكم بن مسعود ذكره الحافظ في "الإصابة" (¬2) من ضمن من ثبتت له صحبة - وفي هذا نظر إذ لم يذكره أحد ممن صنف في الصحابة من القدماء - وذكر البلاذري (¬3) أن الحكم قتل في موقعة الجسر مع أخيه أبي عبيد بن مسعود الثقفي وموقعة الجسر كانت سنة أربع عشرة (¬4) . وقول البلاذري إنما هو قول إخباري لا يدري عن مصدر معلوماته حول هذه القضية فلا نقطع بما قال. وأما وهب بن منبه فقد ذكر أن ولادته كانت سنة أربع وثلاثين في خلافة عثمان (¬5) . فهو على هذا لم يدرك الحكم بن مسعود - إن صح ما قاله البلاذري -، وبما أن قول البلاذري يحتمل الصحة فهو يصلح أن يكون قرينة تشكك في إدراك وهب للحكم بن مسعود، فيكون الاحتكام إلى سماع وهب من الحكم ثبت أم لا؟، وكما قال البخاري في هذا السند من أن سماع وهب من الحكم لم يتبين. 2- زيادة رجل في السند بين الراوي ومن يروي عنه: يقع في بعض الأسانيد شيء من الاضطراب فيذكر اسم الرجل حينًا بين راويين في المسند، وحينًا يسقط ذلك الاسم ليكون السند بدون واسطة تدخل بين الراويين، ووجود مثل هذا الاضطراب في السند يكون بمثابة القرينة المشككة في ¬

(¬1) التقريب (ص681) . (¬2) التاريخ الكبير (2/332) . (¬3) الإصابة في معرفة الصحابة (1/348) ، وذكره ابن حبان في ثقاته (4/143) في طبقة التابعين. (¬4) الإصابة (4/131) . (¬5) تاريخ الإسلام للذهبي، مجلد عهد الخلفاء الراشدين (ص126) .

اتصاله، وقد تكلم البخاري في سماعات بعض الرواة الذين وقع منهم مثل ذلك، وهؤلاء هم: 1- ... إبراهيم بن طهمان الذي قال فيه البخاري: (وروى إبراهيم بن طهمان عن خالد بن كثير الهمداني عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، مرسل (¬1) ، فلا أدري سمع منه إبراهيم أم لا؟، وروى إبراهيم أيضًا عن مطرف عن خالد بن أبي نوف عن الضحاك قوله) (¬2) . ويظهر من صنيع البخاري أنه يرى خالد بن كثير وخالد بن أبي نوف أنهما شخص واحد (¬3) لعدم إفراده لخالد بن أبي نوف بترجمة مستقلة وإنما ذكره في ترجمة خالد بن كثير. ويتضح من كلام البخاري السابق أن إبراهيم يروي عن خالد مباشرة وحينًا يروي عنه بواسطة، وهذه القرينة تجعل اتصال السند محل الشك وتردد. 2- عياش بن مؤنس أبومعاذ. قال البخاري: (عياش لم يذكر سماعًا من شداد) (¬4) . وقد أدخل عياش بينه وبين شداد رجلاً. نبه على هذا الحافظ ابن حجر بقوله: (ورواه جماعة عن بقية فأدخلوا بين عياش وشداد رجلاً، وفي رواية الإسماعيلي ومن وافقه: عن عياش عمن حدثه عن شداد) (¬5) . 3- محمد بن أبان الأنصاري. قال البخاري عنه: (ولا نعرف لمحمد سماعًا من عائشة) (¬6) . ومحمد بن أبان هذا ليس له إلا حديث واحد عن عائشة موقوفًا (¬7) ، ولم يرو ¬

(¬1) انظر تهذيب التهذيب (11/168) ، وسير أعلام النبلاء (4/545) . (¬2) لأن خالدًا ليس بصحابي. (¬3) التاريخ الكبير (3/170) . (¬4) انظر حاشية التاريخ الكبير (3/170) فقد نقل عن المزي وابن حجر أن البخاري يراهما واحد، وخولف في ذلك. (¬5) التاريخ الكبير (4/225) . وشداد هوا بن شرحبيل الأنصاري. (¬6) الإصابة (2/140) . (¬7) التاريخ الكبير (1/32) .

عنه إلا منصور بن زاذان. ويشترك معه في نفس الاسم رجل آخر يروي عن عون والقاسم بن محمد، ويروي عنه يحيى بن أبي كثير والأوزاعي (¬1) . والبخاري وابن أبي حاتم يفرقان بينهما. بينما ابن حبان وابن عبد البر يريان أنهما واحد فقد قال ابن حبان: (محمد بن أبان الأنصاري، من أهل المدينة، يروي عن القاسم بن محمد وعروة بن الزبير، روى عنه يحيى بن أبي كثير ومنصور (¬2) بن المعتمر، ومن زعم أنه سمع من عائشة فقد وهم، وليس هذا بمحمد بن أبان الجعفي، ذلك من أهل الكوفة ضعيف، وهذا مدني ثبت) (¬3) . ويظهر من صنيع الحافظ في "اللسان" (¬4) أنه يراهما واحد إذ نقل قول البخاري عن عدم معرفته لسماع محمد من عائشة في أول ترجمة محمد بن أبان ثم أتبعه بكلام ابن حبان وابن عبد البر فأشعر هذا الصنيع أنه يرى رأيهما. فإن كان محمد بن أبان صاحب الترجمة غير الثاني فهو غير معروف ولا يدري أأدرك عائشة أم لا؟، وإن كانا واحدًا فإنه يحدث عن عائشة بواسطة القاسم بن محمد بن أبي بكر (¬5) ، وهذا يثير الشك في سماعه من عائشة. 4- مقسم بن بجرة. قال البخاري: (ولا يعرف لمقسم سماع من أم سلمة ولا ميمونة ولا عائشة) (¬6) . وقد أدخل مقسم واسطة في السند بينه وبين ميمونة وعائشة رضي الله عنهما فقد قال الحكم بن عتيبة: ¬

(¬1) الحديث هو (ثلاث من النبوة تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، ووضع الرجل يده اليمنى على اليسرى في الصلاة) أخرجه في التاريخ الكبير (1/32) والدارقطني في سننه (1/284) . (¬2) انظر التاريخ الكبير (1/32-34) ، والجرح والتعديل (7/199) . (¬3) الصواب منصور بن زاذان، انظر كلام المعلمي في حاشيته على التاريخ الكبير (1/34) . (¬4) ثقات ابن حبان (7/392) . (¬5) لسان الميزان (5/32) . (¬6) انظر التاريخ الكبير (1/33) فقد ساق سندًا فيه رواية محمد بن أبان عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها.

(قلت لمقسم: إني أوتر بثلاث. فقال: لا، إلا بخمس، أو سبع، فقلت: عمن؟ قال: عن الثقة عن عائشة وميمونة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬1) . وأدخل أيضًا واسطة في السند بينه وبين أم سلمة رضي الله عنها، فقد روى عن ابن عباس عن أم سلمة رضي الله عنهم (¬2) . 5- موسى بن سعد بن زيد بن ثابت. قال البخاري في سند يرويه عمرو بن محمد عن موسى بن سعد عن زيد بن ثابت: (لا يعرف لهذا الاسناد سماع بعضهم من بعض، ولا يصح مثله) (¬3) . وموسى بن سعد وثقه ابن حبان (¬4) ، وقال الحافظ: (مقبول) (¬5) . ولم يذكر أن أحدًا روى عنه إلا عمر بن محمد العمري فقط. وقد أدخل موسى بن سعد بينه وبين جده زيد بن ثابت واسطة. فقد أخرج البيهقي في سننه الكبرى (¬6) هذا السند هكذا: (عمر بن محمد عن موسى بن سعد عن ابن زيد بن ثابت عن أبيه زيد بن ثابت) ، ولا يعرف اسم ابن زيد وإن كان الظن الغالب يتجه إلى كونه والد موسى المسمى سعد بن زيد بن ثابت فإن كان هو فليس هو بمعروف ولم يترجم له أحد (¬7) ، وأما عمر بن محمد فهو ثقة (¬8) ، ولا يعرف هل ¬

(¬1) التاريخ الصغير (1/329) . (¬2) التاريخ الصغير (1/329) ، وسنن النسائي (3/239-240) . (¬3) سنن النسائي (3/239) ، وقد قال ابن سعد في طبقاته (5/295) : (وقد روى عن أم سلمة سماعًا) ، ولم يسق حجته على ذلك. (¬4) جزء القراءة خلف الإمام (ص15) ، وفي المطبوع تصحيف في السند أصلحته من السنن الكبرى للبيهقي (2/163) . (¬5) الثقات لابن حبان (5/401) . (¬6) التقريب (ص551) . (¬7) السنن الكبرى (2/163) وذكر أن العدني رواه عن سفيان الثوري هكذا عمر بن محمد عن موسى بن سعد عن زيد بن ثابت ولم يذكر أباه في السند. (¬8) انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني (2/421/ [993] ) .

أدرك موسى بن سعد وعاصره أم لا؟ فإنه لا يوجد ما يدل على ذلك في كتب التراجم - التي وقفت عليها_. القسم الثاني: سمات راجعة إلى عدالة الرواة: 1- السمة الأولى: المجهولون: تكلم البخاري في سماعات بعض الرواة الذين فيهم جهالة. حيث نص بعض العلماء على بعضهم بأن فيهم جهالة، والبعض الآخر لم أجد فيه نصًا من علماء الجرح والتعديل بأنه مجهول ولكن شروط الجهالة منطبقة عليه وليس فيه توثيق معتبر. وقبل سرد أسماء المجهولين أريد أنبه إلى أربعة أمور: 1- أن مرادي بالمجهولين شامل لمجهولي العين، ومجهولي الحال، والجمهور من أهل لحديث والأصول متفقون على عدم الاحتجاج بهذين الصنفين من المجاهيل (¬1) . 2- أن الجمهور من أهل الحديث لا يرون العدالة تثبت للراوي بمجرد رواية ثقتين من أهل العلم غير أن الجهالة العينية ترتفع، فقد ذكر الخطيب البغدادي قول محمد بن يحيى الذهلي: (إذا روى عن المحدث رجلان ارتفع عنه اسم الجهالة) (¬2) . ثم قال: (إلا أنه لا يثبت له حكم العدالة بروايتهما) (¬3) . وقال ابن عبد البر: (كل من لم يرو عنه إلا رجل واحد لا يعرف إلا بذلك فهو مجهول عندهم لا تقوم به الحجة) (¬4) . ¬

(¬1) التقريب (ص417) وهو ابن زيد عبد الله بن عمر بن الخطاب، وانظر التهذيب (7/495) . (¬2) انظر الكفاية (ص112) ، علوم الحديث لابن الصلاح (ص100-101) ، فتح المغيث للعراقي (ص158، 160) ، وشرح النخبة (ص50) ، وفتح المغيث للسخاوي (1/320، 321، 325، 326) ، منهج النقد في علوم الحديث (ص90) وفي المسألة تفصيل لا يناسب المقام الإتيان به. (¬3) الكفاية (ص111) . قيد الخطيب البغدادي رواية الراويين بأن يكونا من المشهورين بالعلم. (¬4) الكفاية (ص112) .

وقال الحافظ ابن حجر فيمن روى عنه اثنان فصاعدًا ولم يوثق: (هو مجهول الحال، وهو المستور، وقد قبل روايته جماعة بغير قيد، وردها الجمهور) (¬1) . وقال الشيخ أحمد شاكر: (رواية مجهول العدالة ظاهرًا وباطنًا مع كونه معروف العين برواية عدلين عنه الصحيح عدم قبولها وهو قول الجمهور) (¬2) . 3- أن توثيق ابن حبان لرجل فيه جهالة لا يعتد به لما عرف عن ابن حبان من تساهل في توثيق المجهولين. قال ابن عبد الهادي: (وقد علم أن ابن حبان ذكر في الكتاب الذي جمعه في الثقات عددًا كثيرًا وخلقًا عظيمًا من المجهولين الذين لا يعرف هو ولا غيره أحوالهم) (¬3) . وقال الحافظ ابن حجر: (وهذا الذي ذهب إليه ابن حبان من أن الرجل إذا انتفت جهالة عينه كان على العدالة إلى أن يتبين جرحه مذهب عجيب والجمهور على خلافه وهذا هو مسلك ابن حبان في كتاب الثقات) (¬4) . 4- إن جميع من سأذكرهم من المجهولين لا تعرف معاصرتهم لمن حدثوا عنه أي لا نستطيع أن نؤكد معاصرتهم لمن حدثوا عنه، ولا أن ننفيها، وذلك لأن تراجم المجهولين في كتب الجرح والتعديل تكون من القصر بدرجة لا تمكن الباحث من معرفة تواريخ الولادة والوفاة، أو قرائن تدل على السماع والمعاصرة ممن حدث عنه مما جعل إثبات معاصرة راو مجهول لمن يحدث عنه عسيرًا جدًا بل يكاد يكون في حكم المتعذر. فجميع المجاهيل الذين سيأتي ذكرهم - الآن - لا يعلم إدراكهم أو معاصرتهم لمن رووا عنهم. وهذا سرد بأسماء الرواة المجهولين الذين تكلم البخاري في سماعاتهم: ¬

(¬1) الاستغناء لابن عبد البر (3/1446) . (¬2) شرح النخبة (ص50) . (¬3) شرح ألفية السيوطي (ص103) بتصرف يسير. (¬4) الصارم المنكي (ص138-139) .

1- أبان بن بشر المكتب. قال البخاري في حديثه عن أبي هاشم: (لا أدري سمع منه أم لا؟) (¬1) . وقال عنه ابن أبي حاتم: (مجهول) (¬2) ، وذكره ابن حبان في ثقاته (¬3) ، وهو مجهول. 2- أيمن - لم ينسب - قال البخاري: (لم يذكر قتادة سماعه من أيمن، ولا أيمن من أبي أمامة) (¬4) . أيمن وثقه ابن حبان (¬5) ، وقال ابن حجر: (شيخ مجهول يروي عن أبي أمامة) (¬6) . 3- البراء بن ناجية الكاهلي. قال البخاري: (لم يذكر سماعًا من ابن مسعود) (¬7) . البراء وثقه العجلي (¬8) ، وذكره ابن حبان (¬9) في ثقاته، والحافظ ابن حجر (¬10) ، ولكن لم يرو عنه غير راو واحد هو ربعي بن حراش لذا قال الذهبي: (فيه جهالة، ولا يعرف إلا بحديث: تدور رحي الإسلام بخمس وثلاثين سنة. ¬

(¬1) لسان الميزان (1/14) . (¬2) التاريخ الكبير (1/453) . (¬3) الجرح والتعديل (2/299) . والعبارة منقولة بالهامش عن إحدى النسخ، وأثبتها ابن حجر في لسان الميزان (1/20) ونسبها لابن أبي حاتم. (¬4) الثقات لابن حبان (6/68) . (¬5) التاريخ الكبير (2/27) . (¬6) الثقات لابن حبان (4/48) . وسماه أيمن بن مالك الأشعري. (¬7) لسان الميزان (1/476) . (¬8) التاريخ الكبير (2/118) . (¬9) الثقات للعجلي (ص79) . (¬10) الثقات لابن حبان (4/77) .

تفرد عنه ربعي بن حراش) (¬1) ، وقال أيضًا: (لا يعرف) (¬2) . وقول الذهبي هو الراجح والأليق بالقواعد، وتوثيق العجلي قريب جدًا من توثيق ابن حبان من حيث التساهل في توثيق المجاهيل. قال الشيخ المعلمي: (إن العجلي قريب من ابن حبان أو أشد عرفت ذلك بالاستقراء) (¬3) . 4- جابان. قال البخاري: (ولا يعرف لجابان سماع من عبد الله بن عمرو) (¬4) . جابان ذكره ابن حبان في ثقاته (¬5) ، وقال أبوحاتم: (شيخ) (¬6) ، وقال ابن خزيمة: (مجهول) (¬7) ، وقال الذهبي: (لا يدري من هو) (¬8) ، وقال في موضع آخر: (لا يعرف) (¬9) ، وقال ابن حجر: (مقبول) (¬10) . والراجح أنه مجهول فإنه لم يرو عنه إلا واحد في رواية نبيط، وفي رواية أخرى أنه سالم بن أبي الجعد وذلك لأن سالمًا روى الحديث مرة بواسطة نبيط، ومرة بإسقاطه فاتضح أن الطريق واحد (¬11) . 5- الجهم بن الجارود. قال البخاري: (لا يعرف لجهم سماع من سالم) (¬12) . ¬

(¬1) التقريب (ص121) . وتوثيقه مبني على توثيق العجلي وابن حبان فقط، انظر التهذيب (1/427) . (¬2) الميزان (1/302) . (¬3) المغني في الضعفاء (1/101) ، وانظر أيضًا ديوان الضعفاء (ص45) . (¬4) الأنوار الكاشفة (ص110) . (¬5) التاريخ الكبير (2/257) ، والتاريخ الصغير (1/298) . (¬6) الثقات (4/121) . (¬7) الجرح والتعديل (2/546) . (¬8) كتاب التوحيد لابن خزيمة (2/864) . (¬9) الميزان (1/377) . (¬10) المغني (1/125) . (¬11) التقريب (2136) . (¬12) لروايات هذا الحديث انظر التاريخ الكبير (2/257) ، والتوحيد لابن خزيمة (2/858، 864-866) .

الجهم ذكره ابن حبان في ثقاته (¬1) ، وتوقف فيه ابن خزيمة فقال: (باب استحباب المغالاة بثمن الهدي وكرائمه. إن كان شهم بن الجارود ممن يجوز الاحتجاج بخبره) (¬2) ، وقال الذهبي: (فيه جهالة، ما حدث عنه سوى خالد بن أبي يزيد الحراني) (¬3) ، وقال أيضًا: (لا يدري من هو) (¬4) ، وقال ابن حجر: (مقبول) (¬5) . وقول الذهبي هو الراجح. 6- الحارث بن محمد. قال البخاري: (عن أبي الطفيل، ولم يذكر سماعًا منه) (¬6) . الحارث ذكره ابن حبان في ثقاته ولكنه قال: (عن أبي الطفيل إن سمع منه) (¬7) ، وقال ابن عدي: (مجهول) (¬8) ، وقال العقيلي: (مجهول) (¬9) ، ولم يرو عنه سوى زافر بن سليمان فقط فهو مجهول. 7- ... الحسن بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري. قال البخاري: (لا أدري سمع من ابن عمر لا؟) (¬10) قال ابن معين: (مشهور) (¬11) ، ذكره ابن حبان في ثقاته (¬12) ، وقال الذهبي: (ما علمت روى عنه غير يزيد بن أبي زياد ¬

(¬1) التاريخ الكبير (2/230) . وسالم هو ابن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (¬2) الثقات لابن حبان (6/150) . (¬3) صحيح ابن خزيمة (4/291) . وقال ابن خزيمة إن أصحاب محمد بن سلمة اختلفوا في اسم ابن الجارود فقال بعضهم: "شهم" وقال الآخر: "جهم". (¬4) الميزان (1/426) . (¬5) المغني في الضعفاء (1/138) . (¬6) التقريب (ص143) . (¬7) التاريخ الكبير (2/283) . (¬8) الثقات لابن حبان (4/136) . (¬9) الكامل في الضعفاء (2/613) . (¬10) الضعفاء الكبير (1/212) . وعبارته: (فيه رجلان مجهولان: رجل لين لم يسمه زافر، والحارث بن محمد) . (¬11) التاريخ الكبير (2/294) . (¬12) تاريخ عثمان بن سعيد الدارمي (ص94) .

الكوفي) (¬1) ، وقال ابن حجر: (مقبول) (¬2) ، وهو في حد الجهالة لأنه لم يرو عنه غير يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف (¬3) ، وقول ابن معين: مشهور ليس فيه توثيق والشهرة هنا نسبية فقد تكون بسبب أنه من أحفاد عبد الرحمن بن عوف وليس كل مشهور يحتج بحديثه. 8- حميد بن أخت صفوان بن أمية. قال البخاري عنه: (لا نعلم سماع هذا من صفوان) (¬4) . حميد ذكره ابن حبان في ثقاته (¬5) ، وقال ابن القطان: (مجهول الحال) (¬6) ، وقال الذهبي: (ما حدث عنه سوى سماك بن حرب) (¬7) ، وقال ابن حجر: (مقبول) (¬8) ، وسماك بن حرب معروف بروايته عن المجهولين (¬9) . 9- زميل بن عباس. قال البخاري: (لا يعرف لزميل سماع من عروة) (¬10) . زميل ذكره ابن حبان في ثقاته (¬11) ، وقال الإمام أحمد: (لا أدري من هو؟) (¬12) ، وقال مسلم: (زميل لا يعرف له ذكر في شيء إلا في هذا الحديث فقط وذكره بالجرح والجهالة) (¬13) ، وقال النسائي: (ليس بمشهور) (¬14) ، وقال ¬

(¬1) الثقات لابن حبان (4/122) . (¬2) الميزان (1/494) . (¬3) التقريب (ص161) . (¬4) التقريب (ص601) . (¬5) التاريخ الكبير (4/304) . (¬6) الثقات لابن حبان (4/150) . (¬7) التهذيب (3/54) . (¬8) الميزان (1/618) . (¬9) التقريب (ص183) . (¬10) شرح علل الترمذي لابن رجب (1/81-82) . وصرح بذلك ابن معين. (¬11) التاريخ الكبير (3/450) . (¬12) الثقات لابن حبان (6/347) . (¬13) التهذيب (3/339-340) . (¬14) التمييز للإمام مسلم (ص217) . وكلمة "وذكر بالجرح والجهالة" لعلها من كلام راوي الكتاب أو أحد النساخ اختصارًا لكلام مسلم.

الخطابي: (مجهول) ، وقال الحافظ ابن حجر: (مجهول) (¬1) . 10- زهير بن قيس. قال البخاري: (لا يعرف لزهير سماع من علقمة) (¬2) . زهير ذكره ابن حبان في ثقاته (¬3) ، وقال الحسيني: (مجهول) (¬4) ، فتعقبه الحافظ ابن حجر بقوله: (بل هو معروف) واحتج بذكر ابن يونس في "تاريخ مصر" له وذكر من أخباره. ولكن لم يرو عنه إلا سويد بن قيس التجيبي فقط فهو في حد الجهالة. 11- ... زياد بن مالك. قال البخاري: (لا يعرف لزياد سماع من علي، وعبد الله) (¬5) . زياد ذكره ابن حبان في ثقاته (¬6) ولكن قال: (عن ابن مسعود، ولم يسمع منه) ، وقال الذهبي: (ليس بحجة) (¬7) ، وقال في موضع آخر: (مجهول) (¬8) ، وقال: (ليس بمشهور) (¬9) ، ولم يرو عنه إلا الحكم بن عتيبة فقط. 12- ... سعيد بن أبي مريم. قال البخاري: (لا يعرف أن يحيى سمع سعيدًا ¬

(¬1) التقريب (ص217) . (¬2) التاريخ الكبير (7/40) . وعلقمة هو ابن رمثة ممن بايع تحت الشجرة رضي الله عنه. انظر الاصابة (2/501) . (¬3) الثقات لابن حبان (6/337) . (¬4) تعجيل المنفعة (ص140) . وقول الحافظ: "معروف" لا يعد توثيقًا وأظنه يعني أنه ليس مجهولاً جهالة عين بل هو مستور. (¬5) التاريخ الكبير (3/372) . وعلي هو ابن أبي طالب رضي الله عنه، وعبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه. (¬6) الثقات لابن حبان (4/260) . (¬7) الميزان (2/93) . (¬8) ديوان الضعفاء (ص148) . (¬9) المغني في الضعفاء (1/244) .

أم لا؟، ولا سعيدًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬1) . سعيد بن أبي مريم ذكره ابن حبان في ثقاته (¬2) ، وليس له راو إلا يحيى بن إسحاق فقط. وهناك محدث ثقة مشهور اسمه سعيد بن الحكم بن أبي مريم، وليس هو من عناه البخاري وقد فرق البخاري بين الأول والآخر (¬3) . 13- ... سالم بن رزين، وقيل رزين. قال البخاري: (ولا تقوم الحجة بسالم بن رزين، ولا برزين لأنه لا يدري سماعه من سالم، ولا من ابن عمر) (¬4) . وسالم أو رزين ذكره ابن حبان في ثقاته (¬5) ، وقال الذهبي: (لا يعرف) (¬6) ، وقال ابن حجر: (مجهول) (¬7) . 14- ... سلمة الليثي. قال البخاري في حديث يعقوب بن سلمة الليثي عن أبيه عن أبي هريرة: (لا يعرف لسلمة سماع من أبي هريرة، ولا ليعقوب من أبيه) (¬8) . ذكر ابن حبان سلمة في الثقات وقال: (ربما أخطأ) (¬9) ، وقال الذهبي: (لا ¬

(¬1) التاريخ الكبير (3/512) . (¬2) الثقات لابن حبان (4/292) . (¬3) فقد ذكر سعيد بن الحكم في التاريخ الكبير (3/465) ، وذكر سعيد بن أبي مريم في التاريخ الكبير (3/512) . والأول ثقة مكثر والثاني مجهول. (¬4) التاريخ الكبير (4/13) ترجمة "سليمان بن رزين" وقد روى شعبة عن علقمة بن مرثد عن سالم بن رزين عن سالم بن عبد الله عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر رضي الله عنهما، وروى الثوري هذا السند بكيفية أخرى فقال عن علقمة عن رزين الأحمري عن ابن عمر. ورجح أبوزرعة وأبوحاتم رواية الثوري. وانظر التهذيب (3/276) . (¬5) الثقات لابن حبان (6/389) . (¬6) الميزان (2/48) . (¬7) التقريب (ص209) . (¬8) التاريخ الكبير (4/76) ، والعلل الكبير للترمذي (1/112) . (¬9) الثقات لابن حبان (4/317) . ليس لسلمة إلا حديث واحد فقط فكيف يقال: "ربما أخطأ" ورأس ماله حديث واحد؟!

يعرف، ولا روى عنه سوى ولده يعقوب) (¬1) ، وقال ابن حجر: (وسلمة لا يعرف إلا في هذا الخبر) (¬2) ، وقال: (لين الحديث) (¬3) . ويعقوب بن سلمة. قال الذهبي فيه: (ليس بعمدة) (¬4) ، وقال ابن حجر: (مجهول الحال) (¬5) ، والراجح أن اسم الجهالة يشمل الأب وابنه. 15- سلمة بن محمد بن عمار بن ياسر. قال البخاري: (ولا يعرف أنه سمع من عمار) (¬6) . سلمة قال عنه ابن معين: (حديثه عن جده مرسل) (¬7) ، قال ابن حبان: (لا يحتج به) ، وقال الذهبي: (صدوق في نفسه، روايته عن جده مرسلة، روى عنه علي بن جدعان وحده) (¬8) ، وقال ابن حجر: (مجهول) (¬9) . 16- ... سليمان بن أبي سليمان. قال البخاري: (لم يذكر سماعًا من أبي سعيد) (¬10) . سليمان ذكره ابن حبان في ثقاته (¬11) ، وقال الدارقطني: (مجهول لم يرو عنه إلا قتادة) (¬12) ، وقال الحسيني: (مجهول) (¬13) ، وقال الحافظ: ¬

(¬1) الميزان (2/194) . (¬2) التهذيب (4/162) . (¬3) التقريب (ص249) . (¬4) الميزان (4/452) . (¬5) التقريب (ص608) . (¬6) التاريخ الكبير (4/77) . (¬7) تهذيب التهذيب (4/158) . (¬8) الميزان (2/192) . (¬9) التقريب (ص248) . (¬10) التاريخ الكبير (4/14-15) . أبوسعيد هو الخدري، وهناك رجل آخر اسمه سليمان يروي عن أبي هريرة وهو غيره. انظر التهذيب (4/197) . (¬11) الثقات لابن حبان (4/315) . (¬12) التهذيب (4/197) . (¬13) تعجيل المنفعة (ص165) . ولم أجد هذه الكلمة في أصل كتاب الحسيني، الإكمال (ص178) .

(مقبول) (¬1) ، والراجح أنه مجهول كما قال الدارقطني. 17- ... سليمان بن مرثد. قال البخاري: (ولا يعرف له سماع من عائشة) (¬2) . سليمان ذكره ابن حبان في ثقاته ولكن قال: (يروي عن عائشة إن سمع منها) (¬3) ، وقال ابن عدي بعد أن أخرج له حديثًا عن عائشة: (ولا أعلم لسليمان بن مرثد عن عائشة، ولا عن غير عائشة غيره) (¬4) ، وقال الذهبي: (لا يعرف له سماع منهما - يعني من عائشة وأبي الدرداء - وعنه أبوالتياح فقط) (¬5) ، وقال: (لا يدري ألقيهما أم لا؟) (¬6) . والراجح أنه مجهول لأنه لم يرو عنه إلا يزيد بن حميد أو التياح فقط. 18- ... سميع. قال البخاري: (لا يعرف لعمرو سماع من سميع، ولا لسميع من أبي أمامة) (¬7) . سميع قال عنه ابن حبان في ثقاته: (لا أدري من هو، ولا ابن من هو) (¬8) وقال الحسيني: (مجهول) (¬9) وقال ابن حجر: (شيخ) (¬10) ، وليس له راو إلا عمرو بن دينار فقط فهو في حد الجهالة. ¬

(¬1) التقريب (ص252) . (¬2) التاريخ الكبير (4/39) . (¬3) الثقات لابن حبان (4/311) . (¬4) الكامل لابن عدي (3/1135) . وما قاله ابن عدي فيه نظر فقد روى سليمان عن أبي الدرداء أيضًا. انظر الضعفاء للعقيلي (2/142) . (¬5) الميزان (2/222) . (¬6) المغني في الضعفاء (1/283) . (¬7) التاريخ الكبير (4/190) . (¬8) الثقات لابن حبان (4/342) . (¬9) الإكمال (ص182) . (¬10) لسان الميزان (3/115) .

19- ... طلحة بن عبد الله بن عمرو. قال البخاري في حديث يرويه طلحة هذا عن ابن لعبد الله بن مسعود: (ولا يعرف لطلحة سماع من ابن عبد الله) (¬1) . لم أجد في كتب التراجم التي بين يدي ترجمة لهذا الرجل، ويغلب على ظني أنه مجهول. 20- ... عبد الله بن راشد الزوفي. قال البخاري: (لا يعرف سماعه من ابن أبي مرة، وليس له حديث في الوتر) (¬2) . عبد الله بن راشد. قال ابن حبان: (يروي عن عبد الله بن أبي مرة - إن كان سمع منه - من اعتمده فقد اعتمد إسنادًا مشوشًا) (¬3) ، وقال الذهبي: (قيل: لا يعرف سماعه من أبي مرة. قلت: ولا هو بالمعروف) (¬4) ، وقال ابن حجر: (مستور) (¬5) . 21- ... عبد الله بن عميرة. قال البخاري: (لا نعلم له سماعًا من الأحنف) (¬6) . وعبد الله ذكره ابن حبان في ثقاته (¬7) ، وقال الذهبي: (فيه جهالة) (¬8) ، وقال: (لا يعرف) (¬9) ، وقال أيضًا: (مجهول) (¬10) ، وقال ابن حجر: (مقبول) (¬11) . ولم ¬

(¬1) التاريخ الكبير (2/201) ، والتاريخ الصغير (1/234) وفيه سقط في السند يصحح من الكبير. (¬2) التاريخ الكبير (5/88) . واسم أبي مرة عبد الله. (¬3) الثقات لابن حبان (7/35) بتصرف يسير، ويستغرب من صنيع ابن حبان - رحمه الله - في إدخاله لهذه الترجمة في الثقات مع ما قاله فيها. (¬4) الميزان (2/420) . (¬5) التقريب (ص302) . (¬6) التاريخ الكبير (5/159) . والأحنف هو ابن قيس. (¬7) الثقات لابن حبان (5/42) . (¬8) الميزان (2/469) . (¬9) المغني في الضعفاء (1/350) . (¬10) ديوان الضعفاء (ص224) . (¬11) التقريب (ص316) .

يرو عنه إلا سماك بن حرب وهو معروف بروايته عن المجهولين - كما تقدم -. 22- عبد الحميد بن سالم: قال البخاري: (لا نعرف سماعه من أبي هريرة) (¬1) . عبد الحميد ذكره ابن حبان في ثقاته (¬2) ، وقال الذهبي: (ما حدث عنه غير الزبير) (¬3) ، وفي موضع آخر قال: (لا يعرف والخبر منكر) (¬4) ، وقال ابن حجر: (مجهول) (¬5) . 23- عبد الرحمن بن مرزوق. روى عن زر بن حبيش فقال البخاري: (لا يعرف سماع عبد الرحمن من زر) (¬6) . عبد الرحمن ذكره ابن حبان في ثقاته (¬7) ، وقال ابن حجر: (مقبول) (¬8) ، وقال الحافظ أبونعيم الأصبهاني: (عبد الرحمن بن مرزوق دمشقي تفرد بالرواية عنه سعيد بن أبي أيوب) (¬9) . قاسم الجهالة يشمله. ذكر ابن عساكر (¬10) أن الهيثم بن حميد روى أيضًا عن عبد الرحمن بن مرزوق وأخرج حديثًا واحدًا فقط فيه رواية الهيثم عن عبد الرحمن ولكن السند إلى الهيثم ضعيف فيه إبراهيم بن مروان، وأبوعبد الملك أحمد بن إبراهيم القرشي ليس لهما ترجمة في كتب التراجم التي اطلعت عليها، في السند أيضًا علي بن موسى السمسار متكلم فيه، قال عنه الباجي: (رأيت من أصوله أجزاء سقيمة تدل ¬

(¬1) التاريخ الكبير (6/54-55) . (¬2) الثقات لابن حبان (5/127) . (¬3) الميزان (2/540) . والزبير هو ابن سعيد الهاشمي. (¬4) المغني في الضعفاء (1/369) . (¬5) التقريب (ص333) . (¬6) التاريخ الكبير (4/304-305) . (¬7) الثقات لابن حبان (7/77) . (¬8) التقريب (ص350) . (¬9) حلية الأولياء (4/191) . (¬10) انظر تاريخ دمشق لابن عساكر (10/183) .

على قلة معرفته بهذا الشأن، وضبطه له) (¬1) ، وقال أبومحمد الكناني - وهو ممن سمع من السمسمار-: (كان فيه تساهل في الحديث) . والذين ترجموا لعبد الرحمن بن مرزوق قبل ابن عساكر لم يذكروا لعبد الرحمن راويًا إلا سعيد بن أبي أيوب (¬2) . 24- ... عبد الرحمن المدني. قال البخاري: (لا أعرف له سماعًا من أبي هريرة) (¬3) . قال أبوحاتم: (هو مجهول) (¬4) ، وقال الذهبي: (عبد الرحمن البدني عن أبي هريرة مجهول) (¬5) . 25- ... عبد العزيز بن النعمان. قال البخاري: (لا يعرف له سماع من عائشة رضي الله عنها) (¬6) . وثقه ابن حبان (¬7) ، وقال الذهبي: (شيخ مقل، قال البخاري، لا يعرف له سماع من عائشة) (¬8) ، وقال في موضع آخر: (مجهول) (¬9) . ولم يرو عنه إلا عبد الله بن رباح فقط. 26- ... عبد الملك بن عبيد. ذكره البخاري فيمن روى عن حمران بن أيان ولم يذكر سماعًا. قال البخاري: (ومن روى عنه فلم يذكر سماعًا مسلم بن كيسان، وابن المنكدر، وزيد بن أسلم، وبكير، والمطلب بن حنطب، وابن أبي ¬

(¬1) تاريخ دمشق لابن عساكر (12/556) . (¬2) انظر التاريخ الكبير (5/349) ، والجرح والتعديل (5/287) ، والثقات لابن حبان (7/77) ، وجزم بذلك أبونعيم في الحلية (4/191) . (¬3) التاريخ الكبير (5/371) . (¬4) الجرح والتعديل (5/305) . (¬5) الميزان (2/602) بتصرف يسير. (¬6) التاريخ الكبير (6/9) . (¬7) الثقات لابن حبان (5/125) . (¬8) الميزان (2/636) . (¬9) ديوان الضعفاء (ص253) .

المخارق، وعبد الملك بن عبيد، وعثمان بن موهب) (¬1) . قال ابن المديني في عبد الملك بن عبيد: (مجهول) (¬2) ، وقال ابن حجر: (مجهول الحال) (¬3) . 27- ... عثمان بن شبرمة. قال البخاري: (لا أدري سمع من عاصم أم لا؟) (¬4) . ذكره ابن حبان في ثقاته (¬5) ، وليس له إلا راو واحد هو محمد بن فضيل بن غزوان. 28- ... عمارة بن عامر. قال البخاري: (لا يعرف سماع عمارة من أم الطفيل) (¬6) . ذكره ابن حبان في الثقات ولكن قال: (لم يسمع عمارة من أم الطفيل، وإنما ذكرته لكي لا يغر الناظر فيه فيحتج به من حديث أهل مصر) (¬7) . وقال البخاري: (لا يعرف) (¬8) . وقال الذهبي: (لا يعرف. ذكره البخاري في الضعفاء) (¬9) . 29- ... عمرو بن بجدان. قال البخاري: (لا أعرف لعمرو بن بجدان سماعًا من أبي زيد) (¬10) . ذكره ابن حبان في ثقاته (¬11) والعجلي (¬12) ، وقال ابن المديني: (لم يرو عنه ¬

(¬1) التاريخ الكبير (3/80) . (¬2) الجرح والتعديل (5/358) . (¬3) التقريب (ص364) . (¬4) التاريخ الكبير (6/227-228) . (¬5) الثقات (8/448) . (¬6) التاريخ الكبير (6/500-501) ، والتاريخ الصغير (1/327) . (¬7) الثقات (5/245) . (¬8) التاريخ الصغير (1/327) . (¬9) الميزان (3/177) . (¬10) العلل الكبير للترمذي (2/650) . (¬11) الثقات (5/171-172) . (¬12) تاريخ الثقات (ص362) .

إلا أبو قلابة) (¬1) ، وقال عبد الله بن أحمد: (قلت لأبي: عمرو بن بجدان معروف؟ قال: لا) . وقال ابن القطان: (لا يعرف) (¬2) ، وقال الذهبي: (قد وثق عمرو مع جهالته) (¬3) . 30- ... محمد بن ركانة، قال البخاري: (إسناده مجهول لا يعرف سماع بعضهم من بعض) (¬4) . قال ابن حبان في ثقاته: (لست بالمعتمد على إسناده) (¬5) . وقال الذهبي: (لم يصح حديثه. انفرد به أبوالحسن شيخ لا يدري من هو) (¬6) . وقال ابن حجر: (مجهول) (¬7) ، والسند يرويه أبوالحسن العسقلاني عن أبي جعفر بن محمد بن ركانة عن أبيه: صارع النبي - صلى الله عليه وسلم - ركانة فصرعه (¬8) . 31- ... محمد بن أبي سارة. قال البخاري: (لا يعرف له سماع من الحسن) (¬9) . ذكره ابن حبان في ثقاته (¬10) . وقال أبوحاتم: (روى عن الحسن بن علي مرسلاً) (¬11) وقال الذهبي: (محمد بن أبي سارة هو محمد بن عبد الله بن أبي سارة، فليس هو بمجهول) (¬12) . إلا أن البخاري فرق بينهما ولم يجعلهما ¬

(¬1) التهذيب (8/7) . (¬2) الميزان (3/247) . (¬3) التقريب (ص419) . (¬4) التاريخ الكبير (1/82) . (¬5) الثقات لابن حبان (5/360) . (¬6) الميزان (3/546) . (¬7) التقريب (ص478) . (¬8) انظر التاريخ الكبير (1/82) . (¬9) التاريخ الكبير (1/110) والحسن هو ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما. (¬10) الثقات (5/365) . (¬11) الجرح والتعديل (7/283) . (¬12) الميزان (3/555) .

واحدًا (¬1) . وقد قال الذهبي في موضع آخر: (محمد بن أبي سارة: شيخ محمد بن عبيد الطنافسي: لا يعرف) (¬2) . ولم أر له راويًا إلا محمد بن عبيد الطنافسي فاسم الجهالة شامل له. 32- ... محمد بن نافع: قال البخاري: (عن عائشة ولم يذكر سماعًا منها) (¬3) وذكره ابن حبان في ثقاته ولكن قال: (لا يعتد به إذا انفرد) (¬4) . وليس له راو إلا الوصافي. فهو مجهول. 33- ... يزيد بن عمرو الأسلمي. قال البخاري: (ويزيد هذا غير معروف سماعه من عبد العزيز) (¬5) . ذكره ابن حبان في ثقاته (¬6) ، وقال الذهبي: (تابعي. ذكره البخاري في الضعفاء) (¬7) وقال أيضًا في موضع آخر: (تابعي مجهول والخبر منكر) (¬8) . ولم يرو عنه إلا حاتم بن إسماعيل فقط. 34- ... أبوالعشراء. قال البخاري: (في حديثه واسمه، وسماعه من أبيه نظر) (¬9) . ذكره ابن حبان في ثقاته (¬10) . قال الذهبي: (ولا يدري من هو، ولا من ¬

(¬1) فقد ذكر ترجمة محمد بن عبد الله بن أبي سارة. في التاريخ الكبير (1/131) ، وذكر ترجمة محمد بن أبي سارة في (1/110) فدل صنيعه على أنه فرق بينهما. (¬2) ديوان الضعفاء (ص252) وهو نفس الشخص وليس الآخر ابن عبد الله بن أبي سارة. (¬3) التاريخ الكبير (1/250) . (¬4) الثقات (5/379) . (¬5) التاريخ الصغير (2/62) . وعبد العزيز هو ابن عقبة. (¬6) الثقات (7/625) . (¬7) الميزان (4/436) . (¬8) المغني (2/752) . (¬9) التاريخ الكبير (2/22) . (¬10) الثقات (5/189) وسماه عامر بن أسامة بن مالك.

أبوه. انفرد عنه حماد بن سلمة) (¬1) . وقال ابن حجر: (مجهول) (¬2) . 35- ... أبومعان. قال البخاري: (لا يعرف له سماع من ابن سيرين وهو مجهول) (¬3) . قال الذهبي: (لا يعرف. تفرد عنه عمار بن سيف) (¬4) . وقال ابن حجر: (مجهول) (¬5) . وسأورد الآن الأسانيد التي تكلم البخاري في سماعها جملة ولم يحدد راويًا بعينه، وفيها من هو مجهول. 36- ... أخرج البخاري في تاريخه هذا السند: (وقال لي عبد الله بن محمد الجعفي حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا حماد بن سلمة عن الزبير أبي عبد السلام عن أيوب بن عبد الله بن مكرز عن وابصة بن معبد قال قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: "استفت نفسك"، ولم يذكر سماع بعضهم من بعض) (¬6) . ويتوجه النظر هنا إلى أيوب والزبير فأما أيوب فقد ذكره ابن حبان في ثقاته (¬7) ، وقال ابن المديني: (مجهول) (¬8) . وقال البخاري: (روى عنه الزبير أبوعبد السلام، ويقال إنه مرسل) (¬9) ، قال ¬

(¬1) الميزان (4/551) . (¬2) التقريب (ص658) . (¬3) التاريخ الكبير (2/170) . (¬4) الميزان (4/574) بتصرف يسير. (¬5) التقريب (ص674) . (¬6) التاريخ الكبير (1/144) . (¬7) الثقات (4/26) . (¬8) التهذيب (1/408) . (¬9) التاريخ الكبير (1/419) . ومما يؤيد ذلك أن الإمام أحمد أخرج هذا السند في مسنده (4/228) من طريق عفان ثنا حماد بن سلمة أنا الزبير أبوعبد السلام عن أيوب بن عبد الله بن مكرز - ولم يسمعه منه قال: حدثني جلساؤه وقد رأيته - عن وابصة بن معبد قال عفان: حدثني غير مرة ولم يقل حدثني جلساؤه.

الذهبي: (تابعي قديم لا يعرف) (¬1) . وقال ابن حجر: (مستور) (¬2) . ولم يرو عنه إلا الزبير. وأما الزبير أبوعبد السلام فقد ذكره ابن حبان في ثقاته (¬3) ، وقال البخاري: (روى عنه حماد بن سلمة مراسيل) (¬4) ، وقال الدولابي: (هو ضعيف) (¬5) . وقال ابن حجر: (نقل عن ابن معين أنه ذكر برواية حماد بن سلمة فقط ولم يذكر فيه جرحًا) (¬6) . وليس له راو إلا حماد بن سلمة فهو مجهول. 37- ... أخرج البخاري في تاريخه من طريق محمد بن إسحاق قال: (أخبرني يزيد بن محمد بن خثيم عن محمد بن كعب القرظي عن محمد بن خثيم عن عمار بن ياسر) (¬7) ثم قال البخاري: (وهذا إسناد لا يعرف سماع يزيد من محمد، ولا محمد بن كعب من ابن خثيم، ولا ابن خثيم من عمار) . أما محمد بن خثيم فقد ذكره ابن حبان في ثقاته (¬8) ، وقال الذهبي: (لا يدري من هو) (¬9) ، وقال ابن حجر: (مقبول) (¬10) . وذكر غير واحد من الحفاظ أنه ولد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬11) . فتكون معاصرته لعمار - إن صح ذلك - محل يقين. وأما محمد بن كعب القرظي فهو ثقة (¬12) . ¬

(¬1) المغني (1/97) . (¬2) التقريب (ص118) . (¬3) الثقات (6/333) . (¬4) التاريخ الكبير (3/413) . (¬5) الكنى للدولابي (2/72) لم ينقل أحد قول الدولابي هذا. (¬6) تعجيل المنفعة (ص118) . (¬7) التاريخ الكبير (1/71) . (¬8) الثقات (7/402) . (¬9) الميزان (3/536) . (¬10) التقريب (ص476) . (¬11) انظر الإصابة (3/473) . (¬12) التقريب (ص504) .

وأما يزيد فقد قال فيه ابن معين: (ليس به بأس) (¬1) وذكره ابن حبان في ثقاته (¬2) ، إلا أن الذهبي قال: (تفرد عنه ابن إسحاق) (¬3) ولم يتركه، وكذلك ابن حجر قال: (مقبول) (¬4) ولم يقوه رغم ثناء ابن معين عليه. ومحمد بن خثيم لم يرو عنه إلا محمد بن كعب فهو مجهول، وأما يزيد بن محمد بن خثيم فلم يرو عنه إلا محمد بن إسحاق ولكن تعديل ابن معين له لا يجعله مجهولاً. 38- ... قال البخاري: (عبد الملك بن محمد بن بشير عن عبد الرحمن بن علقمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، حديثه، في الكوفيين، ولم يتبين سماع بعضهم من بعض) (¬5) . عبد الرحمن بن علقمة مختلف في صحبته، وقد أثبتها عدد من العلماء منهم البخاري (¬6) ، وقال ابن عبد البر: (لا تصح له صحبة) (¬7) ، وقال: (في سماعه عنه - أي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نظر) (¬8) . وأما عبد الملك فقد قال فيه الذهبي: (لا يعرف) (¬9) ، وقال ابن حجر: (مجهول) (¬10) . 39- ... قال البخاري في السند الذي يرويه عبد الله بن راشد الزوفي عن ¬

(¬1) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (9/288) . (¬2) الثقات (6/628) . (¬3) الميزان (4/439) . (¬4) التقريب (ص604) . (¬5) التاريخ الكبير (5/431) . (¬6) التاريخ الكبير (5/250) . (¬7) الاستيعاب (2/416، 418) . (¬8) الاستيعاب (2/416، 418) . وللاستزادة ينظر الإصابة (2/412) ، والتهذيب (6/233) . (¬9) الكاشف (2/188) . (¬10) التقريب (ص364) وفيه يدل "بشير" "نسير"، والذي في التاريخ الكبير (5/431) ، وتهذيب التهذيب (6/419) "بشير".

عبد الله بن أبي مرة الزوفي عن خارجة بن حذافة رضي الله عنه: (لا يعرف سماع بعضهم من بعض) (¬1) . عبد الله بن أبي مرة وثقه العجلي (¬2) ، وابن حبان وقال: (يروى عن خارجة بن حذافة إن كان سمع منه ... إسناد منقطع ومتن باطل) (¬3) ، وقال ابن حجر: (صدوق أشار البخاري إلى أن في روايته انقطاعًا) (¬4) ، وقال الذهبي: (تابعي مجهول) (¬5) . وأما عبد الله بن راشد فقد تقدم الكلام عليه وأنه مجهول. 40- ... أخرج البخاري في تاريخه من طريق الليث حدثني عبدربه بن سعيد عن عمران بن أبي أنس عن عبد الله بن نافع بن العمياء عن ربيعة بن الحارث عن الفضل بن عباس رضي الله عنه، ثم قال: (وهو حديث لا يتابع عليه، ولا يعرف سماع هؤلاء بعضهم عن بعض) (¬6) . الليث في هذا السند هو ابن سعد الإمام المشهور، وعبدربه بن سعيد ثقة (¬7) ، وعمران بن أبي أنس ثقة (¬8) أيضًا، وعبد الله بن نافع بن العمياء ذكره ابن حبان (¬9) في ثقاته، وقال ابن المديني: (مجهول) (¬10) ، وقال الحافظ ابن حجر: (مجهول) (¬11) . ¬

(¬1) التاريخ الكبير (3/203) في ترجمة خارجة، والتاريخ الكبير (5/192-193) في ترجمة عبد الله بن أبي مرة. (¬2) الثقات للعجلي (ص278) . (¬3) الثقات لابن حبان (5/45) . (¬4) التقريب (ص322) . (¬5) ديوان الضعفاء (ص228) . (¬6) التاريخ الكبير (3/283-284) . (¬7) انظر التقريب (ص335) . (¬8) انظر التقريب (ص429) . (¬9) الثقات لابن حبان (7/53) . (¬10) التهذيب (6/50) . (¬11) التقريب (ص326) .

فأما ربيعة بن الحارث المذكور في السند فليس هو بصحابي كما قد يشتبه وإنما هو راو آخر بدليل أن البخاري (¬1) لم يذكر له صحبة كما هي عادته في الصحابة ولم يذكر له نسبًا ولو كان الصحابي لساق نسبه لاسيما وهو ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك ابن أبي حاتم (¬2) لم يذكر أن له صحبة، وابن حبان (¬3) أيضًا ترجم لربيعة بن الحارث في التابعين، ورجح المزي (¬4) أن ربيعة بن الحارث آخر غير الصحابي، وقال الشيخ المعلمي: (قال الطبراني (¬5) : وقد قيل إن راوي هذا الحديث رجل آخر. أقول: هو الظاهر، وقد فرق بينهما ابن حبان: ذكر ربيعة بن عبد المطلب في الصحابة وقال: "كان أسن من العباس"، وذكر ربيعة بن الحارث الذي روى عن الفضل في التابعين، وأما المؤلف، وابن أبي حاتم فلم يذكر إلا هذا الراوي عن الفضل ذكراه في التابعين) (¬6) . ولم يرو عن ربيعة بن الحارث إلا عبد الله بن نافع فهو مجهول. 41- ... قال البخاري: (الضحاك بن فيروز الديلمي، عن أبيه، روى عنه أبووهب الجيشاني، لا يعرف سماع بعضهم عن بعض) (¬7) . فيروز الديلمي - رضي الله عنه - صحابي (¬8) ، وولده الضحاك ذكره ابن ¬

(¬1) انظر التاريخ الكبير (3/283) ومن عادة البخاري في تاريخه الكبير أن يذكر الصحابة في أول كل اسم وينص على الصحبة وربيعة بن الحارث لم يذكره في أول من اسمه "ربيعة" ولم ينص على صحبته. (¬2) الجرح والتعديل (3/473) . (¬3) الثقات (4/230) . (¬4) تهذيب الكمال (1/406-407) النسخة المخطوطة. (¬5) يترجح لي أن القائل هو المزي وليس الطبراني وأظن أن المعلمي وقع في اللبس لأنه ينقل كما نص هو هنا من التهذيب لابن حجر، ولكن بالرجوع إلى تهذيب الكمال لا يبقى أي ليس في أن الكلام للمزي وليس للطبراني. (¬6) هامش التاريخ الكبير (3/283) . (¬7) التاريخ الكبير (4/333) . (¬8) انظر الإصابة (3/210) .

حبان في ثقاته (¬1) ، وقال ابن القطان: (مجهول) (¬2) وقال ابن حجر: (مقبول) (¬3) وقد روى عنه أبووهب الجيشاني، وعروة بن غزية وكثير الصنعاني وهذان لم أجد لهما ترجمة فهما أيضًا في حكم المجاهيل. وأما أبووهب الجيشاني ديلم بن الهوشع وقيل الهوسع، ورجح ابن يونس أن اسمه عبيد بن شرحبيل (¬4) . فقد ذكره ابن حبان في ثقاته (¬5) ، وقال البخاري: (في إسناده نظر) (¬6) ، وقال العقيلي: (لا يحفظ إلا عنه) (¬7) ، وقال ابن القطان: (مجهول الحال) . وقال ابن حجر: (مقبول) (¬8) . وقال ابن حجر في حديثه عن الضحاك بن فيروز عن أبيه: (في سنده مقال) (¬9) وقد روى عنه جماعة. والذي أميل إليه أن الضحاك بن فيروز مجهول وأن أبا وهب الجيشاني فيه ضعف. 42- ... أخرج البخاري في تاريخه الصغير من طريق إبراهيم القرشي عن سعيد بن شرحبيل عن زيد بن أبي أوفى رضي الله عنه حديثًا ثم قال: (هذا إسناد مجهول لا يتابع عليه، ولا يعرف سماع بعضهم من بعض) (¬10) . وسعيد بن شرحبيل قال أبوحاتم فيه: (مجهول) (¬11) ، وقال الذهبي: (لا يعرف) (¬12) . ¬

(¬1) الثقات (4/387) . (¬2) التهذيب (4/448) . (¬3) التقريب (ص279) . (¬4) انظر التهذيب (12/275) . (¬5) الثقات (6/192) . (¬6) التاريخ الكبير (3/249) وفيه: (سمع الضحاك بن فيروز) . (¬7) الضعفاء الكبير (2/44) . (¬8) التقريب (ص683) . (¬9) الإصابة (3/210) . (¬10) التاريخ الصغير (1/250) . (¬11) الجرح والتعديل (4/33) . (¬12) ديوان الضعفاء (ص160) .

وإبراهيم القرشي قال فيه أبوحاتم: (مجهول) (¬1) ، وقال الذهبي: (مجهول) (¬2) . 2- ... السمة الثانية: الضعفاء: من الرواة الذين تكلم البخاري في سماعهم طائفة ممن ضعفوا، وهؤلاء هم: 1- ... حرملة بن إياس. قال البخاري: (ولا يعرف له سماع من أبي قتادة) (¬3) . وحرملة ذكره ابن حبان في ثقاته (¬4) ، وقال الذهبي: (ذكره البخاري في كتاب الضعفاء، فقال: اختلفوا في إسناده، ولم يصح إسناده) (¬5) ، وقال ابن حجر: (مقبول) ، وقال الدارقطني في الحديث الذي يرويه حرملة بن إياس عن أبي قتادة: (هو مضطرب لا أحكم فيه بشيء) (¬6) . وأميل إلى أن حرملة ضعيف لذكر البخاري له في "الضعفاء"، والذهبي في "الميزان"، وللاضطراب الواقع في حديثه من قبل الرواة عنه. ولا أدري هل عاصر أبا قتادة أم لا؟ 2- ... خثيم بن مروان: أخرج له البخاري عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا تشد المطي إلا إلى مسجد الخيف ... " ثم قال: (ولا يتابع في مسجد الخيف، ولا يعرف لخثيم سماع من أبي هريرة) (¬7) . ذكره ابن حبان (¬8) في ثقاته، وقال الذهبي: (قال الأزدي: ضعيف) (¬9) ، ¬

(¬1) الجرح والتعديل (2/150) وانظر أيضًا (4/33) . (¬2) الميزان (1/77) . (¬3) التاريخ الصغير (1/301-302) . (¬4) الثقات لابن حبان (4/173) . (¬5) الميزان (1/472) . ونص البخاري غير موجود في الضعفاء الصغير، وأظنه من الضعفاء الكبير - وهو مفقود حتى الآن -) (¬6) العلل للدارقطني (6/151) . (¬7) التاريخ الكبير (3/210) . (¬8) الثقات لابن حبان (4/212) . (¬9) الميزان (1/650) .

وقال ابن حجر: (ذكره ابن الجارود في الضعفاء، وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه، ولا يعرف إلا به) (¬1) ، ولم يتابع ابن حبان على توثيقه فالقول قول من ضعفه، ولم أجد ما يدل على أنه عاصر أبا هريرة. 3- ... سليمان بن عبد الله. أخرج البخاري له عن معاذة العدوية عن علي رضي الله عنه ثم قال: (لا يتابع عليه، ولا يعرف سماع سليمان من معاذة) (¬2) . ذكره ابن حبان في ثقاته (¬3) ، وضعفه ابن عدي (¬4) ، والعقيلي (¬5) ، وذكره الذهبي في الميزان (¬6) ، وقال ابن حجر: (لين الحديث) (¬7) ، ولم أجد ما يدل على أنه عاصر معاذة. 4- ... شعيب بن كيسان. روى عن أنس رضي الله عنه حديثًا فقال البخاري: (ولا يعرف له سماع من أنس، ولا يتابع عليه) (¬8) . وشعيب ذكره ابن حبان في ثقاته (¬9) ، وقال أبوحاتم الرازي: (روى عن أنس، مرسل، صالح الحديث) (¬10) ، وقال الذهبي: (ذكره البخاري في الضعفاء، ولينه العقيلي (¬11)) (¬12) ، وذكره الحافظ في لسان الميزان (¬13) ، ويترجح لدي أن ¬

(¬1) لسان الميزان (2/394) . (¬2) التاريخ الكبير (4/23) . وسليمان يكنى بأبي فاطمة، وكنيته هي التي تميزه عن غيره ممن اسمه سليمان بن عبد الله. (¬3) الثقات لابن حبان (3/384) . (¬4) الكامل في الضعفاء (3/1123) . (¬5) الضعفاء الكبير (2/130) . (¬6) الميزان (2/212) . (¬7) التقريب (ص252) . (¬8) التاريخ الكبير (4/219) . (¬9) الثقات لابن حبان (4/356) . (¬10) الجرح والتعديل (4/351) بتصرف يسير. (¬11) الضعفاء الكبير (2/182) . (¬12) الميزان (2/277) . (¬13) انظر اللسان (3/149) .

حديثه عن أنس ضعيف لأن أبا حاتم رغم أنه قال في شعيب: (صالح الحديث) إلا أنه نص على أن حديثه عن أنس غير متصل بقوله: (روى عن أنس، مرسل) ولم أقف على ما يثبت أن شعيبًا أدرك وعاصر أنسًا. * عبد الله بن أبي ليلى. سيأتي الكلام عليه في ترجمة المختار بن عبد الله. 5- ... عبد الكريم بن أبي المخارق. أثناء تعداد البخاري لأسماء الرواة الذين رووا عن حمران بن أبان ولم يذكروا سماعًا ذكر: (وابن أبي المخارق) (¬1) . قال ابن عبد البر: (مجمع على ضعفه) (¬2) . وقد ضعفه كبار أئمة الجرح والتعديل (¬3) . ومعاصرته لحمران محتملة. 6- ... عبيد بن الخشخاش. قال البخاري: (لم يذكر سماعًا من أبي ذر رضي الله عنه) (¬4) . ذكره ابن حبان في ثقاته (¬5) ، وضعفه الدارقطني (¬6) ، وقال ابن حجر: (لين) (¬7) ، ولم يتابع ابن حبان على توثيقه، ولم أعثر على ما يثبت أنه عاصر أبا ذر رضي الله عنه فلا أدري أأدركه أم لا؟ 7- ... عثمان الطويل. أخرج له البخاري عن أنس حديث: "أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - طائر كان يعجبه فقال: "اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل هذا الطير، فاستأذن علي فسمع كلامه فقال: ادخل" ثم قال البخاري: (ولا يعرف لعثمان سماع من ¬

(¬1) التاريخ الكبير (3/80) . (¬2) التهذيب (6/378) . (¬3) التهذيب (6/376-378) . (¬4) التاريخ الكبير (5/447) . (¬5) الثقات (5/136) . (¬6) التهذيب (7/65) . (¬7) التقريب (ص376) .

أنس) (¬1) . والحديث هو حديث الطير المشهور (¬2) . قال عنه ابن حبان في ثقاته: (يروي عن أنس بن مالك، ربما أخطأ) (¬3) ، قال ابن عدي: (وعثمان الطويل عزيز السند إنما له هذا الحديث عن أنس) (¬4) . وقال البزار في حديث الطير: (قد روي عن أنس من وجوه، وكل من رواه عن أنس فليس بالقوى) (¬5) ، ويستغرب من ابن حبان كيف يقول: (ربما أخطأ) وعثمان لا يروي عن أنس غير هذا الحديث كما ألمح ابن عدي؟! وأظن هذا من ابن حبان ميل إلى تضعيف عثمان نوعًا ما. ولم أجد ما يدل على معاصرته لأنس. 8- ... عمر بن غياث. قال البخاري في روايته عن عاصم بن بهدلة: (لم يذكر سماعًا من عاصم) . قال البخاري: (منكر الحديث) (¬6) ، وقال أبوحاتم: (هو منكر الحديث) (¬7) ، قال ابن حبان: (يروي عن عاصم ما ليس من حديثه) (¬8) . قال الذهبي: (ضعفوه) (¬9) . ولم أعثر على ما يدل أنه قد عاصر أنسًا. 9- ... عمرو بن أبي عمرو. قال البخاري: (صدوق، ولكن روى عن عكرمة مناكير، ولم يذكر في شيء من ذلك أنه سمع من عكرمة) (¬10) . ¬

(¬1) التاريخ الكبير (2/2-3) . (¬2) وأكثر علماء الحديث يرونه منكرًا بل ذهب بعضهم إلى أنه موضوع. قال أبويعلى الخليلي في الإرشاد (1/420) : (وما روى حديث الطير ثقة، ويرده جميع الأئمة) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة النبوية (7/371) : (حديث الطائر من المكذوبات الموضوعات عند أهل المعرفة بحقائق النقل) ، وقد ذهب بعض المحدثين إلى تقويته، والراجح أنه منكر. (¬3) الثقات (5/157) . (¬4) الكامل (3/1026) في ترجمة أبي العالية. (¬5) كشف الأستار عن زوائد البزار (3/194) . (¬6) التاريخ الكبير (6/185) . (¬7) الجرح والتعديل (6/128) . (¬8) كتاب المجروحين (2/88) . (¬9) ديوان الضعفاء (ص296) . (¬10) العلل الكبير للترمذي (2/622) .

وثقه أبوزرعة والعجلى، وقال البخاري: صدوق وكذا قال الساجي وزاد: إلا أنه يهم وبمثله قال الأزدي، وقال أحمد وأبوحاتم وابن عدي وابن عدي: ليس به بأس، وضعفه ابن معين وأبوداود والنسائي وعثمان الدارمي وابن حبان والجوزجاني وابن القطان (¬1) ، قال الذهبي: (حديثه صالح حسن منحط عن الدرجة العليا من الصحيح) (¬2) ، وقال ابن حجر: (ثقة ربما وهم) (¬3) . والراجح أنه صدوق إلا في حديثه عن عكرمة فضعيف، ولضعف حديثه عن عكرمة خاصة ولأن نقد البخاري لسماع عمرو في روايته عن عكرمة بالأخص ذكرته في هذا القسم لهذا الاعتبار. ومعاصرته لعكرمة ثابتة. 10- ... المختار بن عبد الله بن أبي ليلى. يروي عن أبيه عن علي رضي الله عنه، قال فيه البخاري: (وهذا لا يصح لأنه لا يعرف المختار، ولا يدري أنه سمع من أبيه أم لا؟ وأبوه من علي؟، ولا يحتج أهل الحديث بمثله) (¬4) . قال أبوحاتم: (هو منكر الحديث) (¬5) ، وقال ابن حبان: (منكر الحديث قليل الرواية) (¬6) ، وقال الأزدي: (لا يصح حديثه) (¬7) . وأما أبوه عبد الله بن أبي ليلى فقد قال ابن حبان: (ابن أبي ليلى هذا رجل مجهول ما أعلم له شيئًا عن علي غير هذا الحرف المنكر الذي يشهد علماء المسلمين قاطبة ببطلانه) (¬8) . وذكره العقيلي في الضعفاء وأورد حديثه في القراءة ثم قال: (ولا يتابع ¬

(¬1) انظر التهذيب (8/83) ، والميزان (3/281-282) . (¬2) الميزان (3/282) . (¬3) التقريب (ص425) . (¬4) جزء القراءة (ص13) . (¬5) الجرح والتعديل (8/310) . (¬6) كتاب المجروحين (3/9) . (¬7) لسان الميزان (6/46) . (¬8) كتاب المجروحين (2/5) .

عليه) (¬1) ، وقال الذهبي: (لا يعرف، والخبر منكر) (¬2) . وليس هناك ما يدل على معاصرة المختار لأبيه، وأبوه لعلي رضي الله عنه. 11- ... مسلم بن كيسان. ذكره البخاري فيمن روى عن حمران بن أبان ولم يذكر سماعًا منه (¬3) . قال البخاري: (يتكلمون فيه) (¬4) ، وقال: (ذاهب الحديث) (¬5) ، وعلماء الجرح والتعديل متفقون على تضعيفه) (¬6) . وقال الذهبي: (تركوه) (¬7) ، قال ابن حجر: (ضعيف) (¬8) . 12- ... يحيى بن أبي سليمان. قال البخاري: (ويحيى منكر الحديث، روى عنه أبوسعيد مولى بني هاشم وعبد الله بن رجاء البصري مناكير، ولم يتبين سماعه من زيد ولا من ابن المقبري ولا تقوم به الحجة) (¬9) . ذكره ابن حبان في ثقاته (¬10) ووثقه الحاكم (¬11) ، وقال البخاري: (منكر ¬

(¬1) الضعفاء الكبير (2/317) . (¬2) الميزان (2/483) . (¬3) التاريخ الكبير (3/80) . هكذا ورد اسمه في التاريخ الكبير، والمعروف أن مسلم بن يسار البصري - الثقة - هو الذي يروي عن حمران بن أبان كما في تهذيب الكمال - تحقيق د. بشار معروف - (27/552) أما مسلم بن كيسان فلم أجد - حتى الآن - من ذكر أن له رواية عن حمران إلا ما ذكر هنا في التاريخ الكبير، واحتمال وجود خطأ في النسخة المطبوعة منه غير مستبعد. والله أعلم. (¬4) الضعفاء (ص111) . (¬5) التاريخ الكبير (7/271) . (¬6) انظر الميزان (4/106-107) ، والتهذيب (10/135-136) . (¬7) المغني (2/656) . (¬8) التقريب (ص530) . (¬9) جزء القراءة (ص59) . وزيد هو ابن أبي العتاب، وابن المقبري هو سعيد. انظر التهذيب (11/228) . (¬10) الثقات (7/610) . (¬11) التهذيب (11/228) . وثقه الحاكم في المستدرك في موضع آخر قال: (لم يذكر بجرح) .

الحديث) ، وقال أبوحاتم: (ليس بالقوى، مضطرب الحديث، يكتب حديثه) (¬1) ، وقال ابن حجر: (لين الحديث) (¬2) . ولا أدري هل عاصر زيدًا وابن المقبري أم لا؟ 13- ... أبوسورة. قال البخاري: (عنده مناكير، ولا يعرف له سماع من أبي أيوب) (¬3) . ذكره ابن حبان في ثقاته (¬4) وضعفه البخاري وابن معين والترمذي والساجي (¬5) وابن حجر (¬6) وقال الدارقطني: (مجهول) وقال الذهبي: (لا يدري من هو؟) (¬7) . ولم يتابع ابن حبان على توثيقه، والأشبه قول من ضعفه، ولم أقف على ما يثبت أنه عاصر أبا أيوب وإن كان قد قيل إنه ابن أخي أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، ولكن هذا ليس كافيًا لإثبات الإدراك والمعاصرة يقين. 3- ... السمة الثالثة: الموثقون: من الرواة الذين تكلم البخاري في سماعهم طائفة من الثقات، وإن كان بعضهم قد تكلم فيه بما لا يحطه عن منزلة الاحتجاج به، فإن الرواة الثقات يتفاوتون في درجة ثقتهم، وليس كل من اختلف فيه لا يستحق مسمى "ثقة" ولو في الجملة، وقد صنف الذهبي في المختلف في توثيقهم كتابًا أسماء "ذكر أسماء من تكلم فيه وهو موثق" قال في مقدمته: (هذا فصل نافع في معرفة ثقات الرواة الذين تكلم فيهم بعض الأئمة بما لا يرد أخبارهم، وفيهم بعض الذين، وغيرهم ¬

(¬1) الجرح والتعديل (9/155) . (¬2) التقريب (ص591) . (¬3) العلل الكبير (1/115) . (¬4) الثقات (5/570) . (¬5) انظر التهذيب (12/124) . (¬6) التقريب (ص647) . (¬7) المغني (2/790) .

أتقن منهم، وأحفظ فهؤلاء حديثهم إن لم يكن في أعلى مراتب الصحيح، فلا ينزل عن رتبة الحسن) (¬1) . ينقسم الثقات الذين تكلم البخاري في سماعهم إلى ثلاثة أقسام: أ - ثقات سند روايتهم المتكلم في سماعها ضعيف. ب - ثقات معاصرتهم محتملة لمن تكلم في سماعهم منه. ج - ثقات معاصرتهم ثابتة لمن تكلم في سماعهم منه. أ - ثقات سند روايتهم المتكلم في سماعها ضعيف: 1- ... عامر بن شراحبيل الشعبي قال البخاري في حديثه عن أم هانيء: (لا أعرف للشعبي سماعًا من أم هانيء) (¬2) . والراوي عن الشعبي هوأبوحمزة الثمالي واسمه ثابت بن أبي صفية. ضعفه العلماء (¬3) وقال الذهبي: (متفق عليه ضعفه) (¬4) . وقال ابن حجر: (ضعيف رافضي) (¬5) . ومعاصرة الشعبي لأم هانيء مؤكدة فقد ولد لست سنين خلت من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه (¬6) ، وهي رضي الله عنها ماتت في خلافة معاوية رضي الله عنه (¬7) . ولكن لا توجد رواية الشعبي عن أم هانيء إلا من طريق أبي حمزة الثمالي وهو ضعيف بالاتفاق. 2- أبوتميمة الهجيمي، واسمه طريف بن مجالد، روى عنه حكيم الأثرم عن أبي هريرة رضي الله عنه حديثًا مرفوعًا: "من أتى كاهنًا فصدقه.." قال ¬

(¬1) ذكر أسماء من تكلم فيه وهو موثق للذهبي (ص27) . (¬2) العلل الكبير للترمذي (2/778) . (¬3) تهذيب التهذيب (2/7-8) . (¬4) ديوان الضعفاء (ص56) . (¬5) التقريب (ص132) . (¬6) تهذيب التهذيب (5/68) . (¬7) تهذيب التهذيب (12/481) .

البخاري: (هذا حديث لا يتابع عليه، ولا يعرف لأبي تميمة سماع من أبي هريرة) (¬1) . والذي يعنيه البخاري بقوله: (لا يتابع عليه) هو حكيم الأثرم فقد ضعفه بعض أهل العلم، وأما أبوتميمة فهو ثقة (¬2) ، وحكيم قد قواه بعض العلماء كابن المديني في رواية، والنسائي، وأبوداود، وابن حبان (¬3) ، وضعفه آخرون فقال البخاري: (لا يتابع على حديثه) ، وقال البزار: (حدث عنه حماد بحديث منكر) ، وقال ابن عدي: (يعرف بهذا الحديث، وليس له غيره إلا اليسير) ، وقال الذهلي: (قلت لابن المديني: من حكيم الأثرم؟ قال: أعيانا هذا) (¬4) . ورجح الحافظ ابن حجر تضعيف حكيم فقال: (فيه لين) (¬5) . 3- ... أخرج البخاري في تاريخه هذا السند من طريق محمد بن عمرو الواقعي الأنصاري قال حدثني محمد بن سيرين عن محمد بن عبد الله بن زيد قال: (أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأذان شيئًا فجاء عمي عبد الله بن زيد من بني الحارث من الخزرج فقال: أريت الأذان ... الحديث) ثم قال البخاري: (فيه نظر لأنه لم يذكر سماع بعضهم من بعض) (¬6) وفي السند محمد بن عمرو الواقفي متفق على ضعفه (¬7) ، وقد اختلف عليه في هذا الحديث: 1- ... فقال مرة: عن محمد بن سيرين عن محمد بن عبد الله بن زيد عن عمه عبد الله بن زيد كما عند البخاري في تاريخه. 2- ... وقال في مرة أخرى: عن محمد بن عبد الله عن عمه عبد الله بن زيد ¬

(¬1) التاريخ الكبير (3/17) . (¬2) التقريب (ص282) . (¬3) تهذيب التهذيب (2/452) . (¬4) الميزان (1/586) . (¬5) التقريب (ص177) . (¬6) التاريخ الكبير (5/183) . وذكر البيهقي هذا السند في سننه الكبرى تعليقًا عن معن عن محمد بن عمرو به ثم نقل قول البخاري: فيه نظر. انظر السنن الكبرى (1/399) . (¬7) تهذيب التهذيب (9/378) .

بدون ذكر ابن سيرين، وهذا رواه أبوداود (¬1) والدارقطني (¬2) . 3- ... وقال أيضًا: عن عبد الله بن محمد عن عمه عبد الله بن زيد. وهذا رواه الطيالسي (¬3) ، وأحمد بن حنبل (¬4) ، ابن شاهين (¬5) . 4- ... وقال أيضًا: عن عبد الله بن محمد بن عمه عبد الله بن زيد. وهذا رواه أبوداود (¬6) والدارقطني. ويتعذر الترجيح هنا لأمرين: 1- ... جميع الرواة عن الواقفي هنا ثقات حفاظ، فالاختلاف الأول رواه معن بن عيسى القزاز (¬7) وهو حافظ من أئمة الحديث، والاختلاف الثاني رواه عن الواقفي حماد بن خالد (¬8) ، وهو ثقة حافظ، والثالث رواه عن الوقفي أبوداود الطيالسي (¬9) ، وهو من أئمة الحديث الثقات، والاختلاف الرابع رواه عن الواقفي عبد الرحمن بن مهدي، وهو أحد أمراء المؤمنين في الحديث. 2- ... أن الواقفي نفسه ضعيف فهذا الاضطراب منه وقد ضعفه بعض (¬10) النقاد جدًا في الحديث ومحمد بن عبد الله بن زيد ولد (¬11) على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكر المؤرخون تاريخًا لوفاته، ولا يعرف من عمه الذي ورد ¬

(¬1) سنن أبي داود (1/141/ [512] ) . (¬2) سنن الدارقطني (1/245) . (¬3) مسند الطيالسي (ص148) . (¬4) مسند أحمد بن حنبل (4/42) . (¬5) ناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين (ص164-165) . (¬6) سنن أبي داود (1/142/ [513] ) . (¬7) تهذيب التهذيب (10/252) . (¬8) تهذيب التهذيب (3/7) . (¬9) تهذيب التهذيب (4/182-186) . (¬10) تهذيب التهذيب (4/182-186) . (¬11) تهذيب التهذيب (9/257) ، ونقل توثيق ابن حبان والعجلي له، وصحح له مسلم حديثًا.

في السند، والصواب أن محمد بن عبد الله يروي هذا الحديث عن أبيه عبد الله بن يزيد عبدربه الصحابي الذي أرى الأذان (¬1) ، وسماعه من أبيه ثابت وصحيح نص على ذلك محمد بن يحيى الذهلي، والإمام ابن خزيمة (¬2) . وأما محمد بن سيرين فمعاصرته ثابتة لمحمد بن عبد الله بن زيد، ذلك لأن محمد بن إبراهيم بن الحارث قد ثبت سماعه من محمد بن عبد الله (¬3) وهو أصغر من ابن سيرين بأكثر من عشر سنين، فابن سيرين ولد سنة ثلاث وثلاثين (¬4) ، ومحمد بن إبراهيم ولد سنة ست وأربعين (¬5) أو خمس وأربعين. ولكن لا تصح لمحمد بن سيرين رواية عن محمد بن عبد الله بن زيد، ولم أر ذلك غلا من جهة محمد بن عمر الواقفي - وهو ضعيف -، وأيضًا ليس لمحمد بن عبد الله بن زيد رواية عن عمه عبد الله بن زيد، وليس له عم بهذا الاسم لأن والده اسمه عبد الله بن زيد، والمحفوظ أن محمد بن عبد الله يروي هذا الحديث سماعًا عن أبيه عبد الله بن زيد - كما تقدم -. ويغلب على ظني أن البخاري - رحمه الله تعالى - تكلم في سماع هؤلاء الثقات مع أن الحمل على من روى عنهم ليؤكد ضعف الرواية لأن في الأصل ليس ¬

(¬1) انظر مسند أحمد بن حنبل (4/43) ، وسنن أبي داود (1/135/ [499] ) ، وسنن الترمذي (1/359/ [189] ) ، وصحيح ابن خزيمة (1/189-193) ، وصحيح ابن حبان (3/93/ [1677] ) ، وقد أخرج البخاري الحديث في كتاب خلق أفعال العباد (ص56) رقم الحديث [180] . والحديث صححه البخاري كما في السنن الكبرى للبيهقي (1/391) ، والترمذي وابن خزيمة وابن حبان. وسماع محمد من أبيه ظاهر في السند. (¬2) انظر كلام الذهلي في صحيح ابن خزيمة (1/193) ، وكلام ابن خزيمة في (1/197) . (¬3) صحح البخاري حديث محمد بن إبراهيم عن محمد بن عبد الله بقوله: (هو عندي صحيح) ، انظر السنن الكبرى للبيهقي (1/391) ، وأيضًا تنقيح التحقيق لابن عبد الهادي (1/675) ، ونقله البيهقي وابن عبد الهادي من كتاب العلل للترمذي ولم أجده في العلل الكبير المطبوع!!. (¬4) التهذيب (9/216) . (¬5) سير أعلام النبلاء (5/295) .

لذلك الثقة رواية عن ذلك الشيخ فيما رواه الثقات والمتقنون من أصحاب ذلك الثقة فيستفاد من تشكك البخاري في السماع أن فلانًا لا تعرف له رواية أو سماع من فلان مما يدل على وهن رواية هذا الراوي الضعيف. والله أعلم. ب - ثقات معاصرتهم محتملة لمن تكلم في سماعهم منه: والمقصود هنا باحتمال المعاصرة: عدم توفر دليل يثبتها أو ينفيها فيكون احمالها وارد كما أن عدمها وارد أيضًا فيبقى الأمر في دائرة الاحتمالات وجودًا وعدمًا، والرواة الذين تنطبق عليهم صفات هذا القسم هم: 1- ... بكير بن عبد الله الأشج. ذكره البخاري ممن روى عن حمران بن أيان ولم يذكر سماعًا (¬1) . وهو ثقة بالاتفاق (¬2) ، ولم تذكر له المصادر تاريخ ولادة، واختلف في تاريخ وفاته ولكن قال الذهبي: (الصحيح أنه توفي سنة سبع وعشرين ومائة) (¬3) . وقال الذهبي: (معدود في صغار التابعين لأنه روى عن السائب بن يزيد، وأبي أمامة بن سهل) (¬4) ، وقال أبوعبد الله الحاكم: (وطبقة تعد في التابعين ولم يصح سماع أحد منهم من الصحابة) (¬5) ثم قال: (ويكبر بن عبد الله الأشج لم يثبت سماعه من عبد الله بن الحارث بن جزء، وإنما رواياته عن التابعين) . وعلى فرض أن بكيرًا سمع من السائب بن يزيد رضي الله عنه، - وهو من صغار الصحابة -، فإنه مات سنة إحدى وتسعين على الصحيح (¬6) من الأقوال، ¬

(¬1) التاريخ الكبير (3/80) . (¬2) انظر تهذيب التهذيب (1/492-493) . (¬3) تاريخ الإسلام (ص49) حوادث (121-140) . (¬4) سير أعلام النبلاء (6/170) . (¬5) معرفة علوم الحديث (ص45) . (¬6) التاريخ الصغير (1/244، 247) ذكره البخاري في فصل التسعين إلى المائة، المعجم الكبير للطبراني (7/172) ، والثقات لابن حبان (3/172) ، والتهذيب (3/451) ، والإصابة (2/13) .

وهو آخر من مات من الصحابة في المدينة (¬1) . وعلى فرض أن بكيرًا سمع من أبي أمامة أسعد بن سهل بن حنيف الأنصار، - وهو ممن له رؤية ولم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن أبا أمامة مات سنة مائة (¬2) . فمعاصرة بكير لحمران لا يوجد ما يؤكدها أو يثبتها وذلك لأن حمران بن أبان مات في قول أكثر أهل العلم سنة خمس وسبعين، وقيل ست وسبعين (¬3) ، فلا أدري هل عاصر حمران بن أبان أم لا؟! وقد أخرج مسلم له عن حمران كما سيأتي بيان ذلك في الفصل الخامس من الباب الثالث. 2- ... سمعان بن مشنج. قال البخاري في حديثه عن سمرة بن جندب: (لا نعلم لسمعان سماعًا من سمرة) (¬4) . وسمعان كوفي وثقة العجلي (¬5) وابن حبان (¬6) وابن ماكولا (¬7) ، وقال ابن حجر: (صدوق) (¬8) ، وقد قال ابن معين في الشعبي: (إذا حدث عن رجل فسماه فهو ثقة) (¬9) . والشعبي تفرد بالرواية عن سمعان، وقد قال ابن ماكولا: (ليس له غير حديث واحد) . لم أجد ما يدل على أن سمعان بن مشنج قد عاصر سمرة بن جندب رضي الله عنه، وإن كان الأمر محتمل، لكن لا نستطيع إثباته فتبقى المعاصرة هنا محتملة وغير مؤكدة. ¬

(¬1) انظر تهذيب التهذيب (3/451) . (¬2) انظر تهذيب التهذيب (1/264) ، التقريب (ص104) . (¬3) طبقات خليفة بن خياط (ص204) ، والتقريب (ص179) ، وتهذيب التهذيب (3/25) . (¬4) التاريخ الكبير (4/204) . (¬5) ثقات العجلي (ص208) . (¬6) الثقات لابن حبان (4/345) . (¬7) الإكمال لابن ماكولا (7/248) . (¬8) التقريب (ص256) . (¬9) تهذيب التهذيب (5/67) .

3- ... عبد الله بن بريدة. قال البخاري في روايته عن سليمان بن الربيع العدوي: (ولا يعرف سماع قتادة من ابن بريدة (¬1) ، ولا ابن بريدة من سليمان) (¬2) . وعبد الله بن بريدة ولد في السنة الخامسة عشر للهجرة (¬3) ، وأما سليمان بن الربيع فلم تذكر سنة وفاته (¬4) وليس له راويًا إلا عبد الله بن بريدة وقد ورد في سند (¬5) تصريحه بالسماع من عمر بن الخطاب ولكن السند ضعيف فيه عنعنة قتادة وهو مدلس. ومعاصرة ابن بريدة لسليمان بن الربيع محتملة ولكن ليست يقينية لأن تاريخ وفاة ابن الربيع مجهولة فلربما مات في زمن عمر رضي الله عنه حيث كان عبد الله بن بريدة صغيرًا، كما يحتمل أنه عاش زمنًا ليدركه فيه عبد الله بن بريدة فكلا الأمرين على الاحتمال ولا مرجح لأحدهما. 4- ... عبد الله بن سراقة الأزدي قال البخاري في حديثه عن أبي عبيدة بن الجراح: (لا يعرف له سماع من أبي عبيدة) (¬6) . وتوفي أبوعبيدة رضي الله عنه في السنة الثامنة عشر للهجرة (¬7) . وأما عبد الله بن سراقة فلم يرد في ترجمته تاريخ ولادة، ولا تاريخ وفاة، ولم يرو عنه إلا عبد الله بن شقيق العقيلي فقط، ورغم ذلك وثقه يعقوب بن شيبة (¬8) والمفضل الغلابي (¬9) والعجلي (¬10) وابن حبان (¬11) ، وقال ابن حجر: (وثقه العجلي، وقال ¬

(¬1) هو عبد الله بن بريدة، وليس سليمان، انظر الجرح والتعديل (4/117) ، والثقات لابن حبان (4/309) فلم يذكرا راويًا عن سليمان بن الربيع إلا عبد الله بن بريدة. (¬2) التاريخ الكبير (4/12) . (¬3) الثقات لابن حبان (5/16) . (¬4) الجرح والتعديل (4/117) ، والثقات لابن حبان (4/309) . (¬5) التاريخ الكبير (4/12) . (¬6) التاريخ الكبير (5/97) . (¬7) التقريب (ص288) . (¬8) تاريخ دمشق لابن عساكر (9/335) ، وتهذيب التهذيب (5/231) . (¬9) تاريخ دمشق لابن عساكر (9/336) ، وتهذيب التهذيب (5/231) . (¬10) الثقات العجلي (ص261) . (¬11) الثقات لابن حبان (5/26) .

البخاري: لا يعرف له سماع من أبي عبيدة) (¬1) . وأما من لم يوثقه فالعقيلي ذكره في ضعفائه (¬2) ، والذهبي قال فيه: (لا يعرف) (¬3) وقال أيضًا: (ولا روى عنه سوى عبد الله بن شقيق العقيلي) (¬4) . وهناك صحابي اسمه عبد الله بن سراقة العدوي يشتبه اسمه باسم الأزدي مما جعل بعض العلماء يظنهما واحد، ولكن الذي رجحه عدد من المحققين أنهما اثنان - قال ابن حجر -: (الحق أنهما اثنان، وقد عزاه المصنف (¬5) للأكثرين (¬6)) . والتفريق بينهما هو رأي البخاري كما صرح بذلك ابن عساكر حيث يقول: (فلو كان ابن سراقة هذا عند البخاري هو العدوي لم يقل لا يعرف له سماع من أبي عبيدة فإن عبد الله بن سراقة العدوي صحابي شهد هو وأبوعبيدة بن الجراح جميعًا بدرًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قول محمد بن إسحاق بن يسار، وقال غيره من أصحاب المغازي: لم يشهد بدرًا ولكنه شهد أحدًا) (¬7) . إذا تقرر هذا وعلمأن الراجح هو أن عبد الله بن سراقة هنا في سند حديث أبي عبيدة رضي الله عنه ليس بصحابي، فلا يدري هل عاصر أبا عبيدة أم لا؟ لعدم توفر ما يثبت المعاصرة لاسيما وأن أبا عبيدة رضي الله عنه قديم الوفاة. وقد جاء من طريق فيه نظر أن عبد الله بن سراقة قال: "خطبنا أبوعبيدة في الجابية ... الحديث" أخرج هذا يعقوب بن شيبة (¬8) في مسنده من طريق علي بن عاصم أخبرني خالد الحذاء حدثني عبد الله بن شقيق العقيلي حدثني عبد الله بن سراقة الأزدي قال: "خطبنا أبوعبيدة بن الجراح بالجابية ... ". ¬

(¬1) التقريب (ص305) . (¬2) الضعفاء الكبير للعقيلي (2/263) . (¬3) ديوان الضعفاء (ص216) . (¬4) الميزان (2/427) . (¬5) يعني الإمام المزي صاحب تهذيب الكمال. (¬6) تهذيب التهذيب (5/232) ، وانظر للاستزادة الإصابة لابن حجر (3/91) . (¬7) تاريخ دمشق لابن عساكر (9/336) . (¬8) تاريخ دمشق لابن عساكر (9/334) .

وقد روى شعبة بن الحجاج (¬1) وحماد بن سلمة (¬2) هذا الحديث عن خالد الحذاء وبنفس السند ولم يذكرا هذه الزيادة، وإنما تفرد بها علي بن عاصم بن صهيب الواسطي، وأكثر النقاد على تليينه، فقد قال شعبة: (لا تكتبوا عنه) (¬3) ، وقال يحيى بن معين: (علي بن عاصم كذاب ليس بشيء) (¬4) ، وقال أحمد بن حنبل: (كان يغلط ويخطيء، وكان فيه لجاج، ولم يكن متهمًا بالكذب) (¬5) ، وقال علي بن المديني: (كان علي بن عاصم كثير الغلط، وإذا رد عليه لم يرجع) (¬6) ، وقال النسائي: (متروك) (¬7) ، وقال البخاري: (وليس بالقوي عندهم) (¬8) وقد ساق البخاري حادثة تدل على أن عليًا كان يحدث عن خالد الحذاء ما ليس من حديثه. قال البخاري: (وقال وهب بن بقية سمعت يزيد بن زريع قال حدثني علي عن خالد ببضعة عشر حديثًا فسألنا خالدًا عن حديث فأنكره ثم آخر فأنكره ثم ثالث فأنكره فأخبرناه فقال: كذاب فاحذروه) (¬9) . وفي موضع آخر علق البخاري على هذه ¬

(¬1) حديث شعبة أخرجه أحمد في المسند (1/195) وفي تحقيق أحمد شاكر (3/146/ [1692] ) ، وكذلك الحاكم في مستدركه (4/542) . (¬2) حديث حماد بن سلمة أخرجه أحمد في المسند (1/195) وفي تحقيق أحمد شاكر (3/146/ [1693] ) ، والبخاري في التاريخ الكبير (5/97) ، وأبوداود في سننه (4/241/ [475] ) ، والترمذي في سننه (4/507/ [2234] ) ، وأبويعلى في مسنده (2/178/ [875] ) ، والحاكم في مستدركه (4/542) ، وابن عساكر في تاريخه (9/334) . (¬3) الضعفاء الكبير للعقيلي (3/246) . (¬4) معرفة الرجال ليحيى بن معين برواية ابن محرز (1/50) . (¬5) العلل لأحمد برواية ابنه عبد الله (1/52) . (¬6) تاريخ بغداد (11/453) . (¬7) تاريخ بغداد (11/456) . وفي كتاب الضعفاء والمتروكين للنسائي (ص216) قال في علي بن عاصم: (ضعيف) . (¬8) التاريخ الكبير (6/290) ، والضعفاء الصغير (ص86) . (¬9) التاريخ الكبير (6/290) ، والضعفاء الصغير (ص86) وليس فيه ذكر قصة يزيد بن زريع.

الحادثة بعد أن ذكرها بقوله: (أما أنا فلا أكتبه - يعني حديث علي بن عاصم -) (¬1) . وقد جاء تعيين خالد بأنه الحذاء في رواية أخرى عن يزيد بن زريع رواها محمد بن المنهال (¬2) عنه، وقد ذكر ليحيى بن معين حديث يرويه علي عن خالد الحذاء فقال يحيى: (ما رأى هذا خالدًا - يعني عليًا -) (¬3) . وقال ابن عدي: (يروي عن خالد الحذاء قدر ثلاثين حديثًا أو أكثر لا يرويها غيره عن خالد) (¬4) ثم قال: (أنكر الناس على علي بن عاصم حديث ابن سوقة هذا ورواياته عن خالد الحذاء) . والراجح في شأن علي بن عاصم أنه صدوق وليس بكذاب ولكنه كثير الخطأ والوهم مع الإصرار على خطئه وقد نفى عنه تهمة الكذب الإمام أحمد بن حنبل فقد قال: (ولم يكن متهمًا بالكذب) (¬5) ، وكذلك عمرو بن علي الفلاس قال: (علي بن عاصم فيه ضعف، وكان إن شاء الله من أهل الصدق) (¬6) ، وقال صالح جزرة: (علي بن عاصم ليس هو عندي ممن يكذب، ولكن يهم، وهو سيء الحفظ كثير الوهم) ، وقال يعقوب بن شيبة بعد أن ذكر مآخذ النقاد على علي بن عاصم: (وقد كان - رحمة الله علينا وعليه - من أهل الدين والصلاح والخير البارع، شديد التوقي وللحديث آفات تفسده) (¬7) ، وهذا الذي رجحه الذهبي بقوله: (وهو مع ضعفه، في نفسه صدوق) (¬8) والحافظ ابن حجر بقوله: (صدوق يخطيء ¬

(¬1) التاريخ الكبير (2/269) . (¬2) الضعفاء الكبير للعقيلي (3/246) ، وانظر أيضًا تاريخ بغداد (11/454) . (¬3) تاريخ بغداد (11/454) ، سماع علي من خالد ثابت ولكن معنى هذه العبارة أنه يحدث عن خالد ما ليس من حديثه حتى كأنه لم ير خالدًا. (¬4) الكامل لابن عدي (5/1838) . وحديث محمد بن سوقة، انظر كلام عليه بتوسع في تاريخ بغداد (11/450-454) . (¬5) العلل لأحمد برواية ابنه عبد الله (1/52) . (¬6) تاريخ بغداد (11/449) . (¬7) تاريخ بغداد (11/447) . (¬8) الميزان (3/138) .

ويصر) (¬1) . وبما تقدم ذكره يتبين خطأ الشيخ أحمد شاكر عندما رد على الإمام البخاري عند قوله في ابن سراقة: (لا يعرف له سماع من أبي عبيدة) فقال: (لكن في التهذيب 5: 231 أن يعقوب بن شيبة رواه في مسنده بلفظ: "خطبنا أبوعبيدة بالجابية" فهذا يدل على السماع، وهو كاف في إثباته) (¬2) . ومثل هذا لا يخفى على إمام الدنيا في عصره أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري لكنه لم يعتد بذلك لضعف علي بن عاصم الذي تفرد بهذه الزيادة عن خالد الحذاء وقد ثبت أنه في حديث الحذاء بالذات ضعيف جدًا. وبمثل هذا المقام يظهر فضل علم البخاري على غيره. 5- ... عبد الله بن معبد الزماني. روى عن أبي قتادة الحارث بن ربعي رضي الله عنه، فقال البخاري في ذلك: (لا يعرف سماع عبد الله بن معبد من أبي قتادة) (¬3) . وأبوقتادة اختلف في وفاته فقيل مات سنة 38هـ وهذا هو الراجح (¬4) وظاهر صنيع البخاري يدل على أنه مات بعد الخمسين فقد ذكر أبا قتادة في فصل من مات بين الخمسين والستين (¬5) . وأما عبد الله بن معبد فلم يذكر له تاريخ ولادة ولا تاريخ وفاة على وجه الدقة واليقين إلا أن الذهبي قال: (مات قبل المائة) (¬6) ، ولم يبين حجته في هذا وأظنه قال ذلك تخمينًا وتقريبًا لأني لم أجد أحدًا من العلماء ذكر لابن معبد تاريخ ¬

(¬1) التقريب (ص403) . (¬2) مسند أحمد بن حنبل بتحقيق أحمد شاكر (3/147) . (¬3) التاريخ الكبير (3/68) ، ثم أعاد نفس الكلام في ترجمة ابن معبد في التاريخ الكبير (5/198) ، وانظر التاريخ الصغير (1/302) . (¬4) انظر تهذيب التهذيب (12/205) . (¬5) انظر التاريخ الصغير (1/131) . وذكر ابن حجر في التهذيب أن البخاري ذكر ذلك في التاريخ الأوسط. انظر التهذيب (12/205) . (¬6) سير أعلام النبلاء (4/207) .

وفاة، وقد نص أبوزرعة على أن ابن معبد: (لم يدرك عمر) (¬1) ، فمعاصرة عبد الله معبد لأبي قتادة محتملة ولكن لا دليل عليها، ولا نستطيع تأكيدها والقطع بتحققها هذا بالنسبة إلى ما بلغه علمي، وإلا فقد احتج مسلم بعبد الله بن معبد عن أبي قتادة ومقتضى ذلك أن يكون الإمام مسلم قد علم معاصرته لأبي قتادة. وعبد الله بن معبد وثقه النسائي (¬2) والعجلي (¬3) وابن حبان (¬4) وابن البرقي (¬5) وابن حجر (¬6) ، وذكره العقيلي (¬7) وابن عدي (¬8) في الضعفاء اعتمادًا على قول البخاري السابق في سماعه من أبي قتادة، والراجح فيه أنه ثقة. 6- عمرو بن دينار. روى عن شيخ اسمه سميع حديثًا أخرجه البخاري في تاريخه الكبير ثم قال: (لا يعرف لعمرو سماع من سميع) (¬9) . وعمرو بن دينار متفق على ثقته وإمامته (¬10) ، وقد ولد تقريبًا بعد سنة خمسين للهجرة وتوفي سنة خمس وعشرين ومائة أو ست وعشرين ومائة وقد تجاوز السبعين. ولم يسمع من أبي هريرة والبراء بن عازب (¬11) . وسميع شيخ مجهول تقدم ذكره في المجهولين، ولا يدري من أمره شيء، واحتمال معاصرة عمرو بن دينار لسميع غاير مستبعد، ولكن لم نجد ما يثبت ذلك. 7- يحيى بن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري. روى عن سعيد بن أبي مريم حديثًا وليس هو سعيد بن الحكم بن أبي مريم الثقة المشهور بل ¬

(¬1) الجرح والتعديل (5/173) . (¬2) تهذيب التهذيب (6/40) . (¬3) الثقات للعجلي (ص280) . (¬4) الثقات لابن حبان (5/43) . (¬5) الميزان (2/507) ، الكاشف (2/119) ، المغني في الضعفاء (1/358) . (¬6) التقريب (ص324) . (¬7) الضعفاء الكبير (2/305) . (¬8) الكامل في الضعفاء (4/1539) . (¬9) التاريخ الكبير (4/190) . (¬10) تهذيب التهذيب (8/29) . (¬11) تهذيب التهذيب (8/30) .

هو رجل آخر يحمل نفس الاسم وليس له راو إلا يحيى بن إسحاق فقط (¬1) . قال البخاري: (ولا يعرف أن يحيى سمع سعيدًا أم لا؟) (¬2) . ويحيى بن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ثقة (¬3) ، ولم يذكر في ترجمته أي تاريخ للولادة أو الوفاة، وقد قال أبوحاتم الرازي: (لم يدرك يحيى ولا إسحاق البراء بن عازب) (¬4) ، والبراء رضي الله عنه مات سنة 73هـ (¬5) . فإذا كان أبويحيى لم يدرك البراء فهذا يدل على أنه لم يكن مميزًا في حياته، وأما سعيد بن أبي مريم فرجل لا يعرف كما تقدم في قسم المجاهيل ولا يدري عن تاريخ حياته شيء، فالمعاصرة مجهولة بين يحيى بن إسحاق وسعيد وإن كنا لا نملك دليل قاطع على عدم المعاصرة أو الانقطاع فتبقى المعاصرة محتملة. 8- ... أبوعبد الله الجدلي، روى عن خزيمة بن ثابت حديثًا في المسح على الخفين، فقال البخاري: (لا يصح عندي حديث خزيمة بن ثابت في المسح، لأنه لا يعرف لأبي عبد الله الجدلي سماع من خزيمة بن ثابت) (¬6) . واسم أبي عبد الله عبد بن عبد (¬7) ، وقيل: عبد الرحمن بن عبد (¬8) ، وثقه ¬

(¬1) فرق البخاري بين سعيد بن أبي مريم الذي يروي عنه يحيى بن إسحاق، وسعيد بن الحكم بن أبي مريم الثقة المشهور فذكر الثاني في التاريخ الكبير (3/465) ، ثم ذكر الأول في ترجمة أخرى من التاريخ الكبير (3/512) . وكذلك ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، وابن حبان في الثقات فرقًا بينهما يجعل كل واحد منهما في ترجمة مفردة. (¬2) التاريخ الكبير (3/512) . (¬3) انظر تهذيب التهذيب (11/176) ، والتقريب (ص587) . (¬4) المراسيل لابن أبي حاتم (ص189) . (¬5) تهذيب التهذيب (1/426) . (¬6) العلل الكبير للترمذي (1/173) . (¬7) الأسامي والكنى للإمام أحمد (ص82) . (¬8) التاريخ الكبير (6/119) .

أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين (¬1) ، وابن حبان (¬2) ، والعجلي، والذهبي (¬3) ، وابن حجر (¬4) . وقال يحيى بن معين في رواية الدوري: (أبوعبد الله الجدلي ليس متروكًا) (¬5) ، ونقل عن الإمام أحمد رواية أخرى في شأن أبي عبد الله الجدلي فقد قال المروذي: (سألته عن أبي عبد الله الجدلي فقال قولاً لينًا) (¬6) ، وقال الجوزجاني: (وكان أبوعبد الله الجدلي صاحب راية المختار) (¬7) طاعنًا عليه بذلك، وقال ابن سعد: (ويستضعف في حديثه، وكان شديد التشيع، ويزعمون أنه كان على شرطة المختار) (¬8) ، وقال الشافعي رحمه الله: (كان على راية المختار) (¬9) ، وقال ابن حزم: (أبوعبد الله الجدلي هو صاحب راية الكافر المختار لا يعتمد على روايته) (¬10) ، وقال الذهبي: (شيعي بغيض) (¬11) . ومن الثابت المستفيض عند أهل العلم والأخبار أن أبا عبد الله الجدلي كان مواليًا للمختار بن أبي عبيد الثقفي ومن المقربين إليه (¬12) . والمختار بن أبي عبيد الثقفي هذا قال عنه الذهبي: (المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب الذي خرج ¬

(¬1) انظر تهذيب التهذيب (12/148) . (¬2) الثقات لابن حبان (5/102) . (¬3) الكاشف (3/312) . (¬4) التقريب (ص654) . (¬5) التاريخ لابن معين برواية الدوري (2/713) . (¬6) العلل ومعرفة الرجال برواية المروذي (ص60) . (¬7) أحوال الرجال (ص46) . (¬8) طبقات ابن سعد (6/228) . (¬9) مناقب الشافعي للبيهقي (1/546) . (¬10) المحلي لابن حزم (2/89) . (¬11) الميزان (4/544) . (¬12) انظر ما تقدم، وانظر أيضًا التاريخ الصغير (1/158) ، والمعرفة والتاريخ للقسوي (2/775) ففيه بسند صحيح أن المختار كان يستخلف أبا عبد الله الجدلي، وانظر تاريخ خليفة بن خياط (ص262) .

بالكوفة وتتبع قتلة الحسين يقتلهم. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يكون في ثقيف كذاب ومبير" (¬1) . فكان أحدهما المختار كذب على الله وادعى أن الوحي يأتيه، والآخر: الحجاج) (¬2) . فالمختار صاحب بدعة مكفرة، وأبوعبد الله الجدلي ممن حمل السيف للدفاع عنه، وفي هذا ما يثلم العدالة. ولكن لما جاء توثيق أبي عبد الله الجدلي من قبل إمامين ثبتين هما يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل أضحى من غير اللائق الطعن في عدالة الجدلي، لاسيما وأن هناك احتمالاً قويًا بأن يكون قد تأول فيما عمل، ولم يعلم بحقيقة المختار بن أبي عبيد الثقفي، إنما أظهر الخروج لأخذه بثأر الحسين بن علي رضي الله عنهما، والانتصار له من قتلته، وقد طعن أبومحمد بن حزم في أبي الطفيل (¬3) ، ورد روايته بكونه كان صاحب راية المختار أيضًا، مع أن أبا الطفيل كان من الصحابة، ولكن لم يكونوا يعلمون ما في نفس المختار وما يسره، فرد رواية الصاحب والتابع الثقة بذلك باطل) (¬4) . وقال ابن حجر في شان أبي الطفيل وأبي عبد الله وموالاتهما للمختار: (ولا يقدح ذلك فيهما إن شاء الله) (¬5) فالقول بتوثيق الجدلي هو المترجح إن شاء الله، لاسيما وأن المتقدمين لم يذكروه في كتب الضعفاء كالبخاري والنسائي، والعقيلي، وابن عدي، وقد صحح حديثه الترمذي (¬6) وابن حبان (¬7) ، والحاكم (¬8) ، ¬

(¬1) انظر صحيح مسلم (4/1971) . (¬2) تاريخ الإسلام للذهبي (5/226) "حوادث 61 - 80هـ". (¬3) هو عامر بن وائلة الليثي، ولد عام أحد، ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم -، مات سنة عشر ومائة، وهو آخر الصحابة موتًا. انظرالتقريب (ص288) . (¬4) تهذيب سنن أبي داود لابن القيم (1/117) . (¬5) تهذيب التهذيب (12/149) . (¬6) سنن الترمذي (1/159/ [95] ) ، (4/369/ [2016] ) . (¬7) صحيح ابن حبان (2/311/ [1326] ، [1327] ، [1329] ) . (¬8) المستدرك للحاكم (3/121) .

وغيرهم. وأما معاصرته لخزيمة بن ثابت فلا يمكننا الجزم بها وإن كانت محتملة، وذلك لأن أبا عبد الله الجدلي لم تذكر له المراجع تاريخ ولادة أو نشأة تدل على أنه أدرك خزيمة بن ثابت رضي الله عنه، وخزيمة قتل في صفين سنة سبع وثلاثين (¬1) . ووجدت أبا عبد الله روى عن سلمان الفارسي (¬2) ، وأبي مسعود الأنصاري (¬3) رضي الله عنهما، ولكن لم يصرح بسماعه منهما، ولو سمع من أحدهما لثبتت معاصرته لخزيمة رضي الله عنه، ذلك لأن سلمان الفارسي رضي الله عنه مات سنة أربع وثلاثين (¬4) ، وأبا مسعود، مات قبل الأربعين وقيل بعدها (¬5) . وقد وجدت سماع أبي عبد الله الجدلي من معاوية (¬6) بن أبي سفيان رضي الله عنهما، ومن أم المؤمنين عائشة (¬7) رضي الله عنها، ومن أم المؤمنين أم سلمة (¬8) رضي الله عنها. ولكن وفياتهم متأخرة عن وفاة خزيمة رضي الله عنه؛ فمعاوية رضي الله عنه مات سنة اثنتين وستين (¬9) ، وعائشة رضي الله عنها ماتت سن سبع وخمسين (¬10) ، وأم سلمة رضي الله عنها ماتت سنة اثنتين ¬

(¬1) انظر التاريخ الصغير (1/103) . (¬2) انظر المعجم الكبير للطبراني (6/319-320) حديثًا واحدًا فقط. (¬3) انظر مسند الإمام أحمد (4/119) ، (5/272) ، والمعجم الكبير للطبراني (17/244) . (¬4) التقريب (ص246) . (¬5) التقريب (ص295) . (¬6) انظر السنن الكبرى للنسائي (3/255 - 256 ف 5298/5299] ) ، والمعجم الكبير للطبراني (19/359-360) . (¬7) انظر سنن الترمذي (4/369/ [2016] ) . (¬8) انظر المصنف لابن أبي شيبة (12/76) ، والمسند لأحمد بن حنبل (6/323) ، والمسند لأبي يعلى (12/444) ، وخصائص علي للنسائي (ص111) حديث رقم [91] ، والمعجم الكبير للطبراني (23/322- 323) ، والمستدرك للحاكم (3/121) ، ومجمع البحرين للهيثمي (6/283/ [3716] ) . (¬9) التقريب (ص537) . (¬10) التقريب (ص750) .

وستين (¬1) ، وسماعه من هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم لا يدل على معاصرته لخزيمة بن ثابت رضي الله عنه لأن خزيمة مات قبل هؤلاء بعشرين عامًا أو أكثر. والذي أراه راجحًا أن معاصرة أبي عبد الله الجدلي لخزيمة بن ثابت محتملة وغير مستبعدة. ج - ثقات معاصرتهم ثابتة لمن تكلم في سماعهم منه: 1- ... زيد بن أسلم. ذكره البخاري فيمن روى عن حمران بن أبان ولم يذكر سماعًا (¬2) . وزيد بن أسلم مجمع على ثقته (¬3) ، ولم يذكر له تاريخ ميلاد، إلا أنه عاصر حمران بن أبان لأن زيدًا ثبت أنه سمع من ابن عمر (¬4) ، وابن عمر مات قبل حمران فقد توفي سنة ثلاث وسبعين (¬5) ، وأما حمران بن أبان فقد مات سنة خمس وسبعين (¬6) ، وقال ابن قانع: وفاته سنة ست وسبعين (¬7) ، وقال الذهبي: (طال عمره وتوفي سنة نيف وثمانين) (¬8) ، ولم يستدل الذهبي على قوله هذا، وفيه نظر. فمعاصرة زيد بن أسلم لحمران ثابتة لاشك فيها، وكلاهما من المدينة. إلا أن حمران بن أبان قد نزح من المدينة في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه واستوطن البصرة واتخذ بها أموالاً (¬9) واحتمال التقائهما وارد ولكنه ليس ¬

(¬1) التقريب (ص754) . (¬2) التاريخ الكبير (3/80) . (¬3) تهذيب التهذيب (3/395-397) . (¬4) التاريخ الكبير (3/387) ، واحتج البخاري في صحيحه بحديث زيد عن ابن عمر. انظر تحفة الأشراف (5/347) . (¬5) التقريب (ص315) . (¬6) طبقات خليفة بن خياط (ص402) ، والتقريب (ص179) . (¬7) التهذيب (3/25) . (¬8) سير أعلام النبلاء (4/183) . (¬9) انظر طبقات ابن سعد (5/283) ، (7/148) .

بالقوي، وقد ذكر مسلم في صحيحه حديث زيد بن أسلم عن حمران كما سيأتي في الفصل الخامس من الباب الثالث. 2- ... سليمان بن بريدة. قال البخاري في ترجمة سليمان: (ولم يذكر سليمان سماعًا من أبيه) (¬1) . وسليمان ثقة بالاتفاق، ولد سنة خمس عشرة، ومات سنة خمس ومائة (¬2) وأدرك من حياة والده بريدة بن الحصيب رضي الله عنه نحوًا من ثمان وأربعين سنة لأن بريدة رضي الله عنه مات سنة ثلاث وستين (¬3) . وقد روى عن أبيه كثيرًا، ولم أر له ولو حديثًا واحدًا يصرح فيه عن أبيه بالتحديث، وقد فتشت عن هذا قدر طاقتي فأعياني أمره، وها هو أمير المؤمنين في الحديث يؤكد ذلك، ولعل غرابة هذا الأمر هي التي دعت البخاري للكلام في سماع سليمان من أبيه، وجعلت إبراهيم الحربي يجزم بأن عبد الله وسليمان لم يسمعا من أبيهما (¬4) . واحتمال اللقاء بينهما يكاد يقطع به لقوته. 3- ... عبد الله بن محمد بن عقيل. قال البخاري: (إبراهيم بن محمد بن طلحة هو قديم، ولا أدري سمع منه عبد الله بن محمد بن عقيل أم لا؟) (¬5) . عبد الله بن محمد بن عقيل مختلف فيه، وقد تكلم في ضبطه عدد كبير من النقاد (¬6) ، إلا أنه ليس بضعيف مطلقًا وذلك لأن بعض الأئمة قد احتجوا ببعض حديثه. قال إمام أهل الصنعة محمد بن إسماعيل البخاري: (رأيت أحمد بن ¬

(¬1) التاريخ الكبير (4/4) . (¬2) انظر تهذيب التهذيب (4/174-175) . (¬3) تهذيب التهذيب (1/432-433) ، والإصابة (1/146) . (¬4) تهذيب التهذيب (5/158) . (¬5) العلل الكبير للترمذي (1/188) . (¬6) انظر تهذيب التهذيب (6/14 - 15) .

حنبل، وإسحاق بن إبراهيم، والحميدي يحتجون بحديثه، وهو مقارب الحديث) (¬1) . وقد صحح الإمام أحمد بن حنبل (¬2) حديثًا لعبد الله بن محمد بن عقيل، وحسن البخاري (¬3) أيضًا لابن عقيل، وصحح الترمذي (¬4) لابن عقيل عدة أحاديث، وحسن له الذهبي (¬5) أيضًا. وقال عمرو بن علي الفلاسي: (رأيت يحيى، وعبد الرحمن يحدثان عنه، والناس يختلفون عليه) (¬6) ، وقال الحاكم: (مستقيم الحديث) (¬7) ، وقال ابن عبد البر: (هو أوثق من كل من تكلم فيه) ، وقال الذهبي: (مستقيم الحديث) (¬8) ، وقال: (حسن الحديث احتج به أحمد وإسحاق) (¬9) ، وقال: (حديثه في مرتبة الحسن) (¬10) . وقال ابن القيم مدافعًا عن ابن عقيل: هو عبد الله بن محمد بن عقيل ثقة صدوق، لم يتكلم فيه بجرح أصلاً، وكان الإمام أحمد، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وإسحاق بن راهوية يحتجون بحديثه، والترمذي يصحح له، وإنما يخشى من حفظه إذا انفرد عن الثقات أو خالفهم. أما إذا لم يخالف الثقات ولم ينفرد بما ينكر عليه فهو حجة) (¬11) . ¬

(¬1) العلل الكبير للترمذي (1/81) ، وإسحاق هو ابن راهوية الإمام المشهور. (¬2) انظر العلل الكبير للترمذي (1/188) . (¬3) انظر العلل الكبير للترمذي (1/187) . (¬4) سنن الترمذي (1/522/ [128] ) . (¬5) سير أعلام النبلاء (8/335) . (¬6) الضعفاء الكبير للعقيلي (2/299) ، والكامل لابن عدي (4/1447) . يحيى هو ابن سعيد القطان، وعبد الرحمن هو ابن مهدي. (¬7) تهذيب التهذيب (6/15) . (¬8) تلخيص المستدرك (1/152) . (¬9) المغني (1/354) . (¬10) الميزان (2/284) . (¬11) تهذيب سنن أبي داود لابن القيم (1/183) .

والراجح في ابن عقيل أنه مقارب الحديث كما قال البخاري أي ليس بالثقة المتقن ولا بالضعيف الساقط هو في مرتبة متوسطة ويحتج ببعض حديثه. وأما معاصرة عبد الله بن محمد بن عقيل لإبراهيم بن محمد بن طلحة فهي ثابتة لا ريب فيها، لأن إبراهيم مات سنة عشر ومائة (¬1) ، وذكر ابن حجر أنه ولد سنة ست وثلاثين (¬2) . وعبد الله بن محمد بن عقيل صرح الإمام البخاري (¬3) بأنه سمع من ابن عمر، وجابر بن عبد الله، وابن عمر توفي سنة ثلاث وسبعين (¬4) ، وجابر بن عبد الله توفي بعد السبعين (¬5) . فيكون ابن عقيل أدرك من حياة إبراهيم أكثر من أربعين سنة، ثم إن إبراهيم بن محمد بن طلحة وعبد الله بن محمد بن عقيل كلاهما من نفس البلد فهما مدنيان. فاحتمال اللقاء قوي ولعل في قول البخاري: (إبراهيم بن محمد بن طلحة هو قديم) ما يشير إلى أن البخاري لم يتحقق بيقين من معاصرة ابن عقيل لابن طلحة. 4- ... عبيد بن نضلة. قال البخاري: (لا أدري عبيد بن نضلة سمع من المغيرة بن شعبة أم لا؟) (¬6) . عبيد بن نضلة ثقة بالاتفاق (¬7) . ومعاضرته للمغيرة بن شعبة رضي الله عنه ثابتة بلا ريب لأن المغيرة مات سنة خمسين (¬8) . وعبيد بن نضلة مختلف في صحبته كما قال ابن أبي حاتم (¬9) ، وأبونعيم الحافظ (¬10) وذكره ابن حزم أنه ممن ¬

(¬1) طبقات خليفة بن خياط (ص255-256) ، وتاريخ خليفة (ص340) ، وانظر التهذيب (1/154) . (¬2) تهذيب التهذيب (1/154) . (¬3) انظر التاريخ الكبير (5/183) . (¬4) التقريب (ص513) . (¬5) التقريب (ص136) . (¬6) العلل الكبير للترمذي (ص587) . (¬7) تهذيب التهذيب (7/75-76) . (¬8) التقريب (ص543) . (¬9) الإصابة (3/102) . (¬10) التهذيب (7/75) .

أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يلقه (¬1) ، وقال ابن أبي حاتم: (إدراكه صحيح) (¬2) . وذكره ابن حجر في القسم الثالث من حرف العين في كتابه الإصابة فيمن أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يلقه. وتوفي عبيد بن نضلة سنة أربع وسبعين (¬3) . والمغيرة وعبيد كلاهما من الكوفة فاحتمال اللقاء قوي وقد ذكر مسلم في صحيحه حديث عبيد عن المغيرة كما سيأتي في بيان ذلك - إن شاء الله - في الفصل الخامس من الباب الثالث. 5- عثمان بن عبد الله بن موهب. ذكره البخاري فيمن روى عن حمران بن أبان ولم يذكر سماعًا (¬4) . عثمان بن عبد الله بن موهب ثقة بالاتفاق (¬5) . ومعاصرته لحمران بن أبان ثابتة لأن حمران بن أبان مات سنة خمس وسبعين كما تقدم، وعثمان بن عبد الله قد ثبت سماعه من أبي هريرة (¬6) . وقد مات أبوهريرة قبل حمران بن أبان، وكانت وفاته سنة سبع وخمسين، وقيل سنة ثمان، وقيل سنة تسع وخمسين (¬7) . ومات عثمان بن عبد الله سنة ستين ومائة (¬8) ، وهو وحمران كلاهما من المدينة المنورة، إلا أن حمران بن أبان قد خرج إلى البصرة واستوطنها في زمن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فاحتمال اللقاء وارد ولكنه غير قوي، وقد ذكر مسلم في صحيحه حديث عثمان بن موهب عن حمران كما سيأتي بيان ذلك في الفصل الخامس من الباب الثالث. ¬

(¬1) التهذيب (7/76) . (¬2) الإصابة (3/101-102) . (¬3) طبقات خليفة (ص150) ، وطبقات ابن سعد (6/211) . (¬4) التاريخ الكبير (3/80) . (¬5) تهذيب التهذيب (7/132-133) . (¬6) التاريخ الكبير (6/231) . (¬7) التقريب (ص681) . (¬8) طبقات خليفة (ص273) ، طبقات ابن سعد (ص430) ، والثقات لابن حبان (5/158) .

6- ... عمرو البكالي. قال البخاري: (ولا يعرف لعمرو سماع من ابن مسعود (¬1) . قال ذلك بعد أن ساق السند من طريق المعتمر بن سليمان عن أبيه قال أخبرني أبوتميمة (¬2) عن عمرو - ولعله أن يكون البكالي - حدثه عمرو عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. حديث ابن مسعود في ليلة الجن (¬3) . وعمرو البكالي اختلف فيه فمن قائل إنه صحابي، ومن قائل إنه تابعي. فقد ذكر الحافظ ابن حجر: أن البخاري (قال: له صحبة، وكذا ابن أبي حاتم عن أبيه، وذكره خليفة وابن البرقي في الصحابة، وقال أبوأحمد الحاكم: يقال له صحبة، وكذا ابن السكن قال: يقال له صحبة) (¬4) . وقال الطبراني: (اختلف في صحبته) (¬5) ، وقال أبونعيم: (قيل له صحبة، واختلف فيه) (¬6) ، وقال ابن عساكر: ((له صحبة، ويقال: لا صحبة له) (¬7) ، وقال ابن نقطة: (يعد في الصحابة على خلاف فيه) (¬8) . وأما من لم يثبت له الصحبة فأبوزرعة الدمشقي قال: (في طبقة [لها] قدم تلي الطبقة العليا من تابعي أهل الشام عمرو البكالي) (¬9) ، وقال العجلي: ¬

(¬1) التاريخ الكبير (2/200) ، والتاريخ الصغير (1/234) . (¬2) أبوتميمة هو: طريف بن مجالد الهجيمي البصري، ثقة من الثالثة، مات سنة سبع وتسعين أو قبلها أو بعدها أ. هـ من التقريب (ص282) . (¬3) ومتن حديث البكالي عن ابن مسعود في ليلة الجن متن طويل انظره في المسند لأحمد (399) ، وتاريخ دمشق لابن عساكر (13/667-668) . وقال ابن كثير في تفسيره (6/294) في سورة الأحقاف: (فيه غرابة شديدة) . (¬4) الإصابة (3/24) بتصرف يسير، وانظر تعجيل المنفعة (ص317) . (¬5) المعجم الكبير للطبراني (17/43) . (¬6) تاريخ دمشق لابن عساكر (13/670) . (¬7) تاريخ دمشق لابن عساكر (13/666) . (¬8) تكملة الإكمال لابن نقطة (1/425) . (¬9) تاريخ دمشق لابن عساكر (13/669) . وهذا النص غير موجود في تاريخ دمشق لأبي زرعة فلعله من كتاب آخر له.

(شامي، تابعي، ثقة، من كبار التابعين) (¬1) ، وقال ابن أبي حاتم: (سمعت أبي، وسألته عن عمرو البكالي: له صحبة؟ فقال: أهل الشام لا يثبتون له صحبة. سئل أبي عن عمرو البكالي: له صحبة؟ فقال: روى سعيد الجريري عن أبي تميمة قال: قدمت الشام فرأيت رجلاً قد احتوشه الناس فقالوا: هذا آخر من بقي من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، هذا عمرو البكالي. روى عن عبد الله بن عمرو، ولا أعلم روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا، وروى أيضًا عن ابن مسعود حديث ليلة الجن. وسئل أبي عن عمرو البكالي: له صحبة؟ فقال: يقول أهل البصرة: له صحبة، وأهل الشام يقولون: ليست له صحبة. والذي عندي أنه ليست له صحبة) (¬2) . وقال ابن عساكر: (سئل البخاري عن عمرو البكالي فلم يثبت له صحبة [وقال] ولا يعرف لعمرو سماعًا من عبد الله) (¬3) . ويقصد ابن عساكر أن عمرًا لو كان صحابيًا عند البخاري لما انتقد سماعه من ابن مسعود، وترجم البخاري لعمرو في باب الصحابة ممن اسمه عمرو، ولم يقل: له صحبة، إنما قال: (عمرو البكالي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه) (¬4) ثم نقل عن الجريري عن أبي تميمة الهجيمي سمع عمرًا البكالي بالشام له صحبة. وهذا كلام أبي تميمة كما يظهر عند ابن سعد في طبقاته (¬5) ، وعند ابن أبي حاتم (¬6) . وقال النسائي في كتابه "الكنى": (أبوعثمان عمرو البكائي عن ابن مسعود، وعنه أبوتميمة) (¬7) . ¬

(¬1) الثقات للعجلي (ص372) . (¬2) المراسيل لابن أبي حاتم (ص119) . وهذا النص النفيس المهم فات الحافظ ابن عساكر، وكذلك الحافظ ابن حجر فلم يذكراه في ترجمة عمرو البكالي. (¬3) تاريخ دمشق لابن عساكر (13/170) . (¬4) التاريخ الكبير (6/313) . (¬5) طبقات ابن سعد (7/421) . (¬6) الجرح والتعديل (6/270) . (¬7) انظر تاريخ دمشق لابن عساكر (13/669) .

وقال أبو أحمد الحاكم في كتابه "الكنى" (أبوعثمان عمرو البكالي ... يقال له صحبة، كان بالشام، لكن ظهرت روايته عن عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمرو) (¬1) . وقوله: "لكن ظهرت ... " يفيد التشكك في إثبات الصحبة للبكالي لاسيما وأن لفظ "يقال" من صيغ التمريط لا الجزم. والذي يترجح لي أن عمرًا الذي انتقد سماعه البخاري ليس بصحابي، لأنه لو كان صحابيًا لما انتقد البخاري سماعه لما علم من مذهبه ومذهب أهل الحديث من قبول مراسيل الصحابة، ثم إن عمرًا شامي، وأهل الشام أخبر به ولم يثبتوا له صحبة كما قال أبوحاتم. وقال ابن عساكر في عمرو البكالي: (شهد اليرموك) ، وقال: (بلغني أن عمرًا البكالي عاش إلى بعد وقعة راهط (¬2)) (¬3) . ومن المعلوم أن ابن مسعود مات سنة اثنتين وثلاثين (¬4) ، فمعاصرة عمرو البكالي ثابتة لأن معركة اليرموك كانت سنة خمس عشرة (¬5) ، ثم هو من كبار التابعين ومختلف في صحبته فدل هذا على قدم مولده. وأبوعمرو شامي، وابن مسعود سكن الكوفة بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فاحتمال اللقاء وارد ولكنه غير قوي. 7- محمد بن صفوان الجمحي. روى عن سعيد بن المسيب، قال البخاري: (لم يذكر سماعًا من سعيد فلا أدري أسمع منه أم لا؟) (¬6) . محمد بن صفوان وثقه ابن حبان وقال: (روى عنه مالك، والدراوردي) (¬7) ¬

(¬1) انظر تاريخ دمشق لابن عساكر (13/666) . (¬2) موقعة راهط كانت سنة خمس وستين. انظر تاريخ دمشق لأبي زرعة (2/692) . (¬3) تاريخ دمشق لابن عساكر (13/670) . (¬4) التقريب (ص323) . (¬5) تاريخ خليفة بن خياط (ص130) . (¬6) التاريخ الكبير (1/115) . (¬7) الثقات لابن حبان (7/369) .

وزاد المزي (¬1) : محمد بنعمرو بن علقمة، وقال ابن حجر في ابن صفوان: (مقبول) (¬2) ، ويترجح لدي أن محمد بن صفوان صدوق لأمور: 1- ... الإمام مالك متثبت في الرواية وهو ممن ينتقي شيوخه. قال الإمام أحمد: (مالك من أثبت الناس، ولا تبالي أن لا تسأل عن رجل روى عنه مالك، ولاسيما مديني) (¬3) . وقال علي بن المديني: (كل مدني لم يحدث عنه مالك - ففي حديثه شيء، لا أعلم مالكًا ترك إنسانًا إلا إنسانًا في حديثه شيء) (¬4) . وقال أبوحاتم الرازي: (مالك نقي الرجال، نقي الحديث) (¬5) . فرواية مالك عن محمد بن صفوان تقوية له. 2- تولى محمد بن صفوان قضاء المدينة في أول خلافة هشام بن عبد الملك سنة ست ومائة (¬6) . وكان التابعون وأهل العلم والفضل من سكان المدينة متوافرين، وفي هذا ما يدل على فضل الرجل وعلمه، ومن ذلك ما ذكره وكيع في أخبار القضاة: (لما ولي سعيد بن سليمان بن زيد بن ثابت كره ولايته، وسأل أمير المدينة أن يعفيه من القضاء، فجمع الوالي شيوخ أهل المدينة، وكان سعيد من المصلين المشمرين فقال له سعد بن إبراهيم وأبو سلمة بن عبد الرحمن، ومحمد بن مصعب، ومحمد بن صفوان: لقضاء يوم بالحق أفضل عندنا من صلاتك عمرك فولي القضاء) (¬7) . وفي هذا الخير ما يدل على علو قدره ومنزلته إذ قرن بأبي سلمة بن ¬

(¬1) تهذيب الكمال (3/1212) . (¬2) التقريب (ص484) . (¬3) شرح علل الترمذي لابن رجب (1/183) . (¬4) شرح علل الترمذي (1/185) . (¬5) شرح علل الترمذي (1/183) . (¬6) أخبار القضاة لوكيع (1/168) ، وانظر أيضًا تاريخ خليفة بن خياط (ص361) . (¬7) أخبار القضاة لوكيع (1/167) .

عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وهما من الأثبات الثقات، وممن تولى قضاء المدينة أيضًا ومن كبار علمائها. وبسند صحيح إلى ابن أخي الزهري - وهو محمد بن عبد الله بن مسلم الزهري - قال: (حضرت محمد بن صفوان الجمحي، وجاءه ابن شهاب في خصومة له، وجاء بأخيه أي يشهد له، فقال خصمه: إن شاهده أخوه، فأمر به فوجيء عنقه، وأجاز شهادته لأخيه) (¬1) . وابن شهاب هو الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري إمام الدنيا في زمنه فقهًا وعلمًا وحفظًا، وفي هذا النص أيضًا ما يدل على أن الرجل مشهود له بالفضل والعدالة وعلو القدر إذ تولى القضاء في المدينة في زمن كان فيه جمع من العلماء الأثبات. 3- وقول الحافظ ابن حجر في محمد بن صفوان: (مقبول) أي حيث يتابع، وقد توبع في حديثه (¬2) عن سعيد بن المسيب، الذي تكلم فيه البخاري، تابعه قتادة (¬3) ، ويحيى بن سعيد الأنصاري (¬4) ، وهاشم بن القاسم (¬5) ، وغيرهم. ومحمد بن صفوان معاصر لسعيد بن المسيب، لأن سعيدًا مات بعد التسعين (¬6) ، ومحمد بن صفوان قال فيه المزي: (روى عن سعيد بن المسيب، ¬

(¬1) أخبار القضاة لوكيع (1/168) . قال وكيع: محمد بن خلف بن حيان صاحب الكتاب حدثني جعفر بن محمد بن حسن قال ثنا قتيبة بن سعيد قال ثنا معن بن عيسى عن ابن أخي الزهري، وهذا السند صحيح ثابت إلى ابن أخي الزهري، وجعفر هو أبوبكر الفريابي أحد الأئمة المشهورين. انظر لترجمته تاريخ بغداد (7/199) . (¬2) انظر خصائص علي للنسائي رقم الحديث [46] فقد أخرج حديث محمد بن صفوان عن سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى". ومتن الحديث مستفيض. (¬3) انظر خصائص علي رقم الحديث [44] ، وتخريج المحقق في الهامش للحديث. (¬4) انظر خصائص علي رقم الحديث [45] ، وتخريج المحقق في الهامش للحديث. (¬5) انظر خصائص علي رقم الحديث [47] ، وتخريج المحقق في الهامش للحديث. (¬6) التقريب (ص241) .

وهشام بن عروة وهو من أقرانه) (¬1) ، فإذا كان من أقران هشام فقد عاصر سعيدًا ولابد لأن هشامًا ولد سنة إحدى وستين (¬2) ، وقال الذهبي في ترجمة هشام بن عروة: (ولقد كان يمكنه السماع من جابر، وسهل بن سعد، أنس، وسعيد بن المسيب، فما تهيأ له عنهم رواية) (¬3) . ومحمد بن صفوان الجمحي مدني، وكذلك سعيد بن المسيب فاحتمال اللقاء قوي. إلا أن محمد بن صفوان غير مشهور بالرواية فكأن البخاري لم يتبين أمره، ولم يتحقق من معاصرته لسعيد بن المسيب. 8- محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب. وهو الملقب بالنفس الزكية. روى عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعًا: "إذا سجد فليضع يديه قبل ركبتيه" (¬4) ؛ فقال البخاري: (ولا يتابع عليه، ولا أدري سمع من أبي الزناد أم لا؟) (¬5) . محمد بن عبد الله بن الحسن وثقه النسائي (¬6) ، وابن حبان (¬7) ، وابن حجر (¬8) ، وقال ابن حبان: (محمد بن عبد الله بن حسن، من أهل المدينة، يروي عن أبي الزناد إن كان سمع منه، روى عنه الدراوردي، عداده في أهل المدينة) . وذكره الذهبي في الميزان (¬9) لقول البخاري السابق، والراجح أنه ثقة. ¬

(¬1) تهذيب الكمال (3/1212) . (¬2) سير أعلام النبلاء (6/34) . (¬3) سير أعلام النبلاء (6/35) . (¬4) رواه أبوداود (1/222/ [840] ) ، والترمذي (2/57/ [269] ) وقال: حديث غريب لا نعرفه من حديث أبي الزناد إلا من هذا الوجه. (¬5) التاريخ الكبير (1/139) . (¬6) تهذيب التهذيب (9/252) . (¬7) الثقات لابن حبان (9/40) وقوله: "إن كان سمع منه" لم يذكره ابن حجر في التهذيب!! (¬8) التقريب (ص487) . (¬9) انظر الميزان (3/591) .

ومحمد بن عبد الله بن الحسن معاصر لأبي الزناد ولاشك، لأن أبا الزناد مات سنة ثلاثين ومائة (¬1) ، أو إحدى وثلاثين ومائة (¬2) ، وهو ابن ست وستين (¬3) ، ومحمد بن عبد الله مات باتفاق المؤرخين سنة خمس وأربعين ومائة (¬4) ، وهو ابن خمس وأربعين (¬5) ، وقيل ثلاث وخمسين (¬6) ، وعلى القول الأول يكون مولده سنة مائة، فيكون أدرك من حياة أبي الزناد ما يقارب الثلاثين سنة. ومحمد مدني وكذلك أبوالزناد، ولكن ورد ما يدل على أنه كان يلزم البادية، ويحب الخلوة (¬7) ، وفي هذا ما يجعل احتمال اللقاء بينهما موضع نظر. 9 - محمد بن كعب القرظي. روى عن شبث بن ربعي. قال البخاري: (ولا نعلم لمحمد بن كعب سماعًا من شبث) (¬8) . محمد بن كعب ثقة بالاتفاق (¬9) ، وقد عاصر شبث بن ربعي بلاشك، لأن ابن ربعي مات في حدود الثمانين (¬10) ، أو في حدود السبعين (¬11) ، وهو مخضرم ممن أدرك الجاهلية، ومحمد بن كعب ولد سنة أربعين (¬12) ، ومات سنة ¬

(¬1) طبقات خليفة (ص259) ، وطبقات ابن سعد - جزء تابعي المدينة - (ص319) . (¬2) التاريخ الصغير للبخاري (2/27) ، مشاهير علماء الأمصار لابن حبان (ص135) . (¬3) طبقات ابن سعد (ص319-320) . (¬4) انظر تاريخ خليفة (ص423) ، وطبقات خليفة (ص269) ، وطبقات ابن سعد - جزء تابعي المدينة - (ص378) ، المعرفة والتاريخ للقسوي (1/126) ، وغير ذلك من كتب التاريخ والرجال. (¬5) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (7/295) ، والتهذيب (9/252) . (¬6) طبقات ابن سعد (ص378) ، والتهذيب (9/252) . (¬7) طبقات ابن سعد (ص374) . (¬8) التاريخ الكبير (4/266) . (¬9) انظر تهذيب التهذيب (9/420-422) . (¬10) التقريب (ص263) . (¬11) الإصابة (2/163) . (¬12) التهذيب (9/421) ، والتقريب (ص504) .

عشرين ومائة وقيل قبل ذلك (¬1) . محمد بن كعب مدني ونزل الكوفة مدة (¬2) ، وأما شبث بن ربعي فهو كوفي فاحتمال اللقاء يعد قويًا. 10- محمد بن المنكدر. ذكره البخاري فيمن روى عن حمران بن أبان ولم يذكر سماعًا (¬3) . محمد بن المنكدر ثقة إمام بالاتفاق (¬4) ، وهو معاصر لحمران بن أبان بيقين، لأن حمران كما تقدم مات سنة خمس وسبعين، ومحمد بن المنكدر قال الذهبي: (ولد سنة بضع وثلاثين) (¬5) ، وقال ابن حجر: (ولد قبل سنة ستين بيسير) (¬6) . ويؤيد قول الذهبي أن البخاري أثبت سماع محمد من عائشة. قال الترمذي: (سألت محمدًا قلت له: محمد بن المنكدر سمع من عائشة؟ قال: نعم. يقول في حديثه: سمعت عائشة) (¬7) . وأيًا كان تاريخ مولده فمعاصرته ثابتة لحمران بيقين لأن محمدًا سمع من جابر بن عبد الله (¬8) ، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما مات بعد السبعين (¬9) . وقد توفي محمد بن المنكدر سنة ثلاثين ومائة أو إحدى وثلاثين ومائة (¬10) . ¬

(¬1) التهذيب (9/422) ، التقريب (ص504) . (¬2) التقريب (ص504) . (¬3) التاريخ الكبير (3/80) . (¬4) تهذيب التهذيب (9/473) . (¬5) سير أعلام النبلاء (5/353) . (¬6) تهذيب التهذيب (9/474) . (¬7) سنن الترمذي (3/165) ، وانظر أيضًا العلل الكبير للترمذي (1/373) . (¬8) التاريخ الكبير (1/220) ، وحديث ابن المنكدر عن جابر في الصحيحين. (¬9) انظر التقريب (ص136) . (¬10) انظر التاريخ الصغير (2/31) ، وتاريخ خليفة (ص395) ، ومشاهير علماء الأمصار لابن حبان (ص65) .

ومحمد بن المنكدر مدني وكذلك حمران بن أبان. إلا أن حمران بن أبان خرج للبصرة في زمن عثمان رضي الله عنه كما تقدم قبل قليل وهذا مما يجعل احتمال اللقاء غير قوي وإن كان محتملاً. وقد ذكر مسلم في صحيحه حديث ابن المنكدر عن حمران وسيأتي مزيد بيان لذلك - إن شاء الله - في الفصل الخامس من الباب الثالث. 11- موسى بن عقبة. روى عن سهيل بن أبي صالح حديثًا قال فيه البخاري: (ولم يذكر موسى بن عقبة سماعًا من سهيل) (¬1) . موسى بن عقبة ثقة إمام بالاتفاق (¬2) ، إلا في حديثه عن نافع مولى ابن عمر فقد قال ابن معين: (ليس موسى بن عقبة في نافع مثل مالك، وعبيد الله بن عمر) (¬3) ، وقال: (ثقة كانوا يقولون في روايته عن نافع شيء) (¬4) . ومعاصرة موسى لسهيل بن أبي صالح ثابتة بدون شك. لأن سهيلاً سمع سعيد بن المسيب، ومات سعيد بعد التسعين (¬5) . وقال الذهبي في سهيل: (وما علمت له شيئًا عن أحد من الصحابة، وهو معدود في صغار التابعين) (¬6) . ومقتضى هذا أن يكون مولده قبل سنة ثمانين بزمن فيكون هو وموسى بن عقبة قرينين، وقد جعل الذهبي موسى وسهيلاً في الطبقة الرابعة من التابعين (¬7) ، وكذلك الحافظ ابن حجر جعل موسى في الخامسة (¬8) ، وسهيلاً في السادسة (¬9) ، ¬

(¬1) التاريخ الكبير (4/104- 105) ، والتاريخ الصغير (2/40) . (¬2) أنظر تهذيب التهذيب (10/360 - 362) . (¬3) التهذيب (10/362) . (¬4) سير أعلام النبلاء (5/458) . (¬5) المعين في طبقات المحدثين (ص54، 57) ، وكذلك تذكرة الحفاظ (1/137، 148) ولكن جعلهما من الطبقة الثالثة من التابعين. (¬6) التقريب (ص552) . (¬7) التقريب (ص259) . (¬8) التقريب (ص552) . (¬9) التقريب (ص259) .

والخامسة هي طبقة صغار التابعين، والسادسة هي من عاصروا الخامسة لكن لم يثبت لهم لقاء أحد من الصحابة (¬1) . ومات سهيل في عهد أبي جعفر المنصور (¬2) . وأما موسى بن عقبة فقد رأى ابن عمر (¬3) ، ومقتضى هذا أن يكون ولد قبل وفاة ابن عمر التي كانت في سنة ثلاث وسبعين (¬4) ، وتوفي موسى سنة أربعين ومائة (¬5) ، وقيل بعدها (¬6) . فيكون معاصرًا لسهيل زمنًا طويلاً. وموسى مدني، وكذلك سهيل. فاحتمال التقاؤهما قوي جدًا، ويظهر لي أن البخاري تكلم في السماع هنا مع قوة احتمال اللقاء لكون الحديث فيه علة أخرى هي المخالفة لذا بحث عن سماع موسى من سهيل؛ فلما لم يجد قوي الظن بأن في الحديث خطأ ما. 12- ... أبو بردة بن أبي موسى الأشعري. روى عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، فقال البخاري: (لا يعرف لأبي بردة بن أبي موسى سماع من واثلة بن الأسقع) (¬7) . وأبو بردة ثقة بالاتفاق (¬8) ، مات سنة أربع ومائة، وقد جاوز الثمانين (¬9) ، فيكون ولد سنة بضع وعشرين. وأما واثلة بن الأسقع رضي الله عنه فهو صحابي مات سنة خمس وثمانين (¬10) ، فالمعاصرة بينهما ثابتة بيقين. ¬

(¬1) التقريب (ص75) . (¬2) طبقات ابن سعد - تابعي المدينة - (ص345) . وخلافة المنصور من سنة سبع وثلاثين ومائة إلى سنة ثمان وخمسين ومائة. (¬3) التاريخ الكبير (7/292) ، ومشاهير علماء الأنصار لابن حبان (ص80) . (¬4) التقريب (ص315) . (¬5) تاريخ خليف (ص419) . (¬6) انظر تهذيب التهذيب (10/362) ، والتقريب (ص552) . (¬7) العلل الكبير (2/964) . (¬8) انظر تهذيب التهذيب (12/18) . (¬9) الثقات لابن حبان (5/188) ، والتقريب (ص621) . (¬10) تاريخ خليفة بن خياط (ص291) ، والتقريب (ص579) .

وواثلة بن الأسقع سكن الشام، وأبو بردة كوفي. فاحتمال اللقاء بينهما وارد، ولكنه لا يعد قويًا. (نتيجة الفرز) : في بداية هذا المبحث طرحت فرضية مفادها: "لو طبقت الشروط التي ذكرها مسلم في "الاكتفاء بالمعاصرة" على النصوص النقدية للبخاري المتعلقة باشتراط اللقاء؛ هل سأجد شروط مسلم مستوفاة في تلك النصوص؟ أم العكس؟ وفي حالة العثور على نصوص نقدية للبخاري لا تنطبق عليها شروط الإمام مسلم في "الاكتفاء بالمعاصرة" سيكون في هذا ما يدل على اتفاق الإمامين على ضعف بعض النصوص". وهذا ما خرجت به في دراستي لنصوص البخاري السابقة فإن أكثر ما انتقده البخاري من أسانيد هو على مذهب مسلم منتقد أيضًا. ومن الضروري أن أبين ضوابط مسلم في الاكتفاء بالمعاصرة إجمالاً - الآن - تاركًا للشرح والتفسير للفصل الثاني من الباب الثالث - إن شاء الله - وهذا الضوابط هي (¬1) : 1- ثقة الرواة. 2- العلم بالمعاصرة. 3- احتمال اللقاء. 4- السلامة من التدليس. 5- عدم وجود ما يدل على نفي السماع. وقد وجدت طائفة كبيرة من الرواة الذين انتقد البخاري سماعاتهم مجاهيل أو ضعفاء، ووضعتهم في القسم الثاني وهم أصحاب السمة الأولى والثانية، وهؤلاء إذا طبق عليهم ضابط "ثقة الرواة" في مذهب مسلم كانوا من غير أهله لذا كل من انتقد البخاري سماعهم وجعلتهم في السمة الأولى والثانية من القسم الثاني فهم على مذهب مسلم أسانيدهم مردودة ولا يحتج بها ويندرج مع هذه المجموعة أيضًا ما ذكرته في السمة الثالثة وهم الموثقون ممن انفرد عنهم راو ضعيف وهم الواردون في الفقرة (أ) في السمة الثالثة. ¬

(¬1) انظر مقدمة مسلم (ص29-30، 33) .

ووجدت رواة ثقات لكن معاصرتهم غير ثابتة وقد تكلم البخاري في سماعهم، وهم على ما يفهم من مذهب مسلم ينبغي أن تكون أسانيدهم غير متصلة لأن مسلمًا يشترط العلم بالمعاصرة لا مجرد احتمال المعاصرة يستثنى من ذلك من أخرج لهم مسلم في صحيحه. وهؤلاء ذكرتهم في الفقرة (ب) من السمة الثالثة المنضوية تحت القسم الثاني. ووجدت في الرواة الذين تكلم فيهم البخاري من حيث سماعهم من وصف بالتدليس، أو من عرف بكثرة الإرسال، وهؤلاء جعلتهم في السمة الأولى والثانية من القسم الأول، وهؤلاء أيضًا ينبغي على مذهب مسلم أن لا تعد أسانيدهم المعنعنة متصلة. ووجدت فيمن تكلم البخاري في سماعهم من وردت في حقهم قرائن تشكك في اتصال ما رووه، وهذا على مذهب مسلم داخل تحت ضابط "عدم وجود ما يدل على نفي السماع" ليكون الاحتجاج بالمعاصرة سليمًا، وأصحاب هذه الصفة ذكرتهم في السمة الثالثة من القسم الأول. ووجدت رواة تكلم البخاري في سماعهم وهم ثقات غير مدلسين ومعاصرتهم ثابتة لمن رووا عنه واللقاء بينهم غير مستبعد ولم يرد ما ينفي سماعهم، فهؤلاء على مذهب مسلم أحاديثهم متصلة، وهؤلاء ذكرتهم في الفقرة (ج) من السمة الثالثة من القسم الثاني وعددهم اثنا عشر رجلاً. وبهذا يتضح أن البخاري يستخدم "اشتراط اللقاء أو السماع" في حق الثقات وغيرهم، وفي حق من ثبتت معاصرته ومن لم يثبت، وفي حق المدلس والمكثر من الإرسال وغيرهما ممن لم يدلس أو يرسل. ويتضح بما تقدم أن ضوابط مسلم في الاكفتاء بالمعاصرة لا تنطبق على النصوص النقدية للبخاري إلا في عدد قليل من الرواة وماعدا ذلك فإنه موضع ضعف باتفاق مذهبي الإمامين. فيكون أكثر ما انتقده البخاري من سماعات الرواة على مذهب مسلم أيضًا منتقد لعدم توفر ضابط "الاكتفاء بالمعاصرة" أو أحدها، والله أعلم.

المبحث الثالث معالم في النصوص النقدية

المبحث الثالث معالم في النصوص النقدية هذا المبحث خصصته لملاحظاتي التي سجلتها خلال دراستي لنصوص البخاري النقدية المتعلقة باشتراط اللقاء. وهذه الملاحظات نتيجة التأمل والتدبر في النصوص التي جمعتها من كلام البخاري، ومن المعلوم أن باب الملاحظات واسع، وتزداد الملاحظات كلما أعطى التأمل حقه من الوقت، وأيضًا عندما يختلف الأشخاص فتطرح أسئلة افتراضية مختلفة، وتوضع احتمالات أخرى عديدة فيتحصل في النهاية كم من الملاحظات ضخم بل أن الشخص نفسه إذا تقدمت به السنوات وازداد معرفة وخبرة أضاف وحذف فيما سجله من قبل، وهذا باب لا يمكن حصره أو ضبطه لأن الكمال للخالق سبحانه. وأهم المعالم المنهجية التي لاحظتها في نصوص البخاري النقدية المتعلقة باشتراط اللقاء ما يلي: أولاً: طبق البخاري نقده على جميع الرواة الضعفاء والمجهولين والثقات سواء أكانت المعاصرة ثابتة لمن رووا عنه أو كانت محتملة ولا دليل بنفيها، وشمل ذلك حتى المدلسين ومن في حكمهم ممن يرسل كثيرًا كما تقدم بيان ذلك في المبحث الثاني من هذا الفصل. ثانيًا: استخدم البخاري في نقده لسماعات الرواة عبارة "لا أدري سمع من فلان أم لا؟ "، وعبارات أخرى مشابهة لها، والحقيقة أن هناك احتمالين لمعنى تلك العبارة، الاحتمال الأول: أن البخاري يكون متوقفًا فيمن نقد سماعهم كما هو ظاهر العبارة، ولما قال مسلم عند عرضه لقول ومذهب خصمه: (فإن لم يكن عنده علم ذلك، ولم تأت رواية صحيحة تخبر أن هذا الراوي عن صاحبه قد لقيه مرة، وسمع منه شيئًا لم يكن في نقله الخبر عمن روى عنه ذلك، والأمر كما وصفنا حجة، وكان الخبر عنده موقوفًا حتى يرد عليه سماعه منه

لشيء من الحديث قل أو كثر. في رواية مثل ما ورد) (¬1) . وقال أيضًا في معرض نقل قول خصمه: (فإذا أنا هجمت على سماعه منه لأدنى شيء، ثبت عنه عندي بذلك جميع ما يروى عنه بعد. فإن عزب عني معرفة ذلك، أوقفت الخبر ولم يكن عندي موضع حجة لإمكان الإرسال فيه) (¬2) . والتوقف بمعنى التردد والشك مع عدم الاحتجاج. والاحتمال الثاني: أن البخاري يعتبر ذلك انقطاعًا باعتبار أن السند إما متصل أو غير متصل، وما ليس بمتصل فهو منقطع كما هو رأي الذهبي، والحافظ ابن حجر. فقد ذكر الذهبي قول ابن القطان: (ليس في حديث المتعاصرين إلا رأيان، الحمل على الوصل كرأي مسلم والجمهور، أو القول لم يثبت سماع هذا من هذا، كرأي ابن المديني والبخاري، ولا يقولون إنه منقطع) . فعقب عليه بقوله: (قلت: بل رأيهما دال على الانقطاع) (¬3) . وقال الحافظ ابن حجر في ترجمة عبد الله بن مرة أو ابن أبي مرة الزوفي: (أشار البخاري إلى أن في روايته انقطاعًا) (¬4) ، والبخاري إنما قال: (لا يعرف سماع بعضهم من بعض) (¬5) يعني عبد الله بن راشد عن عبد الله بن مرة عن خارجة. فأي الاحتمالين أرجح؟ الذي أراه أن ما انتقده البخاري من سماعات الرواة فإنما هو لضعف في تلك الأسانيد عنده، لا أشك في ذلك لأن البخاري صرح في عدة نصوص بضعف تلك الأسانيد مبديًا السبب "لأن فلانًا لا يعرف سماعه من فلان" (¬6) ، وأيضًا نص مسلم على هذا فقال: (فإذا كانت العلة عند من وصفنا قوله من قبل، في فساد الحديث ¬

(¬1) مقدمة صحيح مسلم (1/29) . (¬2) مقدمة صحيح مسلم (1/30) . (¬3) نقد الإمام الذهبي لبيان الوهم والإبهام (ص83-84) . (¬4) التقريب (ص322) . (¬5) التاريخ الكبير (5/192-193) . (¬6) انظر المبحث الأول من الفصل الثالث في الباب الثاني.

وتوهينه) (¬1) ، وقال بعد أن ساق أسانيد قبلها العلماء: (وهي في زعم من حكينا قوله من قبل واهية مهملة، حتى يصيب سماع الراوي عمن روى) ثم قال: (وكان هذا القول الذي أحدثه القائل الذي حكيناه في توهين الحديث بالعلة التي وصف أقل من أن يعرج عليه ويثار ذكره) . فمعنى التوقف الذي ذكره مسلم في مقدمته ترك الاحتجاج بالخبر الذي لا يثبت فيه اللقاء فيكون بهذا موقوفًا عن الاحتجاج لضعف فيه. وما ذهب إليه الذهبي وابن حجر من أن البخاري يرى ما لم يثبت فيه السماع أو اللقاء يعد منقطعًا، لا أميل إليه لأن البخاري يصرح عن الانقطاع بألفاظ صريحة وقاطعة مثل قوله في تاريخه: (عطاء أن أبا هريرة، ولم يسمع منه) (¬2) ، وقوله: (معمر لم يسمع من خبيب) (¬3) ، وقوله: (ولا يصح سماع الحسن من أبي هريرة) (¬4) ما من لم يثبت سماعه فلا يقول فيه: "لم يسمع من فلان"، وإنما يختار عبارات دالة على مقصوده مثل: "لا أدري سمع فلان من فلان أم لا؟ " و"لا يعرف سماع فلان من فلان" و "لم يذكر سماع" ونحو ذلك، ومن تأمل هذا الموضع يتضح له الفرق بين المنقطع المعلوم الانقطاع، وبين وما لم يثبت فيه السماع فلا يسمى منقطعًا كما قال ابن القطان، لأن من لم يثبت له سماع ممن روى عنه ففي ذلك شبهة عدم اتصال السند، أما المنقطع فعدم الاتصال يكون محل يقين وجزم، ولعل قصد الذهبي وابن حجر أن ما لم يثبت فيه السماع في حكم المنقطع من حيث عدم الاحتجاج به. ثالثًا: استعمل الإمام البخاري عدم ثبوت السماع أحيانًا للترجيح أو لتعضيد علة أخرى. فمن الأمثلة على استعمال عدم ثبوت السماع للترجيح ما قاله: (قال لي ابن ¬

(¬1) مقدمة صحيح مسلم (1/32، 33، 35) . (¬2) التاريخ الكبير (4/15) . (¬3) التاريخ الكبير (4/28) . (¬4) التاريخ الكبير (2/35) .

سلام أنا مخلد بن يزيد أنا ابن جريج أخبرني موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من جلس فقال: سبحانك ربنا وبحمدك، فهو كفارة". وقال موسى عن وهيب نا سهيل عن عون بن عبد الله بن عتبة - قوله -، ولم يذكر موسى بن عقبة سماعًا من سهيل، وحديث وهيب أولى) (¬1) . وكما هو ظاهر فالسند الأول صحيح إلى سهيل، وكذلك الثاني، ولكن الأول فيه موسى بن عقبة وليس لموسى عن سهيل إلا هذا الحديث الواحد فقط (¬2) ، وأما وهيب بن خالد فهو معروف بالرواية عن سهيل بن أبي صاالح وله في الكتب الستة فقط عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة (¬3) أحد عشر حديثًا، فروايته أولى لاسيما وأن موسى بن عقبة - كما ذكر البخاري - لم يذكر سماعًا من سهيل فيترجح هنا احتمال الخطأ في رواية موسى بن عقبة عنه، وكما رأينا في النص السابق فإن البخاري ذكر مخالفة وهيب ثم عقب على ذلك بقوله: (ولم يذكر موسى بن عقبة سماعًا من سهيل، وحديث وهيب أولى) فظاهر عبارته أن سبب ترجيحه لحديث وهيب لأن موسى بن عقبة لم يذكر سماعًا من سهيل، ولاشك أن السند الذي ثبت فيه السماع أولى بالتقديم من سند لم يثبت فيه السماع. وقد استخدم الامام البخاري عدم ثبوت السماع لتعضيد علة أخرى، وذلك في عدد من النصوص منها: 1- أخرج البخاري في تاريخه من طريق قتادة عن الحسن البصري عن دغفل بن حنظلة السدوسي أنه قال: توفى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن خمس وستين. ثم قال: (ولا يتابع عليه، ولا يعرف سماع الحسن من دغفل، ولا يعرف لدغفل إدراك ¬

(¬1) التاريخ الكبير (4/105) ، ومثله في التاريخ الكبير (2/40) . (¬2) في النكت على كتاب ابن الصلاح (2/719) نقل ابن حجر قول البخاري في شأن سند موسى بن عقبة عن سهيل: (لا أعلم بهذا الإسناد في الدنيا غير هذا) . (¬3) انظر تحفة الأشراف (9/420-421) .

النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال ابن عباس، وعائشة، ومعاوية: توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثلاث وستين، وهذا أصح) (¬1) . ولاشك أن رواية الحسن عن دغفل تخالف ما ثبت عن عائشة وابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم في تحديد سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند وفاته، ومما يؤكد ضعف رواية الحسن عن دغفل ما ذكره البخاري من عدم ثبوت سماع الحسن من دغفل. 2- ... ساق البخاري من طريق يزيد بن عمرو الأسلمي عن عبد العزيز عن عقبة بن سلمة بن الأكوع قال: صليت مع عبد الله بن رافع بن خديج العصر بالضربة، وأهل البادية يؤخرون فأخرها جدًا فقلت له: فقال: مالي وللبدع هذه صلاة آبائي مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم قال البخاري: (ويزيد هذا غير معروف سماعه من عبد العزيز، وقالت عائشة: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي العصر، والشمس طالعة في حجرتي قبل أن يظهر الفيء) (¬2) . وحديث عبد الله بن رافع مخالف للأحاديث الصحيحة التي جاء فيها التعجيل بصلاة العصر كما ألمح لذلك البخاري بذكره لحديث عائشة، وأيضًا بقوله: (ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه أنه كان يعجل العصر. حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا الأوزاعي قال حدثنا أبوالنجاشي قال سمعت رافع بن خديج قال: كنا نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العصر فننحر جزورًا فنقسم عش قسم فنأكل لحمًا نضيجًا قبل أن تغرب الشمس، وقال حفص بن عبيد الله: كنا نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العصر فيسير الراكب ستة أميال قبل أن تغيب الشمس) (¬3) . فحديث عبد الله بن رافع مخالف للأحاديث الصحيحة، وفيه علة أخرى هي عدم ثبوت سماع يزيد بن عمرو من عبد العزيز وهذا مما يؤكد ضعف الحديث ويزيده وهنًا على وهنه. ¬

(¬1) التاريخ الكبير (3/255) . وبنحوه في التاريخ الصغير (1/56) ، وينظر التاريخ الصغير (1/53-56) فقد ساق روايات الصحابة في تحديد عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند وفاته. (¬2) التاريخ الصغير (2/62) . (¬3) التاريخ الصغير (2/61-62) .

3- ذكر البخاري حديث عمرو البكالي عن عبد الله بن مسعود أنه رأى رجالاً كأنهم الزط ليلة الجن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... الحديث، وقال البخاري بعده: (ولا يعرف لعمرو سماع من ابن مسعود) (¬1) . ثم قال البخاري: (وقال لنا موسى لنا وهيب عن داود عن عامر عن علقمة قال قلت لعبد الله بن مسعود: من كان منكم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن؟ فقال: ما كان منا معه أحد فقدناه بمكة فقلنا: اغتيل أو استطير فانطلقنا نطلبه في الشعاب فأقبل من قبل حراء فقلنا: أشفقنا عليك فبتنا بشر ليلة فقال: أتاني داعي الجن فذهبت أقرئهم فإذا آثارهم وآثار نيرانهم. وقال شعبة عن عمرو بن مرة قال قلت لأبي عبيدة: أكان أبوك مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن؟ قال: لا) (¬2) . والظاهر من تصرف البخاري أنه يرى أن أصحاب عبد الله بن مسعود وأهل بيته وهم أعلم به من غره أثبتوا أن ابن مسعود رضي الله عنه لم يشهد ليلة الجن، وخالف في ذلك عمرو البكالي بالحديث الذي رواه، ومما يؤكد ضعف رواية عمرو البكالي عدم ثبوت سماعه من ابن مسعود، فضلاً عن مخالفة الثقات لما رواه. 4- قال البخاري: (خثيم بن مروان عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تشد المطي إلا إلى مسجد الخيف، ولا يعرف لخثيم سماع من أبي هريرة) (¬3) . ولا ريب أن هذه اللفظة منكرة أعني "مسجد الخيف" فإن المحفوظ ما رواه الثقات عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومسجد الأقصى" (¬4) . ¬

(¬1) التاريخ الكبير (2/200) ، ومثله في التاريخ الصغير (1/234) . (¬2) التاريخ الكبير (2/201) ، ومثله في التاريخ الصغير (1/233-234) . (¬3) التاريخ الكبير (3/210) . (¬4) صحيح البخاري (3/76/ [1189] ) ، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة.

ومما يؤكد الضعف والنكارة ما ذكره البخاري من عدم ثبوت سماع خثيم من أبي هريرة. 5- روى أبوخالد الدالاني عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس مرفوعًا "إن الوضوء لا يجب إلا على من نام مضطجعًا فإنه إذا نام استرخت مفاصله". قال الترمذي: (سألت محمدًا عن هذا الحديث فقال: هذا لا شيء رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن ابن عباس قوله، ولم يذكر فيه أبا العالية، ولا أعرف لأبي خالد الدالاني سماعًا من قتادة. قلت: أبوخالد كيف هو؟ قال: صدوق، وإنما يهم في الشيء) (¬1) . أبوخالد خالف من هو أوثق منه وأكثر ملازمة لقتادة وهو سعيد بن أبي عروبة وخاصة ما رواه قبل اختلاطه، ثم مما يؤكد ضعف رواية أبي خالد الدالاني ما ذكره البخاري من عدم ثبوت سماعه من قتادة. وفي كل النصوص السابقة ظهر لنا أن الإمام البخاري استخدم عدم ثبوت السماع لتعضيد علة أخرى وذلك لأن التضعيف بسببين أقوى من التضعيف بسبب واحد. ومن الأمثلة التي تندرج تحت هذه الجزئية ما ذكرته في المبحث الأول من هذا الفصل من أن البخاري يعطف نقده لسماع بعض الرواة على ألفاظ نقدية أخرى مثل التدليس، والاضطراب، والجهالة وعدم المتابعة، والنكارة، وكل ذلك ليؤكد ضعف الرواية بأكثر من سبب. رابعًا: معظم الذين انتقد البخاري سماعهم هم من المقلين في الرواية أصلاً، أو من المقلين عن نفس الشيخ الذي تكلم البخاري في السماع منه. وبالتتبع لم أر البخاري تكلم في راو قد أكثر من شيخ معين من حيث عدم ثبوت السماع إلا ما قاله في سليمان بن بريدة عن أبيه: (ولم يذكر سليمان سماعًا من أبيه) صحيح البخاري (3/76/ [1189] ) ، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة. (¬2) . وسليمان قد روى عن أبيه كما في الكتب الستة ما عدا صحيح ¬

(¬1) العلل الكبير للترمذي (1/149) . (¬2) التاريخ الكبير (4/4) .

البخاري - لأنه لم يخرج له - سبعة عشر حديثًا صحيح البخاري (3/76/ [1189] ) ، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة. (¬1) ، فهو من حيث الكثرة عن أبيه يأتي بعد أخيه عبد الله بن بريدة. وقد نص البخاري في بعض نصوصه على قلة الرواية عمومًا أو خصوصًا فيمن انتقد سماعهم، فقد قال في ترجمة عبد الله بن راشد الزوفي: (ولا يعرف سماعه من ابن أبي مرة، وليس له إلا حديث في الوتر) صحيح البخاري (3/76/ [1189] ) ، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة. (¬2) . وقال في ترجمة عبد الله بن أبي مرة: (ولا يعرف إلا بحديث الوتر، ولا يعرف سماع بعضهم من بعض) (¬3) . وقال: (ولا أعرف لابن جريج عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة غير هذا الحديث، ولا أعرف له سماعًا منه) (¬4) ، وقال في رواية موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح: (لا أعلم بهذا الإسناد في الدنيا غير هذا إلا أنه معلول) (¬5) وقد قال في هذا السند نفسه: (لم يذكر موسى بن عقبة سماعًا من سهيل) (¬6) . خامسًا: لم يتكلم البخاري في سماعات الصحابة بعضهم من بعض، ولكن استخدم عدم ثبوت السماع لنفي الصحبة. وقد اتفق المحدثون على أن مرسل الصحابي في حكم الموصول (¬7) ، فلهذا لم يتكلم البخاري في سماع بعض الصحابة من بعض، وعندما قال البخاري في عبد الله بن سراقة الأزدي: (لا يعرف له سماع من أبي عبيدة) (¬8) اشتبه اسمه باسم راو من الصحابة يدعى عبد الله بن سراقة العدوي، فقال ابن عساكر: (فلو كان ابن سراقة هذا عند البخاري هو العدوي لم يقل؛ لا يعرف له سماع من أبي عبيدة فإن ¬

(¬1) تحفة الأشراف (2/69-76) . (¬2) التاريخ الكبير (5/88) . (¬3) التاريخ الكبير (5/193) . (¬4) العلل الكبير للترمذي (2/911) . (¬5) النكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر (2/719) . (¬6) التاريخ الكبير (4/105) . (¬7) التاريخ الكبير (4/105) . (¬8) التاريخ الكبير (5/97) .

عبد الله بن سراقة العدوي صحابي شهد وأبوعبيدة بن الجراح جميعًا بدرًا) (¬1) ، وقصد ابن عساكر أنه من غير الممكن أن يتكلم البخاري في سماع صحابي من صحابي آخر. ولكن البخاري استخدم عدم ثبوت السماع لنفي الصحبة فقال في ترجمة خداش بن أبي سلامة: (لم يتبين سماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬2) . وقال في ترجمة عبد الله بن عكيم الجهني: (أدرك زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يعرف له سماع صحيح) (¬3) . وقال في ترجمة بن هلال: (لم يذكر عبد الله بن هلال سماعًا من النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬4) . وقال في ترجمة أيوب بن موسى بن عمرو بن سعيد بن العاص: (ولم يصح سماع جده من النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬5) . وليس عدم ثبوت السماع ينفي الصحبة عند البخاري فقط، فقد استخدمه علماء آخرون لهذا الغرض أيضًا. سادسًا: فلما استخدم البخاري عدم ثبوت السماع في نقد الأحاديث غير المرفوعة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولاشك أن للأحاديث المرفوعة أهمية تفوق الموقوفات وغيرها، لأن الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشد، والتحرج فيه مطلوب من كل مكلف فما بالك بطالب العلم؟!. والأحاديث التي تكلم البخاري في سماع بعض رواتها وهي غير مرفوعة أربعة، وهي: 1- قال البخاري: (زياد بن مالك عن ابن مسعود وعلي: على القارن أن ¬

(¬1) تاريخ دمشق لابن عساكر (9/336) . (¬2) التاريخ الكبير (3/320) . (¬3) التاريخ الكبير (5/39) ، والضعفاء الصغير (ص66) . (¬4) التاريخ الكبير (5/26) . (¬5) التاريخ الكبير (1/422) .

يطوف طوافين، قال هشيم عن منصور عن الحكم، ولا يعرف لزياد سماع من علي وعبد الله، ولا للحكم منه) (¬1) . والثابت في السنة أن على القارن طوافًا واحدًا فقط (¬2) ، وما ذكر هنا عن ابن مسعود وعلي رضي الله عنهما مخالف لما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان عليه الصلاة والسلام قارنًا على الراجح من أقوال أهل العلم، وأرى أن البخاري نبه على هذا الحديث بسبب المخالفة، وبها يضعف الحديث، ومما يؤكد الضعف عدم ثبوت السماع. 2- ... قال البخاري: (عبد الرحمن المدني، قال ابن عبد الوهاب حدثنا حزم حدثنا أشعث الحداني حدثنا عبد الرحمن المدني عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال عثمان: أيقظني للسحور. رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقال: إنك تفطر عندنا الليلة، فما غابت حتى قتل. لا أعرف له سماعًا من أبي هريرة) (¬3) . 3- ... قال البخاري: (وقال سلم بن جعفر عن الجريري نا سيف الدوسي عن عبد الله بن سلام قال: إن محمدًا يوم القيامة بين يدي الرب عز وجل، ولا يعرف لسيف سماع من ابن سلام) (¬4) . 4- ... قال البخاري: (الحكم بن مسعود الثقفي، قال بشر بن محمد أخبرنا ابن المبارك قال أخبرنا معمر سمع سماك بن الفضل الخولاني عن وهب بن منبه عن الحكم بن مسعود الثقفي قال: شهدت عمر بن الخطاب أشرك الإخوة من الأب والأم، فقال له رجل: قضيت عام أول فلم تشرك. قال: تلك على ما قضينا، وهذه على ما قضينا، وقال عبد الله الجعفي حدثنا هشام حدثنا معمر مثله، وقال بعضهم: مسعود بن الحكم، ولا يصح، ولم يتبين سماع وهب من الحكم) (¬5) . ¬

(¬1) التاريخ الكبير (3/372) . (¬2) انظر فتح الباري (3/577- 579) ، كتاب الحج، باب طواف القارن. وقد ضعف ابن حجر رواية ابن مسعود وعلي السابقة. (¬3) التاريخ الكبير (5/371) . (¬4) التاريخ الكبير (4/158) . (¬5) التاريخ الكبير (2/332) .

سابعًا: انتقد البخاري بعض الأسانيد بعدم ثبوت السماع فيها، مع أن متون تلك الأسانيد ثابتة من طرق أخرى، ومن ذلك: 1- ... ذكر الترمذي حديث سعيد بن أبي عروبة عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "استذكروا القرآن فإنه أشد تفصيًا من صدور الرجال من النعم من عقلها ... " الحديث. ثم قال الترمذي: (فسألت محمدًا عن هذا الحديث فقال: هذا حديث مشهور من حديث الأعمش، ولا أعرف لسعيد بن أبي عروبة سماعًا من الأعمش وهو يدلس، ويروي عنه) (¬1) . والحديث كما قال البخاري مشهور عن الأعمش (¬2) ، وقد أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما عن منصور عن أبي وائل عن ابن مسعود رضي الله عنه به (¬3) ، فالحديث ثابت من غير الطريق التي انتقدها البخاري. 2- ... روى الحسن البصري عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما مرفوعًا حديث: "أفطر الحاجم والمحجوم"، وقد قال البخاري في هذا السند: "والحسن لا يعرف له سماع من أسامة" (¬4) . وقد صحح البخاري حديث أفطر الحاجم والمحجوم من غير هذه الطريق (¬5) . 3- ... نقل الترمذي في باب "ما جاء في دية الجنين" قول البخاري: (لا أدري عبيد بن نضلة سمع من المغيرة بن شعبة أم لا؟) (¬6) . ونص حديث عبيد عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه كما في صحيح ¬

(¬1) العلل الكبير للترمذي (2/877) . (¬2) انظر صحيح مسلم (1/544) . (¬3) انظر صحيح البخاري (8/697/ [5032] ) ، كتاب فضائل القرآن، باب استذكار القرآن وتعاهده، وصحيح مسلم (1/544) . (¬4) التاريخ الكبير (2/180) . (¬5) انظر العلل الكبير للترمذي (1/362) . (¬6) انظر العلل الكبير للترمذي (2/587) .

مسلم (¬1) عن المغيرة قال: "ضربت امرأة ضرتها بعمود فسطاط وهي حبلى، فقتلتها، قال: وإحداهما لحيانية. قال فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دية المقتولة على عصبة القاتلة، وغرة لما في بطنها، فقال رجل من عصبة القاتلة: أنغرم دية من لا أكل، ولا شرب، ولا استهل، فمثل ذلك يطل. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أسجع كسجع الأعراب". وقد أخرج البخاري في صحيحه (¬2) أصل حديث المغيرة هذا، من غير طريق عبيد بن نضلة، كما أخرج أيضًا هو ومسلم في صحيحهما (¬3) حديث أبي هريرة وهو كحديث عبيد عن المغيرة. 4- ... روى محمد بن صفوان الجمحي عن سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة"، فقال البخاري: (لم يذكر سماعًا من سعيد فلا أدري أسمع منه أم لا؟ " (¬4) . وقد صحح البخاري (¬5) حديث سعد هذا ولكن من غير طريق محمد بن صفوان عن ابن المسيب، وكذلك مسلم (¬6) في صحيحه، بل عده بعض أهل العلم من المتواتر (¬7) . 5- ... حديث كفارة المجلس الذي رواه موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا. ¬

(¬1) صحيح مسلم (3/1310) . (¬2) انظر صحيح البخاري (12/257/ [6905-6908] ) ، كتاب الديات، باب جنين المرأة. (¬3) انظر صحيح البخاري (12/263/ [6909، 6910] ) ، كتاب الديات، باب جنين المرأة وأن العقل على الوالد، وصحيح مسلم (3/1309) . (¬4) التاريخ الكبير (1/115) . (¬5) صحيح البخاري (7/77/ [3706] ، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب، وكتاب المغازي (7/716/ [4416] ) ، باب غزوة تبوك. (¬6) انظر صحيح مسلم (4/1870) . (¬7) انظر قطف الأزهار المتناثرة للسيوطي (ص281-282) ، ونظم المتناثر للكناني (ص206-207) .

قال البخاري: (ولم يذكر موسى سماعًا من سهيل) (¬1) . وحديث كفارة المجلس قد ثبت من غير الطريق التي انتقدها البخاري، وأقوى أحاديث كفارة المجلس حديث عائشة، والسائب بن يزيد، وأبي برزة الأسلمي، وجبير بن مطعم (¬2) . ثامنًا: لم يقتصر نقد البخاري على أحاديث الأحكام بل هناك أحاديث انتقدها من حيث عدم ثبوت السماع، وهي في الترغيب والترهيب (¬3) ، والمناقب (¬4) ، والفتن وأهوال يوم القيامة (¬5) ، والسيرة والمغازي (¬6) ، والذكر والدعاء (¬7) ، ونحو ذلك (¬8) . وتبلغ نسبة ذلك ما يقارب 50%، والباقي أحاديث أحكام، ومن المعلوم أن البخاري في بعض الأحيان ينتقد السماع، ولا يذكر حديثًا لمن انتقد سماعه - كما بينت ذلك في المبحث الأول من هذا الفصل-، والنظر هنا متجه نحو النصوص التي ذكر البخاري فيها الأحاديث. وفي هذا ما يدلنا على أن الإمام البخاري - رحمه الله - عمم تطبيق مبدأ ¬

(¬1) التاريخ الكبير (4/105) . (¬2) انظر فتح الباري (13/555) ، وقد توسع الحافظ ابن حجر في ذكر أحاديث وطرق "كفارة المجلس" في النكت على كتاب ابن الصلاح (2/726-743) . (¬3) انظر التاريخ الكبير (1/32) ، (1/453) ، (2/27) ، (3/16-17) ، (4/204) ، (4/219) ، (4/304-305) . وانظر العلل الكبير للترمذي (1/422) ، (2/877) . (¬4) انظر التاريخ الكبير (1/115) ، (2/2-3) ، (5/9- 10) ، (7/40) . (¬5) انظر التاريخ الكبير (2/170) ، (3/197) ، (4/12) ، (4/158) ، (4/221) ، (5/97) ، (6/227-228) . (¬6) انظر التاريخ الكبير (1/71) ، (1/82) ، (2/200) ، (2/201) ، (3/254-255) ، والتاريخ الصغير (1/250) ، وانظر كذلك العلل الكبير للترمذي (2/750) . (¬7) انظر التاريخ الكبير (4/104-105) ، (4/266) ، وانظر العلل الكبير للترمذي (2/911) . (¬8) انظر التاريخ الكبير (1/144) في الزهد، (5/371) في الرؤيا، (5/447) في الأنبياء.

اشتراط اللقاء على الرواة دون النظر فيما رووا من منون هل هي من الأحكام أو من الفضائل ونحوها؟ ولا يعني ذلك أن البخاري ليس من القائلين بالتخفيف في شروط قبول أحاديث الفضائل وما يجري مجراها - كما هو مذهب جمهور المحدثين -، ولكن القصد التنبيه على أن نقده لسماع الرواة لم يقتصر على ما روي في أحاديث الأحكام فقط لمظنة التشدد فيها أكثر مما سواها. تاسعًا: غالب الذين انتقد البخاري سماعهم هم من التابعين (¬1) وتلامذتهم، وأما تلامذة التلامذة فانتقاد البخاري لسماعهم قليل (¬2) . والعنعنة بصورة عامة تكثر في الأسانيد في طبقة التابعين وأتباعهم، ثم تقل في الطبقات الأخرى حتى تكاد تتلاشى في الطبقات المتأخرة، وهذا الأمر يتجلى لكل من تأمل الأسانيد وتفحصها. ولعل فيما ذكر ما يفسر لنا هذه الظاهرة في نصوص البخاري النقدية. عاشرًا: انتقد الإمام البخاري بعض أسانيد أهل المدينة (¬3) (¬4) من حيث عدم ثبوت السماع فيها. ومن المعلوم عند أهل الحديث أن أهل المدينة أصح حديثًا من ¬

(¬1) بعض أولئك لا نستطيع إثبات كونهم من التابعين لأنه ليس لهم إلا حديث واحد عن الصحابي الذي رووا عنه وغير معروف ولا ثابت سماعه من ذلك الصحابي، فكيف نثبت له منزلة التابعية؟ ‍ولكن ندخله في التابعين مجازًا كما قال أبوحاتم الرازي - في بعض من لم تثبت له الصحبة وروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل في المسند مجازًا، انظر المراسيل لابن أبي حاتم (ص92) . (¬2) انظر التاريخ الكبير (1/453) ، (1/17) ، (3/203) ، (3/283-284) ، (4/104-105) ، (6/185) ، (6/227-228) . (¬3) انظر التاريخ الكبير (1/32) ، (1/115) ، (1/139) ، (2/294) ، (3/80) ، (3/450) ، (3/512) ، (4/76) ، (4/77) ، (4/104-105) ، (4/221) ، (5/9-10) . (¬4) وانظر التاريخ الصغير (1/43) . وانظر جزء القراءة خلف الإمام (ص15، 59) . وانظر العلل الكبير للترمذي (1/187-188) ، (2/622) .

غيرهم من أهل الأمصار، كما أن التدليس لم ينتشر عندهم بل لا يكاد يعرف عنهم تدليس. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقد اتفق أهل العلم بالحديث على أن أصح الأحاديث أحاديث أهل المدينة) (¬1) . وقال الحاكم: (أهل الحجاز، والحرمين، ومصر، والعوالي ليس التدليس من مذهبهم) (¬2) ثم قال: (وأكثر المحدثين تدليسًا أهل الكوفة ونفر يسير من أهل البصرة) . ولاشك أن الأسانيد المدنية التي انتقدها البخاري أقل من الأسانيد الكوفية، والبصرية، وفي انتقاد البخاري لبعض الأسانيد المدنية ما يدل على تعميمه لاشتراط اللقاء على جميع رواة البلدان سواء عرفوا بالتدليس أو لم يعرفوا به. ¬

(¬1) رسالة صحة أصول مذهب أهل المدينة (ص33) ، وانظر للاستزادة معرفة السنن والآثار (1/152) . (¬2) معرفة علوم الحديث (ص111) .

الفصل السادس العلماء الذين أيدوا البخاري في هذه المسألة

الفصل السادس العلماء الذين أيدوا البخاري في هذه المسألة ذكر عدد من العلماء على سبيل الإجمال أن اشتراط اللقاء لاتصال السند المعنعن هو قول كثير من الأئمة، وأعيان الحفاظ. قال ابن عبد البر: (اعلم - وفقك الله - أتى تأملت أقاويل أئمة أهل الحديث، ونظرت في كتب من اشترط الصحيح في النقل منهم، ومن لم يشترطه، فوجدتهم أجمعوا على قبول الإسناد المعنعن لا خلاف بينهم في ذلك إذا جمع شروطًا ثلاثة هي: 1- عدالة المحدثين في أحوالهم. 2- ولقاء بعضهم بعضًا مجالسة ومشاهدة. 3- وأن يكونوا براء من التدليس) (¬1) . وقال أيضًا: (جمهور أهل العلم على أن "عن" و "أن" سواء، وأن الاعتبار ليس بالحروف، وإنما هو باللقاء والمجالسة والسماع والمشاهدة، فإذا كان سماع بعضهم من بعض صحيحًا، كان حديث بعضهم عن بعض أبدًا بأي لفظ ورد محمولاً على الاتصال، حتى يتبين فيه علة الانقطاع) (¬2) . وقال الخطيب البغدادي: (وأهل العلم بالحديث مجمعون على أن قول المحدث حدثنا فلان عن فلان صحيح معمول به إذا كان شيخه الذي ذكره يعرف أن قد أدرك الذي حدث عنه، ولقيه، وسمع عنه، ولم يكن هذا المحدث ممن يدلس، ولا يعلم أنه يستجيز إذا حدثه به أن يسقط ذلك ويروي الحديث عاليًا ¬

(¬1) التمهيد (1/12) . (¬2) التمهيد (1/26) .

فيقول حدثنا فلان عن فلان - أعني الذي لم يسمعه منه - لأن الظاهر من الحديث السالم رواية مما وصفنا الاتصال وإن كانت العنعنة هي الغالبة على إسناده) (¬1) . وقال ابن الصلاح في الإسناد المعنعن: (والصحيح والذي عليه العمل أنه من قبيل الاسناد المتصل، وإلى هذا ذهب الجماهير من أئمة الحديث وغيرهم ... وهذا بشرط أن يكون الذين أضيفت العنعنة إليهم قد ثبتت ملاقاة بعضهم بعضًا مع براءتهم من وصمة التدليس. فحينئذ يحمل على ظاهر الاتصال إلا أن يظهر فيه خلاف ذلك) (¬2) . وقال ابن الصلاح: (والذي صار إليه مسلم هو المستنكر، وما أنكره قد قيل: إنه القول الذي عليه أئمة هذا العلم، علي بن المديني، والبخاري، وغيرهما) (¬3) . وقال النووي: (وهذا الذي صار إليه مسلم قد أنكره المحققون، وقالوا: هذا الذي صار إليه ضعيف، والذي رده هو المختار الصحيح الذي عليه أئمة هذا الفن علي بن المديني، والبخاري، وغيرهما) (¬4) . وقال ابن رشيد عن مذهب ابن المديني والبخاري: (وهو رأي كثير من المحدثين) (¬5) . وقال العلائي في من اشترط اللقاء لاتصال السند المعنعن: (وهذا هو الذي عليه رأي الحذاق كابن المديني، والإمام البخاري، وأكثر الأئمة) (¬6) . وقال ابن رجب: (وأما جمهور المتقدمين فعلى ما قاله ابن المديني ¬

(¬1) الكفاية (ص328) . (¬2) علوم الحديث (ص56) . (¬3) صيانة صحيح مسلم (ص128) ، وانظر علوم الحديث لابن الصلاح (ص60) بنحو هذه العبارة. (¬4) شرح صحيح مسلم للنووي (1/128) . وانظر أيضًا التقريب للنووي مع شرحه تدريب الراوي (1/216) فقد عزاه للمحققين. (¬5) السنن الأبين (ص31) . (¬6) جامع التحصيل (ص116) .

والبخاري، وهو القول الذي أنكره مسلم على من قاله) (¬1) . وقال الحافظ ابن حجر: (ومما يرجح به كتاب البخاري اشتراط اللقي في الإسناد المعنعن، وهو مذهب علي بن المديني شيخه، وعليه العمل من المحققين من أهل الحديث) (¬2) . ما سلف نقله من نصوص فيها إثبات أن اشتراط اللقاء أو السماع لاتصال السند المعنعن ليس قول البخاري، وشيخه علي بن المديني فقط، بل هو قول كثير من أئمة الحديث، ومن هؤلاء الأئمة: 1- شعبة بن الحجاج: وقد نقلت عنه عدة نصوص في الفصل الرابع من الباب الأول، فأغني ذلك عن إعادتها هنا خشية التكرار. 2- يحيى بن سعيد القطان، وكذلك نقلت عنه عدة نصوص في الفصل نفسه. 3- علي بن المديني، مشهور بذلك، ويراجع الفصل الأول من الباب الثاني فقد نقلت عنه بعض النصوص هناك. 4- الإمام الشافعي. قال رحمه الله تعالى: (ولم نعرف بالتدليس ببلدنا، فيمن مضي، ولا من أدركنا من أصحابنا إلا حديثًا، فإن منهم من قبله عن من لو تركه عليه كان خيرًا له. وكان قول الرجل: "سمعت فلانًا يقول سمعت فلانًا"، وقوله: "حدثني فلان عن فلان" سواء عندهم، لا يحدث واحد منهم عن من لقي إلا ما سمع منه، ممن عناء (¬3) بهذه الطريق، قبلنا منه "حدثني فلان عن فلان") (¬4) . قال الحافظ ابن رجب - رحمه الله - معلقًا على كلام الشافعي: (وظاهر هذا أنه لا يقبل النعنعة إلا عمن عرف منه أنه لا يدلس، ولا يحدث إلا عمن لقيه بما سمع منه، وهذا قريب من قول من قال: إنه لا يقبل العنعنة إلا عمن ثبت أنه لقيه، ¬

(¬1) شرح علل الترمذي (1/365) . (¬2) تغليق التعليق (5/427) . (¬3) في بعض نسخ الرسالة كما في هامش المحقق "فمن عرفناه"، وكذلك في شرح العلل لابن رجب (1/359) . (¬4) الرسالة (ص378-379) .

وفيه زيادة أخرى عليه، وهي أنه اشترط أنه يعرف أنه لا يدلس عمن لقيه أيضًا، ولا يحدث إلا بما سمعه. وقد فسره أبوبكر الصيرفي في شرح الرسالة: باشتراط ثبوت السماع لقبول العنعنة، وأنه إذا علم السماع فهو على السماع حتى يعلم التدليس، وإذا لم يعلم سمع أو لم يسمع وقف، فإذا صح السماع فهو عليه حتى يعلم غيره. قال: وهذا الذي قاله صحيح) (¬1) . وقال الحافظ ابن حجر مبينًا موافقة رأي الشافعي للقول باشتراط اللقاء في السند المعنعن: (وهذا المذهب هو مقتضى كلام الشافعي - رضي الله عنه -) (¬2) ، ثم نقل كلام الشافعي السابق وعلق عليه بقوله: (فذكر أنه إنما قبل العنعنة لما ثبت عنده أن المعنعن غير مدلس، وإنما يقول عن فيما سمع، فأشبه ما ذهب إليه البخاري من أنه إذا ثبت اللقي ولو مرة حملت عنعنة غير المدلس على السماع مع احتمال أن لا يكون سمع بعض ذلك أيضًا) (¬3) . وقال السخاوي: (بل هو مقتضى كلام الشافعي، كما قاله شيخنا (¬4) ، واقتضاه ما في شرح الرسالة لأبي بكر الصيرفي) (¬5) . وقد وجدت للإمام الشافعي بعض النصوص النقدية فيها تأكيد لكلام ابن رجب وابن حجر. في النص الأول: قال الشافعي في حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي عن قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة العيدين (¬6) : (هذا ثابت إن كان عبيد الله لقي أبا واقد الليثي) (¬7) . ¬

(¬1) شرح علل الترمذي لابن رجب (1/360) . (¬2) النكت على كتاب ابن الصلاح (2/595) . (¬3) النكت على كتاب ابن الصلاح (2/596) . (¬4) هو الحافظ ابن حجر. (¬5) فتح المغيث (1/165) . (¬6) انظر صحيح مسلم حديث رقم [891] . (¬7) معرفة السنن والآثار (5/78) .

والملاحظ هنا أن الشافعي - رحمه الله - علق ثبوت الحديث على لقي عبيد الله لأبي واقد ولم يعلقه على المعاصرة أو الإدراك، وذلك لأن عبيد الله لم يدرك أيام عمر ومسألته أبا واقد. وقال النووي في شأن عبيد الله: (إنه أدرك أبا واقد بلاشك، وسمعه بلا خلاف) (¬1) . وفي النص الثاني: قال الشافعي في حديث تميم الداري سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يسلم على يدي الرجل؟ فقال: "هو أولى الناس بمحياه ومماته" (¬2) : (إنه ليس بثابت إنما يرويه عبد العزبز بن عمر عن ابن موهب، عن تميم الداري، وابن موهب ليس معروفًا عندنا، ولا نعلمه لقي تميمًا الداري، ومثل هذا لا يثبت عندنا، ولا عندك من قبل أنه مجهول، ولا أعلمه متصلاً) (¬3) . والملاحظ هنا أن الشافعي ضعف هذا الحديث لسببين: الجهالة، وعدم ثبوت اللقي، وجعل ما لا يثبت اللقاء فيه ليس بمتصل. قال البيهقي بعد أن ذكر سندًا فيه تصريح ابن موهب بالسماع من تميم: (هذا خطأ. ابن موهب لم يسمع من تميم، ولا لحقه) . وفي النص الثالث قال الشافعي: (لا نعلم عبد الرحمن بن أبي ليلى رأى بلالاً قط، عبد الرحمن بالكوفة وبلال بالشام، وبعضهم يدخل بينه وبين عبد الرحمن رجلاً لا نعرفه وليس يقبله أهل الحديث) (¬4) . وفي هذا النصوص ما يؤيد أن الشافعي - رحمه الله - من القائلين باشتراط ثبوت اللقاء لاتصال السند المعنعن. 5- ... يحيى بن معين. سئل يحيى: (يصح لسعيد بن المسيب سماع من عبد الرحمن بن أبي ليلى؟ قال: لا) (¬5) . وسعيد بن المسيب ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله ¬

(¬1) شرح النووي على شرح صحيح مسلم (6/181) . (¬2) انظر سنن أبي داود (3/127) ، وسنن الترمذي (4/427) . (¬3) معرفة السنن والآثار للبيهقي (14/412) . (¬4) معرفة السنن (2/757) . (¬5) المراسيل لابن أبي حاتم (ص64) .

عنه (¬1) ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ولد لست بقين من خلافة عمر رضي الله عنه (¬2) . فسعيد أكبر من عبد الرحمن بنحو من ثلاث سنوات، وكلاهما من المدينة. وقد مات عبد الرحمن بن أبي ليلى سنة ثلاث وثمانين (¬3) قبل سعيد بن المسيب، إذن فقد تعاصرا أكثر من ستين سنة. وسئل يحيى: (سمع طاووس من عائشة رضي الله عنها شيئًا؟ قال: لا أراه) (¬4) . والمعاصرة ثابتة بلا أدنى شك بين طاووس، وأم المؤمنين رضي الله عنها لأن أبا حاتم قال: (طاووس لم يسمع من عثمان شيئًا، وقد أدرك - يعني زمن عثمان - لأنه قديم) . وقد أخرج مسلم في صحيحه لطاووس عن عائشة رضي الله عنها (¬5) . وكلام يحيى في هذا السند يقتضي أن مذهب يحيى هو اشتراط السماع لأن قول يحيى: لا أراه - يعني السماع - بسبب عدم ثبوت السماع لا المعاصرة. وسئل ابن معين: (عبد الرحمن بن أبي ليلى عن المقداد بن الأسود سمع منه؟ قال: لا أدري) (¬6) . وعبد الرحمن بن أبي ليلى ولد سنة ست عشرة للهجرة كما أشرت آنفًا من أنه ولد لست بقين من خلافة عمر، وأما المقداد بن الأسود فمات سنة ثلاث وثلاثين (¬7) ، فيكون ابن أبي ليلى أدرك نحوًا من سبعة عشر عامًا من حياة المقداد ¬

(¬1) تهذيب التهذيب (4/86) . (¬2) التقريب (ص249) . (¬3) التقريب (ص349) . (¬4) المراسيل لابن أبي حاتم (ص89) . (¬5) انظر تحفة الأشراف (11/425-426) . (¬6) المراسيل لابن أبي حاتم (ص108) . والبخاري كذلك لم يثبت له السماع فقد قال في ترجمة ابن أي ليلى من التاريخ الكبير (5/368) : (سمع عبد الله بن حكيم وعن المقداد) فهذه إشارة منه إلى عدم ثبوت السماع. (¬7) التقريب (ص545) .

رضي الله عنه، وقد أخرج مسلم في صحيحه لعبد الرحمن بن أبي ليلى عن المقداد (¬1) . وقال ابن معين: (عطاء بن أبي رباح لم يسمع من ابن عمر شيئًا، ولكنه قد رآه، ولا يصح له سماع) (¬2) . وعطاء كان صبيًا عند مقتل عثمان (¬3) ، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما مات سنة ثلاث وسبعين (¬4) ، فيكون عطاء أدرك من حياة ابن عمر نحوًا من أربعين عامًا، وقد أثبت البخاري سماع عطاء من ابن عمر (¬5) . وقد يفهم من عبارة ابن معين أن عطاء بن أبي رباح لم يسمع من ابن عمر أي ليس له رواية عنه، وهذا فهم خاطيء، فقد روى عطاء عن ابن عمر في السنن ستة أحاديث (¬6) . وأجاب ابن معين من سأله: (الزهري سمع من ابن عمر؟ قال: لا. قال: فرآه رؤية؟ قال: يشبه) (¬7) . والزهري ولد سنة خمسين (¬8) ، فيكون أدرك من حياة ابن عمر نحوًا من ثلاث وعشرين سنة، وقد قال الذهلي: (لست أدفع رواية معمر عن الزهري أنه شهد سالمًا وعبد الله بن عمر مع الحجاج في الحج، فقد روى ابن وهب عن عبد الله العمري عن الزهري نحوه) (¬9) ، وكذا أبوبكر بن السني قال: (سمع الزهري ¬

(¬1) انظر صحيح مسلم (3/1625) . (¬2) معرفة الرجال عن يحيى بن معين لابن محرز (1/126) . (¬3) انظر تهذيب التهذيب (7/203، 204) . (¬4) التقريب (ص315) . (¬5) انظر التاريخ الكبير (6/464) . (¬6) انظر تحفة الأشراف (6/11 - 12) . (¬7) سؤالات ابن الجنيد لابن معين (ص313) . (¬8) تهذيب التهذيب (9/450) . (¬9) تهذيب التهذيب (9/451) .

من ابن عمر حديثين) (¬1) . وهنا نرى ابن معين لا يدفع رؤية الزهري لابن عمر، وإنما يدفع السماع مع ورود ما يدل على اجتماع الزهري بابن عمر رضي الله عنهما، ولكن ابن معين كما هو الظاهر يشترط السماع لاتصال السند المعنعن، ولا يكتفي بثبوت اللقاء. وقال ابن معين في القاسم بن مخيمرة: (لم أسمع أنه سمع من أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬2) فلم يشر إلى معاصرته لبعض الصحابة وإنما لعدم علمه بسماعه من أحد منهم. وفي جميع النصوص السابقة نجد أن البحث كان عن "السماع"، وليس عن الإدراك أو المعاصرة مما يدل على أن الاتصال لا يثبت إلا بالسماع عند ابن معين، ولو كان الاتصال يثبت بالمعاصرة والإدراك عنده لكان السؤال عن ذلك أو لنقل عن ابن معين ما يدل على أن المعاصرة كافية لإثبات الاتصال، وقد أدخل ابن أبي حاتم بعض نصوص ابن معين الآنفة في كتابه "المراسيل" والذي ضمنه الأسانيد غير المتصلة فيكون فهم من كلام ابن معين أنه يحكم على تلك الأسانيد بعدم الاتصال. 6- ... أحمد بن حنبل. قال الحافظ ابن رجب: (وما قاله ابن المديني، والبخاري، هو مقتضى كلام أحمد) (¬3) . بل ورد عن أحمد ما يدل على اشتراط ثبوت السماع ولا يكتفي بمجرد ثبوت اللقاء. قال ابن رجب: (فدل كلام أحمد، وابي زرعة، وأبي حاتم على أن الاتصال لا يثبت إلا بثبوت التصريح بالسماع، وهذا أضيق من قول ابن المديني والبخاري، فإن المحكي عنهما: أنه يعتبر أحد أمرين: إما السماع وإما اللقاء، وأحمد ومن تبعه عندهم لابد من ثبوت السماع ويدل على أن هذا مرادهم أن أحمد قال: "ابن سيرين لم يج عنه سماع من ابن عباس") (¬4) . ¬

(¬1) تحفة الأشراف (6/46) . (¬2) تاريخ ابن معين برواية الدوري (2/483) . (¬3) شرح علل الترمذي (1/365) . (¬4) شرح علل الترمذي (1/367-368) .

(وقال أحمد في يحيى بن أبي كثير: "قد رأى أنسًا فلا أدري سمع منه أم لا؟ " (¬1) . ولم يجعلوا روايته عنه متصلة بمجرد الرؤية، والرؤية أبلغ من إمكان اللقي) (¬2) . ونقل ابن رجب عن الإمام أحمد ما يلي: (وقال أحمد: "ابن جريج لم يسمع من طاووس ولا حرفًا، ويقول: رأيت طاووسًا) . (وقال أحمد: "أبان بن عثمان لم يسمع من أبيه، من أين سمع منه؟ " (¬3) . ومراده من أين صحت الرواية بسماعه منه، وإلا فإمكان ذلك واحتماله غير مستبعد) (¬4) . وسماع أبان من أبيه ثابت كما في صحيح مسلم (¬5) ، والإمام أحمد كأنه لم يثبت عنده سماع أبان من أبيه من طريق يعتمد عليها. ومحل الشاهد هنا أن أحمد حكم بعدم السماع لعدم ثبوته عنده. ثم قال ابن رجب: (ومما يستدل به أحمد وغيره من الأئمة على عدم السماع، والاتصال أن يروي عن شيخ من غير أهل بلده لم يعلم أنه رجل إلى بلده، ولا أن الشيخ قدم إلى بلد كان الراوي عنه فيه. نقل منها عن أحمد قال: "لم يسمع زرارة بن أوفى من تميم بالشام، وزرارة بصري") (¬6) . وقد قال ابن رجب: (وكلام أحمد، وأبي زرعة، وأبي حاتم في هذا المعنى ¬

(¬1) انظر المراسيل لابن أبي حاتم (ص187) . (¬2) شرح علل الترمذي (1/366) . (¬3) المراسيل لابن أبي حاتم (ص23) . (¬4) شرح علل الترمذي (1/367) . (¬5) انظر صحيح مسلم حديث (2/1030) وقد ساق مسلم عدة طرق للحديث فيها تصريح أبان بسماعه من أبيه عثمان بن عفان رضي الله عنه. (¬6) شرح علل الترمذي (1/368) .

كثير جدًا يطول الكتاب بذكره. وكله يدور على أن مجرد ثبوت الرؤية لا يكفي في ثبوت السماع، وأن السماع لا يثبت بدون التصريح به) (¬1) . ومن النصوص المنقولة عن الإمام أحمد وتدل على اشتراطه السماع مما لم يذكره ابن رجب: قوله: (عطاء بن أبي رباح قد رأى ابن عمر، ولم يسمع منه) (¬2) . وعطاء ولد سنة سبع وعشرين (¬3) فيكون أدرك من حياة ابن عمر نحوًا من خمس وأربعين سنة، وقد أثبت البخاري لعطاء السماع من ابن عمر (¬4) ، وذلك لمجرد الرؤية الدالة على ثبوت اللقاء عند البخاري كما تقدم تحقيقه. وقال الأثرم: (سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل وذكر قول شعبة: لم يسمع أبوعبد الرحمن السلمي من عثمان، ولا من ابن مسعود، فلم ينكر) (¬5) . وقد أثبت البخاري لأبي عبد الرحمن السماع من عثمان وابن مسعود (¬6) ، وقول شعبة لم يسمع أي لم يثبت من طريق صحيح سماعه من عثمان وابن مسعود لا أنه قد ثبت عدم سماعه منهما. وفي ذكر أحمد لكلام شعبة وإقراره به ما يدل على أنه يرى رأيه كما فهم ذلك الأثرم أيضًا. وقال أحمد بن حنبل: (عطاء بن السائب لا نعرف له سماعًا من عبيدة - يمني السلماني - ولا لقاء) (¬7) . وقد نبه الحافظ ابن رجب على بعض ما ورد عن الإمام أحمد من أقوال قد يفهم منها أنه يكتفي بإمكان اللقاء دون اشتراط السماع فقال: (وقال الأثرم: سألت أحمد قلت: محمد بن سوقة سمع من سعيد بن جبير؟ قال: "نعم قد سمع من ¬

(¬1) شرح علل الترمذي (1/371-372) . (¬2) المراسيل لابن أبي حاتم (ص128) . (¬3) تهذيب التهذيب (7/203) . (¬4) التاريخ الكبير (6/464) . (¬5) المراسيل لابن أبي حاتم (ص95) . (¬6) التاريخ الكبير (5/73) ، والتاريخ الصغير (1/232) . (¬7) جامع التحصيل (ص238) .

الأسود غير شيء؛ كأنه يقول: إن الأسود أقدم. لكن قد يكون مستند أحمد أنه وجد التصريح بسماعه منه، وما ذكره من قدم الأسود إنما ذكره ليستدل به على صحة قول من ذكر سماعه من سعيد بن جبير؛ فإن كثيرًا ما يرد التصريح بالسماع ويكون خطأ) (¬1) . وذكر ابن رجب في موضع آخر ما يلي: (فإن قيل: فقد قال أحمد في رواية ابن مشيش وسئل عن أبي ريحانة سمع من سفينة؟ قال: "ينبغي" هو قديم قد سمع من ابن عمر". قيل: لم يقل إن حديثه عن سفينة صحيح متصل، إنما قال: "هو قديم ينبغي أن يكون سمع منه". وهذا تقريب لإمكان سماعه، وليس في كلامه أكثر من هذا) (¬2) . وقد نص البخاري على سماع عبد الله بن مطر أبي ريحانة من سفينة (¬3) ، ومما ينبغي التنبيه عليه أن الإمام أحمد لا يهمل القرائن القوية التي تقوي احتمال السماع كما ورد في النصين السابقين وإن كان الأصل عنده اشتراط ثبوت السماع، وذلك لأن منهج أئمة المحدثين قائم على القرائن نفيًا وإثباتًا في كثير من المسائل، ومنها هذه المسألة. 7- عمرو بن علي الفلاس. قال: (لم يسمع سعيد بن أبي عروبة من يحيى بن سعيد الأنصاري، ولا من عبيد الله بن عمر، ولا من حماد بن أبي سليمان، ولا من عمرو بن دينار، ولا من أبي بشر جعفر بن أبي وحشية، ولا من أبي حصين، ولا من إسماعيل بن أبي خالد، وكنت أخاف أن لا يكون سمع من عاصم بن بهدلة حتى سمعت يحيى - القطان - يقول: ثنا سعيد بن أبي عروبة ثنا عاصم بن بهدلة عن زر عن علي) (¬4) . فلولا أنه وقف على السماع وإلا لقال لم يسمع سعيد من عاصم، فلم ينظر ¬

(¬1) شرح علل الترمذي (1/364) . (¬2) شرح علل الترمذي (1/375) . (¬3) التاريخ الكبير (5/198) . (¬4) المراسيل لابن أبي حاتم (ص69-70) .

للمعاصرة وإمكان اللقي وإنما لثبوت السماع. وقال الفلاس في شأن ميمون بن أبي شبيب: (كان يحدث عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس عندنا في شيء منه يقول: سمعت، ولم أخبر أن أحدًا يزعم أنه سمع من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬1) . وسئل الفلاس: (القاسم بن عبد الرحمن لقي أحدًا من الصحابة؟ قال: لا) (¬2) . والقاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال عنه الذهبي: (ولد في صدر خلافة معاوية) (¬3) فيمكنه أن يلقى عددًا من الصحابة، وقد قال علي بن المديني: (لم يلق من الصحابة غير جابر بن سمرة قيل له: فلقي ابن عمر. قال: كان يحدث عن ابن عمر بحديثين، ولم يسمع منه شيئًا) (¬4) ، فقول الفلاس كقول علي بن المديني إلا في جابر بن سمرة، وهذا مما يدل على أن رأي الفلاس هو اشتراط اللقاء أو السماع في السند المعنعن. 8- أبوزرعة الرازي. قال الحافظ ابن رجب: (وما قاله ابن المديني، والبخاري هو مقتضى كلام أحمد، وأبي زرعة، وأبي حاتم، وغيرهم من أعيان الحفاظ) (¬5) . ونقل ابن رجب: (وقال أبوزرعة في أبي أمامة بن سهل بن حنيف: "لم يسمع من عمر". هذا مع أن أبا أمامة رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬6) . ¬

(¬1) الترغيب والترهيب للمنذري (3/529) ، وتهذيب التهذيب (10/389) . (¬2) المراسيل (ص142) . (¬3) سير أعلام النبلاء (5/196) . (¬4) تهذيب التهذيب (8/321) . (¬5) شرح علل الترمذي (1/365) . (¬6) شرح علل الترمذي (1/367) . وانظر المراسيل لابن أبي حاتم (ص197) .

وقال أبوزرعة: (عمرو بن شرحبيل أبوميسرة عن عمر مرسل) (¬1) . وعمرو بن شرحبيل أدرك الجاهلية (¬2) ، وقد أثبت البخاري سماعه من عمر بن الخطاب رضي الله عنه (¬3) ، فدل هذا على أن أبا زرعة حكم على هذا السند بعدم الاتصال لأنه لم يثبت عنده سماع عمرو بن شرحبيل من عمر، وقد قال الشيخ أحمد شاكر - وهو ممن يختار مذهب مسلم في الاكتفاء بالمعاصرة -: (وقول أبي زرعة: أن أبا ميسرة لم يسمع من عمر، لا أجد له وجهًا، فإن أبا ميسرة لم يذكر بتدليس، وهو تابعي قديم مخضرم، مات سنة 63هـ) (¬4) . وقال أبوزرعة: (عكرمة عن علي مرسل) (¬5) ، ولاشك في معاصرة عكرمة لعلي رضي الله عنه، حتى أن الشيخ أحمد شاكر قال رادًا على أبي زرعة: (وهذا قول هو دعوى، والعبرة في صحة الرواية بعد الثقة والضبط بالمعاصرة، وعكرمة أهداه سيده حصين بن أبي الحر العنبري لابن عباس حين ولاه علي البصرة، وعلي أمر ابن عباس على البصرة سنة 36هـ كما في تاريخ الطبري 5: 224، فقد عاصر عكرمة عليًا أربع سنين أو أكثر مملوكًا لابن عباس ابن عم علي، ثم قد كان يافعًا إذ ذاك، فإنه مات على الراجح سنة 105هـ عن 80سنة كما قالت ابنته، فكان عمره حين مقتل علي 15سنة) (¬6) . ويفهم من نقد الشيخ أحمد شاكر أن أبا زرعة ليس ممن يكتفي بالمعاصرة، ورأيه ومذهبه هو اشتراط السماع لأنه إنما حكم على رواية عكرمة عن علي بالإرسال لعدم وجود السماع - فيما ظهر لي -، ونبه الحافظ ابن رجب إلى أن كلام أبي زرعة يدل على: (أن الاتصال لا يثبت إلا بثبوت التصريح بالسماع، وهذا ¬

(¬1) المراسيل (ص120) . (¬2) انظر الإصابة (3/114) . (¬3) انظر التاريخ الكبير (6/341) . (¬4) مسند الإمام أحمد بتحقيق أحمد شاكر (1/317) . (¬5) المراسيل لابن أبي حاتم (ص131) . (¬6) المسند للإمام أحمد بتحقيق أحمد شاكر (2/97) .

أضيق من قول ابن المديني والبخاري، فإن المحكي عنهما: أنه يعتبر أحد أمرين: إما السماع وإما اللقاء) (¬1) . وقال ابن رجب: (وكلام أحمد، وأبي زرعة، وأبي حاتم، في هذا المعنى كثير جدًا، وكله يدور على أن مجرد ثبوت الرؤية لا يكفي في ثبوت السماع، وأن السماع لا يثبت بدون التصريح به) (¬2) . 9- محمد بن عوف بن سفيان الطائي الحمصي. أحد الأئمة قال فيه ابن عدي: (هو عالم بحديث الشام صحيحًا وضعيفًا) (¬3) ، وقال الذهبي: (أثنى طائفة من الكبار على ابن عوف، ووصفوه بالحفظ والعلم والتبحر) (¬4) . سئل محمد بن عوف: (هل سمع شريح بن عبيد من أبي الدرداء؟. فقال: لا. فقيل له: فسمع من أحد أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: ما أظن ذلك، وذلك أنه لا يقول في شيء سمعت وهو ثقة) (¬5) . والملاحظ هنا أن محمد بن عوف علل حكمه بعدم سماع شريح في رواياته عن الصحابة بعدم ورود لفظ "سمعت". وقد نص البخاري على أن شريحًا سمع معاوية بن أبي سفيان (¬6) ، ومقتضى ذلك أن يكون قد عاصر جمعًا من الصحابة الذين روى عنهم، وتكلم محمد بن عوف في سماعه منهم مثل أبي أمامة، والمقدام بن معدي كرب، وغيرهما (¬7) . 10- أبوحاتم الرازي. ذكره العلائي فيمن يشترط اللقاء مع وجود ¬

(¬1) شرح علل الترمذي (1/367) . (¬2) شرح علل الترمذي (1/371-372) . (¬3) تهذيب التهذيب (9/384) . (¬4) سير أعلام النبلاء (12/615) . (¬5) تاريخ دمشق لابن عساكر (8/63) . (¬6) التاريخ الكبير (4/230) . (¬7) انظر المراسيل لابن أبي حاتم (ص78) ، وتهذيب التهذيب (4/328) .

المعاصرة فقال: (على اختيار ابن المديني، والبخاري، أبي حاتم الرازي، وغيرهم من الأئمة) (¬1) . قال ابن رجب: (وما قاله ابن المديني، والبخاري هو مقتضى كلام أحمد، وأبي زرعة، وأبي حاتم، وغيرهم من أعيان الحفاظ. بل كلامهم يدل على اشتراط ثبوت السماع - كما تقدم عن الشافعي رضي الله عنه-، فإنهم قالوا في جماعة من الأعيان ثبتت لهم الرؤية لبعض الصحابة، وقالوا مع ذلك: لم يثبت لهم السماع منهم، فرواياتهم عنهم مرسلة. منهم الأعمش، ويحيى بن أبي كثير، وأيوب، وابن عون، وقرة بن خالد، رأوا أنسًا ولم يسمعوا منه، فرواياتهم عنه مرسلة. كذا قاله أبوحاتم: وقاله أبوزرعة أيضًا في يحيى بن أبي كثير (¬2) ، ولم يجعلوا روايته عنه متصلة بمجرد الرؤية، والرؤية أبلغ من إمكان اللقي) (¬3) . ونقل الحافظ ابن رجب بعض النصوص عن أب حاتم الرازي فيها دلالة على اشتراطه للسماع، من ذلك. (وقال أبوحاتم الرازي أيضًا: "الزهري لا يصح سماعه من ابن عمر، رآه ولم يسمع منه، ورأى عبد الله بن جعفر ولم يسمع منه (¬4) . وأثبت أيضًا دخول مكحول على وائلة بن الأسقع، ورؤيته له ومشافهته، وأنكر سماعه منه، وقال: "لم يصح له منه سماع"، وجعل روايته عنه مرسلة (¬5)) (¬6) . (وقال أبوحاتم: "الزهري أدرك أبان بن عثمان، ومن هو أكبر منه، ولكن لا يثبت له السماع، كما أن حبيب بن أبي ثابت لا يثبت السماع من عروة، وقد سمع ¬

(¬1) جامع التحصيل (ص125) . (¬2) انظر المراسيل لابن أبي حاتم (ص187) . (¬3) شرح علل الترمذي (1/365-366) بتصرف يسير. (¬4) المراسيل لابن أبي حاتم (ص154) ، والعبارة التي نقلها ابن رجب أتم مما في المطبوع من المراسيل. (¬5) المراسيل لابن أبي حاتم (ص166) . (¬6) شرح علل الترمذي (1/367) .

ممن هو أكبر منه، غير أن أهل الحديث قد اتفقوا على ذلك، واتفاقهم على شيء يكون حجة" (¬1)) (¬2) . (وقال أبوحاتم في رواية ابن سيرين عن أبي الدرداء: "قد أدركه، ولا أظنه سمع منه، ذاك بالشام، وهذا بالبصرة" (¬3)) (¬4) . وقد وقفت على نصوص كثيرة لأبي حاتم يظهر منه وبجلاء أنه يشترط السماع كما قال العلائي، وابن رجب، وسأذكر منها أوضحها وأقواها مما لا يحتاج إلى تعليق، فمن ذلك: قوله: (حصين بن جندب أبوظبيان قد أدرك ابن مسعود، ولا أظنه سمع منه) (¬5) ، (والذي يثبت له: ابن عباس وجرير بن عبد الله، ولا يثبت له سماع من علي) . وسأله ابنه: (خالد بن معدان عن أبي هريرة متصل؟ فقال: قد أدرك أبا هريرة، ولا يذكر سماعًا) (¬6) . وسأله ابنه: (أبووائل مع من أبي الدرداء؟ قال: أدركه، ولا يحكي سماع شيء أبوالدرداء كان بالشام، وأبووائل كان بالكوفة. قلت: كان يدلس؟ قال: لا، وهو كما يقول أحمد بن حنبل) (¬7) يعني يرسل ولا يدلس. وقال أبوحاتم: (طاووس لم يسمع من عثمان شيئًا، وقد أدرك - يعني زمن عثمان - لأنه قديم) (¬8) . ¬

(¬1) المراسيل لابن أبي حاتم (ص153) . (¬2) شرح علل الترمذي (1/368) . (¬3) المراسيل لابن أبي حاتم (ص151) . (¬4) شرح علل الترمذي (1/368-369) . (¬5) المراسيل لابن أبي حاتم (ص47) . (¬6) المراسيل لابن أبي حاتم (ص50) . (¬7) المراسيل لابن أبي حاتم (ص77) . (¬8) المراسيل لابن أبي حاتم (ص89) .

وقال أبوحاتم: (قد أدرك أبوقلابة النعمان بن بشير، ولا أعلمه سمع منه) (¬1) . وقال: (جماعة بالبصرة قد رأوا أنس بن مالك، ولم يسمعوا منه، منهم ابن عون) (¬2) . وقال: (مجاهد أدرك عليًا، لا يذكر رؤية ولا سماعًا) (¬3) . وقال: أبوعبد الرحمن السلمي ليس تثبت روايته عن علي. فقيل له: سمع من عثمان بن عفان؟ قال: روى عنه، لا يذكر سماعًا) (¬4) . وقال: (أبوعقيل زهرة بن معبد كان مدني الأصل، سكن مصر، كان مستقيم الحديث، قد أدرك ابن عمر، فلا أدري سمع منه أم لا؟) (¬5) . 11- أبوزرعة الدمشقي. قال: (وأنكر بعض أهل العلم (¬6) أن يكون ابن شهاب سمع من أبان بن عثمان. فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن إبراهيم - دحيم - فلم ينكر لقاءه. وقال لي: عمر بن عبد العزيز ولى أبان بن عثمان بن عفان على المدينة، والزهري في صحابة عمر بن عبد العزيز بالمدينة. حدثنا أبوزرعة قال: فحدثني آدم قال: تحدثنا ابن أبي ذئب عن الزهري قال: قال رجل لعمر بن عبد العزيز: طلقت امرأتي، وأنا سكران. ¬

(¬1) المراسيل لابن أبي حاتم (ص96) . (¬2) المراسيل لابن أبي حاتم (ص99) . (¬3) المراسيل لابن أبي حاتم (ص162) . (¬4) المراسيل لابن أبي حاتم (ص94) . (¬5) المراسيل لابن أبي حاتم (ص60) . (¬6) انظر المراسيل لابن أبي حاتم (ص152، 153) فقد ذكر قول أحمد: "ما أراه سمع منه"، وقول أبي حاتم: "لم أختلف أنا، وأبوزرعة، وجماعة من أصحابنا أن الزهري لم يسمع من أبان بن عثمان شيئًا، وكيف يسمع من أبان ويقول: "بلغني عن أبان" قيل: فإن محمد بن يحيى النيسابوري كان يقول: قد سمع. قال: "محمد بن يحيى كان بابه السلامة". أي أن محمد بن يحيى عنده تساهل بسبب حسن ظنه وعدم يقظته في مثل هذه الأمور كما هو حال المتقنين من علماء العلل.

قال الزهري: فكان رأي عمر بن عبد العزيز مع رأينا أن يجلده، ويفرق بينه وبين امرأته حتى حدثه أبان بن عثمان بن عفان [عن أبيه] : ليس على المجنون ولا السكران طلاق. فقال عمر: تأمروني، وهذا يحدثني عن عثمان بن عفان؟ ‍فجلده، ورد إليه امرأته. قال أبوزرعة: فهذه مشاهدة وسماع صحيح. ثم نظرنا فوجدنا أمثال ابن شهاب قد سمع من أبان بن عثمان، وسمع منه من هو دونه في السن) (¬1) . ثم ساق بعض مرويات المحدثين عن أبان ممن هم أمثال ابن شهاب أو من دون منه في السن ثم بعد ذلك قال: (فكل هذا دليل على صحة حديث ابن أبي ذئب، وقد قلت لعبد الرحمن بن أبي إبراهيم: أتستوحش من حديث ابن أبي ذئب، وسماع الزهري من أبان بن عثمان؟ قال: لا) . نلاحظ أنه مع تيقن أبي زرعة الدمشقي بأن الزهري معاصر لأبان بن عثمان إلا أنه لم يجزم بالسماع إلا بعد أن استشف من نص ثابت أن الزهري التقى أبان بن عثمان، ولكن لما خشي من أن يكون هناك احتمال خطأ في رواية ابن أبي ذئب عن الزهري التي اعتمدها قواها بقارئن وهي سماع أقران الزهري في العمر من أبان، وسماع من هم أصغر من الزهري من أبان بن عثمان كذلك. ويستنبط من هذا النص أن أبا زرعة الدمشقي يعتمد على القرينة الظاهرة، فإن النص الذي احتج به أبوزرعة ليس فيه ثبوت سماع الزهري من أبان بصراحة، ولكن يفهم منه أنه حضر ذلك المجلس وسمع كلام أبان. 12- أبوبكر أحمد بن عمرو البزار. قال: (ولا نعلم سمع محمود بن لبيد من عثمان، وإن كان قديمًا) (¬2) . ومحمود بن لبيد ولد على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، واختلف العلماء هل له صحبة أم لا؟ ¬

(¬1) تاريخ أبي زرعة الدمشقي (1/508-510) . (¬2) مسند البزار (2/38/ [384] ) .

وأثبت بعضهم له الرؤية ولم يثبت له الصحبة (¬1) . ومعاصرته لعثمان محل يقين كما أنه مع عثمان رضي الله عنه في المدينة، ورغم ذلك كله اشترط أبوبكر البزار السماع، وفي هذا دليل على أن رأيه اشتراط السماع في السند المعنعن، وعدم الاكتفاء بالمعاصرة. وفي نص آخر قال البزار (وعطاء بن فروخ رجل من أهل البصرة حدث عنه يونس بن عبيد، وعلي بن زيد، ولا نعلمه سمع من عثمان) (¬2) . ويدل هذا النص على أن البزار يبحث عن السماع لا عن المعاصرة، وقد وافلق البزار هنا ما قاله علي بن المديني في عثمان بن فروخ إذ قال: (لم يلق عثمان رضي الله عنه) (¬3) . وقد صحح الشيخ أحمد شاكر حديث عطاء عن عثمان، ورد كلام ابن المديني بقوله: (ولم أجد ما يؤيد هذا) (¬4) . وفي نص آخر قال البزار: (روى مكحول عن جماعة من الصحابة عن عبادة، وأم الدرداء، وحذيفة، وأبي هريرة، ولم يسمع منهم، وإنما أرسل عنهم، ولم يقل في حديث عنهم حدثنا) (¬5) . وفي هذا النص كذلك أوضح البزار أنه عد حديث مكحول عن هؤلاء الصحابة غير متصل لأنه لم يجد سماعه منهم. وفي نص آخر قال البزار: (ولا نعلم روى عطاء بن يسار عن عبد الله غير هذا الحديث، ولا نعلمه سمع منه وإن كان قديمًا) (¬6) . ¬

(¬1) انظر المراسيل لابن أبي حاتم (ص159) ، وجامع التحصيل للعلائي (ص275) ، وللاستزادة ينظر كتاب الإصابة في تمييز الصحابة (3/387) ، وتهذيب التهذيب (10/33-34) . (¬2) مسند البزار (2/48/ [392] ) . (¬3) تهذيب التهذيب (7/210) . (¬4) المسند للإمام أحمد. تحقيق أحمد شاكر (ص1/335) . (¬5) تهذيب التهذيب (10/292) . (¬6) مسند البزار (5/281/ [1896] ) .

وكما يلاحظ هنا فإن البزار يعلم بوجود المعاصرة وإمكان اللقي، ولكنه لا يكتفي بذلك بل يريد ثبوت السماع. 13- الدارقطني: قال: (ولا يثبت سماع سعيد من أبي الدرداء لأنهما لم يلتقيا) (¬1) . قال الحافظ ابن رجب معلقًا على قول الدارقطني هذا: (ومراده أنه لم يثبت التقاؤهما، لا أنه ثبت انتفاؤه، لأن نفيه لم يرد في رواية قط) (¬2) . والملاحظ في نص الدارقطني أنه حكم على السند بعدم الاتصال لعدم ثبوت لقاء سعيد بن المسيب أبا الدرداء، والمعاصرة موجودة، لأن سعيد بن المسيب ولد في خلافة عمر رضي الله عنه، واختلف في سماعه من عمر - كما تقدم ذلك -، وأما أبوالدرداء فمات في أواخر خلافة عثمان رضي الله عنه، وقيل: عاش بعد ذلك (¬3) . وقال الدارقطني: (أبورافع لم يثبت سماعه من ابن مسعود) (¬4) . وأبورافع هو نفيع الصائغ. قال ابن دقيق العيد: (وقول الدارقطني: وأبورافع لم يثبت سماعه من ابن مسعود لا ينبغي أن يفهم منه أنه لا يمكن إدراكه وسماعه منه، فإن أبا رافع جاهلي إسلامي ... الهم إلا أن يكون الدارقطني يشترط في الاتصال ثبوت السماع ولو مرة، وقد أطنب مسلم في الكلام على هذا المذهب) (¬5) . والظاهر من تصرف الدارقطني أنه يرى ذلك. وفي نص آخر قال الدارقطني: (محمد بن جبير لا يثبت سماعه من عثمان، فيكون حديثه هذا مرسلاً) (¬6) . ¬

(¬1) العلل للدارقطني (6/204) . (¬2) شرح علل الترمذي (1/369) . (¬3) التقريب (ص434) . (¬4) سنن الدارقطني (1/77) ، والعلل للدارقطني (5/246) . (¬5) نصب الراية للزيلعي (1/141-142) . (¬6) العلل للدارقطني (1/174) .

وقد قال يعقوب بن شيبة في محمد بن جبير بن مطعم، وأخيه نافع: (وهما ممن يعدان في الطبقة الثانية ممن أدرك عثمان، وعليًا، وزيد بن ثابت) (¬1) . وفي نص آخر قال الدارقطني: (هذه كلها مراسيل، ابن بريدة لم يسمع من عائشة شيئًا) (¬2) . وعبد الله بن بريدة ولد سنة خمس عشرة (¬3) ، فيكون أدرك من حياة أم المؤمنين عائشة أكثر من أربعين سنة، وهو ليس بمدلس، ولم يدخل بينه وبين عائشة واسطة فيما رواه عنها حسب علمي، وفي هذا النص دلالة على أن الدارقطني يشترط في الاتصال ثبوت السماع. وقال الدارقطني: (قبيصة لم يسمع من عمرو) (¬4) . يعني أن قبيصة بن ذؤيب لم يثبت سماعه من عمرو بن العاص، وقبيصة ذكر عدد من كبار الحفاظ أنه مولود في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5) ، وأما عمرو بن العاص رضي الله عنه فقد مات بعد الأربعين وقيل مات بعد الخمسين (¬6) ، ولم يذكر قبيصة بتدليس، ولم أر في شيء من حديثه عن عمرو بن العاص أنه أدخل واسطة، وهذا النص يدل على أن الدارقطني يشترط للاتصال ثبوت السماع كما هو ظاهر. وقال الدارقطني في زر بن حبيش: (لم يلق أنس بن مالك، ولا يصح له عنه رواية) (¬7) . قال العلائي: (هذا عجيب فإنه تابعي كبير أدرك الجاهلية، وروى عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وكبار الصحابة رضي الله عنهم. وهذا الكلام عن ¬

(¬1) تاريخ دمشق لابن عساكر (15/157) . (¬2) السنن للدارقطني (3/233) . (¬3) تهذيب التهذيب (5/157-158) . (¬4) السنن للدارقطني (3/309، 310) . (¬5) انظر تهذيب التهذيب (8/346-347) ، والتقريب (ص453) . (¬6) التقريب (ص423) . (¬7) جامع التحصيل (ص177) .

الدارقطني نقلته من خط الحافظ ضياء الدين (¬1)) (¬2) . 14- البيهقي. قال الدكتور نجم خلف: (إن اشتراط ثبوت السماع أو اللقاء في الجملة لمن استعمل صيغة العنعنة في الرواية - وهو مذهب علي بن المديني والبخاري وكثير من المحدثين - هو الذي اختاره البيهقي. على اعتباره أنه "ارجح المذاهب وأوسطها، وقد سجل ابن التركماني صاحب كتاب "الجوهر النقي" على البيهقي اعتراضات ومناقشات بسبب اختياره لهذا المذهب، وانتصاره له. ومن المواضع التي اعترض فيها ابن التركماني على البيهقي. قول البيهقي: "علي بن رباح لم يثبت سماعه من ابن مسعود". قال ابن التركماني معقبًا على البيهقي: "قدمنا أن مسلمًا أنكر في ثبوت الاتصال اشتراط السماع وادعى اتفاق أهل العلم على أنه يكفي إمكان اللقاء والسماع، وعلى هذا ولد سنة خمس عشرة، كذا ذكره أبوسعيد بن يونس فسماعه من ابن مسعود ممكن بلاشك، لأن ابن مسعود توفي سنة اثنتين وثلاثين، وقيل سنة ثلاث وثلاثين" (¬3)) (¬4) . ومن النصوص المؤكدة لذلك مما قاله البيهقي: قوله: (هذا مرسل ابن بريدة لم يسمع من عائشة) (¬5) . وقد سبق قبل قليل ببيان دلالة ذلك على المطلوب في كلامنا عن الدارقطني، وقد تعقب ابن التركماني البيهقي هنا بأن المعاصرة ثابتة. وكذلك قول البيهقي: (لم يثبت سماع عبد الله من أسماء، وقد قيل فيه "عن" أسماء فهو مرسل) (¬6) . يعني عبد الله بن شداد بن الهاد عن أسماء بنت عميس، وأسماء خالته ¬

(¬1) هو الضياء المقدسي صاحب كتاب المختارة. (¬2) السنن الكبرى للبيهقي، ومعه "الجوهر النقي" لابن التركماني (1/109-110) . (¬3) السنن الكبرى للبيهقي، ومعه "الجوهر النقي" لابن التركماني (1/109-110) . (¬4) علوم الإسناد من السنن الكبرى (ص23) . بتصرف. (¬5) السنن الكبرى (7/118) . (¬6) السنن الكبرى (7/438) .

أخت أمه (¬1) ، وقد ماتت بعد علي رضي الله عنه (¬2) ، وعبد الله بن شداد ذكر بعض العلماء أنه ولد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3) ، وأثبت البخاري سماعه من عمر بن الخطاب رضي الله عنه (¬4) . فاحتمال سماعه منها قوي جدًا، ورغم ذلك ضعف البيهقي هذا السند لأنه يشترط للاتصال ثبوت السماع، وتعقبه ابن التركماني لذلك. وقال البيهقي: (هو منقطع بين عمرو بن دينار وأبي هريرة) (¬5) . وتعقبه ابن التركماني بقوله: (ولد عمرو سنة ست وأربعين فسماعه منه ممكن) . وقد وجدت البيهقي ينقل أقوال البخاري في عدم وجود السماع ويقرها، ولا يتعقبه بما يدل على رضاه واختياره لمذهبه في اشتراط السماع أو اللقاء (¬6) . 15- ابن الصلاح. قال: (والذي صار إليه مسلم هو المستنكر، وما أنكره قد قيل: إنه القول الذي عليه أئمة هذا العلم، علي بن المديني والبخاري، وغيرهما) (¬7) . وقال: (وفيما قاله مسلم نظر، وقد قيل: إن القول الذي رده مسلم هو الذي عليه أئمة هذا العلم: علي بن المديني، والبخاري، وغيرهما) (¬8) . 16- المنذري. قال: (أبوأيوب ثقة، وما أراه سمع عبد الله) (¬9) . ¬

(¬1) انظر تهذيب التهذيب (5/251) . (¬2) التقريب (ص743) . (¬3) انظر تهذيب التهذيب (5/252) . (¬4) التاريخ الكبير (5/115) . (¬5) السنن الكبرى (6/40) . (¬6) انظر على سبيل المثال السنن الكبرى (1/378) ، (1/289) ، (1/121) ، (1/43) ، (3/248) والقراءة خلف الإمام للبيهقي (ص211) . (¬7) صيانة صحيح مسلم (ص128) . (¬8) علوم الحديث (ص60) . (¬9) الترغيب والترهيب (1/282) .

وقد احتج مسلم في صحيحه (¬1) بحديث أبي أيوب يحيى بن مالك الأزدي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. وألمح البخاري في الكنى (¬2) إلى عدم وجود سماع أبي أيوب من عبد الله بن عمرو بقوله: (أبوأيوب الأزدي العتكي "عن" عبد الله بن عمرو) . وقال المنذري: (أبووائل أدرك معاذًا بالسن، وفي سماعه عندي نظر، وكان أبووائل بالكوفة، ومعاذًا بالشام) (¬3) . والمنذري رغم علمه بالمعاصرة وتأكده من سلامة أبي وائل من التدليس إلا أنه لم يحكم على حديثه عن معاذ بالاتصال، وقد يكون المنذري توقف في الاتصال بسبب اختلاف البلاد فأبووائل كوفي، ومعاذ رضي الله عنه شامي، ولكن مذهب مسلم - كما سيأتي بيانه - لا يطلب إلا إمكان اللقي مع ثبوت المعاصرة ولقاء أبي وائل ومعاذ محتمل لا يمكن دفعه. وقد وجدت المنذري في عدة مواطن يحتج بأقوال البخاري الذي ينص فيها على عدم ثبوت السماع، مما يدل على موافقته لمذهب البخاري، لاسيما وأنه لم يتعقبه في شيء منها (¬4) . 17- النووي. قال: (وهذا الذي صار إليه مسلم قد أنكره المحققون، وقالوا: هذا الذي صار إليه ضعيف، والذي رده هو المختار الصحيح الذي عليه أئمة هذا الفن علي بن المديني، والبخاري وغيرهما) (¬5) . ثم قال: (ودليل هذا المذهب المختار الذي ذهب إليه ابن المديني والبخاري، وموافقوهما) . وقال أيضًا: (ومنهم من اشترط ثبوت اللقاء وهو مذهب علي بن المديني ¬

(¬1) صحيح مسلم حديث (1/426-428) . (¬2) الكنى للبخاري (ص85) . (¬3) الترغيب والترهيب (3/529) . (¬4) انظر مثلاً الترغيب والترهيب (الطبعة المنيرية) : (1/100) ، (1/119) ، (2/16) ، (2/74) ، (3/37) ، (3/201) . (¬5) شرح صحيح مسلم للنووي (1/128) .

والبخاري وأبي بكر الصيرفي الشافعي والمحققين، وهو الأصح) (¬1) . 18- أبوعبد الله محمد بن عمر الفهري المعروف بابن رشيد. قال مادحًا كتابه الذي انتصر فيه للبخاري: (لو عرض ذلك على الإمام أبي الحسين (¬2) - يرحمه الله - ووقف على النقض الوارد عليه من كلامه، والنقص المعوذ لكماله، لم يسعه إلا الإقرار به والإذعان له) (¬3) . وقال بعد أن ذكر مذهب ابن المديني والبخاري في اشتراط ثبوت السماع أو اللقاء: (وهذا هو الصحيح من مذاهب المحدثين، وهو الذي يعضده النظر. فلا يحمل منه على الاتصال إلا ما كان بين متعاصرين يعلم أنهما قد التقيا من دهرهما مرة فصاعدًا. وما لم يعرف ذلك فلا تقوم الحجة منه إلا بما شهد له لفظ السماع أو التحديث أو ما أشبههما من الألفاظ الصريحة إذا أخبر بها العدل عن العدل) (¬4) . وقد ذكر ابن رشيد أنه كان قديمًا يرى رأي مسلم في الاكتفاء بالمعاصرة. قال: (وقد كنت أرى قديمًا - إبان كنت مقلدًا لك في دعوى الإجماع في أن "عن" محمولة على الاتصال ممن ثبتت معاصرته لمن روى عنه -000) (¬5) . وقد تصدى ابن رشيد لنقض أدلة مسلم، وأطال النفس في ردها، وبيان أخطائها وانتصر لمذهب البخاري انتصارًا ظاهرًا، وكل ذلك بقوة أسلوب، ونزاهة في اللفظ، ووضوح في الحجة، وسلامة في البراهين، وسنذكر ردوده على مسلم - إن شاء الله - في الباب القادم. 19- الذهبي. قال: (ثم إن مسلمًا لحدة في خلقه، انحرف أيضًا عن البخاري، ولم يذكر له حديثًا، ولا سماه في "صحيحه"، بل افتتح الكتاب بالحط على من اشترط اللقي لمن روى عنه بصيغة "عن"، وادعى الإجماع في أن ¬

(¬1) شرح النووي لصحيح البخاري (ص12) . (¬2) هو الإمام مسلم بن الحجاج وكنيته أبوالحسين. (¬3) السنن الأبين (ص5) . (¬4) السنن الأبين (ص32) . (¬5) السنن الأبين (ص105) .

المعاصرة كافية، ولا يتوقف في ذلك على العلم بالتقائهما، ووبخ من اشترط ذلك. وإنما يقول ذلك أبوعبد الله البخاري، وشيخه علي بن المديني، وهو الأصوب الأقوى. وليس هذا موضع بسط هذه المسألة) (¬1) . 20- العلائي. قال في اشتراط ثبوت اللقاء: (اختيار ابن المديني، والبخاري، وأبي حاتم الرازي، وغيرهم من الأئمة، وهو الراجح كما تقدم دون القول الآخر الذي ذهب إليه مسلم، وغيره من الاكتفاء بالمعاصرة المجردة، وإمكان اللقاء) (¬2) . وقال: (وهذا هو الذي عليه رأي الحذاق كابن المديني، والإمام البخاري، وأكثر الأئمة) (¬3) . 21- ابن رجب. قال: (وما قاله ابن المديني، والبخاري، هو مقتضى كلام أحمد، وأبي زرعة، وأبي حاتم، وغيرهم من أعيان الحفاظ) (¬4) . وقال: (فإذا كان هذا هو قول هؤلاء الأئمة الأعلام، وهو أعلم أهل زمانهم بالحديث وعلله وصحيحه وسقيمه، ومع موافقة البخاري، وغيره، فكيف يصح لمسلم رحمه الله دعوى الإجماع على خلاف قولهم. بل اتفاق هؤلاء الأئمة على قولهم هذا يقتضي حكاية إجماع الحفاظ المعتد بهم على هذا القول، وأن القول بخلاف قولهم لا يعرف عن أحد من نظرائهم، ولا عمن قبلهم ممن هو في درجتهم وحفظهم) (¬5) . وقال: (وقد ذكرنا من قبل أن كلام الشافعي إنما يدل على مثل هذا القول لا على خلافه، وكذلك حكاية ابن عبد البر عن العلماء، فلا يبعد حينئذ أن يقال: هذا هو قول الأئمة من المحدثين والفقهاء) (¬6) . ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (12/573) . (¬2) جامع التحصيل (ص125) . (¬3) جامع التحصيل (ص116) . (¬4) شرح علل الترمذي (1/365) . (¬5) شرح علل الترمذي (1/372) . (¬6) شرح علل الترمذي (1/373) .

وقد رد أدلة مسلم ناصرًا القول باشتراط السماع أو اللقاء. 22- ابن حجر العسقلاني. قال رادًا على الإمام مسلم: (وزعم أن الذي اشترط اللقي اخترع شيئًا لم يوافقه عليه أحد، وليس كذلك بل هو المتعين) (¬1) . وقال: (وعنعنة المعاصر محمولة على السماع إلا من المدلس، وقيل: يشترط ثبوت لقائهما ولو مرة، وهو المختار) (¬2) . أي والقول باشتراط اللقاء هو المختار الراجح. وقال: (ومما يرجح به كتاب البخاري اشتراط اللقي في الإسناد المعنعن، وهو مذهب علي بن المديني شيخه، وعليه العمل من المحققين من أهل الحديث) (¬3) . وبعد أن ذكر السبب الذي جعل البخاري يشترط اللقاء وهو تجويز أهل ذلك العصر للإرسال. قال: (فتبين رجحان مذهبه) (¬4) . وقد ورد على أدلة مسلم بما يفهم منه انتصاره لمذهب البخاري (¬5) . هذا ما تيسر لي الوقوف عليه ممن أيد القول باشتراط السماع أو اللقاء في السند المعنعن، من القدماء ممن عرفوا بالعلم والإمامة، وأما المعاصرون فلا تكاد تجد - فيما أعلم - من أعلام المشتغلين بالحديث في هذا العصر ممن لهم تصانيف مشهورة من يقول باشتراط اللقاء أو السماع كما هو مذهب البخاري. ¬

(¬1) تغليق التعليق (5/427) . (¬2) نخبة الفكر (ص64) . (¬3) تغليق التعليق (5/427) . (¬4) النكت على كتاب ابن الصلاح (2/596-598) . (¬5) النكت على كتاب ابن الصلاح (2/596-598) .

الفصل السابع المأخذ على الإمام البخاري في هذه المسألة

الفصل السابع المأخذ على الإمام البخاري في هذه المسألة وجه مسلم - رحمه الله - إلى من قال باشتراط اللقاء لاتصال السند المعنعن عدة انتقادات ومؤاخذات، لن نعرض لها لأن محلها في الفصل الثالث من الباب الثالث الآتي - إن شاء الله - المتعلق بمناقشة أدلة الإمام مسلم. وسأذكر هنا ما لم يذكره مسلم من مؤاخذات على مذهب البخاري في السند المعنعن، وهي مؤاخذتان: الأولى: ما ذكره الصنعاني في قوله: (على أن من شرطه اللقاء، ولو مرة واحدة بحثًا، وهو أنه قد يكثر الشخص الحديث عمن لاقاه بحيث يعلم يقينًا أنه لا يتسع لأخذه عنه تلك الأحاديث في الموقف الذي انحصر فيه اللقاء، فلابد من تقييد ذلك بزيادة أن يتسع زمان اللقاء لكل ما عنه روى) (¬1) . وبنى على ذلك هذا الإلزام: (وإذ قد قبل البخاري عنعنة من ثبت له اللقاء ولو مرة مع احتمال أن بعض ما رواه لم يسمعه، فقد حمله على السماع مع الاحتمال، فليجزه مع احتمال الإرسال - مع أنه احتمال بعيد-، واحتمال عدم لسماع أقرب فيما يرويه السامع، ويكثر في روايته مع حقارة في زمن اللقاء) (¬2) . وفيما قال الصنعاني نظر من وجهين: 1- ... المقدمة التي بنى عليها حكمه في أن "احتمال عدم السماع أقرب فيما يرويه السامع ويكثر في روايته مع حقارة زمن اللقاء" لا يسلم له بها، وهي أن البخاري أخذ وحكم باتصال أحاديث معنعنة كثيرة يرويها راو لم يثبت له إلا اللقي ¬

(¬1) توضيح الأفكار (1/43) . (¬2) توضيح الأفكار (1/334) بتصرف يسير.

مرة واحدة لمن حدثه بتلك الأحاديث، ولا يتسع زمن اللقاء لسماع كل تلك الأحاديث. هذه المقدمة فيها نظر لأنها مبنية على افتراض نادر الوقوع جدًا، ولم يأت الصنعاني بمثال واحد بدعم كلامه على أن ذلك حصل وحدث. نعم الاحتمال العقلي لا يدفع ذلك أن يكون موجودًا في تصحيحات البخاري، ولكن هل وقع ذلك حقًا؟ وأين وقع؟ وكم مرة حدث مثل ذلك؟، وقد بذلت جهدي على أن أجد مثالاً لذلك فما استطعت حتى الآن مما يؤكد لي أن ما ذكره الصنعاني إن كان موجودًا فهو نادر جدًا، والنادر لا حكم له، ثم إن الاكتفاء بثبوت اللقاء ولو بمرة واحدة لا يعني أن كل اللقاءات يستدل على ثبوتها بمرة بل كثير من اللقاءات لا يعلم كم استغرق زمنها لأنها ثبتت من طريق التصريح بالسماع في السند فكثيرًا ما يكون الدليل على وقوع اللقاء عدة نصوص يجيء فيها إثبات السماع والتحديث وذلك إذا صح يتضمن ثبوت اللقاء ولا ريب، ولا ندري كم استغرق وقت اللقاء على وجه الدقة!. 2- بنى الصنعاني على كلامه السابق نتيجة ألزم بها البخاري. قال: (وإذ قد قبل البخاري عنعنة من ثبت له اللقاء، ولو مرة مع احتمال أن بعض ما رواه لم يسمعه فقد حمله على السماع مع الاحتمال، فليجزه مع احتمال الإرسال - مع أنه احتمال بعيد-، واحتمال عدم السماع أقرب فيما يرويه السامع ويكثر في روايته مع حقارة زمن اللقاء) (¬1) . لدينا احتمالان - كما يظهر من كلام الصنعاني -: الأول: قال به مسلم معاصر يروي عمن عاصره وليس بمدلس ولم يأت ما يدل على عدم السماع، ولا يعلم يقينًا أنه ثبت اللقاء بينهما واحتمال عدم اللقاء وارد. الثاني: قال به البخاري اللقاء بين الراويين ثابت ولو بنص واحد، واحتمال ¬

(¬1) توضيح الأفكار (1/234) .

أن بعض ما ذكر وروي لم يسمعه الراوي الأول من الثاني احتمال وارد. والصنعاني يقول أن كلا الإمامين أخذ بالاحتمال، إلا أن احتمال الإرسال بين المتعاصرين بعيد، لذلك يرى أن مذهب مسلم أوجه وأقوى. وما ذكره الصنعاني غير وجيه لما يلي: 1- قول الصنعاني ملزمًا البخاري: (فقد حمله على السماع مع الاحتمال، فليجزء مع احتمال الإرسال - مع أنه احتمال بعيد-) (¬1) فيه نظر لأن الزعم بأن احتمال الإرسال بعيد لا يسلم به لأن الإرسال كان منتشرًا بين المحدثين - كما تقدم إيضاح ذلك في أدلة البخاري على مذهبه - فلا يكون احتمالاً بعيدًا بل هو احتمال قريب والشواهد الكثيرة تؤكد ذلك، والمعتنون بالتحرز من الأسانيد المنقطعة قلة من المحدثين مشهود لهم بالإمامة كشعبة ويحيى بن سعيد القطان، وليس كل المحدثين مثلهما. 2- هناك فرق بين الاحتمالين فاحتمال أن بعض ما روي لم يسمعه الراوي الأول من الثاني احتمال ضعيف ولو ثبت لكان الراوي بذلك مدلسًا لأنه حدث عمن لقي بما لم يسمعه منه، والأصل السلامة من التدليس. وأما احتمال أن يكون المعاصر لم يجتمع، ولم يسمع ممن عاصره فاحتمال وارد، والشواهد على حصول ذلك كثيرة جدًا في كتاب المراسيل لابن أبي حاتم، وجامع التحصيل للعلائي، وبهذا يتضح أن ما قاله الصنعاني ضعيف لأن احتمال عدم السماع في بعض ما يروي من صح لقيه احتمال غير قوي لأن من ثبت في حقه ذلك فهو مدلس، والمسألة تبحث خارج نطاق المدلسين. والثانية: ذكر بعض العلماء أن البخاري لديه بعض الأخطاء في إثبات سماع بعض الرواة الشاميين. قال الذهبي في ترجمة خالد بن اللجلاج العامري: (وقال البخاري: سمع من عمر، والبخاري ليس بالخبير برجال الشام، وهذه من أوهامه) (¬2) . ¬

(¬1) المرجع السابق. (¬2) تاريخ الإسلام (ص354) [حوادث 101-120هـ] .

وقال الذهبي أيضًا في ترجمة القاسم أبي عبد الرحمن الدمشقي: (وذكر البخاري في تاريخه: أنه سمع عليًا وابن مسعود فوهم) (¬1) . وقال الحافظ ابن رجب: (وقد ذكر البخاري في تاريخه أن يحيى بن أبي المطاع سمع من العرباض اعتمادًا على هذه الرواية، إلا أن حفاظ أهل الشام أنكروا ذلك وقالوا: يحيى بن أبي المطاع لم يسمع من العرباض ولم يلقه وهذه الرواية غلط، وممن ذكر ذلك أبوزرعة الدمشقي وحكاه عن دحيم، وهؤلاء أعرف بشيوخهم من غيرهم، والبخاري رحمه الله يقع له في تاريخه أوهام في أخبار أهل الشام) (¬2) . وهذه الأخطاء التي ذكرها الذهبي وابن رجب أخطاء جزئية فرعية وليست كلية منهجية، والكمال لله وحده، ولم يسلم أحد من العلماء من الخطأ. ¬

(¬1) المصدر السابق (ص450) [حوادث 101-120هـ] ، وسير أعلام النبلاء (5/194) . (¬2) جامع العلوم والحكم (ص226) .

الباب الثالث موقف الإمام مسلم

الباب الثالث موقف الإمام مسلم

الفصل الأول تحرير الإمام مسلم لمحل النزاع مع مخالفه

الفصل الأول تحرير الإمام مسلم لمحل النزاع مع مخالفه المبحث الأول: من الذي عناه مسلم بالرد عليه؟ المبحث الثاني: عرض الإمام مسلم لرأيه ورأي مخالفه. المبحث الأول من الذي عناه مسلم بالرد عليه؟ لم يصرح مسلم - رحمه الله - باسم الشخص الذي قال بعدم الاكتفاء بالمعاصرة وأنه لابد من ثبوت اللقاء في السند المعنعن ولو مرة، بل أبهم - رحمه الله - اسم ذلك الشخص مكتفيًا بقوله: (وقد تكلم بعض منتحلي الحديث من أهل عصرنا في تصحيح الأسانيد، وتسقيمها بقول لو ضربنا عن حكايته، وذكر فساده صفحًا، لكان رأيًا متينًا، ومذهبًا صحيحًا. إذ الإعراض عن القول المطرح أحرى لإمانته وإخمال ذكر قائله، وأجدر أن لا يكون ذلك تنبيهًا للجهال عليه. غير أنا لما تخوفنا من شرور العواقب واغترار الجهلة بمحدثات الأمور، وإسراعهم إلى اعتقاد خطأ المخطئين، والأقوال الساقطة عند العلماء، رأينا الكشف عن فساد قوله ورد مقالته بقدر ما يليق بها من الرد أجدى على الأنام، وأحمد للعاقبة إن شاء الله) (¬1) . وبسبب هذا الإبهام اضطربت الآراء، واختلفت الأقوال في تحديد هوية الشخص الذي رد عليه مسلم، ولكن لا تخرج الأقوال في ذلك عن ثلاثة: ¬

(¬1) مقدمة صحيح مسلم (1/28-29) .

أولاً: أن المعني بالرد هو البخاري. ثانيًا: أن المعني بالرد هو علي بن المديني. ثالثًا: احتمال أن المعني بالرد شخص غير ابن المديني والبخاري دون تحديد اسم معين. ومع الاختلاف في تحديد اسم المعني بالرد إلا أنني خلال اطلاعي على المصادر وجدت اتفاقًا بين أكثر العلماء بأن مذهب البخاري وابن المديني موافق للمذهب الذي تصدى له مسلم بالرد والتفنيد، ولم أر أحدًا أدعى أن مذهبهما في السند المعنعن مختلف عن المذهب الذي رده مسلم. إذن الاختلاف ليس في المضمون، وإنما في المعنى بالرد من يكون تحديدًا؟. وسأذكر فيما يلي آراء العلماء في تحديد شخصية الرجل الذي عناه الإمام مسلم بالرد والمناقشة، ووجه له بعض الألفاظ الشديدة. أولاً: قول من قال أن المعني بالرد هو البخاري. قال الحافظ ابن حجر: (واكتفى مسلم بمطلق المعاصرة، وألزم البخاري بأنه يحتاج إلى أن لا يقبل العنعنة أصلاً، وما ألزمه به ليس بلازم) (¬1) . وقال ابن حجر في معرض رده على أدلة الإمام مسلم: (وإنما كان ينم له النقض، والإلزام لو رأى في صحيح البخاري حديثًا معنعنًا لم يثبت لقي راويه لشيخه فيه، فكان ذلك واردًا عليه) (¬2) . ويفهم من هذين النصين أن البخاري هو المعني برد مسلم عند الحافظ ابن حجر. وقد جزم الصنعاني بأن مسلمًا أراد بنقده البخاري فقال: (واعلم أنا راجعنا مقدمة مسلم، فوجدناه تكلم في الرواية بالعنعنة، وأنه شرط فيها البخاري ملاقاة الراوي لمن عنعن عنه وأطال مسلم في رده كلامه، والتهجين عليه، ولم يصرح له ¬

(¬1) نزهة النظر شرح نخبة الفكر (ص31) . (¬2) النكت على كتاب ابن الصلاح (2/598) .

البخاري، وإنما اتفق الناظرون أنه أراده، ورد مقالته) (¬1) . والجزم بأنه البخاري هو رأي حبيب الرحمن الأعظمي - فيما نقله عنه الشيخ عبد الفتاح أبوغدة في محاورة جرت بينهما- (¬2) . وقد أشار بعض العلماء إلى أن مسلمًا قد عنى البخاري أو علي بن المديني. فقد قال الذهبي: (ثم إن مسلمًا لحدة في خلقه انحرف أيضًا عن البخاري، ولم يذكر له حديثًا، ولا سماه في صحيحه، بل افتتح الكتاب بالحط على من اشترط اللقي لمن روي عنه بصيغة "عن"، وادعى الإجماع في أن المعاصرة كافية، ولا يتوقف في ذلك على العلم بالتقائهما، ووبخ من اشترط ذلك، وإنما يقول ذلك أبوعبد الله البخاري، وشيخه علي بن المديني، وهو الأصوب الأقوى) (¬3) . وقال الشيخ المعلمي: (قيل: إنه أراد البخاري، ولا مانع من أن يريده هو، وشيخه ابن المديني فقد كان أيضًا معاصرًا له) (¬4) . ثانيًا: قول من قال أن المعني بالرد هو علي بن المديني. ذهب إلى ذلك ابن كثير فقد ذكر أن مسلمًا: (شنع في خطبته على من يشترط مع المعاصرة اللقي، حتى قيل: إنه يريد البخاري، والظاهر أنه يريد علي بن المديني، فإنه يشترط ذلك في أصل صحة الحديث، وأما البخاري فإنه لا يشترطه في أصل الصحة ولكن التزم ذلك في كتابه "الصحيح") (¬5) . وما ذكره ابن كثير من تفريق بين مذهبي ابن المديني، والبخاري، قد بينت أنه ليس بصواب وأن الحق هو أن البخاري يشترط اللقاء في أصل الصحة، ولم يجعله شرط لكتاب فقط، وللاستزادة يراجع الفصل الثالث من الباب الثاني في هذه الرسالة. وقد تابع البلقيني ابن كثير فقال: (قيل: يريد مسلم بذلك البخاري إلا أن ¬

(¬1) توضيح الأفكار (1/44) . (¬2) التتمة الثالثة الملحقة بكتاب "الموقظة" (ص135) . (¬3) سير أعلام النبلاء (12/573) . (¬4) رسالة "عمارة القبور" للشيخ المعلمي اليماني (لوحة رقم 84) . (¬5) الباعث الحثيث (ص43-44) .

البخاري لا يشترط ذلك في أصل الصحة، ولكن التزمه في "جامعه"، ولعله يريد ابن المديني فإنه يشترط ذلك في أصل الصحة) (¬1) . وذكر أن الحافظ ابن حجر رأى ذلك، فقد قال الشيخ عبد الفتاح أبوغدة: (وجزم أن المعني علي بن المديني - دون ذكر الدليل والتعليل - الحافظ ابن حجر، فقد قال تلميذه الحافظ البقاعي في "النكت الوفية على شرح الألفية" في الورقة (117) من المخطوطة في بحث المرسل: "سئل شيخنا عن الذي بحث مسلم معه: من هو؟ فقال: علي بن المديني") (¬2) . وهذا فيه بعض النظر فقد نقلت آنفًا عن ابن حجر نصين فيهما أن البخاري هو الذي وجه إليه مسلم النقد، فيحتمل أن لابن حجر قولين في ذلك، ولكن النفس تطمئن إلى ما ذكره ابن حجر بكلامه هو، وأما ما نقله البقاعي فيتطرق إليه عدة احتمالات منها احتمال الاختصار والحذف من كلام ابن حجر، ومنها احتمال أن يكون في صيغة السؤال ما يقتضي مثل هذا الجواب كأن يكون السؤال: هل الإمام مسلم عنى البخاري جزمًا؟ فيكون الجواب: ربما عنى علي بن المديني أيضًا، إلى عدة احتمالات أخرى تتطرق إلى هذا النص تجعلنا نميل إلى تقديم ما قاله ابن حجر على ما نقل عنه لاسيما وأن البقاعي ذكر في خطبة كتابه أنه كتب ما سمعه من ابن حجر بعد انقضاء الدرس فقال: (وماعدا ذلك وهو جل الأمر فهو من كلام شيخنا فإن كان من بحثه فإني عبرت عنه بعد انفصالي من مكان الدرس بحسب فهمي ... فإن ظفرت بمخالفة لشيء لذلك عمن هو أوثق مني فقد علمت عذري، وأما الاعتذار لشيخنا فهو أن النقل حالة المذاكرة قد يتساهل فيه، والله الموفق) (¬3) . وأشار الشيخ محمد بن قاسم الغزي إلى ذلك فيما نقله عنه الشيخ أبوغدة بقوله: (وقال العلامة محمد بن قاسم الغزي الفقيه الشافعي المحدث، تلميذ ¬

(¬1) محاسن الاصطلاح (ص158) . (¬2) التتمة الثالثة الملحقة بكتاب "الموقظة" (ص136) ، والنص موجود في النكت الوفية (ق86/أ) . (¬3) النكت الوفية (1/ب - 2/أ) .

الحافظ السخاوي، في حاشيته على "شرح العراقي لألفيته" في الورقة (41) من المخطوطة في بحث المرسل: "هو علي بن المديني، وقيل: البخاري، ولم يسم في صحيح مسلم") (¬1) . وممن أيد أن المعني برد مسلم هو علي بن المديني وليس البخاري، الشيخ عبد الفتاح أبوغدة، ونصر ذلك بقوة واستدل على ذلك بأمرين: 1- أن علي بن المديني يشترط اللقاء في أصل الصحة، أما البخاري فإنما اشترط اللقاء في "صحيحه" فقط فهو شرط لأعلى الصحة وليس في أصل الصحة عند البخاري. هذا ما قاله ابن كثير والبلقيني ولمح أبوغدة إلى احتمال أن يكون رأي ابن حجر. 2- أن هناك دليلاً تاريخيًا وهو أن الإمام مسلم بن الحجاج فرغ من صحيحه في سنة خمسين ومائتين قبل أن يلازم البخاري ويأخذ عنه لأن البخاري ما دخل نيسابور إلا مرتين سنة تسع ومائتين، والثانية سنة خمسين ومائتين، ومسلم إنما لازم البخاري في نيسابور. فمن المستبعد أن يكون مسلم عنى البخاري لذلك، لاسيما وأن مسلمًا أثنى على البخاري ثناءً بالغًا وأطراه وفخم أمره بعبارات هي الغاية في المدح ثم يلازمه خمس سنوات ويبالغ في نصرته فيقاطع الذهلي من أجله ثم بعد ذلك يذكر في حقه تلك الألفاظ القاسية!، والعبارات الشديدة!، هذا لا يعقل!. فيكون المعني هو علي بن المديني لا البخاري. وفي كلا الدليلين نظر، فأما (الدليل الأول) فهو تقليد لابن كثير والبلقيني، ودعوى لا دليل عليها، وقد وضحت في الفصل الثالث من الباب الثاني خطأ ذلك، ونقلت قول الحافظ ابن حجر الذي هو أشد الناس عناية بالبخاري، وأجل من شرح "صحيحه" فقد قال: (ادعى بعضهم أن البخاري إنما التزم ذلك في "جامعه" لا في أصل الصحة وأخطأ في هذه الدعوى، بل هذا شرط من أصل الصحة عند البخاري، فقد أكثر من تعليل الأحاديث في تاريخه بمجرد ذلك) (¬2) . وقد نقل الشيخ أبوغدة كلام ابن حجر الآنف ثم عقب عليه بقوله: (وهذا ¬

(¬1) التتمة الثالثة (ص137) . (¬2) النكت على كتاب ابن الصلاح (1/595) .

الذي قاله الحافظ ابن حجر في "النكت" بشأن شرط البخاري مخالف لما قاله نفسه في "هدي الساري" 2: 138، في ترجمة (عبد الله بن صالح الجهني كاتب الليث) ، الذي تكلم فيه بعضهم كلامًا شديدًا، فقد ذكر فيها اعتراض الإسماعيلي على البخاري باحتجاجه به ثم قال: "وجواب ذلك أن البخاري إنما صنع ذلك لما قررناه أن الذي يورده من أحاديثه صحيح عنده، وقد انتقاه من حديثه، لكنه لا يكون على شرطه الذي هو أعلى شروط الصحة". انتهى. فتأمل) (¬1) . ويقصد الشيخ عبد الفتاح بالتناقض الذي وقع فيه ابن حجر أنه كيف يقول ابن حجر أن ثبوت اللقاء عند البخاري شرط في أصل الصحة، وليس شرط "صحيحه" فقط، وابن حجر نفسه يقول: أن شرط البخاري في كتابه هو أعلى شروط الصحة؟! والحق أن فيما قاله أبوغدة نظرًا، وما ادعاه من تناقض الحافظ ابن حجر ليس بصواب؛ فإن ابن حجر لم يتناقض، وقصد ابن حجر يتضح أكثر بما قاله في ترجمة عبد الله بن صالح كاتب الليث فقد قال: (عبد الله بن صالح الجهني أبوصالح كاتب الليث لقبه البخاري، وأكثر عنه، وليس هو من شرطه في "الصحيح" وإن كان حديثه عنده صالحًا، فإنه لم يورد له في كتابه إلا حديثًا واحدًا، وعلق عنه غير ذلك) (¬2) . وقال أيضًا: (والأحاديث التي رواها البخاري عنه في الصحيح بصيغة حدثنا أو قال لي أو قال المجردة قليلة ... وأما التعليق عن الليث من رواية عبد الله بن صالح فكثير جدًا، وقد عاب ذلك الإسماعيلي على البخاري، وتعجب منه كيف يحتج بأحاديثه حيث يعلقها. فقال: "هذا عجيب يحتج به إذا كان منقطعًا، ولا يحتج به إذا كان متصلاً. وجواب ذلك: أن البخاري إنما صنع ذلك لما قررناه أن الذي يورده من أحاديثه صحيح عنده قد انتقاه من حديثه، لكنه لا يكون على شرطه الذي هو أعلى شروط الصحة فلهذا لا يسوقه مساق أصل الكتاب، وهذا اصطلاح ¬

(¬1) التتمة الثالثة الملحقة بكتاب "الموقظة" (ص136) . (¬2) هدي الساري (ص434) .

له قد عرف بالاستقراء من صنيعه فلا مشاحة فيه) (¬1) . وبما نقل عن الحافظ ابن حجر يتضح مقصده أن البخاري لا يخرج في كتابه في الأصول إلا ما توفر فيه أعلى شروط الصحة، ولا يخفى أن مدار أعلى الصحة ليس على ثبوت اللقاء فقط بل لابد مع ذلك، من تمام العدالة، وكمال الضبط، والسلامة من الشذوذ والعلة. فكلام ابن حجر حول شروط البخاري في صحيحه وأنها أعلى شروط الصحة لا يدل على اشتراط ثبوت اللقاء فقط، وإنما يدل كلامه على أن عبد الله بن صالح وإن كان البخاري انتقى من حديثه ما يعلم صحته إلا أنه لم يعتمده فيما يخرجه من الأصول في "صحيحه" لأنه متكلم فيه فهو ليس على شرطه في كتابه "الصحيح"، ولا يشك أحد في أن البخاري قد اعتنى جدًا بكتابه فلم يذكر فيه إلا أصح الصحيح وترك من الأحاديث الصحيحة الكثير لم يخرجها في كتابه لذا قال الإسماعيلي أثناء كلامه على المعاصرين للبخاري ممن صنف في السنن: (ومنهم مسلم بن الحجاج، وكان يقاربه في العصر، فرام مرامه، وكان يأخذ عنه, أو عن كتبه، إلا أنه لم يضايق نفسه مضايقة أبي عبد الله، وروى عن جماعة كثيرة، لم يتعرض أبوعبد الله للرواية عنهم، وكل قصد خيرًا، غير أن أحدًا منهم لم يبلغ من التشديد مبلغ أبي عبد الله) (¬2) . ثم قال الشيخ أبوغدة: (وعلى قول الحافظ ابن حجر الذي علقته آنفًا، وفيه قوله: " ... بل هذا شرط في أصل الصحة عند البخاري ... " يكون البخاري قد وافق علي بن المديني في المسألة. وعلى ذلك: فيتجه على البخاري النقد الشديد الذي وجهه مسلم إلى علي بن المديني، لاتفاقهما في المسألة على قول الحافظ ابن حجر، فتأمل. ويزيد الأمر توقفًا وتأملاً في كلام الحافظ ابن حجر نقل تلميذه الحافظ البقاعي في كتابه "النكت الوفية" لكلام الحافظ ابن كثير - السابق ذكره -، وإقراره عليه، وإغفاله كلام شيخه ابن حجر الذي خطأ فيه من فرق بين مذهب علي بن ¬

(¬1) هدي الساري (ص435) . (¬2) هدي الساري (ص13) .

المديني، ومذهب البخاري في هذه المسألة. وكتاب "النكت" لابن حجر الذي فيه كلامه عن شرط البخاري، هو بين يدي تلميذه البقاعي الملازم له حضرًا وسفرًا، وأمامه، بنقل منه الكلمة الواحدة، والجملة الصغيرة في أقل من هذا الموضوع شأنًا، فكيف أغفل البقاعي نقل ذلك الرد من ابن حجر، في هذه المسألة ذات الشأن الكبير لو كان مقبولاً عنده، وقد حشا كتابه "النكت الوافية" بالنقول والمناقشات والأقوال التي سمعها من ابن حجر أثناء قراءته وألفية العراقي وشرحه لها عليه، وبحثها بين يديه) (¬1) . وما قاله الشيخ عبد الفتاح محل نظر عندي لما يلي: 1- نص ابن حجر بصريح العبارة في كتابه "النكت" (¬2) على أن ثبوت اللقاء شرط في أصل الصحة عند البخاري لا كما أدعاه بعضهم. ولم يقل البقاعي أن ابن حجر رجع عن هذا إنما لم ينقل كلامه فهل من المنهج العلمي أن نشكك في العبارة الصريحة التي ذكرها الرجل في كتابه لأن أحد تلامذته لم ينقلها!. فإن كان البقاعي لم يذكرها، فإن السخاوي (¬3) - وهو أحد الملازمين لابن حجر في آخر حياته - قد نقل عن شيخه ذلك، ولم يذكر عنه غيره. ومن المتفق عليه أن المنطوق مقدم على المفهوم - إن جاز أن يسمى ما ذكره الشيخ أبوغدة من ترك البقاعي لنقل كلام شيخه مفهومًا - فما قاله ابن حجر بلسان نفسه مقدم على تصرف تلميذه. 2- البقاعي أحد العلماء، ولكل عالم اختياراته، وظاهر صنيعه أن ارتضى كلام ابن كثير وأعجبه فأثبته في كتابه مختارًا له، وليس في ذلك دليل على أن شيخه ابن حجر خالف ما قاله في "النكت" ورجع إلى قول ابن كثير. ولا يصح أن يكون اختيار التلميذ حجة تنقض كلام شيخه فإذا اختار التلميذ قولاً دل هذا على اختيار الشيخ له أيضًا. لأن هذا استدلال غاية في الغرابة. (الدليل الثاني) الذي ذكره الشيخ عبد الفتاح أبوغدة على أن مسلمًا إنما عنى ¬

(¬1) التتمة الثالثة الملحقة بكتاب "الموقظة" (ص136) . (¬2) انظر النكت على كتاب ابن الصلاح (2/595) . (¬3) فتح المغيث (1/165) .

بالرد علي بن المديني وفيه نظر أيضًا، جاء في قوله بعد أن ساق نصوص العلماء ممن قال أن علي بن المديني هو المعني: (أسوق دليلاً تاريخيًا يؤكد ذلك بعون الله تعالى، وتوفيقه فأقول: من المعلوم أن الإمام مسلمًا ولد سنة 204، والأرجح سنة 206، وسمع الحديث سنة 218، وتوفي سنة 261، عن 55سنة رحمه الله تعالى. وقد ألف كتابه "الصحيح" استجابة لطلب صاحبه ومرافقه في الارتحال والتحصيل: الحافظ أحمد بن سلمة النيسابوري. قال الحافظ الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" 4: 186، في ترجمة (أحمد بن سلمة) ما يلي: "أحمد بن سلمة بن عبد الله، وأبوالفضل البزار المعدل النيسابوري، أحد الحفاظ المتقنين، رافق مسلم بن الحجاج في رحلته إلى قتيبة بن سعيد - إلى بلخ-، وفي رحلته الثانية إلى البصرة، وكتب بانتخابه على الشيوخ، ثم جمع له مسلم "الصحيح" في كتابه. وتوفي أحمد بن سلمة سنة 286". انتهى. قال الحافظ الذهبي في "سير أعلام النبلاء" 12: 566، في ترجمة (مسلم بن الحجاج) : "قال أحمد بن سلمة: كنت مع مسلم بن الحجاج في تأليف "صحيحه" خمس عشرة سنة". انتهى. وجاءت العبارة في "تذكرة الحفاظ" للذهبي أيضًا 2: 589، بلفظ "كنت مع مسلم في تأليف "صحيحه" خمس عشرة سنة، وهو اثنا عشر ألف حديث مسموعة". انتهى. وقال الحافظ العراقي في حاشيته على "مقدمة ابن الصلاح" ص14: "قال أبوالفضل أحمد بن مسلمة: كنت مع مسلم بن الحجاج في تأليف هذا الكتاب سنة خمسين ومائتين". انتهى. فأفاد النص الذي نقله الحافظ الذهبي أن مسلمًا بقي في تأليف "صحيحه" خمس عشرة سنة. وأفاد النص الثاني الذي نقله الحافظ العراقي - بربطه مع النص الأول - أنه فرغ من تأليفه سنة 250، فيكون مسلم قد بدأ في تأليفه سنة 235، حين كانت سنة 29سنة، وانتهى منه حين كانت سنة 44سنة، وقد عاش بعد الفراغ من تأليفه 11سنة.

ولاشك أن مسلمًا رحمه الله تعالى قد كتب مقدمة "صحيحه" قبل الشروع في تأليفه لا بعده، كما هو صريح قوله في مقدمته 1: 46-48 " ... وظننت حين سألتني تجشم ذلك، أن لو عزم لي عليه، وقضي لي تمامه، كان أول من يصيبه نفع ذلك إياي خاصة قبل غيري من الناس ... ، ثم إنا إن شاء الله مبتدءون في تخريج ما سألت، وتأليفه على شريطة سوف أذكرها لك، وهو أنا نعمد إلى جملة ما أسند من الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنقسمها على ثلاثة أقسام، وثلاث طبقات من الناس على غير تكرار ... ". انتهى. وقال الحافظ الذهبي في "سير أعلام النبلاء" 12: 404، في ترجمة الإمام البخاري رحمه الله تعالى: "قال أبوعبد الله الحاكم: أول ما ورد البخاري نيسابور سنة تسع ومائتين - وكانت سنة حينئذ 15سنة-، ووردها في الأخير سنة خمسين ومائتين، فأقام بها خمس سنين يحدث على الدوام". انتهى. فاستفيد من هذا كله أن مسلمًا لما صاحب البخاري في نيسابور، وأدام الاختلاف إليه، ولازمه كل الملازمة خمس سنوات من سنة 250 إلى سنة 255، كان منتهيًا من تأليف كتابه "الصحيح"، وفيه مقدمته التي فيها هذا الكلام الشديد، فلا يعقل أبدًا أن يكون البخاري هو المعني بهذه اللهجة الشديدة، التي لا تطاق معها مقابلة ولا لقاء، فضلاً عن الصحبة والملازمة خمس سنين، بل إن مسلمًا قد قاطع شيخه وبلديه: محمد بن يحيى الذهلي النيسابوري، من أجل البخاري لما ورد نيسابور، ووقف منه محمد بن يحيى الذهلي ذلك الموقف المعروف. فهل يعقل ممن يناصر البخاري هذه المناصرة، ويقول له: "لا يبغضك إلا حاسد، وأشهد أنه ليس في الدنيا مثلك، ودعني أقبل رجلك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، ويا طيب الحديث في علله": أن يصفه بتلك الصافت النابزة، والأقوال القاسية، والكلمات الجارحة، ويتصاحبا مع ذلك دهرًا طويلاً: خمس سنين؟ هذا فضلاً عن أن البخاري خارج من البين في هذه المسألة، على ما بينه الحافظ ابن كثير، وشيخ الإسلام البلقيني وغيرهما) (¬1) . ¬

(¬1) التتمة الثالثة الملحقة بكتاب "الموقظة" (ص138-140) .

وكلام الشيخ عبد الفتاح واستدلاله هذا فيه نظر لما يلي: 1- النص الذي استشهد به الشيخ عبد الفتاح على أنه دليل على تحديد تاريخ فراغ مسلم من تأليف صحيحه قول أحمد بن سلمة: (كنت مع مسلم بن الحجاج في تأليف هذا الكتاب سنة خمسين ومائتين) . ولا أدري من أين استنبط الشيخ عبد الفتاح أن في هذا تحديدًا لتاريخ انتهاء مسلم من تأليف صحيحه، فالنص لا يسعف على ذلك وإنما يدل على أن أحمد بن سلمة كان مع مسلم سنة خمسين ومائتين أثناء تأليف الإمام مسلم لصحيحه وفي هذا تحديد لسنة من السنوات الخمس عشرة التي قضاها مسلم في تأليف صحيحه، وليس في هذا النص ما يدل على أن مسلمًا فرغ من صحيحه سنة خمسين ومائتين، وإن كان من المؤكد أنه فرغ منه قبل سنة سبع وخمسين ومائتين لما نقله ابن الصلاح: (قال إبراهيم بن سفيان النيسابوري - وكان فقيهًا زاهدًا، من الملازمين لمسلم بن الحجاج -: فرغ لنا مسلم من قراءة الكتاب في شهر رمضان سنة سبع وخمسين ومائتين) (¬1) . فالذي نستطيع تحديده من تاريخ فراغ مسلم من تأليف صحيحه أنه فرغ منه بعد سنة خمسين ومائتين، وقبل سنة سبع وخمسين ومائتين. لذا من المحتمل أن يكون فرغ منه بعد سنة خمس وخمسين أي بعد لقائه وملازمته للبخاري، ويحتمل غير ذلك أيضًا، ولكن الجزم بشيء من ذلك لا يوجد ما يثبته. 2- ذكر الشيخ عبد الفتاح أن مسلمًا ألف مقدمة "صحيحه" قبل الشروع في تأليفه، ولكن ليس في هذا دليل على أن ما ذكره مسلم من مناقشة لمسألة السند المعنعن والاحتجاج به كانت من ضمن المقدمة أثناء تأليفها أول مرة، ولا يوجد ما يمنع أن يكون الإمام مسلم زادها فيما بعد ضمن المقدمة، وتنقيح المؤلف لكتابه بإضافة أو حذف وارد جدًا. فالجزم بأن مناقشة مسلم لخصمه كانت ضمن المقدمة حين شرع مسلم في تأليف صحيحه أول مرة محل نظر لقوة احتمال الزيادة والإضافة من المؤلف فيما كتبه سابقًا. 3- ابن المديني شيخ للإمام مسلم (¬2) ، ومكانة علي بن المديني عند ¬

(¬1) صيانة صحيح مسلم (ص104) . (¬2) انظر سير أعلام النبلاء (12/561) ، وأيضًا الميزان (3/138) وذكر فيه أن مسلمًا لم يخرج عن علي في "صحيحه" بسبب موقف علي من مسألة خلق القرآن.

المحدثين لا تخفى على مشتغل بهذا الفن فهو أحد كبار الأئمة في عصره، وأعلم أهل زمانه بعلل الحديث (¬1) ، فقول الشيخ عبد الفتاح أنه لا يعقل أن يصف مسلم البخاري بتلك الصفات النابزة، والأقوال القاسية، والكلمات الجارحة. يرد عليه أيضًا لا يعقل أن يقول مسلم ذلك في حق شيخه وإمام أهل الحديث في علم العلل علي بن المديني!! وبهذا يتضح أن ترجيح الشيخ عبد الفتاح أبوغدة بأن علي بن المديني هو المعني في كلام مسلم غير قائم على أدلة سليمة صحيحة فيبقى الأمر على الاحتمال ومجرد الظن أن يكون علي بن المديني هو المعني في كلام مسلم. ثالثًا: قول من قال أن المعني في كلام مسلم ربما يكون شخصًا آخر غير ابن المديني والبخاري. وهذا القول هو رأي ابن رشيد فقد قال: (ولعله - أي مسلم - لم يعلم أنه قول ابن المديني، والبخاري. وكأنه إنما تكلم مع بعض أقرانه أو من دونه ممن قال بذلك المذهب والله أعلم. فإنه لو علمه لكف من غربه، وخفض لهما الجناح، ولم يسمهما الكفاح) (¬2) . وحتى هذا الاحتمال لا دليل عليه إلا استبعاد أن يتلفظ الإمام مسلم بما قاله في حق ابن المديني أو في حق البخاري، وهما من كبار الأئمة الأعلام. في الحقيقة يصعب الترجيح، ويشق تعيين الشخص الذي عناه مسلم بالرد، وذلك يرجع إلى أن مسلمًا أبهم اسمه، ولم أجد - حتى الآن - أحدًا معاصرًا، أو قريب العهد من عصر الإمام مسلم سمى ذلك الرجل. ثم إن ما قيل في تسميته كله مبني على الظن والاحتمال. قال الشيخ عبد الفتاح أبوغدة: (والعجيب الغريب جدًا أن "صحيح مسلم" قريء على مؤلفه وتلامذته وتلامذهم ... مئات المرات، ¬

(¬1) انظر ثناء العلماء عليه في سير أعلام النبلاء (11/41- 60) ، والميزان (3/138-141) وغيرهما. (¬2) السنن الأبين (ص133) .

المبحث الثاني عرض الإمام مسلم لرأيه ورأي مخالفه

وأول ما يقرأ فيه "المقدمة"، وفيها الكلام الذي سبق ذكره، ولم ينقل عن مسلم أو تلامذته أو تلاميذهم ... تعيين المعني بهذا القول. ولذا يخمن المعني تخمينًا من العلماء اللاحقين) (¬1) . وأقوى الاحتمالات أنه عنى البخاري أو ابن المديني، فكلاهما يقول باشتراط اللقاء في السند المعنعن، ولا خلاف بينهما في ذلك - على الصحيح-، فالرد على أحدهما رد على الآخر بالضرورة لأن المهم هو القول لا القائل. وعلى فرض أن المعني هو ابن المديني فإن رد مسلم وكلامه يشمل البخاري بالضرورة لأنه يرى نفس الرأي، وكذلك العكس يدل على هذا أن مسلمًا قال: (فيقال لمخترع هذا القول الذي وصفنا مقالته، أو للذاب عنه) (¬2) . ومن المؤكد أنه لا ينبني على تحديد شخصية المعني في كلام مسلم كبير أثر، لأن العلماء متفقون على أن البخاري يرى أن ثبوت اللقاء ولو مرة شرط للاحتجاج بالسند المعنعن، والحجج التي ساقها مسلم في "المقدمة" هي في الحقيقة رد على رأي البخاري ومذهبه في السند المعنعن. فتحديد من عناه مسلم بالرد لا يغير من الحقيقة شيئًا. المبحث الثاني عرض الإمام مسلم لرأيه ورأي مخالفه عرض الإمام مسلم في "مقدمته" رأي مخالفه قبل أن يرد عليه، ولكنه زاد بعض الأشياء في مواطن متفرقة لذا رأيت من المناسب أن أجمع شتات ذلك من "المقدمة". قال مسلم عارضًا رأي مخالفه: (وزعم القائل الذي افتتحنا الكلام على الحكاية عن قوله، والإخبار عن سوء رويته، أن كل إسناد لحديث فيه فلان عن ¬

(¬1) التتمة الثالثة الملحقة بكتاب "الموقظة" (ص134) . (¬2) مقدمة صحيح مسلم (1/30) .

فلان، وقد أحاط العلم بأنهما قد كانا في عصر واحد، وجائز أن يكون الحديث الذي روى الراوي عمن روى عنه قد سمعه منه وشافهه به. غير أنه لا نعلم له منه سماعًا، ولم يجد في شيء من الروايات أنهما التقيا قط، أو تشافها بحديث؛ أن الحجة لا تقوم عنده بكل خبر جاء هذا المجيء، حتى يكون عنده العلم بأنهما قد اجتمعا من دهرهما مرة فصاعدًا، أو تشافها بالحديث بينهما، أو يرد خبر فيه بيان اجتماعهما، وتلاقيهما، مرة من دهرهما فما فوقها فإن لم يكن عنده علم ذلك، ولم تأت رواية صحيحة تخبر أن هذا الراوي عن صاحبه قد لقيه مرة، وسمع منه شيئًا لم يكن في نقله الخبر عمن روى عنه ذلك، والأمر كما وصفنا، حجة. وكان الخبر عنده موقوفًا حتى يرد عليه سماعه منه لشيء من الحديث قل أو كثر في رواية مثل ما ورد) (¬1) . ثم ذكر مسلم أن مخالفه قد يحتج بكثرة الإرسال بين المحدثين قديمًا وحديثًا فيحتاج لذلك للبحث عن سماع الرواة، فقال مسلم على لسان المخالف له: (فإذا أنا هجمت على سماعه منه لأدنى شيء ثبت عنه عندي بذلك جميع ما يروي عنه بعد فإن عزب عني معرفة ذلك أوقفت الخبر، ولم يكن عندي موضع حجة لإمكان الإرسال فيه) . وقد أوضح مسلم أن مخالفه يرى أن ما لم يثبت فيه اللقاء من الأسانيد المعنعنة يعد ضعيفًا واهيًا. فقال: (فإذا كانت العلة عند من وصفنا قوله من قبل في فساد الحديث وتوهينه ... ) (¬2) . وذكر مسلم أسانيد لا يثبت فيها اللقاء وهي صحيحة عند أهل العلم ثم قال: (وهي في زعم من حكينا قوله من قبل واهية مهملة) (¬3) ، وقال أيضًا: (وكان هذا القول الذي أحدثه القائل الذي حكيناه في توهين الحديث بالعلة التي وصف) (¬4) . هذا هو رأي المخالف كما عرضه مسلم، وعليه بنى رأيه هو، وحججه في ¬

(¬1) مقدمة صحيح مسلم (1/29) . (¬2) مقدمة صحيح مسلم (1/32) . (¬3) مقدمة صحيح مسلم (1/33) . (¬4) مقدمة صحيح مسلم (1/35) .

الرد، وحرر محل النزاع مع مخالفه. ثم أوضح الإمام مسلم رأيه في السند المعنعن، واحتج له بأدلة، وسنعرض هنا إلى ما قاله مسلم من كلام في تحديد مذهبه فقط دون ذكر أدلته لأن محلها الفصل الثالث الآتي - إن شاء الله -. قال مسلم: (وهذا القول - يعني كلام خصمه - يرحمك الله في الطعن في الأسانيد قول مخترع. مستحدث غير مسبوق إليه، ولا مساعد له من أهل العلم عليه، وذلك أن القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار والروايات قديمًا وحديثًا: أن كل رجل ثقة روى عن مثله حديثًا، وجائز ممكن له لقاؤه، والسماع منه، لكونهما جميعًا كانا في عصر واحد، وإن لم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا، ولا تشافها بكلام؛ فالرواية ثابتة، والحجة بها لازمة إلا أن يكون هناك دلالة بينة أن هذا الراوي لم يلق من روى عنه، أو لم يسمع منه شيئًا. فأما والمر مبهم على الإمكان الذي فسرنا، فالرواية على السماع أبدًا، حتى تكون الدلالة التي بينا) (¬1) . ثم ذكر - رحمه الله - في شأن الأئمة من أهل الحديث: (إنما كان تفقد من تفقد منهم سماع رواة الحديث ممن روى عنهم إذا كان الراوي ممن عرف بالتدليس في الحديث وشهر به فحينئذ يبحثون عن سماعه في روايته، ويتفقدون ذلك منه كي تنزاح عنهم علة التدليس. فمن ابتغى ذلك من غير مدلس على الوجه الذي زعم من حكينا قوله؛ فما سمعنا ذلك عن أحد ممن سمينا، ولم تسم من الأئمة) (¬2) . ولما ساق عددًا من الأسانيد التي ذكر أن أهل العلم صححوها، ولا يثبت السماع أو اللقاء فيها بين التابعي والصحابي؛ بين سبب ذلك بقوله: (إذ السماع لكل واحد منهم ممكن من صاحبه غير مستنكر لكونهم جميعًا كانوا في العصر الذي اتفقوا فيه) (¬3) . وبما تقدم يعلم أن مسلمًا يتفق مع المخالف له فيما يلي: 1- الاحتجاج بما علم أن اللقاء فيه ثابت. ¬

(¬1) مقدمة صحيح مسلم (1/29-30) . (¬2) مقدمة صحيح مسلم (1/33) . (¬3) مقدمة صحيح مسلم (1/35) .

2- رد ما يشك في اتصاله لوجود دلالة بينة. وأن الاختلاف بينهما كما يفهم من كلام مسلم في حديث المتعاصرين - إذا توفرت فيه الضوابط التي ذكرها - إذا لم يرد ثبوت اللقاء من طريق صحيح مرة فصاعدًا. فمسلم يقبل من الأسانيد ما كان هذا سبيله، وخصمه يرد ذلك ولا يقنع إلا بثبوت اللقاء ولو مرة.

الفصل الثاني ضوابط الاكتفاء بالمعاصرة عند الإمام مسلم

الفصل الثاني ضوابط الاكتفاء بالمعاصرة عند الإمام مسلم المبحث الأول: ثقة الرواة. المبحث الثاني: العلم بالمعاصرة. المبحث الثالث: تحديد المقصود بإمكانية اللقاء. المبحث الرابع: السلامة من التدليس. المبحث الخامس: عدم وجود ما يدل على نفي السماع أو اللقاء. المبحث الأول ثقة الرواة لا تكون المعاصرة كافية لاتصال السند المعنعن عند مسلم إلا إذا توفرت فيها أمور: أولها: ثقة الرواة كما قال الإمام مسلم: (القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار، والروايات قديمًا وحديثًا أن كل رجل ثقة روى عن مثله حديثًا، وجائز ممكن له لقاؤه، والسماع منه، لكونهما جميعًا كانا في عصر واحد، وإن لم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا، ولا تشافها بكلام؛ فالرواية ثابتة، والحجة بها لازمة ... ) (¬1) . ومفهوم كلام مسلم هذا أن الضعيف، والمجهول لا يدخلان هنا. لأنه في الأصل لا يحتج بحديثهما حتى مع ثبوت المعاصرة، ولكن إذا كانت المعاصرة غير ¬

(¬1) مقدمة صحيح مسلم (1/29-30) .

ثابتة فيضاف إلى التضعيف سبب آخر وهو عدم الاتصال على مذهب مسلم. والغالب في المجهولين عدم معرفة معاصرتهم لمن حدثوا عنه لقلة ما يرويه الواحد منهم، ولندرة المعلومات عنهم في كتب الجرح والتعديل. ويبقى سؤال مهم يرد على معنى "الثقة" عند مسلم: هل يشمل الصدوق الذي خف ضبطه وانحط عن رتبة الحافظ المتقن أم لا؟ والذي أراه أن كلمة "الثقة" الواردة في سياق كلام مسلم يدخل فيها كل من يحتج به ويشمل ذلك الحافظ المتقن، والصدوق أيضًا، وقد قال مسلم في القسم الأول من الرواة الذين أخرج حديثهم في صحيحه واحتج به: (فأما القسم الأول، فإنا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها وأنقى من أن يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث وإتقان لما نقلوا لم يوجد في رواياتهم اختلاف شديد، ولا تخليط فاحش كما قد عثر فيه على كثير من المحدثين وبان ذلك في حديثهم) (¬1) . ومن تأمل هذا الكلام بأن له أنه ينطبق على الصدوق أيضًا لأن مرتبة الصدوق لا يدخل فيها من كان في رواياته اختلاف شديد، أو تخليط فاحش. ويؤيد ما قلته أن مسلمًا أكمل كلامه الآنف بقوله: (فإذا نحن تقصينا أخبار هذا الصنف من الناس، أتبعناها أخبارًا يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان. كالصنف المقدم قبلهم) . والصدوق غير مدفوع عن الحفظ والإتقان، وإنما يؤخذ عليه وجود بعض الأوهام في حديثه لخفة ضبطه وإتقانه، والذي ينطبق عليه كلام مسلم في قوله: (من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان) أولئك الأشخاص الذين سماهم في تتمة كلامه الآنف إذ قال: (وإن كانوا فيما وصفنا دونهم فإن اسم الستر والصدق وتعاطي العلم بشملهم كعطاء بن السائب، ويزيد بن أبي زياد، وليث بن أبي سليم، وأضرابهم من حمال الآثار، ونقال الأخبار) . وهؤلاء قد ضعفهم أهل العلم من أئمة الجرح والتعديل لذلك لم يصفهم مسلم إلا بالستر، والصدق، وتعاطي العلم، ولم يذكرهم بالحفظ والإتقان، ¬

(¬1) مقدمة صحيح مسلم (1/5) .

وهؤلاء الثلاثة لا يصلح أن يدخلوا في مرتبة الصدوق التي يحتج بحديثه في الجملة بدلالة أن مسلمًا قال في أحدهم وهو يزيد بن أبي زياد: (هو ممن اتقى حديثه الناس، والاحتجاج بخبره إذا تفرد للذين اعتبروا عليه من سوء الحفظ في رواياته التي يرويها) (¬1) . وبما تقدم يتضح لنا أن الصدوق داخل عند مسلم في القسم الأول من الرواة الذين احتج بهم فتشملهم كلمة "الثقة" التي قالها مسلم في سياق كلامه عن الاكتفاء بالمعاصرة. ومما يؤكد ما تقدم أن الإمام الحجة عبد الرحمن بن مهدي قال: (احفظ عن الرجل الحافظ المتقن فهذا لا يختلف فيه، وآخر يهم والغالب على حديثه الصحة فهذا لا يترك حديثه، ولو ترك حديث مثل هذا ذهب حديث الناس، وآخر يهم والغالب على حديثه الوهم فهذا يترك حديثه - يعني لا يحتج بحديثه -) (¬2) . وقد احتج مسلم في "صحيحه" ببعض المحدثين الذين خف ضبطهم، ولم يكونوا من أهل الضبط التام، مثل حماد بن سلمة، وسهيل بن أبي صالح، والعلاء بن عبد الرحمن، ولكنه انتقى من أحاديثهم ما صح عنده وتجنب ما أخطأوا فيه، قال الخليلي في العلاء بن عبد الرحمن: (مديني مختلف فيه لأنه ينفرد بأحاديث لا يتابع عليها كحديثه عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان النصف من شعبان فلا صوم حتى رمضان". وقد أخرج مسلم في "الصحيح" المشاهير من حديثه، دون هذا، والشواذ) (¬3) . وليس المقصود في هذا المقام ما صنع مسلم في "صحيحه"، وكيف كان منهجه فيه، وإنما بيان أن كلمة "الثقة" الواردة في سياق كلام مسلم تعني الراوي المحتج بحديثه من حيث العموم، ولا تعني الحافظ المتقن فقط. ¬

(¬1) التمييز (ص215) بتصرف يسير. (¬2) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (2/38) ، وفي تهذيب الكمال (1/162) تحقيق د. بشار معروف. قال ابن مهدي: (المحدثون ثلاثة: رجل حافظ ... ) . (¬3) الإرشاد (1/218-219) .

المبحث الثاني العلم والمعاصرة

المبحث الثاني العلم والمعاصرة هذا هو الأمر الثاني الذي ذكره مسلم في قوله: (إن القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار، والروايات قديمًا وحديثًا، أن كل رجل ثقة روى عن مثله حديثًا، وجائز ممكن له لقاؤه، والسماع منه، لكونهما جميعًا كانا في عصر واحد، وإن لم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا، ولا تشافها بكلام؛ فالرواية ثابتة والحجة بها لازمة ... ) (¬1) . ولا يكتفي أن تكون المعاصرة محتملة بل لابد من تحقق ثبوتها والعلم بها، ويدل على ذلك أمران: الأول: أن مسلمًا قال: (وزعم القائل الذي افتتحنا الكلام على الحكاية عن قوله، والإخبار عن سوء رويته، أن كل إسناد لحديث فيه فلان عن فلان، وقد أحاط العلم بأنهما قد كانا في عصر واحد ... أن الحجة لا تقوم عنده بكل خبر جاء هذا المجيء، حتى يكون عنده العلم بأنهما قد اجتمعا من دهرهما مرة فصاعدًا ... ) (¬2) . والملاحظ هنا أنه نص على أن "العلم قد أحاط بأنهما كانا في عصر واحد"، والذي رده المخالف هو المذهب الذي نصره مسلم واختاره. فأفاد هذا النص الصريح من كلام مسلم أنه لابد من العلم بالمعاصرة. الثاني: ذكر مسلم بأن أهل المعرفة بالحديث صححوا أسانيد لا يثبت فيها لقي التابعين للصحابة الذين رووا تلك الأحاديث وساق أمثلة من تلك الأسانيد، وفي جميع هذه الأسانيد التي ذكرها مسلم كانت المعاصرة ثابتة بيقين. ومن ذلك قوله: (وهذا أبوعثمان النهدي وأبورافع الصائغ، وهما ممن أدرك الجاهلية وصحبا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البدريين هلم جر، ونقلا عنهم ¬

(¬1) مقدمة صحيح مسلم (1/29-30) . (¬2) مقدمة صحيح مسلم (1/29) .

الأخبار حتى نزلا إلى مثل أبي هريرة وابن عمر وذويهما. قد أسند كل واحد منهما عن أبي بن كعب عن الني - صلى الله عليه وسلم - حديثًا، ولم نسمع في رواية بعينها أنهما عاينا أبيًا أو سمعا منه شيئًا) (¬1) . فمعاصرة أبي عثمان النهدي، وأبي رافع الصائغ لأبي بن كعب رضي الله عنه لاشك في ثبوتها. ومن ذلك قول مسلم: (وأسند عبد الرحمن بن أبي ليلى وقد حفظ عن عمر بن الخطاب، وصحب عليًا، عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا) . فإذا كان عبد الرحمن بن أبي ليلى قد حفظ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه المتوفى سنة ثلاث وعشرين، وصحب عليًا رضي الله عنه المتوفي سنة أربعين، فتكون معاصرته ثابتة بلا ريب لأنس بن مالك رضي الله عنه المتوفي سنة ثلاث وتسعين. وقد قال مسلم بعد أن ساق تلك الأسانيد: (فكل هؤلاء التابعين الذين نصبنا روايتهم عن الصحابة الذين سميناهم لم يحفظ عنهم سماع علمناه منهم في رواية بعينها، ولا أنهم لقوهم في نفس خبر بعينه، وهي أسانيد عند ذوي المعرفة بالأخبار، والروايات من صحاح الأسانيد. لا نعلمهم وهنوا منها شيئًا قط، ولا التمسوا فيها سماع بعضهم من بعض إذ السماع لكل واحد منهم ممكن من صاحبه غير مستنكر لكونهم جميعًا كانوا في العصر الذي اتفقوا فيه) (¬2) . وهذه الجملة الأخيرة تؤكد أن كل الأسانيد التي ساقها مسلم مستدلاً بها؛ المعاصرة فيها متحققة الثبوت. وقد نص بعض العلماء على أن المعاصرة لابد أن تكون ثابتة عند مسلم، ومن هؤلاء ابن رشيد الذي قال: (وحاصل هذا الدليل الرابع ادعاء الإجماع أيضًا على قبول أحاديث التابعين الثقات السالمين من وصمة التدليس إذا عنعنوا عن ¬

(¬1) مقدمة صحيح مسلم (1/34) . (¬2) مقدمة صحيح مسلم (1/35) .

الصحابة الذين ثبتت معاصرتهم لهم وإن لم يعلم اللقاء ولا السماع) (¬1) ، وقال أيضًا: (لا يقبل معنعن من لم تصح له معاصرة) (¬2) يقصد أنه لم ينقل عن أحد من أئمة النقد قبول المعنعن مطلقًا ولو لم تصح المعاصرة وتثبت. وقال الحافظ ابن حجر في العنعنة: (وشرط حملها على السماع ثبوت المعاصرة) (¬3) . وقال الشيخ المعلمي: (لا يكفي احتمال المعاصرة) (¬4) ثم قال: (وأهل العلم كثيرًا ما ينقلون في ترجمة الراوي بيان من حدث عنهم، ولم يلقهم، بل أفردوا ذلك بالتصنيف "كمراسيل ابن أبي حاتم" وغيره، ولم يعتنوا بنقل عدم الإدراك لكثرته، فاكتفوا باشتراط العلم بالمعاصرة) . وثبوت المعاصرة عند مسلم تتم بأحد طريقين: الأول: معرفة تاريخ ولادة الراوي، وتاريخ وفاة المروي عنه. كما قال مسلم: (وأسند عبيد بن عمير عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا. وعبيد بن عمير ولد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬5) . فمسلم هنا تحقق من معاصرة عبيد لأم سلمة بمعرفة تاريخ ولادة عبيد بن عمير المولود في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم بمعرفة تاريخ وفاة أم سلمة رضي الله عنها التي تأخرت وفاتها إلى سنة اثنتين وستين. على الصحيح (¬6) ، ومسلم - رحمه الله - لم يذكر تاريخ وفاة أم سلمة رضي الله عنها، لأنه معروف مشتهر بين المحدثين أن وفاتها تأخرت بزمن طويل بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وثبوت المعاصرة من هذا الطريق واضح جدًا لا لبس فيه. ومما يدخل تحت هذا الطريق معرفة قدم ولادة الراوي دون تحديد دقيق ¬

(¬1) السنن الأبين (ص133) . (¬2) السنن الأبين (ص35) . (¬3) نزهة النظر (ص64) . (¬4) التنكيل لما ورد في تأنيب الكوثري من الأباطيل (1/84) . (¬5) مقدمة صحيح مسلم (1/34) . (¬6) التقريب (ص754) .

لسنة الولادة كما قال مسلم في أبي عثمان النهدي، وأبي رافع الصائغ أنهما أدركا الجاهلية، ورويا عن أبي بن كعب رضي الله عنه وأيضًا قوله في أبي عمرو الشيباني وهو ممن أدرك الجاهلية، وروى عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه وأيضًا قوله في قيس بن أبي حازم وقد أدرك زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروى عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه (¬1) . فهؤلاء كلهم ولدوا قديمًا في الجاهلية ولكن دون تحديد لتاريخ ولادتهم فمعاصرتهم لأولئك الصحابة محل يقين. الثاني: معرفة تاريخ وفيات الأقدم موتًا من مشايخ الراوي الذي سمع منهم، فإن معرفة ذلك تعين على التأكد من المعاصرة بين ذلك الراوي، وبعض من يروي عنهم. كما قال مسلم: (وأسند عبد الرحمن بن أبي ليلى، وقد حفظ عن عمر بن الخطاب، وصحب عليًا، عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا) (¬2) . فمعرفة ذلك عن عبد الرحمن بن أبي ليلى من أنه حفظ عن عمر رضي الله عنه، وصحب عليًا رضي الله عنه، ووفاتهما أقدم بكثير من تاريخ وفاة أنس رضي الله عنه جعلت معاصرة عبد الرحمن لأنس محل يقين. وقال مسلم: (وأسند ربعي بن حراش عن عمران بن حصين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثين، وعن أبي بكرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا، وقد سمع ربعي من علي بن أبي طالب وروى عنه) (¬3) . والمتعارف عليه أن عليًا رضي الله عنه مات سنة أربعين، ومسلم يستدل بسماع ربعي من علي على معاصرة ربعي لعمران بن حصين وأبي بكرة وقد توفيا بعد علي - رضي الله عنهم أجمعين - فقد مات عمران سنة اثنتين وخمسين (¬4) ، ¬

(¬1) انظر مقدمة صحيح مسلم (1/34) . (¬2) انظر مقدمة صحيح مسلم (1/34) . (¬3) مقدمة صحيح مسلم (1/35) . (¬4) التقريب (ص429) .

وأبو بكرة مات سنة إحدى أو اثنتين وخمسين (¬1) . وهناك مسألة لها علاقة باشتراط العلم بالمعاصرة لاتصال السند المعنعن وهي: رواية التابعي عن صحابي مبهم بالعنعنة. هل يقبل مسلم هذا السند ولو لم يعلم بتحقق المعاصرة أم يشترط التصريح باللقاء أو السماع من التابعي عن ذلك الصحابي المبهم؟ الحقيقة لم أجد لمسلم كلامًا حول هذه المسألة، ولكن الظاهر من كلامه أن العلم بالمعاصرة شرط لاتصال السند المعنعن مطلقًا، فمقتضى كلام مسلم حول المعاصرة أن لا تقبل رواية التابعي عن صحابي مبهم إلا إذا علمت معاصرته له، فإن كانت المعاصرة على الاحتمال ولم يرد ما يثبتها فحينئذ لابد من التصريح باللقاء أو السماع من التابعي عن ذلك الصحابي المبهم. وقد نظرت فيما أخرجه مسلم في "صحيحه" من رواية التابعي عن صحابي مبهم فوجدته أخرج من ذلك أحاديث قليلة جدًا بعضها مصرح فيها باللقاء، وبعضها قد جاء عنده من طريق آخر التصريح باسم المبهم، وبعضها رويت بالعنعنة ولكنه أخرجها في المتابعات، ولم أجده أخرج في الأصول إلا حديثًا واحدًا من رواية امرأة من التابعين عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعنعنة. وبيان ذلك كما يلي: أ - أخرج مسلم في "صحيحه" ثلاثة أحاديث صرح فيها التابعي باللقاء من الصحابي المبهم وهي: 1- حديث تمامة بن حزن القشيري قال: (لقيت عائشة فسألتها عن النبيذ؟ فدعت عائشة جارية حبشية فقالت: سل هذه فإنها كانت تنبذ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت الحبشية: كنت أنبذ له في سقاء من الليل، وأوكيه وأغلقه، فإذا أصبح شرب منه) (¬2) . 2- حديث طاووس أنه قال: (أدركت ناسًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون: كل شيء بقدر. قال: وسمعت عبد الله بن عمر يقول: قال ¬

(¬1) التقريب (ص565) . (¬2) صحيح مسلم (3/1590) .

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل شيء بقدر حتى العجز والكيس أو الكيس والعجز") (¬1) . 3- حديث ابن شهاب الزهري أنه قال: (وأخبرني عمر بن ثابت الأنصاري أنه أخبره بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... الحديث) (¬2) . ب - أخرج مسلم في "صحيحه" حديثين من رواية التابعي عن صحابي مبهم، ولكن ذكر طرقًا أخرى فيها تصريح باسم الصحابي. وهما: 1- حديث عمرة بنت عبد الرحمن عن أخت لعمرة قالت: (أخذت {ق والقرآن المجيد} من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة وهو يقرأ بها على المنبر في كل جمعة) (¬3) . وأخت عمرة هي أم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله عنها أخت عمرة لأمها (¬4) ، وقد ورد التصريح باسمها عند مسلم في رواية عبد الله بن محمد بن معن، ويحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، كلاهما عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان، إلا أن عبد الله بن محمد بن معن لم يقل أم هشام وإنما قال عن بنت لحارثة بن النعمان. وقد أثبت البخاري سماعه منها (¬5) . 2- حديث عبد الله بن صفوان عن أم المؤمنين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "سيعوذ بهذا البيت - يعني الكعبة - قوم ليس لهم منعة ولا عدد ولا عدة يبعث إليهم جيش حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم" (¬6) . وأم المؤمنين هي حفصة رضي الله عنها، وقد ورد التصريح باسمها في رواية أخرى أخرجها مسلم وفيها يقول عبد الله بن صفوان: (أخبرني حفصة) (¬7) . ج - أخرج مسلم في "صحيحه" ثلاثة أحاديث من رواية التابعي عن صحابي ¬

(¬1) صحيح مسلم (4/2045) . (¬2) صحيح مسلم (4/2245) . (¬3) صحيح مسلم (2/595) . (¬4) انظر تهذيب التهذيب (12/481) . (¬5) انظر التاريخ الكبير (5/187) . (¬6) صحيح مسلم (4/2210) . (¬7) صحيح مسلم (4/2209) .

مبهم بالعنعنة، ولكنها في المتابعات، ومنها حديثان لم يسقهما مسلم لذاتهما وإنما وردا ضمنًا، وهذه الأحاديث هي: 1- حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار عن رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية) (¬1) . وهذا الحديث أخرجه مسلم متابعة لحديث سهل بن أبي حلمة رضي الله عنه في القسامة الذي أخرجه قبل حديث أبي سلمة وسليمان بن يسار. 2- حديث خالد بن المهاجر بن خالد بن الوليد (أنه بينا هو جالس عند رجل جاءه رجل فاستفتاه في المتعة فأمره بها فقال له ابن أبي عمرة الأنصاري: مهلاً. قال: ما هي؟ والله لقد فعلت في عهد إمام المتقين) (¬2) . وهذا الرجل قيل هو ابن عباس (¬3) ، وهذا الحديث لم يخرجه مسلم لذاته، وإنما أخرج حديث الزهري عن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه ف نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نكاح المتعة متابعة وضمن حديث الزهري ورد حديث خالد بن المهاجر السابق، وحديث الزهري كما ساقه مسلم: (قال ابن شهاب: أخبرني عروة بن الزبير أن عبد الله بن الزبير قام بمكة فقال: إن ناسًا أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة - يعرض برجل - فناداه فقال: إنك لجلف جاف فلعمري لقد كانت المتعة تفعل على عهد إمام المتقين (يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فقال له ابن الزبير: فجرب بنفسك فوالله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجارك. قال ابن شهاب: فأخبرني خالد بن المهاجر بن سيف الله أنه بينا هو جالس عند رجل جاءه رجل فاستفتاه في المتعة فأمره بها فقال له ابن أبي عمرة الأنصاري مهلاً. قال: ما هي؟ والله لقد فعلت في عهد إمام المتقين. قال ابن أبي عمرة: إنها كانت رخصة في أول الإسلام لمن اضطر إليها ¬

(¬1) صحيح مسلم (3/1295) . (¬2) صحيح مسلم (2/1026) . ويظهر في النص أن خالد بن المهاجر قد شهد المحاورة وحضرها. (¬3) تحفة الأشراف (2/1026-1027) .

كالميتة والدم ولحم الخنزير ثم أحكم الله الدين ونهى عنها. قال ابن شهاب: وأخبرني ربيع بن سبرة أن أباه قال: قد كنت استمتعت في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة من بني عامر ببردين أحمرين ثم نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المتعة) (¬1) . 3- حديث سماك بن حرب عن رجل من القوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كم من عذق معلق (أو مدلى) في الجنة لابن الدحداح (أو لأبي الدحداح) " (¬2) . هذا الحديث لم يخرجه مسلم مستقلاً، وإنما ورد ضمن حديث يرويه شعبة عن سماك بن حرب عن جابر ابن سمرة قال: (صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابن الدحداح ثم أتى بغرس عري فعقله رجل فركبه فجعل يتوقص به ونحن نتبعه نسعى خلفه قال (¬3) فقال رجل من القوم: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كم من عذق معلق (أو مدلى) في الجنة لابن الدحداح (أو لأبي الدحداح) " (¬4) . وحديث شعبة عن سماك أخرجه مسلم متابعة لحديث مالك بن مغول عن سماك به، ولكن ليس في رواية ابن مغول زيادة سماك عن رجل من القوم ... الحديث. ويحتمل أن يكون الرجل الذي روى عنه سماك صحابيًا، ويحتمل غير ذلك، لأنه لم يصرح في الحديث بأنه صحابي، والظاهر أن مسلمًا لم يقصد إخراج هذه الزيادة وإنما وقعت ضمن الحديث الذي قصد إخراجه بغرض المتابعة، ولأن الحديث في أصوله هكذا لذا رواه على تلك الحال وغرضه الاستشهاد برواية شعبة عن سماك بن حرب، لما عرف من أن سماكًا كان بأخرة يتلقن (¬5) ، فساق مسلم ¬

(¬1) صحيح مسلم (2/1026-1027) . (¬2) صحيح مسلم (2/665) . (¬3) القائل هو سماك بن حرب وليس جابر بن سمرة يوضح ذلك الرواية التي أخرجها أحمد في المسند (5/90) وفيها: (فقال رجل معنا عند جابر بن سمرة في المجلس: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... ) نبه إلى هذا الحافظ ابن حجر في النكت الظراف (11/160) . (¬4) صحيح مسلم (2/665) . (¬5) انظر تهذيب التهذيب (6/234) .

رواية شعبة عنه ليبين أن هذا الحديث الذي رواه مالك بن مغول من صحيح حديث سماك. وقد ثبت من حديث أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كم من عذق رداح لأبي الدحداح في الجنة" (¬1) ، فزيادة سماك عن الرجل عن رسول الله محفوظة ولاشك سواء كان الرجل الذي روى عنه سماك صحابيًا أو لم يكن. 5- أخرج مسلم في "صحيحه" في الأصول حديثًا واحدًا فقط من رواية تابعي عن صحابي مبهم بالعنعنة، وهذا الحديث هو حديث صفية بنت أبي عبيد الثقفية عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة" (¬2) . وقد رواه من طريق عبيد الله العمري عن نافع مولى ابن عمر عن صفية به. وقد ذكر أبومسعود الدمشقي هذا الحديث في مسند حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها (¬3) ، ويظهر لي أن مسلمًا ترجح عنده أن المقصود ببعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - حفصة أو عائشة رضي الله عنهما وذلك لأن مسلمًا أخرج في صحيحه من طريق الليث بن سعد عن نافع أن صفية بنت أبي عبيد حدثته عن حفصة أو عن عائشة أو عن كلتيهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاثة أيام إلا على زوجها" (¬4) . وأخرج أيضًا من طريق عبد الله بن دينار عن نافع مثل رواية الليث، وأخرج من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري يقول سمعت نافعًا يحدث عن صفية بنت أبي عبيد أنها سمعت حفصة بنت عمر (¬5) ، وأخرج من طريق عبيد الله بن عمر العمري، وأيوب السختياني كلاهما عن نافع عن صفية بنت أبي عبيد عن بعض ¬

(¬1) أخرجه أحمد في المسند (3/146) ، وابن حبان في صحيحه (9/144) ، والطبراني في المعجم الكبير (22/300) ، والحاكم في المستدرك (2/20) . (¬2) صحيح مسلم (4/1751) . (¬3) انظر تحفة الأشراف (13/124) . (¬4) صحيح مسلم (2/1126) . (¬5) صحيح مسلم (2/1127) .

أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعنى حديث الليث. فالذي يغلب على الظن أن صفية قد روت حديث: "من أتى عرافًا ... " عن حفصة أو عن عائشة لاسيما وأن راوي هذا الحديث عن نافع هو عبيد الله العمري، وهو أيضًا الذي روى حديث: "النهي عن الإحداد فوق ثلاثة أيام إلا على الزوج" عن نافع وقال فيه عن بعض أزواج النبي ولم يصرح بالاسم، ولكن الليث بن سعد، وعبد الله بن دينار، ويحيى بن سعيد الأنصاري صرحوا باسم زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها حفصة أو عائشة. وعلى كل الأحوال فإن صفية بنت أبي عبيد معاصرتها ثابتة لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك لأن عبد الله بن عمر قد تزوجها في عهد أبيه (¬1) ، وذكر ابن مندة أن صفية: (أدركت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروت عن عائشة وحفصة، ولا يصح لها سماع من النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬2) ، ونفى الدارقطني أن تكون أدركت النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر أنها تزوجت ابن عمر في عهد أبيه قال: (فيحمل قول من نفى الإدراك على السماع فكأنها لم تميز إلا بعد الوفاة النبوية) (¬3) ، وصحح ابن حجر سماعها من عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فعلى ما ذكره ابن مندة ورجحه ابن حجر تكون صفية قد ثبتت معاصرتها لكل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين مات وهن في عصمته، وأغلب ظني أن مسلمًا احتج بالحديث لترجيحه أن المقصود ببعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إما حفصة وإما عائشة ويفسر ذلك ما وقع في حديث "الإحداد". وبهذا نستطيع القول أن اشتراط العلم بالمعاصرة مطلوب حتى في رواية التابعي عن صحابي مبهم، ولا يكفي احتمال المعاصرة، فإن لم يعرف هل عاصر أم لا؟ فلابد من التصريح أو السماع من التابعي عن ذلك الصحابي المبهم الاسم. قال الحافظ زين الدين العراقي مبينًا ذلك: (فرق أبوبكر الصيرفي من الشافعية في كتاب "الدلائل" بين أن يرويه التابعي عن الصحابي معنعنًا أو مع ¬

(¬1) انظر طبقات ابن سعد (8/472) . (¬2) الإصابة في تمييز الصحابة (4/351) . (¬3) الإصابة (4/352) .

التصريح بالسماع، فقال: وإذا قال في الحديث بعض التابعين: عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقبل لأني لا أعلم سمع التابعي من ذلك الرجل إذ قد يحدث التابعي عن رجل وعن رجلين عن الصحابي، ولا أدري هل أمكن لقاء ذلك الرجل أم لا؟ فلو علمت أمكانه منه لجعلته كمدرك العصر. قال: وإذا قال: سمعت رجلاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل لأن الكل عدول. انتهى كلام الصيرفي. وهو حسن متجه وكلام من أطلق قبوله على هذا التفصيل) (¬1) . وهذا التفصيل هو ظاهر كلام الإمام أحمد، فقد قال الأثرم: (قلت لأبي عبد الله - يعني أحمد بن حنبل -: إذا قال رجل من التابعين حدثني رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمه فالحديث صحيح؟ قال: نعم) . فالإمام أحمد صحح رواية التابعي إذا قال: "حدثني" رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يدخل في ذلك إذا روى التابعي حديثًا بالعنعنة عن صحابي مبهم. وقد خالف ابن حجر في ذلك شيخه العراقي وقال: (حكى شيخنا كلام أبي بكر الصيرفي في ذلك وأقره. وفيه نظر لأن التابعي إذا كان سالمًا من التدليس حملت عنعنته على السماع، وإن قلت: هذا إنما يتأتى في حق كبار التابعين الذين جل روايتهم عن الصحابة بلا واسطة، وأما صغار التابعين الذين جل روايتهم عن التابعين، فلابد من تحقق إدراكه لذلك الصحابي والغرض أنه لم يسمه حتى يعلم هل أدركه أم لا؟ فينقدح صحة ما قال الصيرفي. قلت: سلامته من التدليس كافية في ذلك إذ مدار هذا على قوة الظن وهي حاصلة في هذا المقام) (¬2) . وما رجحه ابن حجر هنا لا يتفق مع ترجيحه لمذهب البخاري في اشتراط اللقاء، بل ولا يتفق مع مذهب مسلم في اشتراط العلم بالمعاصرة لذا قال الشيخ المعلمي بعد أن نقل كلام ابن حجر السابق: (والعجب من الحافظ - رحمه الله - كيف مشى معهم في ترجيح رد عنعنة من علمت معاصرته دون لقائه ولو مع قيام القرائن على اللقاء، وتوقف عن ردها بل احتج لقبولها في حق من لم يعلم ¬

(¬1) التقييد والإيضاح (ص74) . (¬2) النكت على كتاب ابن الصلاح (2/562- 563) .

معاصرته أصلاً، فسبحان من له الكمال المطلق) (¬1) . والشيخ المعلمي رغم تعجبه من تصرف ابن حجر إلا أنه في موضع آخر مال إلى رأيه مع بعض التوقف فقال: (لا يكفي احتمال المعاصرة، لكن إذا كان الشيخ غير مسمى ففي كلامهم ما يدل على أنه يحكم بالاتصال وذلك فيما إذا جاءت الرواية عن فلان التابعي "عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ... " ونحو ذلك راجح (فتح المغيث) ص62، والفرق بين التسمية والإبهام أن ظاهر الصيغة السماع، والثقة إذا استعملها في غير السماع ينصب قرينة، فالمدلس يعتد بأنه قد عرف منه التدليس قرينة وأما غيره فإذا سمى شيخًا ولم يثبت عندنا معاصرته له فمن المحتمل أنه كان معروفًا عند أصحابه أنه لم يدركه فاعتد بعلمهم بذلك قرينة، وأهل العلم كثير ما ينقلون في ترجمة الراوي بيان من حدث عنهم ولم يلقهم، بل أفردوا ذلك بالتصنيف "كمراسيل ابن أبي حاتم" وغيره، ولم يعنوا بنقل عدم الإدراك لكثرته. فاكتفوا باشتراط العلم بالمعاصرة. فأما إذا أبهم فلم يسم فهذا الاحتمال منتف لأن أصحاب ذاك التابعي لم يعرفوا عين ذلك الصحابي فكيف يعرفون أنه لم يدركه أو أنه لم يلقه؟ ففي هذا تنتفي القرينة وإذا انتفت ظهر السماع والإلزام والتدليس، والغرض عدمه. هذا ما ظهر لي، وعندي فيه توقف) (¬2) . والراجح في نظري ما قاله أحمد بن حنبل، وأبوبكر الصيرفي والحافظ زين الدين العراقي من أن حديث التابعي عن صحابي مبهم لا يقبل إلا إذا صرح التابعي بلقائه أو سماعه من ذلك الصحابي. ومقتضى كلام مسلم في اشتراط العلم بالمعاصرة، وظاهر صنيعه في "صحيحه" يستدل بهما على أن حديث التابعي عن صحابي مبهم لا يقبل إلا إذا تحقق ثبوت المعاصرة وإلا فلابد من التصريح باللقاء أو السماع إذا كانت المعاصرة غير معلومة، وأحاديث التابعين عن صحابة مبهمين التي أخرجها مسلم في صحيحه في غير المتابعات، وذكرتها قبل قليل دالة على ذلك. ¬

(¬1) عمارة القبور (ل88 - 89) . (¬2) التنكيل (1/84) .

المبحث الثالث تحديد المقصود بإمكانية اللقاء

المبحث الثالث تحديد المقصود بإمكانية اللقاء ورد في كلام مسلم عندما نقل اتفاق أهل الحديث على الاحتجاج بالسند المعنعن إذا رواه ثقة عن مثله قوله: (وجائز ممكن له لقاؤه، والسماع منه، لكونهما جميعًا كانا في عصر واحد، وإن لم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا، ولا تشافها بكلام ... ) (¬1) . وظاهر كلام مسلم هذا أن مجرد ثبوت المعاصرة كاف لإمكان اللقاء، وأن معنى إمكان اللقاء هو ثبوت المعاصرة فقط، ولكن ذكر مسلم نصًا آخر يختلف عما سبقه إذ قال في معرض بيانه أن المخالف لم يحتج بـ (كل إسناد لحديث فيه فلان عن فلان، وقد أحاط العلم بأنهما قد كانا في عصر واحد، وجائز أن يكون الحديث الذي روى الراوي عمن روى عنه قد سمعه منه وشافهه به ... ) (¬2) . فهنا فرق مسلم بين العلم بالمعاصرة وجواز اللقاء فجعله زائدًا على العلم بالمعاصرة كما يقيده سياق النص، وإلى هذا ذهب العلائي والصنعاني في تحديدهما لمذهب مسلم في الحديث المعنعن. فقال العلائي: (والقول الرابع: أنه يكتفي بمجرد إمكان اللقاء دون ثبوت أصله فمتى كان الراوي بريئًا من تهمة التدليس، وكان لقاؤه لمن روى عنه بالعنعنة ممكنًا من حيث السن والبلد كان الحديث متصلاً، وإن لم يأت أنهما اجتمعا قط، وهذا قول الإمام مسلم) (¬3) . وكلام العلائي يفيد أن هناك أمر زائد على ثبوت المعاصرة، وهو أن يكون اللقاء ممكنًا من حيث بلد الراويين المعنعن، والمعنعن عنه: فإما أن يكونا من نفس البلد، أو تكون بلادهما متقاربة، أو يعلم دخولهما لبلد معين في زمن ¬

(¬1) مقدمة صحيح مسلم (1/29-30) . (¬2) مقدمة صحيح مسلم (1/29) . (¬3) جامع التحصيل (ص117) .

متقارب. ويفهم من كلام العلائي أن تباعد البلاد لا يجعل اللقاء ممكنًا. وقال الصنعاني: (على أن المعاصرة لا تكفي مطلقًا بأن يكون أحدهما في بغداد، والآخر في اليمن، بل لابد من تقارب المحلات ليمكن اتصال الرواة) (¬1) . والذي قاله العلائي والصنعاني في فهم كلام الإمام مسلم ملح نظر لما يلي: 1- إن اشتراط تقارب البلاد أو إمكان اللقاء بالنظر إلى بلاد المعنعن والمعنعن عنه لم ينص عليه الإمام مسلم في كلامه الوارد في مقدمة "صحيحه". 2- حدد مسلم - رحمه الله - المقصود بإمكان اللقاء في سياق كلامه في موضعين من "المقدمة" فقد قال: (وجائز ممكن له لقاؤه، والسماع منه، لكونهما جميعًا كانا في عصر واحد) (¬2) . وقال بعد إخراجه للأسانيد التي صححها العلماء واللقاء غير ثابت بين رواتها من التابعين والصحابة: (إذ السماع لكل واحد منهم ممكن من صاحبه غير مستنكر، لكونهم جميعًا كانوا في العصر الذي اتفقوا فيه) (¬3) . ففي هذين النصين اللذين يتضح من سياقهما أن اللقاء عند مسلم إنما يصبح ممكنًا بسبب ثبوت المعاصرة فقط. 3- إن قول مسلم عن المخالف له بأنه رد ولم يحتج بكل حديث معنعن (وقد أحاط العلم بأنهما قد كطان في عصر واحد، وجائز أن يكون الحديث الذي روى الراوي عمن روى عنه قد سمعه منه وشافهه به) (¬4) . لا يدل على تقارب بلاد المتعاصرين، وإنما يدل على جواز السماع من بعضهما مطلقًا لعدم وجود مانع يمنع ذلك الجواز ويجعله مستبعدًا. ثم إن أقوى أنواع تفسير النصوص وإزالة اللبس عنها يكون بنفس كلام صاحب النص المراد تفسيره، وقد مر معنا أن مسلمًا وضح أن معنى إمكانية اللقاء وجواز السماع لكون المعنعن والمعنعن عنه في عصر ¬

(¬1) توضيح الأفكار (1/43) . (¬2) مقدمة صحيح مسلم (1/29-30) . (¬3) مقدمة صحيح مسلم (1/35) . (¬4) مقدمة صحيح مسلم (1/29) .

واحد، ولم يزد على ذلك شيئًا آخر. 4- احتج مسلم في صحيحه بأحاديث، وجدنا فيها المعنعن والمعنعن عنه من بلدين مختلفين متباعدين، ومن ذلك: أخرج مسلم في صحيحه حديث حميد بن عبد الرحمن الحميري عن أبي هريرة مرفوعًا في أن أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم (¬1) . وحميد بن عبد الرحمن الحميري بصري، وأبوهريرة - رضي الله عنه - مدني، وقد ذكر مسلم في المقدمة (¬2) حديث حميد عن أبي هريرة من ضمن الأحاديث التي لا يعلم فيها لقاء التابعي للصحابي. وأخرج مسلم في صحيحه أيضًا حديث عبد الله بن معبد الزماني عن أبي قتادة مرفوعًا في فضل صوم يوم عرفة، ويوم عاشوراء (¬3) . وعبد الله بن معبد بصري، وأبوقتادة مدني، وقد نص البخاري على أنه لا يعرف لعبد الله بن معبد سماع من أبي قتادة (¬4) . وأخرج مسلم في صحيحه أيضًا حديث أبي أيوب يحيى بن مالك المراغي عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا في مواقيت الصلاة (¬5) . وأبوأيوب المراغي بصري، وعبد الله بن عمرو العاص تنقل بين الشام ومصر والطائف، ومات في مصر - على الصحيح (¬6) -، وقد قال المنذري: (أبوأيوب ثقة ما أراه سمع عبد الله) (¬7) . واحتجاج مسلم بهذه الأحاديث مما يدل على أن المقصود بإمكان اللقاء ليس ¬

(¬1) صحيح مسلم (2/821) . (¬2) مقدمة صحيح مسلم (1/35) . (¬3) صحيح مسلم (2/818) . (¬4) التاريخ الكبير (3/68) . (¬5) صحيح مسلم (1/426) . (¬6) تهذيب التهذيب (5/338) . (¬7) الترغيب والترهيب (1/282) .

تقارب البلاد وإنما أن يكون اللقاء محتملاً وغي مستبعد، ولاحظ دلالة قوله: "فأما والأمر مبهم على الإمكان الذي فسرنا" فإنه فسر الإمكان لكونهما في عصر واحد. فالراجح أن معنى إمكانية اللقاء عند مسلم ليست تقارب البلاد، وإنما اتفاق العصر. فاللقاء يكون ممكنًا أو متباعدة مادام اللقاء محتملاً وغير مستبعد مع مراعاة الضوابط الأخرى، وهذا الذي يدل عليه قول مسلم: (أن كل رجل ثقة روى عن مثله حديثًا، وجائز ممكن له لقاؤه، والسماع منه، لكونهما جميعًا كانا في عصر واحد، وإن لم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا، ولا تشافها بكلام، فالرواية ثابتة، والحجة بها لازمة إلا أن يكون هناك دلالة بينة أن هذا الراوي لم يلق من روى عنه، أو لم يسمع منه شيئًا. فأما والأمر مبهم على الإمكان الذي فسرنا، فالرواية على السماع أبدًا حتى تكون الدلالة التي بينا) (¬1) . وما رجحته هو ظاهر كلام ابن حجر، والمعلمي. فقد قال ابن حجر: (واكتفى مسلم بمطلق المعاصرة) (¬2) . وقال المعلمي مبينًا أن تباعد البلاد غير ضار في قبول معنعن المتعاصرين: (ثم لاحظ أنه لم يكن يوجد منهم - أي التابعين - إلا نادرًا من لم يزد الحرمين، وفيهما يمكن اجتماع الراوي بالمروي عنه إذا كانا متعاصرين، وبهذا يندفع ما يوهمه تباعد البلدين مع عدم اللقاء. فإذا كان الحال ما ذكر، وثبت أن أحد المتعاصرين روى عن الآخر بلا تصريح بسماع، ولا عدمه كان المتبادر السماع. فكيف إذا لاحظت أن كثيرًا من السلف كان يزور الحرمين كل عام فكيف إذا كان أحدهما ساكن أحد الحرمين فكيف إذا ثبت أن الآخر زارهما، وكذا إذا كان أحد الشخصين ببلد قد زاره الآخر. فأما إذا كانا ساكنين بلدًا واحدًا فإنه يكاد يقطع باللقاء) (¬3) . يشهد لذلك قول أيوب: (كانوا يحجون للقي) (¬4) . ¬

(¬1) مقدمة صحيح مسلم (1/29-30) . (¬2) نزهة النظر (ص31) . (¬3) عمارة القبور للمعلمي (ل83) . (¬4) العلل لأحمد (2/324) تحقيق د. وصي الله عباس.

وقد بين المعلمي - رحمه الله - أن احتمال اللقاء يكون على ثلاث درجات من حيث القوة في قوله: (المعاصرة المعتد بها على قول مسلم ضبطها بقوله: "كل رجل ثقة روى عن مثله حديثًا وجائز ممكن له لقاؤه والسماع منه لكونهما كانا في عصر واحد ... " وجمعه بين "جائز وممكن" يشعر بأن المراد الإمكان الظاهر الذي يقرب في العادة والأمثلة التي ذكرها مسلم واضحة في ذلك. والمعنى يؤكد هذا فإنه قد ثبت ن الصيغة - يعني "عن" - بحسب العرف - ولاسيما عرف المحدثين، وما جرى عليه عملهم - ظاهرة في السماع (¬1) فهذا الظهور يحتاج إلى دافع. فمتى لم يعلم اللقاء فإن كان مع ذلك مستبعدًا، الظاهر عدمه، فلا وجه للحمل على السماع لأن ظهور عدم اللقاء يدافع ظهور الصيغة، وقد يكون الراوي عند ظهور عدم اللقاء قرينة على أنه لم يرد صيغة السماع. وإن احتمل اللقاء احتمالاً لا يترجح أحد طرفيه فظهور الصيغة لا معارض له. فأما إذا كان وقوع اللقاء ظاهرًا بينًا فلا محيص عن الحكم بالاتصال، وذلك كمدني روىعن عمر، ولم يعلم لقاؤه له نصًا لكنه ثبت أنه ولد قبل وفاة عمر بخمس عشرة سنة مثلاً فإن الغالب الواضح أن يكون قد شهد خطبة عمر في المسجد مرارًا. فأما إذا كان الأمر أقوى من هذا كرواية قيس بن سعد المكي عن عمرو بن دينار فإنه يحكم باللقاء حتمًا، والحكم به في ذلك أثبت بكثير من الحكم به لشامي ¬

(¬1) هذا فيه نظر لأن الصيغة "عن" استخدمت في الأسانيد غير المتصلة بكثرة، وهي تحتمل السماع بقرائن، وتدل عليه بشروط، أما مجردة من القرائن والشروط، فهي غير ظاهرة في السماع لاحتمالها الاتصال وعدمه ولا مرجح لأحدهما. قال السخاوي في فتح المغيث (1/167) : ("عن" لا إشعار لها بشيء من أنواع التحمل، ويصح وقوعها فيما هو منقطع، كما إذا قال الواحد منا مثلاً عن رسول الله أو عن أنس أو نحوه) .

روى عن يمان لمجرد أنه وقع في رواية واحدة التصريح بالسماع) (¬1) ، وذلك لكون (قيس ولد بعد عمرو، ومات قبله، وكان معه بمكة، وسمع كل منهما من عطاء، وطاووس، وسعيد بن جبير، ومجاهد وغيرهم، وكان عمرو لا يدع الخروج إلى المسجد الحرام، والقعود فيه إلى أن مات، كما تراه في ترجمته من "طبقات ابن سعد" (¬2) ، وكان قيس قد خلف عطاءًا في مجلسه كما ذكره "ابن سعد" (¬3) أيضًا، وسمع عمرو من ابن عباس، وجابر، وابن عمر، وغيرهم ولم يدركهم قيس. فهل يظن بقيس أنه لم يلق عمرًا، وهو معه بمكة منذ ولد قيس إلى أن مات؟! أو لم يكونا يصليان معًا في المسجد الحرام الجمعة والجماعة؟! أو لم يكونا يجتمعا في حلقة عطاء وغيره في المسجد، ثم كان لكل منهما حلقة في المسجد قد لا تبعد إحدى الحلقتين عن الأخرى إلا بضعة أذرع. أو يظن بقيس أنه استنكف من السماع من عمرو لأنه قد شاركه في صغار مشايخه ثم يرسل عنه إرسالاً؟!) (¬4) . وبما تقدم من كلام الشيخ المحقق عبد الرحمن المعلمي نعلم أن "إمكانية اللقاء" بين المعنعن والمعنعن عنه التي يحتج بها الإمام مسلم على درجتين: الدرجة الأولى: أن يكون اللقاء ممكنًا جدًا لقوة القرائن التي من أهمها اشتراك المتعاصرين في البلدة نفسها التي ينتمي لها كل واحد منهما. الدرجة الثانية: أن يكون اللقاء ممكنًا ومحتملاً لا يترجح أحد طرفيه لا الثبوت، ولا العدم، ويكون المعنعن غير مدلس يترجح - عند مسلم - احتمال اللقاء على عدمه. ومما يحسن التنبيه عليه هنا أن الأئمة الذين لا يكتفون بالمعاصرة، ويشترطون ثبوت السماع يرون تباعد البلاد بين المتعاصرين قرينة على عدم ¬

(¬1) التنكيل (1/83-84) . (¬2) انظر طبقات ابن سعد (5/479-480) . (¬3) انظر طبقات ابن سعد (5/483) . (¬4) التنكيل (2/165) .

المبحث الرابع السلامة من التدليس

السماع، ولا يفتحون باب الاحتمالات لإمكان أن يلتقي المتعاصران في موسم الحج، أو في مكان ما. قال الحافظ ابن رجب: (ومما يستدل به أحمد، وغيره من الأئمة على عدم السماع، والاتصال أن يروي عن شيخ من غير أهل بلده لم يعلم أنه رجل إلى بلده، ولا أن الشيخ قدم إلى بلد كان الراوي عنه فيه. نقل مهنا عن أحمد قال: "لم يسمع زرارة بن أوفى من تميم الداري، تميم بالشام، وزرارة بصري". وقال أبوحاتم في رواية ابن سرين عن أبي الدرداء: "قد أدركه، ولا أظنه سمع منه، ذاك بالشام وهذا بالبصرة" (¬1) . وقال ابن المديني: "لم يسمع الحسن من الضحاك بن قيس، كان الضحاك يكون بالبوادي". وقال الدارقطني: "لا يثبت سماع سعيد بن المسيب من أبي الدرداء لأنهما لم يلتقيا" ومراده أنه لم يثبت التقاؤهما، لا أنه ثبت انتفاؤه، لأن نفيه لم يرد قط) (¬2) . المبحث الرابع السلامة من التدليس يشترط في الاكتفاء بالمعاصرة أن يكون المعنعن غير مدلس، قال مسلم عن أئمة الحديث: (وإنما كان تفقد من تفقد منهم سماع رواة الحديث ممن روى عنهم إذا كان الراوي ممن عرف بالتدليس في الحديث وشهر به فحينئذ يبحثون عن سماعه في روايته، ويتفقدون ذلك منه كي تنزاح عنهم علة التدليس. ¬

(¬1) المراسيل بن أبي حاتم (ص151) . (¬2) شرح علل الترمذي (1/368-369) .

فمن ابتغى ذلك من غير مدلس على الوجه الذي زعم من حكينا قوله، فما سمعنا ذلك عن أحد ممن سمينا، ولم نسم من الأئمة) (¬1) . والتدليس المقصود هنا تدليس الإسناد لأنه هو المرتبط بالعنعنة، ويلاحظ في هذا النص أنه قيد بمن "شهر به"، ومفهوم ذلك أن من لم يشتهر بالتدليس تحمل عنعنته عمن عاصر على الاتصال. فما هو المقصود من الشهرة بالتدليس؟ ذكر ابن رجب في بيان المراد من كلام مسلم السابق احتمالين، ولم يرجح أحدهما على الآخر. قال: (وهذا يحتمل أن يريد به كثرة التدليس ويحتمل أن يريد به ثبوت ذلك عنه وصحته) (¬2) . والذي يظهر لي أن مقصود ذلك عند مسلم أن يصف أكثر من إمام من أئمة النقاد ذلك الراوي بالتدليس فيشتهر أمره ويعرف بأنه مدلس، ولا يلزم أن يكون مكثرًا من التدليس حتى يشتهر به. فهذا سفيان الثوري مشهور بالتدليس، وقد صرح الإمام البخاري بأنه قليل التدليس (¬3) . وكذلك ابن جريج مشهور بالتدليس، وقد صرح ابن حجر بأن تدليسه قليل (¬4) . والتدليس كما عرفه الخطيب البغدادي: (رواية المحدث عمن عاصره، ولم يلقه فيتوهم أنه سمع منه، أو روايته عمن قد لقيه ما لم يسمعه منه، هذا هو التدليس في الإسناد) (¬5) . وكذلك عرفه ابن الصلاح فقال: (تدليس الإسناد: وهو أن يروي عمن لقيه ¬

(¬1) مقدمة صحيح مسلم (1/33) . (¬2) شرح علل الترمذي (1/354) . (¬3) انظر العلل الكبير للترمذي (2/966) . (¬4) انظر فتح الباري (3/482) ، (4/274) . (¬5) الكفاية (ص38) .

ما لم يسمعه منه موهمًا أنه سمعه منه، أو عمن عاصره، ولم يلقه موهمًا أنه قد لقيه وسمعه منه) (¬1) . وعرف الذهبي الحديث المدلس بقوله: (ما رواه الرجل عن آخر ولم يسمعه منه، أو لم يدركه) (¬2) . وقال في أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي: (إلا أنه يدلس عمن لحقهم، وعمن لم يلحقهم) (¬3) . وقال الحافظ العراقي معلقًا على قول ابن الصلاح الآنف: (هكذا حد المصنف - يعني ابن الصلاح - القسم الأول من قسمي التدليس اللذين ذكرهما، وقد حده غير واحد من الحفاظ بما هو أخص من هذا، وهو أن يروي عمن قد سمع منه ما لم يسمعه منه من غير أن يذكر أنه سمعه منه، هكذا حده الحافظ أبوالحسن بن محمد بن عبد الملك بن القطان في كتاب بيان الوهم والإبهام. قال ابن القطان: والفرق بينه وبين الإرسال هو أن الإرسال روايته عمن لم يسمع منه. انتهى. ويقابل هذا القول في تضييق حد التدليس القول الآخر الذي حكاه ابن عبد البر في التمهيد (¬4) أن التدليس أن يحدث الرجل بما لم يسمعه. قال ابن عبد البر: وعلى هذا فما سلم من التدليس أحد لا مالك، ولا غيره. وما ذكره المصنف في حد التدليس هو المشهور بين أهل الحديث، وإنما ذكرت قول البزار، وابن القطان كيلا يغتر بهما من وقف عليهما فيظن موافقة أهل الشأن لذلك) (¬5) . ويستخلص من النصوص المتقدمة أن التدليس لفظ يطلق على صورتين: الصورة الأولى: إذا روى الراوي عمن لقيه ما لم يسمعه منه. ¬

(¬1) علوم الحديث (ص66) . (¬2) الموقظة (ص47) . (¬3) الميزان (2/426) . (¬4) انظر التمهيد (1/15) وقد نقل العراقي عبارة ابن عبد البر بالمعنى. (¬5) التقييد والإيضاح (ص97-98) .

الصورة الثانية: إذا روى الراوي عمن عاصره ولم يلقه. وذهب الحافظ ابن حجر إلى أن الصورة الثانية لا تسمى تدليسًا بل هي المرسل الخفي، وهو في تحديده للتدليس في الصورة الأولى فقط موافق للبزار وابن القطان الفاسي. قال ابن حجر: (والذي يظهر من تصرفات الحذاق منهم - أي أهل الحديث - أن التدليس مختص باللقي، فقد أطبقوا على أن رواية المخضرمين مثل: قيس بن أبي حازم، وأبي عثمان النهدي، وغيرهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قبيل المرسل لا من قبيل المدلس. وقد قال الخطيب - في باب المرسل من كتابه الكفاية (¬1) -: "لا خلاف بين أهل العلم أن إرسال الحديث الذي ليس بمدلس وهو: رواية الراوي عن من لم يعاصره أو لم يلقه، ثم مثل للأول سعيد بن المسيب وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وللثاني بسفيان الثوري وغيره عن الزهري. ثم قال: والحكم في الجميع عندنا واحد". انتهى. فقد بين الخطيب في ذلك أن من روى عمن لم يثبت لقيه ولو عاصره أن ذلك مرسل لا مدلس. والتحقيق فيه التفصيل وهو: أن من ذكر بالتدليس أو الإرسال إذا بالصيغة الموهمة عمن لقيه، فهو تدليس أو عمن أدركه ولم يلقه فهو المرسل الخفي، أو عمن لم يدركه فهو مطلق الإرسال) (¬2) . وفيما ذهب إليه الحافظ ابن حجر نظر لما يلي: 1- أن الخطيب البغدادي قد أدخل في تعريفه للتدليس رواية المحدث عمن عاصره ولم يلقه فيتوهم أنه سمع منه (¬3) . وأيضًا فقد ذكر الخطيب في فصل "ذكر شيء من أخبار المدلسين" (¬4) كلام ¬

(¬1) الكفاية (ص423) . (¬2) النكت على كتاب ابن الصلاح (2/623) . (¬3) الكفاية (ص38) . (¬4) الكفاية (ص396) .

الإمام أحمد بن حنبل فيمن روى عنهم سعيد بن أبي عروبة وحدث عنهم ولم يسمع منهم شيئًا. فدل هذا على أنه تدليس عند الخطيب وليس إرسال. ولكن يلاحظ أن المحدث إذا حدث عمن عاصره ولم يلقه يعد مدلسًا بشرط الإبهام أي يوهم المتلقي عنه أنه قد سمع وهو لم يسمع وهذا نص عليه الخطيب في قوله: "فيتوهم أنه سمع منه". وبهذا يندفع التناقض عن كلام الخطيب البغدادي الذي نقله ابن حجر. 2- أن وصف من روى عمن عاصره ولم يلقه بالتدليس هو المشهور عن أهل الحديث وأئمته كما قال العراقي (¬1) ، ودلت عليه نصوص بعض كبار الأئمة ومن ذلك: قول الإمام يعقوب بن شيبة: (فأما من دلس عن غير ثقة، وعمن لم يسمع منه، فقد جاوز حد التدليس الذي رخص فيه من رخص من العلماء) (¬2) . وقول ابن حبان: (ومنهم المدلس عمن لم يره كالحجاج بن أرطاة وذويه كانوا يحدثون عمن لم يروه ويدلسون حتى لا يعلم ذلك منهم) (¬3) . وقول ابن عدي بعد أن ذكر من لم يلقهم سعيد بن أبي عروبة: (وهو مقدم في أصحاب قتادة، ومن أثبت الناس رواية عنه، وثبتًا عن كل من روى عنه إلا من دلس عنهم وهم الذين ذكرتهم ممن لم يسمع منهم) (¬4) . وقول أبي عبد الله الحاكم: (الجنس السادس من التدليس: قوم رووا عن شيوخ لم يروهم قط ولم يسمعوا منهم، إنما قالوا: قال فلان فحمل ذلك عنهم على السماع، وليس عندهم عنهم سماع عال ولانازل) (¬5) . ¬

(¬1) التقييد والإيضاح (ص97-98) . (¬2) الكفاية (ص399-400) . (¬3) كتاب المجروحين (1/80) . (¬4) الكامل في الضعفاء (3/1233) . (¬5) معرفة علوم الحديث (ص109) .

وقول ابن رجب: (وقد كان الثوري وغيره يدلسون عمن لم يسمعوا منه أيضًا) (¬1) . فالراجح عندي في تعريف التدليس ما ذكره الخطيب البغدادي وابن الصلاح، ولكن بشرط لابد من التأكيد عليه في الصورة الثانية وهو الإبهام من الراوي بأنه قد سمع وهو لم يسمع. قال الشيخ المعلمي: (والرواية عن المعاصر على وجه الإبهام تدليس أيضًا عند الجمهور، ومن لم يطلق عليها ذلك لفظًا لا ينكر أنها تدليس في المعنى، بل هي أقبح عندهم من إرسال الراوي على سبيل الإبهام عمن قد سمع منه) (¬2) . وقد نبه المعلمي إلى أن هذا رأي الإمام مسلم فقال: (وصنيع مسلم يقتضي أن الإرسال على أي الوجهين كان إنما يكون تدليٍسًا إذا كان على وجه الإبهام، ويوافقه ما في (الكفاية) للخطيب ص357. وذكر مسلم أمثله (¬3) فيها إرسال جماعة بالصيغة المحتملة عمن سمعوا منه ولم تعد تدليسًا ولا عدوا مدلسين، ومحمل ذلك أن الظن بمن وقعت منهم أنهم لم يقصدوا الإبهام، وأنهم اعتمدوا على قرائن خاصة كانت قائمة عند إطلاقهم تلك الرواية تدفع ظهور الصيغة في السماع. ¬

(¬1) شرح علل الترمذي (1/358) . (¬2) التنكيل (1/82) . (¬3) انظر مقدمة صحيح مسلم (1/31-32) .

ولا يخالف ذلك ما ذكروه عن الشافعي (¬1) أن التدليس يثبت بمرة لأنا نقول: هذا مسلم ولكن محله حيث تكون تلك المرة تدليسًا بأن تكون بقصد الإبهام، والأمثلة التي ذكرها مسلم لم تكن كذلك بدليل إجماعهم على أن أولئك الذين وقعت منهم تلك الأمثلة ليسوا مدلسين) (¬2) . ومما يجب التنبيه عليه هنا أن من لم يصفه أحد أئمة الجرح والتعديل بالتدليس فلا ينبغي أن يوصف بذلك، فإن بعض الرواة يقع فيما يروونه ما يتطابق مع تعريف التدليس، ولم نجد من الأئمة من وصفهم، كما هو الحال في رواية سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه لم يسمع منه إلا القليل وروى عنه الكثير، ولم أجد من وصف سعيدًا بالتدليس رغم وجود صورة التدليس فيما رواه؛ فلا يجوز لأحد أن يصف راويًا بالتدليس إلا من وصفه الأئمة من أهل الحديث بالتدليس. ويبقى سؤال حول من عرف بالإرسال هل يكون حكمه حكم المدلس عند مسلم في عدم الاكتفاء بمعاصرته وضرورة البحث عن سماعه فيمن روى عنهم؟ الحقيقة أن مسلمًا لم يتطرق لهذا في كلامه، ولكن القياس الصحيح يملي علينا أن نجعل من عرف بالإرسال وهو التحديث بما لم يسمعه أن يكون حكمه حكم المدلس لأنهما يشتركان في التحديث بما لم يسمعا، فيكون احتمال الإرسال قويًا فيمن عرف بالإرسال، ويجب أن ينزل منزلة المدلس من حيث عدم الاكتفاء بمعاصرته وضرورة البحث عن سماعه قياٍسًا على كلام مسلم في المدلس لاشتراكهما في علة الحكم. ويؤيد ذلك قول العلائي: (حكم المدلس حكم المرسل) (¬3) . ويؤيده أيضًا قول المعلمي في رواية القاسم بن مخيمرة عن أبي سعيد الخدري: (لقاء القاسم لأبي سعيد مظنون، وبما أنه روى عنه بالعنعنة وهو ثقة غير ¬

(¬1) انظر الرسالة للشافعي (ص379) . (¬2) التنكيل (1/82) . (¬3) جامع التحصيل (ص132) .

المبحث الخامس عدم وجود ما يدل على نفي السماع أو اللقاء

مدلس، ولا معروف بالإرسال الخفي فالظاهر السماع، وإن لم يعلم صريحًا، فعدم العلم ليس علمًا بالعدم) (¬1) . وفي موضع آخر قال المعلمي: (فإذا جاءنا الحديث من رواية الثقات غير الموصوفين بالتدليس أو الإرسال الخفي إلى ثقة كذلك روى بالعنعنة عمن عاصره وأمكن لقاؤه له ... ) (¬2) . فبين المعلمي في هذين النصين أن من أرسل إرسالاً خفيًا لا يكتفي بعنعنته لمن عاصر كالمدلس. وإلى هذا ذهب الدكتور نور الدين عتر فبعد أن ذكر أن من شرط قبول العنعنة من المعاصرة عند مسلم ألا يكون مدلسًا قال: (ويلحق بذلك من عرف بالإرسال كالحسن والزهري) (¬3) . وهذا هو الراجح - في نظري - أن من عرف بالإرسال مطلقًا، أو ثبت أنه أرسل إرسالاً خفيًا فهو كالمدلس من حيث عدم قبول معنعنه لمن عاصر لأن من فرق بين ذلك فقد فرق بين متماثلين، ولأن ذم التدليس دون الإرسال ليس فرقًا مؤثرًا في علة الحكم التي هي قوة احتمال عدم السماع فيما رووه بصيغة غير صريحة في الاتصال. والله أعلم. المبحث الخامس عدم وجود ما يدل على نفي السماع أو اللقاء بشترط مسلم في الاكتفاء بالمعاصرة أن لا يوجد دليل على عدم سماع المعنعن من المعنعن عنه. قال مسلم في ثبوت المعاصرة: (فالرواية ثابتة، والحجة بها لازمة إلا أن يكون هناك دلالة بينة أن هذا الراوي لم يلق من روى عنه، أو لم ¬

(¬1) عمارة القبور (ل82) . (¬2) عمارة القبور (ص86) . (¬3) شرح علل الترمذي (1/371) .

يسمع منه شيئًا، فأما والأمر مبهم على الإمكان الذي فسرنا، فالرواية على السماع أبدًا، حتى تكون الدلالة التي بينا) (¬1) . ولم يبين مسلم - رحمه الله - الدلالة البينة على عدم السماع، ولكنها واضحة لمن تأمل كلام الأئمة، واعتنى بأقوال أئمة النقد والتعليل. ويعرف عدم سماع الراوي عمن روى عنه بالطرق التالية: أولاً: ورود نص بعدم السماع. ثانيًا: ورود ما ينفي السماع تاريخيًا. ثالثًا: أن يذكر الراوي صيغة أداء تدل على نفي السماع. رابعًا: إدخال واسطة بين المعنعن والمعنعن عنه في بعض الطرق (¬2) . أولاً: ورود النص بعدم السماع: من الدلائل المبينة على عدم السماع، ورود نص بلفظ صريح يتضمن نفي السماع أو اللقاء، وتتم معرفة ذلك بأحد أمرين: الأمر الأول: أن ينص الراوي بأنه لم يسمع من ذلك الشيخ. مثال ذلك الحجاج بن أرطاة قال لهشيم: (سمعت من الزهري؟ قال: نعم فقال: لكني لم أسمع منه شيئًا) (¬3) . وسئل سعيد بن عامر الضبعي هل سمع ن يونس بن عبيد؟ فقال: (لا، ولكن أخبرني عنه رجل) (¬4) . وسأل عمرو بن مرة أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود: (تحفظ عن أبيك شيئًا؟ قال: لا) (¬5) . الأمر الثاني: أن ينص إمام أو أكثر من ذوي الاطلاع على عدم سماع الراوي من ذلك الشيخ. ¬

(¬1) مقدمة صحيح مسلم (1/30) . (¬2) هذه الأمور الأربعة نص عليها ابن القطان الفاسي في بيان الوهم والإبهام (1/88/ب) . (¬3) المراسيل لابن أبي حاتم (ص45) . (¬4) المعرفة والتاريخ (2/32) . (¬5) تاريخ ابن معين برواية الدوري (2/288) .

مثال ذلك رواية الحسن البصري عن أبي هريرة: نص يونس بن عبيد، وأيوب السختياني، وعلي بن زيد بن جدعان، وبهز بن حكيم، وابن معين، وابن المديني، وأبوزرعة، وأبوحاتم (¬1) ، وغيرهم على أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة، بل قال ابن أبي حاتم: (قلت لأبي: إن سالمًا الخياط روى عن الحسن قال: سمعت أبا هريرة. قال: هذا ما يبين ضعف سالم) (¬2) . ورواية أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه: فقد نص ابن معين، وابن المديني، وأحمد بن حنبل، وأبوحاتم، ويعقوب بن شيبة، وأبوداود على أنه لم يسمع من أبيه (¬3) . وكذلك رواية حبيب بن أبي ثابت عن عروة بن الزبير: قال فيها أبوحاتم: (حبيب بن أبي ثابت لا يثبت له السماع من عروة بن الزبير، وهو قد سمع ممن هوأكبر منه غير أن أهل الحديث قد اتفقوا على ذلك، واتفاق أهل الحديث يكون حجة) (¬4) . ثانيًا: ورود ما ينفي السماع تاريخيًا: إذا ثبت أن الراوي لم يدرك الشيخ الذي روى عنه بأنه يكون الشيخ مات قبل ولادة الراوي، أو لكون الشيخ قد مات، والراوي لم يزل صغيرًا، فإن ذلك دلالة بينة على عدم السماع وضحت لنا بطريق التاريخ. وتتم معرفة ذلك بأحد أمرين: الأمر الأول: عدم إدراك الراوي للشيخ الذي روى عنه. مثال ذلك: إبراهيم بن جرير بن عبد الله البجلي روى عن علي رضي الله عنه، ولم يسمع منه، لأن عليًا رضي الله عنه قتل سنة أربعين، وإبراهيم لم يسمع من أبيه (¬5) ¬

(¬1) المراسيل لابن أبي حاتم (ص38-39) . (¬2) المراسيل لابن أبي حاتم (ص39) . (¬3) تهذيب التهذيب (12/117) . (¬4) المراسيل لابن أبي حاتم (ص153) . (¬5) انظر المراسيل لابن أبي حاتم (ص19) .

الذي مات سنة إحدى وخمسين (¬1) ، لأنه ولد بعد وفاة أبيه (¬2) . ومثال ثان: روى سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وعن جده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يسمع منهما (¬3) لأنه ولد في خلافة عثمان رضي الله عنه (¬4) . ومثال ثالث: روى سعيد بن المسيب عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولم يسمع منه (¬5) ، لأن سعيدًا ولد لسنتين خلتا من خلافة عمر رضي الله عنه (¬6) . الأمر الثاني: صغر سن الراوي عند موت الشيخ الذي روى عنه. ¬

(¬1) التقريب (ص139) . (¬2) انظر تهذيب التهذيب (1/112) . (¬3) انظر المراسيل لابن أبي حاتم (ص71) . (¬4) سير أعلام النبلاء (4/458) . (¬5) انظر المراسيل لابن أبي حاتم (ص65) . (¬6) انظر تهذيب التهذيب (4/85) .

مثال ذلك: حديث سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب. قال ابن معين: (وسعيد بن المسيب قد رأى عمر، وكان صغيرًا، قلت ليحيى - القائل هو الدوري -: هو يقول: ولدت لسنتين مضتا من خلافة عمر. فقال يحيى: ابن ثمان سنين يحفظ شيئًا) (¬1) . وسئل أبوحاتم هل يصح لسعيد بن المسيب سماع من عمر. فقال: (لا. إلا رأيته على المنبر ينعي النعمان بن مقرن) (¬2) . وقال الشيخ أحمد شاكر - وهو من المؤيدين لمذهب مسلم -: (سعيد بن المسيب لم يدرك عمر إلا صغيرًا، فروايته عنه مرسلة إلا رواية صرح فيها أنه يذكر فيها يوم نعي عمر النعمان بن مقرن على المنبر) (¬3) . وكذلك عبد الرحمن بن أبي ليلى روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد مات عمر ولعبد الرحمن من العمر ست سنوات (¬4) . لذا نص ابن معين، وأبوحاتم على أنه لم يسمع من عمر (¬5) . وقال الخليلي: (الحفاظ لا يثبتون سماعه من عمر) (¬6) . قال الشيخ أحمد شاكر في إسناد عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عمر: (إسناده ضعيف لانقطاعه فإن عبد الرحمن بن أبي ليلى كان صغيرًا جدًا في حياة عمر، ولد لست بقين من خلافته ... ) (¬7) . وأيضًا إبراهيم النخعي لم يصححوا سماعه من عائشة رضي الله عنها لأنه دخل عليها وهو صغير. قال ابن معين: (إبراهيم النخعي أدخل على عائشة وهو صبي) (¬8) ، وقال أبوحاتم: (لم يلق إبراهيم النخعي أحدًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا عائشة، ولم يسمع منها شيئًا، فإنه أدخل عليها وهو صغير) (¬9) . وقال المزي: (ودخل على عائشة أم المؤمنين، وروى عنها، ولم يثبت له منها سماع) (¬10) . ثالثًا: أن يذكر الراوي صيغة أداء تدل على نفي السماع: إذا ذكر الراوي صيغة أداء تدل على نفي السماع مثل "نبئت" أو "حدثت" أو "بلغني"، ونحو ذلك، فإن ذلك يعتبر دلالة بينة على عدم سماعه من الشيخ الذي روى عنه. مثال ذلك: قول أحمد بن حنبل: (لم يسمع محمد بن سيرين من ابن عباس يقول في كلها: "نبئت عن ابن عباس" (¬11) . ¬

(¬1) تاريخ ابن معين برواية الدوري (2/208) . (¬2) المراسيل لابن أبي حاتم (ص65) . (¬3) مسند الإمام أحمد (1/202) تحقيق أحمد شاكر. (¬4) انظر المراسيل لابن أبي حاتم (ص109) . (¬5) انظر المراسيل لابن أبي حاتم (ص108) . (¬6) تهذيب التهذيب (6/262) . (¬7) مسند الإمام أحمد (1/238) تحقيق أحمد شاكر. (¬8) تاريخ ابن معين برواية الدوري (2/16) بتصرف يسير. (¬9) المراسيل لابن أبي حاتم (ص18) . (¬10) تهذيب الكمال (2/235) تحقيق د. بشار عواد معروف. (¬11) المراسيل لابن أبي حاتم (ص150)

وقال عمر بن الواحد: (حدثنا عن عطاء الخراساني ... ) (¬1) وصيغة الأداء هذه تدل على أن عمر بن عبد الواحد لم يسمع من عطاء الخرساني. وقال أحمد بن حنبل: (بلغني عن سلام بن أبي مطيع ... ) (¬2) وهذه الصيغة تدل على أن الإمام أحمد لم يسمع سلام بن أبي مطيع. وتلك الصيغ ظاهرة في الدلالة على عدم السماع بين المتعاصرين اللذين لم يثبت لقاؤهما لبعضهما حتى لو كانت أكثر الطرق بالعنعنة، وورد في سند أو طريق واحد لفظ مثل "نبئت" أو "حدثت"، فإن ذلك حجة عدم السماع بين المعنعن والمعنعن عنه في الطرق الأخرى. رابعًا: إدخال واسطة بين المعنعن والمعنعن عنه في بعض الطرق: إذا روى رجل عن آخر حديثًا ولم يثبت سماع أو لقاء أحدهما من الآخر، ثم جاء من طريق آخر إدخال شخص واحد أو أكثر بين ذلك الرجل والمروي عنه فإن هذا مما يستدل به أئمة النقد والتعليل على الانقطاع بين ذلك الرجلين. قال ابن الصلاح في بيان معرفة المرسل الخفي: (ومنه ما كان الحكم بإرساله محالاً على مجيئه من وجه آخر بزيادة شخص واحد أو أكثر في الموضع المدعى فيه الإرسال كالحديث عن عبد الرزاق عن الثوري عن أبي إسحاق، فإنه حكم فيه بالإنقطاع والإرسال بين عبد الرزاق والثوري، لأنه روى عن عبد الرزاق قال حدثني النعمان بن أبي شيبة الجندي عن الثوري عن أبي إسحاق. وحكم أيضًا فيه بالإرسال بين الثوري وأبي إسحاق، لأنه روي عن الثوري عن شريك عن أبي إسحاق) (¬3) . وقال ابن رجب: (فإن كان الثقة يروي عمن عاصره - ولم يثبت لقبه له - ثم يدخل أحيانًا بينه وبينه واسطة فهذا يستدل به هؤلاء الأئمة على عدم السماع منه. قال أحمد: "البهي ما أراه سمع من عائشة، إنما يروي عن عروة عن عائشة. ¬

(¬1) تاريخ أبي زرعة الدمشقي (1/358) . (¬2) العلل لأحمد برواية ابنه عبد الله (1/368) . (¬3) علوم الحديث (ص262) بتصرف يسير.

قال: وفي حديث زائدة عن السدي عن البهي قال: حدثتني عائشة. قال: وكان ابن مهدي سمعه من زائدة، وكان يدع منه "حدثتني عائشة" ينكره") (¬1) . ونصوص كبار الأئمة في ذلك كثيرة جدًا نذكر بعضها على سبيل المثال: سئل يحيى بن معين: عبد الله بن نجي سمع من علي؟ فقال: (لا. بينه وبين علي أبوه) (¬2) . وسئل ابن معين عن حديث سالم بن أبي الجعد عن كعب بن مرة البهري؟ فقال: (هو مرسل قد أدخل شعبة بينهما شرحبيل بن السمط) (¬3) . وسئل أحمد بن حنبل: أبووائل سمع من عائشة؟ فقال: (ما أرى. أدخل بينهما مسروق في غير شيء) (¬4) . وسئل أحمد بن حنبل عن سماع حميد بن هلال من هشام بن عامر؟ فقال: (ما أراه سمع منه وذاك أنه يدخل بينهما رجل وبعضهم يقول: أبوالدهماء) (¬5) . وقال أبوحاتم: (طلحة بن مصرف أدرك أنسًا، وما أثبت له سماع منه، يروي عن خثيمة عن أنس، وعن يحيى بن سعيد عن أنس) (¬6) . وموقف الإمام مسلم من رواية المحدث عمن عاصره - ولم يثبت لقيهما - إذا جاء في بعض الطرق زيادة رجل أو أكثر بينهما أن ذلك يعد دلالة بينة على عدم السماع واللقاء كما هو موقف كبار أئمة النقد* (¬7) . ¬

(¬1) شرح علل الترمذي (1/369) . والنص المنقول عن أحمد في المراسيل لابن أبي حاتم (ص101) . (¬2) المراسيل لابن أبي حاتم (ص96) . (¬3) جامع التحصيل (ص179) . (¬4) المراسيل لابن أبي حاتم (ص77) . (¬5) مسائل أحمد لأبي داود (ص325) . (¬6) المراسيل لابن أبي حاتم (ص90) . (¬7) المراسيل لابن أبي حاتم (ص151) .

دليل ذلك أن مسلمًا قال: (ومحمد بن علي لا يعلم له سماع من ابن عباس، ولا أنه لقيه أو رآه) (¬1) . ومحمد هو محمد بن علي بن عبد الله حفيد عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ولد سنة ثمان وخمسين، وقيل سنة ستين (¬2) . أي قبل موت جده بثمان أو عشر سنوات. والسبب الذي حمل مسلمًا على أن يقول: (لا يعلم له سماع من ابن عباس، ولا أنه لقيه أو رآه) هو أن محمد بن علي يروي عن أبيه عن عبد الله بن عباس كما في صحيح مسلم (¬3) ، ولم يرد ما يثبت أن محمدًا سمع أو لقي جده عبد الله بن عباس، فدل ذلك على أن حديثه عن جده منقطع مع وجود ما يدل على تحقق المعاصرة. إذ لو كان محمد سمع من جده عبد الله بن عباس لما احتاج أن يذكر أباه، ويبعد احتمال أن يكون سمع من ابن عباس، لأنه لا يثبت له سماع منه. ويدل صنيع مسلم على أنه إذا وجدت واسطة في السند بين المنعنعن والمعنعن عنه كان ذلك قرينة قوية على عدم السماع. فلابد لقبول الخبر من ثبوت السماع أو اللقاء بينهما. وعدم التنبه لهذه القضية وأثرها في عدم الاكتفاء بالمعاصرة أوقع بعض العلماء الأفاضل في خطأ. كما وقع من ابن دقيق العيد - رحمه الله - عندما علق على قول الإمام أحمد وغيره: عراك بن مالك لم يسمع من عائشة بقوله: (قد ذكروا سماعه من أبي هريرة ولم ينكروه، وأبوهريرة توفي هو وعائشة في سنة واحدة، فلا يبعد سماعه من عائشة مع كونهما في بلد واحدة) (¬4) . ولا يستقيم الاحتجاج بالمعاصرة هنا لأن عراك بن مالك لم يثبت لقيه لعائشة رضي الله عنها، ولأنه جاء في بعض الطرق إدخال واسطة بينهما لذا قال الإمام ¬

(¬1) التمييز (ص215) . (¬2) تاريخ دمشق لابن عساكر (15/748) . (¬3) انظر صحيح مسلم (1/530) . (¬4) نصب الراية (2/106-107) .

أحمد: (عراك بن مالك من أين سمع عائشة؟ ما له ولعائشة؟ إنما يروي عن عروة) (¬1) . ومما يجدر التنبيه عليه أن المحدث غير المدلس إذا كان قد سمع من شيخه، ثم جاء من طريق آخر ذكر واسطة بينهما بزيادة رجل أو أكثر فإن العلماء في الغالب يعدون هذا من المزيد في متصل الأسانيد. والفرق بينه وبين ما تقدم أوضحه العلائي بقوله: (وحاصل الأمر أن الراوي متى قال عن فلان ثم أدخل بينه وبينه في ذلك الخبر واسطة فالظاهر أنه لو كان عنده عن الأعلى لم يدخل الواسطة، إذ لا فائدة في ذلك، وتكون الرواية الأولى مرسلة إذا لم يعرف الراوي بالتدليس، وإلا فمدلسة، وحكم المدلس حكم المرسل) (¬2) . (فأما متى كان يلفظ حدثنا ونحوه ثم جاء الحديث في رواية أخرى عنه بزيادة رجل بينهما فهذا هو المزيد في متصل الأسانيد) (¬3) . ¬

(¬1) المراسيل (ص134) . (¬2) جامع التحصيل (ص131-132) . (¬3) جامع التحصيل (ص126) .

الفصل الثالث أدلة الاكتفاء بالمعاصرة عند مسلم وغيره

الفصل الثالث أدلة الاكتفاء بالمعاصرة عند مسلم وغيره من العلماء ومناقشتها المبحث الأول: ذكر الأدلة. المبحث الثاني: مناقشة الأدلة. المبحث الأول ذكر الأدلة استدل الإمام مسلم لمذهبه في السند المعنعن بأدلة ترجع في حقيقتها إلى ثلاثة أدلة، وهي في واقع الأمر مناقشة لمخالفه وإلزام له ببعض الأمور. وقد ذكر بعض العلماء المؤيدين لمذهب مسلم أدلة أخرى لم يذكرها لتقوية رأيه في الاكتفاء بالمعاصرة. وسيكون هذا المبحث مقتصرًا على ذكر الأدلة بالتفصيل وهي تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: الأدلة التي ذكرها مسلم. القسم الثاني: الأدلة التي ذكرها بعض المؤيدين لمسلم. القسم الأول: الأدلة التي ذكرها مسلم: لم يرتب الإمام مسلم أدلته بالتسلسل، ولكن الناظر فيها يمكنه حصرها في ثلاثة أدلة. هي: الدليل الأول: قال الإمام مسلم (فيقال لمخترع هذا القول الذي وصفنا مقالته، أو للذاب عنه: قد أعطيت في جملة قولك أن خبر الواحد الثقة عن الواحد

الثقة حجة يلزم به العمل. ثم أدخلت فيه الشرط بعد فقلت: حتى نعلم أنهما قد كانا التقيا مرة فصاعدًا أو سمع منه شيئًا، فهل تجد هذا الشرط الذي اشترطته عن أحد يلزم قوله؟ وإلا فهلم دليلاً على ما زعمت. فإن ادعى قول أحد من علماء السلف بما زعم من إدخال الشريطة في تثبيت الخبرة، طولب به، ولن يجد هو ولا غيره إلى إيجاده سبيلا) (¬1) . وقال في موضع آخر: (وما علمنا أحدًا من أئمة السلف، ممن يستعمل الأخبار ويتفقد صحة الأسانيد وسقمها، مثل أيوب السختياني وابن عون ومالك بن أنس وشعبة بن الحجاج ويحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي ومن بعدهم من أهل الحديث، فتشوا عن موضع السماع في الأسانيد كما ادعاه الذي وصفنا من قبل. وإنما كان تفقد من تفقد منهم سماع رواة الحديث ممن روى عنهم إذا كان الراوي ممن عرف بالتدليس في الحديث وشهر به فحينئذ يبحثون عن سماعه في روايته. ويتفقدون ذلك منه كي تنزاح عنهم علة التدليس. فمن ابتغى ذلك من غير مدلس على الوجه الذي زعم من حكينا قوله، فما سمعنا ذلك عن أحد ممن سمينا، ولم نسم من الأئمة) (¬2) . الدليل الثاني: قال مسلم: (فيقال له: فإن كانت العلة في تضعيفك الخبر وتركك الاحتجاج به إمكان الإرسال فيه، لزمك أن لا تثبت إسنادًا معنعنًا حتى ترى في السماع من أوله إلى آخره. وذلك أن الحديث الوارد علينا بإسناد هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة فبيقين نعلم أن هشامًا قد سمع من أبيه وأن أباه قد سمع من عائشة كما نعلم أن عائشة قد سمعت من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد يجوز إذا لم يقل هشام في رواية يرويها عن أبيه: سمعت أو أخبرني أن يكون بينه وبين أبيه في تلك الرواية إنسان آخر أخبره بها عن أبيه، ولم يسمعها هو من أبيه لما أحب أن يرويها مرسلاً ولا يسندها إلى من سمعها منه. ¬

(¬1) مقدمة صحيح مسلم (1/30) . (¬2) مقدمة صحيح مسلم (1/32-33) .

وكما يمكن ذلك في هشام عن أبيه فهو أيضًا ممكن في أبيه عن عائشة، وكذلك كل إسناد لحديث ليس فيه ذكر سماع بعضهم من بعض. وإن كان قد عرف في الجملة أن كل واحد منهم قد سمع من صاحبه سماعًا كثيرًا، فجائز لكل واحد منهم أن ينزل في بعض الرواية فيسمع من غيره عنه بعض أحاديثه، ثم يرسله عنه أحيانًا، ولا يسمى من سمع منه، وينشط أحيانًا فيسمى الرجل الذي حمل عنه الحديث ويترك الإرسال. وما قلنا من هذا موجود في الحديث مستفيض من فعل ثقات المحدثين وأئمة أهل العلم، وسنذكر من رواياتهم على الجهة التي ذكرنا عددًا يستدل بها على أكثر منها إن شاء الله تعالى. فمن ذلك أن أيوب السختياني وابن المبارك ووكيعًا وابن نمير وجماعة غيرهم رووا عن هشام بن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحله ولحرمه بأطيب ما أجد". فروى هذه الرواية بعينها الليث بن سعد وداود العطار وحميد بن الأسود ووهيب بن خالد وأبوأسامة عن هشام قال أخبرني عثمان بن عروة عن عروة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروى هشام عن أبيه عن عائشة قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله وأنا حائض". فرواها بعينها مالك بن أنس عن الزهري عن عروة عن عمرة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروى الزهري وصالح بن أبي حسان عن أبي سلمة عن عائشة: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل وهو صائم؟ فقال يحيى بن أبي كثير في هذا الخبر في القبلة: أخبرني أبوسلمة بن عبد الرحمن أن عمر بن عبد العزيز أخبره أن عروة أخبره أن عائشة أخبرته "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبلها وهو صائم". وروى ابن عيينة وغيره عن عمرو بن دينار عن جابر قال: "أطعمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحوم الخيل ونهانا عن لحوم الحمر".

فرواه حماد بن زيد عن عمرو عن محمد بن علي عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا النحو في الروايات كثير يكثر تعداده وفيما ذكرنا منها كفاية لذوي الفهم. فإذا كانت العلة عند من وصفنا قوله من قبل في فساد الحديث وتوهينه إذا لم يعلم أن الراوي قد سمع ممن روى عنه شيئًا إمكان الإرسال فيه لزمه ترك الاحتجاج في قياد قوله برواية من يعلم أنه قد سمع ممن روى عنه. إلا في نفس الخبر الذي فيه ذكر السماع لما بينا من قبل عن الأئمة الذين نقلوا الأخبار، أنهم كانوا لهم تارات يرسلون فيها الحديث إرسالاً ولا يذكرون من سمعوه منه، وتارات ينشطون فيها فيسندون الخبر على هيئة ما سمعوا فيخبرون بالنزول فيه إن نزلوا، وبالصعود إن صعدوا كما شرحنا ذلك عنهم) (¬1) . الدليل الثالث: ذكر مسلم أن هناك أسانيد لا يثبت فيها سماع الراوي من المروي عنه وهي عند أئمة الحديث من الأسانيد الصحيحة التي يحتج بها، وذكر أمثلة على ذلك فقال: (فمن ذلك أن عبد الله بن يزيد الأنصاري - وقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - قد روى عن حذيفة وعن أبي مسعود الأنصاري عن كل واحد منهما حديثًا يسنده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس في روايته عنهما ذكر السماع منهما، ولا حفظنا في شيء من الروايات أن عبد الله بن يزيد شافه حذيفة وأبا مسعود بحديث قط، ولا وجدنا ذكر رؤيته إياهما في رواية بعينها. ولم نسمع عن أحد من أهل العلم ممن مضى، ولا ممن أدركنا أنه طعن في هذين الخبرين اللذين رواهما عبد الله بن يزيد عن حذيفة وأبي مسعود بضعف فيهما. بل هما وما أشبههما عند من لاقينا من أهل العلم بالحديث من صحاح الأسانيد وقويها يرون استعمال ما نقل بها والاحتجاج بما أتت من سنن وآثار. وهي في زعم من حكينا قوله من قبل: واهية مهملة حتى يصيب سماع الراوي عمن روى. ولو ذهبنا نعدد الأخبار الصحاح عند أهل العلم - ممن يهن بزعم هذا القائل - ونحصيها لعجزنا عن تقصي ذكرها وإحصائها كلها. ولكنا ¬

(¬1) مقدمة صحيح مسلم (1/30-32) .

أحببنا أن تنصب منها عددًا يكون سمة لما سكتنا عنه منها. وهذا أبوعثمان النهدي وأبورافع الصائغ - وهما ممن أدرك الجاهلية وصحبا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البدريين هلم جرا، ونقلا عنهم الأخبار حتى نزلا إلى مثل أبي هريرة وابن عمر وذويهما - قد أسند كل واحد منهما عن أبي بن كعب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا. ولم نسمع في رواية بعينها أنهما عاينا أبيا أو سمعا منه شيئًا. وأسند أبوعمر الشيباني وهو ممن أدرك الجاهلية، وكان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً، وأبومعمر عبد الله بن سخبرة كل واحدة منهما عن أبي مسعود الأنصاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خبرين. وأسند عبيد بن عمير عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا، وعبيد بن عمير ولد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأسند قيس بن أبي حازم - وقد أدرك زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أبي مسعود الأنصاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أخبار. وأسند عبد الرحمن بن أبي ليلى - وقد حفظ عن عمر بن الخطاب وصحب عليًا - عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا. وأسند ربعي بن حراش عن عمران بن حصين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثين، وعن أبي بكرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا، وقد سمع ربعي من علي بن أبي طالب وروى عنه. وأسند نافع بن جبير بن مطعم عن أبي شريح الخزاعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأسند النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد الخدري ثلاثة أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأسند عطاء بن يزيد الليثي عن تميم الداري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا. وأسند سليمان بن يسار عن رافع بن خديج عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا. وأسند حميد بن عبد الرحمن الحميري عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث. فكل هؤلاء التابعين الذين نصبنا روايتهم عن الصحابة الذين سميناهم لم

يحفظ عنهم سماع علمناه منهم في رواية بعينها، ولا أنهم لقوهم في نفس خبر بعينه. وهي أسانيد عند ذوي المعرفة بالأخبار والروايات من صحاح الأسانيد لا نعلمهم وهنوا منها شيئًا قط، ولا التمسوا فيها سماع بعضهم من بعض إذ السماع لكل واحد منهم ممكن من صاحبه غير مستنكر لكونهم جميعًا كانوا في العصر الذي اتفقوا فيه) (¬1) . القسم الثاني: الأدلة التي ذكرها بعض المؤيدين لمسلم: ذكر الشيخ المحقق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي - رحمه الله -، والأستاذ الشيخ عبد الفتاح أبوغدة بعض الأدلة في تأييد الاكتفاء بالمعاصرة لم يذكرها الإمام مسلم - رحمه الله - فسأذكرها هنا في الدليل الرابع، والخامس، والسادس، لأنها مكملة لما ذكره مسلم. الدليل الرابع: أن الأصل في الرواية أن تكون عما شاهده الراوي. قال الشيخ المعلمي مبينًا ذلك: (الأصل في الرواية أن تكون عما شاهده الراوي أو أدركه، فتأمل هذا وافرض أمثلة بريئة عن القرائن من الطرفين. كأن تكون ببلدة فتسمع برجل غريب جاءها، وبعد أيام تلقاه فيخبرك عن أناس عن أهل تلك البلدة أن فلانًا قال كذا، وفلانًا قال كذا من دون أن يصرح بسماع، ولا علمت لقاءه لهم، ولكنك تعتقد أنه لا مانع له من لقائهم. ثم توسع في الأمثلة ولاحظ أنها واقعة في عصر التابعين حين لا برق ولا بريد ولا صحافة ولا تأليف، وإنما كان يتلقى من الأفواه، والناس مشمرون لطلب العلم، ولاسيما للقاء أصحاب نبيهم - صلى الله عليه وسلم -. ثم لاحظ أنه لم يكن يوجد منهم إلا نادرًا من لم يزر الحرمين، وفيهما يمكن اجتماع الراوي بالمروي عنه إذا كانا متعاصرين، وبهذا يندفع ما يوهمه تباعد البلدين مع عدم اللقاء. فإذا كان الحال ما ذكر وثبت أن أحد المتعاصرين روى عن الآخر بلا تصريح بسماع ولا عدمه كان المتبادر السماع. ¬

(¬1) مقدمة صحيح مسلم (1/33-35) .

فكيف إذا لاحظت أن كثيرًا من السلف كان يزور الحرمين كل عام فكيف إذا كان أحدهما ساكن أحد الحرمين. فكيف إذا ثبت أن الآخر زارهما، وكذا إذا كان أحد الشخصين ببلد قد زاره الآخر فأما إذا كانا ساكنين بلدًا واحدًا فإنه يكاد يقطع باللقاء. وزد على هذا أن الإسناد كان شائعًا في عهد السلف لا تكاد تجد أحدًا إلا وهو يقول: عن فلان أن فلانًا أخبره عن فلان مثلاً. مع أن السلف كانوا أهل تثبيت واحتياط. إذا تقرر هذا فما المانع من الأخذ بهذه الأدلة الظاهرة المحصلة للظن المستوفية لنصاب الحجية. إن قيل: كان اصطلاح السلف خلاف ما يقتضيه الأصل بدليل شيوع الإرسال فيهم. قلت: أما الإرسال الجلي فمسلم، ولكن أقل من الإسناد كما يعلم بالاستقراء فهو كالمجاز لا يقدح شيوعه في تقديم الحقيقة عليه، وأما الخفي فقليل حتى أنه أقل من التدليس. فإذا قيل: فإن ذهاب ابن المديني والبخاري - رحمهما الله تعالى - إلى اشتراط اللقاء يدل على شيوع الإرسال الخفي في السلف. قلت: الاستقراء أقوى من هذا الاستدلال مع أن مسلمًا - رحمه الله - نقل في مقدمة صحيحه الإجماع على عدم اشتراط اللقاء - أي قبلهما - كما أشار إليه بالتشنيع على بعض معاصريه فقيل: إنه أراد به البخاري، ولا مانع من أن يريده وشيخه ابن المديني فقد كان أيضًا معاصرًا له. فلا يخدش خلافهما وخلاف من عاصرهما أو تبعهما في الإجماع السابق على أن أقل ما يثبت بنقل مسلم أن الغالب في عهد السلف أن تكون الرواية على السماع. والبخاري وشيخه لا ينكران أن الظاهر من الرواية السماع بدليل تصحيحهما لعنعنة الملاقي غير المدلس، فلولا وفاقهما على أن الظاهر من الرواية السماع لكانا إنما يعتمدان مجرد اللقاء فيلزمهما أن يثبتا لكل من لقي شخصًا أنه سمع منه جميع حديثه. وهذا كما ترى.

وإنما اشترطا ثبوت اللقاء لأن الدلالة معه تكون أقوى وأظهر، وهذا صحيح غالبًا، ولكنه لا يقتضي إهدار الحاصلة مع عدم ثبوت اللقاء مادامت دلالة ظاهرة محصلة للظن مستكملة النصاب كما مر) (¬1) . الدليل الخامس: أن الإرسال الخفي أقبح وأشنع من التدليس فلا يجوز اتهام الراوي به لأن الأصل السلامة منه. قال المعلمي: (الإرسال الخفي أقبح وأشنع من التدليس - كما سيأتي - فالثقة أشد تباعدًا عنه تدينًا وخوفًا من نقد النقاد الذين كانوا يومئذ بالمرصاد بخلاف التدليس فإنه أشد خفاء على الناقد ... [وقد قالوا] : بأن احتمال العنعنة لعدم السماع مع ثبوت اللقاء اتهام للراوي بالتدليس، والفرض سلامته منه، بخلاف احتمالها مع عدم ثبوت اللقاء، فإنما فيها اتهامه بالإرسال الخفي قط. ويرد بأنه قد نقل محققون من أهل الفن أن الإرسال الخفي تدليس، منهم ابن الصلاح والنووي والعراقي وقال: "إنه المشهور بين أهل العلم بالحديث" (¬2) . ولنا بحث في تحقيق ذلك والإجابة عما ذكره الحافظ (¬3) رحمه الله لا حاجة لإثباته هنا لأن الخلاف لفظي للاتفاق على أن في الإرسال الخفي إيهامًا فاتهام الراوي به كاتهامه بالتدليس فإذا اتهمتم الراوي بأنه يرسل خفيًا وإن لم يوصف به فيلزمكم أن تتهموا الراوي بأنه مدلس وإن لم يوصف به فإن قلتم: أن الأصل في الثقة عدم التدليس. قلنا: وكذا الإرسال الخفي. فإن قلتم: الإيهام في الإرسال الخفي أضعف منه في التدليس فهو أقرب إلى اتصال الثقة به. قلنا: مسلم غالباً، ولكن هذا لا يقتضي أن لا يكون الأصل في الثقة عدم مادام فيه إبهام وتغرير وغش مناف لكمال الثقة مع أن الإبهام في الإرسال الخفي لأمرين كلاهما خلاف الواقع: السماع لذلك الحديث واللقاء. بخلاف التدليس فإنه وإن دل على الأمرين فاللقاء موافق للواقع فتبين أن ¬

(¬1) عمارة القبور (ل82-84) . (¬2) انظر التقييد والإيضاح (ص98) . (¬3) انظر النكت على كتاب ابن الصلاح (2/615) .

الإرسال الخفي أقبح وأشنع من التدليس كما قاله ابن عبد البر في التمهيد (¬1) ، ونحوه ليعقوب بن شيبة انظر فتح المغيث (ص74-75) ، وعليه فالثقة أشد بعدًا عنه تدينًا وخوفًا من نقد النقاد كما مر. فإذا اتهمتم الثقة به من غير أن يوصف به لزمكم من باب أولى اتهام الثقة بالتدليس، وإن لم يوصف به. فإن قيل: لعل السامع يكون عالمًا لعدم اللقاء فلا إيهام فلا إرسال خفيًا. قلنا: وكذلك لعل السامع يكون عالمًا بعدم السماع مطلقًا أو لذلك الحديث فلا إبهام فلا تدليس. والتحقيق أنه لو كان الراوي يعلم بعدم اللقاء أو عدم السماع وهو ثقة غير مدلس لبينه لمن يأخذ عنه، ولو فرض أن الثاني كان عالمًا بذلك فاستغنى عن التبيين فيلزم الثاني أن يبينه للثالث وهكذا. فإذا جاءنا الحديث من رواية الثقات غير الموصوفين بالتدليس والإرسال الخفي إلى ثقة كذلك روى بالعنعنة عمن عاصره وأمكن لقاؤه له، ولم ينص أحد من رجال السند، ولا غيرهم على عدم اللقاء؛ فهو كما إذا جاءنا الحديث من رواية الثقات غير الموصوفين بالتدليس إلى ثقة كذلك روى بالعنعنة عمن لقيه وأمكن سماعه لذلك الحديث منه، ولم ينص أحد من رجال السند أو غيرهم على عدم السماع. ففي قبول الأول احتمال اللقاء والسماع، وفي رده اتهام الثقة بإيهام اللقاء والسماع قبول الثاني احتمال السماع فقط، وفي رده اتهام الثقة بإبهام السماع فقط فهذه بتلك. فإذا لاحظنا قلة الإرسال الخفي في السلف، واعتيادهم للإسناد، وخوفهم من نقد النقاد كان الأمر واضح. فكيف إذا اعتبرنا القرائن الدالة على اللقاء كما سبق بيانها أول البحث) (¬2) . الدليل السادس: ذكره الشيخ عبد الفتاح أبوغدة على سبيل الإلزام لمن ¬

(¬1) انظر التمهيد (1/15) ، وابن عبد البر نقل كلامًا لغيره وليس له وانظر التمهيد (1/16-17) . (¬2) عمارة القبور (ل85- 87) .

المبحث الثاني مناقشة الأدلة

رجح أن البخاري يشترط اللقاء في أصل الصحة وليس في أعلى الصحة فقال: (يلزم منه أن يكون ما رواه مسلم في "صحيحه" من الأحاديث المعنعنة التي هي على شرطه في العنعنة: من قسم الحديث الضعيف في حكم البخاري، وفي حكم من مشى على قوله بعده!! وهذا غير مقبول لأنه يناقض كل المناقضة ما قرره العلماء على مر الزمن من أن كتاب مسلم "صحيح"، مع معرفتهم بشرطه في العنعنة، وكثيرًا ما قالوا في الحديث: صحيح على شرط مسلم. وقد عدوا مراتب الصحيح فقالوا فيها: أصحها ما اتفق عليه البخاري ومسلم، ثم ما انفرد به البخاري، ثم ما انفرد به مسلم، ثم ما كان على شرطهما ثم ما كان على شرط البخاري، ثم ما كان على شرط مسلم. فكيف يوفق القائل بمذهب البخاري في الحديث المعنعن، بين اختياره مذهب البخاري وقوله في كتاب مسلم: "صحيح"، وفيه الحديث المعنعن الذي هو في حكم البخاري - على مقتضى قول ابن حجر - لا يتصف بأصل الصحة؟! فتأمل وتدبر) (¬1) . ومراد الشيخ عبد الفتاح من هذا الإلزام ترجيح مذهب مسلم لأن القول بخلافه يوقع في التناقض. هذه بعض أدلة من اكتفى بالمعاصرة للاحتجاج بالسند المعنعن، وعددها ستة أدلة ثلاثة منها لمسلم، والثلاثة الباقية لغيره. المبحث الثاني مناقشة الأدلة ناقش بعض العلماء الإمام مسلم، وردوا عليه ما احتج به لتأييد مذهبه في السند المعنعن وسأذكر أقوالهم هنا - إن شاء الله -، ثم أذكر ملاحظاتي على كلام ¬

(¬1) التتمة الملحقة بكتاب "الموقظة" (ص137) .

الشيخين المعلمي وأبي غدة، وذلك على حسب التقسيم في المبحث السابق. القسم الأول: مناقشة الأدلة التي ذكرها مسلم: الدليل الأول: هذا الدليل ذو شقين: الشق الأول: ورد في قول مسلم رادًا على مخالفه: (قد أعطيت في جملة قولك أن خبر الواحد الثقة عن الواحد الثقة حجة يلزم به العمل. م أدخلت فيه الشرط بعد ... ) (¬1) . وقد رد ابن رشيد على قول مسلم هذا بحجة قوية جاءت في قوله: (ولسنا ننازعك في أن أخبار الآحاد حجة يجب العمل بها بالإجماع في الجملة، وإنما ننازعك في قبول المعنعن منها مكتفى فيه بالمعاصرة فقط، وما ادعيت من أنا أدخلنا فيه الشرط زائدًا، فلنا أن نعكسه عليك بأن نقول: بل أنت نقصت من الإجماع شرطًا. فإنا قد اتفقنا نحن وأنت على قبول المعنعن من غير المدلس إذا كان قد ثبت لقاؤه له، فنقصت أنت من شروط الإجماع شرطًا، فتتوجه عليك المطالبة بالدليل على إسقاطه ... وتبين الآن أنا قائلون بمحل الإجماع وأنا لم نرد شرطًا بل أنت نقصته، ففلجت حجة خصمك عليك) (¬2) . وقد تابع العلائي ابن رشيد في الرد على مسلم بهذه الحجة (¬3) . الشق الثاني: ذكر مسلم - رحمه الله - أنه لا يعلم أحدًا من أئمة السلف فتش عن موضع السماع في الأسانيد كما ذهب إليه مخالفه، وإنما تفقدوا السماع ممن عرف بالتدليس فقط ومقتضى كلام مسلم أن هذا إجماع من السلف. ورد ابن رشيد على ذلك بقوله: (والجواب عن هذا الاستدلال: أنا لا نحكم دعواك الإجماع في محل النزاع لما نلقناه في ذلك عمن سلف كالبخاري أستاذك، وعلي بن المديني أستاذ أستاذك، ومكانهما من هذا الشأن شهرته مغنية عن ذكره ... وإذا ثبت نقل الشرط الذي طالبتنا به بطل الإجماع الذي ادعيته في محل ¬

(¬1) مقدمة صحيح مسلم (1/30) . (¬2) السنن الأبين (ص76) . (¬3) جامع التحصيل (ص118) .

النزاع، وهو الاكتفاء في قبول المعنعن بشرط المعاصرة فقط) (¬1) . وذكر العلائي قول مسلم: "إن تفقد الأئمة لمن أتى بلفظ "عن" إنما حين يعرف بالتدليس"، ثم رد عليه بقوله: (فإن أراد به الجميع فهو ممنوع فإن من مخالفيه في المسألة جبلي العلم علي بن المديني والإمام البخاري فلا إجماع في المسألة، وإذا كان البعض فلا دليل فيه) (¬2) . وذكر ابن رجب شواهد من أقوال أحمد بن حنبل، وأبي حاتم الرازي، وأبي زرعة الرازي، وغيرهم تدل على اشتراطهم السماع. ثم أعقب ذلك بقوله: (فإذا كان هذا هو قول هؤلاء الأئمة الأعلام، وهم أعلم أهل زمانهم بالحديث وعلله وصحيحه وسقيمه، ومع موافقة البخاري، وغيره، فكيف يصح لمسلم - رحمه الله - دعوى الإجماع على خلاف قولهم؟! بل اتفاق هؤلاء الأئمة على قولهم هذا يقتضي حكاية إجماع المعتد بهم على هذا القول، وأن القول بخلاف قولهم لا يعرف عن أحد من نظرائهم، ولا عمن قبلهم ممن هو في درجتهم وحفظهم، ويشهد لصحة ذلك حكاية أبي حاتم كما سبق اتفاق أهل الحديث على أن حبيب بن أبي ثابت لم يثبت له السماع من عروة مع إدراكه له. وقد ذكرنا من قبل أن كلام الشافعي إنما يدل على مثل هذا القول لا على خلافه، وكذلك حكاية ابن عبد البر عن العلماء، فلا يبعد حينئذ أن يقال: هذا هو قول الأئمة من المحدثين والفقهاء) (¬3) . (وأما إنكار مسلم أن يكون هذا قول شعبة أو من بعده فليس كذلك، فقد أنكر شعبة سماع من روي سماعه ولكن لم يثبته، كسماع مجاهد عن عائشة، وسماع أبي عبد الرحمن السلمي من عثمان وابن مسعود، وقال شعبة: "أدرك أبوالعالية عليًا ولم يسمع منه"، ومراده أنه لم يرد سماعه ولم يكتف بإدراكه فإن ¬

(¬1) السنن الأبين (ص73-74) . (¬2) جامع التحصيل (ص120) . (¬3) شرح علل الترمذي (1/372-373) .

سمع ممن هو أقدم موتًا، فإنه قيل: إنه سمع من أبي بكر الصديق وعمر رضي الله عنهما) (¬1) . وما ذكره الحافظ ابن رجب من أن اشتراط السماع أو اللقاء ينبغي أن يكون إجماعًا من أهل العلم فلا يسلم لأن هذه المسألة خلافية فلا تصح دعوى الإجماع فيها لا من مؤيدي البخاري ولا من مؤيدي مسلم. وما ذكره الإمام مسلم - رحمه الله - من أنه "لا يعلم عن أحد من أئمة السلف أنهم فتشوا عن السماع في الأسانيد وإنما كان تفقد من تفقد منهم السماع إذا كان الراوي ممن عرف بالتدليس وهر به" لا يسلم به فقد ذكرت في الفصل الرابع من الباب الأول نصوصًا عن شعبة بن الحجاج ويحيى بن سعيد القطان تدل على أنهما قد فتشا عن السماع في أسانيد رواة لم يكونوا مدلسين. وإضافة إلى النصوص التي ذكرتها في فصل "الجذور التاريخية للمسألة" سأذكر هنا نصوصًا عن بعض أئمة المحدثين تدل على أنهم قد فتشوا عن السماع في الأسانيد التي لم يروها من عرف بالتدليس وشهر به. 1- قال الإمام مالك: (لم يسمع سعيد بن المسيب من زيد بن ثابت) (¬2) . وسعيد بن المسيب ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر (¬3) ، وزيد بن ثابت اختلف في وفاته ما بين سنة خمس وأربعين إلى سنة خمس وخمسين (¬4) ، وسعيد بن المسيب من أحرص الناس على العلم، فيبعد جدًا أن لا يسمع من زيد بن ثابت الذي هو من أعلم الصحابة خاصة في القرآن والفرائض، لاسيما وهما من المقيمين في المدينة. أضف إلى ذلك أن بعض العلماء قد نص على سماع سعيد من زيد، ومن أولئك علي بن المديني الذي قال في أصحاب زيد بن ثابت: (فأما من لقيه منهم، ¬

(¬1) شرح علل الترمذي (1/372-373) . (¬2) الجرح والتعديل (1/23) . (¬3) انظر تهذيب التهذيب (4/85) . (¬4) سير أعلام النبلاء (2/441) .

وثبت عندنا لقاؤه: سعيد بن المسيب ... ) (¬1) . وكذلك الذهبي صرح أن سعيدًا سمع من زيد بن ثابت (¬2) . وقد وجدت حديثًا فيه إثبات سماع سعيد بن المسيب من زيد بن ثابت أخرجه الطبراني في معجمه الكبير (¬3) عن سعيد بن المسيب قال: (كنت مع قوم اختلفوا في صلاة الوسطى، وأنا أصغر القوم، فبعثوني إلى زيد بن ثابت لأسأله عن صلاة الوسطى، قال: فأتيته فسألته..) . فيكون الإمام مالك قد فتش عن السماع فلم يجده فقال: (لم يسمع سعيد بن المسيب من زيد بن ثابت) ، وفي هذا استدراك على ما قاله مسلم عن أئمة السلف وقد ذكر منهم مالك. 2- قال عبد الرحمن بن مهدي: (شهدت سفيان - الثوري - عند العمري - عبد الله بن عمر - فجعل يوقفه في كل حديث توقيفًا شديدًا) (¬4) . ومعنى يوقفه توقيفًا شديدًا أي لا يدعه يذكر حديثًا حتى يسأله هل سمعته؟ أو يقول له قل: حدثني، قل: سمعت. وقد أخرج ابن أبي حاتم قبل هذا النص نصًا آخر عن عبد الرحمن بن مهدي أيضًا يقول فيه: (كنت مع سفيان عند عكرمة - بن عمار - فجعل يوقفه على كل حديث على السماع) . وفي تفقد سفيان الثوري وهو أحد أئمة المحدثين عن السماع من محدث ثقة مثل العمري لا يعرف بالتدليس ما يدل على أن البحث عن السماع في الأسانيد التي لم يروها من عرف بالتدليس كان أمرًا معروفًا وموجودًا عند علماء الحديث. قال يحيى بن سعيد القطان: (شهدت سفيان - الثوري - يقول لأبي الأشهب - جعفر بن حيان السعدي -: قال: سمعت، قل: سمعت) (¬5) . ¬

(¬1) العلل لابن المديني (ص45) . (¬2) انظر سير أعلام النبلاء (4/218) . (¬3) انظر المعجم الكبير (5/121) . والسند رجاله ثقات إلا عثمان بن عثمان الغطفاني قال فيه الحافظ في التقريب (ص385) : (صدوق ربما وهم) . (¬4) الجرح والتعديل (1/68) . (¬5) الجرح والتعديل (1/82) .

ولم ينسب أبوالأشهب إلى التدليس فيكون في هذا النص أيضًا دليل على تفقد سفيان الثوري للسماع من محدث ثقة غير مدلس. 3- قال شعبة بن الحجاج: (كل شيء حدثتكم به فذلك الرجل حدثني به أنه سمعه من فلان إلا شيئًا أبينه لكم) (¬1) . وأكد ذلك يحيى بن سعيد القطان بقوله: (كل شيء يحدث به شعبة عن رجل فلا تحتاج أن تقول عن ذلك الرجل أنه سمع فلانًا؟، قد كفاك أمره) (¬2) . وشعبة مشهور بتفقد سماعات الرواة مدلسين وغيرهم حتى أنه قال لرجل قال له: قل حدثني أو أخبرني: (فقدتك وعدمتك وهل جاء بهذا أحد قبلي) (¬3) . واعتمد كبار النقاد وأئمة الحديثث على شعبة في ذلك فهذا ابن أبي حاتم يسأل أباه: عن أبي مالك غزوان الغفاري هل سمع من عمار بن ياسر شيئًا فيجيبه: (ما أدري ما أقول لك قد روى شعبة عن حصين عن أبي مالك سمعت عمارًا، ولو لم يعلم شعبة أنه سمع من عمار ما كان شعبة يرويه) (¬4) . يقصد لو كان التصريح بالسماع بين أبي مالك وعمار خطأ لما رواه شعبة بلفظ سمعت. ومن الشواهد على حرص شعبة على السماع وتفتيشه عنه ما يلي: قال أبوداود الطيالسي: (ثنا شعبة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الولاء وهبته". قال شعبة قلت لعبد الله بن دينار: أنت سمعته منه؟ قال: نعم، سأله ابنه عنه) (¬5) بل قيل إن شعبة استحلف عبد الله بن دينار في سماعه لهذا الحديث من ابن عمر (¬6) . وقال شعبة: (سألت أبا إسحاق - السبيعي - عن عبد الله بن عطاء الذي ¬

(¬1) الجرح والتعديل (1/173) . (¬2) الجرح والتعديل (1/162) . (¬3) الجرح والتعديل (1/166) . (¬4) العلل لابن أبي حاتم (1/24) . (¬5) الجرح والتعديل (1/163-164) . (¬6) الجرح والتعديل (1/170) .

روى عن عقبة: "كنا نتناوب رعية الإبل". قال: شيخ من أهل الطائف حدثنيه. قال شعبة: فلقيت عبد الله فقلت: سمعته من عقبة؟ فقال: لا. حدثنيه سعد بن إبراهيم، فلقيت سعد بن إبراهيم فسألته. فقال: حدثني زياد بن مخراق، فلقيت زيادًا فقال: حدثني عن شهر بن حوشب) (¬1) . وقال يحيى بن كثير العنبري: (ثنا شعبة عن قتادة عن سعيد بن جبير عن ابن عمر "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن نبيذ الجر". قال شعبة: فقلت لقتادة: ممن سمعته؟ قال: حدثنيه أيوب السختياني قال شعبة: فأتيت أيوب فسألته فقال: حدثنيه أبوبشر. قال شعبة: فأتيت أبابشر فسألته فقال: أنا سمعت سعيد بن جبير عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن نبيذ الجر) (¬2) . وهذا كله يدل على أن مسلمًا - رحمه الله - لم يصب في نفيه أن أحدًا من أئمة السلف، وسمى منهم شعبة لم يفتشوا عن السماع في الأسانيد إلا من المدلسين. 4- قال يحيى بن سعيد القطان: (قالوا: إن أبا حاتم سويدًا سمع من أبي المليح في بيض النعام. فسألته فقال: لم أسمعه حدثني زياد بن أبي المليح) (¬3) . وسويد هو ابن إبراهيم الجحدي أبوحاتم الحناط، ولم ينعته أحد بالتدليس. وقال البخاري: (وكان يحيى بن سعيد ينكر أن يكون سمع أبوالشعثاء من سلمان) (¬4) . أبوالشعثاء هو سليم بن أسود المحاربي ثقة لم يوصف بالتدليس. وهو ¬

(¬1) التاريخ الصغير (2/62-63) . وقصة شعبة في التفتيش عن سماع هذا الحديث مشهور جدًا انظرها في الضعفاء لابن حبان (1/28-30) ، والمحدث الفاصل (ص313) ، والجرح والتعديل (1/167) ، والكامل في الضعفاء (4/1354) ، والتمهيد لابن عبد البر (1/48-51) ، والمعرفة والتاريخ (2/426) . (¬2) الجرح والتعديل (1/69) . (¬3) التاريخ الكبير (4/148) . (¬4) التاريخ الصغير (1/208) .

معاصر لسلمان الفارسي، لأن سمع (¬1) من ابن مسعود رضي الله عنه، وقد مات ابن مسعود، سنة اثنتين وثلاثين أو ثلاث وثلاثين (¬2) ، وأما سلمان الفارسي فقد مات سنة أربع وثلاثين (¬3) . فلم يكتف يحيى بن سعيد بالمعاصرة بل ولا بذكر السماع من طريق فيه نظر. وقال البخاري: (اسم أبي ظبيان: حصين بن جندب الجنبي الكوفي. سمع سلمان وعليًا. وسمع منه إبراهيم والأعمش ووقاء بن إياس. وكان يحيى بن سعيد ينكر أن يكون سمع من سلمان) (¬4) . وقد أثبت البخاري سماع أبي ظبيان من سلمان كما هو ظاهر هنا، وأيضًا نص على ذلك في تاريخه الكبير (¬5) . ففي إنكار يحيى بن سعيد لذلك دلالة على أنه فتش عن السماع في سند يرويه ثقة لم يعرف بالتدليس. ويحيى بن سعيد القطان أحد الأئمة الذين سماهم مسلم باعتباره أحد أئمة السلف الذين لم يفتشوا عن السماع إلا من مدلس. وبما تقدم يتضح أن الدليل الأول الذي ذكره الإمام مسلم لا يسلم من اعتراضات قوية تجعله دليلاً لا يوافق عليه. الدليل الثاني: وفحوى هذا الدليل أن من اشترط ثبوت اللقاء ولو مرة في السند المعنعن لاحتمال الإرسال يلزمه أن لا يثبت سندًا معنعنًا حتى يرى فيه السماع من أوله إلى آخره لأن احتمال الإرسال فيه جائز وممكن وقد وقع ذلك من أئمة ثقات معروفين بالملازمة وكثرة السماع عن شيوخهم الذين رووا عنهم، وقد وجد إرسال هؤلاء الأئمة عن شيوخهم أولئك في بعض مروياتهم، وضرب مسلم على ذلك أمثلة. وقد رد عدد من العلماء على هذا الإلزام فقال ابن الصلاح: (والجواب عما ¬

(¬1) المرجع السابق. (¬2) التقريب (ص323) . (¬3) التقريب (ص246) . (¬4) التاريخ الصغير (1/240) . (¬5) التاريخ الكبير (1/240) .

احتج به مسلم: أنا قبلنا المعنعن وحملناه على الاتصال بعد ثبوت التلاقي ممن لم يعرف منه تدليس، لأنه لو لم يكن قد سمعه ممن رواه عنه لكان بإطلاقه الرواية عنه مدلسًا، والظاهر سلامته من وصمة التدليس، ومثل هذا غير موجود فيما إذا لم يعلم تلاقيهما) (¬1) . وأجاب النووي على إلزام مسلم بقوله: (إذا ثبت التلاقي غلب على الظن الاتصال والباب مبني على غلبة الظن فاكتفيا به. وليس هذا المعنى موجودًا فيما إذا أمكن التلاقي ولم يثبت فإنه لا يغلب على الظن الاتصال فلا يجوز الحمل على الاتصال ويصير كالمجهول فإن روايته مردودة لا للقطع بكذبه أو ضعفه بل للشك في حاله) (¬2) . وقد أجاب العلائي عما ألمح إليه مسلم من أن احتمال الإرسال في معنعن من ثبت لقيه مثل احتمال الإرسال في معنعن المعاصر غير المدلس فلا فرق بينهما بقوله: (الفرق بين المقامين بأن الراوي إذا ثبت لقاؤه لمن عنعن عنه ومشافهته له وكان بريئًا من تهمة التدليس فالظاهر من حاله فيما أطلقه بلفظ "عن" الاتصال وعدم الإرسال حتى يتبين ذلك بدليل - كما في الأمثلة التي ذكرها - وهي منغمرة في جنب الغالب الكثير من الأسانيد، فلا يعترض بها على الغالب لندرتها بخلاف إرسال الراوي عمن لم يلقه فإنه كثير جدًا بلفظ "عن" فلا يلزم من عدم التوقف في ذلك عدم التوقف في هذا ومع ظهور الفرق بينهما فلا نقض) (¬3) . وبين الحافظ ابن حجر أن إلزام مسلم لمخالفه بعدم الاحتجاج بأي سند معنعن ليس بلازم فقال: (واكتفى مسلم بمطلق المعاصرة، وألزم البخاري بأنه يحتاج إلى أن لا يقبل العنعنة أصلاً، وما ألزمه به ليس بلازم، لأن الراوي إذا ثبت له اللقاء مرة لا يجري في روايته احتمال أن لا يكون سمع منه، لأنه يلزم من جريانه أن يكون مدلسًا، والمسألة مفروضة في غير المدلس) (¬4) . وما أبداه هؤلاء العلماء في ردهم على مسلم من حجج قوية يظهر ضعف ¬

(¬1) صيانة صحيح مسلم (ص128) . (¬2) شرح صحيح مسلم للنووي (1/128) . (¬3) جامع التحصيل (ص119-120) . (¬4) نزهة النظر (ص31) . ونحو كلامه هذا قاله في النكت على ابن الصلاح (2/596) .

الدليل الثاني الذي هو إلزام للمخالف بما لا يلتزمه. فإن للمخالف لمسلم أن يقول: قد ألزمتني بأمر لم ألتزمه وأراه غاية التعنت أن يرد كل سند معنعن قد ثبت سماع رواته من بعض لاحتمال عدم السماع في بعض ما يروى بذلك السند، وأنا لا أقبل ذلك لأن الاحتمال هنا نادر والحكم للغالب لا للنادر ثم إن في الأخذ بذلك رد لكثير من الأسانيد التي تداولها علماء أهل الحديث وصححوها واحتجوا بها وينبغي أن يكون الإلزام ملزمًا للمخالف حقًا، فما ذكره مسلم - رحمه الله - غير ملزم لمخالفة لوجود الفرق بين الأمرين. وظاهر صنيع مسلم أنه يحكم مطلقًا للزائد في السند الذي ثبت تلاقي رواته مثل إذا جاء طريقان أحدهما فيه فلان عن فلان، والثاني فيه زيادة رجل أو أكثر بين المعنعن والمعنعن عنه في الطريق الأول، فيحكم على السند الأول بأنه غير متصل وعلى السند الثاني الذي فيه الزيادة بأنه صحيح الاتصال. والصواب أن في المسألة تفصيلاً. قال ابن رشيد منتقدًا مسلمًا: (فحاصل ما أتيت بها أيها الإمام من الأمثلة أن من علم سماعه من إنسان ثم اختلفت الرواة عنه، فزاد بعضهم بينهما رجلاً أو أكثر، وأسقطه بعضهم، ومثلت ذلك بهشام عن أبيه عن عائشة، فإنه يحكم لمن زاد بالاتصال، ولمن نقص بالإرسال. وهذه المسألة أيها الإمام من معضلات هذا العلم، وهي من باب العلل التي يعز لدائها وجود الدواء، ويتعذر في كثير منها الشفاء، فكيف يصح أن يجعل ما هذه حالة دليلاً في محل النزاع أو يحكم فيه حكمًا جمليًا، وليت الحكم التفصيلي يكشف بعض أمره. فنقول: إذا ورد حديث معنعن عن رواة لقي بعضهم بعضًا ثم ورد ذلك الحديث بعينه بزيادة رجل منصوصًا على التحديث فيه أو معنعنًا أيضًا، نظرنا إلى حفظ الرواة وكثرة عددهم، وانفتح باب الترجيح فحكمنا لمن يرجح قوله من الزائد أو الناقص أو لمن تيقنا صوابه؛ كأن نتحقق أنه لم يسمعه ممن رواه عنه مرسلاً أو أن ذلك الزائد في الإسناد خطأ كما قد نحكم بذلك إذا كان الحديث بلفظ "نا"، ثم زاد أحدهما راويًا نقصه غيره، أو أن الحديث عند الراوي عنهما معًا، وقد بان ذلك

كله في بعضها كما هو معلوم عند أهل الصنعة. فإن أشكل الأمر توقفنا وجعلنا الحديث معلولاً، إذ كل واحد من الطريقين متعرض لأن يعترض به على الآخر إذ لعل الزائد خطأ، وإذا قال الراوي الزائد: "حدثنا"، يبقى احتمال أن يكون الحديث عنده عنهما معًا. فأما أن يحكم بأنه لم يسمعه منه لزيادة رجل في الإسناد مطلقًا ففيه نظر) (¬1) . (ولسنا ننفي أن يحصل ظن في بعض الأحاديث بأن الحكم لمن زاد كما قد يرجح أيضًا في بعض أن الحكم لمن نقص فتعميم الحكم في المسألة لا يصح) (¬2) . وما قاله ابن رشيد هو المتعين، ومصداق ذلك في الأحاديث التي ذكرها مسلم على سبيل المثال؛ فإن بعضها الراجح فيها قول من زاد في السند، وبعضها الراجح فيها أنها متصلة بالزيادة ودونها، وذلك كما يلي: الحديث الأول: قال مسلم: (فمن ذلك أن أيوب السختياني وابن المبارك ووكيعًا وابن نمير وجماعة غيرهم رووا عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحله ولحرمه بأطيب ما أجد". فروى هذه الرواية بعينها الليث بن سعد وداود العطار وحميد بن الأسود ووهيب بن خالد وأبوأسامة عن هشام قال أخبرني عثمان بن عروة عن عروة عن عائشة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬3) . قال الشيخ المعلمي: (هذا تدليس من هشام، وراجع ترجمة هشام في مقدمة الفتح، ومعرفة الحديث للحاكم) (¬4) . وقصد الشيخ المعلمي أن هشام بن عروة قد نسب إلى التدليس فقد قال الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح: (قال يعقوب بن شيبة: هشام ثبت ثقة لم ينكر عليه شيء إلا بعد ما صار إلى العراق فإنه انبسط في الرواية عن أبيه فأنكر ¬

(¬1) السنن الأبين (ص80-81) . (¬2) السنن الأبين (ص86) . (¬3) مقدمة صحيح مسلم (1/30) . (¬4) الأحاديث التي استشهد بها مسلم رحمه الله تعالى في بحث الخلاف في اشتراط العلم باللقاء (ل1) .

ذلك عليه أهل بلده. والذي نراه أنه كان لا يحدث عن أبيه إلا بما سمع منه فكان تساهله أنه أرسل عن أبيه ما كان يسمعه من غير أبيه عن أبيه. قلت: هذا هو التدليس) (¬1) . ونقل الحاكم في معرفة علوم الحديث في "باب التدليس" عن علي بن المديني قوله: (سمعت يحيى - بن سعيد القطان - يقول: كان هشام بن عروة يحدث عن أبيه عن عائشة قالت: "ما خير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين، وما ضرب بيده شيئًا قط". الحديث. قال يحيى: فلما سألته. قال: أخبرني أبي عن عائشة قالت: "ما خير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين". لم أسمع من أبي إلا هذا والباقي لم أسمعه إنما هوعن الزهري) (¬2) . وقد علق العلائي على ما نقله الحاكم بقوله: (وفي جعل هشام بمجرد هذا مدلسًا نظر، ولم أر من وصفه به) (¬3) . ووضع العلائي هشامًا في الطبقة الأولى من المدلسين وهي عنده (من لم يوصف بذلك إلا نادرًا جدًا بحيث أنه لا ينبغي أن يعد فيهم كيحيى بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة) (¬4) . وكذلك الحافظ ابن حجر جعله في الطبقة الأولى من المدلسين (¬5) . وقال في التقريب: (ربما دلس) (¬6) . والراجح في هذا الحديث أن هشام بن عروة لم يسمعه من أبيه، وإنما يرويه عن أخيه عثمان بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين به. ودليلي على ذلك ما يلي: 1- أن سفيان بن عيينة قال بعد أن روى الحديث السابق من طريق ¬

(¬1) هدي الساري (ص471) . (¬2) معرفة علوم الحديث (ص104-105) . (¬3) جامع التحصيل (ص111) . (¬4) جامع التحصيل (ص113) . (¬5) تعريف أهل التقديس (ص46) . (¬6) التقريب (ص573) .

عثمان بن عروة: (فقال لي عثمان بن عروة: ما يروي هشام بن عروة هذا الحديث إلا عني) (¬1) . فهذا نص صحيح صريح في أن هشام بن عروة إنما يروي ذلك الحديث عن أخيه عثمان عن أبيه. وهذا تدليس جائز لا يذم فاعله لأنه تدليس عن ثقة (¬2) ، وقد ذكر يعقوب بن شيبة وأبوالفتح الأزدي أن من دلس عن ثقة فهذا مرخص فيه عند بعض أهل العلم (¬3) . 2- ترجيح كبار الحفاظ لرواية هشام عن عثمان. فظاهر صنيع الإمام البخاري ترجيح ذلك فقد أخرج في صحيحه رواية هشام عن عثمان ولم يخرج رواية هشام عن أبيه (¬4) ، وكذلك الإمام مسلم (¬5) . وقال الدارقطني: (لم يسمعه هشام عن أبيه إنما سمعه من أخيه عن أبيه) (¬6) . والحديث محفوظ عن عروة من غير طريق هشام وعثمان. وهو محفوظ أيضًا عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من طرق عدة (¬7) . الحديث الثاني: قال مسلم: (وروى هشام عن أبيه عن عائشة قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اعتكف يدني إلى رأسه فأرجله وأنا حائض". فرواها بعينها مالك بن أنس عن الزهري عن عروة عن عمرة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬8) . قال ابن رشيد منتقدًا مسلمًا: (وهذا أيضًا من ذلك القبيل حكمت فيه أن ¬

(¬1) مسند الحميدي (1/106) . (¬2) عثمان بن عروة ثقة كما في التقريب (ص385) . (¬3) انظر الكفاية للخطيب (ص400) . (¬4) انظر صحيح البخاري (1/382/ [5928] ) كتاب اللباس، باب ما يستحب من الطيب. (¬5) انظر صحيح مسلم (2/847) . (¬6) فتح الباري (10/283) . (¬7) انظر صحيح مسلم (2/846-850) . (¬8) مقدمة صحيح مسلم (1/30) .

من نقص عمرة فهو مرسل، والصحيح في هذا الحديث أنه عند ابن شهاب عن عروة وعمرة معًا عن عائشة وهو الذي اعتمد البخاري. فقال: نا قتيبة قال نا ليث عن ابن شهاب عن عروة وعمرة بنت عبد الرحمن أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: "وإن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدخل علي رأسه وهو في المسجد فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجته إذا كان معتكفًا (¬1) . وأما أنت فظهر في فعلك في كتابك أنك لم يصف عندك كدر الإشكال في هذا الحديث فأوردت في كتابك حديث مالك مصدرًا به بناء على اعتقادك فيه الاتصال وفي غيره الانقطاع فقلت: نا يحيى بن يحيى قال قرأت على مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عمرة عن عائشة قالت: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اعتكف يدني إلى رأسه فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان" (¬2) . ثم أتبعته باختلاف الرواة فيه على شرطك من أنك لا تكرر إلا لزيادة معنى أو إسناد يقع إلى جنب إسناد لعلة تكون هناك فقلت: حدثنا قتيبة بن سعيد قال نا ليث ح وحدثنا محمد بن رمح قال أن الليث عن ابن شهاب عن عروة وعمرة ابنة عبد الرحمن أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: "إن كنت لأدخل البيت للحاجة والمريض فيه فما أسأل عنه إلا وأنا مارة، وإن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدخل علي رأسه وهو في المسجد فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفًا. وقال ابن رمح: إذا كانوا معتكفين" (¬3) . فقد بين الليث في حديثه عندك وعند البخاري أنه له عنهما) (¬4) . (وقد كفى الإمام أبوعبد الله البخاري مؤونة البحث، وبين أنه عند عروة مسموع من عائشة فذكر رواية هشام عن أبيه بإسقاط عمرة من طريق مالك وابن جريج عن هشام عن أبيه عن عائشة، ووقع في رواية ابن جريج من قول عروة ¬

(¬1) صحيح البخاري (4/310/ [2028] ) كتاب الاعتكاف، باب لا يدخل البيت إلا لحاجة. (¬2) صحيح مسلم (1/244) . (¬3) صحيح مسلم (1/244) . (¬4) السنن الأبين (ص86-87) .

أخبرتني عائشة، وذكر الحديث في كتاب الحيض من "صحيحه" في باب غسل الحائض رأس زوجها وترجيله. فقال: نا إبراهيم بن موسى قال نا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم قال أنا هشام بن عروة عن عروة أنه سئل: أتخدمني الحائض أو تدنو مني المرأة وهي جنب؟ فقال عروة: كل ذلك هين، وكل ذلك يخدمني، وليس على أحد في ذلك بأس. أخبرتني عائشة: "أنها ترجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي حائض، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينئذ مجاور في المسجد يدني لها رأسه وهي في حجرتها فترجله وهي حائض (¬1) . فهذا نص جلي على سماع عروة عن عائشة، وذلك بخلاف ما اعتقده مسلم - رحمه الله - من انقطاع رواية من أسقط عمرة من الإسناد فيما بين عروة وعائشة. ولم يقل فيه أحد: عن عروة عن عمرة إلا مالك - رحمه الله - وأنس بن عياض عن عبيد الله بن عمر عن الزهري فتابع مالكًا، والجمهور على خلافهما بين ذلك الإمام أبوالحسن الدارقطني في جزء له جمعه "في الأحاديث التي خولف فيها مالك" - رضي الله عنه - فقال: "روى مالك في الموطأ عن الزهري عن عروة عن عمرة عن عائشة "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اعتكف يدني إلى رأسه فأرجله". خالفه عقيل بن خالد، وينس بن يزيد، والليث بن سعد؛ فرووه عن الزهري عن عروة وعمرة عن عائشة، وقيل ذلك عن الأوزاعي. وتابعهم ابن جريج والزبيدي، والأوزاعي، ومعمر، وزياد بن سعد، وابن أخي الزهري، وعبد الرحمن بن نمير، ومحمد بن أبي حفصة، وسفيان بن حسين، وعبد الله بن بديل، وغيرهم، فرووه عن الزهري عن عروة عن عائشة لم يذكروا فيه عمرة. ويشبه أن يكون القول قولهم لكثرة عددهم واتفاقهم على خلاف مالك. وقد رواه أنس بن عياض أبوضمرة عن عبيد الله بن عمر عن الزهري فوافق ¬

(¬1) صحيح البخاري (1/478/ [296] ) كتاب الحيض، باب غسل الحائض رأس زوجها وترجيله.

مالكًا، ولا نعلم أحدًا تابع أبا ضمرة على هذه الرواية عن عبيد الله والله أعلم، انتهى كلام الدارقطني - رحمه الله -. قلت والله المرشد: والصحيح عندي في هذا الحديث أنه عند ابن شهاب عن عروة وعمرة معًا ولاشك أنه عند عروة مسموع من عائشة كما بينه البخاري من طريق ابن جريج حيث قال: أخبرتني عائشة) (¬1) . وهذا التحقيق من ابن رشيد في غاية القوة والمتانة، ومما يؤكد أن الحديث عند ابن شهاب عن عروة وعمرة معًا، وليس عن عروة عن عمرة ما ذكره أبوداود بعد أن أخرج حديث الليث عن ابن شهاب عن عروة وعمرة حيث قال: (وكذلك رواه يونس عن الزهري، ولم يتابع أحد مالكًا على عروة عن عمرة، ورواه معمر، وزياد بن سعد وغيرهما عن الزهري عن عروة عن عائشة) (¬2) . وكذلك الترمذي أخرج الحديث من طريق أبي مصعب المدني عن مالك عن ابن شهاب عن عروة وعمرة ثم قال: (هكذا رواه غير واحد عن مالك عن ابن شهاب عن عروة وعمرة عن عائشة، ورواه بعضهم عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عمرة عن عائشة. والصحيح عن عروة وعمرة عن عائشة) (¬3) . وقال الحافظ ابن حجر: (واتفقوا على أن الصواب قول الليث، وأن الباقين اختصروا منه ذكر عمرة، وأن ذكر عمرة في رواية مالك من المزيد في متصل الأسانيد) (¬4) . وهذا الذي رجحه الشيخ المعلمي أيضًا (¬5) . وبما تقدم يتضح أن الصواب في هذا الحديث خلاف ما قال مسلم - رحمه الله - فعروة بن الزبير لم يرسل هذا الحديث بل ثبت أنه سمعه من عائشة، ¬

(¬1) السنن الأبين (ص88 - 91) . (¬2) سنن أبي داود (2/332) . (¬3) سنن الترمذي (3/167) . (¬4) فتح الباري (4/321) . (¬5) الأحاديث التي استشهد بها مسلم (ل1) .

وأن الصحيح في رواية ابن شهاب أنها عنده عن عروة وعمرة معًا عن عائشة رضي الله عنها. الحديث الثالث: قال مسلم: (وروى الزهري وصالح بن أبي حسان عن أبي سلمة عن عائشة "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل وهو صائم". فقال يحيى بن أبي كثير في هذا الخبر في القبلة: (أخبرني أبوسلمة بن عبد الرحمن أن عمر بن عبد العزيز أخبره أن عروة أن عائشة أخبرته "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبلها وهو صائم") (¬1) . قال ابن رشيد منتقدًا مسلمًا: (فاعتمدت في كتابك (¬2) على حديث يحيى بن أبي كثير لأنه زاد في الإسناد. والحكم عندك لمن زاد، ولسنا نسلم ذلك، فإن أبا سلمة معلوم السماع من عائشة، والزهري ويحيى إمامان، وصالح بن أبي حسان صالح للمتابعة والاعتبار وهو معلوم السماع من أبي سلمة وسعيد بن المسيب) (¬3) . (فيحتمل أن يكون الحديث عند أبي سلمة عن عائشة، ويكون عنده أيضًا عن عمر بن عبد العزيز عن عروة عن عائشة، فاحتاج إلى نقله من طريق عمر بن عبد العزيز لأرب له في ذلك) (¬4) . وهذا هو الراجح أن أبا سلمة قد سمعه من عائشة، ورواه أيضًا عن عمر بن عبد العزيز عن عروة عن عائشة، فكلا السندين صحيحان. ويدل على ذلك أن ابن حبان أخرج من طريق معمر عن أبي سلمة عن عائشة قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل بعض نسائه وهو صائم. قلت لعائشة: في الفريضة والتطوع؟ قالت عائشة: في كل ذلك في الفريضة والتطوع" ثم قال ابن حبان: (سمع هذا الخبر أبوسلمة بن عبد الرحمن عن عمر بن عبد العزيز عن عروة عن عائشة، وسمعه من عائشة نفسها، والدليل على صحته: أن معمرًا قال عن الزهري عن ¬

(¬1) مقدمة صحيح مسلم (1/32) . (¬2) انظر صحيح مسلم (2/778) . (¬3) السنن الأبين (ص97) . (¬4) السنن الأبين (ص100) .

أبي سلمة قال: قلت لعائشة: في الفريضة والتطوع؟ فمرة أدى الخبر عن عمر بن عبد العزيز عن عروة عن عائشة، وأخرى أدى الخبر عنها نفسها) (¬1) . ومما يؤكد أن أبا سلمة سمع هذا الحديث من عائشة أن عقيلاً روى هذا الحديث عن الزهري عن أبي سلمة عن عائشة أنها أخبرته (¬2) . فصرح أبوسلمة بسماعه من عائشة هنا أيضًا. وهذا ما رجحه المعلمي بقوله: (الظاهر أن الحديث عند أبي سلمة من الوجهين وإنما رواه بنزول توقيرًا لعمر بن عبد العزيز وإظهارًا لفضله، وهذا أولى بلا ريب من اتهام أبي سلمة بالتدليس) (¬3) . وبهذا يتضح أن أبا سلمة قد سمع هذا الحديث من عائشة فرواه مرة عنها، ومرة رواه عن عمر بن عبد العزيز عن عروة عن عائشة، وليس كما ذكر مسلم أن أبا سلمة أرسل هذا الحديث عن عائشة بدلالة أنه أدخل بينه وبينها واسطتين. وهذا الحديث محفوظ عن عائشة من طرق عدة (¬4) . الحديث الرابع: قال مسلم: (وروى ابن عيينة وغيره عن عمرو بن دينار عن جابر قال: "أطعمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحوم الخيل ونهانا عن لحوم الحمر". فرواه حماد بن زيد عن عمرو عن محمد بن علي عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬5) . قال ابن رشيد موجهًا كلامه لمسلم: (وهذا أيضًا من ذلك القبيل حكمت فيه لرواية حماد على رواية سفيان، فأوردت رواية حماد في كتابك (¬6) ، وليس حماد بن زيد ممن يضاهي بسفيان بن عيينة لاسيما في عمرو بن دينار فهو الملي به، الثبت فيه، المقدم على غيره) (¬7) . (وما أرى محمد بن علي في هذا الموضع ¬

(¬1) صحيح ابن حبان (5/223) . (¬2) انظر السنن الكبرى للنسائي (2/200) . (¬3) الأحاديث التي استشهد بها مسلم (ل1) . (¬4) انظر صحيح مسلم (2/776-778) . (¬5) مقدمة صحيح مسلم (1/32) . (¬6) صحيح مسلم (3/1541) . (¬7) السنن الأبين (ص101) .

إلا من المزيد في متصل الأسانيد) (¬1) . وقد رجح الترمذي رواية سفيان بن عيينة بدون ذكر محمد بن علي فقال: (وهكذا روى غير واحد عن عمرو بن دينار عن جابر، ورواه حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن محمد بن علي عن جابر، ورواية ابن عيينة أصح قال: وسمعت محمدًا يقول: سفيان بن عيينة أحفظ من حماد بن زيد) (¬2) . وكذلك قال النسائي: (ما أعلم أن أحدًا وافق حماد بن زيد على محمد بن علي) (¬3) . وأما ابن حبان فقد قال: (يشبه أن يكون عمرو بن دينار لم يسمع هذا الخبر عن جابر، لأن حماد بن زيد رواه عن عمرو عن محمد بن علي عن جابر، ويحتمل أن يكون عمرو سمع جابرًا، وسمع محمد بن علي عن جابر) (¬4) . وقال البيهقي: (هذا الحديث لم يسمعه عمرو من جابر إنما سمعه من محمد بن علي بن حسين عن جابر) (¬5) . وقال الحافظ ابن حجر: (والحق أنه إن وجدت رواية فيها تصريح عمرو بالمساع من جابر فتكون رواية حماد من المزيد في متصل الأسانيد، وإلا فرواية حماد بن زيد هي المتصلة. وعلى تقدير وجود التعارض من كل جهة فللحديث طرق أخرى عن جابر غير هذه، فهو صحيح على كل حال) (¬6) . وقد المعلمي: (يحمل ما وقع في هذا الحديث على نحو ما تقدم في الذي قبله، وهو أن عمرًا زاد للتكريم محمد بن علي لقرابته من النبي - صلى الله عليه وسلم - وفضله فروى عنه ما قد سمعه هو من شيخه) (¬7) . ¬

(¬1) السنن الأبين (ص103) . (¬2) سنن الترمذي (4/254) . (¬3) السنن الكبرى للنسائي (4/151) . (¬4) صحيح ابن حبان (7/341) . (¬5) معرفة السنن والآثار (14/95) . (¬6) فتح الباري (9/566) . (¬7) الأحاديث التي استشهد بها مسلم (ل2) .

والذي أراه راجحًا أن رواية حماد بن زيد التي فيها الزيادة هي الصحيحة، وأن حديث عمرو بن دينار هذا عن جابر مرسل لم يسمعه عمرو من جابر كما هو اختيار مسلم، وذلك لما يلي: 1- أن سفيان بن عيينة وإن كان بلا ريب أثبت الناس في عمرو بن دينار، ولا يقدم عليه حماد بن زيد أو غيره في عمرو بن دينار إلا أن لهذا الحديث بالذات حكمًا خاصًا يجعلنا نحكم لحماد بن زيد على سفيان وسبب ذلك أن ابن عيينة قال: (ثنا عمرو بن دينار قال: قال جابر بن عبد الله: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المخابرة. قال سفيان: وكل شيء سمعته من عمرو بن دينار قال لنا فيه سمعت جابرًا إلا هذين الحديثين يعني: "لحوم الخيل"، و"المخابرة"، فلا أدري بينه وبين فيهما أحد أم لا؟) (¬1) . فهذا نص صريح من ابن عيينة على أنه يشك في سماع عمرو بن دينار لهذا الحديث من جابر، ومما يؤكد أن عمرًا لم يسمع هذا الحديث من جابر، رواية ابن جريج التي قال فيها: أخبرني عمرو بن دينار أخبرني رجل عن جابر بن عبد الله ... الحديث (¬2) . 2- ظاهر صنيع البخاري (¬3) ومسلم (¬4) أنهما يرجحان رواية حماد بن زيد فقد ذكراها في صحيحهما ولم يذكرا رواية سفيان بن عيينة. بالإضافة لما قاله ابن حبان والبيهقي. وبما تقدم يتضح أن مسلمًا قد أنتقد في دليله الثاني من حيث ما ألزم به خصمه، أو من حيث بعض الأحاديث التي استشهد بها على أن فيها إرسال والراجح خلاف ذلك. فلا ينهض هذا الدليل أمام الردود القوية التي وجهت له من العلماء. ¬

(¬1) مسند الحميدي (2/529) . هذا النص النفيس لم أر أحدًا ممن ناقش الحديث ذكره. (¬2) انظر سنن أبي داود (3/356) . (¬3) انظر صحيح البخاري (7/550/ [4219] ) كتاب المغازي، باب غزوة خيبر. (¬4) صحيح مسلم (3/1541) .

الدليل الثالث: فحواه أن أهل العلم بالحديث صححوا أسانيد لا يثبت فيها اللقاء ولا السماع بين المعنعن والمعنعن عنه، اكتفاء منهم بثبوت المعاصرة، وعلى رأي المخالف ينبغي أن تكون هذه الأسانيد واهية لأن اللقاء لم يثبت بين رواتها، ثم ساق مسلم نماذج وأمثلة على ذلك. وقد رد بعض العلماء على مسلم برد إجمالي كما قال ابن رشيد: (إن هذه أمثلة خاصة لا عامة، جزئية لا كلية، يمكن أن تقترن بها قرائن تفهم اللقاء أو السماع، كمن سميت ممن أدرك الجاهلية ثم أسلم بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحب البدريين فمن بعدهم. فهذا يبعد فيه ألا يكون سماع ممن روى عنه، وإن جوزنا أنه لم يسمع منه قلنا الظاهر روايته عن الصحابة والإرسال لا يضره) (¬1) ، (والحكم على الكليات بحكم الجزئيات لا يطرد فقد يكون لكل حديث حكم يخصه فيطلع فيه على ما يفهم اللقاء أو السماع ويثير ظنًا خاصًا في صحة ذلك الحديث فيصحح اعتمادًا على ذلك لا من مجرد العنعنة) (¬2) . (فلا ينكر - أيها الإمام المعتمد - أن يكون من قبل تلك الأحاديث وصحت عنده واحتج بها قد اعتمد نحوًا من هذا المسلك فلم يقبلها بمجرد العنعنة بل بصميمة إليها أفادته صحة اللقاء والسماع وإن لم يقترن بها ذلك لفظًا) (¬3) . وقال العلائي: (إن جميع ما ذكر مسلم رحمه الله من الأمثلة خاصة لا تعم، ويمكن أن يكون قبول الأئمة لذلك لقرائن اقترنت بها أفادت اللقاء فإن الحكم على الكليات بحكم جزئي لا يطرد فقد يكون لكل حديث حكم يطلع فيه على لقاء أو سماع) (¬4) . وقال الحافظ ابن حجر: (وأما احتجاج مسلم على فساد ذلك بأن لنا أحاديث اتفق الأئمة على صحتها ومع ذلك ما رويت إلا معنعنة ولم يأت في خبر ¬

(¬1) السنن الأبين (ص135) . (¬2) السنن الأبين (ص136-137) . (¬3) السنن الأبين (ص141) . (¬4) جامع التحصيل (ص120-121) .

قط أن بعض رواتها لقي شيخه، فلا يلزم من نفي ذلك عنده نفيه في نفس الأمر) (¬1) . قصد الحافظ ابن حجر أن عدم العلم بوجود اللقاء أو السماع لا يفيد العلم بعدم وجود ذلك، وهذا هو الحق بدلالة أننا بالبحث وجدنا عدة أحاديث نفى مسلم علمه بوجود اللقاء والسماع فيها وقد يسر الله الوقوف على السماع فيها، بل بعض ذلك في صحيح مسلم نفسه!! وقد درست الأسانيد التي استشهد بها مسلم على قوله فوجدتها على أربعة أنواع هي: أولاً: أسانيد ثبت فيها السماع. ثانيًا: أسانيد ثابتة من طريق آخر عن نفس الصحابي. ثالثًا: أسانيد لمتونها شواهد. رابعًا: ما اختلف في وصله وإرساله. أولاً: أسانيد ثبت فيها السماع: 1- يدخل تحت هذا النوع قول مسلم: (فمن ذلك أن عبد الله بن يزيد الأنصاري - وقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - قد روى عن حذيفة، وعن أبي مسعود الأنصاري عن كل واحد منهما حديثًا يسند إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس في روايته عنهما ذكر السماع متهمًا، ولا حفظنا في شيء من الروايات أن عبد الله بن يزيد شافه حذيفة وأبا مسعود بحديث قط، ولا وجدنا ذكر رؤيته إياهما في رواية بعينها) (¬2) . عبد الله بن يزيد صحابي من صغار الصحابة اتفقوا على أن له رؤية، واختلفوا هل صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أم لا؟ سئل الإمام أحمد: (ليست لعبد الله بن يزيد صحبة صحيحة؟ فقال: أما ¬

(¬1) النكت على كتاب ابن الصلاح (2/596) . (¬2) مقدمة صحيح مسلم (1/33) .

صحيحة فلا) (¬1) ، وقال ابن معين: (له رؤية) (¬2) ، وقال أبوحاتم: (كان صغيرًا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن صحت رؤيته فذاك) (¬3) . وأثبت له الصحبة العجلي (¬4) ، وابن حبان (¬5) ، والدارقطني (¬6) ، والمزي (¬7) ، والذهبي وقد قال: (أحد من بايع الرضوان وكان عمره يومئذ سبع عشر سنة) (¬8) وقال أيضًا: (وكان من نبلاء الصحابة) (¬9) ، وقال الحافظ ابن حجر: (صحابي صغير) (¬10) ، وقال أيضًا: (وأخرج ابن البرقي بسند قوي عن عدي بن ثابت أن عبد الله بن يزيد كان قد شهد بيعة الرضوان وما بعدها) (¬11) . وقد أخرج البخاري في صحيحه عن عبد الله بن يزيد الأنصاري قال: "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النهبى والمثلة" (¬12) . فدل هذا على أن البخاري يثبت لابن يزيد الصحبة، وهذا هو الراجح. وبناء على ذلك يرجع إلى الأصل الذي اعتمده أهل الحديث وهو أن مراسيل الصحابة مقبولة ومحتج بها. وقد ثبت سماع عبد الله بن يزيد من أبي مسعود رضي الله عنهما في صحيح البخاري فقد قال: (حدثنا مسلم حدثنا شعبة عن عدي عن عبد الله بن يزيد سمع أبا ¬

(¬1) المراسيل لابن أبي حاتم (ص91-92) . (¬2) الإصابة (2/383) . (¬3) الجرح والتعديل (5/197) . (¬4) ثقات العجلي (ص283) . (¬5) ثقات ابن حبان (3/225) . (¬6) الإصابة (2/382) . (¬7) تهذيب الكمال (2/755) . (¬8) سير أعلام النبلاء (3/197) . (¬9) تاريخ الإسلام (ص168) [حوادث 61-80هـ] . (¬10) التقريب (ص329) . (¬11) الإصابة (2/383) . (¬12) صحيح البخاري (5/142/ [2474] ) كتاب المظالم، باب النهبي.

مسعود البدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "نفقة الرجل على أهله صدقة") (¬1) . وقد نص ابن رشيد (¬2) ، والعلائي (¬3) ، وابن رجب (¬4) ، والمعلمي (¬5) ، على سماع عبد الله بن يزيد من أبي مسعود لإخراج البخاري لذلك. وأما حديث عبد الله بن يزيد عن حذيفة فأخرجه مسلم (¬6) ، ولم أجد فيه السماع نصًا لذا سأجيب عليه في النوع الثاني - إن شاء الله -. 2- ومما يدخل تحت هذا النوع قول مسلم: (وهذا أبوعثمان النهدي، وأبورافع الصائغ، وهما ممن أدرك الجاهلية وصحبا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البدريين هلم جرا، ونقلا عنهم الأخبار حتى نزلا إلى مثل أبي هريرة وابن عمر وذويهما قد أسند كل واحد منهما عن أبي بن كعب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا، ولم نسمع في رواية بعينها أنهما عاينا أبيًا أو سمعا منه شيئًا) (¬7) . أبوعثمان النهدي هو عبد الرحمن بن مل ثبت سماعه من أبي. قال علي بن المديني: (أبوعثمان النهدي، عبد الرحمن بن مل، وكان جاهليًا ثقة. لقى عمر، وابن مسعود، وأبابكر، وسعدًا وأسامة، وروى عن أبي موسى، وعن أبي بن كعب، وقال في بعض حديثه: [حدثني] (¬8) أبي بن كعب، وقد أدرك ¬

(¬1) صحيح البخاري (7/368/ [4006] ) كتاب المغازي، باب، - لم يسم - ورقم الباب [12] . (¬2) السنن الأبين (ص111) . (¬3) انظر جامع التحصيل (ص121) . (¬4) انظر شرح علل الترمذي (1/375) . (¬5) انظر الأحاديث التي استشهد بها مسلم (ل2) . (¬6) صحيح مسلم (4/2217) . (¬7) مقدمة صحيح مسلم (1/34) . (¬8) قال محقق كتاب العلل الشيخ محمد مصطفى الأعظمي عن هذه الكلمة: (بياض في الأصل) ووجدت الكلمة في تاريخ دمشق لابن عساكر (10/215) بسنده إلى علي بن المديني وفي السنن الأبين (ص135) نقلاً عن كتاب العلل لابن المديني، وأيضًا نص الحافظ ابن حجر في النكت (2/596) على أن في العلل لابن المديني قول أبي عثمان حدثني أبي.

النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬1) . وحديث أبي عثمان النهدي عن أبي بن كعب أخرجه مسلم في صحيحه من رواية سليمان التيمي، وعاصم الأحول كلاهما عن أبي عثمان عن أبي قال: (كان رجل لا أعلم رجلاً أبعد من المسجد منه، وكان لا تخطئه صلاة قال فقيل له: أو قلت له: لو اشتريت حمارًا تركبه في الظلماء وفي الرمضاء. قال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد. إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد، ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد جمع الله لك ذلك كله") (¬2) . ولم يذكر مسلم فيه السماع بين أبي عثمان وأبي، ولكن الإمام أحمد أخرج هذا الحديث في مسنده بإثبات سماع أبي عثمان من أبي فقال: (ثنا علي بن إسحاق ثنا عبد الله بن المبارك أنا عاصم الأحول عن أبي عثمان حدثني أبي بن كعب ... ) (¬3) . وقد نص ابن رشيد (¬4) ، وابن حجر (¬5) ، على أن علي بن المديني ذكر سماع أبي عثمان من أبي. ونص المعلمي (¬6) على أن في مسند أحمد سماع أبي عثمان من أبي، وجزم باللقاء والسماع. وأما حديث أبي رافع فلم أجد فيه السماع، وسيأتي في النوع الثاني. 3- ومما يندرج تحت هذا النوع أيضًا قول مسلم: (وأسند قيس بن أبي ¬

(¬1) العلل لابن المديني (ص64) . (¬2) صحيح مسلم (1/460-461) . (¬3) مسند الإمام أحمد (5/133) . (¬4) السنن الأبين (ص135) . (¬5) النكت على كتاب ابن الصلاح (2/596) . (¬6) الأحاديث التي استشهد بها مسلم (ل2) .

حازم - وقد أدرك زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أبي مسعود الأنصاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أخبار) (¬1) . سماع قيس بن أبي حازم ثابت من أبي مسعود - رضي الله عنه - كما في مسند الحميدي قال: (ثنا سفيان قال ثنا إسماعيل بن أبي خالد قال: سمعت قيس بن أبي حازم يقول: سمعت أبا مسعود يقول: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني لأتخلف عن صلاة الصبح مما يطول بنا فلان قال: فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضب في موعظة قط غضبه يومئذ ثم قال: "إن منكم منفرين، إن منكم منفرين، فأيكم أم الناس فليخفف، فإن فيهم الكبير، والسقيم، والضعيف، وذا الحاجة") (¬2) . وأخرجه البخاري أيضًا في صحيحه (¬3) بإثبات سماع قيس من أبي مسعود من طريق زهير عن إسماعيل به، كما أن علي بن المديني أثبت سماع قيس من أبي مسعود في كتابه "العلل" (¬4) . وفي حديث آخر أخرجه الحميدي في مسنده صرح قيس بالسماع من أبي مسعود كذلك. قال الحميدي: (ثنا سفيان قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد قال: سمعت قيسًا يقول: سمعت أبا مسعود يقول: انكسفت الشمس يوم توفي إبراهيم ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال الناس انكشفت الشمس يوم موت إبراهيم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت ولا حياة فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله وإلى الصلاة") (¬5) . وأخرج البخاري هذا الحديث أيضًا في صحيحه (¬6) بإثبات سماع قيس من ¬

(¬1) مقدمة صحيح مسلم (1/34) . (¬2) مسند الحميدي (1/215) . (¬3) صحيح البخاري (2/231/ [702] ) كتاب الأذان، باب تخفيف الإمام في القيام. (¬4) انظر العلل لابن المديني (ص49) . (¬5) مسند الحميدي (1/216) . (¬6) صحيح البخاري (2/611/ [1041] ) كتاب الكسوف، باب الصلاة في كسوف الشمس.

أبي مسعود من طريق أبي مسعود من طريق إبراهيم بن حميد عن إسماعيل به. فثبت بذلك صحة سماع قيس بن أبي حازم من أبي مسعود البدري رضي الله عنه، وقد نص على السماع ابن رشيد (¬1) ، والعلائي (¬2) ، وابن رجب (¬3) ، والمعلمي (¬4) . وأما الحديث الثالث لقيس عن أبي مسعود فلم أجد فيما وقفت عليه من مصادر سماع قيس (¬5) ، ومتنه مرفوعًا: "ألا إن الإيمان ههنا، وإن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل ... ". هذا وقد أخرج مسلم الأحاديث الثلاثة لقيس عن أبي مسعود في صحيحه (¬6) ، ولكن لم يقع عنده ذكر السماع بين قيس وأبي مسعود. 4- ومما يدخل في هذا النوع قول مسلم: (وأسند النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد الخدري ثلاثة أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬7) . سماع النعمان بن أبي عياش من أبي سعيد الخدري ثابت، وهو منصوص عليه عند مسلم في "صحيحه" في ثلاثة أحاديث. الحديث الأول: أخرجه مسلم بقوله: (حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يعقوب - يعني ابن عبد الرحمن القاري - عن أبي حازم قال: سمعت سهلاً يقول: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أنا فرطكم على الحوض من ورد شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدًا، وليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم". ¬

(¬1) السنن الأبين (ص149-150) . (¬2) جامع التحصيل (ص121) . (¬3) شرح علل الترمذي (1/375) . (¬4) الأحاديث الذي اسشتهد بها مسلم (ل4) . (¬5) صحيح البخاري (6/403/ [3302] ) كتاب بدء الخلق، باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شغف الجبال، وصحيح مسلم (1/71) ، ومسند الحميدي (1/217) ومسند أحمد (4/118) ، (5/273) ، والمعجم الكبير للطبراني (17/208-210) ، وغير ذلك. (¬6) الحديث الأول في صحيح مسلم (1/340) ، والثاني (2/628) ، والثالث (1/71) . (¬7) مقدمة صحيح مسلم (1/35) .

قال أبوحازم: فسمع النعمان بن أبي عياش وأنا أحدثهم هذا الحديث فقال: هكذا سمعت سهلاً يقول؟ قال فقلت: نعم. قال: وأنا أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته يزيد فيقول: "إنهم مني فيقال: إنك لا تدري ما عملوا بعدك. فأقول: سحقًا سحقًا لمن بدل بعدي") (¬1) . وقد أخرج البخاري هذا الحديث في "صحيحه" (¬2) بتمامه. والحديث الثاني: أخرجه مسلم بقوله: (حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي أخبرنا المخزومي حدثنا وهيب عن أبي حازم عن سهل بن سعد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها". قال أبوحازم: فحدثت به النعمان بن أبي عياش الزرقي فقال حدثني أبوسعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ما يقطعها) (¬3) . وهذا الحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" (¬4) أيضًا عن أبي حازم بمثل ما عند مسلم. والحديث الثالث: أخرجه مسلم بقوله: (حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يعقوب - يعني ابن عبد الرحمن القاري - عن أبي حازم عن سهل بن سعد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن أهل الجنة ليتراءون الغرفة في الجنة كما تراءون الكوكب في السماء". قال: فحدثت بذلك النعمان بن أبي عياش فقال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: كما تراءون الكوكب الدري في الأفق الشرقي أو الغربي") (¬5) . ¬

(¬1) صحيح مسلم (4/1793) . (¬2) انظر صحيح البخاري (11/472/ [6583، 6584] ) كتاب الرفاق، باب في الحوض. (¬3) صحيح مسلم (4/2176) . (¬4) انظر صحيح البخاري (11/423/ [6552، 6553] ) كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار. (¬5) صحيح مسلم (4/2177) .

وهذا الحديث كذلك أخرجه البخاري في "صحيحه" (¬1) عن أبي حازم بمثل ما عند مسلم. وقد كان عدم تنبه مسلم لهذا الأمر مثار تعليق لبعض العلماء. فقد قال ابن رشيد: (وأما أحاديث النعمان عن أبي سعيد فقد خرجها البخاري، وخرجتها أنت أيها الإمام في مواضع من كتابك منصوصًا فيها على السماع فأثبت في آخر كتابك ما نفيت في أوله، وأقررت بما أنكرت، وشهدت من نفسك، فما ذنبهم أن حفظوا ونسيت؟! ولا غرو فإنما ذلك تعويذ لكمالك. شخص الأنام إلى كمالك فاستعذ ... من شر أعينهم بعيب واحد) (¬2) وقال ابن حجر: (وأعجب من ذلك أنا وجدنا بطلان بعض ما نفاه في نفس صحيحه) (¬3) ثم ساق أحاديث النعمان عن أبي سعيد السابقة، وعقب على ذلك بقوله: (فهذه الثلاثة الأحاديث التي أشار إليها قد ذكرها هو في كتابه مصرحًا فيها بالسماع، فكيف لا يجوز ذلك في غيرها) (¬4) . وبعد أن ذكر المعلمي أن مسلمًا قد أخرج في صحيحه حديثًا مصرحًا فيه بالسماع مع نفيه لذلك في المقدمة قال: (فسبحان من لا يضل ولا ينسى) (¬5) . 5- ويدخل في هذا النوع أيضًا قول مسلم: (وأسند عطاء بن يزيد الليثي عن تميم الداري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا) (¬6) . الحديث هو "الدين النصيحة ... " أخرجه مسلم في "صحيحه" (¬7) ، وليس فيه السماع. ¬

(¬1) انظر صحيح البخاري (11/424/ [6555، 6556] ) كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار. (¬2) السنن الأبين (ص153-154) . (¬3) النكت على كتاب ابن الصلاح (2/596) . (¬4) النكت على كتاب ابن الصلاح (2/598) . (¬5) التنكيل (1/83) . (¬6) مقدمة صحيح مسلم (1/35) . (¬7) انظر صحيح مسلم (1/74) .

وقد أثبت علي بن المديني لقي عطاء بن يزيد الليثي لتميمًا الداري رضي الله عنه فقال في كتابه "العلل": (وقد لقي عطاء بن يزيد أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، لقي أبا أيوب، وأبا هريرة، وأبا سعيد الخدري، وتميمًا الداري، وأبا شريح الخزاعي) (¬1) . ووجدت تصريح عطاء بالسماع من تميم فيما أخرجه محمد بن نصر العروزي قال: (حدثنا إسحاق أنا جرير عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله يرضى لكم ثلاثًا يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولى الله أمركم". قال سهيل: فحدثنا عند ذلك عطاء بن يزيد الليثي قال: سمعت تميمًا الداري يقول: "إنما الدين النصيحة، إنما الدين النصيحة" ثلاثًا، فقيل: يا رسول الله لمن؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسله، وأئمة المسلمين، أو قال: أئمة المسلمين، وعامتهم") (¬2) . وإسحاق هو ابن راهويه من كبار الأئمة الأثبات، وجرير هو ابن عبد الحميد ثقة صحيح الكتاب (¬3) ، وأما سهيل ابن أبي صالح فقد احتج به مسلم، وأخرج حديث "الدين النصيحة" من طريقه عن عطاء عن تميم مرفوعًا (¬4) . وقد أخرج الطبراني (¬5) ، والبيهقي (¬6) من طريقين آخرين هذا الحديث عن جرير به بإثبات سماع عطاء بن يزيد الليثي من تميم الداري. وقد جاء إثبات سماع عطاء من تميم من غير طريق جرير، فقد قال ¬

(¬1) العلل لابن المديني (ص68) . (¬2) تعظيم قدر الصلاة (2/684) . (¬3) انظر التقريب (ص139) . (¬4) انظر صحيح مسلم (1/74-75) . (¬5) انظر المعجم الكبير للطبراني (2/53/ [1266] ) . (¬6) انظر السنن الكبرى للبيهقي (8/163) .

العيني: (وأخرجه إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتاب "السياسة" (¬1) تأليفه: حدثنا عبد الجبار بن العلاء المكي حدثنا ابن عيينة عن سهيل سمعت عطاء بن يزيد حدثنا تميم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة" فقال رجل: لمن يا رسول الله، قال: "لله، ولكتابه، ولنبيه، ولأئمة المؤمنين وعامتهم") (¬2) . ولم أجد أحدًا ممن رد على مسلم ذكر سماع عطاء من تميم الداري. وبما تقدم يتبين لنا أن مسلمًا - رحمه الله - لم يصب في نفيه السماع عن الأسانيد الخمسة السابقة، لأن السماع ثابت وصحيح في تلك الأسانيد (¬3) . ثانيًا: أسانيد ثابتة من طريق آخر عن نفس الصحابي: من ضمن الأسانيد التي استشهد بها مسلم أسانيد يرويها أحد التابعين عن صحابي، وبعد البحث لم أقف على سماع ذلك التابعي من الصحابي الذي روى عنه، ولكن وجدت الحديث الذي يرويه هذا التابعي ثابتًا وصحيحًا من طريق تابعي آخر عن نفس الصحابي. ومن الأسانيد التي استشهد مسلم بها مما يدخل في هذا النوع ما يلي: 1- ما قاله مسلم في عبد الله بن يزيد أنه لم يثبت سماعه من حذيفة وقد روى عنه حديثًا، وقد قدمت في النوع الأول أن الراجح كون عبد الله بن يزيد من الصحابة، ومراسيل الصحابة اتفق أهل الحديث على الاحتجاج بها، ومع ذلك فإن حديث عبد الله بن يزيد عن حذيفة هذا أخرجه مسلم في "صحيحه" عن حذيفة أنه قال: أخبرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما هو كائن إل أن تقوم الساعة فما منه شيء إلا قد سألته. إلا أني لم أسأله ما يخرج أهل المدينة من المدينة؟) (¬4) . وقد أخرج مسلم قبله حديثًا من طريق أبي وائل شقيق بن سلمة عن حذيفة قال: (قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقامًا ما ترك شيئًا يكون في مقامه ذلك إلى قيام ¬

(¬1) لم أجد - فيما بحثت - من نب لابن خزيمة كتابًا بهذا العنوان!! (¬2) عمدة القاريء شرح صحيح البخاري (1/321) . (¬3) صحيح مسلم (4/2217) . (¬4) صحيح مسلم (4/2217) .

الساعة إلا حدث به. حفظه من حفظه ونسبه من نسبه ... ) (¬1) . وأخرج أيضًا حديثًا من طريق أبي إدريس الخولاني عن حذيفة بنحو ما تقدم (¬2) . فأصل حديث عبد الله بن يزيد محفوظ عن حذيفة لذا قال المعلمي اليماني: (أخرج أولاً معناه مطولاً من طريق أبي إدريس عن حذيفة، ومن طريق أبي وائل عن حذيفة ثم ذكره فهو متابعة، والحديث مشهور عن حذيفة فإن صح قول مسلم في عدم العلم بلقاء عبد الله بن يزيد لحذيفة فالجواب: أنه لما لم يكن له عنه إلا حديث واحد، والحديث مشهور من غير طريقه عن حذيفة لم يحتج أهل العلم إلى الكلام فيه بل رووا الحديث على أنه متابعة فهو مقبول في مثل ذلك، وإن كان محكومًا عليه بالانقطاع) (¬3) . قصد المعلمي في المقطع الأخير من كلامه أن المتابعات لا بأس من ذكر الأسانيد غير المتصلة فيها، والجواب الذي ذكره المعلمي في غاية الوجاهة. 2- ويدخل فيما سبق قول مسلم: (وأسند عبد الرحمن بن أبي ليلى - وقد حفظ عن عمر بن الخطاب وصحب عليًا - عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا) (¬4) . وهذا الحديث أخرجه مسلم عن أنس قال: (أمر أبوطلحة أم سليم أن تصنع للنبي - صلى الله عليه وسلم - طعامًا لنفسه خاصة ثم أرسلني إليه - وساق الحديث - وقال فيه: فوضع النبي - صلى الله عليه وسلم - يده وسمى عليه ثم قال: "ائذن لعشرة" فأذن لهم فدخلوا فقال: "كلوا وسموا الله" فأكلوا حتى فعل ذلك بثمانين رجلاً ثم أكل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك وأهل البيت وتركوا سؤرًا) (¬5) . ولم أجد سماع ابن أبي ليلى من أنس. ¬

(¬1) صحيح مسلم (4/2217) . (¬2) صحيح مسلم (4/2216) . (¬3) الأحاديث التي استشهد بها مسلم (ل2) . (¬4) مقدمة صحيح مسلم (1/34) . (¬5) صحيح مسلم (3/1613) .

وتدل عبارة "وساق الحديث" أن مسلمًا اختصر الحديث وذلك لأنه ساقه متابعة وأخرج قبله من طريق مالك بن أنس عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك يقول: (قال أبوطلحة لأم سليم: قد سمعت صوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضعيفًا أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟ فقالت: نعم ... الحديث) (¬1) وساقه بأطول مما في حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى السابق. وقد أخرج مسلم (¬2) هذا الحديث أيضًا من طريق سعد بن سعيد حدثني أنس بن مالك، ومن طريق يحى بن عمارة المازني، ومن طريق عبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة، ومن طريق عمرو بن عبد الله بن أبي طلحة، ومن طريق النضر بن أنس، ومن طريق يعقوب بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنسًا، جميع هؤلاء الستة رووه عن أنس. فيكون رواه عن أنس سبعة من الثقات غير ابن أبي ليلى، وهذا في صحيح مسلم فقط، منهم ثلاثة صرحوا بأنهم سمعوا الحديث من أنس. وذكر المعلمي أن رواية ابن أبي ليلى عن أنس أخرجها مسلم متابعة (¬3) . ومن الواضح أن الحديث صحيح عن أنس بلاشك، فيكون استشهاد مسلم بهذا السند على ما ذكره من تصحيح أهل العلم بالحديث له استشهادًا ضعيفًا لأن المخالف لمسلم له أن يقول: حديث أنس صحيح عندي من غير طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى فإذا كنت تحتج بحديث أنس من طريق ابن أبي ليلى فأنا أحتج به أيضًا ولكن من الطرق الأخرى التي ثبت فيها السماع، وهذا ما صنعه البخاري فقد احتج في "صحيحه" (¬4) برواية إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك، ولو فرض أن حديث ابن أبي ليلى لم يرو أصلاً لما كان لذلك أي أثر على صحة حديث أنس. ¬

(¬1) صحيح مسلم (3/1612) . (¬2) انظر صحيح مسلم (3/1612-1614) . (¬3) انظر الأحاديث التي استشهد بها مسلم (ل4) . (¬4) انظر صحيح البخاري (6/678/ [3578] ) كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام.

3- ويدخل فيما سبق أيضًا قول مسلم: (وأسند ربع بن خراش عن أبي بكرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا، وقد سمع ربعي من علي بن أبي طالب وروى عنه) (¬1) . وهذا الحديث أخرجه مسلم من طريق شعبة عن منصور عن ربعي عن أبي بكرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا المسلمان حمل أحدهما على أخيه السلاح فهما على جرف جهنم، فإذا قتل أحدهما صاحبه دخلاها جميعًا" (¬2) ، ولم أجد سماع ربعي من أبي بكرة. وحديث أبي بكرة هذا محفوظ من جهة أخرى، فقد أخرج البخاري ومسلم عن الحسن البصري عن الأحنف بن قيس عن أبي بكرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" فقلت أو قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟! قال: "إنه أراد قتل صابحه" (¬3) . وقد ألمح البخاري إلى وجود خلاف بين شعبة وسفيان الثوري في رفع حديث ربعي عن أبي بكرة فقال بعد أن أخرج حديث الأحنف السابق: (وقال غندر حدثنا شعبة عن منصور عن ربعي بن خراش عن أبي بكرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يرفعه سفيان عن منصور) (¬4) . ولاشك أن الحديث صحيح عن أبي بكرة، وأن حديث الأحنف عن أبي بكرة اتفق الشيخان على إخراجه فهو أصح من حديث ربعي بن حراش الذي أخرجه مسلم متابعة لحديث الأحنف عن أبي بكرة، وجزم المعلمي بأن مسلمًا أخرج حديث ربعي في المتابعات (¬5) . فعدم العلم بسماع ربعي من أبي بكرة غير مؤثر على الحديث، ولو وجد ¬

(¬1) مقدمة صحيح مسلم (1/35) . (¬2) صحيح مسلم (4/2214) . (¬3) أخرجه البخاري (1/106/ [31] ) ، كتاب الإيمان، باب {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} ، وأخرجه مسلم (4/2213) . (¬4) صحيح البخاري (13/35/ [7083] ) كتاب الفتن، باب إذا التقى المسلمان بسيفيهما. (¬5) الأحاديث التي استشهد بها مسلم (ل4) .

السماع لكان من تحصيل الحاصل لأن حديث أبي بكرة هذا محفوظ بلاشك، ولأن ليس لربعي عن أبي بكرة إلا هذا الحديث فقط كما نص مسلم على ذلك. 4- ومما يدخل في النوع قول مسلم: (وأسند نافع بن جبير بن مطعم عن أبي شريح الخزاعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا) (¬1) . وهذا الحديث أخرجه مسلم من طريق عمرو بن دينار أنه سمع نافع بن جبير يخبر عن أبي شريح الخزاعي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليسكت" (¬2) . وقد أخرج (¬3) مسلم هذا الحديث بعد أن ساق حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحو حديث أبي شريح من طريقين عن أبي هريرة، وحديث أبي هريرة هذا أخرجه البخاري في "صحيحه" (¬4) أيضًا. ولم أجد بعد البحث سماع نافع بن جبير من أبي شريح الخزاعي، ولكن رأيت البخاري (¬5) - رحمه الله - قد أخرج حديث أبي شريح الخزاعي هذا من طريق سعيد المقبري عنه بمثل حديث نافع بن جبير وسماع سعيد المقبري ثابت عن أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه فقد قال ابن أبي حاتم: (قلت لأبي: سمع سعيد المقبري من أبي شريح؟ قال: نعم) (¬6) . ويؤكد ذلك احتجاج البخاري بحديثه عن أبي شريح. ¬

(¬1) مقدمة صحيح مسلم (1/35) . (¬2) صحيح مسلم (1/69) . (¬3) صحيح مسلم (1/68-69) . (¬4) انظر صحيح البخاري (10/460/ [6018] ) كتاب الأدب، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره. (¬5) انظر صحيح البخاري (10/460/ [6019] ) كتاب الأدب، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره. (¬6) العلل لابن أبي حاتم (2/236) .

ومتن هذا الحديث قال عنه الذهبي: (فهذا متواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا اللفظ) (¬1) . فلا وجه لإيراد مسلم - رحمه الله - لهذا السند لأن نافع بن جبير لم يرو عن أبي شريح إلا حديثًا - كما يدل عليه كلام مسلم -، وهذا الحديث الواحد محفوظ عن أبي شريح الخزاعي برواية سعيد المقبري الذي ثبت سماعه منه، ولم ينفرد نافع بن جبير بزيادة مهمة تجعل لحديثه ميزة على حديث سعيد المقبري. وقال المعلمي: (أخرج مسلم حديث أبي هريرة: بمثل حديث أبي شريح. ثم أخرج حديث نافع عن أبي شريح، فهو شاهد، مع ثبوته عن أبي شريح من طريق سعيد المقبري سماعًا من أبي شريح) (¬2) . 5- ويدخل فيما سبق قول مسلم: (وأسند سليمان بن يسار عن رافع بن خديج عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا) (¬3) . أخرج مسلم في صحيحه حديث سليمان بن يسار عن رافع بن خديج قال: (كنا نحاقل الأرض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فنكريها بالثلث والربع والطعام المسمى، فجاءنا ذات يوم رجل من عمومتي فقال: نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمر كان لنا نافعًا، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا، نهانا أن نحافل بالأرض فنكريها على الثلث والربع والطعام المسمى، وأمر رب الأرض أن يزرعها أو يزرعها، وكره كراءها، وما سوى ذلك) (¬4) . ولم أقف على سماع سليمان بن رافع، ولكن الحديث رواه خلق (¬5) عن رافع بألفاظ مختلفة، وقد احتج البخاري في صحيحه بحديث رافع بن خديج في النهي عن كراء الأرض من طريقين عنه. ¬

(¬1) جزء "حق الجار" للذهبي (ص14) . (¬2) الأحاديث التي استشهد بها مسلم (ل4) . (¬3) مقدمة صحيح مسلم (1/35) . (¬4) صحيح مسلم (3/1181) . (¬5) انظر سنن النسائي (7/33-50) ، والسنن الكبرى للبيهقي (6/128-137) ، ومسند رافع في المعجم الكبير للطبراني (4/240-288) .

فأخرج من طريق الأوزاعي عن أبي النجاشي مولى رافع بن خديج سمعت رافع بن خديج بن رافع عن عمه ظهير بن رافع قال ظهير: (لقد نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمر كان بنا رافقًا. قلت: ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو حق. قال: دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما تصنعون بمحاقكم؟ " قلت: نؤاجرها على الربيع وعلى الأوسق من التمر والشعير. قال: "لا تفعلوا، ازرعوها، أو أزرعوها، أو أمسكوها" قال رافع: قلت سمعًا وطاعة) (¬1) . وأخرج من طريق حنظلة بن قيس عن رافع بن خديج قال: (حدثني عماي أنهم كانوا يكرون الأرض على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بما ينبت على الأربعاء أو شيء يستثنيه صاحب الأرض، فنهى - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقلت لرافع: فكيف هي بالدينار والدرهم؟ فقال رافع؟: ليس بها بأس بالدينار والدرهم) (¬2) . وقد أخرج مسلم في "صحيحه" (¬3) هذين الطريقين أيضًا، فمعنى الحديث محفوظ عن رافع بن خديج من غير طريق سليمان بن يسار، فالحكم باتصال حديث سليمان عن رافع أو عدمه لا يغير من صحة حديث رافع شيئًا. وقد أشار المعلمي إلى أن حديث سليمان محفوظ بقوله: (وأخرج له عدة متابعات وشواهد) (¬4) يعني مسلمًا. والأسانيد السابقة التي استشهد بها مسلم لا يتم له الاستدلال بها على ما ذكره من تصحيح أهل العلم لها، وعدم توهينها، لأن المخالف له لا يمانع من قبولها كمتابعة لثبوت الأحاديث عنده من طرق أخرى عن نفس الصحابة. ولو احتج بتلك الأسانيد محتج لوسعه ذلك لأنه احتج بأحاديث محفوظة بيقين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا مأخذ عليها إلا احتمال عدم السماع، ويزول هذا الاحتمال ¬

(¬1) صحيح البخاري (5/27/ [2339] ) كتاب الحرث والمزارعة، باب ما كان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يواسي بعضهم بعضًا في الزراعة والثمر. (¬2) صحيح البخاري (5/31/ [2345] ) كتاب الحرث والمزارعة، باب كراء الأرض بالذهب والفضة. (¬3) انظر صحيح مسلم (3/1183، 1184) . (¬4) الأحاديث التي استشهد بها مسلم (ل4) .

بوجود رواية أخرى عن ثقة صح سماعه عن ذلك الصحابي يروي نفس المتن أو قريب منه. وإنما كان يتم للإمام مسلم - رحمه الله - الاستدلال على ما ذكره لو جاء بأحاديث لا يعلم فيها اللقاء ولا السماع، ولا تروى إلا بذلك السند، وقد صححها أهل العلم. أما وقد وجد في الأسانيد التي استشهد بها أنها مروية بطرق أخرى صحيحة عن نفس الصحابة فإن هذا مما يجعل المخالف له يقول: إنما قبل العلماء تلك الأحاديث لأنها ثابتة عن الصحابة المذكورين من جهات أخرى، فهم لم يصححوها لذاتها وإنما لأن التابعين صح سماعهم تابعوا أولئك الذين لم يثبت سماعهم، وللمخالف أن يقول أيضًا: هب أننا قبلنا الأسانيد التي استشهدت بها - رحمك الله - لأنها ثابتة عندنا من طرق أخرى، فهل نكون بذلك خالفنا شرطنا في الحديث المعنعن؟! أو هب أننا حكمنا عليها بالانقطاع ورددناها مع احتجاجنا بالطرق الصحيحة لتلك الأحاديث فهل نكون بذلك قد رددنا أحاديث احتج بها أهل العلم؟! ثالثًا: أسانيد لمتونها شواهد: ومن الأسانيد التي استشهد بها مسلم على أن أهل العلم صححوها، وليس يثبت فيها السماع أو اللقاء بين رواتها من التابعين والصحابة، أسانيد لم أجد فيها - بعد البحث - السماع ولا وجدت متابعة عن نفس الصحابي راوي الحديث، وإنما لمتون تلك الأسانيد شواهد. 1- ومن ذلك ما قاله مسلم في أبي رافع الصائغ فقد قال: (وهذا أبوعثمان النهدي وأبورافع الصائغ وهما ممن أدرك

الجاهلية وصحبا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البدريين هلم جرا ونقلا عنهم الأخبار حتى نزلا إلى مثل أبي هريرة وابن عمر وذويهما قد أسند كل واحد منهما عن أبي بن كعب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا، ولم نسمع في رواية بعينها أنهما عاينا أبيًا أو سمعا منه شيئًا) (¬1) . أبوعثمان النهدي ثبت سماعه من أبي كما تقدم، أما أبورافع الصائغ واسمه نفيع فحديثه عن أبي بن كعب لم يخرجه مسلم في "صحيحه"، وإنما أخرجه أحمد ¬

(¬1) مقدمة صحيح مسلم (1/34) .

في مسنده من طريق حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أبي رافع عن أبي بن كعب: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان فسافر سنة فلم يعتكف، فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين يومًا) (¬1) . ويشهد لهذا الحديث ما أخرجه البخاري في "صحيحه" (¬2) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يومًا) . ويشهد له أيضًا حديث أنس بن مالك الذي قال فيه: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، فسافر عامًا، فلم يعتكف، فاعتكف في العام المقبل عشرين ليلة) (¬3) رواه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان جميعهم من طريق محمد بن إبراهيم بن أبي عدي أنبأنا حميد الطويل عن أنس به. وهذا سند صحيح صححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان. وقد قال الشيخ المعلمي معللاً عدم إخراج مسلم لحديث أبي رافع في "صحيحه": (لم يخرجه مسلم - رحمه الله - في الصحيح، وذلك يدل على توقف له فيه لأنه ليس هناك طريق أخرى صحيحة يوردها ويجعل هذه متابعة لها، والحديث في حكم وسنة، وقد أنصف بذلك) (¬4) . 2، 3- ومن ذلك قول مسلم: (وأسند أبوعمرو الشيباني وهو ممن أدرك الجاهلية وكان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً، وأبومعمر عبد الله بن سخبرة كل واحد منهما عن أبي مسعود الأنصاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خبرين) (¬5) . الحديث الأول الذي أسنده أبوعمر الشيباني - واسمه سعد بن إياس - عن أبي مسعود الأنصاري أخرجه مسلم عن أبي مسعود قال: (جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أبدع بي فاحملني فقال: "ما عندي" فقال رجل: يا رسول الله أنا أدله على من يحمله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من دل على خير فله مثل أجر فاعله" (¬6) . وله شواهد عدة من أقواها حديث أنس بن مالك قال: (أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل يستحمله، فلم يجد عنده ما يتحمله، فدله على آخر فحمله، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فقال: "إن الدال على الخير كفاعله") . وهذا الحديث يرويه عن أنس اثنان هما شبيب بن بشر (¬7) ، قال الحافظ ابن حجر فيه: (صدوق يخطيء) (¬8) . وزياد بن عبد الله النميري (¬9) ، قال الحافظ فيه ¬

(¬1) مسند أحمد (5/141) ، مسند الطيالسي (ص75) ، والمنتخب من مسند عبد بن حميد (ص93) ، وسنن أبي داود (2/331) ، وسنن ابن ماجة (1/562) ، والسنن الكبرى للنسائي (2/259، 270) ، وصحيح ابن خزيمة (3/346) ، وصحيح ابن حبان (5/268) ، والمستدرك للحاكم (1/439) ، والسنن الكبرى للبيهقي (4/314) ، والمختار للضياء المقدسي (4/45-48) . (¬2) صحيح البخاري (4/334/ [2044] ) ، كتاب الاعتكاف، باب الاعتكاف في العشر الأوسط. (¬3) سنن الترمذي (3/166) ، وصحيح ابن خزيمة (3/346) ، وصحيح ابن حبان (5/268) . (¬4) الأحاديث التي استشهد بها مسلم (ل2) . (¬5) مقدمة صحيح مسلم (1/34) . (¬6) صحيح مسلم (3/1506) ، وأخرج الحديث أيضًا عبد الرزاق في مصنفه (11/107) ، وأحمد في المسند (4/120) ، (5/272، 273، 274) ، وأبوداود في سننه (4/496) ، والترمذي (5/41) ، وابن أبي عاصم في الجهاد (1/268) ، والطيالسي في مسنده (ص85) ، والبخاري في الأدب المفرد (ص96) ، وابن حبان في صحيحه (3/89) ، والطبراني في معجمه الكبير (17/225-228) ، وأبوالشيخ في الأمثال (ص213) ، والقضاعي في مسند الشهاب (1/85) ، وأبوعوانة في مسنده (5/64-65) ، والدولابي في الكنى (2/44) ، وتمام الرازي في الفوائد (1/290) ، وابن الأعرابي في معجمه (2/173) ، والخرائطي في مكارم الأخلاق (ص16-17) ، وأبونعيم في الحلية (6/266) ، وفي أخبار أصبهان (2/265) ، والبيهقي في السنن الكبرى (9/28) ، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (11/353) ، (7/383) . (¬7) أخرج حديثه الترمذي في سننه (5/41) ، والضياء المقدسي في المختارة (6/184) . (¬8) التقريب (ص263) . (¬9) أخرج حديثه أبويعلى في مسنده (7/275) ، والبزار كما في كشف الأستار (2/399) ، وابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج (ص78) .

(ضعيف) (¬1) ، فالحديث بذلك حسن، وقد قواه الضياء المقدسي بإخراجه له في "المختارة"، والشيخ الألباني في "الصحيحة" (¬2) . وقد قال الشيخ المعلمي عن حديثي أبي عمرو الشيباني: (كلها في فضائل الأعمال، وشواهد الأول من السنن الثابتة معروفة كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها"، وقوله: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه") (¬3) . والحديث الثاني الذي أسنده أبوعمرو الشيباني عن أبي مسعود الأنصاري أخرجه مسلم عن أبي مسعود قال: (جاء رجل بناقة مخطومة فقال: هذه في سبيل الله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة") (¬4) . ومضاعفة الثواب لمن أنفق في سبيل الله جاء في قوله تعالى: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم} (¬5) . ويشهد لحديث أبي مسعود من حيث المعنى حديث خريم بن فاتك رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أنفق نفقة في سبيل الله كتبت له بسبع مائة ضعف) (¬6) وهو مروي من طريق الركين بن الربيع بن عميلة عن أبيه عن يسير بن ¬

(¬1) التقريب (ص220) . (¬2) السلسلة الصحيحة (4/220) . (¬3) الأحاديث التي استشهد بها مسلم (ل3) . (¬4) صحيح مسلم (3/1505) ، وأحمد في المسند (4/121) ، (5/274) ، والدارمي في سننه (2/203) ، وابن أبي شيبة في المصنف (5/348) ، وابن أبي عاصم في الجهاد (1/270، 271) ، والنسائي في سننه (6/49) ، وأبوعوانة في مسنده (5/63-64) ، وابن حبان في صحيحه (7/80) ، والطبراني في معجمه الكبير (17/228 - 229) ، والحاكم في مستدركه (2/90) ، والبيهقي في السنن الكبرى (9/172) ، وفي شعب الإيمان (4/31) . (¬5) سورة البقرة آية رقم (261) . (¬6) أخرجه أحمد في المسند (4/345) ، وابن أبي شيبة في المصنف (5/318) ، والترمذي في سننه (4/167) ، وابن أبي عاصم في الجهاد (1/243) ، وابن حبان في صحيحه (8/17) ، والحاكم في المستدرك (2/87) .

عميلة عن خريم به، وقد قال الإمام الدارقطني عن هذا السند في كتابه "الإلزامات": (كلهم ثقات) (¬1) . قال الشيخ المعلمي عن حديث أبي عمرو الشيباني السابق: (ودليل الثاني قوله تعالى: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم} (¬2) . أما الحديث الأول لأبي معمر عبد الله بن سخبرة عن أبي مسعود الأنصاري فأخرجه مسلم من طريق الأعمش عن عمارة بن عمير عن أبي معمر عن أبي مسعود قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: "استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم وليليني منكم ألوا الأحلام والنهي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" قال أبومسعود: فأنتم اليوم أشد اختلافًا) (¬3) . ويشهد له ما أخرجه مسلم من حديث سماك بن حرب قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي بها القداح حتى رأى أنا قد عقلنا عنه ثم خرج يومًا فقام حتى كاد يكبر فرأى رجلاً باديًا ¬

(¬1) الإلزامات للدارقطني (ص97) . (¬2) الأحاديث الذي استشهد بها مسلم (ل3) . (¬3) صحيح مسلم (1/323) ، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (2/45، 52) ، والحميدي في مسنده (1/216) ، والطيالسي في مسنده (ص85) ، وأحمد في المسند (4/122) ، وابن أبي شيبة في المصنف (1/351) ، والدارمي في سننه (1/233) ، وأبوداود في سننه (1/180) ، وابن ماجة في سننه (1/312) ، والنسائي في سننه (2/87، 90) ، وابن خزيمة في صحيحه (3/20) ، والطبراني في معجمه الكبير (17/214) ، وابن حبان في صحيحه (3/301) ، وابن الجارود في المنتقى (ص116) ، وأبوعوانة في سننه (2/41) ، وابن المنذر في الأوسط (4/177) ، والبيهقي في السنن الكبرى (3/97) .

صدره من الصف فقال: "عباد الله لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم") (¬1) . ويشهد له أيضًا حديث ابن مسعود الذي أخرجه مسلم من طريق إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ليليني منكم أولوا الأحلام والنهي، ثم الذين يلونهم (ثلاثًا) وإياكم وهيشات الأسواق) (¬2) . وفي سنن الترمذي وصحيح ابن خزيمة زيادة: (ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم) . وقال الشيخ المعلمي: (أما الحديث الأول فأخرج معه مسلم عدة أحاديث صحيحة تؤدي معناه فهو في حكم المتابعة، وأقرب تلك الشواهد من لفظه حديث النعمان بن بشير فهو إذًا في معنى المتابعة) (¬3) . وأقرب الشواهد - في نظري - حديث ابن مسعود برواية الترمذي وابن خزيمة. وأما الحديث الثاني لأبي معمر عن أبي مسعود فلم يخرجه مسلم ولكنه على شرطه لأن العلماء الذين أخرجوه في كتبهم ساقوه من طريق الأعمش عن عمارة بن عمير عن أبي معمر عن أبي مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ("لا تجزيء صلاة لا يقيم فيها الرجل صلبه في الركوع والسجود") (¬4) . ¬

(¬1) صحيح مسلم (1/324) ، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (2/45) ، وابن الجعد في مسنده (1/408) ، وابن حبان في صحيحه (3/302) ، وأبوعوانة في مسنده (2/40) ، والدارقطني في سننه (1/283) . (¬2) صحيح مسلم (1/323) ، وأخرجه أبوداود (1/180) ، والترمذي في سننه (1/440) ، وابن خزيمة في صحيحه (3/32) ، وابن حبان في صحيحه (3/302) ، وأبوعوانة في مسنده (2/42) . (¬3) الأحاديث التي استشهد بها مسلم (ل3) . (¬4) أخرجه أبوداود الطيالسي في مسنده (ص85) ، وعبد الرزاق في مصنفه (2/150) ، والحميدي في مسنده (1/216) ، وأحمد في المسند (4م119، 122) ، والدارمي في سننه (1/304) ، وأبوداود في سننه (1/226) ، والترمذي في سننه (2/51) ، وابن ماجة في سننه (1/282) ، والنسائي في سننه (2/214) ، وابن الجارود في المنتقى (ص76) ، والطحاوي في مشكل الآثار (3/97-98) ، وابن خزيمة في صحيحه (1/300) ، وابن حبان في صحيحه (3/184) ، والطبراني في المعجم الكبير (17/212-214) ، والدارقطني في سننه (1/348) ، وأبونعيم في الحلية (8/116) ، والبيهقي في السنن الكبرى (2/88، 117) ، والخطيب في الكفاية (ص180) .

ويشهد له من حيث المعنى حديث أبي هريرة المتفق عليه في المسيء صلاته وفيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للمسيء صلاته: ("ارجع فصل، إنك لم تصل" (ثلاثًا) فقال: والذي بعثك بالحق فما أحسن غيره فعلمني قال: "إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها) (¬1) . ويشهد له أيضًا ما أخرجه البخاري بإسناده عن زيد بن وهب قال: (رأى حذيفة رجلاً لا يتم الركوع والسجود فقال: ما صليت، ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم -) (¬2) . وفي لفظ آخر عند البخاري أيضًا: (ولو مت مت على غير سنة محمد - صلى الله عليه وسلم -) (¬3) . وهذا له حكم المرفوع، قال ابن حجر: (وهو مصير من البخاري إلى أن الصحابي إذا قال: سنة محمد أو فطرته كان حديثًا مرفوعًا) (¬4) . ومن الشواهد لحديث أبي معمر الثاني، ما أخرجه الإمام أحمد في المسند من طريق ملازم بن عمرو ثنا عبد الله بن بدر أن عبد الرحمن بن علي حدثه أن أباه علي بن شيبان حدثه أنه خرج وافدًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (فصلينا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - فلمح بمؤخر عينيه إلى رجل لا يقيم صلبه في الركوع والسجود فلما انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا معشر المسلمين إنه لا صلاة لمن لا يقيم صلبه في ¬

(¬1) صحيح البخاري (2/323/ [793] ) ، كتاب الأذان، باب أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يتم ركوعه بالإعادة، وصحيح مسلم (1/298) . (¬2) صحيح البخاري (2/321/ [791] ) ، كتاب الأذان، باب إذا لم يتم الركوع. (¬3) صحيح البخاري (2/244/ [808] ) ، كتاب الأذان، باب إذا لم يتم الركوع. (¬4) فتح الباري (2/321) .

الركوع والسجود) (¬1) . وصححه ابن خزيمة وابن حبان والبوصيري (¬2) . وقد قال الشيخ المعلمي عن حديث أبي معمر السابق: (وأما الحديث الثاني فلم يخرجه مسلم ولعل ذلك لأنه حكم مختلف فيه، ولم يجد له شاهدًا صريحًا صحيحًا، ومن شواهده حديث المسيء صلاته، لكن لم يقع في روايتهما أن الرجل إنما قصر لأنه لم يقم صلبه في الركوع والسجود، وإن وقع معنى ذلك في رواية لغيرهما كما في "الفتح"، ومن شواهده قول زيد بن وهب: رأى حذيفة رجلاً لا يتم الركوع والسجود فقال: ما صليت، ولم مت مت على غير الفطرة التي فطر الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أخرجه [البخاري] ولكن في الحكم له بالرفع خلاف) (¬3) . والذي أراه أن حديث علي بن شيبان رضي الله عنه شاهد صريح صحيح لحديث أبي معمر، ولا أعلم على وجه اليقين لماذا لم يخرج مسلم حديث أبي مسعود السابق. وقول المعلمي: (لم يقع في روايتهما ... ) يعني بصريح العبارة، وإلا فإن معنى الحديث واضح لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر المسيء صلاته بالإعادة ثم بين له وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود فدل ذلك على أن من لم يتم ركوعه وسجوده وصلاته غير مجزئة وعليه الإعادة، وهذا ما فهمه الإمام البخاري فقد ترجم للباب الذي ذكر فيه حديث أبي هريرة في المسيء صلاته بقوله: (باب أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يتم ركوعه بالإعادة) . وأما قول المعلمي: (ولكن في الحكم له بالرفع خلاف) فهذا صحيح ولكن صنيع الإمام البخاري يدل على أنه يرى أن الحديث في حكم المرفوع فقد ساقه بإسناده في صلب كتابه "الصحيح" في موضعين، وعادته أن لا يذكر في صلب ¬

(¬1) أخرجه أحمد في المسند (4/23) ، وابن أبي شيبة في المصنف (2/193) ، (14/156) ، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3/297) ، وابن ماجة في سننه (1/282) ، وابن خزيمة في صحيحه (1/300، 333) ، وابن حبان في صحيحه (3/183) . (¬2) مصباح الزجاجة (1/108) . (¬3) الأحاديث التي استشهد بها مسلم (ل3) .

صحيحه إلا الأحاديث المرفوعة، لذا سمى كتابه "الجامع الصحيح المسند المختصر من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". وما فعله البخاري هو الراجح. 4- ومن ذلك أيضًا قول مسلم: (وأسند عبيد بن عمير عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثًا، وعبيد بن عمير ولد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬1) . وقد أخرج مسلم حديث عبيد بن عمير قال: قالت أم سلمة: (لما مات أبو سلمة قلت: غريب وفي أرض غربة، لأبكينه بكاء يتحدث عنه، فكنت قد تهيأت للبكاء عليه، إذ أقبلت امرأة من الصعيد تريد أن تسعدني، فاستقبلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "أتريدين أن تدخلي الشيطان بيتًا أخرجه الله منه؟ " مرتين، فكففت عن البكاء فلم أيك) (¬2) . ومضمون الحديث النهي عن البكاء الذي يصاحبه نوح على الميت، وهذا المعنى له شواهد صحيحة كثيرة من ذلك ما أخرجه البخاري في "باب ما ينهى من النوح والبكاء، والزجر عن ذلك" عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (لما جاء قتل زيد بن حارثة وجعفر وعبد الله بن رواحة جلس النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرف فيه الحزن - وأنا أطلع من شق الباب - فأتاه رجل فقال: يا رسول الله إن نساء جعفر - وذكر بكاءهن - فأمره بأن ينهاهن، فذهب الرجل، ثم أتى فقال: قد نهيتهن، وذكر أنهن لم يطعنه، فأمره الثانية أن ينهاهن، فذهب ثم أتى فقال: والله لقد غلبنني فزعمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فاحث في أفواههن التراب) (¬3) . ¬

(¬1) مقدمة صحيح مسلم (1/34) . (¬2) صحيح مسلم (2/635) ، وأخرجه الحميدي في مسنده (1/139) ، وأحمد في المسند (6/289) ، وابن أبي شيبة في المصنف (3/391) ، وأبويعلى في مسنده (12/381، 388) ، والطبراني في المعجم الكبير (23/277) ، والبيهقي في السنن الكبرى (4/63) . (¬3) صحيح البخاري (3/210/ [1305] ) كتاب الجنائز، باب ما ينهى من النوح والبكاء والزجر عن ذلك.

وذكر في الباب نفسه عن أم عطية رضي الله عنها قالت: (أخذ علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - عند البيعة ألا ننوح ... ) (¬1) . وأخرج البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الحبوب، ودعا بدعوى الجاهلية) (¬2) . ودعوى الجاهلية أي النياحة (¬3) . وفي صحيح البخاري أيضًا عن أبي موسى الأشعري: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريء من الصالقة والحالقة والشاقة) (¬4) . والصالقة: التي ترفع صوتها بالبكاء (¬5) . والشواهد من الأحاديث الصحيحة في النهي عن النياحة كثيرة جدًا (¬6) ، وإن كان ليس فيها ما يقرب من حديث عبيد بن عمير من حيث اللفظ إلا أنها تشهد له من حيث المعنى. قال الشيخ المعلمي في ذلك: (هو في النهي عن النياحة، وهو ثابت بأحاديث كثيرة، وفيه فضيلة لأبي سلمة، وذلك أيضًا ثابت) (¬7) . وبهذا يتضح أن حديث عبيد بن عمير عن أم سلمة لم يتضمن حكمًا شرعيًا لا يوجد في غيره. 5- ومن ذلك أيضًا قول مسلم: (وأسند ريعي بن حراش عن عمران بن حصين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثين) (¬8) . ¬

(¬1) صحيح البخاري (3/210/ [1306] ) كتاب الجنائز، باب ما ينهى من النوح والبكاء والزجر عن ذلك. (¬2) صحيح البخاري (3/198/ [1298] ) كتاب الجنائز، باب ما ينهى من الويل ودعوى الجاهلية عند المصيبة. (¬3) فتح الباري (3/196) . (¬4) صحيح البخاري (3/197/ [1296] ) كتاب الجنائز، ما ينهى عن الخلق عند المصيبة. (¬5) فتح الباري (3/198) . (¬6) انظر الترغيب والترهيب للمنذري (4/348-354) . (¬7) الأحاديث التي استشهد بها مسلم (ل3) . (¬8) مقدمة صحيح مسلم (1/35) .

ولم يخرج مسلم هذين الحديثين في صحيحه. فأما الحديث الأول فرواه ربعي عن عمران بن حصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ("لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله - أو قال: - يحبه الله ورسوله فدعا عليًا، وهو أرمد، ففتح الله على يديه) (¬1) . ولهذا الحديث عدة شواهد من أصحها ما أخرجه البخاري ومسلم عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ("لأعطين الراية رجلاً يفتح الله على يديه". قال: فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس قدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: "أين علي بن أبي طالب؟ ". فقالوا: يشتكي عينيه يا رسول الله. قال: "فأرسلوا إليه فأتوني به"، فلما جاء بصق في عينيه ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكن له وجع فأعطاه الراية. فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، فقال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من أن يكون لك حمر النعم) (¬2) . وأخرج البخاري ومسلم أيضًا عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: (كان علي قد تخلف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر وكان به رمد فقال: أنا أتخلف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟!، فخرج علي فلحق بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما كان مساء الليلة التي فتحها الله في صباحها قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأعطين الراية - أو ليأخذن الراية - غدًا رجلاً يحبه الله ورسوله - أو قال: يحب الله ورسوله - يفتح الله عليه"، فإذا نحن بعلي وما نرجوه، فقالوا: هذا علي، فأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراية ففتح الله عليه) (¬3) . ¬

(¬1) أخرجه النسائي في خصائص علي (ص45) ، والطبراني في معجمه الكبير (18/237، 238) . (¬2) صحيح البخاري (7/87/ [3701] كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب، وصحيح مسلم (4/1872) . (¬3) صحيح البخاري (7/87/ [3702] كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب، وصحيح مسلم (4/1872) .

وأخرج مسلم أيضًا شاهدين آخرين عن سعد بن أبي وقاص (¬1) ، وأبي هريرة (¬2) رضي الله عنهما، فالحديث محفوظ وصحيح، بل في حديثي سهل بن سعد، وسلمة بن الأكوع ما ليس في حديث عمران بن حصين من تفصيل لمناسبة الحديث، وحسن سياق للقصة. وأما الحديث الثاني فرواه ربعي عن عمران بن حصين: (أن حصينًا أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد، لعبد المطلب كان خيرًا لقومك كان يطعم الكبد والسنام، وأنت تنحرهم. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما شاء الله أن يقول له. فقال: ما تأمرني أن أقول، قال: "قل اللهم قني شر نفسي واعزم لي على أرشد أمري". قال: فانطلق فأسلم الرجل ثم جاء فقال: إني أتيتك فقلت لي قل اللهم قني شر نفسي واعزم لي على أرشد أمري فما أقول الآن، قال: "قل اللهم اغفر لي ما أسررت وما أعلنت وما أخطأت وما عمدت وما علمت وما جهلت") (¬3) . ويشهد له ما رواه شبيب بن شيبة عن الحسن البصري عن عمران بن حصين قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي: ("يا حصين كم تعبد اليوم إلهًا؟ قال أبي: سبعة ستة في الأرض وواحدًا في السماء. قال: "فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك"؟. قال: الذي في السماء. قال: "يا حصين أما إنك لو أسلمت علمتك كلمتين تنفعانك". قال: فلما أسلم حصين قال: يا رسول الله علمني الكلمتين اللتين وعدتني، فقال: "قل: اللهم ألهمني رشدي، وأعذني من شر نفسي") (¬4) . ¬

(¬1) انظر صحيح مسلم (4/1871) . (¬2) انظر صحيح مسلم (4/1871-1872) . (¬3) أخرجه أحمد في المسند (4/444) ، وابن أبي شيبة في المصنف (10م267) ، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (4/323) ، والنسائي في عمل اليوم والليلة (ص547) ، وابن حبان في صحيحه (2/128) ، والطبراني في معجمه الكبير (18/438) ، والدعاء (3/1451) ، والحاكم في المستدرك (1/510) ، والقضاعي في مسند الشهاب (2/1450) . (¬4) أخرجه الترمذي في سننه (5/519-520) ، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (4/323) ، والطبراني في المعجم الكبير (4/27) ، (18/103، 174) ، وفي الدعاء له (3/1450) .

وهذا السند فيه مقال لأن شبيب بن شيبة صدوق يهم (¬1) ، ولأن الحسن لم يسمع من عمران بن حصين في قول أكثر النقاد (¬2) ، ولكن قال الحافظ ابن حجر: (وهو شاهد جيد لحديث إسرائيل) (¬3) يعني الحديث الثاني لربعي الذي ذكرته آنفًا فإن إسرائيل رواه عن منصور عن ربعي به وهذه إحدى روايات هذا الحديث. وللحديث شاهد آخر قوي رواه مطرف بن الشخير - وقد سمع من عمران (¬4) - عن عمران بن حصين قال: (كان عامة دعاء نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم اغفر لي ما أخطأت وما تعمدت، وما أسررت، وما أعلنت، وما جهلت، وما تعمدت") (¬5) . وللحديث شاهد آخر قوي رواه محمد بن سيرين - وقد سمع من عمران (¬6) - عن عمران بن حصين قال: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عمران قل: اللهم إني أستهديك لأرشد أمري، وأستجيرك من شر نفسي") (¬7) . فحديث ربعي عن عمران صحيح، وهو في الدعاء لذا قال المعلمي في الحديثين اللذين يرويهما ربعي عن عمران بن حصين رضي الله عنه: (لم يخرجهما مسلم، ولا فيهما حكم، وقد توبع ربعي على كل منهما) (¬8) . وبالنظر إلى ما تقدم في النوع الثالث من الأسانيد التي استشهد بها مسلم نرى أن جميع الأحاديث التي وردت بتلك الأسانيد لها شواهد قوية مما يجعل ¬

(¬1) التقريب (ص263) . (¬2) انظر جامع التحصيل (ص164) . (¬3) تهذيب التهذيب (2/384) . (¬4) انظر صحيح البخاري (2/316/ [786] ) كتاب الآذان، باب إتمام التكبير في السجود. (¬5) أخرجه أحمد في المسند (4/437) ، والطبراني في المعجم الكبير (18/115) ، والمعجم الصغير (2/8) ، والقضاعي في مسند الشهاب (2/337) . (¬6) انظر جامع التحصيل (ص264) . (¬7) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (18/186) ، والمعجم الصغير (2/266) . (¬8) الأحاديث الذي استشهد بها مسلم (ل4) .

احتمال عدم السماع فيها لا يصلح أن يكون سببًا لعلتها لكون الحديث صحيحًا ومحفوظًا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير تلك الطريق، فمن قبل مثلاً حديث أبي رافع الصائغ عن أبي بن كعب مع عدم وجود دليل على سماعه من أبي رضي الله عنه فقد قبل حديثًا صحيحًا لأن أبا رافع ثقة من كبار التابعين، ولم يرو عن أبي رضي الله عنه إلا حديثًا واحدًا - كما قال مسلم -، وهذا الحديث ثابت محفوظ عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. فالعلماء الذين صححوا تلك الأسانيد ولم يوهنوها، رغم عدم وجود دليل على السماع فيها بين التابعي والصحابي لا يستبعد أن يكونوا فعلوا ذلك لأن أصول الأحاديث المروية بتلك الأسانيد لها شواهد قوية ولأن جميع رواة تلك الأسانيد من التابعين الثقات الأثبات فليس فيهم من تكلم فيه بقدح، كما وأن بعض تلك الأحاديث ليست من أحاديث الأحكام. وقد ذكر الإمام مسلم في "صحيحه" أحاديث لبعض الضعفاء، إذا كان أصل الحديث الذي رووه معروفًا من رواية الثقات (¬1) ، فهو لم يحتج بهؤلاء الضعفاء استقلالاً، وإنما لأن ما رووه محفوظ ومعروف من رواية الثقات. وهذا الإمام البخاري وهو ممن يشترط اللقاء في السند المعنعن يقوي حديث سليمان بن بريدة عن أبيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مواقيت الصلاة (¬2) ، مع قوله: (سليمان لم يذكر سماعًا من أبيه) (¬3) ، وذلك لأن لحديث سليمان بن بريدة هذا شواهد قوية تدل على أن أصل الحديث ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فتقوية الأحاديث التي فيها بعض النظر بالشواهد القوية منهج سار عليه أئمة ¬

(¬1) انظر كتاب الضعفاء لأبي زرعة الرازي وأجوبته على أسئلة البرذعي (2/676) والقصة مشهورة في اعتذار مسلم من انتقاد أبي زرعة له لإخراجه في "صحيحه" عن بعض الضعفاء. (¬2) العلل الكبير للترمذي (1/203) . (¬3) التاريخ الكبير (4/4) .

أهل الحديث، وكبار المصنفين في الأحاديث الصحيحة كالبخاري، ومسلم، وابن خزيمة، وابن حبان (¬1) . وقد ذكر ابن خزيمة حديثًا في صفات المولى عز وجل فضعفه ثم قال: (ومثل هذا الخبر لا يكاد يحتج به علماؤنا من أهل الأثر، لاسيما إذا كان الخبر في مثل هذا الجنس، فيما يوجب العلم لو ثبت، لا فيما يوجب العمل بما قد يستدل على صحته وثبوته بدلائل من نظر، وتشبيه، وتمثيل بغيره من سنن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طريق الأحكام والفقه) (¬2) ، ويلاحظ أنه ذكر ذلك عن علماء أهل الأثر. فلا يسلم لمسلم - رحمه الله - احتجاجه على ضعف مذهب المخالف له بتصحيح العلماء لتلك الأسانيد ذلك لأن لها شواهد قوية تجعل تصحيحها في نظر من صححها رأيًا وجيهًا ولو لم يثبت في تلك الأسانيد سماع بين التابعي والصحابي. رابعًا: ما اختلف في وصله وإرساله: يندرج تحت هذا النوع سند واحد فقط ذكره مسلم من ضمن الأسانيد التي لا يعلم فيها سماع بين التابعين من رواتها والصحابة المروية عنهم، وقد احتج بها أهل العلم ولم يوهنوها، وهو الوارد في قوله: (وأسند حميد بن عبد الرحمن الحميري عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أحاديث) (¬3) . ولم أجد له - حتى الآن - بعد التفتيش إلا حديثًا واحدًا (¬4) . ¬

(¬1) انظر مقدمة صحيح ابن حبان (1/86، 90) . (¬2) كتاب الوحيد لابن خزيمة (1/87) . (¬3) مقدمة صحيح مسلم (1/35) . (¬4) وجدت حديثًا آخر أخرجه الإمام أحمد في مسنده (2/346) ثنا عفان قال ثنا أبوعوانة عن داود بن عبد الله الأودي عن حميد بن عبد الرحمن الحميري عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو قال أبوالقاسم قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه". وهذا الحديث محفوظ عن أبي هريرة من عدة طرق صحيحة. انظر صحيح البخاري (1/412/ [239] ) ، وصحيح مسلم [282، 283] ، ومسند الحميدي [969، 970] ، ومسند أحمد (2/265، 316، 362، 394، 464) ، وسنن أبي داود [69، 70] ، وسنن الترمذي [68] ، وسنن ابن ماجه [605] ، وسنن النسائي (1/49، 125، 197) ، وصحيح ابن خزيمة [66] . فحميد الحميري لم يتفرد بل تابعه على روايته همام بن منبه والأعوج وابن سيرين وغيرهم من كبار أصحاب أبي هريرة عن أبي هريرة به. فلو لم يرو حميد الحميري هذا الحديث أصلاً لما انتقص من علمنا بالحديث وصحته شيء.

وهذا الحديث أخرجه مسلم في "صحيحه" من طريق أبي عوانة عن أبي بشر - جعفر بن أبي وحشية - عن حميد بن عبد الرحمن الحميري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ("أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل") (¬1) . ثم ذكر له متابعة من طريق جرير بن عبد الحميد وزائدة بن قدامة عن عبد الملك بن عمير عن محمد بن المنتشر عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عنه يرفعه بلفظ: (سئل: أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ وأي الصيام أفضل بعد شهر رمضان؟ فقال: "أفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبة الصلاة في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم") (¬2) . ¬

(¬1) أخرجه مسلم (2/821) ، ومن هذه الطريق أخرجها أحمد في المسند (2/244) ، وفي الزهد (ص31) ، والدارمي في السنن (2/21-22) ، وأبوداود في سننه (2/223) ، والترمذي في سننه (2/301) ، والمروزي في قيام الليل (ص45) ، والنسائي في سننه (3/206-207) ، وفي سننه الكبرى (2/171-172) ، وابن حبان في صحيحه (5/258) ، والبيهقي في سننه الكبرى (4/290-291) ، وفي شعب الأيمان (3/360) ، وفي فضائل الأوقات (ص429) . (¬2) أخرجه مسلم (2/821) ، ومن طريق عبد الملك بن عمير أخرجه أحمد في المسند (2/303، 329، 342، 535) ، وابن أبي شيبة في المصنف (3/42) ، وابن ماجة في سننه (1/554) ، والنسائي في الكبرى (2/171-172) ، وأبويعلى في مسنده (2/271-272) ، وابن خزيمة في صحيحه (2/176) ، والطحاوي في مشكل الآثار (1/307) ، والبيهقي في السنن الكبرى (4/290-291) ، وفي شعب الإيمان (3/360) .

فيكون رواه عن حميد بن عبد الرحمن اثنان هما محمد بن المنتشر، وأبوبشر، ورواية أبي بشر وقع فيها خلاف، إذ خالف شعبة بن الحجاج أبا عوانة فروى هذا الحديث عن أبي بشر عن حميد بن عبد الرحمن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1) ، فأرسل الحديث، ورجح النسائي (¬2) والدارقطني (¬3) رواية شعبة المرسلة. وأما أبوحاتم الرازي (¬4) ، ومسلم فقد رجحا الرواية الأخرى التي فيها ذكر أبي هريرة، وظاهر صنيع مسلم أنه يرجح ذلك بسبب أن المخالف لشعبة وهو أبوعوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري ثقة متقن، ولأن الحديث جاء من غير طريق أبي بشر الذي وقع فيه الخلاف على الاستواء من غير إرسال وذلك في رواية عبد الملك بن عمير التي رواها عن محمد بن المنتشر عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة مرفوعًا. ولكن حتى ما رواه عبد الملك بن عمير اختلف عليه فيه فقد روى عبيد الله بن عمر الرقي عن عبد الملك بن عمير عن جندب سفيان البجلي قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ("أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر تدعونه المحرم") (¬5) . إلا أن أبا زرعة الرازي (¬6) صحح رواية جرير وزائدة السابقة عن ¬

(¬1) أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص427) ، ومن طريقه النسائي في سننه (3/207) . (¬2) انظر سنن النسائي (3/207) ، فقد ذكر الحديث مسندًا متصلاً بذكر أبي هريرة ثم ذكر حديث شعبة مرسلاً ثم قال: (أرسله شعبة بن الحجاج) فدل هذا على أنه يرجح الإرسال، ولم يذكر رواية شعبة المرسلة في سننه الكبرى، ومن المعروف أن سننه (الصغرى) أنقى حديثًا من الكبرى لذا ذكر علة الحديث فيها. (¬3) انظر التتبع (ص15) ، وكتاب بين الإمامين مسلم والدارقطني (ص282-284) ، وانظر كذلك تهذيب سنن أبي داود لابن القيم (3/307) . (¬4) انظر العلل لابن أبي حاتم (1/254) . (¬5) أخرجه النسائي في الكبرى (2/171) ، والبيهقي في سنن الكبرى (4/291) ، والخطيب البغدادي في الموضح لأوهام الجمع والتفريق (2/232) . (¬6) انظر العلل لابن أبي حاتم (1/260) .

عبد الملك بن عمير عن محمد بن المنتشر عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة مرفوعًا، وهي رواية الأكثر. ولشطر الحديث المتعلق بفضل صلاة الليل شواهد كثيرة (¬1) ، ولكن كون صلاة الليل هي أفضل الصلاة بعد المكتوبة فلم أجد لذلك شاهدًا صريحًا صحيحًا، ولكن هناك بعض الأحاديث الصحيحة التي فيها إيماء إلى ذلك مثل حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ("أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، ويصوم يومًا ويفطر يومًا) (¬2) . ولاشك أن المقصود صلاة النافلة لا المكتوبة وفي النص إثبات أن صلاة الليل بالصفة الواردة أحب الصلوات النافلة إلى الله وهذا يقتضي الأفضلية. وفي حديث آخر لعمرو بن عنبسة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ("أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن") (¬3) . وكذلك الأحاديث المتواترة في نزول الرب تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر ذلك يقتضي أن أفضل الصلوات النافلة هي صلاة الليل. وأما الشطر الآخر من الحديث والمتعلق بأن أفضل الصيام بعد رمضان شهر المحرم؛ فلم أجد له شاهدًا قويًا، وإنما ورد في حديث واه أخرجه الترمذي من طريق عبد الرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (سأله رجل فقال: أي شهر تأمرني أصوم بعد شهر رمضان؟ قال له: ما سمعت أحدًا يسأل عن هذا إلا رجلاً سمعته يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا قاعد، فقال: يا رسول الله أي شهر تأمرني أصوم بعد شهر رمضان؟ قال: "إن كنت ¬

(¬1) انظر الترغيب والترهيب للمنذري (1/422-443) . (¬2) صحيح البخاري (3/20/ [1131] ) كتاب التهجد، باب من نام عند السجر، وصحيح مسلم (2/816) . (¬3) أخرجه الترمذي في سننه (5/569-570) .

صائمًا بعد شهر رمضان، فصم المحرم فإنه شهر الله، فيه يوم تاب فيه على قوم، ويتوب فيه على قوم آخرين) (¬1) . وسند هذا الحديث فيه ثلاث علل: الأولى: أن عبد الرحمن بن إسحاق بن سعد أبو شيبة الكوفي ضعفه ابن معين، وأحمد بن حنبل، وابن سعد، ويعقوب بن سفيان، وأبو داود، والبخاري، وأبو زرعة الرازي، وأبو حاتم الرازي، والنسائي، وابن حبان، والبزار، وابن عدي، والساجي، والعقيلي (¬2) ، وقد قال الإمام أحمد: (ليس بذاك، وهو الذي يحدث عن النعمان بن سعد أحاديث مناكير) (¬3) . الثانية: أن النعمان بن سعد. قال فيه البخاري: (لم يرو عنه إلا عبد الرحمن بن إسحاق) (¬4) ، وكذا قال أبو حاتم الرازي أيضًا (¬5) ، وذكره ابن حبان في كتاب "الثقات" (¬6) ، وقال ابن حجر: (والراوي عنه ضعيف كما تقدم فلا يحتج بخبره) (¬7) . الثالثة: لا يعلم هل أدرك النعمان بن سعد علي بن أبي طالب رضي الله عنه أم لا؟ وهذه علة على رأي البخاري ومسلم مع اختلاف مذهبهما في السند المعنعن. فهذا السند يعتبر ضعيفًا جدًا. لذا قال الشيخ المعلمي في حديث حميد الحميري عن أبي هريرة: (وفي الحديث نظر من وجوه: الأول: ما ذكره مسلم من أنه لا يعلم لحميد الحميري لقاء لأبي هريرة. الثاني: ما سمعت من الاختلاف. يعني الاختلاف في الوصل والإرسال. ¬

(¬1) سنن الترمذي (3/117-118) . (¬2) انظر تهذيب التهذيب (6/136-137) . (¬3) العلل لأحمد برواية عبد الله بن أحمد (1/385) . (¬4) التاريخ الكبير (8/78) . (¬5) الجرح والتعديل (8/446) . (¬6) الثقات لابن حبان (5/472) . (¬7) التهذيب (10/ 453) .

الثالث: أنه لا يتابع عن أبي هريرة، ولا عن جندب مع ما لأبي هريرة من الأصحاب الحفاظ المكثرين. الرابع: أنه بالنسبة إلى الصوم ليس له شاهد فيما أعلم إلا ما رواه الترمذي من طريق عبد الرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعد عن علي وقال الترمذي: حديث حسن غريب. وعبد الرحمن بن إسحاق هو أبوشيبة الواسطي. قال أحمد ويحيى: ليس بشيء، وقال أحمد وغيره: منكر الحديث، وقال مرة: ليس بذاك وهو الذي يحدث عن النعمان بن سعد أحاديث مناكير، وضعفه غيرهم أيضًا. والنعمان بن سعد تفرد عنه عبد الرحمن بن إسحاق فيما قال أبو حاتم، وكذا قال البخاري كما ثبت في بعض نسخ التاريخ، وقال ابن حجر في "التهذيب": والراوي عنه ضعيف فلا يحتج بخبره. أقول: ذكره ابن حبان في الثقات، والثقة عنده من روى عن ثقة وروى عنه ثقة ولم يرو منكرًا، وهذا الشرط مع تساهله مفقود هنا، لأن الراوي عنه غير ثقة وروى عنه المناكير كما مر. الخامس: إن الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يكن يصوم شهرًا كاملاً إلا أنه كان يكثر الصيام في شعبان) (¬1) . وهذا الحديث وإن كان في صحيح مسلم إلا أنه من الأحاديث المنتقدة على مسلم، فقد ذكره الدارقطني في كتابه "التتبع" (¬2) ، فلا يكون من أحاديث صحيح مسلم التي تلقتها الأمة بالقبول، كما قال ابن الصلاح. (فما أخذ عليهما - يعني البخاري ومسلم - من ذلك، وقدح فيه معتمد من الحفاظ، فهو مستثنى مما ذكرنا لعدم الإجماع على تلقيه بالقبول، وما ذلك إلا في مواضع قليلة) (¬3) . وقد علق ابن حجر على كلام ابن الصلاح بقوله: (وهو احتراز حسن) (¬4) . ¬

(¬1) الأحاديث التي استشهد بها مسلم (ل5) . (¬2) انظر التتبع (ص151) ، وكتاب بين الإمامين مسلم والدارقطني (ص282) . (¬3) صيانة صحيح مسلم (ص86) . (¬4) هدي الساري (ص364) .

والحقيقة أنه لا يسلم لمسلم - رحمه الله - الاستشهاد بهذا الحديث لاختلاف الرواة فيه، ولأن شعبة بن الحجاج أحد كبار الأئمة رواه مرسلاً، وقد قال مسلم: (والمرسل من الروايات في أصل قولنا، وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة) (¬1) ، وهذا لا يتفق مع ما ذكره من أن جميع الأسانيد التي استشهد بها صحيحة عند أهل العلم، ولا يعلم أنهم وهنوا شيئًا منها!. وبما تقدم من مناقشة للدليل الثالث ظهر لنا أن مسلمًا استشهد بستة عشر إسنادًا وجدنا خمسة منها السماع فيها ثابت بين التابعي والصحابي، ووجدنا خمسة منها قد رويت من طرق أخرى صحيحة عن نفس الصحابي الذي استشهد مسلم بسنده، ووجدنا كذلك خمسة من تلك الأسانيد لمتونها شواهد قوية، ووجدنا سندًا واحدًا مختلفًا في وصله وإرساله، وقد بينت في ثنايا المناقشة لتلك الأحاديث أنه لا يسلم لمسلم - رحمه الله - استدلاله بهذه الأسانيد على قوة مذهبه في السند المعنعن إما لثبوت السماع، وإما لأن أحاديث تلك الأسانيد محفوظة وثابتة من جهات أخرى بمتابعة تامة أو بشواهد قوية. القسم الثاني: مناقشة الأدلة التي ذكرها بعض المؤيدين لمسلم: الدليل الرابع: ملخص ما ذكره الشيخ المعلمي في هذا الدليل أن الأصل في الرواية أن تكون عما شاهده الراوي، لاسيما في عصر السلف إذ كان الناس مشمرين للقاء أصحاب نبيهم. وغالب السلف كانوا يزورون الحرمين بل كثير منهم كان يزور الحرمين كل عام فاحتمال السماع، قوي، ويكون أقوى إذا كان الراوي والمروي عنه في بلد واحد. كما أن الإسناد كان شائعًا في عهد السلف مع أنهم أهل تثبت واحتياط، ثم لم يكن الإرسال الخفي شائعًا بل هو أقل شيوعًا من التدليس. وفي هذا الكلام نظر لما يلي: 1- كلام المعلمي - رحمه الله - فيه تعميم شديد، فهو يطلق أحكامه السابقة على عصر بأكمله، ومن شدة التعميم في كلامه - رحمه الله - أنه لم يحدد ¬

(¬1) مقدمة صحيح مسلم (1/30) .

مفهومه "العصر السلف" هل يقصد التابعين أم يقصد ما هو أشمل من ذلك؟!، والتعميم في المسائل العلمية لا يقبل إلا بأدلة صريحة، وفي مثل مسألة السند المعنعن التي هي مسألة خلافية يكتنف التعميم مخاطر وأخطاء. 2- لم يأت المعلمي - رحمه الله - بشواهد على كلامه، والإثبات لقضية ما يستلزم شواهد وأمثلة أو كلامًا لكبار العلماء يصلح للاحتجاج به. 3- أن الخلاف في: هل الإرسال كان شائعًا بين المحدثين أم لا؟، وليس الخلاف فيما هو الأصل في رواية الراوي؟ يدل على ذلك أن مسلمًا ذكر أن المخالف له يحتج على مذهبه في السند المعنعن لأن الإرسال كان شائعًا بين المحدثين، ولم يخالف مسلم في ذلك ولكن رد على المخالف له بأنه يلزمه أن لا يقبل إسنادًا معنعنًا ولو ثبت تلاقي رواته حتى يرى التصريح بالسماع في كل سند على حده. ثم يقال: إذا كان الأصل في الرواية أن تكون عما شاهده الراوي فلم اشترطتم العلم بالمعاصرة ولم تكتفوا بمجرد احتمال المعاصرة؟! فإن قيل: لأن العلم بالمعاصرة قرينة قوية على إمكان اللقاء والسماع. فيقال: فاشتراط العلم باللقاء أقوى وأضبط وأنفى لشبهة عدم الاتصال. فلم تكتفوا بالأصل وزدتم عليه شرطًا هو العلم بالمعاصرة فكذلك المخالف لكم لم يكتف بالأصل وزاد عليه شرط العلم باللقاء فسقط الاستدلال بالأصل لعدم استقلاله واحتياجه لقرينة تدعمه وتسنده. 4- أن صيغة الأداء "عن" استخدمت بكثرة في الأسانيد غير المتصلة فليس الأصل فيها الاتصال لاحتمال ضده، قال ابن رشيد: (نعم لو علمنا من كل واحد من رواة ذلك الحديث أنه لا يطلق "عن" إلا في موضع الاتصال، ولا يجيز غير ذلك، أو صح فيه إجماع من الرواة كلهم وعرف لا ينخرم ضبطه، ولكن ذلك لم يثبت، وقد يسلم المنصف أنه كثير، ولا يلزم من كثرته الحكم به مطلقًا لوجود الاحتمال) (¬1) . 5- ذكر المعلمي أن الناس مشمرون في طلب العلم في عصر السلف ¬

(¬1) السنن الأبين (ص49) .

وخاصة في حرصهم على لقاء أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا الكلام قد يصح لو قيد بالمعروفين بالعلم وكثرة الرواية، ولا يمكن تعميمه، ومما يدل على نقيض ما قاله المعلمي: أن عمر بن عبد العزيز كان واليًا على المدينة، وأدرك سلمة بن الأكوع، وسهل بن سعد وهما حيين، ولم يسمع منهما (¬1) . وأدرك الأعمش أنس بن مالك رضي الله عنه ولم يسمع منه، وقال: (رأيت أنسًا وما منعني أن أسمع منه إلا استغنائي بأصحابي) (¬2) . وقال الذهبي في ترجمة أبي الأشهب جعفر بن حيان: (ولد سنة سبعين، فقد أدرك نيفًا وعشرين سنة من أيام أنس بن مالك، وهو معه بالبصرة، فالعجب كيف لم يسمع منه) (¬3) . وقال أبوحاتم الرازي: (جماعة بالبصرة قد رأوا أنس بن مالك، ولكن لم يسمعوا منه، منهم قرة بن خالد) (¬4) . وقال الذهبي في ترجمة هشام بن عروة: (ولقد كان يمكنه السماع من جابر، وسهل بن سعد، وأنس، وسعيد بن المسيب، فما تهيأ له عنهم رواية) (¬5) . وقال ابن المديني في مسروق: (صلى خلف أبي بكر، ولقي عمر وعليًا، ولم يرو عنهم شيئًا) (¬6) . أليس في هذه النصوص ما يجعلنا لا نقبل تعميم المعلمي؟! 6- احتمال الاجتماع أيام المواسم في الحرمين يكون احتمالاً قويًا على إمكان السماع في حالة التأكد من أن الراوي والمروي عنه كانا في الحرمين أو أحدهما في تلك السنة بالتحديد، لأن احتمال أن يزور أحدهما الحرمين في سنة ولا يكون الآخر موجودًا احتمال قائم كما قال ابن المديني في الحسن البصري: ¬

(¬1) انظر المراسيل لابن أبي حاتم (ص116) . (¬2) سير أعلام النبلاء (6/246) . (¬3) سير أعلام النبلاء (7/287) . (¬4) المراسيل لابن أبي حاتم (ص143) . (¬5) سير أعلام النبلاء (6/35) . (¬6) العلل لابن المديني (ص61) .

(كان بالمدينة أيام كان ابن عباس على البصرة) (¬1) ، فلم يجتمعا رغم زياراتهما المتعددة للحرمين. 7- تعميم الحكم بأن جميع رواة الحديث من السلف كانوا أهل تثبت واحتياط محل نظر، لاسيما وأن قوانين الرواية الدقيقة، وضوابط النقد، وتحديد المقصود من كل صيغة من صيغ الأداء كل ذلك لم يشتهر وينتشر ويصبح عرفًا عامًا لأهل الحديث إلا في زمن متأخر نسبيًا عن زمن التابعين، وذلك عقب انتشار النقد والتفتيش عن سماع الرواة على يدي شعبة بن الحجاج الذي اعتنى بهذا الأمر وشدد فيه أكثر من غيره. 8- تقييد المعلمي في كلامه للإرسال بأنه الخفي لترجيح مذهب مسلم على مذهب البخاري تقييد لم يرده البخاري أو من يؤيده فليس محل البحث هو الإرسال الخفي، وإنما مطلق الإرسال الذي يعني عدم الاتصال أو رواية المحدث عمن لم يلقه، ولاشك أن هذا كثير الوجود بين رواة الحديث. قال ابن عبد البر في رواية الرجل عمن لم يلقه: (فإن كان هذا تدليسًا، فما أعلم أحدًا من العلماء سلم منه في قديم الدهر ولا في حديثه اللهم إلا شعبة بن الحجاج ويحيى بن سعيد القطان) (¬2) . وقال العلائي: (إرسال الراوي عمن لم يلقه كثير جدًا بلفظ "عن") (¬3) . ومما يدعم كلام ابن عبد البر والعلائي أن شعبة بن الحجاج قال: (لو أتيت محدثًا عنده خمسة أحاديث أصبت ثلاثة لم يسمعها) (¬4) . والمشترطون للعلم باللقاء في السند المعنعن حجتهم أن الإرسال كان شائعًا بين رواة الحديث ويعنون بالإرسال هنا مطلق الإرسال الذي هو تحديث الراوي عمن لم يلقه، أو بمعنى آخر عدم الاتصال، واستخدام الإرسال بهذا المفهوم شائع بين متقدمي النقاد ويدل على ذلك كتاب "المراسيل" لابن أبي حاتم فإن المرسل ¬

(¬1) العلل لابن المديني (ص51) . (¬2) التمهيد (1/15) . (¬3) جامع التحصيل (ص119) . (¬4) الكامل لابن عدي (1/91) .

عنده ضد المتصل فكل ما ليس بمتصل يدخل في مسمى المرسل، وقد قال في مقدمة كتابه: (سمعت أبي وأبا زرعة يقولان: لا يحتج بالمراسيل، ولا تقوم الحجة إلا بالأسانيد الصحيحة المتصلة) (¬1) . فتقييد الشيخ المعلمي للإرسال بالخفي في بحث هذه المسألة تقييد لا يرتضيه المخالف لأنه تصرف في توضيح قوله. يؤكد هذا أن البخاري انتقد سماع كثير من الرواة ولا يعرف هل عاصروا من رووا عنه أم لا؟ فدل هذا على أنه يبحث عن اشتراط اللقاء مطلقًا ثبتت المعاصرة أو لم تثبت ولم يحدد نقده في الإرسال الخفي الذي هو رواية المحدث عمن عاصره ولم يلقه على قول الحافظ ابن حجر. والمعلمي - رحمه الله - فيه الإرسال بالخفي ليؤكد أنه قليل بل وأقل من التدليس، وهذا الحكم مبني على خطأ وهو جعل حجة المخالف هي كثرة الإرسال الخفي وقد بينت قبل قليل أن المخالف يحتج بأن الإرسال بدون تقييده بالخفي كان منتشرًا وكثير الوجود في الروايات، ورغم ذلك فإن حكم الشيخ المعلمي على أن الإرسال الخفي أقل من التدليس لم يبرهن عليه إلا بقوله إنه استقراء، وهذا نص عبارته: (فإن قيل: فإن ذهاب ابن المديني والبخاري - رحمهما الله تعالى - إلى اشتراط اللقاء يدل على شيوع الإرسال الخفي في السلف. قلت: الاستقراء أقوى من هذا الاستدلال) (¬2) . الاستقراء يحتاج لإثبات فأين إثباته؟! لاسيما وأن هذا الاستقراء قد لا يكون تامًا، وهو أيضًا معارض لإمامين من أجل أئمة الحديث، ثم هذا الاستقراء - إن ثبت وكان مستوفيًا لشروط الاستقراء الصحيح - يبقى عليه أنه من عالم متأخر جدًا من حيث الزمن وسعة العلم وقرب الإسناد عن ابن المديني والبخاري فكيف يسلم به؟! 9- قول المعلمي: (فلا يخدش خلافهما - يعني ابن المديني والبخاري -، ¬

(¬1) المراسيل لابن أبي حاتم (ص15) . (¬2) عمارة القبور (ل83) .

وخلاف من عاصرهما أو تبعهما في الإجماع السابق - أي الذي ذكره مسلم -) (¬1) . هذا الكلام مبني على أن ما حكاه مسلم من الإجماع صحيح، والحقيقة أن فيه نظرًا ولا إجماع في المسألة أصلاً وقد أثبت ذلك في مناقشة الدليل الأول من أدلة مسلم، ثم إذا لم يعتد بقول ابن المديني والبخاري في نقض الإجماع لمخالفتهما في المسألة فبمن يعتد؟! والحق - الذي اعتقده - أنه لا تصح دعوى الإجماع على أي قول من القولين في مسألة اشتراط اللقاء في السند المعنعن، لأن المسألة خلافية، ولأن إثبات الإجماع في أي مسألة ليس بالأمر الهين لذا قال إمام أهل السنة أحمد بن حنبل: (من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس قد اختلفوا) (¬2) . 10- قول المعلمي: (فلولا وفاقهما - يعني ابن المديني والبخاري - على أن الظاهر من الرواية السماع ... فيلزمهما أن يثبتا لكل من لقي شخصًا أنه سمع منه جميع حديثه) تقدم الرد على هذا في مناقشة الدليل الثاني من أدلة مسلم. الدليل الخامس: ملخص كلام الشيخ المعلمي في هذا الدليل أن الإرسال الخفي أقبح وأشنع من التدليس فلا يجوز اتهام الراوي به لأن الأصل السلامة منه، والثقة أشد تباعدًا عن الإرسال الخفي تدينًا وخوفًا من نقد النقاد فعدم احتجاج من يشترط اللقاء بسند معنعن معاصرة رواته لبعضهم ثابتة اتهام منه للمعنعن الثقة بالإرسال الخفي المتضمن للتغرير والغش المنافيين لكمال الثقة. وأشار المعلمي إلى أن حجته على ما ذكره من أن الإرسال الخفي أقبح من التدليس كلام يعقوب بن شيبة وابن عبد البر. وقبل مناقشة ما ذكره الشيخ المعلمي - رحمه الله - أذكر كلام يعقوب بن شيبة وابن عبد البر بالنص حتى ننظر فيما قالا". قال يعقوب بن شيبة: (التدليس جماعة من المحدثين لا يرون به بأسًا، وكرهه جماعة منهم، ونحن نكرهه، ومن رأى التدليس منهم فإنما يجوزه عن ¬

(¬1) عمارة القبور (ل84) . (¬2) مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله (ص439) .

الرجل الذي قد سمع منه ويسمع من غيره عنه ما لم يسمعه منه فيدلسه يري أنه قد سمعه منه، ولا يكون ذلك أيضًا عندهم إلا عن ثقة. فأما من دلس عن غير ثقة وعمن لم يسمع هو منه فقد جاوز حد التدليس الذي رخص فيه من رخص من العلماء) (¬1) . والملاحظ هنا أن يعقوب بن شيبة قال: (فأما من دلس عن غير ثقة وعمن لم يسمع هو منه فقد جاوز حد التدليس) فلم يجعل مجرد رواية المحدث عمن عاصر تدليسًا، وإنما تعد كذلك إذا دلس أي إذا قصد الإيهام على السامعين أنه سمع والحقيقة أنه لم يسمع سواء عاصر المروي عنه أم لم يعاصره فكل ذلك يعد تدليسًا للإيهام المصاحب للرواية وليس لمجرد روايته لذلك، وهذا واضح في كلام ابن شيبة لقوله: (فأما من دلس) . وأما ابن عبد البر فقال: (واختلفوا في حديث الرجل عمن لم يلقه مثل مالك عن سعيد بن المسيب، والثوري عن إبراهيم النخعي، وما أشبه هذا، فقالت فرقة: هذا تدليس، لأنهم لو شاءا لسميا من حدثهما، كما فعلا في الكثير مما بلغهما عنهما، قالوا: وسكوت المحدث عن ذكر من حدثه مع علمه به دلسة. قال أبوعمر: فإن كان هذا تدليسًا، فما أعلم أحدًا من العلماء سلم منه، في قديم الدهر ولا في حديثه اللهم إلا شعبة بن الحجاج ويحيى بن سعيد القطان. وقالت طائفة من أهل الحديث: ليس ما ذكرنا يجري عليه لقب التدليس، وإنما هو إرسال، قالوا: وكما جاز أن يرسل سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن أبي بكر وعمر، ولم يسمع منهما، ولم يسمع منهما، ولم يسم أحد من أهل العلم ذلك تدليسًا، كذلك مالك عن سعيد بن المسيب) (¬2) . ... وليس في كلام ابن عبد البر ما يفيد أن المرسل الخفي أقبح التدليس، وإنما حكى الخلاف في هل تعد رواية المحدث عمن لم يلقه تدليسًا أم لا؟ ¬

(¬1) الكفاية للخطيب (ص400) . (¬2) التمهيد (1/15-16) .

والصواب في هذه المسألة الأخيرة أن التدليس لابد فيه من قصد الإبهام من قبل المدلس فإذا لم يوجد الإبهام من الراوي فلا يصح أن ينسب للتدليس، حتى فيما يرويه المحدث في بعض ما لم يسمعه عن شيخه الذي لقيه وسمع منه إذا لم يكن هناك إبهام فلا ينسب للتدليس، ومثال ذلك أن سعيد بن المسيب ثبت أنه سمع من عمر أحاديث قليلة، وقد روى عن عمر علمًا كثيرًا حتى سمي راوية عمر (¬1) ، مع علمنا أنه لم يسمع كل هذا من عمر، ورغم ذلك لم ينسب للتدليس لأنه لم يوهم من سمع منه أنه قد سمع كل ما رواه عن عمر لاشتهار قلة سماعه من عمر وصغر سنه عند وفاته رضي الله عنه، ومن ذلك أيضًا ما قاله أبوداود: (كان ابن سيرين يرسل وجلساؤه يعلمون أنه لم يسمع، سمع من ابن عمر حديثين، وأرسل عنه نحوًا من ثلاثين حديثًا) (¬2) . لذا قال الخطيب البغدادي في المدلس: (وإنما يفارق حاله حال المرسل بإيهامه السماع ممن لم يسمع منه فقط) (¬3) . وأما ما ذكره المعلمي من أن الإرسال الخفي أقبح من التدليس فوجهة نظر لا يوافق عليها، ولم أجد أحدًا قال مثل ذلك في أقوال أهل العلم ما يخالف ذلك، فقد قال الخطيب البغدادي: (الإرسال لا يتضمن التدليس لأنه لا يقتضي إبهام السماع ممن لم يسمع منه، ولهذا المعنى لم يذم العلماء من أرسل الحديث وذموا من دلسه) (¬4) . وقال العلائي: (كل مدلس مرسل ولا ينعكس إلا على القول الضعيف الذي حكاه ابن عبد البر فيما تقدم) (¬5) . ثم قال: (التدليس موهم للاتصال، وليس متصلاً، ولهذا ذمه كثير من العلماء حتى قال شعبة لأن أزني أحب إلي من ¬

(¬1) انظر تهذيب التهذيب (4/85-86) . (¬2) الجزء الرابع والخامس من سؤالات أبي عبيد الآجري لأبي داود (ص202) . "رسالة ماجستير" تحقيق عبد العزيز آل عبد القادر. (¬3) الكفاية (ص395) . (¬4) الكفاية (ص395) (¬5) جامع التحصيل (ص98) .

أن أدلس، وذلك محمول منه على المبالغة في ذمه والتفنير عنه، وقال أيضًا: التدليس أخو الكذب، وقال حماد بن زيد: التدليس كذب، ثم ذكر حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور" وقال حماد: فلا أعلم المدلس إلا متشبعًا بما لم يعط ... ) (¬1) . ومما يؤكد بقوة أن الإرسال الخفي ليس هو كالتدليس فضلاً أن يكون أقبح منه ما قاله ابن أبي حاتم: (قلت أبو وائل سمع من أبي الدرداء؟ قال: أدركه، ولا يمكن سماع شيء. أبو الدرداء بالشام، وأبو وائل كان بالكوفة. قلت: كان يدلس؟ قال: لا، هو كما يقول أحمد بن حنبل) (¬2) علق العلائي بقوله: (يعني كان يرسل) . وهذا نص صريح في أن المرسل الخفي ليس كالتدليس لن التدليس مذموم ومكروه، وفي نص آخر لأبي حاتم مؤيد لما تقدم عنه أنه قال في أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي: (لا يعرف له تدليس) (¬3) ، وأبو قلابة ممن عرف بالإرسال، وقد قال أبو حاتم فيه: (قد أدرك أبو قلابة النعمان بن بشير، لا أعلمه سمع منه) (¬4) ، فنفى عنه التدليس مع أنه وجد الإرسال الخفي في مروياته. وبهذا يعلم أن ما قاله المعلمي ليس بالصواب والله أعلم. الدليل السادس: ملخص كلام الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في هذا الدليل أنه يلزم من قول البخاري في اشتراط اللقاء، ومن مشى على قوله من بعده أن تكون الأحاديث المعنعنة التي هي على شرط مسلم في العنعنة من قسم الحديث الضعيف، وهذا غير مقبول لأنه يناقض ما قرره العلماء من أن كتاب مسلم صحيح. وفي هذا الإلزام نظر لما يلي: 1- هذا الكلام نظري فإن الشيخ عبد الفتاح لم يأت بأمثلة من صحيح ¬

(¬1) جامع التحصيل (ص197) . (¬2) المراسيل لابن أبي حاتم (ص77) . (¬3) الجرح والتعديل (5/58) . (¬4) المراسيل لابن أبي حاتم (ص96) .

مسلم على كلامه السابق مما يجعل هذا الإلزام ضعيفًا لتطرقه لعدة احتمالات منها: أن تكون تلك الأحاديث قليلة، وأن يكون لها متابعات قوية أو شواهد صحيحة وحينئذ فيحتج بها على رأي من يشترط اللقاء، ويحتمل أن يكون مسلم أخرج معظم تلك الأحاديث القليلة في المتابعات لا في الأصول، ويحتمل أن يكون مسلم أخرج معظم تلك الأحاديث القليلة في فضائل الأعمال وما يجري مجراها، وكلها احتمالات قائمة وقوية ويشهد لقوتها أننا وجدنا الأسانيد التي استشهد بها مسلم على المخالف له وذكر أنه لا يعلم فيها لقاء ولا سماع من التابعي عن الصحابي وجدنا خمسة منها السماع فيها ثابت، وخمسة منها قد توبع التابعي راوي الحديث متابعة تامة من ثقة قد صح سماعه عن نفس الصحابي، ووجدنا خمسة منها لها شواهد قوية، ووجدنا حديثًا واحدًا فقط اختلف في وصله وإرساله، وقد أخرج مسلم أكثر تلك الأحاديث في صحيحه فهي على شرطه في العنعنة، وهي مذهب من يشترط اللقاء أحاديث يحتج بها لثبوت السماع في بعضها، أو لأن تلك الأحاديث ثبتت من طرق أخرى. وما دام هذا الإلزام لم يحدد عدد الأحاديث الموجودة في صحيح مسلم بتلك الصفة، ولم يحدد هل هي في الأصول أم في المتابعات؟، ولم يذكر هل بحث عن السماع فيها أم لا؟، ولم يذكر هل لتلك الأحاديث متابعات وشواهد أم لا؟، ولم يوضح هل هي في أحاديث الأحكام أم في أحاديث الفضائل ونحوها؟ والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال. 2- لا يوافق الشيخ عبد الفتاح على قوله أنه يلزم أن تكون الأحاديث التي هي في صحيح مسلم بالعنعنة على شرطه في حكم البخاري ضعيفة. وذلك لأن البخاري بالاتفاق أسبق من مسلم في تأليف الصحيح وأعلم منه في علل الحديث فلا يصح توجيه الإلزام إليه، وإنما يصح هذا الإلزام - لو كان مستوفيًا للشروط - أن يوجه للمتأخرين فقط. ثم إنه لا يحتاج لإلزام البخاري كما فعل الشيخ عبد الفتاح، فإنه - رحمه الله - قد تكلم في سماع بعض الرواة، الذين أخرج مسلم في "صحيحه"

بعض أحاديثهم، وهي قليلة جدًا، وسأذكرها مع المناقشة في الفصل الخامس - إن شاء الله -. 3- لم يصب الشيخ عبد الفتاح في قوله: (وهذا غير مقبول لأنه يناقض كل المناقضة ما قرره العلماء على مر الزمن من أن كتاب مسلم "صحيح" مع معرفته بشرطه في العنعنة) (¬1) . وذلك لأن مسلمًا سمى كتابه "الصحيح" فتقرير العلماء على مر الزمن من أن كتاب مسلم "صحيح" راجع لأن مؤلفه سماه "الصحيح"، ولأن الغالبية العظمى من أحاديث الكتاب صحيحة بلاشك فالتسمية بالنظر للغالب، بدليل أن الدارقطني وأبا مسعود الدمشقي وغيرهما ممن ذكر انتقادات عديدة على صحح مسلم لم يمنعهم ذلك من تسميته بـ "الصحيح" لأن موضوع الكتاب هو الأحاديث الصحيحة وإن نوزع مسلم في تصحيح بعض من أحاديث كتابه. ومن الممكن أن يقال إن تقرير العلماء بأن كتاب مسلم "صحيح" مع معرفتهم بشرطه في العنعنة دال على أن الأحاديث التي هي معنعنة على شرطه قليلة ولها ما يشهد لها ويقويها من طرق أخرى، فتسقط المناقضة المزعومة وقد أكد ذلك ابن الصلاح في قوله: (وإن لم يلزم عمله به فيما أودعه في صحيحه هذا، وفيما يورده فيه من الطرق المتعددة للحديث الواحد ما يؤمن من وهن ذلك) (¬2) . وكيف لا يسمى كتاب مسلم "صحيحاً"، وأكثر أحاديثه قد اتفق هو مع البخاري في إخراجها، بل وكثير من الأحاديث التي انفرد بإخراجها السماع فيها ثابت وإن رويت في "الصحيح" بالعنعنة مثل أحاديث حماد بن سلمة عن ثابت البناني، وأحاديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، وأحاديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة، وأحاديث أبي الزبير عن جابر، وغير ذلك كثيرًا جدًا، فليس من الإنصاف في شيء أن يسلب أحد وصف الصحة من كتاب مسلم لوجود عدد قليل من الأحاديث المعنعنة على شرطه، ناهيك أن ¬

(¬1) التتمة الثالثة الملحقة بكتاب "الموقظة" (ص137) . (¬2) صيانة صحيح مسلم (ص70) .

لأغلب هذه الأحاديث - على قلتها - شواهد قوية، ومتابعات صحيحة!! 4- يجاب عن السؤال الذي طرحه الشيخ عبد الفتاح بقوله: (فكيف يوفق القائل بمذهب البخاري في الحديث المعنعن بين اختياره مذهب البخاري، وقوله في كتاب مسلم "صحيح"، وفيه الحديث المعنعن الذي هو في حكم البخاري لا يتصف بأصل الصحة؟ " (¬1) . بأن العلماء قد وفقوا بين قولهم: إن عنعنة المدلس لا تقبل، وبين قبولهم لعنعنات المدلسين في الصحيحين بأن العلماء قد تلقوهما بالقبول ولاحتمال ثبوت التصريح بالسماع في طرق أخرى خارج الصحيحين، إذن فما دامت العنعنة في الصحيحين أعطيت حكمًا خاصًا يختلف عن أصل حكمها، فكذلك مشترط اللقاء - من المتأخرين - يسعه أن يعطي الأحاديث التي في صحيح مسلم على شرطه في العنعنة، والتي لم يثبت فيها السماع أو اللقاء بعد البحث، وليس لها شواهد أو متابعات قوية، وليست مخرجة في المتابعات، وليست في فضائل الأعمال ونحوها، له أن يعطيها حكمًا خاصًا استثنائيًا لما لكتاب مسلم من منزلة عظيمة لدى جماهير الأمة. وبهذا التوفيق المتسق مع ما لصحيح مسلم من مكانه يسقط الإلزام الذي ذكره الشيخ أبوغدة لأن المسألة سيكون محل بحثها خارج الصحيحين. والحقيقة أن الإلزام الذي ذكره الشيخ أبوغدة لا يعتبر مناسبًا ولا يعتد به لأنه يرجح بذلك مذهب مسلم في العنعنة بما عمل مسلم نفسه في صحيحه، فيحتج لمذهب مسلم بعمله، وهذا فيه ما فيه. كما أن من يشترط اللقاء من المتأخرين يستطيع أن يضع إلزامًا مضادًا للشيخ عبد الفتاح أبو غدة مقابل إلزامه الآنف فيقول: يلزمك القول باشتراط اللقاء كما هو مذهب البخاري، لأن مسلمًا كما أثبت إنما لقي البخاري ولازمه بعد أن فرغ من تأليف "صحيحه" بما فيه المقدمة (¬2) ، وقد ثبت أنه رضي بتعليل البخاري بعدم معرفته السماع لراو معاصر لراو آخر وهما من بلد واحد، وذلك ¬

(¬1) التتمة الثالثة الملحقة بكتاب "الموقظة" (ص137) . (¬2) انظر التتمة الثالثة الملحقة بكتاب "الموقظة" (ص138-140) .

في القصة المشهورة التي رواها أبو حامد أحمد بن حمدون القصار قال: (سمعت مسلم بن الحجاج، وجاء إلى البخاري، فقبل بين عينيه، وقال: دعني أقبل رجليك. ثم قال: حدثك محمد بن سلام، حدثنا مخلد بن يزيد الحراني أخبرنا ابن جريج عن موسى بن عقبة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في كفارة المجلس، فما علته؟ قال محمد بن إسماعيل: هذا حديث مليح، ولا أعلم بهذا الإسناد في الدنيا حديثًا غير هذا الحديث الواحد في هذا الباب، إلا أنه معلول، حدثنا به موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا سهيل عن عون بن عبد الله قوله. قال محمد: وهذا أولى، فإنه لا يذكر لموسى بن عقبة سماع من سهيل فقال له مسلم: لا يبغضك إلا حاسد، وأشهد أنه ليس في الدنيا مثلك) (¬1) . فقبول مسلم لتعليل البخاري دلالة على أنه رضي مذهب البخاري في اشتراط اللقاء، فكأنه رجع عما قاله في مقدمة صحيحه - الذي جزم أبو غدة بأن مسلمًا ألفها قبل كتابه "الصحيح" وبأنه فرغ منه قبل أن يلقي البخاري ويلازمه -، فيكون إقرار مسلم ومدحه للبخاري مع علمه بأن ما قاله مخالف لمذهبه دلالة على تقويته لمذهب البخاري في الحديث المعنعن، ويلزم من ذلك التسليم برجحان مذهب البخاري!! وهذا الإلزام إنما ذكرته لأبين أن الإلزام الذي ذكره الشيخ أبو غدة ليس بأقوى من هذا لمن تأملهما. وفي ختام هذا الفصل يظهر لنا أن جميع الأدلة التي احتج بها مسلم وغيره من العلماء على أن المعاصرة كافية لاتصال السند المعنعن، لا تسلم من نقاط ضعف فيها، تؤثر في اعتمادها والأخذ بها، وقد بينت في المبحث الثاني أوجه المعارضة وعدم القبول لكل دليل. ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (12/436-437) .

الفصل الرابع هل أخرج مسلم في صحيحه أسانيد معنعنة بمجرد الاكتفاء بالمعاصر؟

الفصل الرابع هل أخرج مسلم في صحيحه أسانيد معنعنة بمجرد الاكتفاء بالمعاصر؟ ذهب ابن الصلاح والنووي إلى أن مسلمًا لم يعمل في صحيحه بمذهبه في الحديث المعنعن، لكونه يخرج عدة أحاديث في الباب غالبًا مما يجعل للأحاديث المعنعنة في صحيحه لها شواهد ومتابعات. قال ابن الصلاح في معرض ترجيحه لصحيح البخاري على صحيح مسلم: (وهو يرى - أي مسلم - على ما ذكره من بعد في خطبة كتابه، أن الحديث المعنعن، وهو الذي يقال في إسناده: فلان عن فلان، ينسلك في سلك الموصول الصحيح بمجرد كونهما في عصر واحد مع إمكان تلاقيهما، وإن لم يثبت تلاقيهما وسماع أحدهما من الآخر، وهذا منه توسع يقعد به عن الترجيح في ذلك، وإن لم يلزم منه عمله به فيما أودعه في صحيحه هذا، وفيما يورده فيه من الطرق المتعددة للحديث الواحد ما يؤمن وهن ذلك) (¬1) . وقال النووي: (وإن كنا لا نحكم على مسلم بعمله في صحيحه بهذا المذهب لكونه يجمع طرقًا كثيرة يتعذر معها وجود مثل هذا الحكم الذي جوزه والله أعلم) (¬2) . وخالف في ذلك العلائي فقد أشار في عدة مواضع من كتابه "جامع التحصيل" إلى إخراج مسلم لبعض الأسانيد اكتفاء بالمعاصرة، فقد قال: (وفي ¬

(¬1) صيانة صحيح مسلم (ص69-70) . (¬2) شرح صحيح مسلم للنووي (1/14) .

صحيح مسلم لابن سيرين عن عمران حديثان آخران بلفظ "عن" جريًا على قاعدته في الاكتفاء بإمكان اللقاء) (¬1) . وبعد أن ذكر ما في حديث صالح بن أبي مريم عن أبي سعيد الخدري من إرسال قال: (وروايته عن أبي سعيد في صحيح مسلم على قاعدته) (¬2) . ومقتضى ذلك أن العلائي يرى أن الإمام مسلم قد أخرج في صحيحه أحاديث معنعنة بمجرد المعاصرة وإمكان اللقاء كما هو مذهبه الذي نصره في مقدمة صحيحة. وكذلك الشيخ المعلمي رد على النووي قوله السابق بقوله: (وزعم النووي في "شرح صحيح مسلم" أنه لا يحكم على مسلم بأنه عمل في "صحيحه" بقوله المذكور، وهذا سهو من النووي، فقد ذكر مسلم في ذلك الكلام أحاديث كثيرة زعم أنه لم يصرح فيها بالسماع ولا علم اللقاء، وأنها صحاح عند أهل العلم ثم أخرج منها في أثناء "صحيحه" تسعة عشر حديثًا كما ذكره النووي نفسه، ومنها ستة في "صحيح البخاري" كما ذكره النووي أيضًا) (¬3) . ومن المؤكد أن الإمام مسلمًا قد أخرج بعض الأحاديث في صحيحه على مذهبه في العنعنة كما أشار المعلمي إلى ذلك مستدلاً بأن مسلمًا قد أخرج أكثر الأحاديث التي استشهد بأسانيدها في المقدمة وجزم بأنه لا يعلم فيها لقاء بين التابعي والصحابي، وهي صحيحة عند أهل العلم بالحديث لكون المعاصرة ثابتة، وقد ذكرت الأحاديث التي خرجها مسلم في صحيحه من تلك الأسانيد في الفصل السابق عند مناقشة الدليل الثالث. ومما يؤكد أن مسلمًا قد أخرج بعض الأحاديث في صحيحه على مذهبه في الحديث المعنعن أن البخاري قد انتقد بعض الأسانيد بعدم معرفة السماع فيها، وقد أخرج مسلم في صحيحه أحاديث بتلك الأسانيد المنتقدة، وسأذكر تلك الأسانيد - إن شاء الله - في الفصل القادم. ¬

(¬1) جامع التحصيل (ص133) . (¬2) جامع التحصيل (ص198) . (¬3) التنكيل (1/82) .

ولقد وقفت على بعض النصوص التي تكلم فيها بعض أهل العلم بعدم ثبوت اللقاء أو السماع في أحاديث أخرجها مسلم في صحيحه، مع تتبعي للمواضع التي نص فيها العلائي في كتابه "جامع التحصيل" أن مسلمًا قد أخرج في صحيحه بعض تلك الأسانيد غير المتصلة. وهذه النصوص هي: 1- قال العلائي: (حميد بن هلال أخرج له مسلم قال أبو رفاعة العدوي: انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب الحديث. قال علي بن المديني (¬1) : لم يلق عندي - يعني حميدًا - أبا رفاعة رضي الله عنه) (¬2) . والحديث أخرجه مسلم في صحيحه من طريق سليمان بن المغيرة حدثنا حميد بن هلال قال: قال أبو رفاعة: (انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب. قال فقلت: يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه. لا يدري ما دينه. قال فأقبل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترك خطبته حتى انتهى إلي فأتى بكرسي، حسبت قوائمه حديدًا. قال: فقعد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وجعل يعلمني مما علمه الله ثم أتى خطبته فأتم آخرها) (¬3) . ولم أجد متابعًا لحميد، وكذلك لم أجد شاهدًا يدل على مشروعية قطع خطبة الجمعة لغرض التعليم كما هو وارد في هذا الحديث، إلا أن النووي قال: (لعله كان سأل عن الإيمان، وقواعده المهمة وقد اتفق العلماء على أن من جاء يسأل عن الإيمان وكيفية الدخول في الإسلام وجب إجابته وتعليمه على الفور ... ¬

(¬1) انظر العلل لابن المديني (ص87) . (¬2) جامع التحصيل (ص168) . (¬3) صحيح مسلم (2/597) ، وأخرج الحديث أيضًا أحمد في المسند (5/80) ، والبخاري في الأدب المفرد (ص386) ، وابن خزيمة في صحيحه (3/151) ، والنسائي في سننه (8/220) ، والحاكم في المستدرك (1/286) ، والبيهقي في السنن الكبرى (3/218) ، وقد استدل البخاري في الأدب المفرد والنسائي في سننه بهذا الحديث على مشروعية الجلوس على الكرسي.

ويحتمل أن هذه الخطبة التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها خطبة أمر غير الجمعة ولهذا قطعها بهذا الفصل الطويل) (¬1) . 2- قال العلائي: (سليم بن عامر الخبايري. قال أبو حاتم: لم يدرك عمرو بن عنبسة ولا المقداد بن الأسود. قلت: حديثه عن المقداد في صحيح مسلم وكأنه على مذهبه) (¬2) . والحديث أخرجه مسلم في صحيحه عن سليم بن عامر قال حدثني المقداد بن الأسود مرفوعًا (¬3) ، فصرح سليم فيه بالسماع من المقداد رضي الله عنه. 3- قال العلائي: (صالح بن أبي مريم أبو الخليل عن أبي موسى الأشعري وأبي سعيد الخدري وهو مرسل قاله في التهذيب. وروايته عن أبي موسى الأشعري وأبي سعيد الخدري وهو مرسل قاله في التهذيب. وروايته عن أبي سعيد في صحيح مسلم على قاعدته) (¬4) . والحديث أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي الخليل عن أبي سعيد (¬5) ، ولكنه أخرجه متباعة وساق قبله من طريق قتادة عن صالح أبي الخليل عن أبي علقمة الهاشمي عن أبي سعيد الخدري (¬6) ، وهذا السند متصل لذكر الواسطة فيه بين أبي الخليل وأبي سعيد الخدري رضي الله عنه. 4- سئل يحيى بن معين: (سمع طاووس من عائشة رضي الله عنها شيئًا؟ قال: لا أراه) (¬7) . وكذلك أبو داود قال: (لا أعلمه سمع منها) (¬8) . ¬

(¬1) شرح صحيح مسلم للنووي (6/165-166) . (¬2) جامع التحصيل (ص191) . (¬3) صحيح مسلم (4/2196) . (¬4) جامع التحصيل (ص198) . (¬5) صحيح مسلم (2/1080) . (¬6) صحيح مسلم (2/1079) (¬7) المراسيل لابن أبي حاتم (ص89) . (¬8) تهذيب التهذيب (5/10) .

ولطاووس عن عائشة في صحيح مسلم حديثان الأول منهما أنها قالت: (لم يدع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الركعتين بعد العصر. قال فقالت عائشة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تتحروا طلوع الشمس ولا غروبها فتصلوا عند ذلك") (¬1) . وقد ساق مسلم طرقًا كثيرة للحديث عن عائشة بألفاظ مختلفة تدل على أنه محفوظ عنها (¬2) ، ويشهد له حديث أبي عمرو الذي أخرجه مسلم في صحيحه (¬3) أيضًا. وأما الحديث الثاني لطاووس عن عائشة في صحيح مسلم فهو أنها رضي الله عنها: (أهلت بعمرة فقدمت ولم تطف بالبيت حتى حاضت فنسكت المناسك كلها وقد أهلت بالحج فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النفر: "يسعك طوافك لحجك وعمرتك" فأبت فبعث بها مع عبد الرحمن إلى التنعيم فاعتمرت بعد الحج) (¬4) . وهذا الحديث له شواهد كثيرة، وهو مستفيض عن عائشة، وقد ذكر مسلم - رحمه الله - طرقًا كثيرة له في صحيحه (¬5) . فالحديثان اللذان أخرجهما مسلم لطاووس عن عائشة رضي الله عنها لم ينفرد طاووس بروايتهما عن عائشة فله متابعات عدة في كل حديث منها. 5- قال العلائي في ترجمة عائذ الله بن عبد الله أبي إدريس الخولاني: (وروايته عن أبي ذر في صحيح مسلم وكأن ذلك على قاعدته) (¬6) . والحديث أخرجه مسلم عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي ... الحديث) (¬7) . ولم يصرح أبو إدريس بالسماع من أبي ذر عند مسلم، إلا ¬

(¬1) صحيح مسلم (1/571) . (¬2) انظر صحيح مسلم (1/571-573) . (¬3) انظر صحيح مسلم (1/567) . (¬4) صحيح مسلم (2/879) . (¬5) انظر صحيح مسلم (2/870-882) . (¬6) جامع التحصيل (ص205) . (¬7) صحيح مسلم (4/1994) .

أن مسلمًا ساق للحديث متابعة من طريق أبي أسماء الرحبي عن أبي ذر به. وقد يسر لي المولى سبحانه وتعالى الوقوف على إثبات سماع أبي إدريس الخولاني من أبي ذر، وذلك فيما رواه أبوبكر بن أبي خيثمة قال: سمعت يحيى بن معين يقول: (أبو إدري الخولاني قد سمع من أبي ذر) (¬1) . 6- قال العلائي في ترجمة عبد الله بن زيد الجرمي أبي قلابة البصري: (روايته عن عائشة في صحيح مسلم وكأنه على قاعدته) (¬2) . والحديث أخرجه مسلم متابعة من طريق أيوب عن القاسم وأبي قلابة عن عائشة (¬3) ... الحديث. فحديث أبي قلابة عن عائشة عند مسلم مقرونًا بغيره. 7- ذكر العلائي قول الإمام أحمد بأن عبد الله البهي لم يسمع من عائشة ثم قال: (أخرج مسلم لعبد الله البهي عن عائشة رضي الله عنها حديثًا وكأن ذلك على قاعدته) (¬4) . والحديث في صحيح مسلم عن عبد الله البهي عن عائشة قالت: (سأل رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الناس خير؟ قال: "القرن الذي أنا فيه ثم الثاني ثم الثالث") (¬5) . والحديث أخرجه مسلم شاهدًا وقد أخرج قبله بمعناه حديث أبي سعيد الخدري، وعبد الله بن مسعود، وأبي هريرة، وعمران بن حصين، رضي الله عنهم أجمعين (¬6) . وقد أثبت البخاري سماع عبد الله البهي من عائشة (¬7) . ¬

(¬1) تاريخ دمشق لابن عساكر (8/846) . (¬2) جامع التحصيل (ص211) . (¬3) صحيح مسلم (2/958) . (¬4) جامع التحصيل (ص218) . (¬5) صحيح مسلم (4/1965) . (¬6) انظر صحيح مسلم (4/1962-1965) . (¬7) انظر التاريخ الكبير (5/56) .

8- سئل ابن معين: (عبد الرحمن بن أبي ليلى عن المقداد بن الأسود أسمعه منه؟ قال: لا أدري) (¬1) . أخرج مسلم في صحيحه من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن المقداد: (أقبلت أنا وصاحبان لي، وقد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الجهد. فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فليس أحد منهم يقبلنا، فأتينا النبي - صلى الله عليه وسلم - فانطلق بنا إلى أهله فإذا ثلاثة أعنز، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "احتلبوا هذا اللبن بيننا" ... الحديث) (¬2) . وقد تابع طارق بن شهاب عبد الرحمن بن أبي ليلى في هذا الحديث (¬3) . وقد يسر المولى سبحانه وتعالى الوقوف على تصريح عبد الرحمن بن أبي ليلى بالسماع من المقداد رضي الله عنه وذلك في مسند أبي داود والطيالسي الذي قال: (حدثنا سليمان بن المغيرة قال حدثنا ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال حدثني المقداد بن الأسود ... ) (¬4) بمثل حديث مسلم في صحيحه، وقد أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (¬5) من طريق أبي داود الطيالسي وفيه تصريح عبد الرحمن بن أبي ليلى بالسماع من المقداد رضي الله عنه. 9- قال العلائي في ترجمة عبدة بن أبي لبابة: (أخرج له مسلم عن عمر رضي الله عنه، والظاهر أنه مرسل إذا كان لم يدرك ابن عمر وأم سلمة) (¬6) . أخرج مسلم ذلك في المتابعة من طريق الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي عن عبده: (أن عمر بن الخطاب كان يجهر بهؤلاء الكلمات يقول: سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، وعن قتادة أنه كتب إليه - أي ¬

(¬1) المراسيل لابن أبي حاتم (ص108) . (¬2) صحيح مسلم (3/1625-1626) . (¬3) انظر مسند أحمد (6/4) ، والمعجم الكبير للطبراني (20/240) ، والحلية لأبي نعيم (1/174) . (¬4) مسند الطيالسي (ص158-159) . (¬5) الحلية (1/173) . (¬6) جامع التحصيل (ص231) .

الأوزاعي - يخبره عن أنس بن مالك أنه حدثه قال: صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يكذرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة، ولا في آخرها) (¬1) . فهذا الحديث أخرجه مسلم متابعة لما قبله، ولم يقصد إخراج حديث عبدة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإنما قصد إخراج كتابة قتادة إلى الأوزاعي بحديث أنس في عدم الجهر بالبسملة في الصلاة، وسبب إخراج مسلم لحديث عبدة عن عمر مع كونه منقطعًا لأن حديث الأوزاعي عن قتادة لم يكتبه مسلم إلا على هذه الصورة. قال النووي مبينًا ذلك: (قال أبو علي الغساني: هكذا وقع عن عبدة أن عمر، وهو مرسل يعني أن عبدة وهو ابن أبي لبابة لم يسمع من عمر. قال: وقوله بعده: عن قتادة يعني الأوزاعي عن قتادة عن أنس هذا هو المقصود من الباب وهو حديث متصل. هذا كلام الغساني. والمقصود أنه عطف قوله: وعن قتادة على قوله: عن عبدة، وإنما فعل مسلم هذا لأنه سمعه هكذا فأداه كما سمعه، ومقصوده الثاني المتصل دون الأول المرسل، ولهذا نظائر كثيرة في صحيح مسلم وغيره، ولا إنكار في هذا كله) (¬2) . 10- قال العلائي بعد أن ذكر قول الإمام أحمد أن عراك بن مالك لم يسمع من عائشة: (أخرج مسلم لعراك بن مالك عن عائشة حديث "جائتني مسكينة" الحديث، والظاهر أن ذلك على قاعدته المعروفة) (¬3) . وحديث عراك عن عائشة أخرجه مسلم متابعة فقد ساق قبله الحديث من طريق الزهري حدثني عبد الله بن أبي بكر أن عروة بن الزبير أخبره أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: (جاءتني امرأة ومعها ابنتان لها، فسألتني فلم تجد عندي شيئًا غير تمرة واحدة فأعطيتها إياها ... الحديث) (¬4) . وعراك لم يسمع من عائشة لأنه يدخل بينه وبينها عروة بن الزبير، وهذا لم ¬

(¬1) صحيح مسلم (1/299) . (¬2) شرح صحيح مسلم للنووي (4/111-112) . (¬3) جامع التحصيل (ص236) . (¬4) صحيح مسلم (4/2027) .

يخف على مسلم فقد أخرج في صحيحه في ثلاثة مواضع حديث عراك عن عروة عن عائشة (¬1) ، ولكنه أخرج حديث عراك السابق عن عائشة للمتابعة فقط. 11- قال علي بن المديني في ترجمة قيس بن أبي حازم: (وروى عن عقبة بن عامر، فلا أدري سمع منه أم لا؟) (¬2) . وقد أخرج مسلم في صحيحه حديث قيس بن أبي حازم عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط؟! قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس" (¬3) . وحديث عقبة هذا يروى عنه من طرق كثيرة وبألفاظ متعددة (¬4) ، وقال ابن كثير بعد أن ساق عددًا من هذه الطرق: (فهذه طرق عن عقبة كالمتواترة عنه تفيد القطع عند كثير من المحققين في الحديث) (¬5) . وقد من علي المولى سبحانه وتعالى بأن وجدت تصريح قيس بن أبي حازم بالسماع من عقبة بن عامر، وذلك فيما أخرجه الإمام أحمد في مسنده بقوله: (حدثنا عفان ثنا أبو عوانة عن بيان - بن بشر - عن قيس بن أبي حازم ثنا عقبة بن عامر الجهني ... الحديث) (¬6) . مثل حديث مسلم في صحيحه. 12- قال العلائي: (وفي صحيح مسلم لابن سيرين عن عمران حديثان آخران بلفظ "عن" جريًا على قاعدته في الاكتفاء باللقاء) (¬7) . وهذان الحديثان اللذان أشار إليهما العلائي قد انتقدهما الإمام الدارقطني بقوله: (وأخرج مسلم (¬8) أيضًا حديث يزيد بن زريع عن هشام عن محمد بن ¬

(¬1) انظر تحفة الأشراف (12/17-18) . (¬2) العلل لابن المديني (ص50) . (¬3) صحيح مسلم (1/558) . (¬4) انظر سنن النسائي (8م254) ، وتفسير ابن كثير (7/414-417) . (¬5) تفسير ابن كثير (7/417) . (¬6) مسند أحمد (4/151) . (¬7) جامع التحصيل (ص133) . (¬8) صحيح مسلم (3/1289) .

سيرين عن عمران بن حصين أن رجلاً أعتق ستة مملوكين الحديث، وقصة القرعة. قال: وهذا لم يسمعه محمد من عمران فيما يقال وإنما أرسله عنه، وإنما سمعه أشعث عن محمد عن خالد الحذاء. وأخرج مسلم (¬1) أيضًا لابن سيرين عن عمران بن حصين حديثين آخرين أحدهما حديث تفرد به قريش بن أنس عن ابن عون عنه وفيه أن رجلاً عض يد رجل فانتزع يده فسقطت ثنيته الحديث، ولم يذكر فيه سماعه منه. والآخر (¬2) "يدخل الجنة سبعون ألفًا" وليس فيه أيضًا سماع محمد من عمران وهو يقول في غير حديث ظننت عن عمران، ولم يخرج البخاري لابن سيرين عن عمران شيئًا) (¬3) . وهذه الأحاديث الثلاثة كلها قد أخرجها مسلم في المتابعات. أما الحديث الأول فقد ذكره مسلم بعد أن ساق الحديث من طريقين عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين أن رجلاً أعتق ستة مملوكين عند موته (¬4) ... الحديث، ثم ساق سند محمد بن سيرين عن عمران بن حصين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر متنه وإنما قال: (بمثل حديثه ابن علية وحماد) . قال النووي بعد أن ذكر انتقاد الدارقطني لهذا الحديث: (ولو ثبت عدم سماعه منه لم يقدح ذلك في صحة هذا الحديث ولم يتوجه على الإمام مسلم فيه عتب لأنه إنما ذكره متابعة بعد ذكره الطرق الصحيحة الواضحة وقد سبق لهذا نظائر) (¬5) . وأما الحديث الثاني فقد ذكر مسلم قبله حديث زرارة بن أوفى عن عمران بن حصين قال: (قاتل يعلى بن منية أو ابن أمية رجلاً فعض أحدهما ¬

(¬1) صحيح مسلم (3/1301) . (¬2) صحيح مسلم (1/198) . (¬3) التتبع للدارقطني (ص175-177) . (¬4) صحيح مسلم (3/1288) . (¬5) شرح صحيح مسلم للنووي (11/141) .

صاحبه فانتزع يده من فمه فنزع ثنيته ... الحديث) (¬1) ، ثم أخرج حديث محمد بن سيرين عن عمران بن حصين به. قال النووي بعد أن ذكر انتقاد الدارقطني لهذا الحديث: (لو ثبت ضعف هذا الطريق لم يلزم منه ضعف المتن فإنه صحيح بالطرق الباقية التي ذكرها مسلم، وقد سبق مرات أن مسلمًا يذكر في المتابعات من هو دون شرط الصحيح) (¬2) . وأما الحديث الثالث فقد ذكره مسلم شاهدًا للأحاديث التي في معناه والتي ذكرها قبله (¬3) ، ثم إن مسلمًا قد ذكر له متابعة من رواية الحكم بن الأعوج عن عمران بن حصين، وفي بعض نسخ صحيح مسلم صرح ابن سيرين بالسماع من عمران بن حصين في هذا الحديث (¬4) . وقد نص أحد بن حنبل (¬5) ، ويحيى بن معين (¬6) على أن محمد بن سيرين قد سمع من عمران بن الحصين، وقال النووي: (هو معدود فيمن سمع منه) (¬7) ، ورغم ذلك احتاط مسلم ولم يخرج لابن سيرين عن عمران بن حصين إلا في المتابعات والشواهد. 13- قال العلائي في ترجمة أبي الزبير المكي محمد بن مسلم بن تدرس: (حديثه عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة في صحيح مسلم) (¬8) . وقد تكلم في اتصالها. أخرج مسلم لأبي الزبير المكي عن ابن عمر ثلاثة أحاديث، وقد صرح أبو ¬

(¬1) صحيح مسلم (3/1300) . (¬2) شرح صحيح مسلم للنووي (11/162) . (¬3) انظر صحيح مسلم (1/197-200) . (¬4) انظر ما بين الإمامين مسلم والدارقطني (ص51-54) فقد ذكر الشيخ ربيع بن هادي اختلاف نسخ صحيح مسلم المطبوعة في إثبات التصريح بسماع ابن سيرين من عمران أو إثبات العنعنة. (¬5) انظر جامع التحصيل (ص264) . (¬6) انظر الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (7/280) . (¬7) شرح صحيح مسلم للنووي (11/162) . (¬8) جامع التحصيل (ص269) .

الزبير في حديثين منها بالسماع عن ابن عمر (¬1) ، والحديث الثالث ذكره مسلم متابعة بعد أن أخرج حديث نافع عن ابن عمر مرفوعًا: (الكافر يأكل في سبعة أمعاء، والمؤمن يأكل في معي واحد) (¬2) . وأما حديث أبي الزبير عن ابن عباس، فلم أجده في صحيح مسلم، ولكن قد أثبت البخاري سماع أبي الزبير من ابن عباس (¬3) . وأما حديث أبي الزبير عن عائشة، فلم يخرج مسلم له عن عائشة حديثًا مستقلاً، وإنما وقع في حديثه عن جابر عن عائشة في آخره قال مطر: قال أبو الزبير: (فكانت عائشة إذا حجت صنعت كما مع النبي - صلى الله عليه وسلم -) (¬4) . ومطر صدوق كثير الخطأ (¬5) ، والظاهر أن مسلمًا لما ساق حديث مطر عن أبي الزبير عن جابر عن عائشة في صفة عمرتها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما فعل ذلك للمتابعة ولذا أورد فيه هذه الزيادة الواردة مع أن في اتصالها نظر لأنه لم يذكره في الأصول وإنما في المتابعات. 14- قال الدراقطني: (أبو سلام لم يسمع من حذيفة، ولا من نظرائه الذين نزلوا العراق لأن حذيفة توفي بعد قتل عثمان رضي الله عنه بليال، وقد قال فيه: [قال] حذيفة فهذا يدل على إرساله) (¬6) . حديث أبي سلام عن حذيفة أخرجه مسلم في صحيحه متابعة، وقد أخرج قبله الحديث من طريق أبي إدريس الخولاني قال سمعت حذيفة (¬7) . قال النووي: (وهو كما قال الدارقطني، لكن المتن صحيح متصل بالطريق ¬

(¬1) انظر صحيح مسلم (1/1098) ، (3/1584) . (¬2) صحيح مسلم (3/1631) . (¬3) انظر العلل الكبير للترمذي (1/389) . (¬4) صحيح مسلم (2/882) . (¬5) التقريب (ص534) . (¬6) التتبع للدارقطني (ص182) . (¬7) صحيح مسلم (3/1476) .

الأول، وإنما أتى مسلم بهذا متابعة كما ترى) (¬1) . 15- قال الدارقطني: (وأخرج مسلم عن إسحاق بن مسلم عن حبان بن هلال عن أبان عن يحيى عن زيد بن سلام عن أبي سلام عن أبي مالك الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الظهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان" (¬2) وفيه: الصلاة نور والقرآن حجة. وخالفه معاوية بن سلام رواه عن أخيه زيد عن أبي سلام عن عبد الرحمن بن غنم أن أبا مالك حدثهم بهذا) (¬3) . وما قاله الدارقطني هو الصحيح فإن الراجح في السند الذي رواه مسلم أنه مرسل وأن الصواب ذكر عبد الرحمن بن غنم بين أبي سلام وأبي مالك، وقد أكد ذلك أبو الفضل بن عمار الشهيد فقد قال: (بين أبي سلام وبين أبي مالك في إسناد هذا الحديث عبد الرحمن بن غنم الأشعري، رواه معاوية عن أخيه زيد، ومعاوية كان أعلم عندما بحديث أخيه زيد بن سلام من يحيى بن أبي كثير) (¬4) . وقال الحافظ ابن رجب: (ويقوي ذلك أنه قد روي عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك من وجه آخر، وحينئذ فتكون رواية مسلم منقطعة) (¬5) . فالحديث صحيح ولكن باعتبار السند الثاني المتصل الذي لم يخرجه مسلم، لذا قال النووي: (وكيف كان؛ فالمتن صحيح لا مطعن فيه) (¬6) . وقد أخرج مسلم في صحيح أيضًا لأبي سلام ممطور الحبشي حديثين أحدهما عن أبي أمامة رضي الله عنه، والثاني عن النعمان بن بشير رضي الله عنه، وقد ذكر أبو حاتم الرازي أن حديث ممطور الحبشي أبي سلام عنهما مرسل (¬7) ، ¬

(¬1) شرح صحيح مسلم (12/237) . (¬2) صحيح مسلم (1/203) . (¬3) التتبع للدارقطني (ص159-160) . (¬4) علل الأحاديث في كتاب الصحيح لمسلم بن الحجاج (ص45-48) . (¬5) جامع العلوم والحكم (ص185) . (¬6) شرح صحيح مسلم للنووي (3/100) . (¬7) انظر المراسيل لابن أبي حاتم (ص168) .

ولكن قد صرح أبو سلام بالسماع من أبي أمامة في صحيح مسلم (¬1) ، وكذلك بالنسبة لروايته عن النعمان بن بشير فقد صرح بالسماع منه عند مسلم (¬2) أيضًا. 16- قال الذهبي في ترجمة يحيى بن أبي كثير: (روى عن أبي أمامة الباهلي، وذلك في صحيح مسلم ولكنه مرسل) (¬3) . وكذلك قال العلائي (¬4) . وحديث يحيى بن أبي كثير عن أبي أمامة رضي الله عنه عند مسلم في موضع واحد مقرونًا بشداد بن عبد الله أبي عمار (¬5) . وبالنظر إلى بعض ما تقدم يظهر لنا جليًا أن الإمام مسلم قد أخرج في صحيحه أسانيد معنعنة لم يثبت فيها اللقاء بين بعض رواتها، اكتفاء منه بالمعاصرة، ولكن ينبغي التنبه لما يلي: 1- أن ذلك قليل بالنسبة لأحاديث الكتاب ككل. 2- أن أكثر هذا القليل جاء عند مسلم في المتابعات. 3- أن كثيرًا من ذلك له شواهد صحيحة عند مسلم في صحيحه، وخارجه. 4- أمكن بعد البحث الوقوف على ثبوت السماع في بعض من الأحاديث التي أخرجها مسلم بالعنعنة في صحيحه والتي تكلم بعض أهل العلم فيها من حيث عدم ثبوت السماع. لذا من غير الإنصاف إطلاق القول بأن مسلمًا عمل بمذهبه في الحديث المعنعن في صحيحه دون التنبيه على قلة ذلك، وعلى أن أكثر ذلك في المتابعات ونحوها. والله أعلم. ¬

(¬1) انظر صحيح مسلم (1/553) . (¬2) انظر صحيح مسلم (3/1499) . (¬3) سير أعلام النبلاء (6/27) . (¬4) جامع التحصيل (ص299) . (¬5) انظر صحيح مسلم (1/569) .

الفصل الخامس هل أخرج مسلم في صحيحه أسانيد تكلم البخاري فيها بعدم ثبوت السماع؟

الفصل الخامس هل أخرج مسلم في صحيحه أسانيد تكلم البخاري فيها بعدم ثبوت السماع؟ من خلال تتبعي لنصوص البخاري - رحمه الله - وجدته قد تكلم في ستة أسانيد من حيث عدم ثبوت السماع فيها، وقد أخرجها الإمام مسلم في صحيحه، وهذه الأسانيد هي: أولاً: يكبر بن عبد الله الأشج عن حمران بن أبان. ثانيًا: زيد بن أسلم عن حمران بن أبان. ثالثًا: سليمان بن بريدة عن أبيه. رابعًا: عبد الله بن معبد عن أبي قتادة. خامسًا: عبيد بن نضلة عن المغيرة بن شعبة. سادسًا: محمد بن المنكدر عن حمران بن أبان. وسأذكر فيما يلي كلام البخاري في هذه الأسانيد، والمواضع التي أخرج مسلم فيها تلك الأسانيد مع مناقشة ذلك - إن شاء الله -. أولاً: ذكر البخاري - رحمه الله - بكير بن عبد الله الأشج فيمن روى عن حمران بن أبان ولم يذكر سماعًا، قال في ترجمة حمران بن أبان: (ومن روى عنه فلم يذكر سماعًا ملم بن كيسان، وابن المنكدر، وزيد بن أسلم، وبكير، والمطلب بن حنطب، وابن أبي المخارق، وعبد الملك بن عبيد، وعثمان بن موهب) (¬1) . وقد أخرج مسلم من طريق مخرمة بن بكير عن أبيه عن حمران مولى عثمان ¬

(¬1) التاريخ الكبير (3/80) .

قال: (توضأ عثمان بن عفان يومًا وضوءًا حسنًا ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: "من توضأ هكذا ثم خرج إلى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة غفر له ما خلا من ذنبه") (¬1) . وهذا الحديث محفوظ عن حمران عن عثمان رضي الله عنه (¬2) ، وأقرب المتابعات شبهًا بحديث بكير عن حمران ما رواه معاذ بن عبد الرحمن - وهو ممن ثبت سماعه من حمران (¬3) - عن حمران بن أبان عن عثمان مرفوعًا: "من توضأ للصلاة فأسبغ الوضوء في مشى إلى الصلاة المكتوبة فصلاها مع الناس أو مع الجماعة أو في المسجد غفر الله له ذنوبه" (¬4) . وقد أخرج مسلم حديث معاذ بن عبد الرحمن بعد أن أخرج حديث بكير بن الأشج، فأمن بهذا أن يكون في حديث بكير عن حمران خلل لعدم ثبوت سماعه منه، ولأن مخرمة بن بكير لم يسمع من أبيه (¬5) ، فاحتاط مسلم - رحمه الله - لذلك وأتبع حديث بكير عن حمران، بمتابعة قوية. ثانيًا: ذكر البخاري زيد بن أسلم فيمن روى عن حمران بن أبان ولم يذكر سماعًا (¬6) . وقد أخرج مسلم من طريق الدراوردي عن زيد بن أسلم عن حمران مولى عثمان قال: (أتيت عثمان بن عفان بوضوء فتوضأ ثم قال: إن ناسًا يتحدثون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث لا أدري ما هي؟ إلا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ مثل ¬

(¬1) صحيح مسلم (1/208) . (¬2) انظر صحيح مسلم (1/205-208) . (¬3) انظر التاريخ الكبير (3/80) . (¬4) صحيح مسلم (1/208) . (¬5) انظر تهذيب التهذيب (10/70-71) ، وجامع التحصيل (ص275) فقد قال العلائي في ترجمة مخرمة: (أخرج له مسلم عن أبيه عدة أحاديث وكأنه رأى الوجادة سببا للاتصال، وقد انتقد ذلك عليه) . (¬6) انظر التاريخ الكبير (3/80) .

وضوئي هذا ثم قال: "من توضأ هكذا غفر له ما تقدم من ذنبه، وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة") (¬1) . وقد تابع أبو وائل شقيق بن سلمة زيدًا على رواية المقطع الأول من هذا الحديث، فقد أخرج أحمد وابن ماجة وابن حبان من طريق شقيق بن سلمة قال حدثني حمران بن أبان عن عثمان بن عفان مرفوعًا: "من توضأ مثل وضوئي هذا غفر له ما تقدم من ذنبه" (¬2) . أما قوله: "وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة" فلم أرها رويت من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه، ولكن يشهد لها حديث الصنابحي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تكفير الوضوء للخطايا، وفي آخره: "ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة" (¬3) . والحديث في فضائل الأعمال، وشواهده من حيث المعنى كثيرة (¬4) . ثالثًا: قال البخاري في ترجمة سليمان بن بريدة: (ولم يذكر سليمان سماعًا من أبيه) (¬5) . وقد احتج مسلم في صحيحه بسليمان بن بريدة عن أبيه في عشرة مواضع، وأخرج له في الأصول من أحاديث الأحكام، ولبعض ذلك شواهد في صحيح مسلم نفسه. والأحاديث التي أخرجها مسلم لسليمان عن أبيه هي: الحديث الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد (¬6) ¬

(¬1) صحيح مسلم (1/207) . (¬2) مسند أحمد (1/66) ، وسنن ابن ماجة (1/105) ، وصحيح ابن حبان (1/286-287) . (¬3) انظر الموطأ (1/31) ، وسنن ابن ماجة (1/103) ، وسنن النسائي (1/74) . (¬4) انظر الترغيب والترهيب (1/151-160) . (¬5) التاريخ الكبير (4/4) . (¬6) انظر صحيح مسلم (1/232) .

ويشهد له من حيث المعنى حديث أنس وسويد بن النعمان وكلاهما في صحيح البخاري (¬1) . الحديث الثاني: مواقيت الصلاة (¬2) . وله شاهد عند مسلم من حيث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. الحدث الثالث: في النهي عن نشد الضالة في المسجد (¬3) . وله شاهد عند مسلم من حيث أبي هريرة رضي الله عنه. الحديث الرابع: في الدعاء لأهل المقابر من المسلمين (¬4) . وله شاهد عند مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها. الحديث الخامس: في نسخ النهي عن زيارة القبور (¬5) . ويشهد له حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (¬6) . الحديث السادس: في الصوم والحج عن الميت (¬7) . وله متابع عن أبيه وهو أخوه عبد الله بن بريدة وذلك عند مسلم. الحديث السابع: حديث رجم ماعز والغامدية (¬8) . وله شواهد عند مسلم. الحديث الثامن: وصايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمراء الجيوش والسرايا (¬9) . وذكر مسلم في آخر الحديث شاهدًا من حديث النعمان بن مقرن ولكن لم يسق متنه. الحديث التاسع: في عظم إثم من خان المجاهد في أهله (¬10) . ¬

(¬1) انظر صحيح البخاري (1/377-378/ [214-215] ) . (¬2) انظر صحيح مسلم (1/428) . (¬3) انظر صحيح مسلم (1/397) . (¬4) انظر صحيح مسلم (2/671) . (¬5) انظر صحيح مسلم (2/672) . (¬6) انظر مسند أحمد (3/38، 63) ، ومستدرك الحاكم (1/374-375) . (¬7) انظر صحيح مسلم (2/805) . (¬8) انظر صحيح مسلم (3/1321-1323) . (¬9) انظر صحيح مسلم (3/1357) . (¬10) انظر صحيح مسلم (3/1508) .

الحديث العاشر: في تحريم اللعب بالنردشير (¬1) . ومن العجائب أن سليمان بن بريدة الذي أدرك من حياة أبيه رضي الله عنه ثمانيًا وأربعين سنة لم يأت عنه ما يثبت سماعه من أبيه، مما دعى الإمام البخاري أن يقول مقولته السابقة، وكذلك أن يجزم إبراهيم الحربي بأن سليمان لم يسمع من أبيه (¬2) . ومن المستبعد جدًا أن لا يكون قد سمع من أبيه، لما يلي: 1- أن سليمان أدرك أباه مدة طويلة من الزمن، ويستبعد جدًا أن يمكث الابن هذا العمر الطويل لا يرى والده ولا يلتقي به ولو مرة واحدة!! 2- لو كان سليمان لم يسمع من أبيه، مع إدراكه له تلك المدة الطويلة، لاشتهر ذلك عند النقاد، وذكره أئمة الحديث. 3- لم أجد - بعد البحث - أن سليمان يدخل بينه وبين أبيه واسطة أو عبارة تدل على عدم السماع كمثل "بلغني"، "أو حدثت" ... الخ، ومن المستبعد أن يروي الرجل عن آخر لم يسمع منه عددًا من الأحاديث، ولا يجيء ما يدل على عدم سماعه منه لاسيما مع اختلاف الرواة عنه. 4- وثق أهل العلم سليمان بن بريدة مع أن معظم روايته عن أبيه (¬3) ، فدل هذا على احتجاجهم بروايته عن أبيه. فقد قال ابن عيينة: (حديث سليمان بن بريدة أحب إليهم من حديث عبد الله بن بريدة) (¬4) . ¬

(¬1) انظر صحيح مسلم (4/1770) . (¬2) انظر تهذيب التهذيب (5/158) . (¬3) انظر تهذيب الكمال (1/532) ، فقد روى حديثًا واحدًا عن عائشة في مسند أحمد (6/258) ، وعمل اليوم والليلة للنسائي (ص500) وحديثًا واحدًا عن يحيى بن يعمر في سنن أبي داود، وذكر المزي أنه يروي عن عمران بن حصين ولم أجد ذلك في مسند أحمد، ولا في المعجم الكبير للطبراني في مسند عمران رضي الله عنه - وقد أطال الطبراني في ذكر مرويات من حدث عن عمران -. (¬4) الجرح والتعديل (4/102) .

وقال وكيع: (يقولون: إن سليمان كان أصحهما حديثًا - يعني ابني بريدة -) (¬1) . وقال عبد الله بن أحمد: (سألت أبي: أيما أوثق سليمان بن بريدة أو عبد الله؟ قال: سليمان أوثق وأفضل) (¬2) . وقال الميموني: (سألته - يعني ابن حنبل - عن ابني بريدة فقال: سليمان أحلى في القلب، وكأنه أصحهما حديثًا) (¬3) . وقال الأثرم: (قلت لأبي عبد الله: ابني بريدة سليمان وعبد الله؟ قال: أما سليمان فليس في نفسي منه شيء، وأما عبد الله، ثم سكت، ثم قال: كان وكيع يقول: كانوا لسليمان بن بريدة أحمد منهم لعبد الله بن بريدة: أو شيئًا هذا معناه) (¬4) . وسأل عثمان بن سعيد الدارمي ابن معين: (عن سليمان بن بريدة كيف حديثه؟ فقال: ثقة) (¬5) . وسئل أبو حاتم الرازي عن سليمان بن بريدة فقال: (ثقة) (¬6) ، ووثقه ابن حبان (¬7) أيضًا. وقد احتج الأئمة بحديث سليمان بن بريدة عن أبيه، بل أن البخاري نفسه قد قال في حديث سليمان بن بريدة عن أبيه في مواقيت الصلاة قال: (هو حديث حسن) (¬8) ، ¬

(¬1) العلل لأحمد برواية ابنه عبد الله (1/114، 239) . (¬2) العلل لأحمد برواية ابنه عبد الله (1/160) . (¬3) العلل ومعرفة الرجال برواية المروذي وغيره (ص198-199) . (¬4) الضعفاء الكبير للعقيلي (2/238) . (¬5) تاريخ الدارمي (ص117) ، وانظر الجرح والتعديل (4/102) توثيق ابن معين لسليمان من رواية إسحاق بن منصور. (¬6) الجرح والتعديل (4/102) . (¬7) الثقات لابن حبان (4/313) . (¬8) العلل الكبير للترمذي (1/202-203) .

وهذا الحديث قد أخرجه مسلم في صحيحه (¬1) . والحسن عند البخاري يفيد القوة فقد حسن أحاديث أخرجها بنفس الإسناد في صحيحه (¬2) . وكذلك من وثق سليمان كأحمد ويحيى وأبي حاتم فإن مقتضى توثيقهم له، مع عدم ورود ما يدل على الشك في سماعه من أبيه يدل على صحة حديثه عن أبيه عندهم. وقد صحح حديث سليمان عن أبيه من الأئمة مسلم بن الحجاج، والترمذي (¬3) ، وابن خزيمة (¬4) ، وابن حبان (¬5) ، والحاكم (¬6) ، وغيرهم كثير. وفي كلام لابن حبان ما يشعر أن سماع سليمان وعبد الله من أبيهما لا خلاف فيه، فقد احتج بحديث لعبد الله بن بريدة عن عمران بن حصين ثم قال: (هذا إسناد قد توهم من لم يحكم صناعة الأخبار، ولا تفقه في صحيح الآثار أنه منفصل غير متصل وليس كذلك، لأن عبد الله بن بريدة ولد في السنة الثالثة من خلافة عمر بن الخطاب سنة خمس عشرة هو وسليمان بن بريدة أخوه توأم فلما وقعت فتنة عثمان بالمدينة، خرج بريدة عنها بابنيه، وسكن البصرة، وبها إذ ذاك عمران بن حصين، وسمرة بن جندب، فسمع منهما، ومات عمران سنة اثنتين وخمسين في ولاية معاوية. ثم خرج بريدة منها بابنيه إلى سجستان، فأقام بها غازيًا مدة، ثم خرج منها إلى مرو على طريق هراة فلما دخلها قطنها، ومات سليمان بن بريدة بمرو وهو على القضاء بها سنة خمس ومائة. فهذا بذلك على أن عبد الله بن بريدة سمع عمران بن حصين) (¬7) . ¬

(¬1) انظر صحيح مسلم (1/428) . (¬2) انظر مثلاً العلل الكبير للترمذي (1/275) وقارنه بصحيح البخاري (8/431/ [4819] ) ، وانظر كذلك العلل الكبير (1/414) وقارنه بصحيح البخاري (3/243/ [1337] ) . (¬3) انظر مثلاً سنن الترمذي (1/89، 287) . (¬4) انظر مثلاً صحيح ابن خزيمة (1/166) . (¬5) انظر مثلاً صحيح ابن حبان (3/24) . (¬6) انظر مثلاً المستدرك (1/81) . (¬7) صحيح ابن حبان (4/95) .

وهذا هو الراجح أن حديث سليمان عن أبيه متصل للقرائن السابقة، بل - أظن - أن تلك القرائن أقوى في إثبات الاتصال من مجرد ثبوت اللقاء أو السماع لمرة واحدة كما هو الحد الأدنى عند البخاري في الاحتجاج بالسند المعنعن، وتحسين البخاري لحديث سليمان عن أبيه في المواقيت يدل على أنه لم يهمل القرائن السابقة. رابعًا: قال البخاري في عبد الله بن معبد الزماني: (ولا نعرف سماعه من أبي قتادة) (¬1) . وقال في موضع آخر: (ورواه عبد الله بن معبد الزماني عن أبي قتادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صوم عاشوراء، ولم يذكر سماعًا من أبي قتادة) (¬2) . وقد أخرج مسلم من طريق شعبة عن غيلان بن جرير سمع عبد الله بن معبد الزماني عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سئل عن صومه؟ فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال عمر رضي الله عنه: (رضينا بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولاً، وببيعتنا بيعة. قال فسئل عن صيام الدهر؟ فقال: "لا صام ولا أفطر (أو ما صام ما أفطر) " قال: فسئل عن صوم يومين وإفطار يوم؟ قال: "ومن يطق ذلك" قال: وسئل عن صوم يوم وإفطار يومين؟ قال: "ليت أن الله قوانا لذلك". قال: وسئل عن صوم يوم عرفة؟ فقال: "يكفر السنة الماضية والباقية" قال: وسئل عن صوم يوم عاشوراء فقال: "يكفر السنة الماضية". وفي هذا الحديث من رواية شعبة قال: وسئل عن صوم يوم الاثنين والخميس؟ فسكتنا عن ذكر الخميس لما نراه وهمًا) (¬3) . وقد روي حديث أبي قتادة هذا من طريق آخر فيه اضطراب شديد (¬4) جعل الدارقطني بعد أن ذكر الاختلاف فيه يقول: (هو مضطرب ولا أحكم فيه ¬

(¬1) التاريخ الكبير (5/198) ، (3/68) . (¬2) التاريخ الصغير (1/302) . (¬3) صحيح مسلم (2/819) . (¬4) انظر التاريخ الكبير (3/67-68) ، والسنن الكبرى للنسائي (2/150-152) ، والعلل للدارقطني (6/148-153) .

بشيء) (¬1) ، ومع ذلك فإن هذه الطريق تدور على حرملة بن إياس - وقيل إياس بن حرملة - الذي يرويه عن أبي قتادة، وقد قال البخاري في حرملة هذا: (لا يعرف له سماع من أبي قتادة) (¬2) . ولكن حديث عبد الله بن معبد لأكثر فقراته شواهد، كالأمر بصيام ثلاثة أيام من كل شهر (¬3) ، والترغيب في صوم يوم الاثنين (¬4) ، ويشهد لفضل صوم يوم عرفة حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من صام يوم عرفة غفر له ذنب سنتين متتابعتين" (¬5) . قال المنذري: (رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح) (¬6) . وأما ما جاء في حديث عبد الله بن معبد من أن صوم عاشوراء يكفر السنة الماضية، فلم أجد شاهدًا يصلح للاعتبار في ذلك (¬7) ، وقد ألمح البخاري لهذا كما تقدم فإنه لما ذكر حديث عبد الله بن معبد خصه بقوله: (في صوم عاشوراء) ولم يقل في صوم عرفة أو نحو ذلك، ولعل البخاري فعل ذلك لأن عبد الله بن معبد قد انفرد عن أبي قتادة بذكر هذا الفضل في صوم عاشوراء مع عدم وجود الشاهد الذي يطمئن أن الحديث له أصل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد ذكر العقيلي (¬8) ، وابن عدي (¬9) ، عبد الله بن معبد في كتابيهما لقول ¬

(¬1) العلل للدارقطني (6/151) . (¬2) التاريخ الصغير (1/302) . (¬3) انظر الترغيب والترهيب للمنذري (2/120-124) . (¬4) انظر الترغيب والترهيب للمنذري (2/124-126) . (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (3/97) ، وأبويعلى في المسند (13/542) ، والطبراني في المعجم الكبير (6/220) . (¬6) الترغيب والترهيب (2/112) . (¬7) ذكر المنذري في الترغيب (2/112) حديثًا لأبي سعيد الخدري وحسنه، ولكن بالمراجعة ظهر أن فيه من هو متروك، انظر مجمع الزوائد (3/189) ، ومجمع البحرين (3/142) . (¬8) انظر الضعفاء الكبير (2/305) . (¬9) انظر الكامل في الضعفاء (4/1539) .

البخاري فيه أنه لا يعرف له سماع من أبي قتادة. ولكن قال النسائي بعد أن أخرج حديث عبد الله بن معبد عن أبي قتادة: (هذا أجود حديث في هذا الباب عندي) (¬1) . ويظهر أن مسلمًا - رحمه الله - أخرج هذا الحديث في صحيحه لأن عددًا من أئمة الحديث رووه ولم يستنكروه كشعبة وحماد بن زيد وعبد الرحمن بن مهدي (¬2) ، ثم لأن الحديث في فضائل الأعمال. خامسًا: قال البخاري: (لا أدري عبيد بن نضلة سمع من المغيرة بن شعبة أم لا؟) (¬3) . أخرج مسلم من طريق منصور عن إبراهيم عن عبيد بن نضيلة الخزاعي عن المغيرة بن شعبة قال: (ضربت امرأة ضرتها بعمود فسطاط وهي حبلى فقتلتها قال: وإحداهما لحيانية. قال: فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دية المقتولة على عصبة القاتلة وغرة لما في بطنها، فقال رجل من عصبة القاتلة: أنغرم دية من لا أكل ولا شرب ولا استهل؟ فمثل ذلك يطل. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أسجع كسجع الأعراب". قال: وجعل عليهم الدية) (¬4) . وأصل حديث المغيرة بن شعبة محفوظ من غير طريق عبيد بن نضلة، فقد أخرج الشيخان عن المسور بن مخرمة قال: (استشار عمر بن الخطاب الناس في ملاص المرأة فقال المغيرة بن شعبة: شهدت النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى فيه بغرة: عبد أو أمة. قال: فقال عمر: ائتني بمن يشهد معك. قال: فشهد له محمد بن مسلمة) (¬5) . ويشهد لحديث المغيرة حديث أبي هريرة الذي أخرجه الشيخان عنه: ¬

(¬1) السنن الكبرى للنسائي (2/153) . (¬2) انظر صحيح مسلم (2/818-820) . (¬3) العلل الكبير للترمذي (2/587) . وعبيد يقال له ابن نضلة، وابن نضيلة. (¬4) صحيح مسلم (3/1310-1311) . (¬5) صحيح البخاري (12/257/ [6905] ) كتاب الديات، باب جنين المرأة، وصحيح مسلم (3/1311) .

(اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن دية جنينها غرة بعد وليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم، فقال حمل بن النابغة الهذلي: يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل؟ فمثل ذلك يطل فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما هذا من إخوان الكهان" من أجل سجعه الذي سجع) (¬1) . وبهذا يظهر أن مسلمًا لم يعتمد على حديث عبيد عن المغيرة بل أخرج في الباب ما يدل على أن الحديث محفوظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير تلك الطريق التي تكلم البخاري فيها. سادسًا: ذكر البخاري محمد بن المنكدر فيمن روى عن حمران بن أبان ولم يذكر سماعًا (¬2) . وقد أخرج مسلم حديث محمد بن المنكدر عن حمران عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده، حتى تخرج من تحت أظفاره" (¬3) . وهذا الحديث - يظهر لي - أن مسلمًا أخرجه شاهدًا للحديث الذي قبله في الباب وهو حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا: (إذا توضأ العبد المسلم (أو المؤمن) فغسل وجهه، خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء (أو مع آخر قطر الماء) فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء (أو مع آخر قطر الماء) فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء (أو مع آخر قطر الماء) حتى يخرج نقيًا من الذنوب) (¬4) . ¬

(¬1) صحيح البخاري (12/263/ [6910] ) كتاب الديات، باب جنين المرأة وأن العقل على الوالد وعصبة الوالد، وصحيح مسلم (3/309) . (¬2) انظر التاريخ الكبير (3/80) . (¬3) صحيح مسلم (1/216) . (¬4) صحيح مسلم (1/215) .

وقد وجدت عروة بن الزبير - وهو ممن ثبت سماعه من حمران (¬1) - تابع محمد بن المنكدر عن حمران عن عثمان رضي الله عنه بمعنى الحديث السابق، فقد قال الإمام الشافعي: (أخبرنا سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه عن حمران أن عثمان توضأ بالمقاعد ثلاثًا ثلاثًا ثم قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من توضأ وضوئي هذا خرجت خطاياه من وجهه ويديه ورجليه") (¬2) . وبذلك يظهر أن حديث محمد بن المنكدر عن حمران محفوظ ولاشك، وأن مسلمًا لم يعتمد عليه فقط في الباب بل ذكر حديث أبي هريرة - وهو في معناه - أيضًا. وهذه الأسانيد الستة هي مجموع ما تكلم البخاري فيه من حيث عدم ثبوت السماع من الأسانيد التي أخرجها مسلم في صحيحه، وقد بينت مواطن ذكرها في صحيح مسلم، وأوضحت أن مسلمًا - رحمه الله - قد احتاط ببراعة مدهشة لأحاديث كتابه الصحيح التي اكتفى فيها بالمعاصرة بين المعنعن والمعنعن عنه. فرحم الله الشيخين فلقد أتعبا من بعدهما. ¬

(¬1) انظر التاريخ الكبير (3/80) . (¬2) مسند الشافعي بترتيب السندي (1/31) .

الفصل السادس العلماء الذين أيدوا مسلما في هذه المسألة

الفصل السادس العلماء الذين أيدوا مسلمًا في هذه المسألة ذهب مسلم - رحمه الله - إلى أن الاكتفاء بالمعاصرة في السند المعنعن هو قول الأئمة قاطبة، قال - رحمه الله -: (إن القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار والروايات قديمًا وحديثًا أن كل رجل ثقة روى عن مثله حديثًا، وجائز ممكن له لقاؤه، والسماع منه، لكونهما جميعًا كانا في عصر واحد، وإن لم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا، ولا تشافها بكلام، فالرواية ثابتة، والحجة بها لازمة) (¬1) . وقال أيضًا: (وما علمنا أحدًا من أئمة السلف ممن يستعمل الأخبار ويتفقد صحة الأسانيد وسقمها، مثل أيوب السختياني، وابن عون، ومالك بن أنس، وشعبة بن الحجاج، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، ومن بعدهم من أهل الحديث، فتشوا عن موضع السماع في الأسانيد) (¬2) . وقد ناقشت ما ورد في كلام الإمام مسلم هذا في مناقشة الدليل الأول من أدلة الإمام مسلم، وذلك في الفصل الثالث من هذا الباب. وقد ذكر بعض العلماء من قال بمذهب مسلم في السند المعنعن من حيث الإجمال: ¬

(¬1) مقدمة صحيح مسلم (1/39-40) . (¬2) مقدمة صحيح مسلم (1/32) .

فقال ابن رشيد: (وقد تبع مسلمًا على مذهبه فرقة من المحدثين، وفرقة من الأصوليين) (¬1) . وقال ابن القطان الفاسي في رواية مسروق عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: (يجب على أصولهم أن يحكم لحديثه عن معاذ بحكم حديث المتعاصرين اللذين لم يعلم انتفاء اللقاء بينهما؛ فإن الحكم فيه أن يحكم له بالاتصال عند الجمهور) (¬2) . وقال النووي في الحديث المعنعن: (والصحيح الذي عليه العمل وقاله الجماهير من أصحاب الحديث والفقه والأصول أنه متصل بشرط أن لا يكون المعنعن مدلسًا، وبشرط إمكان لقاء بعضهم بعضًا) (¬3) . وقال ابن رجب الحنبلي: (وكثير من العلماء المتأخرين على ما قاله مسلم - رحمه الله - من أن إمكان اللقي كاف في الاتصال من الثقة غير المدلس) (¬4) . هذا بالنسبة للقائلين بمذهب مسلم من حيث الإجمال، أما من حيث التفصيل فهم: 1- الإمام ابن حبان. قال ابن رجب: (وكثير من العلماء المتأخرين على ما قاله مسلم - رحمه الله - من أن إمكان اللقي كاف في الاتصال من الثقة غير المدلس، وهو ظاهر كلام ابن حبان) . وقد تفحصت مقدمة صحيح ابن حبان فلم أجد له نصًا صريحًا في مسألة الحديث المعنعن، وإنما أشار إلى أنه يملي الأخبار في صحيحه (بأشهرها إسنادًا وأوثقها عمادًا، من غير وجود قطع في سندها، ولا ثبوت جرح في ناقليها) (¬5) . ومع كونه قد تأخر عن زمن الإمام مسلم، إلا أنه لم يعرض لمسألة الحديث المعنعن ولم يبين موقفه منها، ولا نستطيع الجزم بأن مذهبه في الحديث المعنعن ¬

(¬1) السنن الأبين (ص49) . (¬2) بيان الوهم والإبهام (1/132/ب) . (¬3) تدريب الراوي (1/214) . (¬4) شرح علل الترمذي (1/364) . (¬5) صحيح ابن حبان (1/37) .

كمذهب مسلم تمامًا فإن ابن حبان إمام مجتهد له تفردات معروفة، ويحتاج الأمر إلى دراسة صحيحة لمعرفة ذلك على وجه الدقة. ولكن استطيع القول أن موافقة من هذه المسألة أقرب لمذهب مسلم، وذلك لأني رأيته احتج في صحيحه بأحاديث تكلم فيها البخاري من حيث عدم ثبوت السماع، ومن ذلك: أن البخاري قال في ترجمة عبد الله بن معبد الزماني: (لا نعرف سماعه من أبي قتادة) (¬1) ، وقد صحح ابن حبان حديث ابن معبد عن أبي قتادة (¬2) . وقال البخاري أيضًا في ترجمة عبد العزيز بن النعمان: (لا يعرف له سماع من عائشة) (¬3) ، وقد صحح ابن حبان لعبد العزيز بن النعمان عن عائشة (¬4) . وقال البخاري أيضًا: (لا أدري عبيد بن نضلة سمع من المغيرة بن شعبة أم لا؟) (¬5) ، وقد صحح ابن حبان حديث عبيد عن المغيرة (¬6) . وقال البخاري أيضًا في ترجمة عثمان بن شبرمة: (لا أدري سمع من عاصم أم لا؟) (¬7) ، وقد صحح ابن حبان حديث عثمان عن عاصم بن أبي النجود (¬8) . 2- أبوعبد الله الحاكم. قال العلائي عندما عرض لمذهب من اكتفى بمجرد إمكان اللقاء مع السلامة من التدليس: (وهذا قول مسلم، والحاكم أبي عبد الله) (¬9) . ولم أجد لأبي عبد الله الحاكم كلامًا صريحًا حول هذه المسألة في كتابه ¬

(¬1) التاريخ الكبير (5/198) . (¬2) صحيح ابن حبان (5/256، 259، 260) . (¬3) التاريخ الكبير (6/9) . (¬4) صحيح ابن حبان (2/246) . (¬5) العلل الكبير للترمذي (2/587) . (¬6) صحيح ابن حبان (7/603) . (¬7) التاريخ الكبير (6/228) . (¬8) صحيح ابن حبان (8/291) . (¬9) جامع التحصيل (ص117) .

"معرفة علوم الحديث" ولكن ذكر في النوع الحادي عشر من علوم الحديث ما يلي: (وهذا النوع من هذه العلوم هو معرفة الأحاديث المعنعنة وليس فيها تدليس، وهي متصلة بإجماع أئمة أهل النقل على تورع روايتها عن أنواع التدليس) (¬1) . وفي هذا الكلام إطلاق شديد، ومقتضاه أن العنعنة من غير المدلس مقبولة مطلقًا، لذا قال البلقيني معقبًا عن كلام الحاكم: (وهذا ليس فيه تعرض لا للقاء ولا للمعاصرة (¬2) . والأخذ بمقتضى إطلاق كلام الحاكم محل نظر ولا ريب، وقد بين في موضع آخر أن معنعنات غي المدلسين فيها ما ليس بمتصل (¬3) مما يدل على تقييد كلامه السابق. وقال في تعريف المسند: (والمسند من الحديث أن يرويه المحدث عن شيخ يظهر سماعه منه لسن يحتمله، وكذلك سماع شيخه من شيخه إلى أن يصل الإسناد إلى صحابي مشهور إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬4) . وظاهر قوله: (لسن يحتمله) أنه يكتفي بالمعاصرة، ولكن ساق سندًا كمثال على ما قاله وبين أن جميع رواة السند سماعهم ثابت من بعضهم البعض. وقد وقفت على نص للحاكم في كتابه المستدرك يفهم منه أنه يعمل بمذهب مسلم في الحديث المعنعن، فقد أخرج حديثًا لقتادة عن عبد الله بن سرجس. ثم قال: (هذا حديث على شرط الشيخين فقد احتجا بجميع رواته، ولعل متوهمًا يتوهم أن قتادة لم يذكر سماعه من عبد الله بن سرجس، وليس هذا بمستبعد فقد سمع قتادة من جماعة من الصحابة لم يسمع منهم عاصم بن سليمان الأحول، وقد احتج مسلم بحديث عاصم عن عبد الله بن سرجس، وهو من ساكني البصرة) (¬5) . ¬

(¬1) معرفة علوم الحديث (ص34) . (¬2) محاسن الاصطلاح (ص160) . (¬3) انظر معرفة علوم الحديث (ص18) . (¬4) معرفة علوم الحديث (ص17) . (¬5) المستدرك (1/ ... 186) .

وينبغي أن يلاحظ هنا أن الحاكم يقبل معنعن قتادة فقد قال: (من المدلسين من دلس عن الثقات الذين هم في الثقة مثل المحدث أو فوقه أو دونه إلا أنهم لم يخرجوا من عداد الذين يقبل أخبارهم؛ فمنهم من التابعين: أبوسفيان طلحة بن نافع وقتادة بن دعامة وغيرهما) (¬1) . 2- ابن حزم الظاهري. قال: (وإذا علمنا أن الراوي العدل قد أدرك من روى عنه من العدول فهو على اللقاء والسماع، لأن شرط العدل القبول، والقبول يضاد تكذيبه في أن يسند إلى غيره ما لم يسمعه منه، إلا أن يقوم دليل على ذلك من فعله، وسواء قال: "حدثنا" أو "أنبأنا" ولو علمنا أن أحدًا منهم يستجيز التلبيس بذلك كان ساقط العدالة في حكم المدلس) (¬2) . وظاهر كلام ابن حزم أنه مؤيد لمذهب مسلم في الحديث المعنعن، ويؤكد ذلك أنه قال في رواية مسروق عن معاذ بن جبل أن مسروقًا لم يلق معاذًا (¬3) ، ولكنه تراجع عن ذلك وقال: (ثم استدركنا، فوجدنا حديث مسروق إنما ذكر فيه فعل معاذ باليمن في زكاة البقر، وهو بلاشك قد أدرك معاذًا، وشهد حكمه وعمله المشهور المنتشر، فصار نقله لذلك ولأنه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نقلاً عن الكافة عن معاذ بلاشك، فوجب القول به) (¬4) . 4- ابن القطان الفاسي. ظاهر عمله أنه مؤيد لمذهب مسلم فقد انتقد ابن عبد الحق لأنه حكم على حديث مسروق عن معاذ بأنه منقطع، وقال: (ولم أقل بعد أن مسروقًا سمع من معاذ، وإنما أقول أنه يجب على أصولهم أن يحكم لحديثه عن معاذ بحكم حديث المتعاصرين اللذين لم يعلم انتفاء اللقاء بينهما فإن الحكم ¬

(¬1) معرفة علوم الحديث (ص103) . (¬2) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (1/151) . (¬3) المحلى (6/11) . (¬4) المحلى (6/16) .

فيه أن يحكم له بالاتصال عند الجمهور) (¬1) . 5- ابن دقيق العيد. فقد نقل قول الإمام أحمد، وموسى بن هارون في أن عراك بن مالك لم يسمع من عائشة ثم قال: (وقد ذكروا سماع عراك من أبي هريرة ولم ينكروه، وأبوهريرة توفي هو وعائشة في سنة واحدة، فلا يبعد سماعه من عائشة مع كونهما في بلدة واحدة) (¬2) . وهذا يفيد أنه يميل إلى مذهب مسلم، وقد حكى - باختصار - في كتابه "الاقتراح" الخلاف في الحديث المعنعن ولكنه لم يرجح بعبارة صريحة (¬3) . 6- شيخ الإسلام ابن تيمية. فقد نقل قول البخاري: "لا يعرف لسلمة سماع عن أبي هريرة ولا ليعقوب سماع من أبيه" ثم رد بقوله: (وهذا غير واجب في العمل، بل العنعنة مع إمكان اللقاء ما لم يعلم أن الراوي يدلس [كافية] (¬4)) . 7- ابن جماعة. رجح مذهب مسلم بقوله في مبحث المعنعن: (والصحيح الذي عليه جماهير العلماء والمحدثين والفقهاء والأصوليين أنه متصل إذا أمكن لقاؤهما مع برائتهما من التدليس) (¬5) . 8- الحافظ المزي. فقد نقل قول الإمام البخاري: "لا يعرف لجابان سماع من عبد الله" ثم علق على ذلك بقوله: (وهذه طريقة سلكها البخاري في مواضع كثيرة، وعلل بها كثيرًا من الأحاديث الصحيحة، وليست هذه علة قادحة، وقد أحسن مسلم وأجاد في الرد على من ذهب هذا المذهب في مقدمة كتابه بما فيه كفاية، وبالله التوفيق) (¬6) . ¬

(¬1) بيان الوهم والإبهام (1/132/ب) . (¬2) نصب الراية (2/107) . (¬3) الاقتراح في بيان اصطلاح (ص19) . (¬4) هذه الكلمة ليست في المطبوع ولكن يقتضيها سياق الكلام. وربما كانت كلمة أخرى إلا أن المعنى واحد. (¬5) المنهل الروي (ص48) . (¬6) تهذيب الكمال (1/178) .

9- الحسين بن عبد الله الطيبي. رجح مذهب مسلم بمثل عبارة ابن جماعة السابقة وقد أخذها منه (¬1) . 10- ابن التركماني. ذكر قول البيهقي: "علي بن رباح لم يثبت سماعه من ابن مسعود" ثم رد عليه بقوله: (قدمنا أن مسلمًا أنكر في ثبوت الاتصال اشتراط السماع وادعى اتفاق أهل العلم فسماعه عن ابن مسعود ممكن بلاشك لأن ابن مسعود توفي سنة اثنتين وثلاثين وقيل سنة ثلاث وثلاثين) (¬2) . فالظاهر من كلامه أنه يؤيد مذهب مسلم. 11- الحافظ ابن كثير. رجح مذهب مسلم بقوله في مبحث المعنعن: (والصحيح الذي عليه العمل أنه متصل محمول على السماع إذا تعاصروا، مع البراءة من وصمة التدليس) (¬3) . 12- محمد بن إسماعيل الصنعاني. رجح مذهب مسلم بقوله: (مذهب مسلم لا يخلو من القوة لمن أتصف) (¬4) . وقد قال ذلك بعد أن أورد بعض انتقاداته على مذهب البخاري. 13- شبير أحمد العثماني الديوبندي: رجح مذهب مسلم - بعد أن عرض للخلاف في المسألة - بقوله: (فما اعترض به مسلم بن الحجاج على البخاري - رحمهما الله - في اشتراط اللقاء والسماع لقبول المعنعن، وعدم اكتفائه بالمعاصرة مع إمكان اللقاء والسماع قوي عندي) (¬5) . 14- الشيخ أحمد شاكر. رجح مذهب مسلم بقوله: (إذا قال الراوي: "عن فلان" أو"أن فلانًا قال كذا" فإن كان يروي ذلك عن شخص لم يعاصره، أو عاصره وثبت أنه لم يلاقه أصلاً. جزمنا بأن روايته منقطعة. وإن كان معاصرًا له ولم نعلم إن كان لقيه أو لا، أو علمنا أنه لقيه ولكن كان الراوي مدلسًا: توقفنا في روايته، ¬

(¬1) الخلاصة في أصول الحديث (ص50) . (¬2) الجوهر النقي (1/110) . (¬3) الباعث الحثيث (ص43) . (¬4) توضيح الأفكار (1/334) . (¬5) فتح الملهم شرح صحيح مسلم (1/40) .

ولم نحكم لها باتصال، إلا إن ثبت أنه لقي من روى عنه وحدثه به. وإن كان الراوي غير مدلس، فالصحيح الراجح أنه يحكم لروايته بالاتصال وإن لم نعلم أنه لقي من روى عنه، فلعله لقيه ولم ينقل إلينان وهذا هو الذي انتصر له مسلم بن الحجاج في صحيحه، ورد على من خالفه أشد رد وأقواه) (¬1) . 15- الشيخ عبد الرحمن المعلمي. رجح مذهب مسلم بقوله: (فالمختار ما قاله مسلم - رحمه الله - أن ثبوت اللقاء ليس بشرط [في] الصحة) (¬2) . 16- الشيخ محمد ناصر الدين الألباني. فقد نقل قول البخاري: "لا أدري أسمع ممد بن عبد الله بن حسن من أبي الزناد أم لا؟ " ثم رد عليه بقوله: (هذه ليست بعلة إلا عند البخاري بناء على أصله المعروف وهو اشتراط معرفة اللقاء، وليس ذلك بشرط عند جمهور المحدثين، بل يكفي عندهم بمجرد إمكان اللقاء مع أمن التدليس كما هو مذكور في "المصطلح"، وشرحه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه، وهذا متوفر هنا فإن محمد بن عبد الله لم يعرف بتدليس ثم هو قد عاصر أبا الزناد وأدركه زمانًا طويلاً، فإنه مات سنة 145هـ وله من العمر 53، وشيخه أبوالزناد مات سنة 130هـ، فالحديث صحيح لا ريب فيه) (¬3) . 17- الشيخ عبد الفتاح أبوغدة. ظاهر صنيعه في رسالته (¬4) أنه يؤيد مذهب مسلم، ولم أر له عبارة صريحة في ذلك، إلا أنه رد على من قال بأن العلم باللقاء شرط في أصل الصحة عند البخاري ما يفهم منه أنه يؤيد مذهب مسلم، فقد قال: (يلزم منه أن يكون ما رواه مسلم في "صحيحه" من الأحاديث المعنعنة التي هي على شرطه في العنعنة: من قسم الحديث الضعيف في حكم البخاري، وفي حكم من مشى على قوله بعده، وهذا غير مقبول، لأنه يناقض كل المناقضة ما قرره ¬

(¬1) ألفية السيوطي بشرح أحمد شاكر (ص32) . (¬2) عمارة القبور (ل87) . (¬3) إرواء الغليل (2/79) . (¬4) هي "التتمة الثالثة في بيان مذهب الإمام مسلم في الحديث المعنعن بشرطه وبيان المعني بالنقد والرد في كلامه، وهي ملحقة بكتاب الموقظة للذهبي الذي حققه الشيخ أبوغدة.

العلماء من مر الزمن من أن كتاب مسلم "صحيح" مع معرفته بشرطه في العنعنة. فكيف يوفق القائل بمذهب البخاري في الحديث المعنعن بين اختياره مذهب البخاري، وقوله في كتاب مسلم: "صحيح"، وفيه الحديث المعنعن الذي هو في حكم البخاري لا يتصف بأصل الصحة؟! فتأمل وتدبر) (¬1) . فهذا ما تيسر لي الوقوف عليه من أسماء المؤيدين لمذهب مسلم في الحديث المعنعن، من علماء الحديث أو ممن صنف في المصطلح، وإحصاء الأسماء متعذر، واحتمال زيادة أسماء أخرى في القائمة احتمال قائم، ولابد من التنبيه على أن جل المشتغلين بالحديث في هذا العصر - ممن لهم تصانيف متداولة - على مذهب مسلم. ¬

(¬1) التتمة الثالثة (ص137) .

الفصل السابع المأخذ على الإمام مسلم

الفصل السابع المأخذ على الإمام مسلم وقع الإمام مسلم - رحمه الله - في أثناء كلامه على مسألة الحديث المعنعن في بعض الأمور التي أخذت عليه، وهي ثلاث مؤاخذات: الأولى: أنه كان شديدًا في ألفاظه وعباراته تجاه مخالفه. قال ابن الصلاح: (وأخذ مسلم في رد هذا على قائله وفي الطعن عليه، حتى أفرط وادعى أنه: قول ساقط مخترع، مستحدث، لم يسبق صاحبه إليه) (¬1) (¬2) . وقال أيضًا: (وما أتى به مسلم من الإفراط في الطعن على مخالفه يليق بمن يخالف في مطلق العنعنة) . وقال ابن رشيد: (وأنكر قول من خالفه إنكارًا شديدًا بألفاظ مخشوشنة، ومعان مستوبلة) (¬3) (¬4) . وقال أبوغدة: (لقد بالغ الإمام - رحمه الله تعالى -، في الرد على مخالفه تجهيلاً وتقريعًا، وتهجينًا وتوبيخًا، فوصفه بأنه من منتحلي الحديث من أهل عصره، وبسوء الروية، وبأن قوله قول مخترع مستحدث مطرح من الأقوال الساقطة، وبأنه أقل من أن يعرج عليه ويثار ذكره، وينبغي أن يضرب عن حكايته صفحًا لفساده، ولإمانته وإخمال ذكر قائله، إذ الإعراض عنه أجدر أن لا يكون ذلك تنبيهًا للجهال عليه ... إلى آخر ما قاله وأطال به وأسهب) (¬5) (¬6) . وقد اعتذر الأستاذ أبوغدة عن الإمام مسلم باعتذار جميل، فقال: (والحقيقة العلمية إذا تشبعت بها نفس العالم واقتنع بها، وخولف فيها، كثيرًا ما ¬

(¬1) صيانة صحيح مسلم (ص218، 219) . (¬2) السنن الأبين (ص48) . (¬3) الموقظة (ص44) في الهامش. (¬4) (¬5) (¬6)

تدفعه إلى الشدة في الدفاع عنها، فالظاهر أن شدة مسلم ناشئة من هذا الباب) (¬1) (¬2) . الثانية: أنه أقام رده على مخالفه باستخدام أسلوب الإلزام، فألزمه برد كل الأسانيد المعنعنة، وألزمه أيضًا بتضعيف أحاديث صححها أهل العلم ولا يثبت فيها اللقاء، وهذه الإلزامات غير ملزمة للمخالف. وهذا الأسلوب كثيرًا ما يكون غير مفحم للخصم، وبرهان ذلك أن العلماء الذين ناقشوا مسلمًا أوضحوا أن ما ذكره مسلم غير ملزم للبخاري أو لمن مشى على قوله، وقد ذكرت ذلك أثناء مناقشة أدلة ملم فيما سبق. وقد أشار الحافظ ابن حجر إلى ما ذكرته عندما قال ردًا على مسلم: (وإنما كان يتم له النقض والإلزام لو رأى في صحيح البخاري حديثًا معنعنًا لم يثبت لقي راويه لشيخه فيه، فكان ذلك واردًا عليه، وإلا فتعليل البخاري لشرطه المذكور متجه) (¬3) (¬4) . فالمسلك الذي سلكه مسلم غير دقيق، وكان الأولى أن يبين الأخطاء التطبيقية لمخالفه، لأن كثيرًا من الإلزامات - عند التحقيق - لا تكون ملزمة لمن وجهت إليه لذا قال العلماء: لازم المذهب ليس من المذهب، أو لازم القول ليس من القول. الثالثة: وقع مسلم في بعض الأخطاء المؤثرة كنفيه القاطع أن يكون أحد من علماء الحديث المتقدمين فتش عن مواضع السماع في الأسانيد، وقد سقت نصوصًا كثيرة (¬5) (¬6) تبين أن مسلمًا - رحمه الله - لم يصب في نفيه ذلك. كذلك ساق - رحمه الله - عدة أسانيد وذكر أن اللقاء فيها غير معلوم بين التابعي والصحابي وهي صحيحة عند أهل العلم، وقد ذكر عدد من العلماء أن اللقاء ثابت في بعض تلك الأسانيد، بل إن أحدها قد ثبت فيه السماع عند مسلم ¬

(¬1) التتمة الثالثة الملحقة بكتاب الموقظة (ص115) . (¬2) النكت على كتاب ابن الصلاح (2/598) . (¬3) ينظر الباب الأول، الفصل الرابع "الجذور التاريخية للمسألة"، والباب الثالث، الفصل الثالث "أدلة الاكتفاء بالمعاصرة عند مسلم وغيره من العلماء ومناقشتها" مناقشة الدليل الأول. (¬4) (¬5) (¬6)

في صحيحه!! وهو حديث النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد الخدري (¬1) (¬2) . وقد قال ابن رشيد: (وأما أحاديث النعمان عن أبي سعيد فقد خرجها البخاري، وخرجتها أنت أيها الإمام في مواضع من كتابك منصوصًا فيها على السماع فأثبت في آخر كتابك ما نفيت في أدلة، وأقررت بما أنكرت، وشهدت من نفسك على نفسك، فما ذنبهم إن حفظوا ونسيت) (¬3) (¬4) . وقال الحافظ ابن حجر: (وأعجب من ذلك أنا وجدنا بطلان بعض ما نفاه في نفس صحيحه) (¬5) (¬6) . وقد ذكرت في مناقشة أدلة الإمام مسلم تلك الأخطاء على جهة التفصيل فلا حاجة لإعادتها هنا. والإمام مسلم من كبار مجتهدي الأمة الذين لا يغض من مكانتهم وجود بعض الأخطاء فيما قالوه أو اختاروه من آراء في مسائل الخلاف، ويكفي الإمام مسلم فخرًا أن اسمه يذكر على المنابر في بلاد الإسلام من مئات السنين لكونه أحد الأئمة الكبار الذين يتعبد المسلمون ربهم بتصحيحه لأحاديث نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، وحتى غدا قول القائل هذا الحديث في صحيح مسلم علامة على الصحة، ومن بلغ هذه المنزلة العظمى في الدين لم يحتج إلى من يدافع عنه. والأمر كما قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس: "كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر" يشير إلى قبر الحبيب - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) انظر مقدمة صحيح مسلم (1/35) ، وصحيح مسلم (4/1793، 2176، 2177) . (¬2) السنن الأبين (ص153 - 154) . (¬3) النكت على كتاب ابن الصلاح (2/596) . (¬4) (¬5) (¬6)

الباب الرابع الموازنة بين الرأيين والترجيح

الباب الرابع الموازنة بين الرأيين والترجيح

الفصل الأول مواطن الاتفاق والاختلاف بين الرأيين

الفصل الأول مواطن الاتفاق والاختلاف بين الرأيين أ - مواطن الاتفاق: يظهر لنا مما تقدم في البابين الماضيين أن الإمامين البخار ومسلمًا يتفقان في مسألة السند المعنعن على ما يلي: 1- إن صيغة الأداء "عن" لا تفيد الاتصال إلا بشروط؛ فالبخاري يشترط العلم باللقاء بين المعنعن والمعنعن عنه، ومسلم يشترط العلم بالمعاصرة مع أمور أخرى. 2- إذا ثبت أن المعنعن قد لقي المعنعن عنه فإن البخاري ومسلمًا يحتجان بذلك السند المعنعن إذا سلم من الموانع. 3- إن الثقة غير المدلس إذا روى حديثًا بالعنعنة عن شيخ قد عاصره ولقياه له محتملة جدًا لقوة القرائن، ولعدم ما يدل على الانقطاع؛ فإن مسلمًا يحتج بذلك الحديث. كما أنني وجدت البخاري احتج ببعض الأحاديث التي هي على هذا النحو. 4- إذا روى المعاصر المدلس الذي لم يثبت لقيه لمن روى عنه بالعنعنة، فلا يقبل ذلك بالاتفاق عند الشيخين. 5- إذا روى الثقة المعاصر عن آخر بالعنعنة، ولا يدري هل لقي من روى عنه أم لا؟، ثم جاء من طريق آخر إدخال واسطة بينهما، أو ورد عن الراوي الأول صيغة أداء تدل على الانقطاع، أو جاء عن أحد الأئمة المطلعين نص يدل على عدم السماع؛ فلا يحتج الشيخان بذلك ولا يقبلانه لضعفه عندهما. ب - مواطن الاختلاف: يختلف الإمامان فيما يلي: 1- يشترط الإمام البخاري لاتصال السند المعنعن العلم باللقاء ولو لمرة

واحدة فقط، وأما الإمام مسلم فيخالف في ذلك ويرى أن العلم بالمعاصرة من الراوي الثقة غير المدلس مع عدم وجود ما يدل على الانقطاع يكفي لاتصال السند المعنعن. 2- يحتج الإمام مسلم بالسند المعنعن إذا كان اللقاء فيه ممكنًا بين المعنعن والمعنعن عنه بالإضافة إلى أمور أخرى، وأما الإمام البخاري فقد احتج بأحاديث لم يثبت اللقاء فيها بين المعنعن والمعنعن عنه ولكن احتمال اللقاء يكون قويًا وظاهرًا - كما بينت ذلك في الفصل الثالث من الباب الثاني -. فالإمام مسلم يرى أن اللقاء مادام ممكنًا ومحتملاً وليس هناك ما يدفعه فهو يكفي لاتصال السند المعنعن إذا توفرت فيه الأمور الأخرى التي نص عليها - رحمه الله -. وأما الإمام البخاري فالأصل عنده أن السند المعنعن لا يحتج به إلا إذا علم اللقاء، ولكن إذا لم يثبت اللقاء في السند المعنعن وكان احتمال اللقاء قويًا مع السلامة من موانع الاحتجاج الأخرى فإن البخاري يحتج بذلك لاسيما إذا كان الحديث له شواهد، أو في أمر من الأمور التي لا يتشدد فيها أهل الحديث كأحاديث فضائل الأعمال والمغازي ونحوهما، كل ذلك بحسب قوة القرينة عنده - رحمه الله -. فاختلاف الشيخين حول السند المعنعن الذي يكون اللقاء فيه ممكنًا وغير مستبعد، ولكن ليس في هذا السند قرائن تقوي احتمال اللقاء وإنما الأمر على الإمكان فقط فالإمام مسلم يحتج بذلك، وأما البخاري فلا. وبهذا يظهر أن هوة الخلاف بين رأيي الشيخين - رحمهما الله - ضيقة، وأن نقاط الاتفاق بينهما أكثر من نقاط الخلاف.

الفصل الثاني الترجيح وأسبابه

الفصل الثاني الترجيح وأسبابه من أصعب الأمور على النفس أن تختار بين أمرين كلاهما حسن. كما هو الحال في ترجيح رأي أحد الإمامين في هذه المسألة، ولكن لابد مما لابد منه، وكلا الرأيين قد قال بهما أئمة كبار، فقد نصر جمع من الأئمة والعلماء رأي الإمام البخاري، كما نصر جمع من الأئمة والعلماء رأي الإمام مسلم، فلا جناح على باحث عن الحق إن رجح أحد الرأيين لأسباب يراها صالحة لترجيح إحدى كفتي الميزان. ولا يصح ظن البعض أن ترجيح رأي يستلزم القدح والتنقص من الرأي الآخر. وذلك لأن الترجيح هنا في واقع الأمر بين جيد وأجود، وقوي وأقوى، وليس بين رأي قوي وآخر ضعيف، أو رأي جيد وآخر ساقط. ولا يؤثر في مكانة الإمامين البخاري ومسلم - رحمهما الله - قدح قادح لأن اسميهما قد حفرا في ذاكرة التاريخ، وسكنت محبتهما قلب كل مسلم متتبع لصحيح السنة النبوية، فمن تنقص أحدهما فقد آذى نفسه، ومن قدح في أحدهما كان حقًا على أهله أن يداووه. فكلاهما في مكانة رفيعة وعالية، غير أنهما ليسا بمعصومين من الخطأ. كما قال الإمام مالك: "كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر - صلى الله عليه وسلم - ". وينبني الترجيح على تحديد الإجابة عن سؤالين مهمين: الأول: ما هي مواطن القوة في الرأيين؟ الثاني: هل كل حديث لا يثبت اللقاء في سنده يترك الاحتجاج به عند من يرجح اشتراط اللقاء؟ الإجابة عن السؤال الأول: أ - مواطن القوة في رأي البخاري: 1- إن أدلته أقوى من أدلة مسلم كما ظهر في مناقشة أدلة مسلم -

رحمه الله - فقد ظهر لي أن أدلة مسلم - رحمه الله - وأدلة بعض المؤيدين لمذهبه غير قوية بعكس أدلة البخاري فهي أقوى. كما يظهر ذلك من فصل أدلة البخاري، وفصل أدلة مسلم. 2- إن رأيه أحوط لأن اللقاء إذا ثبت غلب على الظن اتصال السند المعنعن بعكس إذا لم يثبت اللقاء فإن احتمال عدم الاتصال يكون واردًا لذا كان في اشتراط اللقاء احتياط من احتمال عدم السماع. 3- لم يهمل القرائن الدالة على قوة احتمال اللقاء فقد قوى أحاديث لم يثبت في سندها اللقاء لوجود قرائن تدل على أن اللقاء قوي الاحتمال. 4- مما يقوي رأي البخاري أنه اختيار كبار أئمة النقد المتقدمين كشعبة وابن القطان، وابن المديني، وابن معين، وأحمد بن حنبل، وأبي حاتم الرازي وغيرهم. ب - مواطن القوة في رأي مسلم: يعتبر رأي مسلم قويًا إذا نظرنا إلى احتمال أن تكون العنعنة في السند من تصوف بعض الرواة، كأن يصرح الثقة المعاصر بالتحديث عن شيخه ثم يأتي أحد رواة السند فيبدل صيغة "حدثنا" بـ "عن" طلبًا للاختصار والتخفيف - كما بينت ذلك في المبحث الخامس، من الفصل الثاني، في الباب الأول -. ففي الأخذ برأي مسلم وقاية من ترك الاحتجاج بأحاديث ثبوت اللقاء فيها محتمل، ولكن نقلت إلينا بالعنعنة، إذ لا يبعد أن يرد مشترط اللقاء أحاديث صحيحة الاتصال في الأصل تصادف أن بعض الرواة نقلها بالعنعنة وذلك بحجة أن اللقاء لم يثبت في تلك الأحاديث. الإجابة عن السؤال الثاني: أن المعمول به عند عدد من كبار الأئمة ممن يشترطون اللقاء أو السماع تقوية إمكانية السماع بين رواة لبعض الأسانيد لم يثبت لهم لقاء أو سماع من بعضهم البعض، ومقتضى هذا أن لا يحكم على تلك الأسانيد بضعف، ولكن يجب التأكيد على أن احتمال اللقاء يكون قويًا لوجود قرائن تدل عليه، ومن ذلك:

الأحاديث التي قواها الإمام البخاري ولم يثبت اللقاء بين بعض رواتها - كما بينت ذلك في الفصل الثالث من الباب الثاني -. ومما يلحق بذلك أيضًا نص آخر للبخاري يفيد تقوية إمكانية السماع بين راويين متعاصرين لم يثبت بينهما سماع، ولكن احتمال لقائهما يعد قويًا. قال البخاري: (حدثني عبيدة ثنا عبد الصمد ثنا عبد الله بن بكر بن عبد الله المزني سمعت يوسف بن عبد الله بن الحارث: كنت عند الأحنف بن قيس وهو يوسف ابن أخت محمد بن سيرين. وعبد الله أبوالوليد روى عن عائشة وأبي هريرة، ولا ننكر أن يكون سمع منها لن بين موت عائشة والأحنف قريب من اثنتي عشرة سنة) (¬1) (¬2) . أبوالوليد هو عبد الله بن الحارث الأنصاري والد يوسف، وهو زوج أخت محمد بن سيرين (¬3) (¬4) ، وروايته عن عائشة وأبي هريرة عند مسلم في صحيحه (¬5) (¬6) . وأبوالوليد معاصر لعائشة ولأبي هريرة - رضي الله عنهما - كما يفيد كلام البخاري هنا، فقد استدل - رحمه الله - على ذلك بأن يوسف بن عبد الله بن الحارث قد جالس الأحنف بن قيس، ويوسف هو أحد أبناء عبد الله بن الحارث، وبين وفاة عائشة - رضي الله عنها - والأحنف بن قيس قريب من اثنتي عشرة سنة، فإدراك عبد الله بن الحارث لعائشة - رضي الله عنها - وقد ماتت قبل أبي هريرة متحقق. ومما يؤكد قدم عبد الله بن الحارث هذا النص الذي أخرجه البخاري في ترجمته حيث قال: (قال سليمان: حدثنا حماد عن هشام عن ابن سيرين: حج بنا أبوالوليد عبد الله بن الحارث ونحن ولد سيرين سبعة قمر بنا على المدينة فأدخلنا على ¬

(¬1) التاريخ الصغير (1/187) . وقد تصفحت كلمة "ننكر" إلى "نفكر" وصححتها من الطبعة الهندية (ص81) ، ومن مخطوطة في الظاهرية للتاريخ الصغير (ق98/أ) . (¬2) (¬3) انظر التاريخ الكبير (5/64) . (¬4) انظر صحيح مسلم (1/414) ، (3/1232) . (¬5) التاريخ الكبير (5/65) ، وانظر أيضًا المعرفة والتاريخ (2/58) ، وتاريخ بغداد (5/332) . (¬6) التاريخ الكبير (1/90) ، وتاريخ بغداد (5/333) ، وقال الإمام أحمد: (محمد بن سيرين في أبي هريرة لا يقدم عليه أحد) انظر العلل لعبد الله (1/135) .

زيد بن ثابت فقال: هؤلاء ولد سيرين. فقال زيد: هذان لأم، وهذان لأم، وهذا لأم، فما أخطأ) (¬1) (¬2) . ومقتضى هذا النص الصحيح أن يكون عبد الله بن الحارث أكبر من محمد بن سيرين، وسماع ابن سيرين من أبي هريرة متفق عليه بل هو من أصحابه الأثبات (¬3) (¬4) . ويدل قول البخاري: (ولا ننكر أن يكون سمع منهما) على أنه يقوي احتمال سماع عبد الله بن الحارث من عائشة وأبي هريرة - رضي الله عنهما - ومن المؤكد أن البخاري لو وقف على نص يثبت السماع لما احتاج إلى أن يقول: (ولا ننكر ... ) ، ومن المؤكد أيضًا أنه لم يضعف حديث عبد الله بن الحارث عنهما وإلا لقال: "لا يعرف سماعه منهما" كما هي عادته. وقد وقفت على بعض النصوص المنقولة من علي بن المديني، وأحمد بن حنبل، وأبي حاتم الرازي، وهم من كبار الأئمة الذين يشترطون اللقاء أو السماع في السند المعنعن، وتدل تلك النصوص على أنهم يقوون في بعض الأحيان إمكانية سماع راو معاصر من آخر مع عدم ثبوت اللقاء أو السماع بينهما، ومن ذلك: أولاً: ما جاء عن علي بن المديني: 1- قال علي بن المديني في ترجمة عطاء بن يزيد الشامي: (وقد لقي عطاء بن يزيد أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، لقي أبا أيوب، وأبا هريرة، وأبا سعيد الخدري، وتميمًا الداري، وأبا شريح الخزاعي، ولا ننكر أن يكون سمع من أبي أسيد) (¬5) (¬6) . وعطاء بن يزيد مدني سكن الشام (¬7) (¬8) ، وولد سنة خمس وعشرين، وأما أبو ¬

(¬1) (¬2) (¬3) (¬4) (¬5) العلل لابن المديني (ص68) . (¬6) انظر تهذيب التهذيب (7/217) . (¬7) انظر الاصابة (4/7-8) . (¬8)

أسيد بن ثابت الأنصاري الزرقي المدني فلم أجد من ذكر له تاريخ وفاة (¬1) (¬2) ، وهو الذي روى عنه عطاء بن يزيد الشامي. ويحتمل أن علي بن المديني يرى أن الذي روى عنه عطاء بن يزيد هوأبوأسيد مالك بن ربيعة الساعدي المتوفى سنة أربعين (¬3) (¬4) ، فقد ذكر الحافظ ابن حجر أن أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية وغيرهما. قد أخرجا حديث عطاء في مسند أبي أسيد الساعدي (¬5) (¬6) ، ولكن رجح الدارقطني والخطيب البغدادي أنه أبا أسيد - بالفتح (¬7) (¬8) -. والذي يعنينا هنا هو أن علي بن المديني مال إلى تقوية احتمال سماع عطاء بن يزيد من أبي أسيد أو أبي أسيد مع أنه - كما يظهر لي من عباراته - لم يقف على نص يثبت السماع أو اللقاء. 2- قال علي بن المديني: (أبوبكر بن عبد الرحمن أحد العشرة، أحد الفقهاء، وهو قديم، لقي أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا أنكر أن يكون سمع من صفوان بن المعطل) (¬9) (¬10) . أبوبكر بن عبد الرحمن المخزومي المدني أحد فقهاء المدينة السبعة ولد في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه (¬11) (¬12) ، وأما صفوان بن المعطل - رضي الله عنه - فاختلف في وفاته فقيل مات سنة سبعة عشر، وقيل مات في آخر خلافة معاوية - رضي الله عنه (¬13) (¬14) -، والظاهر أن علي بن المديني يميل إلى القول الثاني، إذ مقتضى القول الأول أن يكون أبوبكر بن عبد الرحمن لم يدرك صفوان بن المعطل. ¬

(¬1) (¬2) (¬3) سير أعلام النبلاء (2/538) . وقيل في تاريخ وفاته غير ذلك. (¬4) انظر النكت الظراف (9/125) . (¬5) انظر موضح أوهام الجمع والتفريق للخطيب البغدادي (2/179-182) . (¬6) تاريخ دمشق لابن عساكر (8/346) . (¬7) انظر طبقات ابن سعد (5/207) . (¬8) انظر الإصابة (2/191) . (¬9) (¬10) (¬11) (¬12) (¬13) (¬14)

وهذا النص يفيد أن علي بن المديني يقوي إمكانية سماع أبي بكر بن عبد الرحمن من صفوان بن المعطل، ومع عدم وجود ما يثبت السماع، ورغم ذلك فلم يضعف حديث أبي بكر بن عبد الرحمن عن صفوان بن المعطل. ثانيًا: ما جاء عن أحمد بن حنبل: 1- سئل الإمام أحمد هل سمع عمرو بن دينار من سليمان اليشكري؟ فقال: (قتل سليمان في فتنة ابن الزبير، وعمرو رجل قديم قد حدث عنه شعبة عن عمرو عن سليمان، وأراه قد سمع منه) (¬1) (¬2) . وفي هذا النص يقوي الإمام أحمد احتمال سماع عمرو بن دينار من سليمان اليشكري، لاسيما وأن شعبة قد روى حديث عمرو عن سليمان، والغالب أن شعبة يوقف شيوخه على السماع سواء المدلسين منهم وغير المدلسين وقد ولد عمرو بن دينار سنة خمس أو ست وأربعين (¬3) (¬4) ، وسليمان اليشكري مات بين السبعين والثمانين (¬5) (¬6) . ولم يأت نص يدل على سماع عمرو من سليمان - فيما أظن - وإلا لقال الإمام أحمد: "نعم سمع عمرو من سليمان"، ويدل على ذلك أن الإمام يحيى بن معين نص على أن عمرو بن دينار لم يسمع من سليمان اليشكري (¬7) (¬8) . ثالثًا: ما جاء عن أبي حاتم الرازي: 1- قال أبوحاتم: (يشبه أن يكون زيد بن أبي أنيسة قد سمع من عبيد بن فيروز لأنه من أهل بلده) (¬9) (¬10) . وفي هذا النص يقوي أبوحاتم الرازي إمكانية سماع زيد من عبيد بأنهما من ¬

(¬1) العلل برواية عبد الله بن أحمد (2/250) . (¬2) انظر سير أعلام النبلاء (5/300) . (¬3) انظر تهذيب التهذيب (4/215) . (¬4) تاريخ ابن معين برواية الدوري (2/233) . (¬5) العلل لابن أبي حاتم (2/43) . (¬6) انظر تهذيب التهذيب (3/397) ترجمة زيد، وانظر أيضًا تهذيب التهذيب (7/72) ترجمة عبيد بن فيروز. (¬7) انظر العلل لابن أبي حاتم (2/43) . (¬8) (¬9) (¬10)

نفس البلد إذ كلاهما من الجزيرة وأصلهما من الكوفة (¬1) (¬2) ، ولو كان السماع ثابتًا عنده لجزم بذلك ولم يقل: "يشبه ... ". والحديث الذي قال فيه أبوحاتم ما قال لم ينفرد به زيد بن أبي أنيسة بل له أكثر من متابع (¬3) (¬4) . 2- قال أبوحاتم: (ويحتمل أن يكون أبوإدريس قد سمع من عوف والمغيرة أيضًا فإنه من قدماء تابعي أهل الشام، وله إدراك حسن) (¬5) (¬6) . وعوف هو ابن مالك الأشجعي صحابي توفي سنة ثلاث وسبعين، وقد سكن الشام (¬7) (¬8) . والمغيرة بن شعبة صحابي توفي سنة خمسين وقد دخل الشام (¬9) (¬10) ، وأما أبوإدريس الخولاني فهو عائذ الله بن عبد الله من كبار التابعين في الشام ولد سنة ثمان عام حنين (¬11) (¬12) . ويظهر من النص السابق أن أبا حاتم لم يجزم بسماع أبي إدريس من عوف والمغيرة - رضي الله عنهما -، وإنما قوى عنده احتمال أن يكون أبوإدريس قد سمع منهما لقدمه ومكانته. ومما يندرج ضمن النصوص السابقة ما قاله ابن رشيد والعلائي. فقد قال ابن رشيد رادًا على الإمام مسلم - رحمه الله - الأحاديث التي استشهد بها على مخالفه: (إن هذه أمثلة خاصة لا عامة، جزئية لا كلية، يمكن أن تقترن بها قرائن تفهم اللقاء أو السماع، كمن سميت ممن أدرك الجاهلية ثم أسلم بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحب البدريين فمن بعدهم. فهذا يبعد فيه ألا يكون سمع ممن روى ¬

(¬1) (¬2) (¬3) (¬4) (¬5) العلل لابن أبي حاتم (1/40) . (¬6) انظر تهذيب التهذيب (8/168) . (¬7) انظر تاريخ دمشق لابن عساكر (17/65-91) . (¬8) انظر سير أعلام النبلاء (4/272-276) . (¬9) السنن الأبين (ص135) . (¬10) (¬11) (¬12)

عنه. وإن جوزنا أنه لم يسمع منه قلنا: الظاهر روايته عن الصحابة، والإرسال لا يضره) (¬1) (¬2) . (فقد يكون لكل حديث حكم يخصه فيطلع فيه على ما يفهم اللقاء أو السماع، ويثير ظنًا خاصًا في صحة ذلك الحديث، فيصحح اعتمادًا على ذلك لا من مجرد العنعنة، ومثل هذا أيها الإمام لا يقدر على إنكاره وقد فعلت في كتابك مثله من رعي الاعتبار بالمتابعات والشواهد، وذلك مشهور عند أهل الصنعة، فيتبعون ويستشهدون بمن لا يحتمل انفراده، ومثل ذلك لا ينكر في الفقه وأصوله) (¬3) (¬4) . وكلام ابن رشيد يدل على أن ما لم يثبت اللقاء فيه من الأسانيد المعنعنة لا يترك الاحتجاج به إن كانت هناك قرائن تقوي إمكانية السماع، وابن رشيد كما هو معروف من المؤيدين لمذهب البخاري في السند المعنعن. وقال العلائي في ترجمة حميد بن عبد الرحمن بن عوف: (قال أبوزرعة: حديثه عن أبي بكر وعلي رضي الله عنهما مرسل. قلت: قد سمع من أبيه وعثمان رضي الله عنهما فكيف يكون عن علي مرسلاً وهو معه بالمدينة؟!) (¬5) (¬6) . وقال أيضًا في ترجمة قيس بن أبي حازم: (قال ابن المديني: لم يسمع من أبي الدرداء، ولا من سليمان، وروى عن بلال ولم يلقه، وروى عن عقبة بنعام ولا أدري سمع منه أم لا؟. قلت: في هذا القول نظر فإن قيسًا لم يكن مدلسًا، وقد ورد المدينة عقب وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة بها مجتمعون فإذا روى عن أحد الظاهر سماعه منه) (¬7) (¬8) . والعلائي من المؤيدين لمذهب البخاري في السند المعنعن، وهو هنا في هذين النصين يرجح اتصال السند المعنعن إذا حفت به قرائن قوية تجعل إمكانية السماع قوية. ¬

(¬1) (¬2) (¬3) السنن الأبين (ص137) . (¬4) جامع التحصيل (ص168) . (¬5) جامع التحصيل (ص257) . (¬6) (¬7) (¬8)

وقال ابن رجب مبينًا موقفه الشخصي من الأسانيد المعنعنة على مذهب مسلم: (فإن قال قائل: هذا يلزم منه طرح أكثر الأحاديث وترك الاحتجاج بها. قيل: من ههنا عظم ذلك - رحمه الله - عظم ذلك على مسلم - رحمه الله -. والصواب أن ما لم يرد فيه السماع من الأسانيد لا يحكم باتصاله، ويحتج به مع إمكن اللقي كما يحتج بمرسل أكابر التابعين كما نص عليه الإمام أحمد) (¬1) (¬2) . وبعد استعراض النصوص السابقة يتبين أن عددًا من كبار الأئمة الذين يشترطون العلم باللقاء أو السماع لاتصال السند المعنعن لم يهملوا القرائن المقوية لاحتمال السماع، ولم يتركوا الاحتجاج بكل حديث لم يثبت اللقاء في سنده إذا كانت هناك قرائن ترجح احتمال السماع على احتمال عدم السماع. وبالإجابة عن السؤالين السابقين يترجح لي أن مذهب البخاري أقوى من مذهب مسلم، والأصل أن العلم باللقاء ولو مرة شرط لاتصال السند المعنعن، وإذا لم يتوفر العلم باللقاء فلا يعد الحديث منقطعًا، وإنما فيه شبهة عدم اتصال، لذا فهو أعلى من المنقطع، ودون المتصل، فنتوقف على الاحتجاج به لذلك. فإذا توفرت الأمور التي ذكرها مسلم في الاكتفاء بالمعاصرة وكانت هناك قرائن تقوي احتمال السماع فالأولى الأخذ بها ويحتج بذلك السند الذي لم يثبت فيه اللقاء، والقرائن متعددة ومتنوعة ويصعب حصرها وضبطها، ويظهر لي استخلاصًا مما تقدم من مناقشات في هذا البحث أن أهم القرائن: 1- أن تكون فترة المعاصرة طويلة نسبيًا - بحيث يغلب على الظن استبعاد احتمال عدم اللقاء - مع اتحاد بلد الراويين كأن يكون كلاهما من المدينة أو من البصرة. قال الشيخ المعلمي: (إذا كان وقوع اللقاء ظاهرًا بينًا فلا محيص عن الحكم بالاتصال، وكذلك كمدني روى عن عمر، ولم يعلم لقاؤه له نصًا، لكنه ثبت أنه ولد قبل وفاة عمر بخمس عشر سنة مثلاً فإن الغالب الواضح أن يكون قد شهد خطبة عمر في المسجد مرارًا. فأما إذا كان الأمر أقوى من هذا كرواية قيس بن سعد المكي عن عمرو بن ¬

(¬1) شرح علل الترمذي (1/373-374) . (¬2)

دينار فإنه يحكم باللقاء حتمًا، والحكم به في ذلك أثبت بكثير من الحكم به لشامي روى عن يمان لمجرد أنه وقع في رواية واحدة التصريح بالسماع) (¬1) (¬2) . وقال أيضًا في معرض كلامه عن القرائن الدالة على اللقاء: (وكذا إذا كان أحد الشخصين ببلد قد زاره الآخر فأما إذا كانا ساكنين بلدًا واحدًا فإنه يكاد يقطع باللقاء) (¬3) (¬4) . 2- إذا روى الثقة المعاصر عن أحد أقاربه كأحد والديه أو إخوته فإن هذا مما يغلب على الظن وجود السماع فيه. ومن الأمور المقوية لأحاديث غير المدلسين من الثقات المعاصرين الذين لم يثبت لهم اللقاء: 1- وجود متابع ثقة يروي عن نفس الشيخ. 2- وجود شواهد صحيحة لنفس الحديث الذي يرويه. 3- أن يكون الراوي معروفًا بأن شيوخه كلهم ثقات. وإنما قبلت الاحتجاج بالسند الذي لم يثبت فيه اللقاء إذ توفرت فيه إحدى القرائن القوية مع العلم بالمعاصرة والسلامة من التدليس وعدم وجود ما يدل على الانقطاع لما يلي: أولاً: صنيع الإمام البخاري وابن المديني وأحمد بن حنبل وأبي حاتم الرازي فقد قووا بعض الأحاديث والأسانيد التي لم يثبت فيها اللقاء - كما تقدم بيان ذلك قبل قليل -. ثانيًا: إن تصرف التلاميذ ومن دونهم في صيغ الأداء - أحيانًا - وميلهم إلى استخدام العنعنة لخفة ذلك عليهم يجعل من الضروري اعتماد القرائن لاحتمال أن يكون الراوي صرح بسماعه من شيخه وجاء أحد رواة السند وأبدل صيغة السماع بعنعنة لذا كان لابد من اعتماد القرائن. ثالثًا: إن اشتراط اللقاء في السند المعنعن يراد منه رفع احتمال عدم الاتصال فإذا كان احتمال الاتصال أقوى من احتمال عدمه ترجح الجانب الأقوى. واشتراط ¬

(¬1) التنكيل (1/84) . (¬2) عمارة القبور (ل8) . (¬3) (¬4)

اللقاء ليس غاية في ذاته وإنما هو احتياط خشية أن يكون هناك انقطاع، ومن الخطأ أن تعامل كل الأسانيد التي لم يثبت فيها اللقاء معاملة واحدة. هذا هو الراجح - في نظري -: أن العلم باللقاء ولو مرة شرط لاتصال السند المعنعن كما هو مذهب ابن المديني والبخاري وغيرهما من الأئمة، ولكن ذلك لا يمنع من الاحتجاج بالحديث إذا توفرت فيه إحدى القرائن المقوية لاحتمال السماع مع المعاصرة والسلامة من التدليس وعدم وجود ما يدل على الانقطاع. أما الحكم بالاتصال على السند المعنعن لمطلق المعاصرة، كما هو مذهب الإمام مسلم، فلا أميل إليه لأن احتمال السماع، واحتمال عدم السماع متساويان في هذه الحالة ولا يكفي - في نظري - ترجيح احتمال السماع بمجرد المعاصرة وأن اللقاء ممكن. وبما رجحته أكون قد اخترت راي الإمام البخاري - رحمه الله -، وبعض رأي الإمام مسلم - رحمه الله - وذلك باختياري لأقوى مراتب إمكان اللقاء عنده. ولاشك أن رأي الإمام مسلم - رحمه الله - له وجاهته ولا يخلو من قوة، ولكن الأمر كما قلت في أول هذا المبحث إن الترجيح ليس بين رأيين أحدهما قوي والآخر ساقط وإنما بين رأي قوي وآخر قوى، ورحم الله الإمام الشافعي الذي قال: (رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب) ، وحري بنا أن نتأدب بأدب هذا الإمام الفذ. هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

الخاتمة

الخاتمة فيما يلي سأعرض - إن شاء الله - لفصول هذا البحث مبينًا أهم النتائج التي توصلت إليها في كل فصل: 1- تطرقت في الفصل الأول من الباب الأول الذي كان عنوانه: (تعريف بالإمامين والمسألة) إلى تعريف موجز بالإمامين البخاري ومسلم - رحمهما الله تعالى -. 2- ثم تكلمت في الفصل الثاني على خمسة مباحث تتعلق بالإسناد المعنعن وهي: المبحث الأول: وهو متعلق بتعريف العنعنة. المبحث الثاني: وقد وضحت فيه أن العنعنة تستخدم بكثرة في الأسانيد غير المتصلة. المبحث الثالث: وقد ذكرت فيه اختلاف العلماء في الاحتجاج بالسند المعنعن مبينًا أن العمل عند المحدثين استقر على قولين من تلك الأقوال، وهما: قول البخاري، وقول مسلم. المبحث الرابع: ذكرت فيه الألفاظ التي هي بمنزلة "عن" مثل "أن" و "قال" ووضحت أقوال أهل العلم فيهما مع بيان ما عليه العمل عند كبار أئمة الحديث. المبحث الخامس: ذكرت فيه أن العنعنة في كثير من الأحيان تكون من تصرف التلميذ أو من دونه، ووضحت أن العنعنة تأتي أحيانًا من قبل الشيخ وليس ممن دونه. 3- في الفصل الثالث ذكرت ما يميز مسألة "هل يشترط اللقاء في السند المعنعن؟ " من مسائل التدليس والتعليق والانقطاع، وتمييزها أيضًا من مسألة شرط البخاري ومسلم. 4- في الفصل الرابع ذكرت عددًا من النصوص عن شعبة بن الحجاج،

وعن يحيى بن سعيد القطان، يظهر منها أنهما قد انتقدا جملة من الأحاديث لعدم ثبوت السماع بين بعض الرواة، وبذلك استطعت إيجاد الجذور التاريخية لمسألة "اشتراط اللقاء في السند المعنعن". 5- بعد ذلك بدأ الباب الثاني وعنوانه: (موقف الإمام البخاري) . وقد تطرقت في الفصل الأول منه إلى عناية البخاري الفائقة بهذه المسألة، وتناولت في المبحث الأول منه تأثر البخاري في هذه المسألة بشيخه علي بن المديني. وفي المبحث الثاني ذكرت اهتمام البخاري الشديد بهذه المسألة في مصنفاته المتعلقة بالرواية ككتابة "الصحيح"، ومصنفاته المتعلقة بعلم الرجال. وقد رجحت في هذا المبحث أن البخاري إذا ذكر لفظ "عن" فيما يرويه صاحب الترجمة، ولم يذكر لفظة "سمع" كأن يقول: "فلان عن فلان وفلان ... " "بدل" فلان سمع فلانًا وفلانًا ... " فإن ذلك يدل في الغالب على أن البخاري لم يثبت عنده سماع صاحب الترجمة من ذلك الشيخ وإلا لقال: "سمع". 6- في الفصل الثاني تكلمت على خمسة مباحث تتعلق بوسائل إثبات اللقاء أو السماع عند البخاري، وقد ورد في هذه المباحث ما يلي: المبحث الأول: بينت فيه أن ثبوت اللقاء يكفي عند البخاري ليحكم بالاتصال على السند المعنعن ولا يشترط ثبوت السماع للاتصال. المبحث الثاني: بينت فيه وسائل إثبات اللقاء، وهي: 1- التصريح بالسماع. 2- ورود قصة تدل على وقوع اللقاء. 3- ألفاظ غير صريحة في إثبات اللقاء ولكنها قرائن قوية على وقوعه. المبحث الثالث: ذكرت فيه أنه يشترط للاحتجاج بوسيلة إثبات اللقاء أمران: 1- صحة السند. 2- السلامة مما يمنع ثبوت اللقاء. المبحث الرابع: وضحت فيه أنه يكفي الإثبات اللقاء ورود ذلك ولو مرة واحدة. المبحث الخامس: بينت فيه أن المكاتبة تقوم مقام اللقاء في نفس الحديث الذي روي عن طريق المكاتبة، أما مجرد المكاتبة فلا تكفي لإثبات اللقاء بين شخصين.

7- في الفصل الثالث ناقشت قضية مهمة وهي: "هل عدم ثبوت اللقاء مؤثر في صحة الحديث عند الإمام البخاري؟ " وذلك من خلال مبحثين هما: المبحث الاول: وقد رجحت فيه أن البخاري يشترط اللقاء في أصل الصحة وليس في أعلى الصحة كما رجحه ابن كثير ومن تبعه. المبحث الثاني: ذكرت في هذا المبحث ستة أحاديث قواها البخاري وفي ثبوت السماع بين بعض رواتها نظر، ولكن هناك قرائن قوية تدل على أن احتمال السماع هو الأقوى، لاسيما ولتلك الأحاديث شواهد، وبعضها في أبواب لا يتشدد في مثلها أهل الحديث. 8- في الفصل الرابع ذكرت الأدلة التي يحتج بها للبخاري على اشتراط اللقاء. 9- في الفصل الخامس تطرقت إلى ثلاثة مباحث تتعلق بمنهج البخاري في نصوصه النقدية المتعلقة باشتراط اللقاء، وقد ورد فيها ما يلي: المبحث الأول: تناولت فيه وصف لطريقة البخاري في نقده لسماعات الرواة. المبحث الثاني: فرزت فيه النصوص التي جمعتها من كتب البخاري النقدية، وقد كان الأساس الذي تم عليه الفرز ثلاثة أسئلة طرحتها في أول هذا المبحث، ووجدت بعد دراسة النصوص أنها تنقسم إلى قسمين هما: القسم الأول: سمات راجعة إلى اتصال السند. القسم الثاني: سمات راجعة إلى عدالة الرواة. ويندرج تحت كل قسم ثلاث سمات رئيسية هي: القسم الأول: 1- السمة الأولى: عنعنة المدلس. 2- السمة الثانية: العنعنة ممن يرسل كثيرًا. 3- السمة الثالثة: الشك في اتصال السند لوجود قرينة. القسم الثاني: 1- السمة الأولى: المجهولون.

2- السمة الثانية: الضعفاء. 3- السمة الثالثة: الموثقون، وهم على ثلاثة أفرع: أ - ثقات سند روايتهم المتكلم في سماعها ضعيف. ب - ثقات معاصرتهم محتملة لمن تكلم في سماعهم منه. ج - ثقات معاصرتهم ثابتة لمن تكلم في سماعهم منه. وذكرت في نتيجة الفرز أن ضوابط الاكتفاء بالمعاصرة التي ذكرها مسلم إذا طبقت على النصوص النقدية للبخاري فإننا سنجد أنهما متفقان في رد أكثر ذلك، وهناك ما يقارب من اثنى عشر نص انتقدها البخاري، وهي على مذهب مسلم ينبغي أن تكون متصلة لتوفر ضوابط الاكتفاء بالمعاصرة فيها. المبحث الثالث: تناولت فيه أهم المعالم المنهجية التي لاحظتها في نصوص البخاري النقدية. 10- في الفصل السادس ذكرت العلماء الذين أيدوا مذهب البخاري ممن كان من الأئمة المتقدمين على البخاري، أو ممن عاصروه، أو من الذين أتوا بعده. 11- في الفصل السابع ذكرت مآخذ العلماء على البخاري في هذه المسألة، واعتذرت عن الإمام البخاري في ذلك. 12- بعد ذلك بدأ الباب الثالث وعنوانه: (موقف الإمام مسلم) ، وقد تطرقت في الفصل الأول منه إلى تحرير الإمام مسلم لمحل النزاع مع مخالفه. وبينت في المبحث الأول: أنه من الصعب جدًا تحديد شخصية المعني بالرد، ولكن غالب الأقوال تدور حول أن الشخص الذي عناه مسلم إما أن يكون علي بن المديني أو البخاري ووضحت أنهما متفقان في مذهبهما من السند المعنعن، فيكون كلام مسلم يشملهما بالضرورة. وفي المبحث الثاني: سقت كلام مسلم الذي عرض فيه رأيه ورأي مخالفه. 13- في الفصل الثاني تكلمت على ضوابط الاكتفاء بالمعاصرة عند مسلم، وذلك من خلال خمسة مباحث هي: المبحث الأول: ثقة الرواة، ووضحت أن الضعف والمجهول لا يحتج بهما أصلاً، ولكن إذا لم تعلم معاصرتهما لمن يروون عنه فتضاف علة أخرى للسند،

وبينت أن الصدوق يدخل في مسمى الثقة عند مسلم. المبحث الثاني: العلم بالمعاصرة، ووضحت أن العلم بالمعاصرة شرط لاتصال السند المعنعن عند مسلم، ولا يكفي احتمال المعاصرة. ثم بينت أن العلم بالمعاصرة يحصل في الغالب من خلال أمرين: 1- معرفة التاريخ، 2- معرفة تاريخ وفاة أقدم شيخ للراوي. ثم بينت أن العلم بالمعاصرة مطلوب حتى في رواية التابعي عن صحابي مبهم. المبحث الثالث: تحديد المقصود بإمكانية اللقاء، ورجحت فيه أن مسلمًا - رحمه الله - إذا توفرت ضوابط الاكتفاء بالمعاصرة وكان اللقاء ممكنًا فإنه يحتج بذلك ولو لم تكن البلاد متقاربة. المبحث الرابع: السلامة من التدليس، وذكرت فيه أن من عرف بالإرسال ينبغي أن يعامل كالمدلس من حيث عدم الاكتفاء بمعاصرته. المبحث الخامس: عدم وجود ما يدل على نفي السماع أو اللقاء. 14- في الفصل الثالث عرضت في المبحث الأول منه لأدلة مسلم وغيره من أهل العلم في الاحتجاج لمذهبهم الذي يكتفي بالمعاصرة لاتصال السند المعنعن، وعددها ستة أدلة. وفي المبحث الثاني من هذا الفصل ناقشت تلك الأدلة مستعينًا بكلام العلماء، وخلاصة مناقشة الأدلة. كما يلي: الدليل الأول: احتج مسلم بأن مشترط اللقاء مخالف للإجماع، ولما عليه عمل الأئمة المشهورين. وقد نقلت قول ابن رشيد الدال على أن مسلمًا - رحمه الله - في الحقيقة خالف الإجماع ونقص منه شرطًا، ثم بينت أن عددًا من كبار النقاد قبل البخاري كشعبة بن الحجاج، ويحيى بن القطان، وعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، وغيرهم قد جاءت عنهم نصوص فيها ما يدل على أنهم بحثوا عن سماع الرواة غير المدلسين، وذلك بعكس ما قاله مسلم - رحمه الله -.

الدليل الثاني: واحتج بأن مشترط اللقاء يلزمه أن لا يحتج بكل حديث معنعن، ولو علم لقاء المعنعن للمعنعن عنه. ونقلت أقوال العلماء في الرد على مسلم وفحواها أننا لو لم نقبل عنعنة من ثبت لقبه لكنا بذلك متهمين له بالتدليس، والأصل البراءة من ذلك. ثم بينت أن الأحاديث التي أوردها مسلم للتمثيل على ما قاله ليست كلها صالحة للاستدلال. الدليل الثالث: احتج مسلم بأن هناك أحاديث قبلها العلماء ولا يعلم فيها أن التابعي الذي رواها سمع من الصحابي أو أنه لقيه، وقد بينت أن خمسة من هذه الأحاديث السماع فيها ثابت، وأن خمسة أخرى من هذه الأحاديث قد توبع فيها التابعي من تابعي آخر ثقة قد صح سماعه عن ذلك الصحابي على نفس الحديث أو على معناه، وخمسة من هذه الأحاديث لمتونها شواهد صحيحة، ووجدت حديثًا واحدًا قد اختلف في وصله وإرساله، ووضحت أنه لا يسلم للإمام مسلم - رحمه الله - استدلاله بهذا الدليل لأن تلك الأحاديث قوية ولو لم يثبت فيها السماع لوجود المتابعات والشواهد. الدليل الرابع: وهو للشيخ المعلمي ذكر فيه أن الأصل في الرواية أن تكون عما شاهده الراوي، وقد ذكرت أن هذا الاستدلال غير قوي لأن فيه من التعميم الشيء الكثير، كما لم يأت بشواهد على ما ذكره، بالإضافة لأمور أخرى بينتها هناك. الدليل الخامس: وهو للشيخ المعلمي أيضًا، وقد ذكر فيه، أن مشترط اللقاء يتهم الراوي الثقة المعاصر بالإرسال الخفي، والإرسال الخفي أقبح من التدليس، وقد وضحت أن هذا غير صحيح فالتدليس شر من الإرسال مطلقًا الخفي منه وغير الخفي. الدليل السادس: وهو للشيخ عبد الفتاح أبوغدة وقد ذكر فيه أن مشترط اللقاء يلزم من مذهبه أن ما في صحيح مسلم من الأحاديث المعنعنة على شرطه في العنعنة يعد من قسم الضعيف، وهذا يخالف ما عليه اتفاق العلماء من أن ما في كتاب مسلم من الأحاديث يعد صحيحًا، وقد رددت هذا الدليل وبينت ما فيه من الضعف وأنه كلام نظري يخلو من الشواهد، كما أن هذا الاستدلال غير دقيق لأنه

لم يحدد عدد الأحاديث المعنعنة على شرط مسلم في صحيحه، ولم يحدد هل هي في الأصول أم في المتابعات والشواهد، ... الخ، بالإضافة لأمور أخرى ذكرتها لأبين عدم صلاحية هذا الاستدلال. 15- في الفصل الرابع ذكرت أن مسلمًا - رحمه الله - قد أخرج في صحيحه أسانيد معنعنة بمجرد الاكتفاء بالمعاصرة، ولكن عدد هذه الأحاديث - فيما ظهر لي - قليل جدًا بالنسبة لمجموع أحاديث الكتاب، ثم أن معظم هذا القليل لم يذكره مسلم في الأصول معتمدًا عليه، كما أن لكثير من تلك الأحاديث شواهد قوية. 16- في الفصل الخامس ذكرت أن الإمام البخاري - رحمه الله - انتقد بعض الأسانيد التي لم يثبت فيها السماع مما أخرجه مسلم في صحيحه، وبلغ عدد الأسانيد ستة، وقد دافعت عن صحيح مسلم مبينًا الشواهد التي وجدتها لأكثر تلك الأحاديث. وقد بينت في آخر الفصل أن مسلمًا قد احتاط ببراعة مدهشة لكتابه الصحيح. 17- في الفصل السادس ذكرت المؤيدين لمذهب مسلم من العلماء قديمًا وحديثًا. 18- في الفصل السابع ذكرت مآخذ العلماء على مسلم، وهذه المآخذ هي: 1- شدته على المخالف له، 2- ذكر إلزامات لمخالفه غير ملزمة، 3- وقوعه - رحمه الله - في بعض الأخطاء العلمية أثناء عرضه لهذه المسألة في مقدمته. 19- ثم بعد ذلك جاء الباب الرابع وعنوانه: (الموازنة بين الرأيين والترجيح) ، وتطرقت في الفصل الأول منه إلى مواطن الاتفاق والاختلاف، وبينت فيه أن نقطة الخلاف الأصلية - فيما ظهر لي - بين الشيخين هي: في السند المعنعن الذي يكون اللقاء فيه ممكنًا وغير مستبعد، ولكن ليس في هذا السند قرائن تقوي احتمال اللقاء، وإنما الأمر على الإمكان فقط، فمسلم يحتج بذلك، وأما البخاري فلا.

20- في الفصل الثاني رجحت أن الأصل اشتراط العلم باللقاء لاتصال السند المعنعن، وأن السند المعنعن إذا توفرت فيه ضوابط الاكتفاء بالمعاصرة التي ذكرها مسلم لا يعد متصلاً، كما لا يعد منقطعًا، فهو في منزلة دون المتصل وأعلى من المتقطع، وذلك لأن فيه شبهة انقطاع أو احتمال بأنه غير متصل، لذا إذا حفت بذلك السند قرينة قوية ترجح احتمال السماع، فإن ذلك السند يصلح للاحتجاج. هذا والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. كتبه خالد بن منصور بن عبد الله الدريس1414هـ

§1/1