موسوعة مواقف السلف في العقيدة والمنهج والتربية

المغراوي

المقدمة

المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} (¬1). {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} (¬3). وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار. ¬

_ (¬1) آل عمران الآية (102). (¬2) النساء الآية (1). (¬3) الأحزاب الآيتان (70 و71).

أما بعد: فإني لما تخرجت بالإجازة من كلية الشريعة بالمدينة النبوية سنة (ألف وثلاثمائة وخمسة وتسعين)، ودخلت إلى حقل الدعوة إلى الله، وأسست جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة مع بعض الإخوة الفضلاء، رأيت هجمة شرسة من قبل أعداء الإسلام؛ كما هو الواقع الآن على الدعوة السلفية والتحذير منها، وأنها دعوة خطيرة على المجتمع. والحق أن السلفية دعوة مباركة تهتم بتصحيح المعتقد، ونبذ الخرافات والشركيات، وتقويم العبادات على وفق السنة النبوية، وتصحيح السلوك وتهذيب الأخلاق وتزكيتها، وتربي الشباب على العناية بحفظ كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ علماً وعملاً، وفهماً وتطبيقاً، ودعوة وتأصيلاً، ولا ترى الحجية في غير كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو ما نتج عنهما من إجماع أو قياس صحيح، أو فهم سلفي منضبط، فمهما كان القائل فلا بد أن يُطلب منه الدليل من الكتاب أو السنة. وقد أسست لذلك مدارس "دور القرآن" في كل أرجاء البلاد لنشر هذا المنهاج المبارك، وكان -ولله الحمد- الإقبال عليها من كل الشرائح الاجتماعية؛ الذكور والإناث، والصغار والكبار، والشباب والشابات، وها هم أهل المغرب الغيورون على الكتاب والسنة؛ يرفعون أكف الضراعة إلى الله أن يردّ عليهم مدارسهم، -أي: دور القرآن- التي خدمت البلاد والعباد بكلّ أنواع

الخدمات، فهذبت الشباب والشابات، وصرفتهم عن اللهو والعبث والفتن، والوقوع في حمأة الشرك والبدع والخرافات والإلحاد والرذائل والتكفير وفي كل ما يضرّ البلاد والعباد، وجعلتهم -ولله الحمد- مصابيح مضيئة بنور القرآن والسنة، في المساجد ودور القرآن وفي المؤسسات التعليمية بكل مراحلها الابتدائية والإعدادية، والثانوية والجامعية، وفي المناسبات من أعراس وعقائق وجنائز، وفي كل التجمعات التي تجتمع على الخير وعلى القرآن والسنة، وفي كل موقف يخدم الأهداف الصالحة لهذه البلاد الغالية من أمن وأمان، ويحاربون كل ما يؤدي إلى القلاقل والاضطراب؛ فإن هذا لا خير فيه للأمة بأجمعها، وكل من يقلق أمن هذه البلاد وغيرها من بلاد الإسلام؛ فلا يريد بالأمة خيراً. اللهم اهد ضالّ هذه الأمة. هذا: وفي عام ثلاث وأربعمائة وألف، قدمت أطروحة لنيل الدكتوراه بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبويّة في قسم العقيدة. تحت عنوان: "العقيدة السلفية في مسيرتها التاريخية وقدرتها على مواجهة التحديات". وقد منّ الله تعالى بفضله وكرمه بنيلها وحيازتها بدرجة مشرِّفة جداً، وظلت حبيسة الرفوف مدة، وقد أعدت النظر فيها وزدت عليها أضعاف أضعافها من المباحث المنيفة، والفصول الشيقة، حتى غدا بعض فصولها مباحث مستقلة، وكتباً مفردة.

وقد ارتأيت اليوم أن تكون دراسة موضوع "العقيدة السلفية في مسيرتها التاريخية وقدرتها على مواجهة التحديات"؛ مقسمة إلى أقسام عديدة، مبرزة لمعالمها، وشاملة لمباحثها على النحو التالي: * القسم الأول: إتحاف الأخيار بفضائل عقيدة السلف الأبرار. * القسم الثاني: الاعتصام بالكتاب والسنة وفهم السلف عند ظهور الأهواء والبدع والفتن والاختلاف. * القسم الثالث: الصحيح في تفصيل الاعتقاد من هدي خير العباد. * القسم الرابع: أهل الأهواء والبدع والفتن والاختلاف. * القسم الخامس: مغني العقلاء في بيان المواقف العقدية في دعوة الأنبياء. * القسم السادس: المواقف العقدية والأساليب الدعوية في مواجهة تحديات الجاهلية من خلال صحيح سيرة خير البرية - صلى الله عليه وسلم -. * القسم السابع: موسوعة مواقف السلف الصالح في العقيدة والمنهج والتربية. وهو القسم الذي نخرجه للقراء في هذه الطبعة بإذن الله وتوفيقه. * القسم الثامن: المصادر العلمية للعقيدة السلفية.

الأسباب البواعث على التأليف

الأسباب البواعث على التأليف إن المرء يظل أسير معتقداته وقناعاته الشخصية -إن كان صادقاً-؛ تتفتق بحسبها أفكاره وتنبعث على وِفقها أقواله وأفعاله، وإراداته، لا يحيد عنها ولا يزيغ، كان حبنا لسنة سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - ولنهج السلف الصالحين الذي غمر قلوبنا، وملأ أفئدتنا، باعثاً قوياً، وحافزاً مؤثراً في خط الصفحات وكتب هذه المجلدات، فنرجو الله أن نكون كذلك وأن يثبتنا، وأن لا يزيغ قلوبنا. هذا الحب للنبي - صلى الله عليه وسلم - تمخضت عنه أسباب دفعت لتأليف هذا الكتاب نجمل بعضها فيما يلي: السبب الأول: النصح لله ورسوله والمسلمين: فرض الله تعالى على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - النصح له عز وجل، ولكتابه، ورسوله، وللمسلمين عامتهم وخاصتهم، حيث حصر الناصح الأمين - صلى الله عليه وسلم - الدين في التناصح على سبيل التنبيه على عظمة النصيحة، فقال: "الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، ثلاثاً. قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله عز وجل، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه: أحمد (4/ 102) ومسلم (1/ 74/55) وأبو داود (5/ 233/4944) والنسائي (7/ 176 - 177/ 4208 و4209) من حديث أبي رقية تميم الداري.

وقد يسر الله كتابة هذه الأسفار نصرة منا لله سبحانه، ولرسوله، ونصحاً لأنفسنا ولإخواننا ولعموم المسلمين الذين أوجب الله علينا النصح لهم، وإرشادهم لما فيه صلاحهم في الحال والمآل؛ وذلك بربطهم بمعتقد سلفهم الصالح رضوان الله عليهم؛ ولأن الخلف البارّ الذي يحرص على طلب الحق وتصفية المعتقد والمنهاج والمواقف، لا يجوز له بحال أن تنفك صلته عن السلف الصالح، في معرفة سيرهم ومناقبهم ومواقفهم العقدية والمنهجية، وهم قدوته في كل خير، وعلى نهجهم يسير، وبمواقفهم يقتدي، وهم -ولله الحمد- عدد كبير بلغ في هذا السجل المبارك أزيد من ألف إمام على مدى عصور الإسلام، ابتداء بعصر الصحابة والتابعين والتابعين لهم بإحسان، -لا كما يقوله بعض الجهال: إن السلفية بدأت بابن تيمية ثم ابن عبد الوهاب-، وتكون هذه الدراسة سجلاً مباركاً بيد كل سلفي يحتج به على كل مبطل ينكر هذا المنهاج ويتنكب عنه، ويطعن فيه، والطعن في هذا المنهج طعن في خيرة خلق الله، وهذا أمر عظيم وموبقة من الموبقات.

السبب الثاني: طعن الملاحدة وأعداء الإسلام في السلفية:

السبب الثاني: طعن الملاحدة وأعداء الإسلام في السلفية: منذ قرابة ربع قرن تقريباً، حوالي سنة 1395 هـ الموافق لسنة 1975 م. -على ما يغلب على ظني-. عقد الملاحدة أعداء الإسلام ندوة كبيرة في بعض البلاد الإسلامية بخصوص الطعن في السلفية، وشارك فيها كبار القوم، وحضرها جمهور غفير من الناس، وشوهوا وافتروا كيف ما حلا لهم، ولم يقفوا عند عقد الندوة فقط، بل نشروها في جرائد لهم، يتكلمون بكلام لا يصدر إلا من عدو خبيث، يبينون للحضور والقراء خطورة العقيدة السلفية إن حصل انتشارها في مجتمعاتهم. وحينها انهالت علي الأسئلة للتعرف على السلفية، فمن الأسئلة: هل هناك كتاب يمكن أن نتعرف فيه على السلفيين ومواقفهم، فذكرت بأنني لا أعرف إلا كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه العلامة ابن القيم، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله جميعاً. وبقيت تلك الأسئلة تراودني طيلة تلك المدة حتى كتب الله الرجوع إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، والالتحاق بالدراسات العليا بها، ثم مرحلة الدكتوراه التي اغتنمتها فرصة لإخراجها من حيز التفكير إلى ساحة التطبيق العملي. فكان هذا من أكبر الدوافع وأعظم المحفزات في تسجيل بحث نيل الدكتوراه في هذا الموضوع.

السبب الثالث: تقريب مواقف السلف للأمة:

السبب الثالث: تقريب مواقف السلف للأمة: لقد ظلت آثار السلف ومواقفهم العقدية في طيات كثير من المصنفات مطمورة، وبين أسطر أخرى مغمورة، لا يعرف الطلاب لها من سبيل، ولا يدلهم عليها دليل، إلا ما تيسر من كتاب "سير أعلام النبلاء" للإمام الذهبي رحمه الله، الذي ضم في تراجم أعلامه بعضها، وهو أحد المراجع التي استخلصنا فوائدها وفرائدها، وزدنا عليه عشرات من أمثاله التي استقرئت بكاملها، من مؤلفات العقائد، وأضعاف أضعافها مما انتقي من غيرها، كما سيأتي جرد أسماء بعض منها في محله إن شاء الله تعالى. فتيسير الوقوف على مواقف السلف النيرة، وأقوالهم الزاهرة، وتراجمهم العطرة في كتاب مفرد، غاية في حد ذاتها. هذا الكنز الثمين من الآثار السلفية الذي نقدمه اليوم للأمة لا يعلم قيمته ونفاسته إلا من أجهد نفسه للظفر بدرة من درره؛ وقطف ثمرة من ثمراته، وسل الغائص في بحر الكتب لاستخلاصها، والمسير طرفه بين الأسطر لالتقاط دررها، تعلم مدى الجهد والعناء الذي اختزل في ما بين يديك! ولا أدل على ذلك من أنا أمضينا زمناً طويلاً في استخراجها ونظم عقدها. والله الموفق، لا رب سواه.

السبب الرابع: التعريف بالسلف وإبراز مواقفهم:

السبب الرابع: التعريف بالسلف وإبراز مواقفهم: هذه الموسوعة العظيمة الممهَّدة بين يدي الناظر فيها تيسر له التعرف على أئمة السلف والوقوف على تراجمهم، ومواقفهم العقدية في اتساق مرتب، واختصار مهذب؛ إذ معرفتها أنفع للمسلم في دينه ودنياه من معرفة أقوال غيرهم. كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولهذا كان معرفة أقوالهم في العلم والدين وأعمالهم خيراً وأنفع من معرفة أقوال المتأخرين وأعمالهم في جميع علوم الدين وأعماله؛ كالتفسير وأصول الدين وفروعه والزهد والعبادة والأخلاق والجهاد وغير ذلك؛ فإنهم أفضل ممن بعدهم كما دل عليه الكتاب والسنة. فالاقتداء بهم خير من الاقتداء بمن بعدهم، ومعرفة إجماعهم ونزاعهم في العلم والدين خير وأنفع من معرفة ما يذكر من إجماع غيرهم ونزاعهم؛ وذلك أن إجماعهم لا يكون إلا معصوماً، وإذا تنازعوا فالحق لا يخرج عنهم، فيمكن طلب الحق في بعض أقاويلهم، ولا يحكم بخطأ قول من أقوالهم حتى يعرف دلالة الكتاب والسنة على خلافه، قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ

السبب الخامس: شد أزر السلفين وتثبيت قلوبهم:

إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)}. (¬1) السبب الخامس: شد أزر السلفين وتثبيت قلوبهم: قد يشعر المؤمن عموماً والسلفي خصوصاً بغربته في هذا الزمان وهو بين أهله، وبوحدته وهو بين أترابه، ليست غربة اتخذها اختياراً، ولا وحدة اصطفاها لنفسه استئثاراً، وإنما سيق لها اضطراراً، سنة اقتضتها حكمة رب عليم حكيم؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء" (¬2). قال الشاطبي: "وهذه سنة الله في الخلق، أن أهل الحق في جنب أهل الباطل قليل، لقوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)} (¬3)، وقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)} (¬4)، ولينجز الله ما وعد به نبيه - صلى الله عليه وسلم - من عود وصف الغربة إليه؛ فإن الغربة لا تكون إلا مع فقد الأهل أو قلتهم، وذلك حين يصير المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وتصير ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى (13/ 23 - 30). (¬2) مسلم (1/ 130/145) وابن ماجه (2/ 1319 - 1320/ 3986)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) يوسف الآية (103). (¬4) سبأ الآية (13).

السنة بدعة والبدعة سنة، فيقام على أهل السنة بالتثريب والتعنيف كما كان أولاً يقام على أهل البدعة، طمعاً من المبتدع أن تجتمع كلمة الضلال، ويأبى الله أن تجتمع حتى تقوم الساعة، فلا تجتمع الفرق كلها -على كثرتها- على مخالفة السنة عادة وسمعاً؛ بل لا بد أن تثبت جماعة أهل السنة حتى يأتي أمر الله، غير أنهم -لكثرة ما تناوشهم الفرق الضالة وتناصبهم العداوة والبغضاء، استدعاء إلى موافقتهم- لا يزالون في جهاد ونزاع، ومدافعة وقراع، آناء الليل والنهار، وبذلك يضاعف الله لهم الأجر الجزيل، ويثيبهم الثواب العظيم". (¬1) فطوبى لهم في غربتهم، وطوبى لهم في استئناسهم بكلام ربهم، ومصاحبة أنفاس نبيهم - صلى الله عليه وسلم - القولية والفعلية، وطوبى لمن جال بقلبه وفكره في كسر طوق هذه الغربة في رياض السنة النضرة، ومواقف السلف العطرة، ونأى بنفسه عن ورود حياض البدع الكدرة، ومستنقعاتها القذرة، وسقى نفسه من معين الكتاب والسنة ماء عذباً زلالاً، صافياً نقياً، لم تكدره الدلاء، ولم تخالطه الآراء. وارتوى مما ارتوى منه أبو بكر وعمر ومن بعدهم من الخلفاء الراشدين، وبقية العشرة المبشرين، وسائر الصحابة المرضيين، ومن اقتفى أثرهم من الأئمة والمُحَدِّثِين، والعلماء المعتبرين، خلفاً عن سلف. هذا المشرب الموحد الذي ورده سائر الأعلام على امتداد تاريخ هذه ¬

_ (¬1) الاعتصام (1/ 30 - 31).

السبب السادس: إبراز معالم المنهج السلفي:

الأمة المجيدة، طيلة أربعة عشر قرناً خلت، ولم يتخلف عنه أحد منهم، ولم يحد بصرهم عنه، رغم عواصف البدع الرعناء، وتيارات الإلحاد الهوجاء، ومحن من أشربها من القادة والسلاطين والغوغاء، فقاموا في وجهها محتسبين، وثبتوا في نزالها صابرين صامدين، جماعات ووحداناً؛ منهم الوحيد في زمانه، ومنهم المتقوي بإخوانه، فأضحو للأمة أعلاماً بها يهتدى، ونماذج تحتذى، ومصابيح تنير الطريق لسالك دربهم، فيحذو حذوهم. {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (¬1). السبب السادس: إبراز معالم المنهج السلفي: لقد أُثر عن السلف كثير من الأقوال الموضحة للمنهج السلفي، والمجلية لمعالمه، وهي منثورة في كتب عديدة كأصول السنة لللالكائي والاعتصام للشاطبي، وكتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله، وغيرها من الكتب، وقد أودعنا ما وقفنا عليه منها في موسوعتنا هذه، إبرازاً لهذا المنهج العظيم، وتقريراً له بين عموم المسلمين، وأنه الحق الذي كان عليه السلف، وآب إليه من تاب من الخلف. وأكبر معالم هذا النهج القويم التي نازعنا فيها الخلفيون: ¬

_ (¬1) الأنعام الآية (90).

أ- وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة وفهم السلف

أ- وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة وفهم السلف: إن أساس الدعوة السلفية الذي بنيت عليه، ومحورها الذي تدور في فلكه، والذي لا يجوز الخروج عنه أو القول بخلافه، والخارج عنه لا يعد سلفياً، هو: وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة والتحاكم إليهما في كل المناحي العلمية والعملية، بفهم السلف رضوان الله عليهم أجمعين، امتثالاً لأمر ربنا جل وعلا في وجوب لزوم كتابه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، واتباع سبيل خِيرة هذه الأمة الذين أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بين أظهرهم قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} (¬1). ولا يتم عقد الإيمان إلا بتمام التسليم لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ والرضا بحكمه، وعدم الخروج عنه، كما قال تعالى في كتابه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (¬2). والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وقد أفردناها في قسم خاص ¬

_ (¬1) النساء الآية: (115). (¬2) النساء الآية (65).

ب- الرد على المخالف

من هذه السلسة المباركة، سميته بـ: "الاعتصام بالكتاب والسنن وفهم السلف عند حدوث الأهواء والفتن والاختلاف" في ثلاث مجلدات لطيفة؛ أحدها في الآيات الدالة على الاعتصام بالكتاب والسنة مع توجيهها، والثاني في الأحاديث الواردة في الباب، والثالث في فهم السلف، وهو جرد وسرد لأقوالهم في الباب نفسه. وفي موسوعتنا هذه قد أوردنا من أقوال السلف في تقرير هذا الأمر ضمن مواقفهم من المبتدعة ما يسر الناظر فيه، ويثلج صدر أحباب سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمتسننين بها. ب- الرد على المخالف: قد يستهجن بعض العوام وأشباه العلماء، وكثير من المثقفين والأدباء، والحزبيين، رد السلفيين على المخالفين من المبتدعة والمضلين والمميعين لأحكام الدين، حيث جندوا أنفسهم لكشف باطلهم وإبطال دعوتهم، فثارت ثائرة القوم بالإنكار والتنديد، والتبديع والتقريع، وأن هذا المسلك خلاف ما عليه السلف الذين يدعي السلفيون الانتساب إليهم!! وما علم القوم أن الرد على المخالف لسنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - هو محض النصح لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - كما سبق، وهو منهج السلف الأخيار لم يفارقوه برهة، ولم يتخلف أحد منهم عن القول به طوال تاريخ الإسلام.

وما أوردناه في هذا السفر من أقوال هذا الجم الغفير من الأعلام الذين يقارب عددهم المئتين والألف علَم، برهان ساطع في وجوب النصح للمسلمين، وتحذيرهم من المتقولين على الله بغير علم، الذين هم أعظم جرماً وأقبح جرأة في قيلهم وفعلهم، فالرد عليهم واجب، والتحذير منهم لازم. قال ابن القيم رحمه الله: "وأما القول على الله بلا علم: فهو أشد هذه المحرمات تحريماً، وأعظمها إثماً؛ ولهذا ذكر في المرتبة الرابعة من المحرمات التي اتفقت عليها الشرائع والأديان، ولا تباح بحال؛ بل لا تكون إلا محرمة، وليست كالميتة والدم ولحم الخنزير الذي يباح في حال دون حال. فإن المحرمات نوعان: محرم لذاته لا يباح بحال. ومحرم تحريماً عارضاً في وقت دون وقت. قال الله تعالى في المحرم لذاته: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (¬1)، ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه فقال: {وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}، ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه فقال: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)}. فهذا أعظم المحرمات عند الله وأشدها إثماً؛ فإنه يتضمن الكذب على الله ونسبته إلى ما لا يليق به، وتغيير دينه وتبديله، ونفي ما أثبته، وإثبات ما نفاه، ¬

_ (¬1) الأعراف الآية (33).

ج- تحقيق الولاء والبراء

وتحقيق ما أبطله، وإبطال ما حققه، وعداوة من والاه، وموالاة من عاداه، وحب ما أبغضه، وبغض ما أحبه، ووصفه بما لا يليق به في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله. فليس في أجناس المحرمات أعظم عند الله منه ولا أشد إثماً. وهو أصل الشرك والكفر، وعليه أسست البدع والضلالات؛ فكل بدعة مضلة في الدين أساسها القول على الله بلا علم. ولهذا اشتد نكير السلف والأئمة لها، وصاحوا بأهلها من أقطار الأرض، وحذروا فتنتهم أشد التحذير، وبالغوا في ذلك ما لم يبالغوا مثله في إنكار الفواحش والظلم والعدوان؛ إذ مضرة البدع وهدمها للدين ومنافاتها له أشد". (¬1) ج- تحقيق الولاء والبراء: إن كثيراً مما ألف في القديم والحديث من الكتب باسم: الفرق الإسلامية، أو الفكر الإسلامي، متضمن لكثير من الأخطاء العقدية والمنهجية التي ينسبها أصحابها لمعتقد أهل السنة وهم برآء منها، وكثير من القراء لا يعلم أن معظم ما كُتب فيها ما هو إلا أخطاء وانحرافات وبدع، حذر منها علماء السنة بحق وهم السلف، ودفعوها بقولهم وفعلهم ومواقفهم، طيلة العصور التاريخية. فالإسلام هو الكتاب والسنة وفهم سلفي انبثق منهما، وما سوى ذلك ¬

_ (¬1) مدارج السالكين (1/ 372).

فلا يجوز أن ينسب إلى الإسلام لا من قريب ولا من بعيد، وإنما هي أخطاء وانحرافات عقدية ومنهجية يتحمل أصحابها تبعاتها في الدنيا وفي الآخرة؛ {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)} (¬1). فنرجو الله تعالى أن يثيب محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم. لذلك كان ولاء السلف للسنة وعلى السنة، والبراء من البدعة ودعاتها والقائمين عليها، لمناهضتهم السنة ومفارقتها وقيامهم بخلافها، ومخالفتهم نهجها، واختلافهم عليها. "فعلى المرء المسلم إذا رأى رجلاً يتعاطى شيئاً من الأهواء والبدع معتقداً، أو يتهاون بشيء من السنن أن يهجره، ويتبرأ منه، ويتركه حياً وميتاً، فلا يسلم عليه إذا لقيه، ولا يجيبه إذا ابتدأ إلى أن يترك بدعته، ويراجع الحق. والنهي عن الهجران فوق الثلاث فيما يقع بين الرجلين من التقصير في حقوق الصحبة والعشرة دون ما كان ذلك في حق الدين؛ فإن هجرة أهل الأهواء والبدع دائمة إلى أن يتوبوا". قاله البغوي رحمه الله. (¬2) وقال أيضاً: "إن هجران أهل البدع على التأبيد، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) النحل الآية (25). (¬2) شرح السنة (1/ 224).

خاف على كعب وأصحابه النفاق حين تخلفوا عن الخروج معه، فأمر بهجرانهم إلى أن أنزل الله توبتهم، وعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - براءتهم، وقد مضت الصحابة والتابعون وأتباعهم، وعلماء السنة على هذا مجمعين متفقين على معاداة أهل البدعة، ومهاجرتهم. قال ابن عمر رضي الله عنهما لمن سأله عن القوم الخائضين في القدر: "أخبرهم أني بريء منهم، وأنهم مني برآء". (¬1) وقال أبو قلابة: لا تجالسوا أصحاب الأهواء، أو قال: أصحاب الخصومات، فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، ويلبسوا عليكم بعض ما تعرفون. وقال رجل من أهل البدع لأيوب السختياني: يا أبا بكر! أسألك عن كلمة. فولى وهو يقول بيده: ولا نصف كلمة. وقال سفيان الثوري: من سمع بدعة، فلا يحكها لجلسائه، لا يلقيها في قلوبهم (¬2). قال الشيخ: "ثم هم مع هجرانهم كفوا عن إطلاق اسم الكفر على أحد من أهل القبلة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلهم كلهم من أمته. وروي عن جماعة من السلف تكفير من قال بخلق القرآن، روي ذلك عن مالك، وابن عيينة، وابن ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1/ 8/36). (¬2) علق الإمام الذهبي رحمه الله على قول الإمام سفيان الثوري - كما في السير (7/ 261): قلت: أكثر أئمة السلف على هذا التحذير؛ يرون أن القلوب ضعيفة، والشبه خطافة.

السبب السابع: كشف عوار أهل البدع وبيان بطلان مذاهبهم:

المبارك، والليث بن سعد، ووكيع بن الجراح، وغيرهم". (¬1) السبب السابع: كشف عوار أهل البدع وبيان بطلان مذاهبهم: هذا الجمع الذي نمهد له بهذه المقدمة قد ضم بين طياته مئات الأعلام الذين زاد عددهم عن الألف، وقرابة عشرة آلاف قول أو فعل مأثور عنهم في ذم الفرق المخالفة للسنة كلها. بهذه المواقف الحميدة يتجلى بالدليل والبرهان الذي لا يبقى معه لمرتاب سبيل ارتياب، ولا لشاك متعلق تردد وحيرة، حيث اتفقت كلمة هذا الجمع الغفير من الأعلام، في شتى الأعصار، ومختلف الأمصار، وفيهم من الصحابة والتابعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين؛ مَنْ يعدل الواحد منهم أمة من الأمم، لا يعدل بعلمه وورعه تشكك شاك، وحيرة مرتاب غارق في وحل الجهل، مطمور في غيابات النسيان. وما هذه الموسوعة إلا جرد وإبراز لهذا الإجماع السلفي في كشف عوار أهل البدع، وبيان بطلان مذاهبهم، فالحمد لله. ¬

_ (¬1) شرح السنة (1/ 226 - 228).

السبب الثامن: إبراز أن السلف هم المجددون حقا:

السبب الثامن: إبراز أن السلف هم المجددون حقا: هذه المنحة الربانية التي خص الله تعالى بها أفراداً من هذه الأمة بأن جعلهم مجددين لأمر دينه في بريته، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها". (¬1) وقد ادعى هذه الرتبة لنفسه كثير من المتعالمين، وناصرو البدعة وحاملو ألوية التعصب، ولم يدع هذه الرتبة أحد من العلماء الأجلاء، ولا فقيه من الفقهاء لنفسه؛ إذ لم تكن هذه الرتبة مطمحهم ولا غاية سعيهم، وإنما كان قصدهم الدعوة إلى الله وإلى سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. جاء في عون المعبود: "إن المراد من التجديد إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة والأمر بمقتضاهما وإماتة ما ظهر من البدع والمحدثات، قال في مجالس الأبرار: والمراد من تجديد الدين للأمة إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة والأمر بمقتضاهما، وقال فيه: ولا يعلم ذلك المجدد إلا بغلبة الظن ممن عاصره من العلماء بقرائن أحواله والانتفاع بعلمه، إذ المجدد للدين لا بد أن يكون عالماً بالعلوم الدينية الظاهرة والباطنة ناصراً للسنة، قامعاً للبدعة، ¬

_ (¬1) أخرجه: أبو داود (4/ 280/4291) واللفظ له، والحاكم (4/ 522). قال الشيخ الألباني: "وسكت عنه الحاكم والذهبي، أما المناوي فنقل عنه أنه صححه، فلعله سقط ذلك من النسخة المطبوعة من المستدرك، والسند صحيح رجاله ثقات رجال مسلم" (السلسلة الصحيحة 2/ 148).

وأن يعم علمه أهل زمانه، وإنما كان التجديد على رأس كل مائة سنة لانخرام العلماء فيه غالباً، واندراس السنن وظهور البدع، فيحتاج حينئذ إلى تجديد الدين، فيأتي الله تعالى من الخلق بعوض من السلف إما واحداً أو متعدداً انتهى. وقال القاري في المرقاة: أي يبين السنة من البدعة ويكثر العلم ويعز أهله ويقمع البدعة ويكسر أهلها. انتهى. فظهر أن المجدد لا يكون إلا من كان عالماً بالعلوم الدينية، ومع ذلك من كان عزمه وهمته آناء الليل والنهار إحياء السنن ونشرها، ونصر صاحبها، وإماتة البدع ومحدثات الأمور ومحوها، وكسر أهلها باللسان أو تصنيف الكتب والتدريس أو غير ذلك، ومن لا يكون كذلك لا يكون مجدداً البتة وإن كان عالماً بالعلوم مشهوراً بين الناس، مرجعاً لهم. فالعجب كل العجب من صاحب جامع الأصول أنه عد أبا جعفر الإمامي الشيعي والمرتضى أخا الرضا الإمامي الشيعي من المجددين ... ولا شبهة في أن عدهما من المجددين خطأ فاحش وغلط بين؛ لأن علماء الشيعة وإن وصلوا إلى مرتبة الاجتهاد وبلغوا أقصى المراتب من أنواع العلوم واشتهروا غاية الاشتهار، لكنهم لا يستأهلون المجددية. كيف وهم يخربون الدين فكيف يجددون؟ ويميتون السنن فكيف يحيونها؟ ويروجون البدع فكيف يمحونها؟ وليسوا إلا من الغالين المبطلين الجاهلين، وجل صناعتهم التحريف والانتحال

السبب التاسع: إبطال دعوى التقريب بين الملل والنحل:

والتأويل، لا تجديد الدين ولا إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة. هداهم الله تعالى إلى سواء السبيل". اهـ (¬1) قلت: صدق رحمه الله؛ فإن التجديد المعتبر هو إحياء ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحق والهدى، وما ربى عليه أصحابه رضي الله عنهم أجمعين. وأما غير ذلك مما هو مخالف له فلا يعتبر تجديداً، بل هو إحداث في الدين، وتشويه لجماليته. فكم قوض أهل الكلام من جهمية ومعتزلة وأشاعرة من القواعد والأصول باسم التجديد؟! وهكذا لو تتبعت كل فرقة من الفرق لوجدت عندها الكثير من ذلك. فأحق الناس بالتجديد هم من كان أتبع للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأحفظ لسنته، وأشد تعظيماً لها، وهم السلف الصالح رضوان الله عليهم، ومن سار على منهجهم إلى يوم الدين. السبب التاسع: إبطال دعوى التقريب بين الملل والنحل: هذه الدعوى التي قام سوقها، واستوت على ساقها، في رواق منظمات أممية في التقريب بين الحضارات والأديان، وأخرى جهوية في التأليف بين الفرق والمذاهب الإسلامية، قد عقدت لأجلها ندوات ومؤتمرات، وأسست لها مجامع ومؤسسات تعنى بها وتروج لأفكارها ومبادئها، واتخذها المتزلفون ¬

_ (¬1) عون المعبود (11/ 391 - 392).

مطية للارتزاق، ووسيلة للوظائف السامية والمناصب العالية، بذلوا من أجل الدرهم دينهم، واستبدلوا بالدنيا أخراهم. بهذه الموسوعة الميسَّرة للقارئين، بما ضمته من مواقف السلف الأخيار في البراءة من الشرك وأهله، والمبتدعة على اختلاف نحلهم ومشاربهم، وتنوع فرقهم، توضح بجلاء بطلان هذه الدعوى الزائفة الرامية إلى الانسلاخ من الدين، واعتبار القيم الإنسانية فوق كل شيء، حتى الشرائع بزعمهم، المقصود بهذه الدعوى أولاً وآخراً شريعتنا المحمدية التي نسخت الشرائع قبلها، وعفَّت آثارها، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} (¬1). ثم إن ترويج الخلاف والاختلاف واعتباره أصلاً في الدين، وأن كل الفرق -الإسلامية زعموا- على اختلافها، وتضارب أفكارها، وتقاطع مساراتها، مجسَّم واحد لجسم واحد؛ وأنها كلها في تنوع متكامل، يجب أن تخضع لقول من قال "لنتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضها بعضاً فيما اختلفنا فيه". هذا القول المحدث المبتور، لم يؤثر عن واحد من الأعلام الذين أوردنا أقوالهم في وجوب الالتزام بالسنة وموالاة القائمين بها، واجتناب الشرك والمشركين، والمبتدعة والمبتدعين. ¬

_ (¬1) آل عمران الآية (85).

وقد كشفنا أصول هذه الفرق كلها، والرد عليها، ومواقف السلف منها، وبينا خطرها على الأمة، بما لا يدع مجالاً للارتياب في أمرها، في كتابنا "أهل الأهواء والبدع والفتن والاختلاف"، الذي نعمل على إعداده للطبع وإتحاف القراء الكرام به قريباً إن شاء الله تعالى، يسر الله ذلك آمين.

منهج الكتاب

منهج الكتاب شرطنا في الأعلام: هذه الموسوعة العظيمة الممهَّدة تُيَسِّرُ للناظر فيها التعرف على أئمة السلف والوقوف على تراجمهم ومواقفهم العقدية، خلا من تلبس ببدعة وعرف بها ودعا الناس إليها، وكانت له مواقف محمودة موافقة للحق أوردناها له، دون التعريف به، وهم بالمقارنة مع أعلام السنة في هذه الموسوعة نزر يسير وأقل من القليل. ويهمنا من ذكره موقفه السلفي، من باب: (الحكمة ضالة المؤمن يأخذها حيث وجدها)، وقد رأيت المحدثين يروون أحياناً عن بعض المبتدعة فيما لا يخدم بدعهم، رغم تضييقهم الشرط في الرواية، وتبعهم الأئمة كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم والذهبي رحمهم الله جميعاً. وأما أعلام السلف وهم أصل الكتاب ومعظم مادته، فنذكر اسمه ونسبه وسنة وفاته، وشيئاً من جميل أقواله، وبليغ حكمه إن تيسر. ثم نتبعه ما وقفنا عليه من مواقفه القولية أو العملية؛ المبطلة للبدع الردية، إلا إن كانت موفورة ومتعددة اصطفينا له أوضحها وأصرحها مما يمتع القارئ لها ويثلج صدره. وقد حاولنا في جمعنا هذا إيراد أكبر عدد من الأعلام الذين مضوا إلى الله تعالى، وتيسر الوقوف على مواقفهم، غير أننا لا ندعي الإحاطة بالكل، ولا بما أثر عن كل واحد منهم.

منهجنا في إيراد المواقف

هذا الجمع الذي وسع الكثير من الأعلام الذين زاد عددهم عن الألف، قد ضم بين دفتيه زبدة الكثير من كتب التراجم، والعقائد، والشروح الحديثية والفقهية، والمؤلفات الخاصة لكل إمام على حدة، كما هو مفصل في جرد تقريب المصادر المعتمدة، والذي سنذكره في بابه إن شاء الله تعالى. منهجنا في إيراد المواقف: إن مما يجدر التعريف به وتقريبه للقارئ الكريم المنهج الذي اتبعناه في انتقاء المواقف وإيرادها في الكتاب؛ إذ قد يلحظ الكل أنا قد أوردنا مواقف لأعلام من فرق ونحل لم تكن في زمانهم وإنما حدثت بعدهم بقرون. كما يلحظ أن المواقف متباينة بين تحذير صريح، وتوجيه وبيان للمعتقد الصحيح. وبالجملة فالمواقف الواردة في كتابنا هذا هي على النحو التالي: 1) الرد الصريح على فرقة من الفرق بعينها، وإبطال دعوتها. 2) الرد على أحد أفراد هذه الفرق. 3) تقرير اعتقاد السلف في مسألة خالفت فيها فرقة من الفرق. بهذا الاعتبار أوردنا أقوال كثير من الصحابة والتابعين وغيرهم من فرق لم تحدث في زمانهم؛ واعتبرناها مواقف منهم حيث استدل بها جلة العلماء في الرد على تلك الفرق أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهم رحمهم الله جميعاً.

ومن أمثلة ذلك ما جاء في السنة لعبد الله: عن ابن أبي مليكة قال: كان عكرمة بن أبي جهل يأخذ المصحف فيضعه على وجهه ويقول: "كلام ربي كلام ربي". (¬1) فاعتبرنا إثباته أن القرآن كلام الله رداً على الجهمية. ومثله ما رواه ابن بطة بسنده إلى نيار بن مكرم الأسلمي -وكانت له صحبة-، قال: لما نزلت {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2)} (¬2)، قالت قريش لأبي بكر رحمه الله: يا ابن أبي قحافة، لعل هذا من كلام صاحبك؟ قال: لا، ولكنه كلام الله عز وجل. (¬3) واعتبرنا رداً على المرجئة وموقفاً منهم ما رواه الإمام أحمد واللالكائي عن قيس بن أبي حازم قال: سمعت أبا بكر الصديق يقول: إياكم والكذب؛ فإن الكذب مجانب الإيمان. (¬4) وكذا اعتبرنا قول حنظلة الأسدي "نافق حنظلة" وقول أبي بكر له: "فوالله إنا لنلقى مثل هذا" رداً على الصوفية، حيث اعتبره أبو العباس القرطبي في المفهم (¬5) رداً على غلاة الصوفية الذين يزعمون دوام مثل تلك الحال، ولا ¬

_ (¬1) السنة لعبد الله (ص 26). (¬2) الروم الآيتان (1 و2). (¬3) الإبانة (1/ 12/1/ 271 - 273/ 41). (¬4) أصول الاعتقاد (6/ 1091/1872 - 1873) وهو في المسند للإمام أحمد (1/ 5). (¬5) (7/ 67).

ترتيب المواقف

يُعرجون بسببها على أهل ولا مال. والأمثلة في هذا كثيرة خصوصاً في شطر من المجلد الأول، فليتنبه القارئ الكريم لهذا. ترتيب المواقف: وقد صنفنا هذه المواقف بحسب الفرق التي وجه سهم النقد إليها، -حسب الشرط الذي قدمناه- نظرنا لخطرها وضررها على الإسلام والمسلمين. وهذه الفرق على التوالي هي: المبتدعة، ثم المشركون، ثم الرافضة، ثم الصوفية، ثم الجهمية، ثم القدرية، ثم الخوارج، ثم المرجئة. وقد أفردت كتاباً ضخماً في أربع مجلدات، والموسوم بـ "أهل الأهواء والبدع والفتن والاختلاف". عرفت فيه بهذه الفرق وكشفت فساد مذاهبها، وألحقت بهم المقلدة مع بيان حالهم. وتفصيلُ ذلك كله سيجده القراء الكرام في هذا الكتاب قريباً إن شاء الله تعالى. وموسوعتنا هذه التي زادت مواقف السلف فيها بمنِّ الله وكرمه على التسعة آلآف موقف، بدأت فيها بـ: موقف السلف من المبتدعة: والنكتة في ذلك أن سائر الفرق واقعة في البدعة لا محالة، وذلك أن البدع التي حدثت في الأمة منها ما يناقض التوحيد ويثلم الاعتقاد؛ وهي الأعمال

الشركية، ومنها ما يؤثر في الأفعال والأحكام والسلوك. لذلك حسن البدء بها؛ لأنها تشمل كل النحل ولا تستثنى منها واحدة؛ إذ كل الفرق مخالفة في مناهجها ومذاهبها لكتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. وقد أوردنا في مواقف السلف من المبتدعة كل ما وقفنا عليه من أقوالهم وأفعالهم في ذم البدع عموماً، والحث على التمسك بالسنة وبفهم سلف الأمة خصوصاً. ثم ثنينا بـ "موقف السلف من المشركين": وقد أوردت فيه مواقف السلف الصالح من المشركين والزنادقة، طيلة تاريخ هذه الأمة المجيدة، وذلك بإبراز مواقف العلماء من الشرك والأعمال الشركية التي وقع فيها رجال من هذه الأمة، من الطواف بالأضرحة وسؤال المقبور، والاستعانة بهم دون الله تعالى، والتمسح بالأحجار والأشجار، والكهانة والسحر، وغيرها من الأعمال الشركية التي رُفعت أعلامها، وقامت مواسمها في بقاع عديدة من بلاد الإسلام. وقد قام هؤلاء السلف الكرام مقام نبيهم عليه الصلاة والسلام -وهم ورثته بحق- في تقرير التوحيد ونبذ الشرك، وطمس معالمه، وبذلوا في تحقيق ذلك كل غال ونفيس، واسترخصوا المهج والأموال والأولاد جهاداً في سبيل الله. وفي مقدم هذه الكتيبة المباركة الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، ومن

جاء بعدهم من الأئمة والعلماء الأعلام، ومن سلك سبيلهم من الخلفاء والولاة والقضاة والملوك والحكام، في نماذج ساطعة في أفق هذه الأمة التي ستظل رايتها خفاقة بنصرة الله ودينه، والاستمساك بهدي رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ثم أتبعتها بـ: "مواقف السلف من الرافضة": هذه النحلة الدخيلة على الإسلام، اليهودية المنشأ، والفارسية المشرب، التي تبنت نشر الشرك والزندقة منذ تأسيسها، وطيلة تاريخها المشؤوم؛ هي التي شيدت المشاهد والأضرحة، وكانت أول من أحيا هذه الوثنية التي قضى عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الجزيرة العربية، ثم صحابته في خارجها وكل الفاتحين من السلف الصالح رضوان الله عليهم. ولذلك تسلطوا على الصحابة بذمهم وسبهم وتكفيرهم، بدعوى أن الصحابة حرفوا كتاب الله، وأنكروا ولاية علي رضي الله عنه. فتدثروا بولاية أهل البيت والنصرة لهم زعماً، في دعوى باهتة سيجد القارئ الكريم تفصيلها إن شاء الله في كتابنا: "أهل الأهواء والبدع والفتن والاختلاف". ثم أتبعتها بـ: "مواقف السلف من الصوفية": وذلك أن الصوفية هي امتداد طبيعي للرافضة في معظم أصولهم وطقوسهم، لا يخرجون عنها ولا يحيدون، وإنما يفارقونهم في المسميات فقط،

كما بينت ذلك بالبرهان القاطع والدليل الواضح، في كتابنا: "الأسباب الحقيقية لحرق إحياء علوم الدين". وكذلك كتابنا: "أهل الأهواء والبدع والفتن والاختلاف". فلذلك أتبعت مواقف السلف من الرافضة مواقفهم من الصوفية للصلة الوثيقة بين الفرقتين، والتداخل بين النحلتين. ثم أتبعتها بـ: "مواقف السلف من الجهمية" والمراد بالجهمية ها هنا جنس المتكلمين على اختلاف مشاربهم وتعدد فرقهم، معتزلة كانوا أو جهمية أو أفراخهما من الأشاعرة، والماتريدية، والكلابية، وغيرهم من الآرائيين الخائضين في ذات الله تعالى وأسمائه وصفاته بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. وقد سلط هؤلاء معول التحريف والتعطيل والتأويل على النصوص وانتهكوا حرماتها، والحال كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "فلو رأيتها وهم يلوكونها بأفواههم، وقد حلت بها المثلات، وتلاعبت بها أمواج التأويلات، وتقاذفت بها رياح الآراء، واحتوشتها رماح الأهواء، ونادى عليها أهل التأويل في سوق من يزيد، فبذل كل واحد في ثمنها من التأويلات ما يريد، فلو شاهدتها بينهم وقد تخطفتها أيدي الاحتمالات، ثم قيدت بعدما كانت مطلقة بأنواع الإشكالات، وعزلت عن سلطنة اليقين وجعلت تحت

حكم تأويل الجاهلين، هذا وطالما نصبت لها حبائل الإلحاد، وبقيت عرضة للمطاعن والإفساد، وقعد النفاة على صراطها المستقيم بالدفع في صدورها والأعجاز، وقالوا: لا طريق لك علينا؛ وإن كان لا بد فعلى سبيل المجاز، فنحن أهل المعقولات وأصحاب البراهين، وأنت أدلة لفظية وظواهر سمعية لا تفيد العلم ولا اليقين، فسندك آحاد وهو عرضة للطعن في الناقلين، وإن صح وتواتر ففهم مراد المتكلم منه موقوف على انتفاء عشرة أشياء لا سبيل إلى العلم بانتفائها عند الناظرين والباحثين. فلا إله إلا الله والله أكبر، كم هدمت بهذه المعاول من معاقل الإيمان، وثلمت بها حصون حقائق السنة والقرآن، وكم أطلقت في نصوص الوحي من لسان كل جاهل أخرق، ومنافق أرعن، وطرقت لأعداء الدين الطريق، وفتحت الباب لكل مبتدع وزنديق. ومن نظر في التأويلات المخالفة لحقائق النصوص؛ رأى من ذلك ما يُضْحِك عجباً، ويُبْكِي حزناً، ويثير حمية للنصوص وغضباً". اهـ (¬1) هؤلاء القوم هم الذين أفسدوا على الناس أهم مطلوب لهم في معرفة خالقهم، والتعرف على بارئهم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، وأوقعوهم في متاهة الاحتمال والجدال، والمقاييس الفاسدة. ¬

_ (¬1) الصواعق (1/ 296 - 299).

لهذا أوردنا في الموقف منهم أفراداً وجماعات أقوال أئمة السلف المبطلة لمذاهبهم، والمفندة لآرائهم، وما فيه تقريع لهم، وتقرير لمذهب السلف في هذا الباب. والله الموفق. ثم أتبعتها بـ: "مواقف السلف من الخوارج" هذه النابتة المارقة التي خرجت على الأمة بالسيف، فكفرت وقتلت ونهبت، وفعلت بالمسلمين ما يعجز القلم عن تسطيره، واللسان عن اللفظ به. وقد حذر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كثير من أحاديثه التي استقصينا صحيحها في الحديث عنهم وكشف حالهم وبيان بطلان مذهبهم في كتابنا: "أهل الأهواء والبدع والفتن والاختلاف". وقد أوردنا ضمن المواقف من الخوارج نقولاً عن كثير من السلف، وفي مقدمهم الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين وبقية العلماء المعتبرين، الذين قاموا في وجوههم، وقاوموهم وجاهدوهم بالسيف واللسان، وأبطلوا مذهبهم بالحجة والبرهان، نصحاً للمسلمين، وتذكرة للغافلين وتنبيهاً لهم عن الانغماس في مسلك هؤلاء المارقين. ثم أتبعتها بـ: "مواقف السلف من المرجئة" والمرجئة عكس الخوارج ونقيضهم في كل شيء، أولئك كفروا الناس

بالكبائر، وهؤلاء جرؤوهم على الموبقات بله الصغائر، وأقعدوهم عن الفرائض والواجبات، ولم يبق لنصوص الوعيد عندهم حرمة، ولا للأحكام مكرمة. وقد أبطل السلف مذهبهم، وقاموا على أهله بالنكير، وصاحوا على دعاته بالتحذير والتنفير والتشهير، حمية لدين الله من التضييع والتمييع الذي انتحلوه وأشربوه، وبثوه بين المسلمين. ثم ختمت بـ: "مواقف السلف من القدرية" هذه الفرقة المتقدمة الظهور التي أفسدت على الأمة عقيدتها، فأحيت مذاهب الباطل من الأعذار الإبليسية اللعينة، وعقائد المجوس والمشركين، المذمومة في كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. وخطرهم على الأمة عظيم حيث منعت طائفة منهم تدخل قدرة الله ومشيئته في أفعال العباد، وأخرى جردت العبد من إرادته ومشيئته وجعلته مجبراً على أفعاله. لهذا قام العلماء بالرد عليهم ودحض شبههم، والتحذير والتبرأ منهم، وكان صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول من صدع بذلك وأعلنه، ثم تواردت أقوال السلف ممن بعدهم في ذمهم، وإبطال معتقدهم. تنبيه: ومما ينبغي أن نلفت له نظر القارئ اللبيب الذي يعرف واقعه؛ أن هذه الفرق كلها موجودة علماً وعملاً، لها أتباع استهواهم مذهبها، وسلبهم

منهجها، وآخرون غُرِّرَ بهم فركبوا فلكها، وخاضوا بحرها، ورفعوا جهلاً أشرعتها. فكم من المعالم الشركية المنتشرة اليوم بين المسلمين، والمنظمات التنصيرية والتهويدية الساعية بينهم؟! وكم من الصحفيين العلمانين والكتاب المتجهمين، والمنابر الصوفية، والمؤسسات الرافضية، والجماعات التكفيرية الخارجية العاملة في ساحتهم؟! أما القدر فقد زلت فيه أقدام فئام من البشر، وأما الإرجاء فكاد أن يعم البلاد والعباد، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فهذه الفرق كلها لا تزال شاخصة في الوجود، وأفكارها ومبادئها ماثلة في كتب التفسير وشروح الحديث والعقيدة، وفي كتب الفرق، حتى في الصحف والجرائد، ودعاتها على الشاشات والقنوات، وفي المدارس والكليات، والمنتديات والندوات. ومما يدل على ذلك: تصدي العلماء السلفيين خلال هذا القرن والذي سبقه لهذه الفرق كلها، وردهم على دعاتها بأعيانهم وأسمائهم. وكما قيل: وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل * وقد قسمت الكتاب -في هذه الطبعة- إلى عشرة مجلدات؛ حرصت على تناسبها بأن صدرت كل واحد منها بإمام عرف بمواقفه وجهاده ودعوته للسنة

والكتاب، حتى يكون قائداً وقدوة لمن جاء بعده، وقدوة الجميع إمام المتقين وسيد المرسلين محمد - صلى الله عليه وسلم -. فالمجلد الأول: مستهل بحمزة بن عبد المطلب المتوفى سنة (3 هـ). والثاني بـ: عمر بن عبد العزيز المتوفى سنة (101 هـ). والثالث بـ: مالك بن أنس المتوفى سنة (179 هـ). والرابع بـ: أحمد بن حنبل المتوفى سنة (241 هـ). والخامس بـ: محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة (310 هـ). والسادس بـ: محمد بن إسحاق بن مَنْدَه المتوفى سنة (395 هـ). والسابع بـ: أبي محمد الحسين بن مسعود البَغَوِي توفي سنة (516 هـ). والثامن بـ: شيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى سنة (728 هـ). والتاسع بـ: محمد بن عبد الوهاب المتوفى سنة (1206 هـ). والعاشر بـ: محمد الأمين الشنقيطي المتوفى سنة (1393 هـ). وقد لاحظت في اختيار هؤلاء الأعلام نصرة الدين بالقول والعمل. فأما حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه فأول من انتصر لابن أخيه محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، لما أساء له الخبيث أبو جهل، فضرب حمزة رضي الله عنه بقوسه فشجه بها شجة منكرة، فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عز وامتنع، وأن حمزة سيمنعه. فكفوا عن بعض ما كانوا يتناولون منه. وقد كتب الله

له الشهادة في أحد، ونال شرف "سيد الشهداء" (¬1) بشهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - له بذلك. وأما عمر بن عبد العزيز رحمه الله فهو الإمام الحبر الذي جمع بين العلم والعمل، والولاية العامة، ورغم قصر مدة ولايته رضي الله عنه فقد سار في الأمة بسير جده لأمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد كان هذا الإمام السيف البتار على كل مبتدع يرفع رأسه في زمانه، ومن حسناته العظيمة أمره محمد بن شهاب الزهري بجمع السنة النبوية حفظاً لها من الضياع والتضييع. وأما الإمام مالك إمام دار الهجرة رحمه الله، فمن أوائل من وضع لبنة التأليف لإحياء السنة النبوية، وكتابه الموطأ هو أقدم وثيقة بين يدي المسلمين في جمع السنة. ومن تتبع سيرة هذا الإمام ومواقفه العقدية -التي أثبتها في مؤلف خاص وفي هذه الموسوعة- يجده بحق من أعظم ناصري التوحيد والسنة، ومن المجددين المعتبرين في هذه الأمة، وفهمه الذي يظهر في كل النصوص التي يعلق عليها في كتابه الثمين الموطأ زيادة على فتاواه وأجوبته العظيمة في الكتاب المسمى بالمدونة. وأما الإمام أحمد رحمه الله فهو إمام أهل السنة في زمانه، إذا ذكر إمام ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم (2/ 119 - 120) و (3/ 195) والطبراني في الأوسط (1/ 501 - 502/ 922) والخطيب في تاريخه (6/ 377) من طرق عن جابر رضي الله عنه. وقد صححه الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة (374).

السنة فلا ينصرف هذا الوصف في عصره وبعده إلا له، كان أمة لوحده، ناهض التجهم ورجالاته، ولاقى بسبب ذلك محناً شديدة، ثبت فيها وثبت الناس بثباته على اعتقاد أهل السنة والجماعة الذي سعت الجهمية لمحوه، فجدد للأمة أمر دينها، فجازاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً، ورحمه الله وإخوانه السلفيين الذين ساروا على منواله. وأما الإمام محمد بن جرير الطبري رحمه الله، فهو إمام المفسرين بلا منازع، وكل قائل في كتاب الله من بعده عالة عليه، جمع فيه الفنون كلها، الحديث والفقه والقراءات واللغة والمعرفة بالتاريخ. ودفاعه عن عقيدة السلف ونصرته لها، أمر لا نظير له ولا مثيل. وأما الإمام محمد بن منده رحمه الله فدفاعه عن السنة بأقواله وأفعاله أمر بارز لا خفاء فيه، وكتابه الإيمان معلمة في بابه، وكذا كتاب التوحيد فهو أكبر من ذلك وأجل، ذكر فيه من آي الكتاب والأحاديث المسندة -وعامتها في الصحيحين أو أحدهما-، الدالة على صحيح المعتقد في الربوبية الدالة على أفعاله سبحانه، وفي الأسماء والصفات. وأما الإمام البغوي رحمه الله فهو المفسر والمحدث، وكتابه شرح السنة مفخرة كبرى من مفاخر أهل السنة، نشر به السنة، وذب فيه عن المعتقد أحسن ذب، وكتابه التفسير فيه مميزات كثيرة يمتاز بها وإن كان له فيهما هنات في

التأويل، وقد بينتها في كتابي "المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات"، مع حمله للواء السنة ودفاعه عنها. وأما الإمام ابن تيمية رحمه الله فشيخ الإسلام الذي لا ينصرف هذا الإطلاق إلا إليه، الإمام المجدد المدرسة التي ارتوى منها كبار المحدثين والأئمة في زمانه ومن بعده. فما من كتاب من كتبه إلا وهو في إحياء السنة والذب عن السلفية، ولو اجتمعت الآن المراكز العلمية لم تستطع أن تنتج مثل منهاج السنة، فكيف ببقية إرثه العظيم الذي أتحف الأمة به؟! وكل أعلام الأمة من بعده عالة عليه، وامتداد لمدرسته رحمه الله. وأما محمد بن عبد الوهاب شيخ الإسلام المجدد للسنة باعتقادها الصحيح السليم بحق، بعد حقبة مظلمة اندرست فيها معالم السنة وطغت فيها البدعة والمبتدعة، وسيأتي الحديث عنها قريباً. وهو مدرسة قائمة على نشر السنة وصحيح المعتقد، ودعوته اليوم بحمد الله تعالى وسعت العالم بأسره، فرحمة الله على هذا الإمام وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً. وأما الشيخ محمد الأمين الشنقيطي فعلامة المغرب الإسلامي، وإمام المفسرين الذي أهدى للأمة "أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن" هذا

التفسير غير المسبوق إليه، زينه بالمباحث العقدية النافعة، ونفذ من خلاله سالا سيفه البتار على كل مبتدع وضال، فرحمه الله رحمة واسعة. هذا؛ وكل إمام من هؤلاء الأئمة ذكرت معهم أمثالهم ومن على منوالهم في هذه الموسوعة المباركة ويتفاوتون في ذلك بحسب ما منّ الله به عليهم، والله نسأل أن يرحمنا وإياهم، وأن يختم لنا بالحسنى. آمين. * ورتبت ذلك على سنة الوفاة؛ لأنها أضبط في الترتيب، ومن لم أقف له على سنة وفاة أثبته ضمن طبقته إن كان من المتقدمين، أو ألحقته بمن عاش في عصره أو قريب منه. وقد اجتهدت قدر الإمكان في الوقوف على الأعلام في كل الأقطار والأمصار، وأعلم علم اليقين أنه قد فاتني العدد الكثير؛ لأن الإحاطة بكل السلفيين أمر مستحيل في حقي وفي حق غيري؛ فإن هذا ليس إلا لللطيف الخبير، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم. وحسبي أنني قد ذكرت أنموذجاً لمن شاء أن يقتدي أو يأتسي، وكل واحد من هؤلاء الأعلام يحتاج إلى بسط كبير، وذلك يؤدي إلى مجلدات كثيرة

تخريج الأحاديث

ضخمة، ولكن هذا من باب قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} (¬1). وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اتقوا النار ولو بشق تمرة" (¬2). تخريج الأحاديث: وما كان من حديث خرجته ولم أَعْدُ عن الكتب السبعة إن كان فيها، إلا إن كان في أحد الكتب التي اعتنى أصحابها بالتصحيح كابن حبان وابن خزيمة والحاكم، تبعاً للحافظ ابن حجر في البلوغ؛ إذ أكتفي بهؤلاء حين الإشارة لصحته أو حسنه. أما إن كان ضعيفاً أو معلولاً فأشير لعلته مكتفياً بها عن التصريح بذلك، والله الموفق لا رب سواه. وكثير من الأحاديث قد تكرر ذكرها ضمن مواقف عدة، فأكتفي بتخريجها في أول موطن ذكرت فيه غالباً، وأحيل القارئ في المواطن الأخرى على ترجمة العلم الذي خرجت الحديث في مواقفه. وقد خرجت بعض الآثار التي تيسر الوقوف على أسانيدها، وكثير منها لم أتعرض لتحقيقها نظراً لكثرتها؛ إذ القصد هو الاستئناس بها؛ ولأن كثيراً من العلماء استدلوا بها وساقوها مساق الاستئناس، ولم يتعرضوا لها بردّ، وهي ¬

_ (¬1) البقرة الآية (265). (¬2) أخرجه أحمد (4/ 256) والبخاري (11/ 488/6540) ومسلم (2/ 703 - 704/ 1016) والترمذي (4/ 528/2415) وابن ماجه (1/ 66/185).

متشابهة في معانيها لا تكاد تجد الفرق الكبير في مدلولاتها، وقد يكون في بعضها ضعف، وذلك أني لم أشترط الصحة في كل ما أثبت، ولم أدع ذلك.

ثبت المصادر المعتمدة

ثبت المصادر المعتمدة والمادة العلمية المثبوتة في الكتاب هي مستاقة من كتب التراجم والتواريخ والسير المعتمدة عند أهل العلم، وكتب التفسير المسندة، وكتب الحديث وشروحه، وكتب العقيدة السلفية المسندة وغير المسندة. الكتب المستقرأة بكاملها - اتباع السنن واجتناب البدع للسيوطي. - اجتماع الجيوش لابن القيم. - أصول السنة لابن أبي زمنين. - إعلام الموقعين لابن القيم. - اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية. - الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية (لابن بطة). - الاستقامة لابن تيمية. - الاعتصام للشاطبي. - الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة. - البداية والنهاية لابن كثير. - البدع والحوادث للطرطوشي. - البدر الطالع للشوكاني.

- التنبيه والرد على أهل الأهواء لأبي الحسين الملطي. - التنكيل للمعلمي. - الحجة في بيان المحجة للأصبهاني. - الخطط للمقريزي. - الرد الوافر لابن ناصر الدين. - السلفية وأعلامها في موريتانيا للطيب بن عمر بن الحسين. - السنة لابن أبي عاصم. - السنة لعبد الله بن أحمد. - السنة للخلال. - الشريعة للآجري. - الفقيه والمتفقه للبغدادي. - الكفاية للخطيب. - المدخل لابن الحاج. - المنتظم في تاريخ الأمم والملوك لابن الجوزي. - إيثار الحق على الخلق لابن الوزير. - تاريخ الجبرتي. - تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند.

- تذكرة الحفاظ للذهبي. - تلبيس إبليس لابن الجوزي. - تمييز المحظوظين عن المحرومين للمعصومي. - جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر. - خلق أفعال العباد للبخاري. - درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية. - ذم الكلام للهروي. - ذم الهوى لابن الجوزي. - رياض الجنة في تراجم من لقيت أو كاتبني من الجلة لعبد الحفيظ الفاسي. - سبيل الرشاد لتقي الدين الهلالي. - سل النصال للنضال لعبد القادر بن سودة. - سير أعلام النبلاء للذهبي. - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (اللالكائي) - شرح السنة للبربهاري. - صون المنطق للسيوطي. - طبقات الحنابلة مع ذيلها. - عقيدة السلف وأصحاب الحديث لأبي عثمان الصابوني.

الكتب التي استعين بها

- علماء نجد خلال ثمانية قرون لعبد الرحمن البسام. - علماء نجد خلال ستة قرون لعبد الرحمن البسام. - مؤلفات محمد بن عبد الوهاب. - ما جاء في البدع لابن وضاح. - مختصر العلو للذهبي. - معالم الإيمان للدباغ. - مقدمة سنن الدارمي. - مقدمة شرح السنة للبغوي. - مقدمة صحيح مسلم. - منهاج السنة لابن تيمية. - ميزان الاعتدال الذهبي. الكتب التي استعين بها - الأعلام للزركلي. - الإفصاح لابن أبي هبيرة. - الحلية لأبي نعيم. - الدرر الكامنة لابن حجر. - الصارم المسلول لابن تيمية.

- العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين للفاسي. - الفتاوى الكبرى لابن تيمية. - الفكر السامي للحجوي الثعالبي. - الكامل لابن الأثير. - المعيار المعرب للونشريسي. - الموافقات للشاطبي. - تاريخ بغداد للخطيب البغدادي. - ترتيب المدارك للقاضي عياض. - دائرة المعارف الإسلامية. - روضة ابن غنام. - رياض النفوس لأبي بكر المالكي. - فتح الباري لابن حجر. - مجموع الفتاوى لابن تيمية (تتبعنا منها إحدى وعشرين مجلداً). - مختصر الصواعق لابن القيم. - معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة. - نفح الطيب للمقري التلمساني. - نقض المنطق لابن تيمية.

كتب خاصة

كتب خاصة وأما كثير من الأعلام فقد اعتمدنا على ما سطرت أيديهم في كتبهم المطبوعة وهي أكثر مما ذكرناه في الصنفين المتقدمين بكثير جداً، فجردها بهذا المقام يطول به الكتاب ويخرج المقدمة عن مقصدها، فيستغنى بإيرادها في محلها عن تكرراها ها هنا. والله من وراء القصد. كتب تراجم الأعلام - " أبجد العلوم" لصديق حسن خان. - "إتحاف الإخوان الراغبين بتراجم ثلة من علماء المغرب المعاصرين" لمحمد بن الفاطمي بن الحاج السلمي - "إتحاف النبلاء بسير العلماء" لراشد بن عثمان الزهراني. - "إتحاف ذوي العلم والرسوخ بتراجم من أخذت عنه من الشيوخ" لمحمد بن الفاطمي بن الحاج السلمي. - "إتمام الأعلام" لنزار أباظه ومحمد رياض المالح. - "الإرشاد في معرفة علماء الحديث" لأبي يعلى الخليلي. - "الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى" لأحمد بن خالد الناصري. - "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" لابن عبد البر. - "أسد الغابة في معرفة الصحابة" لابن الأثير.

- "الإصابة في معرفة الصحابة" لابن حجر العسقلاني. - "الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام" للعباس بن إبراهيم السملالي. - "أعيان العصر وأعوان النصر" للصفدي. - "إنباء الغمر بأبناء العمر في التاريخ" لابن حجر العسقلاني. - "الانتقاء من فضائل الأئمة الفقهاء" - "الأنساب" للسمعاني. - "البداية والنهاية" لابن كثير. - "البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن التاسع" للشوكاني. - "التاج المكلل" لصديق حسن خان. - تاريخ ابن معين. - "تاريخ الإسلام" للذهبي. - "التاريخ الإسلامي" لمحمود شاكر. - "تاريخ الملوك والأمم" للطبري. - "التاريخ الكبير" للبخاري. - "تاريخ المخلاف" السليماني. - تاريخ المملكة العربية السعودية.

- "تاريخ بغداد" أو "مدينة السلام" للخطيب البغدادي. - تاريخ خليفة بن خياط. - "تاريخ دمشق" لابن عساكر. - "تاريخ علماء الأندلس" لابن الفرضي. - "تتمة الأعلام" لمحمد خير رمضان يوسف. - "تذكرة الحفاظ" للذهبي. - "ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك" للقاضي عياض. - "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي. - "تهذيب التهذيب" لابن حجر العسقلاني. - "تهذيب الكمال" للمزي. - "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم الرازي. - "الجواهر المضيئة". - "حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة" للسيوطي. - "حلية الأولياء" لأبي نعيم الأصبهاني. - "الدر المنضد في ذكر أصحاب الإمام أحمد" للعليمي. - "الدرر السنية في الأجوبة النجدية". - "الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة" لابن حجر العسقلاني.

- "الديباج المذهب في أعيان علماء المذهب" لابن فرحون المالكي. - "ذيل الدرر الكامنة" لابن حجر العسقلاني. - "ذيل تذكرة الحفاظ" لأبي المحاسن الحسيني الدمشقي. - "ذيل طبقات الحنابلة" لابن رجب. - روضة ابن غنام "تاريخ نجد المسمى: روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام في تعداد غزوات ذوي الإسلام" لحسين بن غنام. - "رياض النفوس في طبقات علماء القيروان وإفريقية" لأبي بكر عبد الله بن محمد المالكي. - "السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة" لمحمد بن عبد الله النجدي. - "سل النصال للنضال" لعبد السلام بن عبد القادر بن سودة. - "السلفية وأعلامها في موريتانيا" للشيخ الطيب بن عمر بن الحسين. - "السلوك في معرفة دول الملوك" للمقريزي. - "سير أعلام النبلاء" للذهبي. - "شجرة النور الزكية في طبقات المالكية" لمحمد مخلوف. - "شذرات الذهب في أخبار من ذهب" لابن عماد الحنبلي. - "الضوء اللامع لأهل القرن التاسع" للسخاوي. - "الطبقات الكبرى" لابن سعد.

- "طبقات الحفاظ" للسيوطي. - "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي. - "طبقات الفقهاء الشافعيين" لابن كثير. - "طبقات النحويين واللغويين". - طبقات خليفة ابن خياط. - "العبر في خبر من غبر" للذهبي. - "عجائب الآثار" (تاريخ الجبرتي). - "العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين" لتقي الدين الفاسي. - "علماء نجد خلال ستة قرون" لعبد الرحمن البسام. (¬1) - "علماء نجد خلال ثمانية قرون" لعبد الرحمن البسام. - "غاية النهاية في طبقات القراء" لابن الجزري. - "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي" للحجوي الثعالبي. - "فهرس الفهارس" لعبد الحي الكتاني. - "الفهرست" لابن النديم. - "فوات الوفيات" لمحمد شاكر الكتبي. - "الكامل في التاريخ" لابن الأثير. ¬

_ (¬1) نميزه عن الذي بعده بـ: "علماء نجد".

- "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون" لحاجي خليفة. - "كوكبة من أئمة الهدى" للقريوتي. - "لسان الميزان" لابن حجر العسقلاني. - "المستدرك على معجم المؤلفين" لعمر رضا كحالة. - "مشاهير علماء الأمصار وأعلام فقهاء الأقطار" لابن حبان البستي. - "معالم الإيمان" للدباغ. - "المعجب في تلخيص أخبار المغرب" لعبد الواحد المراكشي. - "معجم الشيوخ أو رياض الجنة" لعبد الحفيظ الفاسي. - "معجم المؤلفين" لعمر رضا كحالة. - معجم شيوخ الذهبي. - "معرفة القراء الكبار" للذهبي. - "المعرفة والتاريخ" للفسوي. - "المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد" لابن مفلح. - "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم" لابن الجوزي. - "ميزان الاعتدال" للذهبي. - "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" ليوسف بن تغري بردي. - "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" للمقري.

كتب مفردة في تراجم خاصة

- "نيل الوطر في تراجم رجال اليمن في القرن الثالث عشر" لمحمد اليمني المعروف بزباره. - "هدية العارفين في أسماء المؤلفين وآثار المصنفين" لإسماعيل باشا البغدادي. - "الوافي بالوفيات" للصفدي. - "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان" لابن خلكان. كتب مفردة في تراجم خاصة - " ابن عثيمين الإمام الزاهد" للدكتور ناصر بن مسفر الزهراني. - "الرد الوافر على من زعم بأن من سمى ابن تيمية شيخ الإسلام كافر". لابن ناصر الدين الدمشقي. - "المقتصد من حياة الشيخ أبي يوسف عبد الرحمن عبد الصمد" لإبراهيم الساجر. - "إمام العصر سماحة الشيخ الإمام العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز" للدكتور الزهراني. - "ترجمة أبي عبد الرحمن مقبل بن هادي الوادعي" بقلمه. - "ترجمة الشيخ عبد الله البسام" بقلم ابنه خالد البسام. - "حياة الألباني وآثاره وثناء العلماء عليه" للشيباني. - "صفوت الشواذفي في ركب العلماء" لأحمد سليمان. - "مختصر ترجمة فضيلة الشيخ محمد أمان الجامي" لمصطفى بن عبد القادر الفلاني.

مجلات

- "نزهة الأنفس في سيرة الشيخ عبد السلام بن برجس" لأبي قرة فريد المرادي. مجلات - مجلة التوحيد المصرية. - مجلة الجندي المسلم التي تصدر عن وزارة الدفاع السعودية. - مجلة الفرقان المغربية. - مجلة الفرقان الكويتية. - مجلة المجاهد. باكستان.

ثمرات هذه الدراسة

ثمرات هذه الدراسة: 1 - تصدي أهل كل عصر للبدع التي فيه: مصداقاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" (¬1). قال ابن القيم رحمه الله: "الحمد لله الذي أقام في أزمنة الفترات من يكون ببيان سنن المرسلين كفيلاً، واختص هذه الأمة بأنه لا تزال فيها طائفة على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمره ولو اجتمع الثقلان على حربهم قبيلاً، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، ويحيون بكتابه الموتى، فهم أحسن الناس هدياً وأقومهم قيلاً. فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، ومن ضال جاهل لا يعلم طريق رشده قد هدوه، ومن مبتدع في دين الله بشهب الحق قد رموه، جهاداً في الله، وابتغاء ¬

_ (¬1) أخرجه: أحمد (5/ 278 - 279) ومسلم (3/ 1523/1920 [170]) واللفظ له، وأبو داود (4/ 450 - 452/ 4252) والترمذي (4/ 437/2229)، وابن ماجه (1/ 5 - 6/ 10) وفي: (2/ 1304/3952). كلهم من طرق عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فذكره. قال الترمذي: "وهذا حديث حسن صحيح سمعت محمد بن إسماعيل يقول: سمعت علي بن المديني يقول: وذكر هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق فقال علي: هم أهل الحديث".

2 - التأريخ للبدع وزمن ظهورها

مرضاته، وبياناً لحججه على العالمين وبيناته، وطلباً للزلفى لديه ونيل رضوانه وجناته، فحاربوا في الله من خرج عن دينه القويم، وصراطه المستقيم، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا أعنة الفتنة، وخالفوا الكتاب، واختلفوا في الكتاب، واتفقوا على مفارقة الكتاب، ونبذوه وراء ظهورهم، وارتضوا غيره عنه بديلاً". (¬1) 2 - التأريخ للبدع وزمن ظهورها: وذلك أن السلف رضوان الله عليهم قاموا في وجه البدع حين ظهورها، فحذروا منها ومن دعاتها، والمنتسبين إليها. فحين تتوالى أقوال أهل العلم في حقبة زمنية في بدعة ما، يدل دلالة قاطعة على أن ظهور هذه البدعة وذيوع أمرها وانتشارها كان فيها، بهذا الاعتبار والاستقراء لمواقف السلف من البدع يمكن التأريخ لظهور كل بدعة على حدة، وزمن انتعاشها: فالخوارج والرافضة ظهرتا بعد قضية التحاكم، فكان للأولى صولة بعد ظهورهم إلى أواخر القرن الأول وأوقات متقطعات في الثاني. وأما الرافضة فاستمر أمرهم إلى أن تفرقت كلمتهم فصاروا زيدية ورافضة، إلى أن علت رايتهم وقويت شوكتهم مع القرامطة والعبيديين ¬

_ (¬1) مفتاح دار السعادة (1/ 103 - 104).

3 - وحدة مواقف السلف من الفرق المخالفة عبر التاريخ

وأذيالهم. من القرن الثالث إلى الخامس. ثم خمد وهجها إلى أن نفخ الخميني في رمادها وأضرم نارها واشتد لهيبها أوائل هذا القرن، ولا تزال تلفح وجوه أهل السنة بأرض فارس والعراق. وأما القدرية: فأول موقف مأثور عن السلف في رد بدعتهم هو موقف عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما المسطور في حديث جبريل في صحيح مسلم. وقد بردت نارهم مع أواسط القرن الثاني. وأما المرجئة فأرخ ظهورهم بفتنة ابن الأشعث أواخر القرن الأول، واستقرار أمرها بالكوفة أدى لانحصارها في الأحناف غالباً. وأما الجهمية وأهل الكلام فلم يمكّن لهم إلا أواخر القرن الثاني الذي استطار أمرهم ومكن لهم. وأما الصوفية فأُثر ذمهم في القرن الثالث الهجري وامتد أمرهم إلى اليوم حيث تظافرت أقوال الأئمة في الرد عليهم وكشف مخالفاتهم. 3 - وحدة مواقف السلف من الفرق المخالفة عبر التاريخ: إن الناظر المتمعن والقارئ المتفهم فيما ذكرناه في هذه المسيرة المباركة الطيبة من أئمة وأعلام على اختلاف أزمنتهم، وتنوع أقطارهم، وتباين مذاهبهم الفقهية، يجد أن كلمتهم واحدة، ومواقفهم متطابقة من هذه الفرق

المخالفة للسنة، وكأن القوم اجتمعوا في صعيد واحد، وأصدروا بياناً واحداً، على لسان رجل واحد، يقررون فيه وجوب الأخذ بالكتاب والسنة، ومتابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الأحكام والعقائد، تأسياً بالصحب الكرام الذي حازوا رضا الرب سبحانه بكمال التسليم لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -. قال أبو المظفر السمعاني: "ومما يدل على أن أهل الحديث هم على الحق أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم، قديمهم وحديثهم مع اختلاف بلدانهم وزمانهم وتباعد ما بينهم في الديار، وسكون كل واحد منهم قطراً من الأقطار؛ وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة ونمط واحد، يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد وفعلهم واحد لا ترى بينهم اختلافاً ولا تفرقاً في شيء ما وإن قل، بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم، وجدته كأنه جاء من قلب واحد، وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا؟ قال الله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} (¬1)، وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ¬

_ (¬1) النساء الآية (82).

فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (¬1). وأما إذا نظرت إلى أهل الأهواء والبدع رأيتهم متفرقين مختلفين وشيعاً وأحزاباً، لا تكاد تجد اثنين منهم على طريقة واحدة في الاعتقاد، يبدع بعضهم بعضاً، بل يترقون إلى التكفير، يكفر الابن أباه، والرجل أخاه، والجار جاره. تراهم أبداً في تنازع وتباغض واختلاف، تنقضي أعمارهم ولما تتفق كلماتهم، {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)} (¬2). أو ما سمعت أن المعتزلة مع اجتماعهم في هذا اللقب يكفر البغداديون منهم البصريين، والبصريون منهم البغداديين، ويكفر أصحاب أبي علي الجبائي ابنه أبا هاشم، وأصحاب أبي هاشم يكفرون أباه أبا علي. وكذلك سائر رؤوسهم وأرباب المقالات منهم، إذا تدبرت أقوالهم رأيتهم متفرقين يكفر بعضهم بعضاً، ويتبرأ بعضهم من بعض. وكذلك الخوارج والروافض فيما بينهم وسائر المبتدعة بمثابتهم، وهل على الباطل دليل أظهر من هذا؟ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} (¬3). ¬

_ (¬1) آل عمران الآية (103). (¬2) الحشر الآية (14). (¬3) الأنعام الآية (159).

4 - تميز الأئمة الأعلام بشمولية مواقفهم من كل الفرق

وكان السبب في اتفاق أهل الحديث؛ أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة وطريق النقل، فأورثهم الاتفاق والائتلاف. وأهل البدعة أخذوا الدين من المعقولات والآراء، فأورثهم الافتراق والاختلاف؛ فإن النقل والرواية من الثقات والمتقنين قلما يختلف، وإن اختلف في لفظ أو كلمة فذلك اختلاف لا يضر الدين ولا يقدح فيه. وأما دلائل العقل فقلما تتفق؛ بل عقل كل واحد يري صاحبه غير ما يرى الآخر، وهذا بين والحمد لله .. ". (¬1) 4 - تميز الأئمة الأعلام بشمولية مواقفهم من كل الفرق: إن المتأمل فيما أوردناه في موسوعتنا هذه من المأثور عن الأئمة الأعلام المشهورين بين المسلمين عامهم وخاصهم، يجد أن مواقفهم قد تنوعت، والأقوال المأثورة عنهم تعددت، في تقرير العقيدة السلفية وإبطال العقائد الخلفية، على اختلاف مشاربها وتنوع مضاربها، وتميزت مواقفهم بالشمولية من الفرق كلها إلا النادر القليل منهم، لم تسلم فرقة من نقدهم نصحاً للمسلمين، وانتصاراً لسنة سيد المرسلين. ¬

_ (¬1) الحجة في بيان المحجة (2/ 222 - 233)، وقد أورده ابن القيم في الصواعق (المختصر ص. 570 - 576)، وأورد معظمه السيوطي في صون المنطق (165 - 170).

5 - إن القرون: التاسع والعاشر والحادي عشر؛ كانت حقبة مظلمة في التاريخ الإسلامي

5 - إن القرون: التاسع والعاشر والحادي عشر؛ كانت حقبة مظلمة في التاريخ الإسلامي: لقد كتب غير واحد عن تاريخ العقيدة على طريق الإجمال؛ منهم العلامة ابن القيم رحمه الله والإمام الذهبي في تاريخه وسيره، وكذلك المقريزي في خططه، والذي يظهر بالاستقراء والتتبع أن القرون الأولى بداية من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم كانت سلسلة متصلة بعلماء الحديث والسنة الذين حملوا صحيح المعتقد من جيل إلى جيل. وإن كان قد وقعت عقبات في التاريخ كان لها الأثر السيئ على المسيرة العقدية الصحيحة، كما حدث في عهد المأمون وإخوانه الذين تبنوا الفكر الجهمي، وكذلك ما قام به ورثة المجوس الرافضة من محاولات متعددة آخرها إسقاط الخلافة العباسية التي كانت مؤامرة من أعداء الله المجوس، وكذلك محاولاتهم في المغرب وفي مصر كما ذكر الدباغ في معالم الإيمان، والمقريزي في خططه، وغيرهم ممن كتب في التاريخ، فكل هؤلاء الزنادقة كان لهم دور كبير في صد الناس عن السنة وأهلها، وقتل العلماء وسجنهم وتعذيبهم، وتهديدهم بأنواع التهديدات. ولما جاء شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أواخر القرن السابع وأوائل الثامن؛ أحيى الله به ما اندرس من السنة، ومثل التجديد بحق، فجدد الله به القرآن والسنن، وكان له تلامذة بررة فحول حملوا علمه ودعوته، كالحافظ ابن القيم والحافظ الذهبي والحافظ ابن كثير، والإمام المزي صاحب تهذيب

الكمال، وغيرهم من تلامذته وزملائه. ولكن بعد انقراض تلامذة شيخ الإسلام وزملائه في القرن الثامن؛ ظهرت ثغرة كبيرة؛ فضعف حال المسلمين وتغلب عليهم أعداؤهم في المشرق والمغرب، وما بقيت رقعة في العالم الإسلامي إلا وملئت بالطوائف والزوايا، وظهر التصوف وأمسى منقبة عندهم، وبرجاله أشاد السخاوي وانتشى في "الضوء اللامع". كما حمل لواء علم الكلام باسم الأشعرية والماتريدية، أو نصرة الاعتزال ومنهاج جهم في بعض البلاد كاليمن وبعض بلاد فارس وبعض البلاد التي تنتسب إلى العرب، وإن ظهرت مدرسة الحافظ العراقي التي امتدت وظهر منها الحافظ ابن حجر وبعض الحفاظ الكبار، فإن همها كان هو العناية بصناعة الحديث دون التصدي للدفاع عن المعتقد الصحيح؛ بل وقع كثير من هؤلاء في التأويل والتصوف. فهذه المدة إلى زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب كانت حقبة مظلمة ولم يعرف فيها من العلماء الأجلاء الدآبين عن المعتقد الصحيح إلا النزر اليسير الذين ذكرناهم، ممن بلغنا خبره أو كتابه.

6 - انتعاش الدعوة السلفية مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب

6 - انتعاش الدعوة السلفية مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب: وأما بعد هذه الحقبة المظلمة فأشرقت أنوار شمس السنة في ديار نجد المباركة، فبدأت بالشيخ الإمام المصلح المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه، ويسر الله له دولة الخير دولة آل سعود، التي نصر الله بها السنة وامتد خيرها فيما بعد إلى كل أرجاء المعمورة، فتنورت اليمن على قربها، وبعض علماء العراق الذين ظهر تأثرهم بالشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، ووصل ذلك إلى السند والهند فظهر في كل مكان علماء اقتنعوا بدعوة الشيخ الإمام. وتأسست جمعية أنصار السنة المحمدية بمصر برئاسة الشيخ حامد الفقي رحمه الله، وكانت من آثار هذه الدعوة المباركة، وكان لهذه الجمعية من الخير ما لا يحصيه إلا الله. وتأسست جمعية أنصار السنة بالسودان وكان لها من الأثر الطيب ما يعرفه كل من تتبع تلك الدعوة المباركة. وزار ابن ملك المغرب سليمان العلوي تلك البلاد، فنقل منها تلك الدعوة إلى بلاد المغرب. وتأسست جمعية العلماء بالجزائر وكان لها أثر كبير في إحياء التوحيد والتحذير من الشرك. أما اليوم فعلماء السنة والتوحيد كثر بحمد الله تعالى أينما ذهبت وحيثما

7 - إبراز مواقف أعلام المذاهب المعروفة في إبطال البدع

يممت، وآثارهم وأياديهم البيضاء في نصرة الحق ظاهرة جلية، ولله الحمد والمنة. 7 - إبراز مواقف أعلام المذاهب المعروفة في إبطال البدع: لقد ساخت أقدام كثير من أتباع المذاهب الأربعة في وحل البدع العلمية والعملية، وتلطخت أيديهم وقلوبهم بدرنها، وأضحوا حماة لحياضها، ودعاة لمواردها باسم المذهب وثوابته، وهم أبعد الناس عن إمامهم الذي ينتسبون إليه؛ وأعلام مذهبهم الذي يستمسكون به. برهان صدقِ قولنا ما سطرناه في كتابنا هذا عن الأئمة الأربعة وغيرهم، من أقوالهم وأفعالهم ومؤلفاتهم وتصريحاتهم الواضحة البليغة في نبذ البدع كلها، علميها وعمليها، وكذا الشأن في أتباعهم من أعلام مذاهبهم، وقد بلغ تعداد أعيان المالكية الرادين للبدع العملية دون العلمية في موسوعتنا هذه زهاء سبعين علماً، وأمثالهم في بقية المذاهب الأربعة كثير، وإن كنا لم نتقصد إحصاءهم وتعدادهم. فما بال خلفهم اليوم رافعين ألوية البدعة، شاهرين سيوفهم في صدر السنة وأتباعها؟!! فالحق الذي لا مرية فيه أن أولى الناس بهؤلاء الأئمة هم السلفيون الذين يعتصمون بقولهم في وجوب اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخضوع لقوله، وأنه حق، وأن كل قول منهم خالف الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم عنه راجعون، وبما

8 - رد زعم القائل أن السلفية بالمغرب حادثة مع الشيخ تقي الدين الهلالي

صح عنه قائلون، وأن كل واحد يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي - صلى الله عليه وسلم -. فأين أدعياء اتباع الأئمة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله حيث يلزمون الناس ويوجبون عليهم الاقتداء بهم، ويمنعون الخروج عن مذاهبهم، ثم هم سوغوا لأنفسهم الخروج عن هؤلاء الأئمة في المعتقد والسلوك، فاعتنقوا خلاف معتقد أئمتهم الذي هو معتقد السلف الأخيار، وتفرقت سبلهم، وتنوعت مشاربهم بين جهمي جلد، أو ماتريدي وأشعري متردد، متذبذب بين اعتقاد السلف والاعتزال لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، واصطفوا لأنفسهم -دون أئمتهم- سلوك الجنيد وحلول ابن عربي. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. 8 - رد زعم القائل أن السلفية بالمغرب حادثة مع الشيخ تقي الدين الهلالي: هذه الدعوى المغرضة في عرضها، توغر صدر السلطان نحو الدعوة السلفية ودعاتها وأبنائها، بهذا البلد الحبيب؛ لأن الحقائق التاريخية، والآثار الخطية التي دونت بمداد العز والشرف مواقف لملوك وعلماء سلفيين ببلدنا الكريم، وأقوالهم وكتبهم تشهد ببطلان وزيف هذا الزعم المدعى، والكذب البراق المفترى. لقد ظل أهل المغرب على اعتقاد السلف منذ دخولهم في الإسلام إلى أن

حُرِّف اعتقادهم تحت وطأة التهديد والقتل من ابن تومرت الذي فرض الأشعرية بلبوس الرفض في ادعاء المهدوية، وقد نص على هذا غير واحد من المؤرخين وعلماء المغرب المعتبرين: قال الشيخ عبد الحفيظ الفاسي: "ذكر أهل التاريخ أن أهل المغرب كانوا في الأصول والمعتقدات بعد أن طهرهم الله تعالى من نزغة الخارجية أولاً والرافضية ثانياً على مذهب أهل السنة، مقلدين للصحابة ومن اقتفى أثرهم من السلف الصالح وأهل القرون الثلاثة الفاضلة، في الإيمان بالمتشابه وعدم التعرض له بالتأويل، مع اعتقاد التنزيه، كما جرى عليه الإمام ابن أبي زيد القيرواني في عقيدته، واستمر الحال على ذلك إلى أن ظهر محمد بن تومرت الملقب نفسه بالإمام المعصوم أو مهدي الموحدين، وذلك في صدر المائة السادسة، فرحل إلى المشرق، وأخذ عن علمائه مذهب المتأخرين من أصحاب الإمام أبي الحسن الأشعري من الجزم بعقيدة السلف مع تأويل المتشابه من كلام الله تعالى وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتخريجه على ما عرف في كلام العرب من فنون مجازاتها وضروب بلاغتها، ومزج ذلك بما كان ينتحله من عقائد الخوارج والشيعة والفلاسفة، حسبما يُعلم ذلك أولاً بمعرفة كتب الإمام أبي الحسن الأشعري كالإبانة في أصول الديانة وغيرها التي ينصر فيها مذهب السلف، وبمعرفة كتب الجهابذة من أتباعه الذين اقتدوا به في ذلك كإمام الحرمين، وثانياً

بإمعان النظر في أقوال وأفعال وأحوال ابن تومرت وخلفائه من بعده، ثم عاد ابن تومرت إلى المغرب بهذه العقيدة المختلطة المدلسة الفاسدة، وألف فيها التآليف العديدة هو وأتباعه، ودعا الناس إلى سلوكها، وجزم بتضليل من خالفها، بل وتكفيره. وسمى أصحابه بالموحدين تعريضاً بأن من خالف عقيدته ليس بموحد؛ بل مجسم مشرك، وجعل ذلك ذريعة إلى الانتزاء على مُلك المغرب حسبما هو معلوم، فقاتل على عقيدته، واستباح هو وخلفاؤه لأجلها دماء مئات الآلاف من الناس وأموالهم حتى تمكنت من عقول الناس بالسيف، ونبذوا ما كان عليه سلفهم الأول، وأقبلوا كافة على تعاطي هذا المذهب، وقام العلماء بتقريره وتحريره درساً وتأليفاً، والناس على دين ملوكهم". (¬1) وقال الشيخ عبد الرحمن النتيفي المغربي عن فتنة العبيدين وبدعتهم: "ثم انجلت ظلمتها واستضاء المسلمون بنور السنة ومذهب السلف، حتى ظهر فيهم في أوائل القرن السادس محمد بن تومرت المهدي، تلميذ أبي حامد الغزالي، فملأ أرضهم بمعارضة العقل للوحي، واشتهر مذهب شيخه الغزالي في هذه البقاع، وسمى من خالفه من علماء المغرب وملوكهم وجمهورهم مجسمة، وقاتلهم على ذلك، وسمى أتباعه الموحدين، وفي ذلك يقول الحفيد ابن رشد: ولما ظهر أبو حامد طم الوادي على القرى، ثم لم يزل أهل المغرب في ¬

_ (¬1) الآيات البينات (ص. 24 - 25).

دولة الموحدين وبني مرين بعدهم وغيرهم آخذين بمذهبه. وآخذ بمذهب السلف وهم القليل، حتى كانت دولة سيدي محمد بن عبد الله العلوي، فعانق مذهب السلف هو وخواصه، وأظهره للجمهور، وهكذا ابنه أبو الربيع المولى سليمان كما تقدم. وأما أهل المشرق فبعث الله عليهم في خلال هذه الدعوة عبادًا له أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار، وهم التتار، ثم تيمور، ثم نيضت نابغة أيضاً تدعوا إلى معارضة النقل بالعقل، فقيض الله لهم شيخ الإسلام الحراني وأصحابه، فكانوا يناضلون بسيف الحجة عن مذهب أهل السنة، ثم اختلط الأمر بعد ذلك ومرج، فمن آخذ بمذهب هؤلاء، ومن آخذ بمذهب هؤلاء. وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله" (¬1)." اهـ (¬2) وهذا الذي قرره الشيخ النتيفي رحمه الله وغيره من العلماء ثابت موثق بمصادره والقائلين به خلافاً للدعوى العرية التي نحن بصدد إبطالها. ونقدم للقراء الكرام مثالاً واحداً من ملوك المغرب وهو السلطان محمد بن عبد الله العلوي المتوفى (1204 هـ) وكان مالكي المذهب، حنبلي الاعتقاد، مقتفياً نهج ¬

_ (¬1) أخرجه: أحمد (4/ 244) والبخاري (13/ 542/7459) ومسلم (3/ 1523/1921) من حديث المغيرة بن شعبة. وفي الباب عن غيره من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. (¬2) نظر الأكياس (96 - 70) مخطوط يعمل على تحقيقة بعض طلبتنا.

السلف أصحاب الحديث: جاء في الفكر السامي: "إنه أول من أدخل المسانيد الأربعة للمغرب من الحرم الشريف يعني ما عدا الموطأ، وافتتحه -أي كتاب "الفتوحات الإلهية في أحاديث خير البرية"- بعقيدة رسالة ابن أبي زيد ... وقد كان سلفي العقيدة على مذهب الحنابلة كما صرح بذلك في تآليفه ... ومن مآثره أنه كان يحض على قراءة كتب المتقدمين وينهى عن المختصرات، ويرى الرجوع للكتاب والسنة؛ ولو عملوا برأيه لارتقى علم الدين إلى أوج الكمال. (¬1) وفي الاستقصا: "وكان السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله ينهى عن قراءة كتب التوحيد المؤسسة على القواعد الكلامية المحررة على مذهب الأشعرية رضي الله عنهم، وكان يحض الناس على مذهب السلف من الاكتفاء بالاعتقاد المأخوذ من ظاهر الكتاب والسنة بلا تأويل، وكان يقول عن نفسه حسبما صرح به في آخر كتابه الموضوع في الأحاديث المخرجة من الأئمة الأربعة: إنه مالكي مذهباً حنبلي اعتقاداً، يعني أنه لا يرى الخوض في علم الكلام على طريقة المتأخرين، وله في ذلك أخبار". (¬2) - وفيه: "ومن عجيب سيرته رحمه الله أنه كان يرى اشتغال طلبة العلم ¬

_ (¬1) (2/ 293 - 294). (¬2) (8/ 68).

بقراءة المختصرات في فن الفقه وغيره وإعراضهم عن الأمهات المبسوطة الواضحة تضييع للأعمار في غير طائل، وكان ينهى عن ذلك غاية. ولا يترك من يقرأ مختصر خليل ومختصر ابن عرفة وأمثالهما. ويبالغ في التشنيع على من اشتغل بشيء من ذلك، حتى كاد الناس يتركون قراءة مختصر خليل، وإنما كان يحض على كتاب الرسالة والتهذيب وأمثالهما، حتى وضع في ذلك كتاباً مبسوطاً أعانه عليه أبو عبد الله الغربي وأبو عبد الله المير وغيرهما من أهل مجلسه. ولما أفضى الأمر إلى السلطان العادل المولى سليمان رحمه الله صار يحض الناس على التمسك بالمختصر، ويبذل على حفظه وتعاطيه الأموال الطائلة، والكل مأجور على نيته وقصده. (¬1) قال صاحب الاستقصا: "إنا نقول: الرأي ما رأى السلطان سيدي محمد رحمه الله، وقد نص جماعة من أكابر الأعلام النقاد مثل الإمام الحافظ أبي بكر ابن العربي، والشيخ النظار أبي إسحاق الشاطبي، والعلامة الواعية أبي زيد عبد الرحمن بن خلدون وغيرهم، أن سبب نضوب ماء العلم في الإسلام ونقصان ملكة أهله فيه إكباب الناس على تعاطي المختصرات الصعبة الفهم، وإعراضهم عن كتب الأقدمين المبسوطة المعاني، الواضحة الأدلة، التي تحصل لمطالعها الملكة في أقرب ¬

_ (¬1) (8/ 67).

مدة، ولعمري لا يعلم هذا يقيناً إلا من جربه وذاقه. اهـ (¬1) وجاء في "النبوغ المغربي" لعبد الله كنون: "أصدر مرسوماً ملكياً سنة ثلاث ومائتين وألف للهجرة في إصلاح المنهج التعليمي بالمغرب، وألزم العلماء والوعاظ به، وتوعد بالعقوبة كل من خالفه، ومما قال فيه: "ومن أراد علم الكلام فعقيدة ابن أبي زيد رضي الله عنه كافية شافية يستغني بها جميع المسلمين". ثم قال: "ومن أراد أن يخوض في علم الكلام والمنطق وعلوم الفلاسفة وكتب غلاة الصوفية وكتب القصص؛ فليتعاط ذلك في داره مع أصحابه الذين لا يدرون بأنهم لا يدرون، ومن تعاطى ما ذكرنا في المساجد ونالته عقوبة فلا يلومن إلا نفسه، وهؤلاء الطلبة الذين يتعاطون العلوم التي نهينا عن قراءتها، ما مرادهم بتعاطيها إلا الظهور والرياء والسمعة، وأن يُضلوا طلبة البادية؛ فإنهم يأتون من بلدهم بنية خالصة في التفقه في الدين وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحين يسمعونهم يدرسون هذه العلوم التي نهينا عنها؛ يظنون أنهم يحصلون على فائدة بها، فيتركون مجالس التفقه في الدين واستماع حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإصلاح ألسنتهم بالعربية، فيكون ذلك سبباً في ضلالهم". (¬2) فمن أعلام السلفية بالمغرب قبل الشيخ تقي الدين الهلالي أو من عاصره: ¬

_ (¬1) الاستقصا (8/ 67). (¬2) ص (277).

- السلطان سليمان بن محمد بن عبد الله العلوي، أبو الربيع (1238 هـ). - عبد الله بن إدريس بن محمد بن أحمد السنوسي، أبو سالم (1350 هـ). - عبد السلام السرغيني (1354 هـ). - السلطان عبد الحفيظ بن الحسن العلوي أبو المواهب (1356 هـ). - أبو شعيب الدكّاليّ (1356 هـ) وكان وزيراً للعدل. - عبد الحفيظ بن محمد الطاهر بن عبد الكبير الفاسي الفهري (1383 هـ). - ابن المؤقت محمد بن محمد بن عبد الله المؤقت المراكشي (1368 هـ). - محمد بن العربي العلوي (1384 هـ) وكان وزيراً للعدل أيضاً. - عبد الرحمن بن محمد بن إبراهيم النتيفي (1385 هـ). - محمد بن اليمني الناصري (1391 هـ). - محمد الجزولي (1393 هـ). - صهيب بن محمد الزمزمي بن الصديق الغماري (بعد 1397 هـ). - محمد بن محمد بن العربي كنوني المذكوري (1398 هـ) وكان رحمه الله عضواً بارزاً في الأمانة العامّة لرابطة علماء المغرب. - أحمد الخريصي (بعد 1403 هـ). - عبد الله كنون رئيس رابطة علماء المغرب وأمينها العام. (1409 هـ). - أحمد بن محمد بن عمر ابن تاويت التطواني (1414 هـ).

وهؤلاء ممن تيسر الوقوف على مواقفهم التي ضمناها موسوعتنا هذه وعامتها في المجلدين التاسع والعاشر. وختاماً: هذا ما تيسر بسطه في هذه المقدمة للتعريف بهذه الموسوعة المباركة، التي سنعمل إن شاء الله تعالى على وضع تتمات وزوائد ومستدركات عليه، إن كتب الله في العمر فسحة. والله أسأل أن ينفع بها، وأن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه، وأن يجزي أبوي وأم سهل رفيقة العمر -والتي كانت خير سند لنا في المسيرة الدعوية والعلمية- وأبناءنا وتلامذتنا خيراً؛ فإن لهم اليد البيضاء في هذا البحث وفي غيره من الأعمال الدعوية والعلمية ونشر الكتاب والسنة، جعلهم الله خير خلف لخير سلف، وجعل منهم العلماء والدعاة والمجاهدين في الله حق جهاده، ومن نسلهم ودعوتهم إنه سميع مجيب. كما لا ننسى الشكر والدعاء لكل من له يد خير في التوجيه والنصح للجمعية التي نقوم عليها، وخدمتها بعلمه أو عمله، أو ماله أو قلمه. فنسأله سبحانه أن يجزل لهم المثوبة ويعظم لهم الأجر. وكتب محمد بن عبد الرحمن المغراوي مراكش

القرن 1

حمزة بن عبد المطلب (¬1) (3 هـ) حمزة بن عبد المطلب بن هاشم، عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخوه من الرضاعة، وكان يقال له أسد الله، وأسد رسوله، يكنى أبا عمارة، وأبا يعلى أيضا لابنيه عمارة ويعلى. الإمام البطل الضرغام البدري الشهيد. قال ابن إسحاق: لما أسلم حمزة، علمت قريش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد امتنع، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه. وأخرج الحاكم وصححه عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب" (¬2) كان أسن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربع سنين. قتله وحشي يوم أحد بطلب من هند بنت عتبة انتقاما لأبيها ومثلت به. موقفه من المشركين: عن ابن إسحاق قال: فحدثني رجل من أسلم، وكان واعية، أن أبا جهل اعترض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الصفا، فآذاه وشتمه ونال منه ما يكره من العيب لدينه والتضعيف له. فلم يكلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومولاة لعبد الله بن جدعان التيمي في مسكن لها فوق الصفا تسمع ذلك، ثم انصرف عنه، فعمد إلى ناد لقريش عند الكعبة فجلس معهم. ولم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن ¬

(¬1) الإصابة (2/ 121 - 123) والاستيعاب (1/ 369 - 375) وطبقات ابن سعد (3/ 8 - 19) والعقد الثمين (4/ 227 - 228) ومجمع الزوائد (9/ 269 - 271) وشذرات الذهب (1/ 10 - 11) وسير أعلام النبلاء (1/ 171 - 174) والمستدرك للحاكم (3/ 192 - 196). (¬2) أخرجه الحاكم (2/ 119 - 120) و (3/ 195) والطبراني في الأوسط (1/ 501 - 502/ 922) والخطيب في تاريخه (6/ 377) من طرق عن جابر رضي الله عنه. وفي الباب عن علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم. وقد صححه الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة (374).

أقبل متوشحا قوسه، راجعا من قنص له. كان صاحب قنص يرميه، ويخرج له، فكان إذا رجع من قنصه لم يرجع إلى أهله حتى يطوف بالكعبة. وكان إذا فعل ذلك لا يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم. وكان أعز قريش وأشدها شكيمة. وكان يومئذ مشركا على دين قومه. فلما مر بالمولاة، وقد قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجع إلى بيته، فقالت له: يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقي ابن أخيك من أبي الحكم آنفا قبيل، وجده هاهنا فآذاه وشتمه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه، ولم يكلمه محمد. فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله عز وجل به من كرامته. فخرج سريعا لا يقف على أحد، كما كان يصنع، يريد الطواف بالبيت. معدا لأبي جهل أن يقع به. فلما دخل المسجد، نظر إليه جالسا في القوم. فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه، رفع القوس وضربه بها ضربة شجه بها شجة منكرة. وقامت رجال من قريش من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل منه. فقالوا: ما نراك يا حمزة إلا قد صبأت. قال حمزة: وما يمنعني منه، وقد استبان لي منه ذلك، وأنا أشهد أنه رسول الله، وأن الذي يقول حق. فوالله لا أنزع، فامنعوني إن كنتم صادقين. فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإني والله لقد سببت ابن أخيه سبا قبيحا. وتم حمزة على إسلامه وعلى ما تابع عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله. فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عز وامتنع، وأن حمزة سيمنعه. فكفوا عن بعض ما كانوا يتناولون منه. فقال في ذلك شعرا حين ضرب أبا جهل وأسلم: ذق يا أبا جهل ما عسيت ... من أمرك الظالم إذ مشيت

سعد بن معاذ (5 هـ)

عن أمرك الظالم إذ عنيت ... لو كنت ترجو الله ما شقيت ستسعط الرغم بما أتيت ولا ... تؤذي رسول الله إذ نهيت تركت الحق إذ دعيت ... ولا هويت بعد ما هويت حتى تذوق الخوى قد لقيت ... فقد شفيت النفس وأشفيت (¬1) " التعليق: هذا أحد مواقف حمزة رضي الله عنه، وكانت كلها في نصرة عقيدة التوحيد الخالصة، فهو أسد الله يوم بدر، قتل طاغوتا من أكبر طواغيت الشرك: شيبة بن ربيعة، وشارك في قتل عتبة بن ربيعة، وقتل طعيمة بن عدي، وأبلى البلاء الحسن يوم أحد، واستشهد في تلك المعركة الخالدة، وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سيد الشهداء" (¬2): فرضي الله عنه وأرضاه. سعد بن معاذ (¬3) (5 هـ) سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس، أبو عمرو الأنصاري الأوسي الأشهلي البدري. أسلم على يد مصعب بن عمير. قال ابن إسحاق: لما أسلم وقف على قومه، فقال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا فضلا، وأيمننا نقيبة. قال: فإن كلامكم علي حرام، ¬

(¬1) سيرة ابن إسحاق (ص.151 - 152). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) السير (1/ 279 - 297) والاستيعاب (2/ 602 - 605) وتهذيب الكمال (10/ 300 - 304) وأسد الغابة (2/ 461 - 464) والإصابة (4/ 171 - 172) وشذرات الذهب (1/ 11).

رجالكم ونساؤكم حتى تؤمنوا بالله ورسوله. قال: فوالله ما بقي في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا وأسلموا. قال ابن إسحاق: آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين سعد وأبي عبيدة بن الجراح. وقال ابن إسحاق: حدثني أبو ليلى عبد الله بن سهل أن عائشة كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق وأم سعد معها، فعبر سعد عليه درع مقلصة، قد خرجت منه ذراعه كلها وفي يده حربة يرفل بها ويقول: لبث قليلا يشهد الهيجا حمل ... لا بأس بالموت إذا حان الأجل فقالت أم سعد: الحق يا بني، قد والله أخرت. فقالت عائشة: يا أم سعد لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هي، فرمي سعد بسهم قطع منه الأكحل، رماه ابن العرقة، فلما أصابه قال: خذها مني وأنا ابن العرقة، فقال: عرق الله وجهك في النار. اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إلي من أن أجاهدهم فيك من قوم آذوا نبيك وكذبوه وأخرجوه، اللهم إن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم، فاجعلها لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة. ثم أبلغه أمنيته بأن أمكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين منهم، فنزلت بنو قريظة على حكم سعد فوافق حكم الله تعالى فيهم. (¬1) رمي رضي الله عنه يوم الخندق بسهم فعاش بعد ذلك شهرا ثم انتقض جرحه فمات منه، وذلك سنة خمس للهجرة. ¬

(¬1) سيأتي الحديث وتخريجه.

موقفه من المشركين:

عن جابر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ" (¬1). وعن أنس قال: لما حملت جنازة سعد ابن معاذ، قال المنافقون: ما أخف جنازته، وذلك لحكمه في بني قريظة، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إن الملائكة كانت تحمله" (¬2). موقفه من المشركين: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "لما نزلت بنو قريظة على حكم سعد [هو ابن معاذ] بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان قريبا منه- فجاء على حمار، فلما دنا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قوموا إلى سيدكم، فجاء فجلس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: إن هؤلاء نزلوا على حكمك. قال: فإني أحكم أن تقتل المقاتلة، وأن تسبى الذرية. قال: لقد حكمت فيهم بحكم الملك". (¬3) موقف السلف من مسيلمة الكذاب (12 هـ) قال شيخ الإسلام في المنهاج: وقرآنه الذي قرأه قد حفظ الناس منه سورا إلى اليوم، مثل قوله: يا ضفدع بنت ضفدعين، نقي كم تنقين، لا الماء تكدرين، ولا الشارب تمنعين، رأسك في الماء وذنبك في الطين. ومثل قوله: ¬

(¬1) أحمد (3/ 316) والبخاري (7/ 155/3803) ومسلم (4/ 1915/2466 [124]) وابن ماجة (1/ 56/158). (¬2) الترمذي (5/ 647/3849) وصححه الحاكم (3/ 207) ووافقه الذهبي. (¬3) أحمد (3/ 22) والبخاري (6/ 202 - 203/ 3043) ومسلم (3/ 1388 - 1389/ 1768) وأبو داود (5/ 390/5215) والنسائي في الكبرى (5/ 62/8222).

الفيل، وما أدراك ما الفيل، له زلوم طويل، إن ذلك من خلق ربنا لقليل. ومثل قوله: إنا أعطيناك الجماهر، فصل لربك وهاجر، ولا تطع كل ساحر وكافر. ومثل قوله: والطاحنات طحنا، والعاجنات عجنا، والخابزات خبزا، إهالة وسمنا، إن الأرض بيننا وبين قريش نصفين، ولكن قريشا قوم لا يعدلون. (¬1) وقال أيضا: وكان مسيلمة قد كتب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته: "من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله. أما بعد فإني قد أشركت في الأمر معك" فكتب إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب ... " (¬2) ولما جاء رسوله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: أتشهد أن مسيلمة رسول الله؟ قال: نعم. قال: لولا أن الرسل لا تقتل لضربت عنقك. ثم بعد هذا أظهر أحد الرسولين الردة بالكوفة، فقتله ابن مسعود، وذكره بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا. وكان مسيلمة قد قدم في وفد بني حنيفة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأظهر الإسلام، ثم لما رجع إلى بلده قال لقومه: "إن محمدا قد أشركني في الأمر معه" واستشهد برجلين: أحدهما الرجال (¬3) بن عنفوة، فشهد له بذلك. ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لثلاثة أحدهم أبو هريرة، والثاني الرجال هذا: "إن أحدكم ضرسه في النار أعظم من كذا وكذا" (¬4) فاستشهد الثالث في سبيل الله، وبقي أبو هريرة ¬

(¬1) المنهاج (8/ 321 - 322). (¬2) ذكره ابن إسحاق بدون سند وعنه ابن هشام في السيرة (4/ 600 - 601). (¬3) ويروى أيضا بالحاء المهملة، والأكثر على ضبطه بالجيم. (¬4) ذكره سيف بن عمر في الفتوح نقلا عن الاستيعاب (3/ 1258) والإصابة (5/ 358) عن مخلد بن قيس العجلي عن أحمد بن فرات بن حيان قال: خرج فرات والرجال ... الحديث. وهذا إسناد واه لا يصح. وذكره السهيلي في الروض الأنف (4/ 225) بدون إسناد، وعنه ابن كثير في السيرة (4/ 97).

خائفا، حتى شهد هذا لمسيلمة بالنبوة، واتبعه، فعلم أنه هو كان المراد بخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكان مؤذن مسيلمة يقول: أشهد أن محمدا ومسيلمة رسولا الله. (¬1) ذكر مقتله لعنه الله: جاء في الكامل لابن الأثير: فلما مات النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعث أبو بكر السرايا إلى المرتدين، أرسل عكرمة بن أبي جهل في عسكر إلى مسيلمة وأتبعه شرحبيل بن حسنة، فعجل عكرمة ليذهب بصوتها، فواقعهم فنكبوه، وأقام شرحبيل بالطريق حين أدركه الخبر، وكتب عكرمة إلى أبي بكر بالخبر. فكتب إليه أبو بكر: لا أرينك ولا تراني، لا ترجعن فتوهن الناس، امض إلى حذيفة وعرفجة فقاتل أهل عمان ومهرة، ثم تسير أنت وجندك تستبرون الناس حتى تلقى مهاجر بن أبي أمية باليمن وحضرموت. فكتب إلى شرحبيل بالمقام إلى أن يأتي خالد، فإذا فرغوا من مسيلمة تلحق بعمرو بن العاص تعينه على قضاعة. فلما رجع خالد من البطاح إلى أبي بكر واعتذر إليه قبل عذره ورضي عنه ووجهه إلى مسيلمة وأوعب معه المهاجرين والأنصار وعلى الأنصار ثابت بن قيس بن شماس، وعلى المهاجرين أبو حذيفة وزيد بن الخطاب، وأقام خالد بالبطاح ينتظر وصول البعث إليه. فلما وصلوا إليه سار إلى اليمامة وبنو حنيفة يومئذ كثيرون كانت عدتهم أربعين ألف مقاتل، وعجل شرحبيل بن حسنة، وبادر خالدا بقتال مسيلمة، فنكب، فلامه خالد، وأمد أبو بكر خالدا بسليط ليكون ردءا له لئلا يؤتى من خلفه. وكان أبو بكر ¬

(¬1) المنهاج (8/ 322 - 323).

يقول: لا أستعمل أهل بدر، أدعهم حتى يلقوا الله بصالح أعمالهم، فإن الله يدفع بهم وبالصالحين أكثر مما ينتصر بهم. وكان عمر يرى استعمالهم على الجند وغيره. وكان مع مسيلمة نهار الرجال بن عنفوة، وكان قد هاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقرأ القرآن، وفقه في الدين، وبعثه معلما لأهل اليمامة وليشغب على مسيلمة، فكان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة، شهد أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن مسيلمة قد أشرك معه، فصدقوه واستجابوا له، وكان مسيلمة ينتهي إلى أمره، وكان يؤذن له عبد الله بن النواحة، والذي يقيم له حجير بن عمير، فكان حجير يقول: أشهد أن مسيلمة يزعم أنه رسول الله، فقال له مسيلمة: أفصح حجير، فليس في المجمجمة خير. وهو أول من قالها. (¬1) عن عروة قال: سار بنا خالد إلى اليمامة إلى مسيلمة، وخرج مسيلمة بمجموعة فنزلوا بعقرباء فحل بها خالد عليهم، وهي طرف اليمامة، وجعلوا الأموال خلفها كلها وريف اليمامة وراء ظهورهم. وقال شرحبيل بن مسيلمة: يا بني حينفة اليوم يوم الغيرة، اليوم إن هزمتم ستردف النساء سبيات وينكحن غير حظيات، فقاتلوا عن أحسابكم، فاقتتلوا بعقرباء قتالا شديدا، فجال المسلمون جولة، ودخل ناس من بني حنيفة فسطاط خالد وفيه مجاعة أسير، وأم تميم امرأة خالد، فأرادوا أن يقتلوها فقال مجاعة: أنا لها جار، ودفع عنها، وقال ثابت بن قيس حين رأى المسلمين مدبرين: أف لكم ولما تعملون، وكر المسلمون فهزم الله العدو، ¬

(¬1) الكامل في التاريخ (2/ 360 - 361).

عكرمة بن أبي جهل (13 هـ)

ودخل نفر من المسلمين فسطاط خالد فأرادوا قتل مجاعة، فقالت أم تميم: والله لا يقتل وأجارته. وانهزم أعداء الله حتى إذا كانوا عند حديقة الموت اقتتلوا عندها، أشد القتال. وقال محكم بن الطفيل: يا بني حنيفة ادخلوا الحديقة فإني سأمنع أدباركم، فقاتل دونهم ساعة وقتل، وقال مسيلمة: يا قوم قاتلوا عن أحسابكم، فاقتتلوا قتالا شديدا، حتى قتل مسيلمة. (¬1) استشهد في هذه الوقعة عدة من سادات الصحابة رضوان الله عليهم منهم أبو حذيفة بن ربيعة ومولاه سالم وزيد بن الخطاب وعبد الله بن سهيل وعباد بن بشر وثابت بن قيس بن شماس وأبو دجانة وعبد الله بن أبي وغيرهم كثير، أوصلهم خليفة بن خياط إلى ثمانية وخمسين رجلا. (¬2) عكرمة بن أبي جهل (¬3) (13 هـ) عِكْرِمَة بن أبي جهل عمروبن هشام بن المغيرة، أبو عثمان القرشي المخزومي المكي أسلم عام الفتح، وحسن إسلامه وخرج إلى المدينة، ثم إلى قتال أهل الردة ووجهه أبو بكر الصديق إلى جيش نعمان، فظهر عليهم، ثم إلى اليمن ثم رجع. وذكر الطبري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمله على صدقات هوازن عام وفاته. قال الشافعي: كان محمود البلاء في الإسلام، رضي الله عنه. قال ابن أبي مليكة: كان عكرمة إذا اجتهد في اليمين قال: لا والذي نجاني يوم ¬

(¬1) تاريخ الإسلام (عهد الخلفاء الراشدين ص.38 - 39). (¬2) تاريخ خليفة (ص.115) وانظر الكامل في التاريخ (2/ 366 - 367) وتاريخ الإسلام (عهد الخلفاء الراشدين ص.53 - 73). (¬3) السير (1/ 323 - 324) والإصابة (4/ 538 - 539) وأسد الغابة (4/ 67 - 70) والاستيعاب (3/ 1082 - 1085).

موقفه من الجهمية:

بدر. ذكر الطبري أنه قتل يوم أجنادين، وقال الواقدي: لا اختلاف بين أصحابنا في ذلك. وقيل قتل يوم اليرموك في خلافة عمر. موقفه من الجهمية: جاء في السنة لعبد الله: عن ابن أبي مليكة قال كان عكرمة بن أبي جهل يأخذ المصحف فيضعه على وجهه ويقول كلام ربي كلام ربي. (¬1) أمير المؤمنين أبو بكر الصِّدِّيق (¬2) (13 هـ) عبد الله بن عثمان بن عامر القرشي التيمي، أبو بكر الصِّدِّيق بن أبي قُحَافَة، خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أمه أم الخير، سلمى بنت صخر. ولد بعد الفيل بسنتين وستة أشهر. كان أول من آمن من الرجال، لقب بعتيق. أنفق أمواله على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي سبيل الله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر" (¬3). وقال عمرو بن العاص: يا رسول الله أي الرجال أحب إليك؟ قال: "أبو بكر" (¬4). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر ¬

(¬1) السنة لعبد الله (ص.26). (¬2) الإصابة (4/ 169 - 175) وكتاب المعرفة والتاريخ (1/ 238 - 241) و (1/ 446 - 455) والوافي بالوفيات (17/ 305) وتذكرة الحفاظ (1/ 2 - 5) وتاريخ الطبري (3/ 387 - 434) وطبقات ابن سعد (3/ 169 - 213) والكامل (2/ 418 - 420) وفيات الأعيان (3/ 64 - 71) والاستيعاب (3/ 963 - 978) وشذرات الذهب (1/ 24 - 26). (¬3) أحمد (2/ 253 و366) والترمذي (5/ 568 - 569/ 3661) وقال: "هذا حديث حسن غريب". ابن ماجة (1/ 36/94) والنسائي في الكبرى (5/ 37/8110). (¬4) أحمد (4/ 203) والبخاري (8/ 93/4358) ومسلم (4/ 1856/2384) والترمذي (5/ 663/3885).

موقفه من المبتدعة:

خليلا" (¬1). وهو المشار إليه في قوله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} (¬2). أول خليفة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أم المسلمين في مرض موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - على التعيين بالجنة. صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة قبل البعثة وسبق إلى الإيمان به واستمر معه طول إقامته بمكة، ورافقه في الهجرة، وفي الغار وفي المشاهد كلها، وكانت الراية معه يوم تبوك. قال ابن حجر في الإصابة: ومناقب أبي بكر رضي الله عنه، كثيرة جدا، ومن أعظم مناقبه قول الله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬3). كانت خلافته رضي الله عنه سنتين. قاتل أهل الردة الذين منعوا الزكاة. وقال: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة" (¬4). توفي رضي الله عنه في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة للهجرة. موقفه من المبتدعة: - روى الدارمي عن قيس بن أبي حازم قال: دخل أبو بكر على امرأة ¬

(¬1) أحمد (1/ 389 و433) ومسلم (4/ 1856/2383) والترمذي (5/ 566/3655) وابن ماجة (1/ 36/93) وفي الباب عن أبي سعيد وأبي هريرة وابن الزبير وابن عباس رضي الله عنهم. (¬2) التوبة الآية (40). (¬3) التوبة الآية (40). (¬4) أحمد (1/ 19) والبخاري (13/ 311/7284 - 7285) ومسلم (1/ 51 - 52/ 20) وأبو داود (2/ 198/1556) والترمذي (5/ 5 - 6/ 2607) والنسائي (5/ 16/2442).

من أخمس، يقال لها: زينب: قال: فرآها لا تتكلم، فقال: مالها لا تتكلم، قالوا: نوت حجة مصمتة فقال لها: تكلمي فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية، قال: فتكلمت فقالت: من أنت؟ قال: أنا امرؤ من المهاجرين، قالت: من أي المهاجرين؟ قال: من قريش. قالت: فمن أي قريش أنت؟ قال: إنك لسؤول، أنا أبو بكر، قالت: ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية، فقال: بقاؤكم عليه ما استقامت بكم أئمتكم، قالت: وأيما الأئمة؟ قال: أما كان لقومك رؤساء وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟ قالت: بلى، قال: فهم مثل أولئك على الناس. (¬1) - عن ابن أبي مليكة قال: سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن آية من كتاب الله؟ فقال: أية أرض تقلني أو أية سماء تظلني، أو أين أذهب، وكيف أصنع؟ إذا أنا قلت في آية من كتاب الله بغير ما أراد الله بها. (¬2) - جاء في الإبانة عنه قال: لست تاركا شيئا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعمل به إلا عملت به وإني لأخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ. (¬3) " التعليق: قال ابن بطة عقبه: هذا يا إخواني الصديق الأكبر يتخوف على نفسه الزيغ إن هو خالف شيئا من أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فماذا عسى أن يكون من زمان أضحى أهله يستهزئون بنبيهم وبأوامره، ويتباهون بمخالفته، ويسخرون ¬

(¬1) سنن الدارمي (1/ 71). (¬2) رواه سعيد بن منصور في سننه (1/ 168/39) ومن طريقه البيهقي في المدخل (2/ 260/792). (¬3) الإبانة (1/ 1/245 - 246/ 77).

موقفه من المشركين:

بسنته، نسأل الله عصمة من الزلل ونجاة من سوء العمل. - قال شيخ الإسلام: كان صديق الأمة وأفضلها بعد نبيها يقول: أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم. (¬1) موقفه من المشركين: اختار الله محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - لرسالته، واختار أبا بكر لصحبته، لم تعرف البشرية بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل أبي بكر، ومواقفه في نصرة عقيدة التوحيد الخالصة تكفي أن تكون نموذجا لكل سلفي مخلص لعقيدته، كان شوكة في حلق كل مشرك منذ أسلم إلى أن توفي، ضحى بالمال والولد والنفس، جمع بين اللين والقوة، وبين العلم والشجاعة. أجمع الصحابة كلهم على حبه والاعتراف بفضله، وبعدهم التابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، إلا من أصيب بداء الرفض الذي لا دواء له إلا السيف، فرضي الله عنك يا خليفة رسول الله. أول خطيب بكلمة التوحيد الخالصة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كان هذا الموقف من أعظم المواقف للصديق رضي الله عنه، حيث واجه جبال الشرك بمعاول عقيدة التوحيد الخالصة، وحاولت هذه الجبال أن تتردى عليه، وإن كان أصابه بعض شرره، ولكنه صبر واستيقن أن ما عليه هو الحق، وأن يوما ستتلاشى خيوط العنكبوت، التي ربما ظهرت لضعفاء الإيمان مظهر القوة وهي لا شيء، وهكذا يكون الأمر في كل زمان، فإنه مهما ظهر رؤوس الشرك والبدع، ومهما علا شأنهم وقويت شوكتهم، فإنهم كما قال الله ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (20/ 210) وقد ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية (6/ 305 - 306) وصحح إسنادها.

تعالى: مَثَلُ {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. (¬1) نص الموقف: عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج أبو بكر يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان له صديقا في الجاهلية: فلقيه فقال: يا أبا القاسم فقدت من مجالس قومك واتهموك بالعيب لآبائها وأمهاتها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني رسول الله أدعوك إلى الله. (¬2) الخ. وبالسند نفسه عن عائشة قالت: لما اجتمع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانوا ثمانية وثلاثين رجلا ألح أبو بكر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظهور، فقال: يا أبا بكر إنا قليل، فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيبا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس، فكان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين، فضربوا في نواحي المسجد ضربا شديدا، ووطئ أبو بكر وضرب ضربا شديدا، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة، فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين، ويحرفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وجاء بنو تيم يتعادون فأجلت المشركين ¬

(¬1) العنكبوت الآية (41). (¬2) البداية والنهاية (3/ 29).

عن أبي بكر وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولا يشكون في موته. ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة، فرجعوا إلى أبي بكر، فجعل أبو قحافة وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب، فتكلم آخر النهار، فقال: ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فمسوا منه بألسنتهم، وعذلوه، ثم قاموا وقالوا لأمه أم الخير، انظري أن تطعميه شيئا أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحت عليه وجعل يقول: ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالت: والله مالي علم بصاحبك، فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه. فخرجت حتى جاءت أم جميل، فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله، فقالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك. قالت: نعم فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعا دنفا، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح، وقالت: والله إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم. قال: فما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: هذه أمك تسمع. قال: فلا شيء عليك منها، قالت: سالم صالح. قال: أين هو، قالت: في دار ابن الأرقم، قال: فان لله علي أن لا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو آتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمهلتا حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس، خرجتا به يتكئ عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فأكب عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقبله. وأكب عليه المسلمون. ورق له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقة شديدة، فقال أبو بكر: بأبي وأمي يا رسول الله، ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي، وهذه أمي برة بولدها، وأنت مبارك، فادعها إلى الله وادع الله لها عسى الله أن يستنقذها

بك من النار، قال: فدعا لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودعاها إلى الله، فأسلمت، وأقاموا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدار شهرا، وهم تسعة وثلاثون رجلا وقد كان حمزة بن عبد المطلب أسلم يوم ضرب أبو بكر .. الخ. (¬1) كان هذا الموقف من أشرف مواقف الصديق رضي الله عنه، حفظ الله به الإسلام والأمة الإسلامية، وحقق الله به وعده في حفظ دينه، ومهما قلنا ووصفنا، فإن القلم يعجز عن التعبير عن مدح الصديق وما قدمه للإسلام والمسلمين. فجزاه الله عن عقيدة التوحيد الخالصة خيرا. انتقل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى، وظهر كل من كان في قلبه مرض، أبدى النفاق عنقه صريحا، ومن كانوا يطمعون في الرئاسة وحب الظهور، قلبوها إلى دعوى النبوة، وارتد من ارتد من الأعراب الذين جبلوا على الفساد في الأرض، واجتمعت المصائب على الصديق، ولكن الصديق لم يكن ذلك الرجل الضعيف، الذي يتأثر بالكلمة أو الكلمتين، ولكنه الرجل الموفق الذي صمد لها وجعل عقيدة التوحيد الخالصة ترفرف فوق أبراج المشركين، الذين ولوا وأدبروا خاسئين. واسمع ما يذكره الحافظ ابن كثير في بدايته في هذا المقام: قد تقدم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما توفي، ارتدت أحياء كثيرة من الأعراب، ونجم النفاق بالمدينة، وانحاز إلى مسيلمة الكذاب بنو حنيفة وخلق كثير باليمامة، والتفت على طليحة الأسدي بنو أسد وطيء وبشر كثير أيضا، وادعى النبوة أيضا، كما ادعاها مسيلمة الكذاب، وعظم الخطب واشتدت ¬

(¬1) رواه أبو الحسن خيثمة الأطرابلسي كما في البداية والنهاية (3/ 29 - 30).

الحال، ونفذ الصديق جيش أسامة، فقل الجند عند الصديق، فطمعت كثير من الأعراب في المدينة، وراموا أن يهجموا عليها فجعل الصديق على أنقاب المدينة حراسا يبيتون بالجيوش حولها، فمن أمراء الحرس: علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود، وجعلت وفود العرب تقدم المدينة يقرون بالصلاة ويمتنعون من أداء الزكاة، ومنهم من امتنع من دفعها إلى الصديق، وذكر أن منهم من احتج بقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (¬1) قالوا: فلسنا ندفع زكاتنا إلا إلى من صلاته سكن لنا. (¬2) - عن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستخلف أبو بكر بعده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر لأبي بكر، كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله" فقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لقاتلتهم على منعه. فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق. (¬3) ¬

(¬1) التوبة الآية (103). (¬2) البداية والنهاية (6/ 315). (¬3) البخاري (13/ 311/7284و7285) ومسلم (1/ 51 - 52/ 20) وأبو داود (2/ 198/1556) والترمذي (5/ 5 - 6/ 2607) والنسائي (7/ 88/3980).

- جاء في المنهاج: والصديق قاتلهم -أي المشركين- حتى قال له ابنه عبد الرحمن: قد رأيتك يوم بدر فصدفت عنك. فقال: لكني لو رأيتك لقتلتك. (¬1) - جاء في الشريعة: عن عروة قال: سعى رجال من المشركين إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالوا له: هذا صاحبك يزعم أنه قد أسري به الليلة إلى بيت المقدس، ثم رجع من ليلته، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أو قال ذاك؟ قالوا: نعم. قال أبو بكر رضي الله عنه: فأنا أشهد إن كان قال ذاك لقد صدق. قالوا: تصدقه أنه قد جاء الشام في ليلة واحدة ورجع قبل أن يصبح؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: نعم أنا أصدقه بأبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء غدوة وعشية. فلذلك سمي أبو بكر رضي الله عنه: الصديق. (¬2) - وعن عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرفي النهار: بكرة وعشية. فلما ابتلي المسلمون، خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة حتى بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة -وهو سيد القارة- فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، قال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فأنا لك جار، ارجع واعبد ربك ببلدك. فرجع، وارتحل معه ابن ¬

(¬1) المنهاج (8/ 540). (¬2) الشريعة (2/ 312/1089).

الدغنة، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟ فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل فيها وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا. فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره. ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه. وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم، فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان. قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له. فقال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله عز وجل. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ بمكة. (¬1) ¬

(¬1) أحمد (6/ 198) والبخاري (1/ 741 - 742/ 476).

- جاء في مجموع الفتاوى: وذلك أن مذهب هؤلاء الملاحدة فيما يقولونه من الكلام، وينظمونه من الشعر بين حديث مفترى، وشعر مفتعل. واليهما أشار أبو بكر الصديق رضى الله عنه لما قال له عمر بن الخطاب في بعض ما يخاطبه به: يا خليفة رسول الله تألف الناس. فأخذ بلحيته وقال: يا ابن الخطاب، أجبارا في الجاهلية خوارا في الإسلام؟ علام أتألفهم؟ أعلى حديث مفترى؟ أم شعر مفتعل؟ يقول: إني لست أدعوهم إلى حديث مفترى كقرآن مسيلمة، ولا شعر مفتعل كشعر طليحة الأسدي. (¬1) - عن أبي برزة، قال: كنت عند أبي بكر رضي الله عنه فتغيظ على رجل فاشتد عليه، فقلت: تأذن لي يا خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أضرب عنقه؟ قال: فأذهبت كلمتي غضبه، فقام فدخل فأرسل إلي فقال: ما الذي قلت آنفا؟ قلت: ائذن لي أضرب عنقه، قال: أكنت فاعلا لو أمرتك؟ قلت: نعم، قال: لا والله، ما كانت لبشر بعد محمد - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) - ذكر سيف بن عمر التميمي في كتاب 'الردة والفتوح' عن شيوخه، قال: ورفع إلى المهاجر -يعني المهاجر بن أبي أمية، وكان أميرا على اليمامة ونواحيها- امرأتان مغنيتان غنت إحداهما بشتم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقطع يدها، ونزع ثنيتيها، وغنت الأخرى بهجاء المسلمين، فقطع يدها، ونزع ثنيتيها، فكتب إليه أبو بكر: بلغني الذي سرت به في المرأة التي تغنت وزمزمت بشتم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلولا ما قد سبقتني لأمرتك بقتلها، لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود، ¬

(¬1) الفتاوى (2/ 136). (¬2) أحمد (1/ 10) وأبو داود (4/ 530 - 531/ 4363) والنسائي (7/ 124 - 126/ 4082 - 4088).

موقفه من الصوفية:

فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد أو معاهد فهو محارب غادر. (¬1) موقفه من الصوفية: عن حنظلة الأسيدي -قال: وكان من كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت نافق حنظلة‍. قال سبحان الله ما تقول قال قلت نكون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا. قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قلت: نافق حنظلة يا رسول الله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات. (¬2) قال القرطبي في المفهم (¬3): وقول أبي بكر رضي الله عنه: 'والله إنا لنلقى مثل هذا' رد على غلاة الصوفية الذين يزعمون دوام مثل تلك الحال، ولا يُعرجون بسببها على أهل ولا مال، ووجه الرد أن أبا بكر رضي الله عنه أفضل الناس كلهم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة، ومع ذلك فلم يدَّع ¬

(¬1) الصارم المسلول (ص.208). (¬2) أخرجه أحمد (4/ 178و346) ومسلم (4/ 2106/2750) والترمذي (4/ 574 - 757/ 2514) وابن ماجة (2/ 1416/4239). (¬3) (7/ 67).

موقفه من الجهمية:

خروجا عن جبلة البشرية، ولا تعاطى من دوام الذكر وعدم الفترة ما هو خاصة الملائكة. وقد ادعى قوم منهم دوام الأحوال، وهو بما ذكرناه شبه المحال ... موقفه من الجهمية: - جاء في الفتاوى: قال أبو بكر الصديق -لما قرأ قرآن مسيلمة الكذاب- إن هذا الكلام لم يخرج من إل -يعني رب. (¬1) - ولابن بطة بسنده إلى نيار بن مكرم الأسلمي -وكانت له صحبة-، قال: لما نزلت {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2)} (¬2)، قالت قريش لأبي بكر رحمه الله: يا ابن أبي قحافة، لعل هذا من كلام صاحبك؟ قال: لا، ولكنه كلام الله عز وجل. (¬3) موقفه من المرجئة: عن قيس بن أبي حازم قال: سمعت أبا بكر الصديق يقول: إياكم والكذب فإن الكذب مجانب الإيمان. (¬4) ¬

(¬1) الفتاوى (3/ 175) والمنهاج (8/ 322). (¬2) الروم الآيتان (1و2). (¬3) الإبانة (1/ 12/271 - 273/ 41). (¬4) أصول الاعتقاد (6/ 1091/1872 - 1873) وهو في المسند للإمام أحمد (1/ 5).

ابن أم مكتوم (15 هـ)

ابن أم مكتوم (¬1) (15 هـ) عمرو بن قيس بن زائدة بن الأصم بن رواحة القرشي العامري، ابن أم مكتوم الصحابي الجليل، وقيل اسمه عبد الله، والأول عليه أكثر أهل الحديث. أسلم قديما بمكة، وكان من المهاجرين الأولين، وكان ضريرا مؤذنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وروى عنه عبد الله بن شداد بن الهاد وعبد الرحمن بن أبي ليلى وأبو رزين الأسدي وآخرون. استخلفه النبي - صلى الله عليه وسلم - على المدينة في غزوة بدر، وهو المذكور في سورة (عبس وتولى)، وأخرج البخاري عن البراء رضي لله عنه قال: لما نزلت: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيدا فكتبها، فجاء ابن أم مكتوم فشكا ضرارته فأنزل الله {غير أولي الضرر} (¬2).اهـ (¬3) قال الزبير بن بكار: خرج إلى القادسية، فشهد القتال، واستشهد هناك، وكان معه اللواء حينئذ، وقيل بل رجع إلى المدينة بعد القادسية، فمات بها، ذكره البغوي، وقال الواقدي: بل شهدها، ورجع إلى المدينة، فمات بها، ولم يسمع له بذكر، بعد عمر بن الخطاب. قال ابن حجر: مات في آخر خلافة عمر. وأرخ له ابن العماد الحنبلي والذهبي في سنة خمس عشرة. ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (4/ 205 - 212) وحلية الأولياء (2/ 4) والبداية والنهاية (7/ 50) وسير أعلام النبلاء (1/ 360 - 365) والإصابة (4/ 600 - 602) والاستيعاب (3/ 1198 - 1199) وتاريخ الإسلام (عهد الخلفاء الراشدين/152 - 153) والتقريب (1/ 734). (¬2) النساء الآية (95). (¬3) أحمد (4/ 284) والبخاري (8/ 329/4593) ومسلم (3/ 1508/1898).

موقفه من المشركين:

موقفه من المشركين: عن عبد الله بن معقل قال: نزل ابن أم مكتوم على يهودية بالمدينة كانت ترفقه، وتؤذيه في النبي - صلى الله عليه وسلم - فتناولها فضربها، فقتلها، فرفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال هو: أما والله إن كانت لترفقني، ولكن آذتني في الله ورسوله. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أبعدها الله، قد أبطلت دمها". (¬1) أبو عبيدة بن الجراح (¬2) (18 هـ) عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال، أبو عبيدة القرشي الفهري المكي. أحد السابقين الأولين وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - أمين هذه الأمة. شهد بدرا وما بعدها، وهو أحد الرجلين اللذين عينهما أبو بكر للخلافة يوم السقيفة، وهو الذي انتزع الحلقتين من وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسقطت ثنيتا أبي عبيدة. روى عنه جابر بن عبد الله والعرباض بن سارية وأبو أمامة وسمرة بن جندب وجماعة. قال ابن إسحاق: آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين سعد بن معاذ وأبي عبيدة بن الجراح، وقيل محمد بن مسلمة. فعن حذيفة رضي الله عنه قال: جاء أهل نجران إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ¬

(¬1) ابن سعد في الطبقات (4/ 210) من طريق قبيصة بن عقبة قال حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن عبد الله بن معقل مرفوعا. ورواه أبو داود (4/ 528/4361) والنسائي (7/ 123 - 124/ 4081) من حديث ابن عباس. (¬2) طبقات ابن سعد (3/ 409 - 415) وطبقات خليفة (ص.27 - 28) وتاريخ دمشق (25/ 435 - 491) والاستيعاب (2/ 792 - 795) وتهذيب الكمال (14/ 52 - 57) والسير (1/ 5 - 23) وتاريخ الإسلام (عهد الخلفاء الراشدين ص.171 - 174) والإصابة (5/ 285 - 289).

ابعث لنا رجلا أمينا، فقال: "لأبعثن إليكم رجلا أمينا حق أمين، فاستشرف له الناس، فبعث أبا عبيدة بن الجراح". (¬1) وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "نعم الرجل أبو عبيدة بن الجراح". (¬2) وقد استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مرة. قال الزبير بن بكار: شهد بدرا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزع الحلقتين اللتين دخلتا في وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - من المغفر يوم أحد، فانتزعت ثنيتاه، فحسنتا فاه، فقيل: ما رئي هتم قط أحسن من هتم أبي عبيدة، وقام يوما من مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قفاه وكان يقال: داهيتا قريش: أبو بكر وأبو عبيدة بن الجراح. ودعا أبو بكر الصديق يوم توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سقيفة بني ساعدة إلى البيعة لعمر بن الخطاب أو أبي عبيدة بن الجراح، وقال: قد رضيت لكم أحدهما وولاه عمر بن الخطاب الشام، وفتح الله عليه اليرموك والجابية، وسرع مدينة الشام والرمادة. عن أبي مليكة قال: سمعت عائشة وسئلت: من كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخلفا أو استخلفه؟ قالت: أبو بكر فقيل لها: ثم من بعد أبي بكر؟ فقالت: عمر، ثم قيل لها: من بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح، ثم انتهت إلى ¬

(¬1) أحمد (5/ 401) والبخاري (8/ 117 - 118/ 4381) ومسلم (4/ 1882/2420) والترمذي (5/ 625 - 626/ 3796) وابن ماجة (1/ 48/135). (¬2) أحمد (2/ 419) والبخاري في الأدب المفرد (337) والترمذي (5/ 625/3795) وقال: "هذا حديث حسن". والحاكم (3/ 233) وقال: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.

موقفه من المشركين:

هذا. (¬1) قال محمد بن سعد وخليفة بن خياط: مات أبو عبيدة بن الجراح في طاعون عمواس بأرض الأردن وفلسطين سنة ثماني عشرة. زاد ابن سعد: وهو ابن ثمان وخمسين سنة. موقفه من المشركين: - وقد شهد أبو عبيدة بدرا، فقتل يومئذ أباه، وأبلى يوم أحد بلاء حسنا. (¬2) - فتح الله عليه اليرموك والجابية، وسرع مدينة الشام والرمادة. (¬3) معاذ بن جبل (¬4) (18 هـ) معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس، أبو عبد الرحمن الأنصاري الخزرجي البدري، الإمام المقدم في علم الحلال والحرام وفيه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) أحمد مختصرا (6/ 63) ومسلم (4/ 1856/2385). ورواه الترمذي (5/ 566 - 567/ 3675 عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة: أي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أحب إلى رسول الله؟ فذكرته. وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح". (¬2) السير (1/ 8). (¬3) انظر الترجمة. (¬4) الإصابة (6/ 136 - 138) وحلية الأولياء (1/ 228 - 244) ومجمع الزوائد (9/ 311) وطبقات ابن سعد (3/ 583 - 590) وتذكرة الحفاظ (1/ 19 - 22) والمعرفة والتاريخ (1/ 314) وشذرات الذهب (1/ 29 - 30) والبداية والنهاية (7/ 94 - 95) وتقريب التهذيب (2/ 255) وسير أعلام النبلاء (1/ 443 - 461) والاستيعاب (3/ 1402 - 1407).

موقفه من المبتدعة:

" ... وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ" (¬1) شهد العقبة شابا أمرد وشهد المشاهد كلها. وكان ممن جمع القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:_"خذوا القرآن من أربعة: من ابن مسعود، وأبيّ، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة" (¬2). وعن محمد بن سهل بن أبي حثمة عن أبيه قال: كان الذين يفتون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة من المهاجرين عمر وعثمان، وعلي وثلاثة من الأنصار: أبي بن كعب ومعاذ وزيد. وكان من أفضل شباب الأنصار حلما وحياء وسخاء. ومناقبه كثيرة. عن نيار الأسلمي: أن عمر كان يستشير هؤلاء فذكر منهم معاذا. وصح عن عمر قوله: من أراد الفقه، فليأت معاذ بن جبل. وكانت وفاته بالطاعون في الشام سنة ثماني عشرة رضي الله عنه. موقفه من المبتدعة: - جاء في أصول الاعتقاد: كان معاذ يقول في كل مجلس يجلسه: الله حكم قسط تبارك اسمه، هلك المرتابون، إن من ورائكم فتنا يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن حتى يأخذه الرجل والمرأة والحر والعبد والصغير والكبير، فيوشك الرجل أن يقرأ القرآن فيقول: قد قرأت القرآن، فما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن، ثم ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالة. واتقوا زيغة الحكيم فإن الشيطان يلقي على في الحكيم ¬

(¬1) أحمد (3/ 184) والترمذي (5/ 623/3790) وقال: "هذا حديث حسن غريب". وابن ماجة (1/ 55/154) والحاكم (3/ 422) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وابن حبان (16/ 74/7131 الإحسان). (¬2) أحمد (2/ 189و195) والبخاري (7/ 160/3808) ومسلم (4/ 1913/2464) والترمذي (5/ 632/3810) وقال: "هذا حديث حسن صحيح".

الضلالة ويلقي المنافق كلمة الحق قال: قلنا: وما يدرينا يرحمك الله أن المنافق يلقي كلمة الحق، وأن الشيطان يلقي على في الحكيم كلمة الضلالة. قال: اجتنبوا من كلام الحكيم كل متشابه الذي إذا سمعته قلت ما هذا؟ ولا ينأ بك ذلك عنه، فإنه لعله أن يراجع ويلقي الحق إذا سمعه، فإن على الحق نورا. (¬1) - قال معاذ بن جبل: إياكم والبدع والتبدع والتنطع، وعليكم بالأمر العتيق. (¬2) - وعنه قال: يد الله فوق الجماعة، فمن شذ لم يبال الله بشذوذه. (¬3) " التعليق: كان معاذ بن جبل من أغزر الصحابة علما بالحلال والحرام، وأما علمه بعقيدة التوحيد الخالصة فأمر مجمع عليه بينه وبين إخوانه من الصحابة رضوان الله عليهم. ولذا كان يعلم خطر البدع والمبتدعة، فكان يحذر منهم في كل مجلس، فهؤلاء هم أحياء القلوب، وأما أهل زماننا فأموات غير أحياء، وما يشعرون أيان يبعثون. قبلوا البدعة ورضوا بها، وتسهالوا مع المبتدعة واتخذوهم أحبابا وإخوانا، وآووهم في بيوتهم وأحاطوهم بكل رعاية والله المستعان. - وجاء في السير عن أم سلمة أن أبا عبيدة لما أصيب، استخلف معاذ ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (1/ 99 - 100/ 116) وأبو داود (5/ 17 - 18/ 4611) والإبانة (1/ 2/307 - 308/ 143) وما جاء في البدع (ص.63 - 64) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 981). وانظر الحوادث والبدع (ص.37 - 38) والباعث (ص.62) والاعتصام (1/ 110 - 111) وإعلام الموقعين (1/ 104 - 105) و (2/ 193) والجزء الأول منه في السير (8/ 143). (¬2) رواه ابن وضاح في البدع (ص.65) والهروي في ذم الكلام (ص.136). (¬3) الإبانة (1/ 2/288 - 289/ 119).

موقفه من المشركين:

ابن جبل -يعني في طاعون عمواس- اشتد الوجع، فصرخ الناس إلى معاذ: ادع الله أن يرفع عنا هذا الرجز، قال: إنه ليس برجز ولكن دعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وشهادة يخص الله بها من يشاء منكم، أيها الناس، أربع خلال من استطاع أن لا تدركه، قالوا: ما هي؟ قال: يأتي زمان يظهر فيه الباطل، ويأتي زمان يقول الرجل: والله ما أدري ما أنا، لا يعيش على بصيرة، ولا يموت على بصيرة. (¬1) - وجاء في الإبانة عن عاصم بن حميد، قال: سمعت معاذا يقول: إنكم لن تروا من الدنيا إلا بلاء وفتنة، ولن يزداد الأمر إلا شدة، ولن تروا من الأئمة إلا غلظة، ولن تروا أمرا يهولكم ويشتد عليكم إلا حقره بعد ما هو أشد منه. قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل: اللهم رضنا مرتين. (¬2) موقفه من المشركين: عن أبي موسى أن رجلا أسلم ثم تهود، فأتاه معاذ بن جبل -وهو عند أبي موسى- فقال: ما لهذا؟ قال: أسلم ثم تهود، قال لا أجلس حتى أقتله، قضاء الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) موقفه من الجهمية: عن ميمون أبي حمزة قال: كنت جالسا عند أبي وائل فدخل علينا رجل يقال له: أبو عفيف. فقال له شقيق بن سلمة: يا أبا عفيف ألا تحدثنا عن ¬

(¬1) السير (1/ 457). (¬2) الإبانة (1/ 1/181 - 182/ 16). (¬3) البخاري (7157) ومسلم (1733).

موقفه من المرجئة:

معاذ بن جبل؟ قال: بلى سمعته يقول: يحبس الناس يوم القيامة في صعيد واحد فينادي: أين المتقون؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر. قلت: من المتقون؟ قال: قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله العبادة فيمرون إلى الجنة. (¬1) موقفه من المرجئة: - عن الأسود بن هلال قال: قال معاذ: اجلس بنا نؤمن ساعة، فيجلسان يتذاكران الله ويحمدانه. (¬2) - عن سفيان عن عبد الملك بن عمير قال: قال لمعاذ: ما ملاك أمرنا الذي نقوم به؟ قال: الإخلاص، وهي الفطرة والصلاة وهي الملة والسمع والطاعة وهي العصمة وسيكون بعدك اختلاف. (¬3) أبيّ بن كعب (¬4) (19 هـ) أُبَيّ بن كَعْب بن قَيْس الأنصاري الخزرجي البدري أبو المنذر ويكنى أيضا أبا الطفيل سيد القراء. شهد بدرا والمشاهد. وجمع القرآن في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (3/ 552 - 553/ 864). (¬2) الإبانة (2/ 7/847/ 1135) وابن أبي شيبة في الإيمان (105،107) وفي المصنف (11/ 26) وأبو عبيد في الإيمان (ص.20) وأصول الاعتقاد (5/ 1014/1706و1707) والسنة لعبد الله (ص.115) والسنة للخلال (4/ 39/1121). (¬3) الإبانة (2/ 7/898/ 1252). (¬4) الإصابة (1/ 27 - 28) وطبقات ابن سعد (3/ 498 - 502) والحلية (1/ 250 - 256) والتذكرة (1/ 16 - 17) ومجمع الزوائد (9/ 311 - 312) والبداية (7/ 98) والسير (1/ 389 - 402) وتقريب التهذيب (1/ 48) والوافي بالوفيات (6/ 190 - 191) والاستيعاب (1/ 65 - 70) ومعرفة القراء الكبار (1/ 28).

موقفه من المبتدعة:

وعرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - وحفظ عنه علما مباركا وكان رأسا في العلم والعمل. وفي الصحيحين: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بن كعب: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن، وفي لفظ أمرني أن أقرئك القرآن. قال: آلله سماني لك؟ قال: نعم، قال: وذكرت عند رب العالمين؟ قال: نعم. فذرفت عيناه" (¬1). وقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليهنك العلم أبا المنذر". (¬2) كان من أصحاب العقبة الثانية، وكان عمر يسميه سيد المسلمين. أخرج الأئمة أحاديثه في صحاحهم، وعده مسروق في الستة من أصحاب الفتيا. وفي تاريخ موته اختلاف، قال الهيثم بن عدي: مات سنة تسع عشرة، وقيل اثنتين وعشرين، وقيل سنة ثلاثين، والله أعلم. موقفه من المبتدعة: - جاء في الإبانة: قال أبيّ: (هلك أهل العقدة ورب الكعبة هلكوا وأهلكوا كثيرا، والله ما عليهم آسى ولكن آسى على ما يهلكون من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -). يعني: بالعقد الذين يعتقدون على الآراء والأهواء والمفارقين للجماعة. (¬3) - وفيها: عن مسروق قال: سألت أبي بن كعب عن شيء، فقال: ¬

(¬1) أحمد (3/ 185و284) والبخاري (7/ 160/3809) ومسلم (1/ 550/799) والترمذي (5/ 624/3792) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". (¬2) أحمد (5/ 141 - 142) ومسلم (1/ 556/810) وأبو داود (2/ 151/1460). (¬3) الإبانة (1/ 2/340/ 207).

موقفه من القدرية:

أكان هذا؟ قلت: لا، قال: فأجمنا حتى يكون فإذا كان اجتهدنا رأينا. (¬1) - وفي أصول الاعتقاد عن أبي بن كعب قال: عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما على الأرض عبد على السبيل والسنة. وذكر الرحمن ففاضت عيناه من خشية الله عز وجل فيعذبه. وما على الأرض عبد على السبيل والسنة وذكره -يعني الرحمن في نفسه- فاقشعر جلده من خشية الله إلا كان مثله كمثل شجرة قد يبس ورقها فهي كذلك إذ أصابتها ريح شديدة فتحات عنها ورقها إلا حط عنه خطاياه كما تحات عن تلك الشجرة ورقها. وإن اقتصادا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة. فانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهادا أو اقتصادا أن يكون ذلك على منهاج الأنبياء وسنتهم. (¬2) موقفه من القدرية: عن ابن الديلمي قال: وقع في نفسي شيء من هذا القدر، فأتيت أبي ابن كعب فقلت: أبا المنذر، وقع في نفسي شيء من هذا القدر، خشيت أن يكون فيه هلاك ديني وأمري، حدثني عن ذلك بشيء، لعل الله ينفعني به. فقال: لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه، لعذبهم وهو غير ظالم، ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم، ولو كان لك جبل أحد أو مثل جبل أحد ذهبا أنفقته في سبيل الله، ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم ¬

(¬1) الإبانة (1/ 2/408/ 315) وانظر السير (1/ 398). (¬2) أصول الاعتقاد (1/ 59 - 60/ 10) والإبانة (1/ 2/359 - 360/ 250) والتلبيس (ص.16) وحلية الأولياء (1/ 252 - 253) وشرح السنة (1/ 208) الجزء الأخير منه. والاعتصام (1/ 110) ومجموع الفتاوى (10/ 77).

أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأنك وإن مت على غير هذا دخلت النار، ولا عليك أن تأتي عبد الله بن مسعود فتسأله، فأتيت عبد الله فسألته فقال مثل ذلك، كان أبو سنان يقتص الحديث، قال ولا عليك أن تأتي أخي حذيفة بن اليمان، فتسأله. فأتيت حذيفة فسألته فقال مثل ذلك، وقال: ايت زيد بن ثابت فسله. فأتيت زيد ابن ثابت، فسألته. فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم، ولو كان لك قبل أحد أو مثل أحد ذهبا، أنفقته في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأنك إن مت على غير هذا دخلت النار". (¬1) " التعليق: هذا هو فقه العقيدة الصحيح الذي امتاز به الصحابة الكرام، لم ينقصهم العلم والفهم في عقيدة التوحيد الخالصة، كما يدعي المبتدعة أن الصحابة لم يخوضوا في أمر العقيدة، ولا كان لهم علم بها، فلا أدري ما هو العلم إن لم يكن هذا هو العلم، فرضي الله عنهم وأرضاهم، أوتوا الحظ الأوفر من العلم والفهم والعمل. ¬

(¬1) أحمد (5/ 182 - 183) وأبو داود (5/ 75/4699) وابن ماجة في المقدمة (1/ 29 - 30/ 77) وابن حبان (2/ 505 - 506/ 727) وعبد الله بن أحمد في السنة (121 - 122) واللفظ له.

بلال بن رباح (20 هـ)

بلال بن رباح (¬1) (20 هـ) بِلال بن رَبَاح الحبشي: المؤذن. مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنه اشتراه من المشركين لما كانوا يعذبونه على التوحيد، فأعتقه، فلزم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأذن له وشهد معه جميع المشاهد وآخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين أبي عبيدة بن الجراح. كان من السابقين الأولين الذين عذبوا في الله، شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - على التعيين بالجنة. وفي كنية بلال ثلاثة أقوال: أبو عبد الكريم وأبو عبد الله، وأبو عمرو وكان تِرْب أبي بكر رضي الله عنه. ومناقبه كثيرة مشهورة. مات في الشام زمن عمر رضي الله عنه سنة عشرين. موقفه من المشركين: - عن عبد الله بن مسعود قال: كان أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد، فأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون وألبسوهم أدراع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلالا فإنه هانت عليه نفسه في الله وهان على قومه فأخذوه فأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد. (¬2) قال ابن إسحاق: ثم إنهم عدوا على من أسلم واتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ¬

(¬1) الإصابة (1/ 326 - 327) والحلية (1/ 147 - 151) والبداية (5/ 333 و334) وشذرات الذهب (1/ 31 - 32) ومجمع الزوائد (9/ 299 و300) والوافي (10/ 276) والعقد الثمين (3/ 378 - 380) والاستيعاب (1/ 178 - 182). (¬2) سنن ابن ماجه (1/ 150). قال البوصيري في الزوائد: "إسناده ثقات".

أصحابه. فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش وبرمضاء مكة، إذا اشتد الحر من استضعفوه منهم يفتنونهم عن دينهم، فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبهم، ومنهم من يصلب لهم ويعصمه الله منهم. فكان بلال مولى أبي بكر لبعض بني جمح، مولد من مولديهم وهو بلال بن رباح، واسم أمه حمامة، وكان صادق الإسلام، طاهر القلب. وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو في ذلك: أحد أحد. (¬1) " التعليق: كانت هذه المواقف الخالدة لبلال من أفضل المواقف التي تحدث بها الكبير والصغير والصبي والمرأة، وعرفته الأجيال قبلنا وستعرفه الأجيال من بعدنا إن شاء الله، وستبقى هذه المواقف أنموذجا يقتدي به كل سلفي يدعو إلى عقيدة التوحيد الخالصة، لا إلى الذين يريدون المداهنة مع المشركين والمبتدعين، ويتهمون الذين يجهرون بعقيدة التوحيد أنهم متشددون، فهذه مواقف صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعهم الرسول مع المشركين؟! ¬

(¬1) البداية والنهاية (3/ 55) والإصابة (1/ 327).

أم المؤمنين زينب بنت جحش (20 هـ)

أم المؤمنين زينب بنت جحش (¬1) (20 هـ) زينب بنت جَحْش بن رياب الأسدية أم المؤمنين، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وابنة عمته، أمها: أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم من المهاجرات الأول. كانت عند زيد، مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم تزوجها - صلى الله عليه وسلم - سنة ثلاث وقيل سنة خمس، وهي التي يقول الله فيها: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} (37) (¬2) فزوجها الله تعالى بنبيه بنص كتابه، بلا ولي ولا شاهد. فكانت تفخر بذلك على أمهات المؤمنين. وكانت من سيدات النساء دينا وورعا وجودا ومعروفا رضي الله عنها وحديثها في الكتب الستة. توفيت سنة عشرين. موقفها من الجهمية: وفي الصحيح عن أنس بن مالك قال: كانت زينب تفخر على أزواج ¬

(¬1) السير (2/ 211 - 218) والإصابة (7/ 667 - 670) وأسد الغابة (7/ 126 - 128) والاستيعاب (4/ 1849 - 1852). (¬2) الأحزاب الآية (37).

خالد بن الوليد (21 هـ)

النبي - صلى الله عليه وسلم - تقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات. (¬1) خالد بن الوليد (¬2) (21 هـ) سيف الله وفارس الإسلام وليث المشاهد، السيد الإمام الأمير الكبير قائد المجاهدين: أبو سليمان القرشي المخزومي المكي وابن أخت أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث. هاجر مسلما في صفر سنة ثمان ثم سار غازيا فشهد غزوة مؤتة واستشهد أمراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثلاثة: زيد وجعفر وابن رواحة وبقي الجيش بلا أمير فتأمر عليهم فكان النصر، وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم -: سيف الله فقال: "إن خالدا سيف سله الله على المشركين". وشهد الفتح وحنينا وتأمر في أيام النبي - صلى الله عليه وسلم - واحتبس أدراعه ولأمته في سبيل الله، وحارب أهل الردة ومسيلمة، وغزا العراق واستظهر، ثم اخترق البرية السماوية بحيث إنه قطع المفازة من حد العراق إلى أول الشام في خمس ليال في عسكر معه، وشهد حروب الشام ولم يبق في جسده قيد شبر إلا وعليه طابع الشهداء، ومناقبه غزيرة. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وروى عنه ابن عباس وجابر والمقدام بن معدي كرب وقيس بن أبي حازم وعلقمة بن قيس وآخرون. عن عمرو بن العاص قال: ما عدل بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبخالد أحدا في حربه منذ أسلمنا. بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى تحطيم وثن العزى فأتاها فقال: ¬

(¬1) أخرجه أحمد (3/ 226) والبخاري (13/ 497/7420) والترمذي (5/ 331/3213) والنسائي (6/ 388/3252) وفي الكبرى (6/ 433/11411) من طرق عن أنس رضي الله عنه. (¬2) الإصابة (2/ 251 - 256) وشذرات الذهب (1/ 32) والسير (1/ 366) وتهذيب الكمال (8/ 187) والاستيعاب (2/ 427 - 431) وطبقات ابن سعد (4/ 252).

موقفه من المبتدعة:

يا عُزّ كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك قال فيه عمر: لو أدركت خالد بن الوليد ثم وليته فقدمت على ربي لقلت سمعت عبدك وخليلك يقول: خالد سيف من سيوف الله سله الله على المشركين. ولما حضرته الوفاة قال: لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها، وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة أوطعنة أورمية، ثم ها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت العير فلا نامت أعين الجبناء. توفي رضي الله عنه سنة إحدى وعشرين. موقفه من المبتدعة: قال الحافظ: وجاء تفسير أيام الهرج فيما أخرجه أحمد والطبراني بسند حسن من حديث خالد بن الوليد (أن رجلا قال له: يا أبا سليمان اتق الله، فإن الفتن ظهرت، فقال: أما وابن الخطاب حي فلا، إنما تكون بعده، فينظر الرجل فيفكر هل يجد مكانا لم ينزل به مثل ما نزل بمكانه الذي هو به من الفتنة والشر فلا يجد، فتلك الأيام التي ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين يدي الساعة أيام الهرج). (¬1) موقفه من المشركين: - جاء في الصارم المسلول: قتل خالد بن الوليد رجلا شتم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يستتبه. (¬2) ¬

(¬1) أحمد (4/ 90) والطبراني (4/ 116/3841). قال الهيثمي في المجمع (7/ 307 - 308): "رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط ورجاله ثقات وفي بعضهم ضعف". وحسن إسناده الحافظ في الفتح (13/ 18). (¬2) الصارم (ص.10).

أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (23 هـ)

- فشهد غزوة مؤتة واستشهد أمراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثلاثة: زيد وجعفر وابن رواحة وبقي الجيش بلا أمير فتأمر عليهم فكان النصر، وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم -: سيف الله فقال: "إن خالدا سيف سله الله على المشركين". (¬1) - وفي البخاري: عن قيس سمعت خالدا يقول: "لقد رأيتني يوم مؤتة اندق في يدي تسعة أسياف فصبرت في يدي صفيحة يمانية". (¬2) أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (¬3) (23 هـ) عمر بن الخطاب بن نُفَيْل القُرَشي العدويّ، أبو حفص أمير المؤمنين، ثاني الخلفاء الراشدين وأحد المبشرين بالجنة، قفل باب الفتنة. ومناقبه أشهر من أن تذكر وأكثر من أن تحصر، وفي الأحاديث الصحاح من موافقته التنزيل له وتزكية النبي - صلى الله عليه وسلم - له في وجهه وعز الإسلام بإسلامه نماذج من ذلك. قال عكرمة: لم يزل الإسلام في اختفاء حتى أسلم عمر. وقال ابن مسعود رضي الله عنه "ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر". (¬4) ¬

(¬1) ابن عساكر (16/ 240 - 241) والشاشي في مسنده (2/ 93/617) وللحديث طرق وشواهد ذكرها الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة برقم (1237). (¬2) البخاري (7/ 656/4265). (¬3) الإصابة (4/ 588 - 591) والحلية (1/ 38 - 55) وشذرات الذهب (1/ 33) والطبقات (3/ 365 - 376) وتاريخ الطبري (4/ 190 - 227) والعقد الثمين (6/ 291 - 305) والتذكرة (1/ 5 - 8) وتاريخ خليفة (152 - 156) والمعرفة والتاريخ (1/ 455 - 468) والاستيعاب (3/ 1144 - 1159). (¬4) البخاري (7/ 51/3684).

شهد بدرا وبيعة الرضوان وكل مشهد شهده رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنه راض، وولي الخلافة بعد أبي بكر، فسار بأحسن سيرة، وفتح الله له الفتوح، واتسعت دائرة الإسلام في خلافته. وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر" (¬1). وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "كان إسلام عمر فتحا، وكانت هجرته نصرا، وكانت إمارته رحمة، لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي بالبيت حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتلهم حتى تركونا نصلي". وهو أول من جمع القرآن في الصحف. وهو أول من سن قيام شهر رمضان وجمع الناس على ذلك وكتب به إلى البلدان، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها ... ". (¬2) وقال: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر". (¬3) قتل يوم الأربعاء من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وهو ابن ثلاث وستين سنة، وكانت مدة خلافته عشر سنين وخمسة أشهر، ودفن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصلى عليه صهيب بن سنان. ¬

(¬1) أحمد (6/ 55) ومسلم (4/ 1864/2398) والترمذي (5/ 581/3693) وقال: "هذا حديث صحيح". (¬2) أحمد (4/ 126 - 127) وأبو داود (5/ 13 - 14/ 4607) والترمذي (5/ 43 - 44/ 2676) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". ابن ماجة (1/ 16 - 17/ 43 - 44) والحاكم (1/ 95 - 97) وقال: "هذا حديث صحيح ليس له علة" ووافقه الذهبي. (¬3) أحمد (5/ 382و385و402) والترمذي (5/ 569/3662) وحسنه. وابن ماجة (1/ 37/97) والحاكم (3/ 75) وصححه ووافقه الذهبي.

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: - روى ابن عبد البر في جامع بيان العلم بسنده إلى عبيد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب قال: اتقوا الرأي في دينكم. قال سحنون: يعني البدع. (¬1) - وروى الهروي في ذم الكلام بسنده إلى سعيد بن المسيب قال: قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الناس فقال: أيها الناس ألا إن أصحاب الرأي أعداء السنة أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتفلتت منهم أن يعوها، واستحيوا إذا سألهم الناس أن يقولوا لا ندري، فعاندوا السنن برأيهم، فضلوا وأضلوا كثيرا، والذي نفس عمر بيده ما قبض الله نبيه ولا رفع الوحي عنهم حتى أغناهم عن الرأي، ولو كان الدين يؤخذ بالرأي، لكان أسفل الخف أحق بالمسح من ظاهره، فإياك وإياهم ثم إياك وإياهم. (¬2) - وعن ابن عمر، عن عمر أنه قال: يا أيها الناس اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برأيي اجتهادا، ووالله ما آلو عن الحق، وذلك يوم أبي جندل والكفار بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل مكة فقال: اكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم. فقالوا: إنا قد صدقناك كما تقول، ولكن تكتب: باسمك اللهم. قال: فرضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبيت عليهم حتى قال: يا عمر تراني قد رضيت وتأبى؟ قال: فرضيت. (¬3) - وعن سعيد بن المسيب أنه سمعه يقول: لما صدر عمر بن الخطاب ¬

(¬1) جامع بيان العلم وفضله (2/ 1041 - 1042) وبنحوه ذكره الشاطبي في الاعتصام (1/ 134). (¬2) ذم الكلام (2/ 200 - طبعة الأنصاري) والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 454). (¬3) رواه الطبراني (1/ 72/82) واللالكائي في أصول الاعتقاد (1/ 141 - 142/ 208) والهروي في ذم الكلام (ص.86) والبيهقي في المدخل (1/ 198 - 199/ 217).

من منى أناخ بالأبطح، ثم كوم كومة بطحاء، ثم طرح عليها رداءه واستلقى، ثم مد يديه إلى السماء فقال: اللهم كبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني غير مضيع ولا مفرط. ثم قدم المدينة فخطب الناس فقال: أيها الناس قد سنت لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، وتركتم على الواضحة إلا أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا، وضرب بإحدى يديه على الأخرى. ثم قال: إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم، أن يقول قائل لا نجد حدين في كتاب الله، فقد رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا، والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله تعالى لكتبتها: (الشيخ والشيخة فارجموهما ألبتة) فإنا قد قرأناها. قال مالك: قال يحيى بن سعيد: قال سعيد بن المسيب: فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل عمر رحمه الله. قال يحيى: سمعت مالكا يقول: قوله: (الشيخ والشيخة) يعني الثيب والثيبة فارجموهما ألبتة. (¬1) - وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عباس قال: قال عمر بن الخطاب وهو جالس على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله قد بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل عليه آية الرجم قرأناها ووعيناها وعقلناها فرجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا ¬

(¬1) الموطأ (2/ 824/10).

قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف. (¬1) - وعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال: قلت: لا، قال: يهدمه زلة العالم وجدال المنافق بالكتاب وحكم الأئمة المضلين. (¬2) " التعليق: لقد نطق الحق على لسان عمر، فما أضاع الإسلام عموما والعقيدة السلفية خصوصا إلا علماء سوء، الذين آثروا الدنيا على الآخرة، وجدال المنافقين الذين ربما أوتوا شيئا من علم القرآن والسنة، فحرفوا النصوص لتأييد بدعهم، حتى إنني رأيت لعالم معاصر (¬3) مؤلفا يستدل فيه لبناء القباب على القبور بدفن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجرة عائشة، فقل لي بربك أليس هذا هو جدال المنافقين، تواترت النصوص بتحريم البناء على القبور، ويأتي منافق في آخر الزمان ويجمع من متشابه النصوص ما يدافع به عن الشرك ومظاهره؟!! - وروى ابن عبد البر عن ابن شهاب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال وهو على المنبر: يا أيها الناس، إن الرأي إنما كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصيبا، لأن الله عز وجل يريه، وإنما هو منا الظن والتكلف. (¬4) ¬

(¬1) البخاري (12/ 165/6829) ومسلم (3/ 1317/1691) واللفظ له. (¬2) رواه ابن المبارك في الزهد (ص.520) والدارمي في السنن (1/ 71) وأبو نعيم في الحلية (4/ 196) وابن بطة في الإبانة (2/ 3/528/ 643) وابن عبد البر في الجامع (2/ 979). (¬3) هو أحمد بن الصديق الغماري في كتابه 'إحياء المقبور'. (¬4) جامع بيان العلم وفضله (2/ 1041).

" التعليق: هكذا كان أمير المؤمنين يحذر من الرأي الباطل، المتكلف الخارج عن الكتاب والسنة، الذي منشؤه الآراء، وقائده الأهواء، وغايته الظنون، وصاحبه مغبون، وهو مسلك كل مفتون، نسأل الله العفو والعافية. - وروى البخاري عن أنس بن مالك أنه سمع عمر الغد، حين بايع المسلمون أبا بكر، واستوى على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تشهد قبل أبى بكر، فقال: أما بعد، فاختار الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - الذي عنده على الذي عندكم، وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسولكم فخذوا به تهتدوا، ولما هدى الله به رسوله. (¬1) " التعليق: هذه الحكم من هذا الإمام تجعل طالب الحق يفرح بها، لأنها منشودته ومطلوبه، فمن لم يطلب الهدى فيما هدى الله به نبيه وصحابته الكرام، فلا هداه الله. وقد صدق الله إذ قال: إِنَّ {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] - وعن عمرو بن الأشجع أن عمر بن الخطاب قال: إنه سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم ¬

(¬1) البخاري (13/ 305/7269). (¬2) الإسراء الآية (9).

بكتاب الله. (¬1) - وعن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له صبيغ قدم المدينة، فجعل يسأل عن متشابه القرآن. فأرسل إليه عمر وقد أعد له عراجين النخل. فقال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ، فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين فضربه، وقال: أنا عبد الله عمر، فجعل له ضربا حتى دمي رأسه، فقال: يا أمير المؤمنين حسبك، قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي. (¬2) - وعن السائب بن يزيد، قال: أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقيل: يا أمير المؤمنين إنا لقينا رجلا سأل عن تأويل القرآن، فقال عمر: اللهم مكني منه، فبينا عمر ذات يوم جالس يغدي الناس إذ جاءه عليه ثياب فتغدى حتى إذا فرغ قال: يا أمير المؤمنين {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} (2) (¬3) فقال عمر: أنت هو؟ فقام إليه وحسر عن ذراعيه فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته، فقال: والذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقا لضربت رأسك، ألبسوه ثيابه واحملوه على قتب ثم أخرجوه حتى تقدموا به بلادكم، ثم ليقم خطيبا ثم ليقل إن صبيغا طلب العلم فأخطأه فلم يزل وضيعا في قومه حتى هلك وكان سيدهم. قال أبو حاتم: ولم يقل ¬

(¬1) سنن الدارمي (1/ 49) وذم الكلام (ص.68) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 1010) وأصول الاعتقاد (1/ 139/202) والإبانة (2/ 4/610/ 790) والشريعة (1/ 175/99) والفقيه والمتفقه (1/ 559 - 560). (¬2) الدارمي (1/ 54) والإبانة (2/ 4/609 - 610/ 789) واللالكائي (4/ 702 - 703/ 1138) والآجري في الشريعة (1/ 210/160) وذم الكلام (ص.181). وبنحوه في ما جاء في البدع لابن وضاح (ص.121). (¬3) الذاريات الآيتان (1و2).

أبو حفص في حديثه ثم أخرجوه حتى تقدموا به بلادكم. (¬1) " التعليق: قال ابن بطة: وعسى الضعيف القلب القليل العلم من الناس إذا سمع هذا الخبر وما فيه من صنيع عمر رضي الله عنه أن يتداخله من ذلك ما لا يعرف وجه المخرج عنه، فيكثر هذا من فعل الإمام الهادي العاقل رحمة الله عليه فيقول: كان جزاء من سأل عن معاني آيات من كتاب الله عز وجل أحب أن يعلم تأويلها أن يوجع ضربا وينفى ويهجر ويشهر؟ وليس الأمر كما يظن من لا علم عنده، ولكن الوجه فيه غير ما ذهب إليه الذاهب؛ وذلك أن الناس كانوا يهاجرون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته ويفدون إلى خلفائه من بعد وفاته رحمة الله عليهم ليتفقهوا في دينهم ويزدادوا بصيرة في إيمانهم ويتعلموا علم الفرائض التي فرضها الله عليهم. فلما بلغ عمر رحمه الله قدوم هذا الرجل المدينة وعرف أنه سأل عن متشابه القرآن وعن غير ما يلزمه طلبه مما لا يضره جهله ولا يعود عليه نفعه وإنما كان الواجب عليه حين وفد على إمامه أن يشتغل بعلم الفرائض والواجبات والتفقه في الدين من الحلال والحرام. فلما بلغ عمر رحمه الله أن مسائله غير هذا علم من قبل أن يلقاه أنه رجل بطال القلب خالي الهمة عما افترضه الله عليه مصروف العناية إلى ما لا ينفعه، فلم يأمن عليه أن يشتغل بمتشابه القرآن والتنقير عما لا يهتدي عقله إلى فهمه فيزيغ قلبه فيهلك. فأراد عمر رحمه الله أن يكسره عن ذلك ويذله ¬

(¬1) الإبانة (1/ 2/414 - 415/ 330) والشريعة (1/ 210/160). وعزاه الحافظ في الإصابة (5/ 169) إلى ابن الأنباري وصحح سنده. وزيادة: طلب العلم من الشريعة.

ويشغله عن المعاودة إلى مثل ذلك. (¬1) - عن خالد بن عرفطة قال: كنت عند عمر بن الخطاب، إذ أتى برجل من عبد القيس مسكنه بالسوس. فقال له عمر: أنت فلان بن فلان العبدي؟ قال: نعم. قال: وأنت النازل بالسوس؟ قال: نعم. فضربه بقناة معه، فقال له: ما ذنبي؟ قال فقرأ عليه الر {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (¬2) فقرأها عليه ثلاث مرات وضربه ثلاث ضربات، ثم قال له عمر: أنت الذي انتسخت كتاب دانيال؟ قال: نعم. قال: اذهب فامحه بالحميم والصوف الأبيض، ولا تقرأه ولا تقرئه أحدا من الناس. (¬3) - وروى مالك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب المنكدر على صلاة بعد العصر. ورواه غيره: فقيل له: أعلى الصلاة؟ فقال: على خلاف السنة. (¬4) - وجاء في كتاب البدع لابن وضاح: عن الشعبي أن عمر بن الخطاب كان يضرب الرجبيين الذين يصومون رجب كله. (¬5) - وروى ابن أبي شيبة أيضا: عن أبي عثمان النهدي قال: كتب عامل ¬

(¬1) الإبانة (1/ 2/415 - 416). (¬2) يوسف الآيات (1 - 3). (¬3) رواه ابن أبي حاتم في التفسير (7/ 2100/11324) وذكره ابن تيمية في مجموع الفتاوى (17/ 41 - 42). (¬4) مالك في الموطأ 1/ 221/50) وعبد الرزاق في المصنف (2/ 429/3464). (¬5) ما جاء في البدع (ص.93).

لعمر بن الخطاب إليه أن ههنا قوما يجتمعون فيدعون للمسلمين وللأمير. فكتب إليه عمر: أقبل وأقبل بهم معك. فأقبل. وقال عمر للبواب: أعد سوطا. فلما دخلوا على عمر أقبل على أميرهم ضربا بالسوط. فقال: يا أمير المؤمنين [إنا] لسنا أولئك الذين تعني، أولئك قوم يأتون من قبل المشرق. (¬1) - وروى ابن بطة بسنده إلى الأوزاعي أنه بلغه أن عمر بن الخطاب قال: أيها الناس إنه لا عذر لأحد بعد السنة في ضلالة ركبها حسبها هدى ولا في هدى تركه حسبه ضلالة فقد بينت الأمور وثبتت الحجة وانقطع العذر. (¬2) - وفي الإبانة أيضا عن طاوس قال: قال عمر بن الخطاب: لا تسألوا عن أمر لم يكن، فإن الأمر إذا كان أعان الله عليه وإذا تكلفتم ما لم تبلوا به وكلتم إليه. (¬3) - وفي سنن الدارمي: جاء رجل يوما إلى ابن عمر فسأله عن شيء لا أدري ما هو، فقال له ابن عمر: لا تسأل عما لم يكن فإني سمعت عمر بن الخطاب يلعن من سأل عما لم يكن. (¬4) - وروى ابن بطة بسنده إلى الحسين قال: قدم الأحنف بن قيس على عمر فسرح الوفد واحتبس الأحنف حولا ثم قال له: تدري لم حبستك؟ إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حذرنا كل منافق عليم ولست منهم إن شاء الله فالحق بأهلك. (¬5) - وفيهما عن ابن عمر قال: رأيت عمر قبل الحجر وقال: والله إني لأعلم ¬

(¬1) ابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 290/29191) ومن طريقه ابن وضاح في البدع (ص.54). (¬2) الإبانة (1/ 2/320 - 321/ 162) والفقيه والمتفقه (1/ 383). (¬3) الإبانة (1/ 2/408 - 409/ 317). (¬4) الدارمي (1/ 50). (¬5) الإبانة (2/ 3/527/ 640).

أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبلك ما قبلتك. (¬1) - عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول، فيم الرملان والكشف عن المناكب، وقد أطأ الله الإسلام، ونفى الكفر وأهله، مع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) - عن سعيد بن المسيب قال: كان عمر بن الخطاب يقول: الدية للعاقلة ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئا، حتى قال له الضحاك بن سفيان: كتب إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها، فرجع عمر (¬3) -زاد الحميدي- عن قوله. (¬4) - وروى الخطيب عن ابن المسيب قال: قضى عمر بن الخطاب في الأصابع بقضاء ثم أخبر بكتاب كتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن حزم: "في كل أصبع مما هنالك عشر من الإبل" فأخذ به، وترك أمره الأول. (¬5) ¬

(¬1) سيأتي تخريجه قريبا. (¬2) أبو داود (2/ 446 - 447/ 1887) وابن ماجة (2/ 984/2952). (¬3) أحمد (3/ 452) وأبو داود (3/ 339 - 340/ 2927) والترمذي (4/ 371/2110) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". ابن ماجه 2/ 833/2642) والنسائي في الكبرى (4/ 78 - 79/ 6363 - 6366). (¬4) الفقيه والمتفقه (1/ 364). (¬5) الفقيه والمتفقه (1/ 364 - 365) وعبد الرزاق في المصنف (9/ 385/17706) والبيهقي (8/ 93) بنحوه. أما حديث كتاب عمرو بن حزم فقد رواه النسائي (8/ 428 - 429/ 4868) وصححه ابن حبان (14/ 501/6559) والحاكم (1/ 395) وقال الحافظ في التلخيص (4/ 18): "قد صحح الحديث بالكتاب المذكور جماعة من الأئمة لا من حيث الإسناد، بل من حيث الشهرة فقال الشافعي في رسالته: لم يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال ابن عبد البر: هذا كتاب مشهور عند أهل السير، معروف ما فيه عند أهل العلم معرفة يستغنى بشهرتها عن الإسناد، لأنه أشبه التواتر في مجيئه لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة". وانظر تمام تخريجه في فتح البر (11/ 523).

- وروى عن هشام بن يحيى المخزومي: أن رجلا من ثقيف أتى عمر ابن الخطاب فسأله عن امرأة حاضت وقد كانت زارت البيت يوم النحر: ألها أن تنفر قبل أن تطهر؟ فقال عمر: لا، فقال له الثقفي: فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفتاني في مثل هذه المرأة بغير ما أفتيت، قال: فقام إليه عمر يضربه بالدرة، ويقول: لم تستفتني في شيء قد أفتى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) - وروى عن بلال بن يحيى: أن عمر، قال: قد علمت متى صلاح الناس، ومتى فسادهم: إذا جاء الفقه من قبل الصغير استعصى عليه الكبير، وإذا جاء الفقه من قبل الكبير تابعه الصغير فاهتديا. (¬2) - جاء في ذم الكلام: قال عمر بن الخطاب: لأن أسمع في ناحية المسجد بنار تشتعل أحب إلي من أن أسمع فيه ببدعة ليس لها مغير. (¬3) - وأخرج البخاري عن شقيق قال: سمعت حذيفة يقول: بينا نحن جلوس عند عمر إذ قال: أيكم يحفظ قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الفتنة؟ قال: فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره يكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال: ليس عن هذا أسألك، ولكن التي تموج كموج البحر. فقال: ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها بابا مغلقا. قال عمر: أيكسر الباب أم يفتح؟ قال: لا بل يكسر. قال عمر: إذن لا يغلق أبدا. قلت: أجل. قلنا لحذيفة: أكان عمر يعلم الباب؟ قال: نعم، ¬

(¬1) الفقيه والمتفقه (1/ 507). (¬2) الفقيه والمتفقه (2/ 158) وجامع بيان العلم وفضله (1/ 615) وذكره الشاطبي في الاعتصام (2/ 682). (¬3) ذم الكلام (ص.85).

كما يعلم أن دون غد ليلة، وذلك أنى حدثته حديثا ليس بالأغاليط. فهبنا أن نسأله من الباب، فأمرنا مسروقا فسأله، فقال: من الباب؟ قال: عمر. (¬1) - وفيه عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر فنزل على ابن أخيه الحر ابن قيس بن حصن -وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبانا- فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي هل لك وجه عند هذا الأمير فتستأذن لي عليه؟ قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس فاستأذن لعيينة، فلما دخل قال: يا ابن الخطاب، والله ما تعطينا الجزل، وما تحكم بيننا بالعدل. فغضب عمر حتى هم بأن يقع به، فقال الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (¬2) وإن هذا من الجاهلين. فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله. (¬3) - وفيه: عن أنس قال: كنا عند عمر فقال: نهينا عن التكلف. (¬4) ¬

(¬1) أحمد (5/ 401 - 402) والبخاري (13/ 60/7096) ومسلم (4/ 2218/144) والترمذي (4/ 454 - 455/ 2258) وقال: "هذا حديث صحيح". والنسائي في الكبرى (1/ 144 - 145/ 327) وابن ماجه (2/ 1305 - 1306/ 3955). (¬2) الأعراف الآية (199). (¬3) البخاري (13/ 311 - 312/ 7286). (¬4) البخاري (13/ 329/7293).

- وجاء في الفتح أن رجلا سأل عمر بن الخطاب عن قوله: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} (¬1) ما الأب؟ فقال عمر: نهينا عن التعمق والتكلف. (¬2) - قال الشاطبي: فحق ما حكي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال: إنما هذا القرآن كلام، فضعوه مواضعه، ولا تتبعوا به أهواءكم، (¬3) أي: فضعوه على مواضع الكلام، ولا تخرجوه عن ذلك، فإنه خروج عن طريقه المستقيم إلى اتباع الهوى. (¬4) - وروى ابن عبد البر بسنده إلى عمر قال: إنما أخاف عليكم رجلين: رجل تأول القرآن على غير تأويله، ورجل ينافس الملك على أخيه. (¬5) - جاء في أعلام الموقعين: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: العلم ثلاثة: كتاب ناطق، وسنة ماضية، ولا أدري، وقال لأبي الشعثاء: لا تفتين إلا بكتاب ناطق، أو سنة ماضية. (¬6) - وفيه قال عمر رضي الله عنه: لا تختلفوا، فإنكم إن اختلفتم كان من بعدكم أشد اختلافا. (¬7) ¬

(¬1) عبس الآية (31). (¬2) الفتح (13/ 336). (¬3) رواه الدارمي نحوه (2/ 317) وعبد الله بن أحمد في السنة (ص.27) والبيهقي في الاعتقاد (ص.205 برقم 59 - 60) وفي الأسماء والصفات (1/ 591 - 592/ 521 - 523) والآجري في الشريعة (1/ 215/167). (¬4) الاعتصام (1/ 303 - 304). (¬5) جامع بيان العلم وفضله (2/ 1202) وذكره الشاطبي في الاعتصام (1/ 304). (¬6) إعلام الموقعين (1/ 253). (¬7) إعلام الموقعين (1/ 259).

- وفيه عن السائب بن يزيد ابن أخت نمر أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إن حديثكم شر الحديث، إن كلامكم شر الكلام، فإنكم قد حدثتم الناس حتى قيل قال فلان وقال فلان، ويترك كتاب الله، من كان منكم قائما فليقم بكتاب الله، وإلا فليجلس. (¬1) - وقال شيخ الإسلام: كتب عمر إلى شريح: اقض بما في كتاب الله، فإن لم تجد فبما في سنة رسول الله، فإن لم تجد فبما به قضى الصالحون قبلك. وفي رواية: فبما أجمع عليه الناس. (¬2) - وقال: ورفع إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه نائحة، فأمر بضربها، فقيل: يا أمير المؤمنين إنه قد بدا شعرها. فقال: إنه لا حرمة لها، إنها تنهى عن الصبر، وقد أمر الله به، وتأمر بالجزع، وقد نهى الله عنه، وتفتن الحي، وتؤذي الميت، وتبيع عبرتها، وتبكي بشجو غيرها، إنها لا تبكي على ميتكم، إنما تبكي على أخذ دراهمكم. (¬3) - وأخرج ابن وضاح عن عمر أنه كان يقول: أصدق القيل قيل الله، وإن أحسن الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإن شر الأمور محدثاتها، ألا وإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. (¬4) - وأخرج عن يحيى بن أبي كثير قال: قال عمر بن الخطاب: إذا اختلف الناس في أهوائهم وعجب كل ذي رأي برأيه أيها الناس عليكم ¬

(¬1) إعلام الموقعين (2/ 194). (¬2) مجموع الفتاوى (19/ 200 - 201). (¬3) المنهاج (4/ 552). (¬4) ما جاء في البدع (ص.62) وجامع بيان العلم وفضله (1/ 615/1054).

موقفه من المشركين:

أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم. (¬1) موقفه من المشركين: - قال ابن مسعود رضي الله عنه: "كان إسلام عمر فتحا، وكانت هجرته نصرا، وكانت إمارته رحمة، لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي بالبيت حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتلهم حتى تركونا نصلي". - جاء في شعب الإيمان: عن أبي موسى في كاتب له نصراني عجب عمر بن الخطاب رضي الله عنه من كتابه فقال: إنه نصراني قال أبو موسى: فانتهرني وضرب فخذي وقال أخرجه وقرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} (2) وقال: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. (¬3) قال أبو موسى: والله ما توليته إنما كان يكتب. قال: أما وجدت في أهل الإسلام من يكتب لك. لا تدنهم إذ أقصاهم الله ولا تأمنهم إذ خونهم الله ولا تعزهم بعد إذ أذلهم الله. (¬4) - ذكر ابن جرير أنهم وجدوا قبر دانيال بالسوس، وأن أبا موسى لما ¬

(¬1) ما جاء في البدع (ص.160). (¬2) الممتحنة الآية (1). (¬3) المائدة الآية (51). (¬4) شعب الإيمان (7/ 43).

قدم بها بعد مضي أبي سبرة إلى جندي سابور، كتب إلى عمر في أمره، فكتب إليه أن يدفنه وأن يغيب عن الناس موضع قبره ففعل. (¬1) - وقال ابن وضاح: سمعت عيسى بن يونس مفتي أهل طرسوس يقول: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقطعها لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها، فخاف عليهم الفتنة. (¬2) - قال المعرور بن سويد: صليت مع عمر بن الخطاب في طريق مكة صلاة الصبح، فقرأ فيها أَلَمْ {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} (3) و {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} (4) ثم رأى الناس يذهبون مذاهب، فقال: أين يذهب هؤلاء؟ فقيل: يا أمير المؤمنين، مسجد صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهم يصلون فيه، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا، كانوا يتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعا، فمن أدركته الصلاة في هذه المساجد فليصل ومن لا فليمض ولا يتعمدها. (¬5) - وقال: وكان عمر رضي الله عنه لا يصلي على من لم يصل عليه حذيفة، لأنه كان في غزوة تبوك قد عرف المنافقين، الذين عزموا على الفتك برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬6) ¬

(¬1) البداية والنهاية (7/ 91) والمنهاج (1/ 480 - 481). (¬2) ما جاء في البدع (ص.91) والاقتضاء (2/ 744 - 745). (¬3) الفيل الآية (1). (¬4) قريش الآية (1). (¬5) ما جاء في البدع (ص.90 - 91) والحوادث والبدع (ص.159 - 160) والاقتضاء (2/ 744) والمنهاج (1/ 481). (¬6) المنهاج (5/ 237).

- وقال عمر رضي الله عنه: لا تعلموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا عليهم في كنائسهم يوم عيدهم، فإن السخطة تنزل عليهم. (¬1) " التعليق: كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حريصا على أن يكون المسلمون أصحاب عقيدة خالصة من شوائب الشرك والبدع، فلذا كان يقطع كل السبل التي قد يتذرع بها كل مشرك ومبتدع، فرضي الله عنه وأرضاه، لقد حمى جانب عقيدة التوحيد الخالصة. - وعن عمر رضي الله عنه: أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله فقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك. (¬2) - وجاء في الموطأ عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري، عن أبيه، أنه قال: قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى الأشعري. فسأله عن الناس. فأخبره. ثم قال له عمر: هل كان فيكم من مغربة خبر؟ فقال: نعم. رجل كفر بعد إسلامه. قال: فما فعلتم به؟ قال: قربناه، فضربنا عنقه. فقال عمر: أفلا حبستموه ثلاثا. وأطعمتموه كل يوم رغيفا. واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله؟ ثم قال عمر: اللهم إني لم أحضر. ولم آمر. ولم أرض. إذ بلغني. (¬3) ¬

(¬1) رواه عبد الرزاق (1609) والبيهقي في الكبرى (9/ 234). (¬2) أحمد (1/ 34) والبخاري (3/ 589/1597) ومسلم (2/ 925/1270) وأبو داود (2/ 438 - 439/ 1873) والترمذي (3/ 214 - 215/ 860) والنسائي (5/ 227/2937) وابن ماجه (2/ 981/2943). (¬3) الموطأ (2/ 737).

قتل العلج المجوسي لعمر بن الخطاب: عن عمرو بن ميمون قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يصاب بأيام بالمدينة وقف على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف قال: كيف فعلتما أتخافان أن تكونا قد حملتما الأرض ما لا تطيق؟ قالا: حملناها أمرا هي له مطيقة ما فيها كبير فضل قال: انظرا أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق، قالا: لا فقال عمر: لئن سلمني الله لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبدا قال: فما أتت عليه إلا رابعة حتى أصيب. قال: إني لقائم ما بيني وبينه إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب، وكان إذا مر بين الصفين قال: استووا حتى إذا لم ير فيهم خللا تقدم فكبر، وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس، فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني أو أكلني الكلب حين طعنه، فطار العلج بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد يمينا ولا شمالا إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلا مات منهم سبعة. فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسا فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه. وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه، فمن يلي عمر فقد رأى الذي أرى، وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرون غير أنهم قد فقدوا صوت عمر، وهم يقولون: سبحان الله، فصلى بهم عبد الرحمن بن عوف صلاة خفيفة، فلما انصرفوا قال: يا ابن عباس انظر من قتلني؟ فجال ساعة ثم جاء فقال: غلام المغيرة. قال: الصنع؟ قال: نعم. قال: قاتله الله لقد أمرت به معروفا، الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي بيد رجل يدعي الإسلام. قد كنت

أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة، وكان العباس أكثرهم رقيقا -فقال: إن شئت فعلت أي إن شئت قتلنا قال: كذبت بعد ما تكلموا بلسانكم وصلوا قبلتكم وحجوا حجكم- فاحتمل إلى بيته فانطلقنا معه وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فقائل يقول: لا بأس. وقائل يقول: أخاف عليه. فأتي بنبيذ فشربه فخرج من جوفه، ثم أتي بلبن فشربه فخرج من جرحه، فعلموا أنه ميت فدخلنا عليه وجاء الناس فجعلوا يثنون عليه وجاء رجل شاب فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقدم في الإسلام ما قد علمت ثم وليت فعدلت ثم شهادة. قال: وددت أن ذلك كفاف لا علي ولا لي، فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض قال: ردوا علي الغلام. قال: ابن أخي ارفع ثوبك فإنه أبقى لثوبك وأتقى لربك، يا عبد الله ابن عمر انظر ما علي من الدين، فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفا أو نحوه. قال: إن وفى له مال آل عمر فأده من أموالهم وإلا فسل في بني عدي بن كعب، فإن لم تف أموالهم فسل في قريش ولا تعدهم إلى غيرهم، فأدعني هذا المال، انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل: يقرأ عليك عمر السلام ولا تقل أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميرا، وقل يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه. فسلم واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي. فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه. فقالت: كنت أريده لنفسي ولأوثرن به اليوم على نفسي. فلما أقبل قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء. قال: ارفعوني. فأسنده رجل إليه، فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، أذنت. قال: الحمد لله، ما كان من

شيء أهم إلي من ذلك، فإذا أنا قضيت فاحملوني ثم سلم فقل يستأذن عمر ابن الخطاب، فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين. وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء تسير معها، فلما رأيناها قمنا فولجت عليه فبكت عنده ساعة، واستأذن الرجال فولجت داخلا لهم فسمعنا بكاءها من الداخل، فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين، استخلف. قال: ما أجد أحدا أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض، فسمى عليا وعثمان والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن. وقال: يشهدكم عبد الله ابن عمر وليس له من الأمر شيء كهيئة التعزية له فإن أصابت الإمرة سعدا فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة. وقال: أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار خيرا الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم أن يقبل من محسنهم وأن يعفى عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيرا، فإنهم ردء الإسلام وجباة المال وغيظ العدو، وأن لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم وأوصيه بالأعراب خيرا، فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام، أن يؤخذ من حواشي أموالهم وترد على فقرائهم وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفوا إلا طاقتهم. فلما قبض خرجنا به فانطلقنا نمشي فسلم عبد الله بن عمر. قال: يستأذن عمر بن الخطاب. قالت: أدخلوه فأدخل فوضع هنالك مع صاحبيه فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط فقال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم. فقال الزبير: قد جعلت أمري إلى

علي. فقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان. وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف. فقال عبد الرحمن: أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه، والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه. فأسكت الشيخان فقال عبد الرحمن: أفتجعلونه إلي والله علي أن لا آلُو عن أفضلكم. قالا: نعم فأخذ بيد أحدهما فقال: لك قرابة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقدم في الإسلام ما قد علمت، فالله عليك لئن أمرتك لتعدلن، ولئن أمرت عثمان لتسمعن ولتطيعن. ثم خلا بالآخر فقال مثل ذلك. فلما أخذ الميثاق قال: ارفع يدك يا عثمان فبايعه، وبايع له علي وولج أهل الدار فبايعوه. (¬1) - وجاء في أصول الاعتقاد: عن ابن أبي مليكة قال: قالت عائشة لما حضر أبي دعاني فقال: يا بنية إني قد كنت أعطيتك خيبر ولم تكوني حزتيها وإني أحب أن ترديها علي. قالت: فقلت: قد غفر الله لك يا أبت والله لو كانت خيبر ذهبا جمعا لرددتها عليك قال: فهي على كتاب الله يا بنية إني كنت أتجر قريش وأكثرهم مالا فلما شغلتني الإمارة رأيت إن أصبت من المال ... ثم قال: العباءة القطوانية والخلاب والعبد فإذا قضيت فأسرعي به إلى ابن الخطاب. يا بنية ثيابي هذه فكفنيني بها. قالت: فبكيت فقلت: يا أبت نحن أيسر من ذلك، فقال: غفر الله لك، وهل ذلك إلا للمهل، قالت: فلما مات بعثت بذلك إلى ابن الخطاب فقال: يرحم الله أباك لقد أحب أن لا يترك لقائل مقالا. (¬2) ¬

(¬1) البخاري (7/ 74 - 76/ 3700). (¬2) أصول الاعتقاد (7/ 1370/2449).

موقفه من الجهمية:

- وفيها: عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: قال عمر بن الخطاب: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر فمن قال غير هذا فهو مفتر وعليه ما على المفتري. (¬1) - وفيها: عن وائل عن البهي قال: وقع بين عبيد الله بن عمر وبين المقداد كلام فشتم عبد الله المقداد فقال عمر علي بالحداد أقطع لسانه لا يجترئ أحد بعده فيشتم أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) - وفيها: عن أبي وائل: أن رجلا حرج على أم سلمة قوله فأمر عمر أن يجلد مائتي جلدة. (¬3) موقفه من الجهمية: - عن يوسف بن مهران قال: خطبنا ابن عباس بالبصرة فقال: قام فينا عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه فقال: أيها الناس، إنه سيكون في هذه الأمة أقوام يكذبون بالرجم، ويكذبون بالدجال، ويكذبون بالحوض، ويكذبون بالشفاعة، ويكذبون بعذاب القبر، ويكذبون بقوم يخرجون من النار بعد ما امتحشوا. (¬4) - عن الأحنف بن قيس قال: كنت عند عمر بن الخطاب فرأيت امرأة عنده وهي تقول: يا أمير المؤمنين اذكر إذ كنت في أصلاب المشركين وأرحام المشركات حتى مَنَّ الله عليك بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. فقلت لها: لقد أكثرت ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (7/ 1369 - 1370/ 2448). (¬2) أصول الاعتقاد (7/ 1338/2376). (¬3) أصول الاعتقاد (7/ 1340/2382). (¬4) الشريعة (2/ 136/811) وأصول السنة لابن زمنين (ص.190) وبنحوه في أصول الاعتقاد (6/ 1181/2084).

موقفه من الخوارج:

على أمير المؤمنين. فقال عمر: دعها. ما تعرفها؟ هذه التي سمع الله منها فأنا أحق أن أسمع منها. (¬1) - قال عمر بن الخطاب: إن هذا القرآن كلام الله فضعوه على مواضعه. (¬2) موقفه من الخوارج: - عن المعتمر عن أبيه قال: حدثنا أبو عثمان أن رجلا كان من بني يربوع يقال له صبيغ سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الذاريات والنازعات والمرسلات أو عن إحداهن، فقال له عمر: ضع عن رأسك فوضع عن رأسه فإذا له وفيرة فقال: لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك، قال: ثم كتب إلى أهل البصرة أن لا تجالسوه، أو قال: كتب إلينا أن لا تجالسوه، قال: فلو جلس إلينا ونحن مائة لتفرقنا عنه. - وعن السائب بن يزيد قال: أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقيل: يا أمير المؤمنين إنا لقينا رجلا سأل عن تأويل القرآن، فقال عمر: اللهم مكني منه، فبينا عمر ذات يوم جالس يغدي الناس إذ جاءه عليه ثياب فتغدى حتى إذا فرغ قال: يا أمير المؤمنين {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} وِقْرًا فقال عمر: أنت هو، فقام إليه وحسر عن ذراعيه فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته، فقال: والذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقا لضربت رأسك، ألبسوه ثيابه واحملوه على قتب ثم أخرجوه حتى تقدموا به بلادكم ثم ليقم ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (3/ 455 - 456/ 690). (¬2) السنة لعبد الله (23 - 24 و27) والإبانة (1/ 12/249 - 250/ 22 - 23) والشريعة (1/ 215/167).

خطيبا ثم ليقل إن صبيغا طلب العلم فأخطأه فلم يزل وضيعا في قومه حتى هلك وكان سيدهم. قال أبو حاتم: ولم يقل أبو حفص في حديثه ثم أخرجوه حتى تقدموا به بلادكم. (¬1) " التعليق: قال الحافظ ابن حجر (¬2): قال أبو أحمد العسكري: اتهمه عمر برأي الخوارج. (¬3) قال ابن بطة (¬4): فإن قلت: فإنه قال: لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك. فمن حلق رأسه يجب عليه ضرب العنق؟ فإني أقول لك: من مثل هذا أتى الزائغون، وبمثل هذا بلي المنقرون الذين قصرت هممهم وضاقت أعطانهم عن فهم أفعال الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين، فلم يحسوا بموضع العجز من أنفسهم فنسبوا النقص والتقصير إلى سلفهم. وذلك أن عمر رضي الله عنه قد كان سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يخرج قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول الناس يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية من لقيهم فليقتلهم فإن في قتلهم أجرا عند الله". (¬5) ¬

(¬1) أخرجه ابن بطة في الإبانة (1/ 414 - 415/ 329 - 330) والآجري في الشريعة (1/ 210 - 211/ 160 - 161) والدارمي (1/ 54 و55 - 56) واللالكائي (4/ 701 - 703/ 1136 - 1138) وابن عساكر في تاريخ دمشق (23/ 410 - 412) وعزاه الحافظ في الإصابة (5/ 169) لابن الأنباري وصحح سنده. (¬2) الإصابة (5/ 169). (¬3) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (23/ 409). (¬4) الإبانة (1/ 2/416 - 417). (¬5) البخاري (12/ 350/6930) ومسلم (2/ 746 - 747/ 1066) من حديث علي رضي الله عنه.

موقفه من المرجئة:

وفي حديث آخر: "طوبى لمن قتلهم وطوبى لمن قتلوه، قيل: يا رسول الله ما علامتهم؟ قال: سيماهم التحليق". (¬1) فلما سمع عمر رضي الله عنه مسائله فيما لا يعنيه كشف رأسه لينظر هل يرى العلامة التي قالها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصفة التي وصفها، فلما لم يجدها أحسن أدبه لئلا يتغالى به في المسائل إلى ما يضيق صدره عن فهمه فيصير من أهل العلامة الذين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتلهم فحقن دمه وحفظ دينه بأدبه رحمة الله عليه ورضوانه، ولقد نفع الله صبيغا بما كتب له عمر في نفيه، فلما خرجت الحرورية قالوا لصبيغ إنه قد خرج قوم يقولون كذا وكذا فقال: هيهات نفعني الله بموعظة الرجل الصالح وكان عمر ضربه حتى سالت الدماء على وجهه أو رجليه أو على عقبيه ولقد صار صبيغ لمن بعده مثلا وتردعة لمن نقر وألحف في السؤال. موقفه من المرجئة: - عن الهزيل بن شرحبيل قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح بهم. (¬2) - عن زر بن حبيش قال: كان عمر بن الخطاب يقول لأصحابه: هلموا نزدد إيمانا فيذكرون الله عز وجل. (¬3) ¬

(¬1) أخرجه أحمد (3/ 197) وأبو داود (4/ 123 - 124/ 4766) وابن ماجة (1/ 62/175) والحاكم (2/ 147) وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي. وجوّد إسناده الحافظ في الفتح (12/ 354). من حديث أنس رضي الله عنه. (¬2) الإبانة (2/ 7/856 - 857/ 1161) والسنة لعبد الله (ص.115) والسنة للخلال (4/ 44/1134). (¬3) أصول الاعتقاد (5/ 1012/1700) والإبانة (2/ 7/846 - 847/ 1134) والشريعة (1/ 262/241) وابن أبي شيبة في الإيمان (ح108)، وهو في المصنف (6/ 164 - 165/ 30366) والخلال في السنة (4/ 39 - 40/ 1122).

موقفه من القدرية:

موقفه من القدرية: - عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، قال: "خطبنا عمر رضي الله عنه بالجابية، والجاثليق ماثل بين يديه، والترجمان يترجم فقال عمر: من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، فقال الجاثليق: إن الله لا يضل أحدا، فقال عمر، ما يقول؟ فقال الترجمان: لا شيء، ثم عاد في خطبته. فلما بلغ: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، فقال الجاثليق: إن الله لا يضل أحدا، فقال عمر: ما يقول؟ فأخبره، فقال: كذبت يا عدو الله، ولولا عهدك لضربت عنقك، بل الله خلقك، والله أضلك، ثم الله يميتك، ثم يدخلك النار، إن شاء الله. ثم قال: "إن الله تعالى لما خلق آدم نثر ذريته، فكتب أهل الجنة وما هم عاملون، وأهل النار وما هم عاملون، ثم قال: هؤلاء لهذه، وهؤلاء لهذه". (¬1) وقد كان الناس تذاكروا القدر، فافترق الناس، وما يذكره أحد". (¬2) " التعليق: انظر رحمك الله مَوقفَ رجل -أمرنا بالاقتداء به- وَقَفَهُ من المبتدعة، هل فيه شيء من المداهنة أوالمسالمة، ما هو إلا ضرب العنق وفرض الحجة والبرهان، لا زبالة الرأي ووساوس الشيطان. ¬

(¬1) أخرجه البزار (3/ 20/2141) والطبراني في الصغير (1/ 150/354) وقال الهيثمي في المجمع (7/ 786): "ورجال البزار رجال الصحيح". من حديث ابن عمر وفي الباب عن غيره أخرجها من طرق الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة بالأرقام: (46و47و48و49و50). (¬2) الشريعة (1/ 398 - 399/ 455) والسنة لعبد الله (142) واللالكائي (4/ 729 - 730/ 1197) والإبانة (2/ 9/129 - 130/ 1560).

- وجاء في الإبانة: عن عمرو بن ميمون قال: رأيت عمر رضي الله عنه يوم أصيب وعليه ثوب أصفر فخر وهو يقول: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} (1). اهـ (¬2) - وفيها عن زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: القدر قدرة الله عز وجل، فمن كذب بالقدر؛ فقد جحد قدرة الله عز وجل. (¬3) - وفيها عن هشام بن عروة عن أبيه؛ أن رجلا قال لعمر بن الخطاب: أعطاك من لا يمن ولا يحرم. قال: كذبت، بل الله يمن عليك بالإيمان، ويحرم الكافر الجنة. (¬4) - وفيها عن ثابت أن رجلا أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين. أعطني؛ فوالله لئن أعطيتني لا أحمدك، ولئن منعتني لا أذمك، قال: لم؟ قال: لأن الله عز وجل هو الذي يعطي وهو الذي يمنع، قال: أدخلوه بيت المال ليحضره فليأخذ ما شاء ... (¬5) - وفيها أيضا عن عمرو بن ميمون أن عمر سمع غلاما وهو يقول: اللهم إنك تحول بين المرء وقلبه؛ فحل بيني وبين الخطايا؛ فلا أعمل بشيء ¬

(¬1) الأحزاب الآية (38). (¬2) الإبانة (2/ 9/87/ 1497). (¬3) الإبانة (2/ 9/131/ 1562). (¬4) الإبانة (2/ 9/131/ 1563). (¬5) الإبانة (2/ 9/131/ 1564).

منها، فقال عمر: رحمك الله ودعا له بخير. (¬1) - وعن عبد الله بن عباس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد -أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه- فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام. قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين فدعاهم فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع في الشام فاختلفوا. فقال بعضهم: قد خرجنا لأمر ولا نرى أن نرجع عنه. وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء. فقال: ارتفعوا عني. ثم قال: ادعوا لي الأنصار فدعوتهم فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم. فقال: ارتفعوا عني. ثم قال: ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فدعوتهم فلم يختلف منهم عليه رجلان فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء. فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه. فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة: نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله. أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان (إحداهما) خصيبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصيبة رعيتها بقدر الله؟ وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبا في بعض حاجته فقال: إن عندي في هذا علما: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه" قال: فحمد الله عمر ثم ¬

(¬1) الإبانة (2/ 9/132/ 1566).

انصرف. (¬1) - وعن أبي عثمان النهدي قال: سمعت عمر بن الخطاب -وهو يطوف بالبيت- يقول: اللهم إن كنت كتبتني في السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبتني على الشقوة فامحني منها وأثبتني في السعادة فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب. (¬2) - وعن ابن أبزى قال: أتي عمر فقيل له: إن ناسا يتكلمون في القدر فقام خطيبا فقال يا أيها الناس إنما هلك من كان قبلكم في القدر والذي نفس عمر بيده لا أسمع برجلين تكلما فيه إلا ضربت أعناقهما. قال: فأحجم الناس فما تكلم فيه أحد حتى ظهرت نابغة الشام. (¬3) - وأخرج أبو نعيم في الحلية في ترجمة الزهري من طريق ابن أخي الزهري عن عمه قال: كان عمر بن الخطاب يأمر برواية قصيدة لبيد بن ربيعة التي يقول فيها: إن تقوى ربنا خير نفل ... وبإذن الله ريثي وعجل أحمد الله فلا ند له ... بيديه الخير ما شاء فعل من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل (¬4) ¬

(¬1) أحمد (1/ 194) مختصرا والبخاري (10/ 220/5729) ومسلم (4/ 1740 - 1741/ 2219) وأبو داود (3/ 478/3103). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 735/1207) والإبانة (2/ 9/131 - 132/ 1565) ومجموع الفتاوى (8/ 540). (¬3) أصول الاعتقاد (4/ 735 - 736/ 1208) والإبانة (2/ 11/309 - 310/ 1986). (¬4) الحلية (3/ 369 - 370).

أبو ذر الغفاري جندب بن جنادة (32 هـ)

- وجاء في المنهاج: ويذكر أن رجلا سرق فقال لعمر: سرقت بقضاء الله وقدره. فقال له: وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره. " التعليق: قال ابن تيمية رحمه الله: وهكذا يقال لمن تعدى حدود الله، وأعان العباد على عقوبته الشرعية، كما يعين المسلمين على جهاد الكفار: إن الجميع واقع بقضاء الله وقدره، لكن ما أمر به يحبه ويرضاه، ويريده شرعا ودينا، كما شاء خلقا وكونا، بخلاف ما نهى عنه. (¬1) أبو ذر الغِفَاري جُنْدُب بن جُنَادَة (¬2) (32 هـ) أبو ذر الغفاري الزاهد المشهور، الصادق اللهجة مختلف في اسمه واسم أبيه، والمشهور أنه جندب بن جنادة بن سكن. كان من السابقين إلى الإسلام، وقصة إسلامه في الصحيحين (¬3). وكان أبو ذر من كبار الصحابة وفضلائهم، قيل كان خامس خمسة في الإسلام، ثم إنه رد إلى بلاد قومه فأقام بها بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - له بذلك. فلما أن هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - هاجر إليه أبو ذر رضي الله عنه، ولازمه وجاهد معه. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أظلت الخضراء ولا ¬

(¬1) المنهاج (3/ 234). (¬2) الإصابة (7/ 125 - 130) وطبقات ابن سعد (4/ 219 - 237) والحلية (1/ 156 - 170) والبداية والنهاية (7/ 164و165) والسير (2/ 46 - 78) ومجمع الزوائد (9/ 327 - 332) وتاريخ الطبري (4/ 283 - 286) والاستيعاب (1/ 252 - 256) والوافي (11/ 193) والتذكرة (1/ 17 - 18) وشذرات الذهب (1/ 39). (¬3) سيأتي ضمن مواقفه من المشركين إن شاء الله.

موقفه من المبتدعة:

أقلت الغبراء أصدق من أبي ذر" (¬1) وكان رضي الله عنه يفتي في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان. فاتته بدر. وكان رأسا في الزهد، والصدق، والعلم والعمل، قوالا بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم، توفي سنة اثنتين وثلاثين. موقفه من المبتدعة: عن عبد الله بن الصامت أن أبا ذر قال له: يوشك يا ابن أخي إن عشت إلى قريب أن يمر بالجنازة في السوق فيرفع الرجل رأسه فيقول: يا ليتني على أعوادها. قال: قلت تدري ما بهم؟ قال: على ما كان. قلت: إن ذلك بين يدي أمر عظيم؟ قال: أجل عظيم عظيم عظيم. (¬2) " التعليق: يعضد قول أبي ذر ويصدقه ما روى البخاري في كتاب الفتن من صحيحه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه". (¬3) قال الحافظ في الفتح: قال ابن بطال: تغبيط أهل القبور وتمني الموت عند ظهور الفتن إنما هو خوف ذهاب الدين بغلبة الباطل وأهله وظهور المعاصي والمنكر انتهى. (¬4) وليس هذا عاما في حق كل أحد وإنما هو خاص ¬

(¬1) الترمذي (5/ 628 - 629/ 3802) وقال: "هذا حديث حسن غريب". الحاكم (3/ 342) وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي. ابن حبان (16/ 76/7132 الإحسان) وفي الباب عن عبد الله بن عمرو وأبي الدرداء وأبي هريرة رضي الله عنهم. (¬2) الحاكم (4/ 447) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. (¬3) أحمد (2/ 236) والبخاري (13/ 93/7115) ومسلم (4/ 2231/157 [53]) وابن ماجه (2/ 1340/4037). (¬4) انظر شرح ابن بطال (10/ 58).

بأهل الخير، وأما غيرهم فقد يكون لما يقع لأحدهم من المصيبة في نفسه أو أهله أو دنياه وإن لم يكن في ذلك شيء يتعلق بدينه، ويؤيده ما أخرجه في رواية أبي حازم عن أبي هريرة عند مسلم: "لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر فيتمرغ عليه ويقول: يا ليتني مكان صاحب هذا القبر، وليس به الدين إلا البلاء" (¬1). وذكر الرجل فيه للغالب وإلا فالمرأة يتصور فيها ذلك، والسبب في ذلك ما ذكر في رواية أبي حازم أنه يقع البلاء والشدة حتى يكون الموت الذي هو أعظم المصائب أهون على المرء فيتمنى أهون المصيبتين في اعتقاده وبهذا جزم القرطبي، وذكره عياض احتمالا، وأغرب بعض شراح المصابيح فقال: المراد بالدين هنا العبادة، والمعنى أنه يتمرغ على القبر ويتمنى الموت في حالة ليس المتمرغ فيها من عادته وإنما الحامل عليه البلاء. وتعقبه الطيبي بأن حمل الدين على حقيقته أولى، أي ليس التمني والتمرغ لأمر أصابه من جهة الدين بل من جهة الدنيا. وقال ابن عبد البر: ظن بعضهم أن هذا الحديث معارض للنهي عن تمني الموت، وليس كذلك، وإنما في هذا أن القدر سيكون لشدة تنزل بالناس من فساد الحال في الدين أو ضعفه أو خوف ذهابه لا لضرر ينزل في الجسم، كذا قال، وكأنه يريد أن النهي عن تمني الموت هو حيث يتعلق بضرر الجسم، وأما إذا كان لضرر يتعلق بالدين فلا. وقد ذكره عياض احتمالا أيضا. وقال غيره: ليس بين هذا الخبر وحديث النهي عن تمني الموت معارضة، لأن النهي صريح وهذا إنما فيه إخبار عن شدة ستحصل ينشأ عنها هذا التمني، وليس فيه تعرض لحكمه، وإنما سيق للإخبار ¬

(¬1) مسلم (4/ 2231/157 [54]).

عما سيقع. قلت: ويمكن أخذ الحكم من الإشارة في قوله: وليس به الدين إنما هو البلاء فإنه سيق مساق الذم والإنكار، وفيه إيماء إلى أنه لو فعل ذلك بسبب الدين لكان محمودا، ويؤيده ثبوت تمني الموت عند فساد أمر الدين عن جماعة من السلف. قال النووي: لا كراهة في ذلك بل فعله خلائق من السلف منهم عمر بن الخطاب وعيسى الغفاري وعمر بن عبد العزيز وغيرهم. ثم قال القرطبي: كأن في الحديث إشارة إلى أن الفتن والمشقة البالغة ستقع حتى يخف أمر الدين ويقل الاعتناء بأمره ولا يبقى لأحد اعتناء إلا بأمر دنياه ومعاشه نفسه وما يتعلق به، ومن ثم عظم قدر العبادة أيام الفتنة كما أخرج مسلم من حديث معقل بن يسار رفعه "العبادة في الهرج كهجرة إلي" (¬1) ويؤخذ من قوله: حتى يمر الرجل بقبر الرجل أن التمني المذكور إنما يحصل عند رؤية القبر، وليس ذلك مرادا بل فيه إشارة إلى قوة هذا التمني لأن الذي يتمنى الموت بسبب الشدة التي تحصل عنده قد يذهب ذلك التمني أو يخف عند مشاهدة القبر والمقبور فيتذكر هول المقام فيضعف تمنيه، فإذا تمادى على ذلك دل على تأكد أمر تلك الشدة عنده حيث لم يصرفه ما شاهده من وحشة القبر وتذكر ما فيه من الأهوال عن استمراره على تمني الموت. وقد أخرج الحاكم من طريق أبي سلمة قال: عدت أبا هريرة فقلت: اللهم اشف أبا هريرة، فقال: "اللهم لا ترجعها، إن استطعت يا أبا سلمة فمت، والذي نفسي بيده ليأتين على العلماء زمان الموت أحب إلى أحدهم من الذهب ¬

(¬1) أحمد (5/ 25) ومسلم (4/ 2268/2948) والترمذي (4/ 424/2201) وابن ماجه (2/ 1319/3985).

موقفه من المشركين:

الأحمر. وليأتين أحدهم قبر أخيه فيقول: ليتني مكانه". (¬1) اهـ (¬2) موقفه من المشركين: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما بلغ أبا ذر مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله ثم ائتني، فانطلق الأخ حتى قدمه وسمع من قوله: ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاما ما هو بالشعر، فقال ما شفيتني مما أردت، فتزود وحمل شنة له فيها ماء حتى قدم مكة، فأتى المسجد، فالتمس النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل، فرآه علي، فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح، ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد، وظل ذلك اليوم ولا يراه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه فمر به علي فقال: أما نال للرجل أن يعلم منزله، فأقامه فذهب به معه لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى إذا كان يوم الثالث، فعاد علي على مثل ذلك، فأقام معه، ثم قال: ألا تحدثني ما الذي أقدمك، قال: إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدنني فعلت، ففعل، فأخبره قال: فإنه حق وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أصبحت فاتبعني، فإني إن رأيت شيئا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي، ففعل فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ودخل معه، فسمع من قوله وأسلم مكانه. فقال له ¬

(¬1) الحاكم (4/ 518) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي من طريق أبي سلمة عن عبد الرحمن. (¬2) الفتح (13/ 93 - 94).

موقفه من الرافضة:

النبي - صلى الله عليه وسلم -: ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري، قال والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ثم قام القوم فضربوه حتى أضجعوه، وأتى العباس، فأكب عليه، قال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجاركم إلى الشام، فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد لمثلها فضربوه وثاروا إليه فأكب العباس عليه. (¬1) " التعليق: الابتلاء سنة من سنن الله في عباده الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، ولا سيما في الأمور العقائدية، قل أن تجد صاحب دعوة إلى العقيدة الخالصة من الشرك ولا يناله الأذى في سبيل ذلك، فأبو ذر ابتلي فصبر، وكان هو وإخوانه من الصحابة خير مثال لمن يأتي بعدهم. موقفه من الرافضة: عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى قال: قلت لأبي ذر: لو أتيت برجل يسب أبا بكر عليه السلام ما كنت صانعا قال: اضرب عنقه قلت: فعمر قال: أضرب عنقه. (¬2) ¬

(¬1) البخاري (7/ 219 - 220/ 3861) ومسلم (4/ 1923 - 1925/ 2474 [133]). (¬2) أصول الاعتقاد (7/ 1339/2378).

موقفه من الخوارج:

موقفه من الخوارج: - جاء في السير: عن عبد الله بن الصامت، قال: قال أبو ذر لعثمان: يا أمير المؤمنين، افتح الباب، لا تحسبني من قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. (¬1) - وعن يزيد أخبرنا العوام بن حوشب: حدثني رجل عن شيخين من بني ثعلبة قالا: نزلنا الربذة، فمر بنا شيخ أشعث أبيض الرأس واللحية، فقالوا: هذا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فاستأذناه بأن نغسل رأسه. فأذن لنا، واستأنس بنا. فبينما نحن كذلك إذ أتاه نفر من أهل العراق -حسبته قال: من أهل الكوفة- فقالوا: يا أبا ذر، فعل بك هذا الرجل وفعل، فهل أنت ناصب لك راية فنكملك برجال ما شئت؟ فقال: يا أهل الإسلام، لا تعرضوا علي ذاكم ولا تذلوا السلطان، فإنه من أذل السلطان، فلا توبة له، والله لو صلبني على أطول خشبة أو حبل، لسمعت وصبرت ورأيت أن ذلك خير لي. (¬2) عبد الله بن مسعود (¬3) (32 هـ) عبد الله بن مسعود بن غَافِل، أبو عبد الرحمن الهُذَلِي، المكي المهاجري ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (2/ 71 - 72). (¬2) المصدر نفسه. (¬3) الإصابة (4/ 233 - 236) والاستيعاب (3/ 987 - 994) والحلية (1/ 124 - 139) والبداية (7/ 162 - 163) وطبقات ابن سعد (3/ 150 - 161) وتاريخ بغداد (1/ 147 - 150) والتذكرة (1/ 13 - 16) ومجمع الزوائد (9/ 286 - 291) والسير (1/ 461 - 500) والعقد الثمين (5/ 283 - 284) وشذرات الذهب (1/ 38 - 39) والوافي بالوفيات (17/ 604 - 606).

البدري، حليف بني زهرة، الإمام الحبر، فقيه الأمة، كان من السابقين الأولين ومن النجباء العالمين، شهد بدرا وهاجر الهجرتين، قال رضي الله عنه: لقد رأيتني سادس ستة وما على ظهر الأرض مسلم غيرنا. وأخرج البخاري والنسائي من حديث أبي موسى قال: "قدمت أنا وأخي من اليمن فمكثنا حيناً وما نحسب ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - لكثرة دخولهم وخروجهم عليه" (¬1). وفي البخاري عن أبي وائل قال: كنت مع حذيفة، فجاء ابن مسعود فقال حذيفة: "إن أشبه الناس هديا ودلا وقضاء وخطبة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حين يخرج من بيته، إلى أن يرجع لا أدري ما يصنع في أهله لعبد الله بن مسعود، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أن عبد الله من أقربهم عند الله وسيلة يوم القيامة" (¬2). وعنه قال: "والذي لا إله غيره لقد قرأت من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضعا وسبعين سورة، ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته" (¬3). وفي المسند بسند حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأ قراءة ابن أم عبد" (¬4) وعن علي قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن مسعود، فصعد شجرة يأتيه منها ¬

(¬1) البخاري (7/ 129/3763) ومسلم (4/ 1911/2460) والترمذي (5/ 631/3806) وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب". والنسائي في الكبرى (5/ 72/8263). (¬2) رواه الحاكم (3/ 315) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي بنحو هذا اللفظ. ورواه أحمد (5/ 395و402) والبخاري (7/ 129/3762) و (10/ 624/6097) والترمذي (5/ 631 - 632/ 3807) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وهو عند بعضهم باختصار. (¬3) البخاري (9/ 56/5000) ومسلم (4/ 1912/2462). (¬4) أحمد (1/ 445) وابن ماجة (1/ 49/138) وابن حبان (15/ 542 - 543/ 7066 - 7067 الإحسان) وفي الباب عن عمر بن الخطاب ..

موقفه من المبتدعة:

بشيء، فنظر أصحابه إلى ساق عبد الله، فضحكوا من حموشة ساقيه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما تضحكون؟ لرجْل عبد الله أثقل في الميزان يوم القيامة من أحد" (1). وفي صحيح البخاري ومسلم عن عبد الله قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اقرأ علي القرآن، قلت يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أشتهي أن أسمعه من غيري، فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} (¬2) فغمزني برجله، فإذا عيناه تذرفان". (¬3) وسئل علي رضي الله عنه عن ابن مسعود فقال: علم الكتاب والسنة ثم انتهى وكفى به. توفي رضي الله عنه سنة اثنتين وثلاثين، وقيل غير ذلك. موقفه من المبتدعة: - جاء في البدع لابن وضاح عن ابن مسعود قال: من أحب أن يكرم دينه فليعتزل مخالطة السلطان ومجالسة أصحاب الأهواء، فإن مجالستهم ألصق من الجرب. (¬4) - جاء في ذم الكلام عن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه: سمعت ابن مسعود يقول: يا أيها الناس إن الله بعث محمدا بالحق، وأنزل عليه الفرقان ¬

(¬1) أحمد (1/ 114) والطبراني (9/ 97/8516) وأبو يعلى (1/ 409 - 410/ 539) وذكره الهيثمي في المجمع (9/ 288 - 289) وقال: "رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني ورجالهم رجال الصحيح غير أم موسى وهي ثقة". وفي الباب عن ابن مسعود. (¬2) النساء الآية (41). (¬3) أحمد (1/ 380و433) والبخاري (8/ 317/4582) ومسلم (1/ 551/800) وأبو داود (4/ 74/3668) والترمذي (5/ 223/3025). (¬4) ما جاء في البدع (ص.110) والدارمي (1/ 90).

وفرض عليه الفرائض وأمره أن يعلم أمته، فبلغهم رسالته ونصح لأمته، وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون، وبين لهم ما يجهلون، فاتبعوه ولا تبتدعوا، فقد كفيتم، كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. (¬1) - وعنه قال: اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة. (¬2) - وجاء في أصول الاعتقاد عن أبي قلابة عن ابن مسعود قال: عليكم بالعلم قبل أن يقبض وقبضه أن يذهب أهله أو قال أصحابه، وقال: عليكم بالعلم فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إليه، أو يفتقر إلى ما عنده، وإنكم ستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعونكم إلى كتاب الله، وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم، وإياكم والتبدع وإياكم والتنطع وإياكم والتعمق وعليكم بالعتيق. (¬3) - وفيه: عن ابن مسعود إنا نقتدي ولا نبتدي ونتبع ولا نبتدع ولن نضل ما تمسكنا بالأثر. (¬4) ¬

(¬1) ذم الكلام (ص.79) وطرفه الأخير في الإبانة (1/ 2/327 - 328/ 175) وأصول الاعتقاد (1/ 96/104) وانظر الاعتصام (1/ 107) والبدع والنهي عنها (ص.42) وطبقات الحنابلة (1/ 69). (¬2) الدارمي (1/ 72) والحاكم (1/ 103) والطبراني في الكبير (10/ 257/10488) والبيهقي في الكبرى (3/ 19) وقال: "هذا موقوف". ومحمد بن نصر في السنة (رقم 89 ص 30) وأصول الاعتقاد (1/ 61 - 62/ 13 و14) والإبانة (1/ 2/320/ 161) وذم الكلام (117) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 1179) والفقيه والمتفقه (1/ 383) والمطالب العالية (3/ 90/2963) وانظر الباعث (ص.66) وتذكر الحفاظ (1/ 16) ومجموع الفتاوى (4/ 109) والتلبيس (15 - 16). (¬3) أصول الاعتقاد (1/ 97/108) وذم الكلام (ص.185) والإبانة (1/ 2/323 - 324/ 168) مختصرا. والدارمي (1/ 54) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 1202) والفقيه والمتفقه (1/ 167) وانظر الاعتصام (1/ 107 - 108) والبدع والنهي عنها (ص.64) والباعث (ص.66 - 67) وتذكرة الحفاظ (1/ 16). (¬4) أصول الاعتقاد (1/ 96 - 97/ 105) والفقيه والمتفقه (1/ 382).

- وفيه أيضا: عن عاتكة بنت جزء قالت: أتينا عبد الله بن مسعود فسألناه عن الدجال، قال لنا: لغير الدجال أخوف عليكم من الدجال، أمور تكون من كبرائكم، فأيما مرية أو رجيل أدرك ذلك الزمان فالسمت الأول السمت الأول فأما اليوم على السنة. (¬1) - وفي ذم الكلام عنه قال: يا أيها الناس إنكم ستحدثون ويحدث لكم فإذا رأيتم محدثا فعليكم بالأمر الأول. (¬2) - وفي الإبانة عنه قال: أكثر الناس خطايا يوم القيامة أكثرهم خوضا في الباطل. (¬3) - وأخرج اللالكائي عن عبد الله بن مسعود قال: إياكم وما يحدث الناس من البدع، فإن الدين لا يذهب من القلوب بمرة، ولكن الشيطان يحدث له بدعا حتى يخرج الإيمان من قلبه، ويوشك أن يدع الناس ما ألزمهم الله من فرضه في الصلاة والصيام والحلال والحرام، ويتكلمون في ربهم عز وجل فمن أدرك ذلك الزمان فليهرب، قيل: يا أبا عبد الرحمن فإلى أين؟ قال: إلى لا أين. قال يهرب بقلبه ودينه لا يجالس أحدا من أهل البدع. (¬4) - وعنه أيضا قال: كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير، إذا ترك منها شيء، قيل: تركت السنة، قيل متى ذلك يا أبا ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (1/ 97/107) وبنحوه في الدارمي (1/ 71). (¬2) ذم الكلام (ص.136) والإبانة (1/ 2/329/ 180) والدارمي (1/ 61) والفقيه والمتفقه (1/ 457) وانظر طبقات الحنابلة (1/ 69) والباعث (ص.67) والاستقامة (1/ 5). (¬3) الإبانة (2/ 3/499/ 554). (¬4) أصول الاعتقاد (1/ 136 - 137/ 196) والحجة في بيان المحجة (1/ 312).

عبد الرحمن؟ قال: ذلك إذا ذهب علماؤكم وكثرت جهالكم وكثرت قراؤكم، وقلت فقهاؤكم والتمست الدنيا بعمل الآخرة، وتفقه لغير الدين. (¬1) - وروى الدارمي بسنده إلى بلاز بن عصمة قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول وكان إذا كان عشية ليلة الجمعة قام فقال: إن أصدق القول قول الله، وإن أحسن الهدي هدي محمد، والشقي من شقي في بطن أمه، وإن شر الروايا روايا الكذب وشر الأمور محدثاتها وكل ما هو آت قريب. (¬2) - وفي الإبانة: عن ثابت بن قطبة قال: كان عبد الله بن مسعود يذكر كل عشية خميس، فيحمد الله ويثنى عليه ويقول: إن أحسن الحديث كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وشر الرواية رواية الكذب. وسمعته يقول: يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة. وإن الله عز وجل لم يخلق في هذه الدنيا شيئا إلا وقد جعل له نهاية ينتهي إليه، ثم يزيد وينقص إلى يوم القيامة. وإن هذا الإسلام اليوم مقبل ويوشك أن يبلغ نهايته ثم يدبر وينقص إلى يوم القيامة، وآية ذلك أن تفشوا الفاقة وتقطع الأرحام حتى لا يخشى الغني إلا الفقر ولا يجد الفقير من يعطف عليه، وحتى إن الرجل ليشكو إلى أخيه وابن عمه وجاره غني لا يعود عليه بشيء، وحتى إن السائل ليطوف بين الجمعتين لا يوضع في يده شيء وذكر ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (1/ 103/123) وجامع بيان العلم وفضله (1/ 654) والدارمي (1/ 64). وانظر الاعتصام (1/ 108) والبدع والنهي عنها (ص.78). (¬2) الدارمي (1/ 69) وما جاء في البدع (ص.62 - 63و63) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 1162) وذكره الشاطبي في الاعتصام (1/ 93).

الحديث. (¬1) - وأخرج اللالكائي عن عبد الله قال: يجيء قوم يتركون من السنة مثل هذا -يعني مفصل الأصبع- فإن تركتموهم جاءوا بالطامة الكبرى، وإنه لم يكن أهل كتاب قط إلا كان أول ما يتركون السنة وإن آخر ما يتركون الصلاة، ولولا أنهم يستحيون لتركوا الصلاة. (¬2) " التعليق على النصوص: 1 - هذا ما عليه أصحاب البدع، تجد الجل منهم يرتكب أعظم الكبائر الصريحة في القرآن والسنة، وتجده يعيش بالربا الصريح، وتجده ديوثا في أهله وبناته لا يهمه من اختلط بهن، وأين ذهبن، وأين يأتين، ومع ذلك تجده بزعمه يتقرب بالبدع المنكرة، مثل المولد وغيره من البدع باسم التقرب إلى الله، ومحبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، انظر رحمك الله إلى هذه البلايا ما أعجبها وما أكثر تناقضها، ولكن المبتدعة كالأنعام بل هم أضل. 2 - قد وقع ما توقعه أبو عبد الرحمن من وقوع فتنة الشرك والبدعة، فليست هناك فتنة أعظم من البدعة والشرك، فرضي الله عنهم ما أغزر علمهم وما أبعد نظرهم. 3 - بدرت في وقتنا هذا بوادر سوء من أناس تكلمت بها ألسنتهم، وخطتها أقلامهم وتوقحوا على نشرها في كتبهم ومجلاتهم، ألا وهي: قولهم في تصنيف بعض السنن: هذا من الجزئيات، وهذا من القشور، وهذا من ¬

(¬1) الإبانة (1/ 2/327/ 173) وطرف منه في الشريعة (1/ 123 - 124/ 17) وأصول الاعتقاد (1/ 121/159). (¬2) أصول الاعتقاد (1/ 102 - 103/ 122) والحاكم (4/ 519) والإبانة (1/ 2/331 - 332/ 186).

الأمور التافهة التي لا ينبغي أن يضيع الوقت في الدعوة إليها، ولا يدري هؤلاء الجهلة لوازم أقوالهم، فيمثلون دائما بالأكل باليمين وإعفاء اللحية ومع ذلك تجدهم متساهلين في البدع، متصادقين مع المبتدعة، وأحيانا يكونون منهم، فليرد هؤلاء على ابن مسعود، وليعتبروا أنفسهم أحسن منه عقلا وعلما، ولا أستبعد أن يؤدي ببعضهم الغرور إلى التجرء على ذلك. - روى الدارمي بسنده إلى عمر بن يحي قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه قال كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري، فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج فلما خرج قمنا إليه جميعا. فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن، إني رأيت في المسجد آنفا أمرا أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيرا، قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قوما حلقا جلوسا، ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مائة؟ فيكبرون مائة. فيقول: هللوا مائة؟ فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة؟ فيسبحون مائة. قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئا. انتظار رأيك أو انتظار أمرك، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم. ثم مضى ومضينا معه، حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح. قال: فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء. ويحكم يا

أمة محمد، ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده، إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة، قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن، ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه. إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدثنا أن قوما يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم (¬1)، وايم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم، ثم تولى عنهم، فقال عمرو ابن سلمة: رأينا عامة أولئك الحلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج. (¬2) " التعليق: هذا الموقف من أعظم الحجج على المبتدعة الذين يحاولون مغالطة الناس بتقسيم البدعة إلى حسنة وغير حسنة، فإن هذا الأمر الذي أنكره أبو موسى أول ما رآه، وابن مسعود بعد ما شاهده بالنسبة للبدع التي في زماننا أمر يسير، فلا أدري ماذا يكون موقفه لو شاهد الطامات الكبرى التي عليها مبتدعة أهل وقتنا والله المستعان. فصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سدوا المنافذ على المبتدعة في كل زمان، وحذروهم كل التحذير، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. انظر رحمك الله معي هذه القصة وتأملها ولا تغتر بمن طعن فيها، هذا أبو موسى يفزع مما رأى ويركض ليخبر أبا عبد الرحمن بالحادث الذي ¬

(¬1) أحمد (1/ 404) والترمذي (4/ 417 - 418/ 2188) وقال: "حديث حسن صحيح". وابن ماجه (1/ 59/168). (¬2) الدارمي (1/ 68 - 69) ورواه الطبراني (9/ 136/8636) مختصرا، وبنحوه عند ابن وضاح في البدع (ص.40). وانظر مجمع الزوائد (1/ 181) والباعث على إنكار البدع والحوادث (ص.63 - 65) والاعتصام (1/ 175) والاقتضاء (2/ 633).

شاهده، ويفزع أبو عبد الرحمن مما سمعه من أبي موسى فيعطيه الحكم مسبقا قبل أن يشاهد ما أفزع أبا موسى، ويأتي ويقف على الحلقة ويسألهم عن مقصود فعلهم هذا، فيخبرونه فيجيبهم الجواب المقنع، ويبين لهم استعجالهم بالبدعة، مع وجود من يقتدى به بين أظهرهم من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما تزال غضة طرية لم تبل ولم تتغير ولا تزال ولله الحمد كذلك إلى قرننا هذا غضة طرية محفوظة بحفظ الله لها، والله المستعان. - روى ابن وضاح عن أسد عن جرير بن حازم عن الصلت بن بهرام قال: مر ابن مسعود بامرأة معها تسبيح تسبح به، فقطعه وألقاه ثم مر برجل يسبح بحصى، فضربه برجله ثم قال: لقد سبقتم ركبتم بدعة ظلما، ولقد غلبتم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - علما!! (¬1) وفي أصول الاعتقاد: عن عبد الله بن مسعود قال: ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلا، إن آمن آمن وإن كفر كفر، فإن كنتم لابد مقتدين، فبالميت فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. (¬2) " التعليق: ورد عن ابن مسعود أقوال وأفعال تدل على بغضه للتقليد الأعمى الذي يرمي صاحبه في الهاوية. وما هلك المسلمون وأصابهم ما أصابهم إلا بهذا الداء العضال. فبعد الناس عن قال الله قال رسوله، وأصبحت الحجة ¬

(¬1) ابن وضاح (ص.46). (¬2) أصول الاعتقاد (1/ 105/130) والطبراني (9/ 166/8764) وأورده الهيثمي في المجمع (1/ 180) وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 988) وروى الخطيب في الفقيه والمتفقه (2/ 131 - 132) الطرف الأول منه وفي (1/ 438) بنحوه. والاعتصام (2/ 876) وإعلام الموقعين (2/ 195).

عندهم في أقوال المتأخرين الذين متنوا لهم متونا، ونظموا لهم مسائل، فتجد أحدهم يحفظ من هذا الشيء الكثير، ولكن لا يعرف ما في صحيح البخاري ومسلم والموطأ، أو على الأقل: بلوغ المرام أو عمدة الأحكام. ولهذا إذا نزل بأحدهم نازلة فزع إلى ما عنده من النثر أو النظم وجعله حجة في دينه، وإذا قلت: المسألة على خلاف الحديث، يثور عليك ويفزع إلى حجة باطلة، وهي قوله: من بقي من الناس يفهم القرآن والحديث؟ مع أنه إذا أخذ مختصرا من هذه المختصرات، احتاج في تعلمه إلى سنين حتى يفهم المتن بواسطة الشرح الصغير والمتوسط والكبير، وحاشية فلان وفلان، وقد يمضي طول عمره ما يعرف دليلا من الكتاب والسنة، فلذا تجد من هذه الأنواع من أفنى عمره في المتون والحواشي، وتجده يوم المشاهد والقبور بنذره وهداياه، طالبا القوت منهم والنفع ودفع الضر، وبالتالي سلط الله على المسلمين عدوهم، فاستباح بيضتهم وحرمتهم، وجعلهم يمشون وراءه في كل صغيرة وكبيرة إلا من جعله الله من الطائفة المنصورة. فرضي الله عن ابن مسعود الذي حذر هذه الأمة من الوقوع في هذه الورطة. - وجاء في صيانة الإنسان عن ابن مسعود قال: أنتم في زمان: خيركم المسارع في الأمور. وسيأتي زمان بعدكم: خيرهم فيه المتثبت المتوقف لكثرة الشبهات. (¬1) " التعليق: رضي الله عن هذا الإمام وسائر إخوانه من سلفنا الصالح الذين ما ¬

(¬1) صيانة الإنسان (ص.308 - 309).

تركوا باب شر إلا وسدوه في وجوه المبتدعة على اختلاف أنواعهم، فكم ألقى الملاحدة من شبه سخيفة على ضعاف المسلمين لتشكيكهم في ربهم ونبليهم ودينهم. وكم ألقى المبتدعة من الشبه التي لا حصر لها لصرف وجوه الناس إليهم، وقد افتتن بها خلق كثير من ضعاف المعرفة الذين أعرضوا عن مثل هذه النصائح الغالية، إذ لو طلبوا الحكم الشرعي بدليله في النازلة التي تحيق بهم، والشبه التي تعرض لهم، لما انطلت عليهم هذه الأفكار الكاسدة في سوق المعرفة، ولا كان لها رواج بينهم ولا حول ولا قوة إلا بالله. - وعن مسروق عن ابن مسعود قال: ليس عام إلا والذي بعده شر منه، لا أقول عام أمطر من عام ولا عام أخصب من عام ولا أمير خير من أمير، ولكن ذهاب علمائكم وخياركم، ثم يحدث أقوام يقيسون الأمور بآرائهم فيهدم الإسلام ويثلم. (¬1) - وفي الفتح: عن زيد بن وهب قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: لا يأتي عليكم يوم إلا وهو شر من اليوم الذي كان قبله حتى تقوم الساعة، لست أعني رخاء من العيش يصيبه ولا مالا يفيده ولكن لا يأتي عليكم يوم إلا وهو أقل علما من اليوم الذي مضى قبله، فإذا ذهب العلماء استوى الناس فلا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر فعند ذلك يهلكون. - وعن مسروق عنه قال: لا يأتي عليكم زمان إلا وهو أشر مما كان ¬

(¬1) الدارمي (1/ 65) والطبراني في الكبير (9/ 109/8551) ابن وضاح (ص.76) وابن عبد البر في الجامع (2/ 1043) والهروي في ذم الكلام (ص.89) والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 456 - 457).

قبله؛ أما إني لا أعني أميرا خيرا من أمير، ولا عاما خيرا من عام، ولكن علماؤكم وفقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفا، ويجيء قوم يفتون برأيهم -وفي لفظ عنه من هذا الوجه- وما ذاك بكثرة الأمطار وقلتها ولكن بذهاب العلماء، ثم يحدث قوم يفتون في الأمور برأيهم فيثلمون الإسلام ويهدمونه. (¬1) - روى الدارمي بسنده إلى ابن مسعود وحذيفة أنهما كانا جالسين، فجاء رجل فسألهما عن شيء، فقال ابن مسعود لحذيفة: لأي شيء ترى يسألوني عن هذا؟ قال: يعلمونه ثم يتركونه، فأقبل إليه ابن مسعود فقال: ما سألتمونا عن شيء من كتاب الله تعالى نعلمه أخبرناكم به، أو سنة من نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرناكم به ولا طاقة لنا بما أحدثتم. (¬2) - وجاء في صيانة الإنسان: قال عمرو بن ميمون الأودي، صحبت معاذا باليمن، فما فارقته حتى واريته في التراب بالشام، ثم صحبت بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود فسمعته يقول: عليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ثم سمعته يقول: سيلي عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها فصلوا الصلاة لميقاتها، فهي الفريضة، وصلوا معهم فإنها لكم نافلة، (¬3) قال: قلت: يا أصحاب محمد ما أدري ما تحدثونا، قال وما ذاك؟ قلت: تأمرني بالجماعة وتحضني عليها ثم تقول: صل الصلاة وحدك وهي الفريضة وصل ¬

(¬1) الفتح (13/ 21). (¬2) الدارمي (1/ 46) وذكره ابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 252 مختصرا). (¬3) أحمد (1/ 379) ومسلم (1/ 378 - 379/ 534 [26]) موقوفا. وأبو داود (1/ 300/432) والنسائي (2/ 410/778) وابن ماجه (1/ 398/1255).

مع الجماعة وهي النافلة؟ قال: يا عمرو بن ميمون، قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية تدري ما الجماعة؟ قلت: لا، قال: إن جمهور الناس الذين فارقوا الجماعة، الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك. قال نعيم بن حماد: يعني إذا فسدت الجماعة فعليك ما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد وإن كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة حينئذ. (¬1) " التعليق: لم يكن ابن مسعود يزن الأمور بكثرة العدد وقلته، ولكن يلتزم بالحق ولو كان واحدا. فذكر الجماعة والحض عليها ليس معناه ما عليه السواد الأعظم الذين هم أتباع كل ناعق من مبتدعة وأصحاب عقائد فاسدة، ولكن خلاصة البشر الذين التزموا بالسنة في أقوالهم وأفعالهم، وانتهجوا نهج السلف الصالح، ورضوا مسلكهم ورفضوا كل ما لم يكونوا عليه، وجعلوا السلف الذين في مقدمتهم الصحابة هم الميزان في معرفة الحق والخلق. - وفي فتح البر عن رجل من عبس، أن ابن مسعود رآى رجلا يضحك في جنازة، فقال: تضحك وأنت في جنازة؟ والله لا أكلمك أبدا. (¬2) - وأخرج ابن بطة في الإبانة عن جعفر بن برقان، قال: حدثني بعض أصحابنا أن رجلا من حمير كان يتعلم القرآن عند ابن مسعود، فقال له نفر ¬

(¬1) الباعث على إنكار البدع والحوادث (ص.91 - 92) وتاريخ دمشق (46/ 408 - 409) وذكره صاحب صيانة الإنسان (ص.309 - 310). (¬2) فتح البر (1/ 179).

من قريش: لو أنك لم تعلم القرآن حتى تعرف، فذكر ذلك الحميري لابن مسعود، فقال: بلى فتعلمه فإنك اليوم في قوم كثير فقهاؤهم قليل خطباؤهم، كثير معطوهم قليل سؤالهم، يحفظون العهود ولا يضيعون الحدود، والعمل فيه قائد للهوى، ويوشك أن يأتي عليكم زمان قليل فقهاؤه كثير خطباؤه كثير سؤاله قليل معطوه، يحفظون الحروف ويضيعون الحدود، والهوى فيه قائد للعمل. قال الحميري: وليأتين علينا زمان يكون فيه الهوى قائدا للعمل؟ قال ابن مسعود: نعم، قال: فمتى ذلك الزمان؟ قال: إذا أميتت الصلاة وشيد البنيان وظهرت الأيمان واستخف بالأمانة وقبلت الرشا فالنجاة النجاة، قال: فأفعل ماذا؟ قال: تكف لسانك وتكون حلسا من أحلاس بيتك، قال: فإن لم أترك؟ قال: تسأل دينك ومالك فأحرز دينك وابذل مالك، قال: فإن لم أترك، قال: تسأل دينك ودمك فأحرز دينك وابذل دمك، قال: قتلتني يا ابن مسعود، قال: هو القتل أو النار، قال: فمن خير الناس في ذلك الزمان؟ قال: غني مستخفي، قال: فمن شر الناس في ذلك الزمان؟ قال: الراكب الموضع المستقع. (¬1) - وجاء في أصول الاعتقاد عن الأسود بن هلال قال: قال عبد الله: إن أحسن الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وإن أحسن الكلام كلام الله، وإنكم ستحدثون ويحدث لكم، فكل محدث ضلالة وكل ضلالة في النار، وأتى بصحيفة فيها حديث قال: فأمر بها فمحيت ثم غسلت ثم أحرقت ثم قال: بهذا هلك أهل ¬

(¬1) الإبانة (2/ 4/590 - 591/ 750) وابن الضريس في فضائل القرآن (ص.27) والفريابي في فضائل القرآن (ص.202 - 203) ومالك في الموطأ مختصرا (1/ 173/88) والحوادث والبدع (ص.98).

الكتاب قبلكم، نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، أنشدت الله رجلا يعلمها عند أحد إلا أعلمني به، والله لو أني أعلم أنها بدير هند لتبلغت إليها. (¬1) - وجاء في ذم الكلام عن مرة الهمداني أن أبا قرة الكندي أتى ابن مسعود بكتاب فقال: إني قرأت هذا بالشام فأعجبني فإذا هو كتاب من كتب أهل الكتاب، فقال عبد الله: إنما هلك من كان قبلكم باتباعهم الكتب وتركهم كتاب الله. فدعا بطست وماء فوضعه فيه وأماثه (¬2) بيده حتى رأيت سواد المداد. (¬3) - وفي السير: عن أبي وائل أن ابن مسعود رأى رجلا قد أسبل، فقال: ارفع إزارك، فقال: وأنت يا ابن مسعود فارفع إزارك، قال: إن بساقي حموشة وأنا أؤم الناس. فبلغ ذلك عمر، فجعل يضرب الرجل، ويقول: أترد على ابن مسعود؟ (¬4) - وفيها: عن زيد بن وهب قال: لما بعث عثمان إلى ابن مسعود يأمره بالمجيء إلى المدينة، اجتمع إليه الناس، فقالوا: أقم فلا تخرج، ونحن نمنعك أن يصل إليك شيء تكرهه. فقال: إن له علي طاعة، وإنها ستكون أمور وفتن لا أحب أن أكون أول من فتحها. فرد الناس وخرج إليه. (¬5) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (1/ 86/85). (¬2) أماثه: مسحه. (¬3) ذم الكلام (ص.35). (¬4) سير إعلام النبلاء (1/ 491 - 492) والإصابة (6/ 217). (¬5) السير (1/ 489).

- وجاء في الإبانة: قال عبد الله: يأتي على الناس زمان يمتلئ فيه جوف كل امرئ شرا حتى يجري الشر، ولا يجد مفصلا ولا يجد جوفا يلج فيه. (¬1) قال ابن بطة عقبه: لا جعلنا الله وإياكم من أهل الشر ولا جعل لأهل الشر علينا سبيلا. - وفيها: عن عمرو بن مرة قال: قال عبد الله: إنها ستكون أمور مشتبهة فعليكم بالتؤدة فإن الرجل يكون تابعا في الخير خير من أن يكون رأسا في الضلالة. (¬2) - وفيها: عن أبي وائل قال: قال عبد الله: ذهب صفو الدنيا فلم يبق إلا الكدر، فالموت اليوم تحفة لكل مسلم، فقال الرجل الذي حدثه أبو وائل: سمعت عبد الله يقول: ما شبهت الدنيا إلا بالتعب يسري صفوه ويبقى كدره ولن يزالوا بخير ما إذا حز في نفس الرجل وجد من هو أعلم فمشى إليه فسقاه وايم الله ليوشكن أن تلتمس ذلك فلا تجده. (¬3) - وفيها: عن أبي الأحوص قال: قال عبد الله: ليوطنن المرء نفسه على أنه إن كفر من في الأرض جميعا لم يكفر ولا يكونن أحدكم إمعة، قيل: وما الإمعة؟ قال: الذي يقول أنا مع الناس، إنه لا إسوة في الشر. (¬4) - وفيها: عن علقمة بن قيس قال: قال عبد الله: لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله، قال: فبلغ ¬

(¬1) الإبانة (2/ 4/575/ 723). (¬2) الإبانة (1/ 2/328/ 177) وما جاء في البدع (ص.169). (¬3) الإبانة (1/ 1/187 - 188/ 23). (¬4) الإبانة (1/ 1/193 - 194/ 29).

ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب -كانت تقرأ القرآن- فأتته فقالت: ما حديث بلغني عنك أراك لعنت الواشمات والمستوشمات والمتنمصات للحسن المغيرات خلق الله، فقال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1) وهو في كتاب الله، فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين اللوحين -المصحف- فما وجدته، قال: أما قرأت: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬2). زاد ابن عبد البر في الجامع: قالت: بلى. قال فإنه قد نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: إني لأظن أهلك يفعلون بعض ذلك. قال: فاذهبي فانظري قال: فدخلت فلم تر شيئا قال: فقال عبد الله: لو كانت كذلك لم نجامعها. (¬3) - وفيها: عن عبد الله بن عون، عن محمد، قال: كانوا لا يختلفون، عن ابن مسعود في خمس: إن أحسن الحديث كتاب الله، وخير السنة سنة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وإن أكيس الكيس التقى، وإن أحمق الحمق الفجور. (¬4) - وفيها: عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول في خطبته: إن أصدق الحديث كلام الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، ¬

(¬1) أحمد (1/ 454) والبخاري (8/ 812/4886) ومسلم (3/ 1678/2125) وأبو داود (4/ 397 - 398/ 4169) والترمذي (5/ 96 - 97/ 2782) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". النسائي (8/ 523 - 524/ 5114) وابن ماجه (1/ 640/1989). (¬2) الحشر الآية (7). (¬3) الإبانة (1/ 1/236 - 237/ 68) وجامع بيان العلم (2/ 1182) والكفاية (ص.12). (¬4) الإبانة (1/ 2/324 - 325/ 170) وشطره الأول في البخاري (الفتح 13/ 249/7277).

وأحسن القصص هذا القرآن، وأحسن السنن سنة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأشرف الحديث ذكر الله، وخير الأمور عزائمها، وشر الأمور محدثاتها، وأحسن الهدي هدي الأنبياء، وأشرف القتل موت الشهداء، وأغر الضلالة الضلالة بعد الهدى، وخير العلم ما نفع، وخير الهدى ما اتبع، وشر العمى عمى القلب. وذكر الخطبة بطولها. (¬1) - وفيها: عن عطاء بن السائب، عن بعض أصحابه، عن عبد الله، قال: الزموا الجماعة فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على ضلالة، الزموا الجماعة حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر. (¬2) - وفيها: عن عطاء بن السائب، عن أبي البختري والشعبي، قالا: قال عبد الله: عليكم بالطريق فلئن لزمتموه لقد سبقتم سبقا بعيدا، ولئن خالفتموه يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا. (¬3) - وفيها: سئل عبد الله، عن مسألة فيها لبس، فقال عبد الله: أيها الناس إن الله قد أنزل أمره وبيناته فمن أتى الأمر من قبل وجهه فقد بين له، ومن خالف فوالله ما نطيق خلافكم. (¬4) - وفيها: عن الحارث بن قيس، قال: قال لي عبد الله: يا حارث، تريد أن تسكن وسط الجنة؟ عليك بهذا السواد الأعظم. (¬5) ¬

(¬1) الإبانة (1/ 2/326 - 327/ 172). (¬2) الإبانة (1/ 2/331/ 184). (¬3) الإبانة (1/ 2/332/ 187). (¬4) الإبانة (1/ 2/332/ 188). (¬5) الإبانة (1/ 2/333/ 191).

- وفيها: عن مسروق، عن عبد الله، قال: إنكم في زمان العمل فيه خير من الرأي، وسيأتي زمان الرأي فيه خير من العمل يعني بالسنة. (¬1) - وفيها: وقال ابن مسعود: من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون. (¬2) - وقال أيضا: إذا أراد الله بعبد خيرا سدده وجعل سؤاله عما يعنيه وعلمه فيما ينفعه. (¬3) - وعن قتادة قال: قال ابن مسعود: عمل قليل في سنة، خير من عمل كثير في بدعة. (¬4) - وعن أبي إسحاق، قال: قال عبد الله بن مسعود: اعتبروا الناس بأخدانهم، فإن المرء لا يخادن إلا من يعجبه. (¬5) - وفيها عن ثابت أن ابن مسعود، قال: لو أن الناس جمعوا في صعيد واحد كلهم مؤمن وفيهم كافران تألف أحدهما إلى صاحبه، ولو أن الناس جمعوا إلى صعيد واحد كلهم كافر وفيهم مؤمنان تألف أحدهما إلى صاحبه. (¬6) وفيها أيضا عن عبد الله بن مسعود قال: الأرواح جنود مجندة تلتقي تتشاءم كما تتشاءم الخيل، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف. ¬

(¬1) الإبانة (1/ 2/333 - 334/ 193). (¬2) الإبانة (1/ 2/418/ 336) وذم الكلام (ص.88). (¬3) الإبانة (1/ 2/419/ 337). (¬4) الإبانة (1/ 2/357/ 245). (¬5) الإبانة (2/ 3/439/ 376). (¬6) الإبانة (2/ 3/455/ 427).

ولو أن مؤمنا دخل مسجدا فيه مئة ليس فيهم إلا مؤمن واحد لجاء حتى يجلس إليه، ولو أن منافقا دخل مسجدا فيه مئة ليس فيهم إلا منافق واحد لجاء حتى يجلس إليه. (¬1) قال ابن بطة عقبه: وكذا قالت شعراء الجاهلية .. قال طرفة: تعارف أرواح الرجال إذا التقوا ... فمنهم عدو يتقى وخليل - وفيها: عن هبيرة عن عبد الله قال: إنما يماشي الرجل ويصاحب من يحبه ومن هو مثله. (¬2) - وجاء في أصول الاعتقاد عن سعيد بن وهب قال: قال عبد الله: لا يزال الناس بخير ما أتاهم العلم من قبل كبرائهم فإذا أتاهم العلم من قبل أصاغرهم هلكوا. (¬3) - ونقل الخطيب عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كثر الناس على عبد الله بن مسعود يسألونه، فقال: يا أيها الناس إنه قد أتى علينا زمان لسنا نقضي ولسنا هناك، وإنه قد قدر أن بلغنا من الأمر ما ترون، فمن ابتلي منكم بقضاء، فليقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله، فليقض بما قضى به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن لم يكن في كتاب الله ولا في قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فليقض بما قضى به الصالحون، فإن لم يكن في كتاب الله، ولا في قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا فيما قضى به الصالحون فليجتهد رأيه، ولا يقولن أحدكم إني ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/455 - 456/ 428). (¬2) الإبانة (2/ 3/476/ 499). (¬3) أصول الاعتقاد (1/ 94/101) وجامع بيان العلم وفضله (1/ 616/1057) والمدخل للبيهقي (1/ 246/275).

أخاف وإني أرى، فإن الحلال بين والحرام بين وشبهات بين ذلك، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك. (¬1) - وجاء في الشريعة عن أبي وائل، قال: قال عبد الله: إن هذا الصراط محتضر يحضره الشياطين ينادون: يا عبد الله هلم هذا الصراط ليصدوا عن سبيل الله، فاعتصموا بحبل الله فإن حبل الله هو كتاب الله. (¬2) وجاء في إعلام الموقعين (¬3): وقال: ما علمك الله في كتابه فاحمد الله، وما استأثر به عليك من علم فكله إلى عالمه، ولا تتكلف، فإن الله عز وجل يقول لنبيه: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}. (¬4) - وجاء في مجموع الفتاوى عن ابن مسعود قال: من سئل عن شيء فليفت بما في كتاب الله، فإن لم يكن فبما في سنة رسول الله، فإن لم يكن فبما اجتمع عليه الناس. - وقال شيخ الإسلام: وكذلك روى نحوه عن ابن عباس وغيره، ولذلك قال العلماء: الكتاب والسنة والإجماع، وذلك أنه أوجب طاعتهم إذا لم يكن نزاع ولم يأمر بالرد إلى الله والرسول إلا إذا كان نزاع. (¬5) - وقال: وكان ابن مسعود -وهو أعلم من كان بالعراق من الصحابة إذ ذاك- يفتي بالفتيا، ثم يأتي المدينة فيسأل علماء أهل المدينة، فيردونه عن ¬

(¬1) الفقيه والمتفقه (1/ 493). (¬2) الشريعة (1/ 123/16) والإبانة (1/ 2/298 - 299/ 135). (¬3) (1/ 57). (¬4) ص الآية (86). (¬5) الفتاوى (20/ 498 - 499).

قوله فيرجع إليهم، كما جرى في مسألة أمهات النساء، لما ظن ابن مسعود أن الشرط فيها وفي الربيبة، وأنه إذا طلق امرأته قبل الدخول حلت أمها كما تحل ابنتها، فلما جاء إلى المدينة وسأل عن ذلك أخبره علماء الصحابة أن الشرط في الربيبة دون الأمهات. فرجع إلى قولهم، وأمر الرجل بفراق امرأته بعد ما حملت. (¬1) - وروى ابن وضاح في كتاب البدع: عن عبد الله بن المبارك ويوسف ابن أسباط قالا: قال عبد الله بن مسعود: إن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام وليا من أوليائه يذب عنها وينطق بعلامتها، فاغتنموا حضور تلك المواطن وتوكلوا على الله. قال ابن المبارك وكفى بالله وكيلا. (¬2) - وفيه: عن حارثة بن مضرب: إن الناس نودي فيهم بعد نومة أنه من صلى في المسجد الأعظم دخل الجنة. فانطلق النساء والرجال حتى امتلأ المسجد قياما يصلون: قال أبو إسحاق: إن أمي وجدتي فيهم. فأتي ابن مسعود فقيل له: أدرك الناس. قال: ما لهم؟ قيل: نودي فيهم بعد نومة أنه من صلى في المسجد الأعظم دخل الجنة. فخرج ابن مسعود يشير بثوبه: ويلكم. اخرجوا لا تعذبوا، إنما هي نفخة من الشيطان، إنه لم ينزل كتاب بعد نبيكم ولا ينزل بعد نبيكم. فخرجوا وجلسنا إلى عبد الله فقال: إن الشيطان إذا أراد أن يوقع الكذب انطلق فتمثل رجلا ثم يلقى آخر فقال له: أما بلغك الخبر؟ فيقول الرجل: وما ذاك؟ فيقول: كان من الأمر كذا وكذا، ¬

(¬1) الفتاوى (20/ 312). (¬2) ما جاء في البدع (ص.33).

فانطلق فحدث أصحابك. قال: فينطلق الآخر فيقول: لقد لقيت رجلا إني لأتوهمه أعرف وجهه، زعم أنه كان من الأمر كذا وكذا، وما هو إلا الشيطان. (¬1) - وفيه: عن مسلم بن أبي عمران الأشعري أن عبد الله بن عمر أتى عبد الله بن مسعود وهو قائم يقص على أصحابه فقال: يا أبا عبد الرحمن، ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد - صلى الله عليه وسلم - في أدناه وطرفه في الجنة، وعن يمينه جواد وعن يساره جواد وعليها رجال يدعون من مر بهم: هلم لك، هلم لك، فمن أخذ منهم في تلك الطرق انتهت به إلى النار، ومن استقام على الطريق الأعظم انتهى به إلى الجنة. ثم تلا ابن مسعود هذه الآية وَأَنَّ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} (¬2) الآية كلها. (¬3) - وفيه أيضا: عن الحسن: أن رجلا أتى أبا موسى الأشعري وعنده ابن مسعود فقال: أرأيت رجلا خرج بسيفه غضبا لله تعالى فقاتل حتى قتل، أين هو؟ فقال أبو موسى: في الجنة. فقال ابن مسعود: أيها المفتي، سل صاحبك على سنة ضرب أم على بدعة؟ قال الحسن: فإذا بالقوم قد ضربوا بأسيافهم على البدع. (¬4) - وأخرج ابن وضاح بسنده إلى علقمة عن عبد الله قال: إذا التمست ¬

(¬1) ما جاء في البدع (ص.39 - 40). (¬2) الأنعام الآية (153). (¬3) ما جاء في البدع (ص.74 - 75). (¬4) ما جاء في البدع (ص.79 - 80).

الدنيا بعمل الآخرة وتفقه لغير الدين ظهرت البدع. (¬1) - وأخرج أيضا عن عبد الله قال: أتدرون كيف ينقص الإسلام؟ قالوا: نعم كما ينقص صبيغ الثوب، وكما ينقص سمن الدابة، قال عبد الله: ذلك منه. (¬2) - وعنه قال: يأتي على الناس زمان تكون السنة فيه بدعة والبدعة سنة، والمعروف منكرا والمنكر معروفا، وذلك إذا اتبعوا واقتدوا بالملوك والسلاطين في دنياهم. (¬3) - وفيه أيضا: وقال: ما أشبه علماء زمانكم إلا كرجل رعى غنمه الحمض، حتى إذا أريحت بطونها وانتفخت أحقاؤها اعتام أفضلها في نفسه، فإذا هي لا تنقي، وما بقي من الدنيا إلا كالشيء شرب صفوه وبقي كدره. (¬4) " الغريب: الحمض: قال في اللسان: الحمض من النبات: كل نبت مالح أو حامض يقوم على سوق ولا أصل له. وقال اللحياني: كل ملح أو حامض من الشجر كانت ورقته حية إذا غمزتها انفقأت بماء .. ومن الأعراب من يسمي كل نبت فيه ملوحة حمضا. (¬5) أريحت: بمعنى انتفخت واتسعت. ¬

(¬1) ما جاء في البدع (ص.88). (¬2) ما جاء في البدع (ص.143 - 144). (¬3) ما جاء في البدع (ص.171). (¬4) ما جاء في البدع (ص.172). (¬5) اللسان (7/ 138).

أحقاؤها: جمع، مفرده حقو وهو الخصر ومشد الإزار. (¬1) اعتام: قال في النهاية: قال الأزهري: أرباب النعم في البادية يريحون الإبل ثم ينيخونها في مراحها حتى يعتموا: أي يدخلوا في عتمة الليل وهي ظلمته. (¬2) وقال في اللسان: وأصل العتم في كلام العرب المكث والاحتباس. قال ابن سيده: والعتمة: بقية اللبن يفيق بها النعم في تلك الساعة. (¬3) وفيه: وأهل البادية يريحون نعمهم بُعَيد المغرب وينيخونها في مراحها ساعة يستفيقونها فإذا أفاقت وذلك بعد مر قطعة من الليل أثاروها وحلبوها وتلك الساعة تسمى عتمة. (¬4) لا تنقي: من النِّقي وهو المخ: أي لا مخ لها لضعفها وهزالها. (¬5) انتهى. - وفي مقدمة ابن ماجه عن عبد الله بن مسعود قال: إذا حدثتكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فظنوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو أهناه وأهداه وأتقاه. (¬6) - وأخرج عبد الله بن أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: من كان يحب أن يعلم أنه يحب الله فليعرض نفسه على القرآن، فإن أحب القرآن فهو يحب الله، فإنما القرآن كلام الله. (¬7) ¬

(¬1) انظر الصحاح (6/ 253). (¬2) النهاية (3/ 180). (¬3) اللسان (12/ 382). (¬4) اللسان (12/ 382). (¬5) انظر اللسان (15/ 340). (¬6) مقدمة ابن ماجه (ص.19). (¬7) السنة لعبد الله (ص.28).

- وجاء في ذم الكلام: عن عبد الرحمن بن عابس عن عبد الله قال: لا تختلفوا في القرآن ولا تنازعوا فيه فإنه لا يختلف لكثرة الرد، ألا ترون أن شرائع الإسلام فيه واحدة حدودها وفرائضها وأمر الله فيها؟ فلو كان شيء من الحرفين يأمر بشيء نهى عنه الآخر كان ذلك اختلافا ولكنه جامع ذلك كله. (¬1) وقال عبد الله: إن للقرآن منارا كمنار الطرق فما عرفتم فتمسكوا به وما أشكل عليكم فردوه إلى عالمه. (¬2) - وعن الشعبي قال: قال ابن مسعود: إياكم وأرأيت أرأيت، فإنما أهلك من كان قبلكم أرأيت، ولا تقيسوا شيئا بشيء فتزل قدم بعد ثبوتها، وإذا سئل أحدكم عما لا يدري فليقل: لا أعلم، فإنه ثلث العلم. (¬3) - وجاء في ذم الكلام: عن معاوية بن سلمة البصري عن ابن مسعود قال: لا تمكن صاحب هوى من أذنيك فيقذف فيهما داء لا شفاء له. قال: وقال مصعب بن سعد: إما يمرض قلبك لتتابعه، وإما أن يؤذيك قبل أن تفارقه. (¬4) - وجاء في السير عن ابن مسعود قال: جاهدوا المنافقين بأيديكم، فإن لم تستطيعوا فبألسنتكم، فإن لم تستطيعوا إلا أن تكفهروا في وجوههم، ¬

(¬1) ذم الكلام (ص.61) والبيهقي في الشعب (2/ 420 - 421/ 2270). (¬2) ذم الكلام (ص.64) وابن أبي شيبة (10/ 489) والبيهقي في الشعب (2/ 418/2264). (¬3) الطبراني في الكبير (9/ 109/8550) وذم الكلام (ص.88) وهو في إعلام الموقعين (1/ 57). (¬4) ذم الكلام (4/ 24 - 25 طبعة الأنصاري).

موقفه من المشركين:

فافعلوا. (¬1) موقفه من المشركين: - عن امرأة عبد الله بن مسعود قالت: جاء عبد الله ذات يوم وعندي عجوز ترقيني من الحمرة، فأدخلتها تحت السرير، قالت: فدخل فجلس إلى جنبي، فرأى في عنقي خيطا، فقال: ما هذا الخيط؟ قلت: خيط رقي لي فيه رقية، فأخذه وقطعه ثم قال: إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن في الرقى والتمائم والتولة شركا" قالت: فقلت له: لم تقول هذا وقد كانت عيني تقذف وكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها، فكان إذا رقاها سكنت، قال: إنما ذاك من عمل الشيطان، كان ينخسها بيده فإذا رقيتها كف عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أذهب البأس رب الناس اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما". (¬2) " التعليق: فرضي الله عن هذا الصحابي الجليل، لقد أجاب في هذا الموقف عن شبه يضعها دعاة الشرك، والقبورية، يقولون: إذا كان هؤلاء المقبورون لا ينفعون ولا يضرون فما بال هؤلاء الذين يحملون إلى المقبورين مرضى ويرجعون أصحاء؟ فالجواب في فعل عبد الله مع أهله رضي الله عن الجميع. ¬

(¬1) السير (1/ 497). (¬2) أحمد (1/ 381) وأبو داود (4/ 212 - 213/ 3883) وابن ماجه (2/ 1166 - 1167/ 3530) وصححه ابن حبان (13/ 456/6090) والحاكم (4/ 417 - 418) على شرط الشيخين.

موقفه من الرافضة:

- وعنه رضي الله عنه أنه قال: لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا. (¬1) " التعليق: حاشا ابن مسعود رضي الله عنه أن يكون محبا للكذب مطلقا، بله أن يكون يمينا غموسا، وإنما مراده رضي الله عنه أن يبين خطر الشرك، وأن جرمه أعظم من جرم الكذب، مع أن كليهما ذنب عظيم لا ينبغي الاستهانة به، فليتنبه!! موقفه من الرافضة: - عن قتادة قال: قال ابن مسعود: من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فانهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأقومها هديا، وأحسنها حالا، قوما اختارهم الله لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم، فانهم كانوا على الهدى المستقيم. (¬2) - عن أبي وائل عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، فبعثه برسالته. ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، ¬

(¬1) رواه عبد الرزاق (15929) والطبراني في الكبير (8902). (¬2) أخرجه ابن عبد البر في الجامع (2/ 947) والهروي في ذم الكلام (188) وانظر شرح السنة للبغوي (1/ 214) والاعتصام للشاطبي (2/ 852) ومنهاج السنة (2/ 76 - 77) و (6/ 81). ومجموع الفتاوى (3/ 126) وإعلام الموقعين (4/ 139).

فاختارهم لصحبة نبيه ونصرة دينه. فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح. (¬1) - وأخرج أبو عبيد ويعقوب بن شيبة عن ابن مسعود قال: لا يزال الناس مشتملين بخير ما أتاهم العلم من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - وأكابرهم، فإذا أتاهم العلم من قبل أصاغرهم وتفرقت أهواؤهم هلكوا. قال أبو عبيدة: معناها أن كلما جاء عن الصحابة وكبار التابعين لهم بإحسان، هو العلم الموروث، وما أحدثه من جاء بعدهم هو المذموم. (¬2) - جاء في الشريعة: عن القاسم بن عبد الرحمن عن عبد الله بن مسعود -رحمه الله- قال: كان إسلام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عزا، وكانت هجرته نصرا، وكانت خلافته رحمة، والله ما استطعنا أن نصلي ظاهرين حتى أسلم عمر، وإني لأحسب أن بين عيني عمر ملكا يسدده؛ فإذا ذكر الصالحون فحي هلا بعمر. (¬3) - وعن أبي وائل قال: قدم علينا عبد الله بن مسعود؛ فنعى إلينا عمر ¬

(¬1) الطيالسي في المسند (246) والطبراني في الكبير (9/ 112 - 113/ 8583) وأبو نعيم في الحلية (1/ 375 - 376) والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 422) والبغوي في شرح السنة (1/ 214 - 215)، وأخرجه: الإمام أحمد في المسند 1/ 379. والطبراني في الكبير (9/ 112/8582) عن عاصم عن زر بن حبيش عن عبد الله به. وقال أحمد شاكر في تعليقه على المسند: "اسناده صحيح" وهو في مجمع الزوائد (1/ 177 - 178)، وقال الهيثمي: "رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير ورجاله موثقون". (¬2) رواه الطبراني في الكبير (9/ 120/8589) وعبد الرزاق في المصنف (11/ 246/20446). وابن عبد البر في الجامع (1/ 607) وانظر فتح الباري (13/ 291) وطبقات الحنابلة (1/ 69) مختصرا. والاعتصام (2/ 682) والحوادث والبدع (ص.79). (¬3) الشريعة (2/ 457/1267).

-رضي الله عنه- فلم أر يوما أكثر باكيا حزينا منه، ثم قال عبد الله: والذي نفسي بيده، لو أني أعلم أن عمر كان يحب كلبا لأحببته، وإنا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أجمعنا فبايعنا عثمان، فلم نألوا عن خيرنا وأفضلنا، ذا فوق. (¬1) - وفي أصول الاعتقاد: عن مسلم أبي سعيد مولى عثمان بن عفان عن ابن مسعود: أنه مر على رجلين في المسجد قد اختلفا في آية من القرآن قال أحدهما: أقرأنيها عمر وقال آخر: أقرأنيها أبي فقال ابن مسعود: اقرأ كما أقرأكها عمر ثم هملت عيناه حتى بل الحصى وهو قائم. ثم قال: إن عمر كان حائطا كنيفا يدخلون المسلمون ولا يخرجون منه، فمات عمر فانثلم الحائط فهم يخرجون ولا يدخلون، ولو أن كلبا أحبه عمر لأحببته، وما أحببت أحدا حبي لأبي بكر وعمر وأبي عبيدة بن الجراح بعد نبيي - صلى الله عليه وسلم - حبي لهؤلاء الثلاثة. (¬2) - أخرج ابن وضاح بسنده إلى زيد بن وهب عن ابن مسعود قال: كان عمر بن الخطاب حائطا حصينا على الإسلام يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه، فانثلم الحائط والناس خرجوا منه ولا يدخلون فيه (¬3). - وجاء في المنهاج: قال ابن مسعود لما مات عمر: إني لأحسب هذا قد ذهب بتسعة أعشار العلم، وشارك الناس في العشر الباقي. (¬4) - وفيه: قال ابن مسعود: كان عمر إذا فتح لنا بابا دخلناه فوجدناه سهلا. أتي في زوج وأبوين وامرأة وأبوين، فقال: للأم ثلث الباقي. ثم إن ¬

(¬1) الشريعة (3/ 11/1274). (¬2) أصول الاعتقاد (7/ 1416/2544). (¬3) ما جاء في البدع (ص.156). (¬4) المنهاج (7/ 524).

موقفه من الجهمية:

عثمان وعليا وابن مسعود وزيدا اتبعوه. (¬1) - وفي أصول الاعتقاد: عن النزال بن سبرة عن عبد الله بن مسعود قال: لما أمر عثمان قال عبد الله بن مسعود: لقد أمرنا خير من بقي ولم نأل. (¬2) - وفيه: عن شقيق عن عبد الله قال: حب أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنة. (¬3) موقفه من الجهمية: - عن أبي كنف قال: قال عبد الله: من حلف بالقرآن فعليه بكل آياته يمين، قال: فذكرت ذلك لإبراهيم قال: فقال عبد الله: من حلف بالقرآن فعليه بكل آية يمين، ومن كفر بحرف منه فقد كفر به أجمع. (¬4) - قال عبد الله بن مسعود: القرآن كلام الله فمن رد منه شيئا فإنما يرد على الله. (¬5) - وأخرج عبد الله بن أحمد بسنده إلى عبد الله بن مسعود قال: من كان يحب أن يعلم أنه يحب الله فليعرض نفسه على القرآن، فإن أحب القرآن فهو يحب الله فإنما القرآن كلام الله. (¬6) - وعنه قال: قال إن أحسن الكلام كلام الله. (¬7) ¬

(¬1) المنهاج (7/ 525). (¬2) أصول الاعتقاد (7/ 1423 - 1424/ 2555) ونحوه في المنهاج (8/ 227). (¬3) أصول الاعتقاد (7/ 1310 - 1311/ 2319) وجامع بيان العلم (2/ 1178). (¬4) أصول الاعتقاد (2/ 258/379) والفتاوى الكبرى (5/ 56). (¬5) السنة لعبد الله (ص.27). (¬6) السنة لعبد الله (ص.28). (¬7) السنة لعبد الله (ص.27).

- وعن عبد الله بن عكيم قال: سمعت ابن مسعود رضي الله عنه وبدأ باليمين قبل الكلام: ما منكم من أحد إلا سيخلو به ربه كما يخلو بالقمر ليلة البدر فيقول: ابن آدم ما غرك بي ابن آدم ما أجبت المرسلين ماذا عملت فيما علمت. (¬1) - وعنه قال: القرآن كلام الله؛ فلا تخلطوا به ما ليس منه. (¬2) - جاء في أصول الاعتقاد عن مسروق قال: سألنا عبد الله -ولولا عبد الله لم نجد أحدا يخبرنا- فقال: إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان قال: فيرون أنه من أهل السماء، فيفزعون فإذا سكن قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير. (¬3) - وفيه عن أبي عبيدة: عن عبد الله قال: ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء. (¬4) - وفيه عن عاصم عن زر: عن عبد الله قال: ما بين سماء القصوى وبين الكرسي خمسمائة سنة، وما بين الكرسي والماء خمس مائة سنة، والعرش فوق الماء والله فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم. (¬5) - عن عبد الله بن مسعود قال: تسارعوا إلى الجمعة فإن الله يبرز لأهل الجنة في كل جمعة في كثيب من كافور أبيض فيكونون منه في القرب على ¬

(¬1) السنة لعبد الله (ص.60) وأصول الاعتقاد (3/ 550/860). (¬2) الإبانة (1/ 12/252 - 253/ 25). (¬3) أصول الاعتقاد (2/ 369/549) والسنة لعبد الله (ص.71). (¬4) أصول الاعتقاد (3/ 438/657). (¬5) أصول الاعتقاد (3/ 438 - 439/ 659).

قدر تسارعهم إلى الجمعة في الدنيا، فيحدث الله لهم من الكرامة شيئا لم يكونوا رأوه قبل ذلك. ثم يرجعون إلى أزواجهم فتحدثهم بما قد أحدث لهم. (¬1) - وعنه قال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} (¬2) قال: {ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة} (¬3) قال: أما الحسنى فالجنة وأما الزيادة فالنظر إلى وجه الله وأما القتر: فالسواد. (¬4) - وفي الشريعة عنه قال: يضحك الله عز وجل إلى رجلين: رجل قام في جوف الليل وأهله نيام، فتطهر، ثم قام يصلي، فيضحك الله عز وجل إليه، ورجل لقي العدو، فانهزم أصحابه، وثبت حتى رزقه الله الشهادة. (¬5) - عن عبد الله قال: إن الله عز وجل اتخذ إبراهيم خليلا، وإن صاحبكم خليل الله، وإن محمدا سيد ولد آدم يوم القيامة وأكرم الخلائق على الله عز وجل، وقرأ: عَسَى {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (¬6). اهـ (¬7) - عن أبي الأحوص: عن عبد الله قال: إن الله يفتح أبواب السماء في ثلث الليل الباقي ثم يهبط إلى سماء الدنيا فيبسط يده فيقول: ألا عبد يسألني ¬

(¬1) السنة لعبد الله (ص.61). (¬2) يونس الآية (26). (¬3) يونس الآية (26). (¬4) أصول الاعتقاد (3/ 509/787 - 788). (¬5) الشريعة (2/ 54/680). (¬6) الإسراء الآية (79). (¬7) الشريعة (2/ 363/1153).

موقفه من الخوارج:

فأعطيه فما يزال كذلك حتى يصدع الفجر. (¬1) موقفه من الخوارج: سبق أن ذكرنا له رضي الله عنه موقفا طيبا من المبتدعة، وأحببت أن أورده هنا أيضا لصلته الوثيقة بما نحن بصدده: قال الدارمي: أخبرنا الحكم بن المبارك أنا عمرو بن يحي قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه قال كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري، فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج فلما خرج قمنا إليه جميعا. فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن، إني رأيت في المسجد آنفا أمرا أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيرا، قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قوما حلقا جلوسا، ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مائة؟ فيكبرون مائة. فيقول: هللوا مائة؟ فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة؟ فيسبحون مائة. قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئا. انتظار رأيك أو انتظار أمرك، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم. ثم مضى ومضينا معه، حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح. قال: فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء. ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - متوافرون، ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (3/ 498/765).

موقفه من المرجئة:

وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده، إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحوا باب ضلالة، قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن، ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه. إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدثنا أن قوما يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم (¬1)، وأيم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم، ثم تولى عنهم، فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الحلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج. (¬2) موقفه من المرجئة: - أخرج ابن بطة بسنده إلى المسعودي، عن القاسم بن عبد الرحمن والحسن بن سعد، قال: قيل لعبد الله بن مسعود إن الله عز وجل ليكثر ذكر الصلاة في القرآن: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} (¬3) {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (¬4) فقال عبد الله: ذلك على مواقيتها، قالوا: يا أبا عبد الرحمن، ما كنا نرى ذلك إلا على تركها، فقال عبد الله: تركها الكفر. (¬5) ¬

(¬1) أحمد (1/ 404) والترمذي (4/ 417 - 418/ 2188) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وابن ماجه (1/ 59/168). (¬2) أخرجه الدارمي (1/ 68 - 69) وابن أبي شيبة (7/ 553/37890) وعبد الرزاق (3/ 221 - 222/ 5408 - 5410) وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد (ص.358) والطبراني في الكبير (6/ 125 - 128/ 8628 - 8633 و8636 - 8639) وابن وضاح (ص.40) من طرق يقوي بعضها بعضا. (¬3) المعارج الآية (23). (¬4) المؤمنون الآية (9). (¬5) الإبانة (2/ 678 - 679/ 886).

- وله بسنده عن عبد الكريم الجزيري، عن علي بن أبي طالب وعبد الله ابن مسعود، قالا: لا ينفع قول إلا بعمل ولا عمل إلا بقول ولا قول وعمل إلا بنية ولا نية إلا بموافقة السنة. (¬1) - وله أيضا بسنده إلى مهانة، قال: قال عبد الله: ما رأيت ناقص الدين والرأي أغلب للرجال ذوي الأمر على أمورهم من النساء. قالوا: يا أبا عبد الرحمن: وما نقصان دينها؟ قال: تدع الصلاة في أيام حيضها. قالوا: فما نقصان رأيها؟ قال: لا تجوز شهادة امرأتين إلا بشهادة رجل. (¬2) - وله بسنده إلى شعبة، قال: أخبرني قيس بن مسلم، قال: سمعت طارق ابن شهاب يحدث عن عبد الله، قال: إن الرجل ليخرج من بيته ومعه دينه فيلقى الرجل له إليه الحاجة فيقول: إنك لذيت وذيت، يثني عليه وعسى أن لا يحلى بحاجته بشيء فيرجع. وقد أسخط الله وما معه من دينه شيء، قال شعبة: لما حدثني قيس بهذا الحديث فرحت به، وكان قيس يرى رأي المرجئة. " التعليق: قال ابن بطة: ففي بعض هذه الأخبار والسنن والآثار وما قد ذكرته في هذا الباب ما أقنع العقلاء وشفاهم، وأعلمهم أن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأعمال الزاكية والأخلاق الفاضلة تزيد فيه وتنميه وتعليه، وأن الأفعال الخبيثة والأخلاق الدنية والفواحش تمحقه وتفنيه وتسلب الإيمان من فاعلها ¬

(¬1) الإبانة (2/ 802 - 803/ 1089) والشريعة (1/ 287/280). (¬2) الإبانة (2/ 849 - 850/ 1141).

وتعريه. وهب الله لنا ولكم صوابا بتوفيقه وتسديدا لمرضاته، وعصمة من الضلال إنه رحيم ودود. (¬1) - جاء في صحيح البخاري عن ابن مسعود قال: اليقين الإيمان كله. (¬2) - عن يحيى بن أبي كثير قال: قال ابن مسعود: يقولون ما فينا كافر ولا منافق جذ (¬3) الله أقدامهم. (¬4) - عن عبد الله بن عكيم قال: سمعت ابن مسعود يقول في دعائه: اللهم زدنا إيمانا ويقينا وفقها. (¬5) - عن أبي وائل: أن حائكا من المرجئة بلغه قول عبد الله في الإيمان فقال: زلة من عالم. (¬6) " التعليق: قال الشيخ أحمد الغامدي معلقا عليه: "لعل المؤلف -رحمه الله- أراد بإيراد هذه الرواية أن يبين مدى ما يصل إليه صاحب البدعة. فهذا حائك وهو: الذي يخيط الثياب يسمى حائكا. قد بلغ به الانحراف إلى اتهام الصحابي الجليل بأنه قد زل بقوله في الشهادة بالإيمان وهو النهي عنها فجعل ¬

(¬1) الإبانة (2/ 861/1174). (¬2) قال الحافظ في الفتح (1/ 66): "وصله الطبراني (9/ 104/8544) بسند صحيح، وبقيته "والصبر نصف الإيمان". وأخرجه أبو نعيم في الحلية (5/ 34) والبيهقي في الزهد من حديثه مرفوعا، ولا يثبت رفعه". اهـ (¬3) الجذ: القطع. انظر النهاية (1/ 250). (¬4) الإبانة (2/ 901/1261). (¬5) الإبانة (2/ 846/1132) وأصول الاعتقاد (5/ 1013/1704) والشريعة (1/ 262/242) والسنة للخلال (4/ 39/1120) وفي الإيمان للإمام أحمد كما ذكر الحافظ في الفتح (1/ 66) وصحح إسناده. (¬6) أصول الاعتقاد (5/ 1050/1783) والسنة لعبد الله (ص.83) والسنة للخلال (4/ 45/1137).

موقفه من القدرية:

هذا الحائك قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه زلة مخالفة للصواب وهو في اعتقاده ما عليه المرجئة من النهي عن الاستثناء في الإيمان". (¬1) موقفه من القدرية: - روى ابن بطة في الإبانة عن عبد الله بن ربيعة قال: كنا جلوسا عند عبد الله بن مسعود، فذكر القوم رجلا فذكروا من خلقه؛ فقال عبد الله: أرأيتم لو قطعتم رأسه؛ أكنتم تستطيعون أن تعيدوه؟ قالوا: لا، قال: فيده؟ قالوا: لا، قال: فرجله؟ قالوا: لا، قال: فإنكم لا تستطيعون أن تغيروا خلقه حتى تغيروا خلقه، إن النطفة لتستقر في الرحم أربعين ليلة، ثم تنحدر دما، ثم تكون علقة، ثم تكون مضغة، ثم يبعث الله إليه ملكا؛ فيكتب رزقه، وخلقه، وخلقه، وشقيا أو سعيدا. (¬2) - وفيها أيضا عن عبد الله بن مسعود أنه قال: إن المرأة إذا حملت؛ تصعدت النطفة تحت كل شعرة وبشرة أربعين يوما، ثم تستقر في الرحم علقة أربعين يوما، ثم مضغة أربعين يوما، ثم يبعث إليها الملك؛ فيقول: أي رب. أذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ فيأمر الله عز وجل بما شاء ويكتب الملك، ثم يكتب رزقه وأجله وعمله وأين يموت، وأنتم تعلقون التمائم على أبنائكم من العين. قال عاصم: كان أصحابنا يقولون: إن الله عز وجل يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر. (¬3) ¬

(¬1) شرح أصول الاعتقاد (5/ 1050). (¬2) الإبانة (2/ 9/37 - 38/ 1425) وقد روى رضي الله عنه في ذلك حديثا مرفوعا: أخرجه البخاري (6/ 373/3208) ومسلم (4/ 2036/2643) وغيرهما. (¬3) الإبانة (2/ 9/35/ 1419).

- وفيها أيضا: عن خيثمة بن عبد الرحمن قال: قال عبد الله: عجب للنساء اللاتي يعلقن التمائم تخوف السقط، والذي لا إله غيره؛ لو بطحت ثم وطئت عرضا وطولا ما أسقطت حتى يكون الله عز وجل هو الذي يقدر ذلك لها، إن النطفة إذا وقعت في الرحم التي يكون منها الولد؛ طارت تحت كل شعرة وظفر؛ فتمكث أربعين ليلة ثم تنحدر؛ فتكون مثل ذلك دما، ثم تكون مثل ذلك علقة، ثم تكون مثل ذلك مضغة. (¬1) - وفيها أيضا: عن قتادة عن ابن مسعود؛ قال: ثلاث من كن فيه يجد بهن حلاوة الإيمان: ترك المراء في الحق، والكذبِ في المزاحة، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه. (¬2) - وفيها أيضا: قال ابن مسعود: كل ما هو آت قريب؛ إلا أن البعيد ما ليس بآت، لا يعجل الله لعجلة أحد ولا يخف لأمر الناس ما شاء الله لا ما شاء الناس، يريد الله أمرا ويريد الناس أمرا؛ ما شاء الله كان ولوكره الناس، لا مقرب لما باعد الله، ولا مبعد لما قرب الله، ولا يكون شيء إلا بإذن الله، أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. (¬3) - عن معن قال: قال عبد الله -يعني ابن مسعود-: ما كان كفر بعد نبوة إلا كان معها التكذيب بالقدر. (¬4) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 9/38/ 1426). (¬2) الإبانة (2/ 9/57/ 1456). (¬3) الإبانة (2/ 9/86 - 87/ 1495). (¬4) الشريعة (1/ 403/464) والإبانة (2/ 9/120/ 1544).

- وفي الإبانة عن أبي عبيدة قال: قال عبد الله: والذي لا إله غيره؛ لا يذوق عبد طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه. (¬1) - وفيها أيضا: عن عبد الله بن مسعود قال: أربع قد فرغ منهم: الخلق، والخُلق، والرزق، والأجل. (¬2) وفيها أيضا: عن عون بن عبد الله عن أبيه أنه قيل لعبد الله بن مسعود: الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره، فما هو يا أبا عبد الرحمن؟ قال: فقال: ألم تر أن الله عز وجل أهلك قوما فجعل منهم القردة والخنازير، وأهلك قوما بالريح؛ فجعل النكال بأولئك وجعل الموعظة لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) - وفيها: عن عامر بن عبدة؛ قال: قال عبد الله: إذا قدر الله عز وجل لنفس أن تموت بأرض؛ هيئت له إليها الحاجة. (¬4) - وفيها: قال عبد الله بن مسعود: المتقون سادة، الفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة، ولا يسبق بطيئا رزقه، ولا يأتيه ما لم يقدر له. (¬5) - وفي أصول الاعتقاد: عن عبد الله قال: لأن أعض على جمرة وأقبض عليها حتى تبرد في يدي أحب إلي من أن أقول لشيء قضاه الله: ليته لم ¬

(¬1) الإبانة (2/ 9/150/ 1593). (¬2) الإبانة (2/ 9/150/ 1594). (¬3) الإبانة (2/ 9/171 - 172/ 1660). (¬4) الإبانة (2/ 11/271/ 1887). (¬5) الإبانة (2/ 11/294/ 1949).

أبو الدرداء (32 هـ)

يكن. (¬1) - وفيه أيضا: عن الحارث قال: سمعت ابن مسعود يقول: -وهو يدخل إصبعه في فيه- لا والله لا يطعم رجل طعم الإيمان حتى يؤمن بالقدر ويقر ويعلم أنه ميت وأنه مبعوث من بعد الموت. (¬2) - وفيه أيضا: عن عبد الله في قوله: {النجدين} (¬3) قال: الخير والشر. (¬4) - ونقل شيخ الإسلام في المنهاج في قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (¬5). قال ابن مسعود رضي الله عنه: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم. (¬6) أبو الدرداء (¬7) (32 هـ) عُوَيْمِر بن زيد بن قيس، قاضي دمشق الإمام القدوة صاحب رسول ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 739/1217) والإبانة (2/ 9/57 - 58/ 1457). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 739/1218) والإبانة (2/ 9/57/ 1455) والشريعة (1/ 403/463). (¬3) البلد الآية (10). (¬4) أصول الاعتقاد (3/ 601/956). (¬5) التغابن الآية (11). (¬6) المنهاج (3/ 26). (¬7) الإصابة (4/ 747 - 748) والاستيعاب (4/ 1646 - 1648) وطبقات ابن سعد (7/ 91 - 93) ومجمع الزوائد (9/ 367) والمستدرك (3/ 336 - 337) وتهذيب التهذيب (8/ 175 - 177) والجرح والتعديل (7/ 26 - 28) والتذكرة (1/ 24 - 25) والسير (2/ 335 - 353) ومعرفة القراء الكبار (1/ 7).

الله - صلى الله عليه وسلم - أبو الدَّرْدَاء، حكيم هذه الأمة، وسيد القراء بدمشق. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدة أحاديث. آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سلمان الفارسي. قال الذهبي: وهو معدود فيمن تلا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يبلغنا أبدا أنه قرأ على غيره، وهو معدود فيمن جمع القرآن في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أسلم أبو الدرداء يوم بدر ثم شهد أحدا. وقال رضي الله عنه لو أنسيت آية لم أجد أحدا يذكرنيها إلا رجلا ببرك الغماد، رحلت إليه. وهو الذي سن حلق القراءة. وأثر عنه قوله: لن تكون عالما حتى تكون متعلما، ولا تكون متعلما حتى تكون بما علمت عاملا. إن أخوف ما أخاف إذا وقفت للحساب أن يقال لي: ما عملت فيما علمت. وقال: ويل للذي لا يعلم مرة، وويل للذي يعلم ولا يعمل سبع مرات. وروي عنه أنه قال: لولا ثلاث ما أحببت البقاء: ساعة ظمأ الهواجر، والسجود في الليل، ومجالسة أقوام ينتقون جيد الكلام كما ينتقى أطايب الثمر. وروى صفوان، عن ابن جبير عن أبيه: قال: لما فتحت قبرس مر بالسبي على أبي الدرداء، فبكى، فقلت له: تبكي في مثل هذا اليوم الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ قال: يا جبير، بينا هذه الأمة قاهرة ظاهرة إذ عصوا الله، فلقوا ما ترى. ما أهون العباد على الله إذا هم عصوه. وعنه قال: من أكثر ذكر الموت قل فرحه، وقل حسده. وقالت أم الدرداء: لما احتضر أبو الدرداء، جعل يقول: من يعمل لمثل يومي هذا؟ من يعمل لمثل مضجعي هذا؟ مات أبو الدرداء رضي الله عنه عام اثنتين وثلاثين للهجرة.

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: - أخرج ابن بطة بسنده إلى حميد عن الحسن قال: قال أبو الدرداء: كن عالما أو متعلما أو مستمعا أو محبا، ولا تكن الخامسة فتهلك، قال: فقلت للحسن: من الخامسة قال: المبتدع. (¬1) - وعنه قال: اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة، إنك إن تتبع خير من أن تبتدع، ولن تخطئ الطريق ما اتبعت الأثر. (¬2) - وروى البخاري عن سالم قال: سمعت أم الدرداء تقول: دخل علي أبو الدرداء وهو مغضب، فقلت: ما أغضبك؟ فقال: والله ما أعرف من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - شيئا إلا أنهم يصلون جميعا. (¬3) - وفي إغاثة اللهفان: قال الحسن سأل رجل أبا الدرداء، فقال رحمك الله لو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا هل كان ينكر شيئا مما نحن عليه؟ فغضب واشتد غضبه وقال: هل كان يعرف شيئا مما أنتم عليه؟ (¬4) - ونقل الشاطبي عن أبي الدرداء: أنه قال: لو خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليكم، ما عرف شيئا مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة. قال الأوزاعي: فكيف لو كان اليوم؟ قال عيسى بن يونس: فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان؟ (¬5) ¬

(¬1) الإبانة (1/ 2/341/ 210) والبيهقي في المدخل (1/ 344 - 345/ 381) وابن عبد البر في الجامع (1/ 141 - 142). (¬2) اللالكائي (1/ 99/115) والسنة للمروزي (ص.100) واللفظ له، وأخرج الشطر الأخير منه ابن بطة في الإبانة (1/ 2/353/ 232). (¬3) البخاري (2/ 174/650). (¬4) إغاثة اللهفان (1/ 206). (¬5) ابن وضاح في البدع (ص.129) وذكره الشاطبي في الاعتصام (1/ 33).

" التعليق: قلت: فكيف لو أدرك عيسى بن يونس زماننا هذا الذي منعت فيه الفرائض وكثرت فيه البدع وجهر فيه بالمعاصي ولا مغير ولا منكر إلا من شاء الله وقليل ما هم والله المستعان. - وروى ابن بطة عن الأعمش، عن سالم يعني ابن أبي الجعد، قال: قال أبو الدرداء: لو أن رجلا كان يعلم الإسلام وأهمه ثم تفقده اليوم ما عرف منه شيئا. (¬1) - عن عطاء بن يسار، أن رجلا باع كسرة من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل. فقال الرجل: ما أرى بمثل هذا بأسا. فقال أبو الدرداء: من يعذرني من فلان أحدثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويخبرني عن رأيه لا أساكنك بأرض أنت بها. ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر ذلك له فكتب عمر بن الخطاب إلى الرجل أن لا تبيع ذلك إلا مثلا بمثل وزنا بوزن. (¬2) ¬

(¬1) الإبانة (1/ 1/183 - 184/ 18) وابن وضاح (ص.142). (¬2) أخرجه مالك (2/ 634) ومن طريقه بهذا التمام: الشافعي في الرسالة (ص.446) والبيهقي (5/ 280) والبغوي في شرح السنة (8/ 64/2060). واختصره: أحمد (6/ 448) والنسائي (7/ 321/4586). قال ابن عبد البر رحمه الله في الاستذكار (19/ 213): "لا أعلم هذه القصة روي أنها عرضت لمعاوية مع أبي الدرداء إلا من حديث زيد بن أسلم، عن عطاء ابن يسار، لم يروه من وجه آخر فيما علمت، وليست محفوظة معروفة إلا لمعاوية مع عبادة بن الصامت". وقال في التمهيد: "ظاهر هذا الحديث الانقطاع لأن عطاء لا أحفظ له سماعا من أبي الدرداء، وما أظنه سمع منه شيئا ... ومولد عطاء بن يسار سنة إحدى وعشرين وقيل سنة عشرين ... ولم يشهد هذه القصة لأنها كانت في زمن عمر، وتوفي عمر سنة ثلاث وعشرين، أو أربع وعشرين من الهجرة". انظر فتح البر (12/ 40).

موقفه من الرافضة:

" التعليق: قال ابن بطة رحمه الله: فاعتبروا يا أولي الأبصار، فشتان بين هؤلاء العقلاء السادة الأبرار الأخيار الذين ملئت قلوبهم بالغيرة على إيمانهم والشح على أديانهم، وبين زمان أصبحنا فيه وناس نحن منهم وبين ظهرانيهم، هذا عبد الله بن مغفل صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسيد من ساداتهم يقطع رحمه ويهجر حميمه حين عارضه في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحلف أيضا على قطيعته وهجرانه وهو يعلم ما في صلة الأقربين وقطيعة الأهلين، وعبادة بن الصامت وأبو الدرداء سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكيم هذه الأمة، وأبو سعيد الخدري يظعنون عن أوطانهم وينتقلون عن بلدانهم ويظهرون الهجرة لإخوانهم لأجل من عارض حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتوقف عن استماع سنته، فيا ليت شعري كيف حالنا عند الله عز وجل ونحن نلقى أهل الزيغ في صباحنا والمساء يستهزئون بآيات الله ويعاندون سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حائدين عنها، وملحدين فيها سلمنا الله وإياكم من الزيغ والزلل. - وفي المجموع: قال أبو الدرداء: لا تهلك أمة حتى يتبعوا أهواءهم ويتركوا ما جاءتهم به أنبياؤهم من البينات والهدى. (¬1) موقفه من الرافضة: عن أبي الدرداء قال: ما رأيت أحدا أشبه صلاة بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إمامكم هذا. يعني معاوية. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (15/ 63).

موقفه من الجهمية:

قال ابن تيمية عقبه: فهذه شهادة الصحابة بفقهه ودينه، والشاهد بالفقه ابن عباس (¬1)، وبحسن الصلاة أبو الدرداء، وهما هما. والآثار الموافقة لهذا كثيرة. هذا ومعاوية ليس من السابقين الأولين، بل قد قيل: إنه من مسلمة الفتح. وقيل: أسلم قبل ذلك. وكان يعترف بأنه ليس من فضلاء الصحابة. وهذه سيرته مع عموم ولايته، فإنه كان في ولايته من خراسان إلى بلاد إفريقية بالمغرب، ومن قبرص إلى اليمن. ومعلوم بإجماع المسلمين أنه ليس قريبا من عثمان وعلي، فضلا عن أبي بكر وعمر. فكيف يشبه غير الصحابة بهم؟ وهل توجد سيرة أحد من الملوك مثل سيرة معاوية رضي الله عنه؟ (¬2) موقفه من الجهمية: - روى الآجري في الشريعة: عن يعلى بن عطاء قال: جاء رجل إلى أبي الدرداء فقال له: إنك معلم، وإنك على جناح فراق الدنيا، فعلمني خيرا ينفعني الله به، فقال أبو الدرداء: إما لا، فاعقل، كيف أنت إذا لم يكن لك من الأرض إلا موضع أربعة أذرع في ذراعين، جاء بك أهلك الذين كانوا يكرهون فراقك، وإخوانك الذين كانوا يتحزبون بأمرك فتلوك في ذلك المتل، ثم سدوا عليك من اللبن، وأكثروا عليك من التراب، وخلوا بينك وبين متلك ذلك، فجاءك ملكان أزرقان جعدان، يقال لهما: منكر ونكير، فقالا: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فإن قلت ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد -والله- هديت ونجوت، وإن قلت: لا أدري، فقد -والله- هويت ¬

(¬1) شهادة ابن عباس لمعاوية بالفقه ستأتي معنا بإذن الله في مواقف ابن عباس رضي الله عنهما. (¬2) المنهاج (6/ 235 - 236).

موقفه من المرجئة:

ورديت. (¬1) موقفه من المرجئة: - جاء في الإبانة: عن الحارث بن معاوية، قال: إني لجالس في حلقة وفيها أبو الدرداء وهو يومئذ يحذرنا الدجال فقلت: والله لغير الدجال أخوف على نفسي من الدجال، قال: وما الذي أخوف في نفسك من الدجال: قلت: إني أخاف أن يسلب مني إيماني ولا أدري، قال: لله أمك يا ابن الكندية أترى في الناس مائة يتخوفون مثل ما تتخوف؟ لله أمك يا ابن الكندية أترى في الناس خمسين يتخوفون مثل الذي تتخوف؟ لله أمك يا ابن الكندية أترى في الناس عشرة يتخوفون مثل ما تتخوف؟ لله أمك يا ابن الكندية أترى في الناس ثلاثة يتخوفون مثل ما تتخوف؟ والله ما أمن رجل قط أن يسلب إيمانه إلا سلبه وما سلبه فوجد فقده. (¬2) - وفي السنة لعبد الله: عن أبي الدرداء قال ما الإيمان إلا كقميص أحدكم يخلعه ويلبسه أخرى، والله ما أمن عبد على إيمانه إلا سلبه فوجد فقده. (¬3) - وفيها أيضا: عن أبي الدرداء قال: الإيمان يزداد وينقص. (¬4) - وفي الإبانة: عن أم الدرداء، قالت: كان أبو الدرداء كثيرا ما يقول: إذا هلك الرجل على الحال الصالحة هنيئا له ليت أني بدله، فقلت: يا أبا ¬

(¬1) الشريعة (2/ 188/915). (¬2) الإبانة (2/ 6/758 - 759/ 1060). (¬3) السنة لعبد الله (ص.97 - 98) وأصول الاعتقاد (6/ 1096/1871). (¬4) السنة لعبد الله (ص.84) والإبانة (2/ 843 - 844/ 1126).

موقفه من القدرية:

الدرداء كثيرا مما تقول تعني هذا، فقال: وما علمت يا حمقاء أن الرجل يصبح مؤمنا ويمسي كافرا؟ قالت: وكيف ذلك: قال: سلب إيمانه ولا يشعر لأنا لهذا بالموت أغبط مني بالبقاء في الصوم والصلاة. (¬1) - وفيها: عن حريز بن عثمان، قال: حدثنا أشياخنا، أو قال بعض أشياخنا: أن أبا الدرداء قال: من فقه العبد أن يعلم أمزداد هو أو منتقص؟ وإن من فقه العبد أن يعلم نزغات الشيطان أنى تأتيه (¬2). - وجاء في كتاب الإيمان لابن أبي شيبة: عن معاوية بن قرة قال: كان أبو الدرداء يقول: "اللهم إني أسألك إيمانا دائما، وعلما نافعا، وهديا قيما" قال معاوية: فنرى أن من الإيمان إيمانا ليس بدائم، ومن العلم علما لا ينفع، ومن الهدي هديا ليس بقيم. (¬3) موقفه من القدرية: - روى ابن بطة في الإبانة عن داود بن أبي هند قال: قيل لأبي الدرداء: ما بال الشيخ الكبير يكون في مثل حاله أعبد من الشاب؛ يصوم، ويصلي، والشاب مثل نيته لا يطيق أن يبلغ عمله؟ قال: ما تدرون ما هذا؟ قالوا: وما هو؟ قال: إنه يعمل كل إنسان على قدر منزلته في الجنة. (¬4) - وجاء في أصول الاعتقاد: عن أبي الدرداء قال: ذروة الإيمان أربع: ¬

(¬1) الإبانة (2/ 759/1061). (¬2) الإبانة (2/ 7/849/ 1140) وأصول الاعتقاد (5/ 1016/1710). (¬3) كتاب الإيمان لابن أبي شيبة (رقم:106) والمصنف له (6/ 164/30364). (¬4) الإبانة (2/ 9/171/ 1656).

عبد الرحمن بن عوف (32 هـ)

الصبر للحكم، والرضا بالقدر، والإخلاص للتوكل، والاستسلام للرب. (¬1) عبد الرحمن بن عوف (¬2) (32 هـ) عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة أبو محمد. كان يسمى في الجاهلية عبد عمرو وقيل عبد الكعبة فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الرحمن. ولد بعد الفيل بعشر سنين. أحد العشرة وأحد الستة أهل الشورى الذين مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض، وأحد السابقين البدريين، القرشي الزهري، وهو أحد الثمانية الذين بادروا إلى الإسلام قبل أن يدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم. كان من المهاجرين الأولين، جمع الهجرتين جميعا، هاجر إلى أرض الحبشة، ثم قدم قبل الهجرة، وهاجر إلى المدينة وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سعد بن الربيع، وشهد بدرا والمشاهد كلها. بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى دومة الجندل إلى كلب ففتح الله عليه وتزوج تماضر بنت الأصبغ -ملكهم-. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن عمر. وروى عنه أبناؤه: إبراهيم وحميد، وعمر ومصعب وأبو سلمة وكذلك أنس وجابر وجبير بن مطعم وابن عباس وابن عمر وعدة. قال الزهري: تصدق عبد الرحمن بن عوف على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشطر ماله أربعة آلاف، ثم تصدق بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمس ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 748 - 749/ 1238). (¬2) تاريخ خليفة (166) والتاريخ الكبير (5/ 240) والجرح والتعديل (5/ 277) والاستيعاب (2/ 844 - 850) وتاريخ ابن عساكر (35/ 235 - 308) وأسد الغابة (3/ 475 - 480) وتهذيب الكمال (17/ 324 - 329) وتهذيب التهذيب (6/ 244 - 246) وطبقات ابن سعد (3/ 124 - 137) والسير (1/ 68 - 92) وشذرات الذهب (1/ 38) والإصابة (4/ 346 - 350).

موقفه من المبتدعة:

مائة فرس في سبيل الله، ثم حمل على خمس مائة راحلة في سبيل الله، وكان عامة ماله من التجارة. توفي رضي الله عنه سنة اثنتين وثلاثين وهو ابن اثنتين وسبعين سنة بالمدينة ودفن بالبقيع وصلى عليه عثمان. موقفه من المبتدعة: وجاء في الإبانة عن عروبة السدوسية قالت: لقيت عبد الرحمن -تعني ابن عوف- فقلت: ما أعظم الإسلام؟ فقال: إقام الصلاة وإيتاء الزكاة واسألي إن بقيت، فسيأتي زمان تذهب العرب ويجيء ناس من الإسحاقية فيجيئون بأقذار من الدين فإذا رأيتيهم فتمسكي بالقرآن والسنة. (¬1) موقفه من الرافضة: قال أفلح بن سعيد بن كعب: قال عبد الرحمن بن عوف: والله ما بايعت لعثمان حتى سألت صبيان الكتاب فقالوا عثمان خير من علي. (¬2) المِقْدَاد بن الأسود الكندي (¬3) (33 هـ) المِقْدَاد بن عمرو بن ثعلبة صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأحد السابقين الأولين، شهد بدرا والمشاهد. وثبت أنه كان يوم بدر فارسا. حدث عنه علي، وابن مسعود، وابن عباس، وجبير بن نفير، وابن أبي ليلى وغيرهم. قال أبو عمر ¬

(¬1) الإبانة (1/ 2/340 - 341/ 208). (¬2) أصول الاعتقاد (7/ 1423/2552). (¬3) طبقات ابن سعد (3/ 161) والاستيعاب (4/ 1480) وأسد الغابة (4/ 409) وسير أعلام النبلاء (1/ 385) وتهذيب الكمال (28/ 452) والإصابة (6/ 202 - 204) وشذرات الذهب (1/ 39).

موقفه من المبتدعة:

ابن عبد البر: وكان من الفضلاء والنجباء الكبار الخيار من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وشهد المقداد فتح مصر ومات في أرضه بالجرف، فحمل إلى المدينة ودفن بها، وصلى عليه عثمان بن عفان. توفي رضي الله عنه سنة ثلاث وثلاثين. موقفه من المبتدعة: روى ابن بطة (¬1) عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن المقداد بن الأسود الكندي، قال: جاءنا المقداد لحاجة فقلنا: اجلس عافاك الله حتى نطلب لك حاجتك، قال: فجلس، فقال: العجب من قوم مررت بهم آنفا يتمنون الفتنة يزعمون ليبلينهم الله فيها ما أبلى رسوله وأصحابه، والله لقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن -ثلاث مرات- ولمن ابتلي فصبر فواها" (¬2) لايم الله لا أشهد على واحد أنه من أهل الجنة حتى أعلم بما يموت عليه. لحديث سمعته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقلب ابن آدم أسرع انقلابا من القدر إذا استجمعت غليا". (¬3) موقفه من المشركين: عن ابن مسعود قال: لقد شهدت من المقداد مشهدا لأن أكون صاحبه ¬

(¬1) الإبانة (2/ 4/586 - 587/ 744). (¬2) رواه أبو داود (4/ 460/4263) وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة (رقم975) على شرط مسلم. واها: قال أبو سليمان الخطابي: واها كلمة معناها التلهف. (¬3) أحمد (6/ 4) وابن أبي عاصم (1/ 102/226) والطبراني (20/ 253/599) و (20/ 255 - 256/ 603) والقضاعي في مسند الشهاب (2/ 266 - 267/ 1331 - 1332) والحاكم (2/ 289) وقال: "هذا حديث على شرط البخاري" ووافقه الذهبي وذكره الهيثمي في المجمع (7/ 211) وقال: "رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدها ثقات".

كعب الأحبار (34 هـ)

أحب إلي مما طلعت عليه الشمس؛ وذلك أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يذكر المشركين، فقال: يا رسول الله إنا والله لا نقول لك كما قال أصحاب موسى لموسى، {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ولكننا نقاتل من بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك. قال: فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشرق وجهه لذلك وسره وأعجبه. (¬1) كعب الأحبار (¬2) (34 هـ) كعب بن مَاتِع الحِمْيَرِي اليماني العلامة الحبر، كان يهوديا فأسلم بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقدم المدينة من اليمن في أيام عمر رضي الله عنه، فجالس أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فكان يحدثهم عن الكتب الإسرائيلية، ويحفظ العجائب، ويأخذ السنن عن الصحابة، وكان حسن الإسلام، متين الديانة، من نبلاء العلماء، حدث عن عمر، وصهيب، وغير واحد، وحدث عنه أبو هريرة ومعاوية، وابن عباس. روى عنه خالد بن معدان أنه قال: لأن أبكي من خشية الله أحب إلي من أن أتصدق بوزني ذهبا. توفي بحمص في أواخر خلافة عثمان رضي الله عنه سنة أربع وثلاثين، وقيل غير ذلك. موقفه من الخوارج: جاء في الشريعة: عن عبد الله بن رباح الأنصاري عن كعب الأحبار ¬

(¬1) الاستيعاب (4/ 1481 - 1482) وتهذيب الكمال (28/ 455) والحلية (1/ 172 - 173). (¬2) السير (3/ 489 - 494) والإصابة (5/ 647 - 651) وتهذيب الكمال (24/ 189 - 193) وتاريخ الإسلام (عهد الخلفاء الراشدين ص.397 - 398) وشذرات الذهب (1/ 40).

موقفه من المرجئة:

قال: للشهيد نوران. ولمن قتله الخوارج عشرة أنوار له. ولجهنم سبعة أبواب: باب منها للحرورية، ولقد خرجوا على داود نبي الله في زمانه. قال محمد بن الحسين الآجري عقبه: هذه صفة الحرورية، وهم الشراة الخوارج، الذين قال الله تعالى: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} (¬1) الآية. وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته من هذه صفته. (¬2) موقفه من المرجئة: عن كعب قال: من أقام الصلاة وآتى الزكاة وسمع وأطاع فقد توسط الإيمان، ومن أحب في الله وأبغض في الله وأعطى لله ومنع فقد استكمل الإيمان. (¬3) موقفه من القدرية: جاء في أصول الاعتقاد: عن يونس بن سيف أن عطية بن قيس أخبره: أن رهطا عادوا كعب الأحبار فقالوا له: كيف تجدك يا أبا إسحاق؟ قال: بخير، عبد أخذ بذنبه فإن قبضه إليه ربه إن شاء عذبه وإن شاء رحمه، وإن عاقبه ينشيه نظيفا جديدا لا ذنب له. (¬4) ¬

(¬1) آل عمران الآية (7). (¬2) الشريعة (1/ 142 - 143/ 43). (¬3) الإبانة (2/ 659/849) وأصول الاعتقاد (5/ 1022/1725) وابن أبي شيبة في الإيمان (128) وهو في المصنف (6/ 171/30437) والسنة للخلال (1/ 599/1062). (¬4) أصول الاعتقاد (4/ 757/1259).

عبادة بن الصامت (34 هـ)

عُبَادَة بن الصَّامِت (¬1) (34 هـ) عبادة بن الصامت بن قيس الخزرجي، الأنصاري أبو الوليد شهد بدرا وكان أحد النقباء بالعقبة، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين أبي مرثد الغنوي. وشهد المشاهد كلها بعد بدر. وشهد فتح مصر، وهو أول من ولي قضاء فلسطين. وكان ممن جمع القرآن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكان قويا في دين الله أمارا بالمعروف نهاء عن المنكر. مات رضي الله عنه بالشام من أرض فلسطين سنة أربع وثلاثين. موقفه من المبتدعة: - جاء في تفسير ابن كثير: وقال قتادة في هذه الآية: {أَنْ يقولوا سمعنا وَأَطَعْنَا} (¬2): ذكر لنا أن عبادة بن الصامت -وكان عقبيا بدريا، أحد نقباء الأنصار-: أنه لما حضره الموت قال لابن أخيه جنادة بن أبي أمية: ألا أنبئك بماذا عليك وماذا لك؟ قال: بلى. قال: فإن عليك السمع والطاعة، في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك، وعليك أن تقيم لسانك بالعدل، وأن لا تنازع الأمر أهله، إلا أن يأمروك بمعصية الله بواحا، فما أمرت به من شيء يخالف كتاب الله، فاتبع كتاب الله. (¬3) ¬

(¬1) الإصابة (3/ 624 - 626) والاستيعاب (2/ 807 - 809) ومجمع الزوائد (9/ 320) وشذرات الذهب (1/ 40) والوافي (16/ 618 - 619) والجرح والتعديل (6/ 95) والسير (2/ 5 - 11) وتهذيب التهذيب (5/ 111 - 112) والطبقات لابن سعد (3/ 546) والمستدرك (3/ 354 - 357). (¬2) النور الآية (51). (¬3) ابن كثير في التفسير (6/ 81).

- وروى ابن ماجه أن عبادة بن الصامت الأنصاري النقيب صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزا مع معاوية أرض الروم، فنظر إلى الناس وهم يتبايعون كسر الذهب بالدنانير وكسر الفضة بالدراهم فقال: يا أيها الناس إنكم تأكلون الربا، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تبتاعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، لا زيادة بينهما ولا نظرة". فقال له معاوية: يا أبا الوليد لا أرى الربا في هذا إلا ما كان من نظرة، فقال عبادة: أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحدثني عن رأيك، لإن أخرجني الله لا أساكنك بأرض لك علي فيها إمرة. فلما قفل لحق بالمدينة فقال له عمر بن الخطاب: ما أقدمك يا أبا الوليد؟ فقص عليه القصة، وما قال من مساكنته، فقال ارجع يا أبا الوليد إلى أرضك، فقبح الله أرضا لست فيها وأمثالك. وكتب إلى معاوية: لا إمرة لك عليه، واحمل الناس على ما قال فإنه هو الأمر. (¬1) - وروى مسلم عن أبي قلابة قال: كنت بالشام في حلقة فيها مسلم ابن يسار، فجاء أبو الأشعث، قال: قالوا: أبو الأشعث، أبو الأشعث. فجلس فقلت له: حدث أخانا حديث عبادة بن الصامت، قال: نعم. غزونا غزاة. وعلى الناس معاوية، فغنمنا غنائم كثيرة، فكان فيما غنمنا آنية من فضة. فأمر معاوية رجلا أن يبيعها في أعطيات الناس. فتسارع الناس في ذلك. فبلغ عبادة بن الصامت فقام فقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح ¬

(¬1) النسائي (7/ 317 - 318/ 4576) وابن ماجه (1/ 8 - 9/ 18).

موقفه من المشركين:

بالملح إلا سواء بسواء، عينا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى (¬1)، فرد الناس ما أخذوا، فبلغ ذلك معاوية فقام خطيبا فقال: ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث، قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه. فقام عبادة بن الصامت فأعاد القصة، ثم قال: لنحدثن بما سمعنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كره معاوية (أو قال: وإن رغم)، ما أبالي أن لا أصحبه في جنده ليلة سوداء. (¬2) موقفه من المشركين: ذكر الواقدي عن رجاله قالوا: استأخر إسلام كعب بن عجرة. وكان له صنم يكرمه ويمسحه، فكان يدعى إلى الإسلام، فيأبى. وكان عبادة بن الصامت له خليلا، فرصده يوما، فلما خرج، دخل عبادة ومعه قدوم، فكسره، فلما أتى كعب، قال: من فعل هذا؟ قالوا: عبادة، فخرج مغضبا، ثم فكر في نفسه، وأتى عبادة، فأسلم. (¬3) موقفه من الخوارج: عن جنادة قال: قال لي عبادة بن الصامت: عليك بالسمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك ولا تنازع الأمر أهله إلا أن يأمروك بمعصية الله بواحا يعني خالصا. (¬4) ¬

(¬1) أحمد (5/ 320) ومسلم (3/ 1210 - 1211/ 1587) وأبو داود (3/ 643/3349) والترمذي (3/ 541/1240) والنسائي (7/ 316 - 317/ 4574) وابن ماجه (2/ 757 - 758/ 2254). (¬2) مسلم (3/ 1210/1587). (¬3) السير (3/ 53). (¬4) أصول الاعتقاد (7/ 1301/2302).

موقفه من القدرية:

موقفه من القدرية: جاء في أصول الاعتقاد (¬1): عن عطاء بن أبي رباح قال: سألت ابن عبادة ابن الصامت كيف كانت وصية أبيك حين حضره الموت؟ قال: جعل يقول: يا بني اتق الله واعلم أنك لن تتقي الله ولن تبلغ العلم حتى تعبد الله وحده وتؤمن بالقدر خيره وشره. قلت: يا أبتي كيف لي أن أؤمن بالقدر خيره وشره؟ قال: تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك فإن مت على غير هذا دخلت النار. سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب فقال ما أكتب. فجرى تلك الساعة بما كان وما هو كائن إلى الأبد". (¬2) معاذ بن عمرو بن الجموح (¬3) (مات في خلافة عثمان) مُعَاذ بن عمرو بن الجَمُوح بن كعب الأنصاري المدني شهد بدرا والعقبة، وهو أحد من قتل أبا جهل. مات في زمن عثمان، قاله البخاري وغيره. ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 679 - 680/ 1097). (¬2) أحمد (5/ 317) من طريق ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه ... فذكره. قال الشيخ الألباني رحمه الله في ظلال الجنة (1/ 48): "وإسناده لا بأس به في الشواهد رجاله ثقات غير ابن لهيعة وهو سيء الحفظ لكنه يتقوى بما قبله وما بعده يعني من كتاب السنة لابن أبي عاصم". وأخرجه أبو داود (5/ 76/4700) من طريق إبراهيم بن أبي عبلة عن أبي حفصة قال: قال عبادة بن الصامت لابنه .. فذكره. والترمذي (4/ 398/2155) وقال: "وهذا حديث غريب من هذا الوجه". وفيه قصة طويلة. وأخرجه (5/ 394 - 395/ 3319) وقال: "هذا حديث حسن غريب". (¬3) السير (1/ 249 - 252) والإصابة (6/ 142 - 143) وأسد الغابة (5/ 194 - 195) والاستيعاب (3/ 1410 - 1411) والكامل لابن الأثير (2/ 126 - 127) والتاريخ الكبير (7/ 360/1556).

موقفه من المشركين:

موقفه من المشركين: عن عبد الرحمن بن عوف قال: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما تمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عم هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، ما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا. فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت: ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه. ثم انصرفا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبراه. فقال: أيكما قتله؟ قال كل واحد منهما: أنا قتلته. فقال: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا. فنظر في السيفين فقال كلاكما قتله، سلبه لمعاذ ابن عمرو بن الجموح. وكانا معاذ بن عفراء ومعاذ ابن عمرو بن الجموح. (¬1) عبد الله بن حُذَافَة (¬2) (توفي في خلافة عثمان) عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي، أبو حُذَافة القرشي السَّهْمي، من السابقين الأولين. قيل شهد بدرا، وكانت فيه دعابة، وهو رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ¬

(¬1) أحمد (1/ 192 - 193) والبخاري (6/ 303/3141) ومسلم (3/ 1372/1752). (¬2) طبقات ابن سعد (4/ 189) والاستيعاب (3/ 888 - 891) وأسد الغابة (3/ 213 - 214) وتهذيب الكمال (14/ 411 - 413) وسير أعلام النبلاء (2/ 11 - 16) والإصابة (4/ 57 - 59).

موقفه من المشركين:

كسرى يدعوه إلى الإسلام، وهو القائل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال: "من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه، فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به، ما دمت في مقامي هذا"، من أبي يا رسول الله؟ قال: أبوك حذافة ... الحديث (¬1). وهو الذي بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع ينادي في أيام التشريق أنها أيام أكل وشرب، وهو الذي أسرته الروم في زمن عمر بن الخطاب، فنجاه الله سبحانه وتعالى منهم. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وروى عنه سليمان بن يسار وأبو وائل ومسعود بن الحكم الزرقي وأبو سلمة بن عبد الرحمن. ومناقبه كثيرة رضي الله عنه. قال أبو نعيم: توفي بمصر في خلافة عثمان، ودفن بها. موقفه من المشركين: - جاء في السير: عن أبي رافع، قال: وجه عمر جيشا إلى الروم، فأسروا عبد الله بن حذافة، فذهبوا به إلى ملكهم، فقالوا: إن هذا من أصحاب محمد. فقال: هل لك أن تتنصر وأعطيك نصف ملكي؟ قال: لو أعطيتني جميع ما تملك، وجميع ما تملك، وجميع ملك العرب، ما رجعت عن دين محمد طرفة عين. قال: إذا أقتلك. قال: أنت وذاك. فأمر به، فصلب، وقال للرماة: ارموه قريبا من بدنه، وهو يعرض عليه، ويأبى، فأنزله. ودعا بقدر، فصب فيها ماء حتى احترقت، ودعا بأسيرين من المسلمين، فأمر بأحدهما، فألقي فيها، وهو يعرض عليه النصرانية، وهو يأبى. ثم بكى. فقيل للملك: إنه بكى. فظن أنه قد جزع، فقال: ردوه. ما أبكاك؟ قال: قلت: ¬

(¬1) أحمد (3/ 162) والبخاري (13/ 329/7294) ومسلم (4/ 1832/2359) (136).

هي نفس واحدة تلقى الساعة فتذهب، فكنت أشتهي أن يكون بعدد شعري أنفس تلقى في النار في الله. فقال له الطاغية: هل لك أن تقبل رأسي وأخلي عنك؟ فقال له عبد الله: وعن جميع الأسارى؟ قال: نعم. فقبل رأسه. وقدم بالأسارى على عمر، فأخبره خبره. فقال عمر: حق على كل مسلم أن يقبل رأس ابن حذافة، وأنا أبدأ. فقبل رأسه. (¬1) - وفيها أيضا عن الوليد بن مسلم: حدثنا أبو عمرو، ومالك بن أنس: أن أهل قيسارية أسروا ابن حذافة، فأمر به ملكهم، فجرب بأشياء صبر عليها. ثم جعلوا له في بيت معه الخمر ولحم الخنزير ثلاثا لا يأكل، فاطلعوا عليه، فقالوا للملك: قد انثنى عنقه، فإن أخرجته وإلا مات. فأخرجه، وقال: ما منعك أن تأكل وتشرب؟ قال: أما إن الضرورة كانت قد أحلتها لي، ولكن كرهت أن أشمتك بالإسلام. قال: فقبل رأسي، وأخلي لك مائة أسير. قال: أما هذا، فنعم. فقبل رأسه، فخلى له مائة، وخلى سبيله. وقد روى ابن عائذ قصة ابن حذافة فقال: حدثنا الوليد بن محمد: أن ابن حذافة أسر. فذكر القصة مطولة، وفيها: أطلق له ثلاث مائة أسير، وأجازه بثلاثين ألف دينار، وثلاثين وصيفة، وثلاثين وصيفا. (¬2) ¬

(¬1) السير (2/ 14). (¬2) السير (2/ 15).

عمير بن حبيب بن خماشة (ممن بايع تحت الشجرة)

عُمَيْر بن حبيب بن خُماشَة (¬1) (ممن بايع تحت الشجرة) عمير بن حبيب بن خماشة بضم المعجمة وتخفيف الميم -وقيل بن حُبَاشَة- بن جويبر بن عبيد بن عنان بن عامر بن خطمة الأنصاري. قال البخاري: بايع تحت الشجرة. وهو جد أبي جعفر الخطمي، ولم يوجد له رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجه ثابت. روى أبو جعفر أن جده عمير بن حبيب -وكان ممن بايع تحت الشجرة- قال: أي بني، إياكم ومجالسة السفهاء، فإن مجالستهم داء، وإنه من يحلم عن السفيه ليس ينظر بحلمه، ومن لا يفر بقليل ما يأتي به السفيه يفر بالكثير، ومن يصبر على ما يكره يدرك ما يحب، وإذا أراد أحدكم أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر، فليوطن نفسه قبل ذلك على الأذى، ليوقن بالثواب، فإنه من يوقن بالثواب من الله تعالى لا يجد مس الأذى. موقفه من المرجئة: - قال ابن القيم: أقدم من روي عنه زيادة الإيمان ونقصانه من الصحابة عمير بن حبيب الخطمي. (¬2) - عن عمير بن حبيب بن خماشة أنه قال: إن الإيمان يزيد وينقص قيل له وما زيادته وما نقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله وخشيناه فذلك زيادته وإذا ¬

(¬1) التاريخ الكبير (6/ 531) والثقات لابن حبان (3/ 299) والاستيعاب (3/ 1213) وأسد الغابة (4/ 277) والإصابة (4/ 714 - 715). (¬2) مختصر سنن أبي داود (7/ 56).

أمير المؤمنين عثمان بن عفان (35 هـ)

غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه. (¬1) أمير المؤمنين عثمان بن عفان (¬2) (35 هـ) أمير المؤمنين عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي، أبو عمرو، ويقال أبو عبد الله، ذو النورين الأموي. أمه أروى بنت كريز بن ربيعة، وأمها أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أسلم قديما وهاجر الهجرتين، وتزوج ابنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رقية ثم أم كلثوم. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر، وروى عنه ابنه أبان بن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك وغيرهم. عن ابن عمر، قال: كنا نقول على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم نسكت" (¬3). فقيل: هذا في التفضيل، وقيل: في الخلافة. ¬

(¬1) السنة لعبد الله (84) وأصول الاعتقاد (5/ 1020/1721) والإبانة (2/ 7/45/ 1131) والشريعة (1/ 261/240) والسنة للخلال (4/ 47/1141) وابن أبي شيبة في المصنف (6/ 160/30327) وفي الإيمان له (14). (¬2) طبقات ابن سعد (3/ 53 - 84) والاستيعاب (3/ 1037 - 1053) والكامل لابن الأثير (1/ 46) و (2/ 59) وأسد الغابة (3/ 578 - 587) وتاريخ دمشق (الجزء 39) وتهذيب الكمال (19/ 445 - 460) وتهذيب التهذيب (7/ 139 - 142). (¬3) أحمد (2/ 14) وابن أبي عاصم (2/ 568/1195) وأبو يعلى (10/ 161/5784) والطبراني (12/ 345/13301) وابن حبان (16/ 237/7251) عن سهيل عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما. وأخرجه البخاري (7/ 66/3698) وأبو داود (5/ 25 - 26/ 4627) الترمذي (5/ 588/3707) من طرق عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما.

قال الشعبي: لم يجمع القرآن أحد من الخلفاء من الصحابة غير عثمان. وقال ابن سيرين: كان أعلمهم بالمناسك عثمان، وبعده ابن عمر. وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: كان رسول - صلى الله عليه وسلم - مضطجعا في بيته كاشفا عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر، ثم عمر، وهو على تلك الحال فتحدثا، ثم استأذن عثمان، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسوى ثيابه، فدخل فتحدث، فلما خرج، قلت: يا رسول الله دخل أبو بكر، فلم تجلس له، ثم دخل عمر، فلم تهش له، ثم دخل عثمان، فجلست وسويت ثيابك، قال: "ألا أستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة". (¬1) وفيه أيضا عن أبي موسى الأشعري قال: "بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حائط من حائط المدينة، وهو متكئ يركز بعود معه بين الماء والطين، إذا استفتح رجل، فقال: افتح وبشره بالجنة، قال: فإذا أبو بكر، فتحت له وبشرته بالجنة، قال: ثم استفتح رجل آخر، فقال: افتح له وبشره بالجنة، قال: فذهبت فإذا هو عمر، ففتحت له وبشرته بالجنة، ثم استفتح رجل آخر، قال: فجلس النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: افتح وبشره بالجنة على بلوى تكون، قال: فذهبت فإذا هو عثمان بن عفان، قال: ففتحت وبشرته بالجنة، قال: وقلت الذي قال، فقال: اللهم صبرا، أوالله المستعان". (¬2) ¬

(¬1) أحمد (6/ 155) ومسلم (4/ 1866/2401). (¬2) أحمد (4/ 406) والبخاري (7/ 53/3693) ومسلم (4/ 1867/2403) والترمذي (5/ 589/3710) وقال: "هذا حديث حسن صحيح".

موقفه من الرافضة:

بويع له بالخلافة سنة أربع وعشرين بعد دفن عمر بن الخطاب بثلاثة أيام باجتماع الناس عليه، وقتل بالمدينة يوم الجمعة لثماني عشرة أو سبع عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين من الهجرة. موقفه من الرافضة: - أخرج اللالكائي في أصول الاعتقاد بسنده إلى زيد بن أسلم عن أبيه قال: كتب عثمان بن عفان عهد الخليفة من بعد أبي بكر فأمره أن لا يسمي أحدا وترك اسم الرجل فأغمي على أبي بكر إغماءة فأخذ عثمان العهد فكتب فيه اسم عمر قال فأفاق أبو بكر فقال: أرنا العهد فإذا فيه اسم عمر فقال: من كتب هذا؟ فقال عثمان: أنا. فقال: رحمك الله وجزاك خيرا، فوالله لو كتبت نفسك لكنت لذلك أهلا. (¬1) - وله بسنده إلى سليمان بن يسار: أن جهجاه الغفاري أخذ عصا عثمان التي يتخصر بها فكسرها على ركبته فوقعت في ركبته الآكلة (¬2).اهـ (¬3) موقفه من الجهمية: قال عثمان بن عفان: ما أحب أن يأتي علي يوم وليلة لا أنظر في كلام الله يعني القراءة في المصحف. (¬4) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (7/ 1403/2521). (¬2) الآكلة بالمد والقصر: الحِكَّة. (¬3) أصول الاعتقاد (9/ 131/70). (¬4) السنة لعبد الله (ص.27 - 28).

طلحة بن عبد الله (36 هـ)

طلحة بن عبد الله (¬1) (36 هـ) طلحة بن عبد الله بن عثمان القرشي التيمي أبو محمد. أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر، وأحد الستة أصحاب الشورى، وأبلى يوم أحد بلاء حسنا. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. روى عنه بنوه يحيى وموسى وعيسى بن طلحة والسائب بن يزيد ومالك بن أوس بن الحدثان وقيس بن أبي حازم وغيرهم. أوذي في الله، ثم هاجر، فاتفق أنه غاب عن وقعة بدر في تجارة له بالشام وتألم لغيبته، فضرب له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسهمه. عن الحسن البصري أن طلحة بن عبد الله باع أرضا له بسبع مائة ألف فبات أرقاً من مخافة ذلك حتى أصبح ففرقه. وعن طلحة بن يحيى، حدثتني جدتي سعدى بنت عوف المرية، قالت: دخلت على طلحة يوما وهو خاثر، فقلت: مالك؟ لعلك رابك من أهلك شيء؟ قال: لا والله، ونعم حليلة المسلم أنت، ولكن مال عندي قد غمني فقلت ما يغمك؟ عليك بقومك، قال: يا غلام. ادع لي قومي فقسمه فيهم، فسألت الخازن كم أعطى؟ قال: أربعمائة ألف. استشهد رضي الله عنه يوم الجمل سنة ست وثلاثين. ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (3/ 214 - 225) والاستيعاب (2/ 764 - 770) والإصابة (3/ 529 - 533) ومجمع الزوائد (9/ 147 - 150) والحلية (1/ 87 - 89) والعقد الثمين (5/ 68 - 69) والمستدرك (3/ 368 - 374) وتهذيب التهذيب (5/ 20 - 22) والبداية والنهاية (7/ 246 - 248) والسير (1/ 23 - 40) وتهذيب الكمال (13/ 412 - 424).

موقفه من المشركين:

موقفه من المشركين: عن جابر بن عبد الله قال: لما كان يوم أحد وولى الناس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ناحية في اثني عشر رجلا من الأنصار وفيهم طلحة بن عبد الله فأدركهم المشركون، فالتفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال من للقوم؟ فقال طلحة: أنا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كما أنت، فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله، فقال أنت، فقاتل حتى قتل ثم التفت فإذا المشركون، فقال: من للقوم؟ فقال طلحة: أنا، قال: كما أنت، فقال رجل من الأنصار: أنا، قال: أنت فقاتل حتى قتل، ثم لم يزل يقول ذلك ويخرج إليهم رجل من الأنصار فيقاتل قتال من قبله حتى يقتل حتى بقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطلحة بن عبد الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من للقوم؟ فقال طلحة: أنا، فقاتل طلحة قتال الأحد عشر حتى ضربت يده فقطعت أصابعه فقال: حس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو قلت بسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون ثم رد الله المشركين". (¬1) موقفه من القدرية: جاء في الإبانة (¬2): عن معمر عن من سمع الحسن يقول لما رمي طلحة بن عبد الله يوم الجمل؛ جعل يمسح الدم عن صدره وهو يقول: {وَكَانَ {أَمْرُ اللَّهِ ¬

(¬1) النسائي (6/ 337/3149) وعنه ابن السني في عمل اليوم والليلة (669). قال الذهبي في السير (1/ 27): "رواته ثقات". وأخرجه البيهقي في الدلائل (3/ 236) باختلاف يسير. ومن طريقه ابن عساكر (25/ 72 - 73)، قال الحافظ في الفتح (7/ 457): "إسناده جيد". وأخرجه مختصرا أبو نعيم في معرفة الصحابة (1/ 327). وانظر الصحيحة رقم (2171و2796). (¬2) الإبانة (2/ 9/88/ 1498).

حذيفة بن اليمان (36 هـ)

قدرًا مقدورًا} (¬1). حُذَيْفة بن اليَمَان (¬2) (36 هـ) حذيفة بن اليمان حِسْل بن جابر (واليمان لقب أبيه) يكنى أبا عبد الله، أسلم هو وأبو هـ وأرادا شهود بدر فصدهما المشركون، وشهدا أحدا فاستشهد اليمان بها، قتله بعض المسلمين وهو يحسبه من المشركين. وشهد حذيفة الخندق وما بعدها. كان من كبار أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق ينظر إلى قريش فجاء بخبر رحيلهم. وكان عمر بن الخطاب يسأله عن المنافقين، وهو معروف في الصحابة بصاحب سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكان عمر رضي الله عنه ينظر إليه عند موت من مات منهم، فإن لم يشهد جنازته حذيفة لم يشهدها عمر. وكان حذيفة يقول خيرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الهجرة والنصرة فاخترت النصرة. سئل حذيفة أي الفتن أشد؟ قال: أن يعرض عليك الخير والشر فلا تدري أيهما تركب. وقال: لا تقوم الساعة حتى يسود كل قبيلة منافقوها. آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين حذيفة وعمار. وقد ناشده عمر: أأنا من ¬

(¬1) الأحزاب الآية (38). (¬2) الإصابة (2/ 44 - 45) والاستيعاب (1/ 334 - 335) والحلية (1/ 270 - 383) والوافي (11/ 327 - 328) وطبقات ابن سعد (6/ 15) و (7/ 317) والسير (2/ 361 - 369) ومجمع الزوائد (9/ 325 - 326) وشذرات الذهب (1/ 44) وتهذيب التهذيب (2/ 219 - 220) والمستدرك (3/ 379 - 381) والجرح والتعديل (3/ 256).

موقفه من المبتدعة:

المنافقين؟ فقال: لا، ولا أزكي أحدا بعدك. وقال حذيفة رضي الله عنه كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني. قال أبو نعيم: حدثنا سعد بن أوس، عن بلال بن يحيى، قال: بلغني أن حذيفة كان يقول: ما أدرك هذا الأمر أحد من الصحابة إلا قد اشترى بعض دينه ببعض. قالوا: وأنت؟ قال: وأنا والله، إني لأدخل على أحدهم -وليس أحد إلا فيه محاسن ومساوئ- فأذكر من محاسنه، وأعرض عما سوى ذلك، وربما دعاني إلى الغذاء، فأقول: إني صائم، ولست بصائم. مات رضي الله عنه بالمدائن سنة ست وثلاثين. موقفه من المبتدعة: - جاء في الإبانة عن قتادة قال: قال حذيفة بن اليمان: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، اتبعوا آثارنا فقد سبقتم سبقا بعيدا وإن أخطأتم فقد ضللتم ضلالا بعيدا. (¬1) - وروى البخاري عن حذيفة رضي الله عنه قال: يا معشر القراء، استقيموا فقد سبقتم سبقا بعيدا فإن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا. (¬2) - وفي الباعث: عن حذيفة قال: كل عبادة لا يتعبدها أصحاب رسول ¬

(¬1) الإبانة (1/ 2/335 - 336/ 197). (¬2) البخاري (13/ 311/7282) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 947) وأصول الاعتقاد (1/ 101/119) والإبانة (1/ 2/335/ 196) وابن وضاح (ص.41).

الله - صلى الله عليه وسلم - فلا تعبدوها فإن الأول لم يدع للآخر مقالا، فاتقوا الله يا معشر القراء وخذوا طريق من كان قبلكم. (¬1) " التعليق: يخاطب حذيفة القراء والعلماء ويأمرهم بالتزام المنهج السلفي، الذي كان عليه صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الحافظ عند الحديث الذي أخرجه البخاري: قوله: (سبقا بعيدا) أي: ظاهرا ووصفه بالبعد لأنه غاية شأو السابقين، والمراد أنه خاطب بذلك من أدرك أوائل الإسلام فإذا تمسك بالكتاب والسنة سبق إلى كل خير، لأن من جاء بعده إن عمل بعمله لم يصل إلى ما وصل إليه من سبقه إلى الإسلام، وإلا فهو أبعد منه حسا وحكما. وقوله: (فإن أخذتم يمينا وشمالا) أي خالفتم الأمر المذكور. وكلام حذيفة منتزع من قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬2) والذي له حكم الرفع من حديث حذيفة هذا الإشارة إلى فضل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين مضوا على الاستقامة. (¬3) اهـ - وجاء في ذم الكلام: أن حذيفة رضي الله عنه لما حضرته الوفاة، دخل عليه أبو مسعود فقال له: اعهد إلينا فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدثك بأحاديث قال: أو ما أتاك الحق اليقين؟ قال: اعلم أن من أعمى الضلالة أن ¬

(¬1) الباعث (70 - 71)، وعزاه إلى أبي داود ولم أجده فيه. وانظر صيانة الإنسان (ص.321) والاعتصام (2/ 630). (¬2) الأنعام الآية (153). (¬3) فتح الباري (13/ 257).

تعرف ما كنت تنكر، وأن تنكر ما كنت تعرف، وإياك والتلون في دين الله فإن دين الله واحد. (¬1) " التعليق: رضي الله عن هذا الصحابي الجليل حيث أشار إلى أظهر صفات المبتدعة، وهي التلون والتقلب، وأما السلفي فتجده ثابتا في عقيدته، ثابتا في اتباعه للرسول - صلى الله عليه وسلم -، ملتزما بذلك، يقف مع الدليل ويتحرك معه ولا يحيد عنه قيد أنملة. - وفي الإبانة: عن سعد بن حذيفة عن أبيه، قال: من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه. (¬2) - وروى البخاري عن أبي وائل عن حذيفة بن اليمان قال: إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، كانوا يومئذ يسرون واليوم يجهرون. (¬3) " التعليق: قال ابن بطال: إنما كانوا شرا ممن قبلهم لأن الماضين كانوا يسرون قولهم فلا يتعدى شرهم إلى غيرهم، وأما الآخرون فصاروا يجهرون بالخروج على الأئمة ويوقعون الشر بين الفرق فيتعدى ضررهم لغيرهم. (¬4) ¬

(¬1) ذم الكلام (ص.159) والإبانة (2/ 3/504 - 505/ 572) وأصول الاعتقاد (1/ 101/120) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 933). (¬2) الإبانة (1/ 2/290/ 122) والسنة للخلال (1/ 87). (¬3) البخاري (13/ 86/7113). وانظر: ذم الكلام (ص.43) وحلية الأولياء (1/ 280) وطبقات الحنابلة (1/ 55). (¬4) الفتح (13/ 74).

- وأخرج ابن أبي شيبة عن حذيفة قال: لا تضرك الفتنة ما عرفت دينك، إنما الفتنة إذا اشتبه عليك الحق والباطل فلم تدر أيهما تتبع فتلك الفتنة. (¬1) - وعنه أيضا: أخوف ما أخاف على الناس اثنتان: أن يؤثروا ما يرون على ما يعلمون، وأن يضلوا وهم لا يشعرون. قال سفيان: وهو صاحب البدعة. (¬2) - وعنه أيضا: أنه أخذ حجرين، فوضع أحدهما على الآخر، ثم قال لأصحابه: هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور؟ قالوا: يا أبا عبد الله، ما نرى بينهما من النور إلا قليلا. قال: والذي نفسي بيده، لتظهرن البدع حتى لا يرى من الحق إلا قدر ما بين هذين الحجرين من النور، والله، لتفشون البدع حتى إذا ترك منها شيء، قالوا: تركت السنة. (¬3) - وعنه أنه قال: أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة، ولتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، وليصلين نساؤكم وهن حيض، ولتسلكن طريق من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، وحذو النعل بالنعل، لا تخطئون طريقهم، ولا تخطئ بكم، وحتى تبقى فرقتان من فرق كثيرة، تقول إحداهما: ما بال الصلوات الخمس، لقد ضل من كان قبلنا، إنما قال الله: ¬

(¬1) ابن أبي شيبة (15/ 70). (¬2) ابن وضاح في البدع (ص.81) وأبو نعيم في الحلية (1/ 278). (¬3) ابن وضاح في البدع (ص.124).

موقفه من المشركين:

{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} (¬1)، لا تصلون إلا ثلاثا، وتقول الأخرى: إنا مؤمنون بالله كإيمان الملائكة، ما فينا كافر ولا منافق، حق على الله أن يحشرهما مع الدجال. (¬2) - عن قتادة أن حذيفة قال: لتركبن سنن بني إسرائيل حذو القذة بالقذة وحذو الشبر بالشبر حتى لو فعل رجل من بني إسرائيل كذا وكذا فعله رجل من هذه الأمة. فقال له رجل: قد كان في بني إسرائيل قردة وخنازير، قال: وهذه الأمة سيكون فيها قردة وخنازير. (¬3) - عن أبي عبد الله الفلسطيني قال: حدثني عبد العزيز أخو حذيفة عن حذيفة بن اليمان، قال: أول ما تفقدون من دينكم الخشوع وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة وليصلين النساء وهن حيض ولينقضن الإسلام عروة عروة ولتركبن طريق من كان قبلكم حذو النعل بالنعل وحذو القذة بالقذة لا تخطئون طريقهم ولا يخطأ بكم. (¬4) موقفه من المشركين: - عن عزرة قال: دخل حذيفة على مريض فرأى في عضده سيرا، فقطعه أو انتزعه، ثم قال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (¬5). ¬

(¬1) هود الآية (114). (¬2) الحاكم (4/ 469) وصححه ووافقه الذهبي. وابن وضاح في البدع (125 - 126) وابن بطة في الإبانة (1/ 1/174 - 175/ 8). (¬3) الإبانة (2/ 4/571/ 715). (¬4) الإبانة (2/ 4/571/ 716). (¬5) تفسير ابن أبي حاتم (7/ 2208) والإبانة (2/ 6/743/ 1030).

موقفه من الجهمية:

- قال حذيفة: لا تقوم الساعة حتى تنصب فيها الأوثان وتعبد. يعني في المحاريب. (¬1) - وروى أبو بكر الخلال، بإسناده عن محمد بن سيرين، أن حذيفة بن اليمان أتى بيتا، فرأى فيه حارستان: فيه أباريق الصفر والرصاص، فلم يدخله. وقال من تشبه بقوم فهو منهم. وفي لفظ آخر: فرأى شيئا من زي العجم فخرج وقال: من تشبه بقوم فهو منهم. (¬2) موقفه من الجهمية: - جاء في السنة لعبد الله: عن حذيفة {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (¬3) قال: النظر إلى وجه الله. (¬4) - عن ربعي أنه سمع حذيفة بن اليمان سمع رجلا يقول: اللهم اجعلني ممن تصيبه شفاعة محمد، فقال: إن الله عز وجل يغني المؤمنين عن شفاعة محمد ولكن الشفاعة للمذنبين من المؤمنين والمسلمين. (¬5) موقفه من الخوارج: عن حذيفة قال: إني لأعلم أهل دينين أهل ذينك الدينين في النار، قوم يقولون: إنما الإيمان كلام، وقوم يقولون: ما بال الصلوات الخمس وإنما هما ¬

(¬1) ما جاء في البدع (176). (¬2) الاقتضاء (1/ 318). (¬3) يونس الآية (26). (¬4) السنة لعبد الله (60) وأصول الاعتقاد (3/ 507 - 508/ 784) والشريعة (2/ 14/632). (¬5) الشريعة (2/ 150/837) وأصول الاعتقاد (6/ 1181 - 1182/ 2085).

موقفه من المرجئة:

صلاتان. (¬1) موقفه من المرجئة: - عن حذيفة قال: أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة، ولتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، وليصلين نساؤكم وهن حيض، ولتسلكن طريق من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، وحذو النعل بالنعل، لا تخطئون طريقهم، ولا تخطئ بكم، وحتى تبقى فرقتان من فرق كثيرة، تقول إحداهما: ما بال الصلوات الخمس، لقد ضل من كان قبلنا، إنما قال الله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} (¬2)، لا تصلون إلا ثلاثا، وتقول الأخرى: إنا مؤمنون بالله كإيمان الملائكة، ما فينا كافر ولا منافق، حق على الله أن يحشرهما مع الدجال. (¬3) جاء في الإبانة: عن قيس بن السكن، عن حذيفة، قال: يأتي على الناس زمان لو رميت بسهم يوم الجمعة لم يصب إلا كافرا أو منافقا. (¬4) وفيها: عن أبي يحيى قال: سئل حذيفة ما النفاق؟ قال: الذي يصف الإسلام ولا يعمل به. (¬5) ¬

(¬1) السنة لعبد الله (ص.89) والإبانة (2/ 7/887/ 1229) والشريعة (1/ 308/333) والإيمان لابن أبي شيبة (65) والإيمان لأبي عبيد (ص.33). (¬2) هود الآية (114). (¬3) الحاكم (4/ 469) وصححه ووافقه الذهبي. وابن وضاح في البدع (125 - 126) وابن بطة في الإبانة (1/ 1/174 - 175/ 8). (¬4) الإبانة (1/ 1/175/ 9). (¬5) الإبانة (2/ 5/691/ 914).

جندب الأزدي (36 هـ)

جندب الأزدي (¬1) (36 هـ) جُنْدُب بن كعب بن عبد الله أبو عبد الله الأزدي الغامدي، قدم دمشق، ويقال له: جندب الخير، وهو الذي قتل المشعوذ الساحر. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن علي وسلمان رضي الله عنهما. روى عنه حارثة بن وهب الخزاعي الصحابي والحسن البصري وأبو عثمان النهدي، وأبو السابغة النهدي، وتميم بن الحارث وغيرهم، توفي سنة ست وثلاثين. موقفه من المشركين: عن أبي عثمان النهدي أن ساحرا كان يلعب عند الوليد بن عقبة الأمير فكان يأخذ سيفه فيذبح نفسه ولا يضره، فقام جندب إلى السيف فأخذه فضرب عنقه ثم قرأ: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} (¬2). (¬3) الزُّبَيْر بن العَوَّام (¬4) (36 هـ) الزبير بن العوام بن خُوَيْلِد، أبو عبد الله حواري رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وابن عمته صفية بنت عبد المطلب، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة ¬

(¬1) الإصابة (1/ 511 - 513) والاستيعاب (1/ 258 - 260) وتقريب التهذيب (1/ 135) والسير (3/ 175 - 177) وتهذيب الكمال (5/ 141 - 148). (¬2) الأنبياء الآية (3). (¬3) أخرجه الدارقطني (3/ 114) وأورده الذهبي في السير (3/ 175). (¬4) الاستيعاب (2/ 510 - 516) والإصابة (2/ 553 - 557) وطبقات ابن سعد (3/ 100 - 113) والبداية والنهاية (7/ 260 - 261) والحلية (1/ 89 - 92) والمستدرك (3/ 359 - 368) والوافي (14/ 180 - 184) والسير (1/ 41 - 67) والعقد الثمين (4/ 429 - 440) ومجمع الزوائد (9/ 150 - 153) وتهذيب التهذيب (3/ 318 - 319).

أهل الشورى، وأول من سل سيفه في سبيل الله. أسلم وهو حدث وهاجر وهو ابن ثمان عشرة سنة. شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروى عنه الأحنف بن قيس، وابناه عبد الله وعروة وعبد الله بن عامر وقيس بن أبي حازم. قال الزبير: ما تخلفت عن غزوة غزاها المسلمون إلا أن أقبل فألقى ناسا يعقبون. قال الثوري: هؤلاء الثلاثة نجدة الصحابة: حمزة وعلي والزبير. عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان على حراء فتحرك، فقال: "اسكن حراء، فما عليك إلا نبي أو صديق، أو شهيد" (¬1) وكان عليه أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير، رواه مسلم. وعن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} (¬2) قالت لعروة: يا ابن أختي كان أبواك منهم: الزبير وأبو بكر. لما أصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أصاب يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا قال: "من يذهب إثرهم؟ " فانتدب منهم سبعون رجلا، كان فيهم أبو بكر والزبير. أخرجاه (¬3). ¬

(¬1) أحمد (2/ 419) ومسلم (4/ 2880/2417) والترمذي (5/ 582/3696) وقال: "هذا حديث صحيح". والنسائي في الكبرى (5/ 59/8207). (¬2) آل عمران الآية (172). (¬3) البخاري (7/ 475/4077) ومسلم (4/ 1880 - 1881/ 2418 - (51 - 52)) مختصرا. وابن ماجه (1/ 46/124) مختصرا.

موقفه من المبتدعة:

عن أبي رجاء العطاردي، قال: شهدت الزبير يوما، وأتاه رجل فقال: ما شأنكم أصحاب رسول الله؟ أراكم أخف الناس صلاة، قال: نبادر الوسواس. قال جويرة بن أسماء: باع الزبير دارا له بست مائة ألف، فقيل له: يا أبا عبد الله غبنت، قال: كلا، هي في سبيل الله. قتل رضي الله عنه سنة ست وثلاثين بعد منصرفه من وقعة الجمل، قتله ابن جرموز. موقفه من المبتدعة: عن عبد الله بن الزبير قال: لقيني ناس من أهل العراق، فخاصموني في القرآن، فوالله ما استطعت بعض الرد عليهم وهبت المراجعة في القرآن، فشكوت ذلك إلى أبي الزبير. فقال الزبير: إن القرآن قد قرأه كل قوم فتأولوه على أهوائهم وأخطئوا مواضعه، فإن رجعوا إليك فخاصمهم بسنن أبي بكر وعمر رحمهما الله، فإنهم لا يجحدون أنهما أعلم بالقرآن منهم، فلما رجعوا فخاصمتهم بسنن أبي بكر وعمر فوالله ما قاموا معي ولا قعدوا. (¬1) " التعليق: لا شك أن دراسة التراث السلفي تراث الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما يورث الهداية إلى سبيل الرشاد، وترك ذلك والاعتناء بما قاله الخلف، يورث كل حيرة وضلالة، فرضي الله عن هذا الصحابي الجليل الذي أرشدنا لهذا الموروث العظيم. ¬

(¬1) الإبانة (2/ 4/620/ 811) والفقيه والمتفقه (1/ 560 - 561) بنحوه مختصرا.

موقفه من المشركين:

موقفه من المشركين: أخرج أبو نعيم في الحلية بسنده إلى أبي الأسود: قال أسلم الزبير بن العوام وهو ابن ثماني سنين وهاجر وهو ابن ثمان عشرة سنة، كان عم الزبير يعلق الزبير في حصير ويدخن عليه بالنار ويقول ارجع إلى الكفر فيقول الزبير لا أكفر أبدا. (¬1) موقفه من الجهمية: أخرج اللالكائي في أصول الاعتقاد: عن الزبير بن العوام أنه سئل بوجه الله فقال: أعطه فإنه بوجه الله سأل لا بوجه الخلق. (¬2) سَلْمَان الفارسي (¬3) (36 هـ) سلمان ابن الإسلام، ويقال له: سلمان الخير، أبو عبد الله الفارسي. سابق الفرس إلى الإسلام، صحب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخدمه وحدث عنه. كان لبيبا حازما، من عقلاء الرجال وعبادهم ونبلائهم. كان قد سمع بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سيبعث فخرج في طلب ذلك فأسر، وبيع بالمدينة فاشتغل بالرق، حتى كان أول مشاهده الخندق، وشهد بقية المشاهد. روى عنه ابن عباس، وأنس بن مالك، وأبو الطفيل، وشرحبيل ابن السمط، وعبد الرحمن بن يزيد النخعي. ¬

(¬1) الحلية (1/ 89). (¬2) أصول الاعتقاد (3/ 458/692). (¬3) الاستيعاب (2/ 634 - 638) والإصابة (3/ 141 - 142) والسير (1/ 505 - 558) والجرح والتعديل (4/ 296 - 297) وتاريخ بغداد (1/ 163 - 171) وأسد الغابة (2/ 510 - 515).

موقفه من المبتدعة:

قال كعب الأحبار: سلمان حشي علما وحكمة. قال ابن عبد البر: كان خيّرا فاضلا حبرا عالما زاهدا متقشفا. توفي سنة ست وثلاثين. موقفه من المبتدعة: - جاء في الإبانة عن عبد الله بن ربيعة عن سلمان أنه قال: لا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يعلم الآخر، فإذا هلك الأول قبل أن يعلم الآخر هلك الناس. (¬1) - وروى الدارمي عن أبي صادق قال: قال سلمان: لو وضع رجل رأسه على الحجر الأسود فصام النهار وقام الليل لبعثه الله يوم القيامة مع هواه. (¬2) موقفه من المرجئة: - عن عبد الله بن) هبيره (النصري قال: كتب أبو الدرداء إلى سلمان: أن هلم إلى الأرض المقدسة. وكان أبو الدرداء يلي القضاء بالشام، فكتب إليه سلمان: الأرض لا تقدس أحدا إنما يقدس المرء عمله. (¬3) - عن طارق بن شهاب الأحمسي عن سلمان قال: إن مثل الصلوات الخمس كمثل سهام الغنيمة، فمن يضرب فيها بخمسة خير ممن يضرب فيها بأربعة، ومن يضرب فيها بأربعة خير ممن يضرب فيها بثلاثة، ومن يضرب فيها بثلاثة خير ممن يضرب فيها بسهمين، ومن يضرب فيها بسهمين خير ¬

(¬1) الإبانة (1/ 1/204/ 42). (¬2) سنن الدارمي (1/ 92). (¬3) أصول الاعتقاد (5/ 1019/1718).

موقفه من القدرية:

ممن يضرب فيها بسهم، وما جعل الله من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له. (¬1) موقفه من القدرية: - جاء في الإبانة: عن أبي الحجاج (رجل من الأزد)؛ قال: سألت سلمان: كيف الإيمان بالقدر يا أبا عبد الله؟ قال: أن يعلم الرجل من قبل نفسه أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه؛ فذاك الإيمان بالقدر. (¬2) - عن أبي نعامة السعدي قال: كنا عند أبي عثمان فحمدنا الله ودعونا، فقلت: لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحا مني بآخره. فقال: ثبتك الله. كنا عند سلمان فحمدنا الله ودعوناه وذكرناه، فقلت لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحا مني بآخره. فقال سلمان: ثبتك الله. إن الله لما خلق آدم مسح ظهره فأخرج منه ما هو ذاري إلى يوم القيامة، فكتب الآجال والأرزاق والأعمال والشقوة والسعادة. فمن علم السعادة فعل الخير ومجالس الخير. ومن علم الشقاوة فعل الشر ومجالس الشر. (¬3) ¬

(¬1) مصنف ابن أبي شيبة (6/ 165/30367). (¬2) الإبانة (2/ 9/170/ 1653) وأصول الاعتقاد (4/ 749/1240) والشريعة (1/ 406/472). (¬3) أصول الاعتقاد (4/ 749 - 750/ 1241) والإبانة (2/ 9/169 - 170/ 1652) والشريعة (1/ 405/469).

عمار بن ياسر (37 هـ)

عمَّار بن يَاسِر (¬1) (37 هـ) عمار بن ياسر بن عامر الإمام الكبير، أبو اليقظان، العنسي المكي مولى بني مخزوم، أحد السابقين الأولين والأعيان البدريين، أمه هي سمية مولاة بني مخزوم من كبار الصحابيات أيضا. قال أبو عمر رحمه الله: كان عمار وأمه سمية ممن عذب في الله، ثم أعطاهم عمار ما أرادوا بلسانه، واطمأن بالإيمان قلبه، فنزلت فيه: {إِلًّا َمنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} (¬2) وهذا مما اجتمع أهل التفسير عليه. وكان عمار ممن هاجر إلى الحبشة وممن صلى القبلتين، شهد بدرا والمشاهد كلها، وشهد اليمامة فأبلى فيها ويومئذ قطعت أذنه. له عدة أحاديث، روى عنه علي وابن عباس وأبو موسى الأشعري وأبو أمامة الباهلي وغيرهم. وأخرج الحاكم عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بعمار وأهله وهم يعذبون فقال: "صبرا آل عمار وآل ياسر فإن موعدكم الجنة". (¬3) وأخرج الإمام أحمد والحاكم عن خالد بن الوليد قال: كان بيني وبين ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (3/ 246 - 264) والإصابة (4/ 575 - 576) والاستيعاب (3/ 1135 - 1141) والبداية والنهاية (7/ 311 - 312) والحلية (1/ 139 - 143) والسير (1/ 406 - 428) وتاريخ بغداد (1/ 150 - 153) ومجمع الزوائد (9/ 291 - 298) والعقد الثمين (6/ 279 - 280) وشذرات الذهب (1/ 45) والوافي (2/ 376 - 378). (¬2) النحل الآية (106). (¬3) الحاكم (3/ 388 - 389) وقال: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي. والطبراني في الأوسط (2/ 304 - 305/ 1531) وذكره الهيثمي في المجمع (9/ 296) وقال: "رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح، غير إبراهيم بن عبد العزيز المقوم وهو ثقة".

موقفه من المبتدعة:

عمار كلام، فأغلظت له، فشكاني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "من عادى عمارا عاداه الله، ومن أبغض عمارا أبغضه الله فخرجت، فما شيء أحب إلي من رضى عمار، فلقيته فرضي" (¬1). توفي رضي الله عنه سنة سبع وثلاثين. موقفه من المبتدعة: - جاء في السير: قال الشعبي: سئل عمار عن مسألة فقال: هل كان هذا بعد؟ قالوا: لا. قال: فدعونا حتى يكون، فإذا كان تجشمناه لكم. (¬2) - وروى ابن وضاح عن عمار بن ياسر قال: يأتي على الناس زمان خير دينهم دين الأعراب. قال: ومم ذاك؟ قال: تحدث أهواء وبدع يحضون عنها. (¬3) موقفه من المشركين: - قال الذهبي في السير: قيل: لم يسلم أبوا أحد من السابقين المهاجرين سوى عمار وأبي بكر. (¬4) - وعن عثمان بن عفان قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لأبي عمار ¬

(¬1) أحمد (4/ 89 - 90) والطبراني (4/ 113 - 114/ 3835) والحاكم (3/ 390 - 391) وقال: "صحيح الإسناد على شرط الشيخين" ووافقه الذهبي. ابن حبان (15/ 556 - 557/ 7081 الإحسان). وذكره الهيثمي في المجمع (9/ 296) وقال: "رواه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح". (¬2) سير إعلام النبلاء (1/ 423). (¬3) ابن وضاح (ص.171). (¬4) السير (1/ 410).

وأم عمار: اصبروا آل ياسر موعدكم الجنة. (¬1) - وعن ابن عون عن محمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقي عمارا وهو يبكي، فجعل يمسح عن عينيه وهو يقول: أخذك الكفار فغطوك في الماء فقلت كذا وكذا فإن عادوا فقل ذاك لهم. (¬2) - وعن عمر بن الحكم قال: كان عمار بن ياسر يعذب حتى لا يدري ما يقول، وكان صهيب يعذب حتى لا يدري ما يقول ... وقوم من المسلمين وفيهم نزلت هذه الآية: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} (¬3).اهـ (¬4) - وعن أبي رزين، عن عبد الله بن مسعود، عنه، قال: إن أبا جهل طعن بحربة في فخذ سمية أم عمار حتى بلغت فرجها فماتت، فقال عمار: يا رسول الله، بلغ منا -أو بلغ منها- العذاب كل مبلغ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، صبرا أبا اليقظان، اللهم لا تعذب أحدا من آل ياسر بالنار. (¬5) ¬

(¬1) رواه الطبراني (24/ 303/769) من حديث عثمان بن عفان. وذكره الهيثمي في المجمع (9/ 293) وقال: "ورجاله ثقات وله شاهد رواه الطبراني في الأوسط (2/ 304 - 305/ 1531) من طريق إبراهيم بن عبد العزيز المقوم، قال حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا هشام الدستوائي، عن أبي الزبير عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بعمار ابن ياسر وبأهله وهم يعذبون في الله عز وجل، فقال: أبشروا آل ياسر موعدكم الجنة. وقال: لم يرو هذا الحديث عن أبي الزبير إلا هشام، ولا عن هشام إلا مسلم تفرد به إبراهيم بن عبد العزيز. وذكره الهيثمي في المجمع (9/ 293) وقال: "رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح غير إبراهيم بن عبد العزيز المقوم وهو ثقة". (¬2) طبقات ابن سعد (3/ 249). (¬3) النحل الآية (110). (¬4) طبقات ابن سعد (3/ 248). (¬5) أخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب (4/ 1864).

موقفه من الرافضة:

" التعليق: لقد شرف الله هذه الأسرة المباركة بهذه المواقف العظيمة، فكانت في الثبات على عقيدة التوحيد الخالص، وإيثار الآخرة على الدنيا، واسترخاص المهج في سبيل ذلك. موقفه من الرافضة: - عن عمرو بن غالب أن رجلا نال من عائشة رضي الله عنها عند عمار بن ياسر فقال: اغرب مقبوحا منبوحا أتؤذي حبيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) - عن ابن أبي الهذيل قال: قال عمار بن ياسر: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر. (¬2) - وعنه أيضا، عن عمار بن ياسر قال: من فضل على أبي بكر وعمر أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أزرى على اثني عشر ألفا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) موقفه من المرجئة: عن صلة بن زفر، عن عمار قال: ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان، إنصاف من نفسه، والإنفاق من الإقتار، وبذل السلام للعالم. (¬4) ¬

(¬1) الشريعة (3/ 475/1945). وهو عند الترمذي (5/ 664/3888) قال الذهبي في السير (2/ 179): "صححه في بعض النسخ، وفي بعض النسخ: هذا حديث حسن". (¬2) أصول الاعتقاد (7/ 1407 - 1408/ 2533). (¬3) أصول الاعتقاد (8/ 1449/2610). (¬4) أصول الاعتقاد (5/ 1016 - 1017/ 1713) والإيمان لابن أبي شيبة (131) وهو في المصنف (6/ 172/30440) وهو عند البخاري معلقا في كتاب الإيمان باب: إفشاء السلام من الإسلام (1/ 111 الفتح).

خباب بن الأرت (37 هـ)

خبَّاب بن الأَرَتّ (¬1) (37 هـ) خباب بن الأرت بن جَنْدَلة، كان فاضلا من السابقين الأولين، من أوائل من أظهر إسلامه وعذب لأجل ذلك عذابا شديدا، شهد بدرا وما بعدها من المشاهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، يكنى أبا يحيى، وقيل يكنى أبا عبد الله وقيل أبا محمد. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. روى عنه مسروق بن الأجدع وأبو أمامة صدي ابن عجلان، وعلقمة بن قيس النخعي وابنه عبد الله بن خباب وأبو وائل شقيق بن سلمة وغيرهم. قال مجاهد: أول من أظهر إسلامه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر، وخباب، وبلال، وصهيب، وعمار. وعن الشعبي قال: سأل عمر خبابا عما لقي من المشركين، فقال: يا أمير المؤمنين، انظر إلى ظهري، فنظر، فقال ما رأيت كاليوم. قال خباب: لقد أوقدت لي نار وسحبت عليها فما أطفأها إلا ودك ظهري. وعن أبي ليلى الكندي قال: قال عمر لخباب: "ادن، فما أحد أحق بهذا المجلس منك إلا عمار، قال: فجعل يريه بظهره شيئا يعني من آثار تعذيب قريش له" رواه ابن ماجه (¬2). توفي رضي الله عنه بالكوفة سنة سبع وثلاثين وصلى عليه علي رضي الله عنه. ¬

(¬1) البداية (7/ 310) والإصابة (2/ 258 - 259) والاستيعاب (2/ 437 - 439) والطبقات لابن سعد (3/ 164 - 167) ومجمع الزوائد (9/ 298 - 299) والسير (2/ 323 - 324) والحلية (1/ 143 - 147) وتهذيب التهذيب (3/ 133 - 134) وشذرات الذهب (1/ 47) والعقد الثمين (4/ 300) والجرح والتعديل (3/ 395) وتهذيب الكمال (8/ 219 - 220). (¬2) ابن ماجه (1/ 54/153) قال البوصيري في الزوائد: "هذا إسناد صحيح".

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: - روى ابن وضاح عن عبد الله بن خباب قال: بينما نحن في المسجد ونحن جلوس مع قوم نقرأ السجدة ونبكي فأرسل إلي أبي، فوجدته قد احتجز معه هراوة له فأقبل علي فقلت: يا أبت مالي مالي؟ قال: ألم أرك جالسا مع العمالقة ثم قال: هذا قرن خارج الآن. (¬1) - وعن صالح أبي الخليل قال: مر خباب بابنه وهو مع أناس يجادلون في القرآن فانقلب غضبان فأعد له سوطا أو خطاما أو نسعة، فلما انقلب الفتى وثب عليه من غير أن يأتيه فضربه ضربا عنيفا، فلما رأى الجد من أبيه قال: قد علمت أنك إنما تريد نفسي فعلى ماذا؟ فما رد عليه شيئا فجعل يضربه فقال: يا أبت، قد أرى أنك تريد نفسي، فمه؟ قال: ألم أرك مع قوم يجادلون في القرآن؟ قال: يا أبت إني لا أعود. فكان إذا مر بهم يدعونه، قال: فيقول: لا، إلا أن تقبلوا مني ما قبل أبي من نبي الله. قال: فيقولون له: إنه قد كان بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أمور أو أحداث. (¬2) موقفه من المشركين: - روى البخاري من حديث خباب قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالميشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما ¬

(¬1) ابن وضاح (ص.52). (¬2) ابن وضاح (ص.52 - 53).

موقفه من الجهمية:

دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون". (¬1) - وعن مسروق قال: سمعت خبابا قال: جئت العاص بن وائل السهمي أتقاضاه حقا لي عنده، قال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: لا حتى تموت ثم تبعث قال: وإني لميت ثم مبعوث؟. قلت: نعم قال: إن لي هناك مالا وولدا فأقضيك فنزلت هذه الآية: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} (¬2). (¬3) موقفه من الجهمية: جاء في أصول الاعتقاد: عن فروة بن نوفل قال: أخذ خباب بن الأرت بيدي فقال: يا هناه تقرب إلى الله بما استطعت فإنك لست بمقترب إلى الله بشيء أحب إليه من كلامه. (¬4) ¬

(¬1) أحمد (5/ 109 و110 - 111) والبخاري (6/ 768/3612) وأبو داود (3/ 108/2649) والنسائي (8/ 592/5335) مختصرا. (¬2) مريم الآية (77). (¬3) البخاري (8/ 548/4732). (¬4) أصول الاعتقاد (2/ 375/558) والإبانة (1/ 12/244 - 245/ 19) والشريعة (1/ 216/169) والفتاوى (3/ 175) والسنة لعبد الله (24).

عبد الله بن خباب بن الأرت (37 هـ)

عبد الله بن خَبَّاب بن الأَرَتّ (¬1) (37 هـ) ذكره الطبراني وغيره في الصحابة، وقال عبد الرحمن بن خراش: أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروى ابن منده عن زكريا بن العلاء: أول مولود ولد في الإسلام عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن خباب، وقال أحمد بن عبد الله العجلي: عبد الله ابن خباب من كبار التابعين. وروى عن أبيه، وأبي بن كعب وحدث عنه سماك بن حرب، وعبد الله بن الحارث. قتله الخوارج وهو متوجه إلى الكوفة هو وامرأته وولده. وذلك سنة سبع وثلاثين. موقفه من المبتدعة: روى ابن وضاح عن صالح أبي الخليل قال: مر خباب بابنه وهو مع أناس يجادلون في القرآن فانقلب غضبان فأعد له سوطا أو خطاما أو نسعة، فلما انقلب الفتى وثب عليه من غير أن يأتيه فضربه ضربا عنيفا، فلما رأى الجد من أبيه قال: قد علمت أنك إنما تريد نفسي فعلى ماذا؟ فما رد عليه شيئا فجعل يضربه فقال: يا أبت، قد أرى أنك تريد نفسي، فمه؟ قال: ألم أرك مع قوم يجادلون في القرآن؟ قال: يا أبت إني لا أعود. فكان إذا مر بهم يدعونه، قال: فيقول: لا، إلا أن تقبلوا مني ما قبل أبي من نبي الله. قال: فيقولون له: إنه قد كان بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أمور أو أحداث. (¬2) موقفه من الخوارج: عن حميد بن هلال عن رجل من عبد القيس -كان مع الخوارج ثم ¬

(¬1) الإصابة (4/ 73) والاستيعاب (3/ 894) وأسد الغابة (3/ 322 - 324) وتهذيب الكمال (14/ 446). (¬2) ابن وضاح (ص.52 - 53).

سهل بن حنيف (38 هـ)

فارقهم- قال: دخلوا قرية فخرج عبد الله بن خباب ذعرا، يجر رداءه، فقالوا: لم ترع؟ لم ترع؟ مرتين، فقال: والله لقد رعتموني قالوا: أنت عبد الله بن خباب صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، قالوا: فهل سمعت من أبيك حديثا يحدث به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تحدثناه؟ قال: سمعته يقول عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنه ذكر فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي. قال: فإن أدركتها فكن عبد الله المقتول، قال أيوب: ولا أعلمه إلا قال: ولا تكن عبد الله القاتل، قالوا: أنت سمعت هذا من أبيك، يحدث به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، فقدموه على ضفة النهر، فضربوا عنقه، فسال دمه كأنه شراك ما اخدفر -يعني ما اختلط بالماء الدم- وبقروا أم ولده عما في بطنها. (¬1) سهل بن حُنَيْف (¬2) (38 هـ) سهل بن حنيف بن واهب بن العكيم، أبو عبد الله وأبو ثابت الأنصاري الأوسي العوفي شهد بدرا والمشاهد كلها، ثبت يوم أحد وبايع على الموت، وجعل ينضح بالنبل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نبلوا سهلا فإنه سهل" (¬3). وكان عمر يقول: سهل غير حزن. آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين علي. استخلفه ¬

(¬1) أخرجه أحمد في مسنده (5/ 110) والطبراني في الكبير (4/ 59 - 61/ 3629 - 3631) والآجري في الشريعة (1/ 165/80) واللفظ له. وأبو يعلى (13/ 176 - 177/ 7215). (¬2) الاستيعاب (2/ 662 - 663) والإصابة (3/ 198) والسير (2/ 325) وشذرات الذهب (1/ 48) وتهذيب الكمال (12/ 171). (¬3) ابن سعد (3/ 471) والحاكم (3/ 409).

موقفه من المبتدعة:

علي على البصرة بعد الجمل. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وزيد بن ثابت. وعنه ابناه: أبو أمامة وعبد الله وغيرهم. وحديثه في الكتب الستة. مات بالكوفة سنة ثمان وثلاثين وصلى عليه علي فكبر عليه ستا وروي خمسا. فالتفت وقال: إنه بدري. موقفه من المبتدعة: روى البخاري عن أبي وائل قال: قال سهل بن حنيف: يا أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم، لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرددته وما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلى أمر يفظعنا إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه غير هذا الأمر. قال: وقال أبو وائل: شهدت صفين وبئست صفون. (¬1) مُعَاذ بن عَفْرَاء (¬2) (مات في خلافة علي بن أبي طالب) معاذ بن الحارث بن رفاعة بن سَوَاد الأنصاريّ النجاري، المعروف بابن عفراء، وهي أمه. يروى أن معاذ بن الحارث، ورافع بن مالك الزرقي أول من أسلم من الأنصار بمكة، وشهد العقبتين جميعا، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين معمر بن الحارث الجمحي، أحد البدريين، وشارك في قتل أبي جهل، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. له رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ¬

(¬1) البخاري (13/ 349 - 350/ 7308) ومسلم (3/ 1412/1785 [95]). (¬2) الإصابة (6/ 140) وتهذيب الكمال (28/ 115 - 117) وطبقات ابن سعد (3/ 491 - 492) والاستيعاب (3/ 1408 - 1410) والسير (2/ 358).

موقفه من المشركين:

السنن. توفي في خلافة علي رضي الله عنه. موقفه من المشركين: عن عبد الرحمن بن عوف قال: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما تمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عم هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، ما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا. فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت: ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه. ثم انصرفا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبراه. فقال: أيكما قتله؟ قال كل واحد منهما: أنا قتلته. فقال: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا. فنظر في السيفين فقال كلاكما قتله، سلبه لمعاذ ابن عمرو بن الجموح. وكانا معاذ بن عفراء ومعاذ ابن عمرو بن الجموح. (¬1) شُرَحْبِيل بن السِّمْط (¬2) (40 هـ) شرحبِيل بن السِّمط بن الأسود، أبو يزيد، ويقال: أبو السِّمط. وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسلم، وشهد القادسية. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسلمان وعبادة ¬

(¬1) أحمد (1/ 192 - 193) والبخاري (6/ 303/3141) ومسلم (3/ 1372/1752). (¬2) الإصابة (3/ 329 - 331) وأسد الغابة (2/ 2411) والاستيعاب (2/ 699 - 700) وتهذيب الكمال (12/ 418 - 421) والجرح والتعديل (4/ 1484).

موقفه من المبتدعة:

وعمر بن الخطاب. روى عنه بكر بن سوادة الجذامي، وجبير بن نفير الحضرمي، ومكحول الشامي. مات سنة أربعين. موقفه من المبتدعة: نقل الهروي في ذم الكلام عن أبي إدريس الخولاني قال: كنا في بعض المغازي وعلينا شرحبيل بن السمط، فأصابنا ذات ليلة خوف فحضرت صلاة الصبح فأمرنا أن نصلي على دوابنا إيماء برؤوسنا ففعلنا إلا الأشتر (¬1)، إنه نزل من بيننا فصلى، فمر به شرحبيل، فقال: مخالف خالف الله بك. (¬2) أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (¬3) (40 هـ) علي بن أبي طالب بن عبد المطلب أمير المؤمنين أبو الحسن الهاشمي ويكنى أيضا أبا تراب، أحد السابقين الأولين، ربي في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفارقه، شهد بدرا وما بعدها إلا غزوة تبوك. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبب تأخيره له بالمدينة: "ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى" (¬4) وكان اللواء بيده في أكثر المشاهد. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرا. وروى عنه ولداه الحسن ¬

(¬1) هو مالك بن الحارث النخعي الكوفي مخضرم، شهد اليرموك وغيرها، توفي سنة (37هـ). (¬2) ذم الكلام (2/ 385 طبعة الأنصاري). (¬3) الإصابة (4/ 564 - 570) والاستيعاب (3/ 1089 - 1133) والطبقات لابن سعد (3/ 19 - 40) والمعرفة والتاريخ (1/ 274 - 275) والحلية (1/ 61 - 87) والكامل لابن الأثير (3/ 387 - 402) وتذكرة الحفاظ (1/ 10 - 13) والفكر السامي (1/ 179 - 181) وشذرات الذهب (1/ 49 - 51). (¬4) أحمد (1/ 182 - 183) والبخاري (8/ 141/4416) ومسلم (4/ 1870/2404) والترمذي (5/ 596/3724) وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب". والنسائي (5/ 44/8141) وابن ماجه (1/ 42 - 43/ 115).

والحسين وابن مسعود وأبو موسى وابن عباس وأبو سعيد وطارق بن شهاب وغيرهم. قال ابن مسعود: كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علي. وقال ابن عباس: إذا حدثنا ثقة بفتيا عن علي لم نتجاوزها. وعن جسرة قالت: ذكر عن عائشة صوم عاشوراء، فقالت: من يأمركم بصومه؟ قالوا: علي، قالت: أما إنه أعلم من بقي بالسنة. وقال مسروق: انتهى علم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عمر وعلي وعبد الله. وقال أحمد: ما ورد لأحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الفضائل ما ورد لعلي رضي الله عنه. قال الحسن بن صالح بن حي: تذاكروا الزهاد عند عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فقال: أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب. وقال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -:_"من كنت مولاه فعلي مولاه". (¬1) وقال - صلى الله عليه وسلم -: يوم خيبر: "لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه، فأعطاها عليا رضي الله عنه" رواه الشيخان (¬2). أجمع المسلمون على أنه قتل شهيدا، وما على وجه الأرض بدري أفضل منه، ضربه ابن ملجم المرادي صبيحة سابع عشرة من رمضان سنة أربعين من الهجرة بالكوفة. ¬

(¬1) أحمد (4/ 368) والترمذي (5/ 591/3713) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي في الكبرى (5/ 134/8478) الحاكم (3/ 109 - 110) وقال: "صحيح على شرط الشيخين" أورده الذهبي بقوله: لم يخرجا لمحمد، وقد وهاه السعدي. كلهم من طريق أبي الطفيل عن زيد بن أرقم، وفي الباب عن سعد بن أبي وقاص وبريدة ابن الحصيب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس وغيرهم، وقد استوفى البحث فيه الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة (1750). (¬2) أحمد (5/ 333) والبخاري (6/ 137 - 138/ 2942) ومسلم (4/ 1872/2406) وأبو داود (4/ 69/3661) مختصرا. والنسائي في الكبرى (5/ 46/8149).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: - جاء في أصول الاعتقاد: قال علي رضي الله عنه: سيأتي قوم يجادلونكم، فخذوهم بالسنن فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله. (¬1) - وعن مروان بن الحكم قال: شهدت عثمان وعليا رضي الله عنهما، وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما، فلما رأى علي، أهلَّ بهما: لبيك بعمرة وحجة، قال: ما كنت لأدع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - لقول أحد. (¬2) - وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن الزبير قال: والله إنا لمع عثمان بن عفان بالجحفة، ومعه رهط من أهل الشام، فيهم حبيب بن مسلمة الفهري إذ قال عثمان -وذكر له التمتع بالعمرة إلى الحج- إن أتم للحج والعمرة أن لا يكونا في أشهر الحج، فلو أخرتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زورتين كان أفضل، فإن الله تعالى قد وسع في الخير، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه في بطن الوادي يعلف بعيرا له، قال: فبلغه الذي قال عثمان، فأقبل حتى وقف على عثمان رضي الله عنه فقال: أعمدت إلى سنة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورخصة رخص الله تعالى بها للعباد في كتابه تضيق عليهم فيها وتنهى عنها، وقد كانت لذي الحاجة ولنائي الدار؟ ثم أهل بحجة وعمرة معا، فأقبل عثمان على الناس رضي الله عنه فقال: وهل نهيت عنها أني لم أنه عنها؟ إنما كان رأيا أشرت به، فمن شاء أخذ به ومن شاء تركه. (¬3) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (1/ 139/203). (¬2) أحمد (1/ 92) بنحوه. والبخاري (3/ 538/1563) واللفظ له. والنسائي (5/ 162/2722). وأخرجه مسلم (2/ 897/1223 [159]) عن سعيد ابن المسيب. (¬3) أحمد (1/ 92).

" التعليق: قال الذهبي: وفيه أن مذهب الإمام علي كان يرى مخالفة ولي الأمر لأجل متابعة السنة، وهذا حسن لمن قوي، ولم يؤذه إمامه، فإن آذاه، فله ترك السنة، وليس له ترك الفرض، إلا أن يخاف السيف. (¬1) وقال الحافظ في الفتح: وفيه جواز الاستنباط من النص لأن عثمان لم يخف عليه أن التمتع والقران جائزان، وإنما نهى عنهما ليعمل بالأفضل كما وقع لعمر، لكن خشي علي أن يحمل غيره النهي على التحريم فأشاع جواز ذلك، وكل منهما مجتهد مأجور. (¬2) أقول: الله أكبر ما أعظم هذا الموقف، علي بن أبي طالب يخالف أمير المؤمنين عثمان لنص ثبت عنده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما بال المبتدعة الذين ثبتت عندهم نصوص متعددة يقولون حسبنا قول فلان وفلان!! - وفي أصول الاعتقاد عن فاطمة بنت الحسين عن علي قال: إياكم والخصومة فإنها تمحق الدين. (¬3) - وأخرج ابن بطة عن الحارث بن سويد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا يزال الناس ينقصون حتى لا يبقى أحد يقول الله الله. قال أبو أسامة: معناه يستعلن به. (¬4) ¬

(¬1) السير (21/ 409 - 410). (¬2) الفتح (3/ 542). (¬3) أصول الاعتقاد (1/ 143/211). (¬4) الإبانة (1/ 1/179/ 13).

- وعن زاذان قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا تقوم الساعة حتى تكون هذه الأمة على بضع وسبعين ملة كلها في الهاوية وواحدة في الجنة. (¬1) - وفيها عن علي رضي الله عنه قال: من فارق الجماعة شبرا فقد نزع ربقة الإسلام من عنقه. (¬2) - وفيها: عن رفيع أبي كثير، قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوما: سلوني عما شئتم، فقال ابن الكوا: ما السواد الذي في القمر؟ قال: فإن تلك لله، ألا سألت عما ينفعك في دينك وآخرتك ذاك محو الليل. وفيه زيادة من طريق أخرى قال أخبرنا عن قوله: {فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} (¬3)؟ قال: ثكلتك أمك سل تفقها ولا تسل تعنتا سل عما يعنيك ودع ما لا يعنيك. وذكر الحديث. (¬4) " التعليق: قال ابن بطة عقبه: وهكذا كان العلماء والعقلاء إذا سئلوا عما لا ينفع السائل علمه ولا يضره جهله، وربما كان الجواب أيضا مما لا يضبطه السائل ولا يبلغه فهمه منعوه الجواب وربما زجروه وعنفوه. ¬

(¬1) الإبانة (1/ 1/375/ 274). (¬2) الإبانة (1/ 2/289/ 120). (¬3) الذاريات الآية (2). (¬4) الإبانة (1/ 2/418/ 334) والشريعة (1/ 212/163).

- وفيها أيضا: عن الشعبي قال: قال علي بن أبي طالب لرجل رآه يصحب رجلا كرهه له: ولا تصحب أخا الجهل ... وإياك وإياه فكم من جاهل أردى ... حليما حين آخاه يقاس المرء بالمرء ... إذا ما هو ماشاه وللشيء على الشيء ... مقاييس وأشباه وللروح على الروح ... دليل حين يلقاه وذو الحزم إذا أبصر ... ما يخشى توقاه وذو الغفلة مغرور ... وريب الدهر يدهاه ومن يعرف صروف الدهر ... لا يبطره نعماه وفي رواية: إذا أنت لم تسقم وصاحبت مسقما ... وكنت له خدنا فأنت سقيم (¬1) - وروى الخطيب عن عبد الله بن لهيعة قال: كتب ابن عباس إلى علي يستحثه فكتب إليه علي مجيبا: إنه ينبغي لك أن يكون أول عملك بما أنت فيه، البصر بهداية الطريق، ولا تستوحش لقلة أهلها، فإن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا، ولم يك من المشركين، لم يستوحش مع الله في طريق الهداية إذ قل أهلها، ولم يأنس بغير الله. (¬2) - وعن أبي عامر إياس بن عامر عن علي بن أبي طالب قال: إنك إن ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/465 - 466/ 461). (¬2) الفقيه والمتفقه (2/ 405).

بقيت فسترى القرآن على ثلاثة أصناف: صنف لله، وصنف للدنيا، وصنف للجدال. (¬1) - عن إبراهيم التيمي حدثني أبي قال: خطبنا علي رضي الله عنه على منبر من آجر وعليه سيف فيه صحيفة معلقة فقال: والله ما عندنا من كتاب يقرأ إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة، فنشرها، فإذا فيها أسنان الإبل، وإذا فيها: المدينة حرم من عير إلى كذا، فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. وإذا فيه: ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. وإذا فيها: من والى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. (¬2) - وفي سنن أبي داود عن علي بن أبي طالب قال: لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح على ظاهر خفيه. (¬3) - وعن الأصبغ بن نباتة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ما ¬

(¬1) الهروي في ذم الكلام (ص.66) والدارمي في سننه (2/ 434). (¬2) أحمد (1/ 119) مختصرا، والبخاري (13/ 341 - 342/ 7300) ومسلم (2/ 1147/1370) وأبو داود (2/ 529 - 530/ 2034) والترمذي (4/ 381 - 382/ 2127) والنسائي (8/ 387 - 388/ 4748) وابن ماجه (2/ 887/2658) مختصرا. (¬3) أبو داود (1/ 114 - 115/ 162 - 164). قال الحافظ في التلخيص (1/ 160): "وإسناده صحيح".

كان رجل على رأي من البدعة فتركه، إلا إلى ما هو شر منه. (¬1) - وعن أبي البختري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إياكم والاستنان بالرجال، فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة، ثم ينقلب لعلم الله فيه، فيعمل بعمل أهل النار، فيموت وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، فينقلب لعلم الله فيه، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيموت وهو من أهل الجنة، فإن كنتم لابد فاعلين، فبالأموات لا بالأحياء. (¬2) " التعليق: قال الشاطبي: فهو إشارة إلى الأخذ بالاحتياط في الدين، وأن الإنسان لا ينبغي له أن يعتمد على عمل أحد ألبتة، حتى يتثبت فيه ويسأل عن حكمه، إذ لعل المعتمد على عمله يعمل على خلاف السنة، ولذلك قيل: لا تنظر إلى عمل العالم، ولكن سله يصدقك، وقالوا: ضعف الروية أن يكون رأى فلانا يعمل فيعمل مثله، ولعله فعله ساهيا. (¬3) - وعن كميل بن زياد: أن عليا رضي الله عنه، قال: يا كميل، إن هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها للخير، والناس ثلاثة: فعالم رباني: ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق ... إلى أن قال فيه: أف لحامل حق لا بصيرة له، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، لا يدري أين الحق، ¬

(¬1) ابن وضاح في البدع (ص.117) وأورده الشاطبي في الاعتصام (1/ 162 - 163). (¬2) ابن بطة في الإبانة (2/ 9/136/ 1572) وابن عبد البر في الجامع (2/ 987) واللفظ له. (¬3) الاعتصام (2/ 689).

إن قال أخطأ، وإن أخطأ لم يدر، مشغوف بما لا يدري حقيقته، فهو فتنة لمن فتن به، وإن من الخير كله من عَرَّفه الله دينه، وكفى بالمرء جهلا أن لا يعرف دينه. (¬1) - وروى البخاري في صحيحه عن عبيدة عن علي رضي الله عنه قال: اقضوا كما كنتم تقضون، فإني أكره الاختلاف، حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي. (¬2) - وقال رضي الله عنه: وابردها على كبدي، ثلاث مرات، قالوا: يا أمير المؤمنين وما ذاك؟ قال: أن يسأل الرجل عما لا يعلم فيقول: الله أعلم. (¬3) - وعنه رضي الله عنه قال: خمس إذا سافر فيهن رجل إلى اليمن كن فيه عوضا من سفره: لا يخشى عبد إلا ربه، ولا يخاف إلا ذنبه، ولا يستحي من لا يعلم أن يتعلم، ولا يستحي من يعلم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: الله أعلم، والصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد. (¬4) - وروى ابن وضاح عن أوفى بن دلهم العدوي قال: بلغني عن علي أنه قال: تعلموا العلم تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، فإنه سيأتي من ¬

(¬1) أبو نعيم في الحلية (1/ 79 - 80) والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 182 - 183) وابن عبد البر في الجامع (2/ 984) وذكره الشاطبي في الاعتصام (2/ 875 - 876). (¬2) البخاري (7/ 89/3707). (¬3) الدارمي (1/ 63) والبيهقي في المدخل (2/ 261 - 262/ 794) وابن عبد البر في الجامع (2/ 836) والخطيب في الفقيه والمتفقه (2/ 362/1104). (¬4) الحلية لأبي نعيم (1/ 75 - 76) والمدخل للبيهقي (2/ 262/795) وجامع بيان العلم وفضله (1/ 383).

موقفه من المشركين:

بعدكم زمان ينكر الحق فيه تسعة أعشارهم لا ينجو فيه إلا كل مؤمن نُوَمَة -قال وكيع: يعني مغفلا- أولئك أئمة الهدى ومصابيح العلم ليسوا بالعجل المذاييع البذر. قال: قيل لعلي ابن أبي طالب: ما النومة؟ قال: الرجل يسكت في الفتنة فلا يبدو منه شيء. (¬1) - وجاء في المنهاج لشيخ الإسلام ابن تيمية: قال علي رضي الله عنه في مفاوضة جرت بينه وبين عثمان رضي الله عنه: خيرنا أتبعنا لهذا الدين وعثمان يوافقه على ذلك، وسائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. (¬2) - وفي مقدمة ابن ماجه: عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب قال: إذا حدثتكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثا فظنوا به الذي هو أهناه وأهداه وأتقاه. (¬3) موقفه من المشركين: - قال ابن إسحاق: ثم إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه جاء بعد ذلك بيوم وهما يصليان (¬4)، فقال علي: يا محمد، ما هذا؟ قال: دين الله الذي اصطفى لنفسه وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له وإلى عبادته وأن تكفر باللات والعزى، فقال علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم، فلست بقاض أمرا حتى أحدث به أبا طالب، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفشي ¬

(¬1) ما جاء في البدع (ص.130 - 131). (¬2) المنهاج (5/ 233). (¬3) مقدمة ابن ماجه (ص.20) والإبانة (1/ 1/267 - 268/ 103) والدارمي (1/ 145 - 146). (¬4) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - وزوجه خديجة رضي الله عنها.

عليه سره قبل أن يستعلن أمره، فقال له: يا علي إذا لم تسلم فاكتم، فمكث علي تلك الليلة، ثم إن الله أوقع في قلب علي الإسلام، فأصبح غاديا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جاءه فقال: ماذا عرضت علي يا محمد؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وتكفر باللات والعزى، وتبرأ من الأنداد، ففعل علي وأسلم. ومكث يأتيه على خوف من أبي طالب، وكتم علي إسلامه ولم يظهره. (¬1) - وعن أبي وائل عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ أن لا تدع تمثالا إلا طمسته. ولا قبرا مشرفا إلا سويته. (¬2) - روى البخاري بسنده إلى عكرمة قال: أتي علي رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تعذبوا بعذاب الله. ولقتلتهم، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من بدل دينه فاقتلوه. (¬3) قال الحافظ في رواية هذا الحديث: (أتي علي) هو ابن أبي طالب تقدم في باب: "لا يعذب بعذاب الله" من كتاب الجهاد من طريق سفيان بن عيينة عن أيوب بهذا السند أن عليا حرق قوما، وذكرت هناك أن الحميدي رواه ¬

(¬1) البداية والنهاية (3/ 24). وذكره ابن إسحاق في سيرته (ص.118) بدون سند. (¬2) أحمد (1/ 96) ومسلم (2/ 666/969) وأبو داود (3/ 548/3218) والترمذي (3/ 366/1049) والنسائي (4/ 393/2030). (¬3) أحمد (1/ 217) والبخاري (6/ 184/3017) وأبو داود (4/ 520/4351) والترمذي (4/ 48/1458) والنسائي (7/ 120/4071) وابن ماجه (2/ 848/2535).

عن سفيان بلفظ: "حرق المرتدين" ومن وجه آخر عند ابن أبي شيبة: "كان أناس يعبدون الأصنام في السر"، وعند الطبراني في الأوسط من طريق سويد ابن غفلة: "أن عليا بلغه أن قوما ارتدوا عن الإسلام، فبعث إليهم فأطعمهم ثم دعاهم إلى الإسلام، فأبوا فحفر حفيرة ثم أتى بهم، فضرب أعناقهم ورماهم فيها، ثم ألقى عليهم الحطب فأحرقهم، ثم قال: صدق الله ورسوله"، وزعم أبو المظفر الإسفراييني في الملل والنحل أن الذين أحرقهم علي طائفة من الروافض ادعوا فيه الإلهية، وهم السبائية وكان كبيرهم عبد الله بن سبأ يهوديا، ثم أظهر الإسلام، وابتدع هذه المقالة. وهذا يمكن أن يكون أصله ما رويناه في الجزء الثالث من حديث أبي طاهر المخلص من طريق عبد الله بن شريك العامري عن أبيه قال: قيل لعلي: إن هنا قوما على باب المسجد يدعون أنك ربهم، فدعاهم فقال لهم: ويلكم ما تقولون؟ قالوا: أنت ربنا وخالقنا ورازقنا، فقال: ويلكم إنما أنا عبد مثلكم، آكل الطعام كما تأكلون وأشرب كما تشربون، إن أطعت الله أثابني إن شاء وإن عصيته خشيت أن يعذبني، فاتقوا الله وارجعوا، فأبوا. فلما كان الغد غدوا عليه، فجاء قنبر فقال: قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام فقال: أدخلهم فقالوا كذلك. فلما كان الثالث، قال: لئن قلتم ذلك لأقتلنكم بأخبث قتلة، فأبوا إلا ذلك، فقال: يا قنبر، ائتني بفعلة معهم مرورهم فخدَّ لهم أخدودا بين باب المسجد والقصر، وقال: احفروا فأبعدوا في الأرض، وجاء بالحطب فطرحه بالنار في الأخدود، وقال: إني طارحكم فيها أو ترجعوا، فأبوا أن يرجعوا، فقذف بهم فيها حتى إذا احترقوا قال:

موقفه من الرافضة:

إني إذا رأيت أمرا منكرا ... أوقدت ناري ودعوت قنبرا وهذا سند حسن. (¬1) - عن عثمان الشحام، سمعه من الحسن، قال: كان أبو الحسن -يعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه- يقول: إن كثيرا من هذه التمائم والرقى شرك بالله عز وجل فاجتنبوها. (¬2) - وفي الإبانة: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سمع رجلا يتكلم في الله بشيء لا ينبغي، فأمر بضرب عنقه؛ فضربت عنقه. (¬3) موقفه من الرافضة: أخرج الخطيب في الكفاية بسنده إلى زيد بن وهب أن سويد بن غفلة الجعفي دخل على علي بن أبي طالب رضي الله عنه في إمارته فقال: يا أمير المؤمنين إني مررت بنفر يذكرون أبا بكر وعمر بغير الذي هما له أهل من الإسلام، لأنهم يرون أنك تضمر لهما على مثل ذلك، وإنهم لم يجترئوا على ذلك إلا وهم يرون أن ذلك موافق لك -وذكر حديث خطبة علي وكلامه في أبي بكر وعمر رضي الله عنهم وقوله في آخره ألا ولن يبلغني عن أحد يفضلني عليهما إلا جلدته حد المفتري. (¬4) - عن إبراهيم النخعي عن علقمة قال: وضرب بيده على منبر الكوفة ¬

(¬1) فتح الباري (12/ 270). (¬2) الإبانة (2/ 6/744/ 1032). (¬3) الإبانة (2/ 12/42 - 43/ 235). (¬4) الكفاية (376).

فقال: خطبنا علي على هذا المنبر فذكر ما شاء أن يذكر ثم قال: ألا إنه بلغني أن ناسا يفضلوني على أبي بكر وعمر ولو كنت تقدمت في ذلك لعاقبت ولكن أكره العقوبة قبل التقدم من أتيت به من بعد مقامي قد قال شيئا من ذلك فهو مفتر، عليه ما على المفتري، ثم قال: إن خير الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر وعمر أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما. (¬1) - وجاء في الشريعة: عن عبد خير قال: رأيت عليا -رضي الله عنه- صلى العصر فصف له أهل نجران صفين، فلما صلى أومأ رجل منهم فأخرج كتابا فناوله إياه، فلما قرأه دمعت عيناه، ثم رفع رأسه إليهم، فقال: يا أهل نجران، أو يا أصحابي، هذا والله خطي بيدي وإملاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: يا أمير المؤمنين أعطنا ما فيه، قال: ودنوت منه، فقلت: إن كان رادا على عمر -رضي الله عنه- يوما ما فاليوم يرد عليه، فقال: لست براد على عمر اليوم شيئا صنعه، إن عمر كان رجلا رشيد الأمر، وإن عمر أخذ منكم خيرا مما أعطاكم، ولم يجر عمر -رضي الله عنه- ما أخذ منكم لنفسه، إنما جره لجماعة المسلمين. (¬2) - وفيها عنه أيضا عن علي رضي الله عنه قال: سمعته يقول: رحم الله أبا بكر، هو أول من جمع القرآن بين اللوحين. (¬3) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (8/ 1479/2678) وفي الشريعة (3/ 422 - 423/ 1873) وفي السنة لعبد الله (242). (¬2) الشريعة (3/ 25 - 26/ 1294). (¬3) الشريعة (3/ 29 - 30/ 1303).

- وفيها عن سويد بن غفلة الجعفي قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: أيها الناس؛ الله الله، وإياكم والغلو في عثمان رضي الله عنه وقولكم: خراق المصاحف، فوالله ما خرقها إلا عن ملاء منا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - جمعنا فقال: ما تقولون في هذه القراءة التي قد اختلف فيها الناس، يلقى الرجل الرجل فيقول: قراءتي خير من قراءتك، وقراءتي أفضل من قراءتك، وهذا شبيه بالكفر. فقلنا: ما الرأي يا أمير المؤمنين؟ قال: أرى أن أجمع الناس على مصحف واحد، فإنكم إن اختلفتم اليوم كان من بعدكم أشد اختلافا. فقلنا: فنعم ما رأيت. فأرسل إلى زيد بن ثابت وسعيد بن العاص، فقال: يكتب أحدكما ويمل الآخر، فإذا اختلفتما في شيء فارفعاه إلي، فكتب أحدهما وأملى الآخر فما اختلفا في شيء من كتاب الله عز وجل إلا في حرف في سورة البقرة، فقال: أحدهما التابوت. وقال الآخر: التابوه، فرفعاه إلى عثمان رضي الله عنه فقال: التابوت. قال: وقال علي رضي الله عنه: لو وليت مثل الذي ولي لصنعت مثل الذي صنع. قال: فقال القوم لسويد بن غفلة: الله الذي لا إله إلا هو لسمعت هذه من علي رضي الله عنه؟ قال: الله الذي لا إله إلا هو لسمعت هذا من علي رضي الله عنه. (¬1) - وفيها عن محمد بن حاطب قال: ذكروا عثمان رضي الله عنه عند الحسن بن علي رضي الله عنه فقال الحسن: هذا أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يأتيكم الآن فاسألوه عنه، فجاء علي رضي الله عنه فسألوه عن عثمان ¬

(¬1) الشريعة (3/ 30/1304).

رضي الله عنه فتلا هذه الآية (¬1): {ليس على الذين آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} كلما مر بحرف من الآية قال: كان عثمان من الذين آمنوا، كان عثمان من الذين اتقوا ثم قرأ إلى قوله عز وجل: {وَاللَّهُ يحب الْمُحْسِنِينَ}. (¬2) - وفيها عن أبي عبد الرحمن قال: دخل علي رضي الله عنه على عمر رضي الله عنه وقد سجي بثوبه فقال: ما أحد أحب إلي أن ألقى الله -عز وجل- بصحيفته من هذا المسجي بينكم، ثم قال: رحمك الله ابن الخطاب إن كنت بذات الله لعليما، وإن كان الله عز وجل في صدرك لعظيما، وإن كنت لتخشى الله -عز وجل- في الناس، ولا تخشى الناس في الله -عز وجل- كنت جوادا بالحق، بخيلا بالباطل، خميصا من الدنيا، بطينا من الآخرة، لم تكن عيابا ولا مداحا. (¬3) - وعن عبد الله بن أبي مليكة عن ابن عباس قال: كنت في ناس نترحم على عمر حين وضع على سريره فجاء رجل من خلفي فوضع يده على منكبي فترحم عليه وقال: ما من أحد أحب أن ألقى الله بمثل عمله أحب إلي منه وإن كنت لأظن ليجعلنك الله مع صاحبيك فإني كنت كثيرا أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: كنت أنا وأبو بكر وعمر وفعلت أنا وأبو بكر وعمر فظننت ¬

(¬1) سورة المائدة الآية (93). (¬2) الشريعة (3/ 158 - 159/ 1505) وهو في أصول الاعتقاد (7/ 1433 - 1434/ 2574) مختصرا. (¬3) الشريعة (3/ 423/1874).

أن يجعلك الله معهما فإذا هو علي بن أبي طالب. (¬1) - وفيها: قال علي رضي الله عنه: يهلك فيّ رجلان: محب مطر يقرظني بما ليس في، ومبغض مفتر يحمله شنآني على أن يبهتني. (¬2) - وعنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وآله وسلم أبو بكر وعمر. (¬3) - وفي أصول الاعتقاد: عن إبراهيم: بلغ علي بن أبي طالب أن عبد الله ابن الأسود ينتقص أبا بكر وعمر فهم بقتله فقيل له تقتل رجلا يدعو إلى حبكم أهل البيت فقال: لا يساكني في دار أبدا. (¬4) - وعن النزال بن سبرة قال: وافقنا من علي ذات يوم طيب نفس ومزاح فقلنا له: يا أمير المؤمنين حدثنا عن أصحابك خاصة قال: كل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابي قالوا: حدثنا عن أبي بكر الصديق قال: ذاك امرؤ أسماه الله صديقا على لسان جبريل ولسان محمد كان خليفة رسول الله على الصلاة رضيه لديننا ورضيناه لدنيانا. (¬5) - وعن مسروق بن الضحاك مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي بن حسين يذكر عن أبيه قال: قال فتى من بني هاشم لعلي بن أبي طالب حين انصرف: سمعتك تخطب يا أمير المؤمنين في الجمعة ¬

(¬1) البخاري (3677) ومسلم (2389). (¬2) الشريعة (3/ 569/2086) وأصول الاعتقاد (8/ 1480/2680) وهو في السنة لعبد الله (234) مختصرا. (¬3) السنة للخلال (1/ 289). (¬4) أصول الاعتقاد (7/ 1339 - 1340/ 2380). (¬5) أصول الاعتقاد (7/ 1372 - 1373/ 2455) وفي الشريعة (2/ 442 - 443/ 1252).

تقول: اللهم أصلحنا بما أصلحت به الخلفاء الراشدين فمن هم؟ قال: فاغرورقت عيناه يعني ثم انهملت على لحيته ثم قال: أبو بكر وعمر. إمامي الهدى وشيخي الإسلام والمقتدى بهما بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من اتبعهما هدي إلى صراط مستقيم ومن اقتدى بهما رشد، ومن تمسك بهما فهو من حزب الله وحزب الله هم المفلحون. (¬1) - وعن سعيد بن عمرو بن سفيان عن أبيه: أن عليا خطب فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعهد إلينا في الإمارة عهدا ولكنه رأي رأيناه فاستخلف أبو بكر رحمة الله عليه فقام واستقام حتى ضرب الدين بجرانه، ثم استخلف عمر رحمه الله فقام واستقام حتى ضرب الدين بجرانه، ثم إن قوما طلبوا الدنيا يعفو الله عن من يشاء ويعذب من يشاء. (¬2) - وعن الحكم قال: سمعت أبا جحيفة وكان سيد الناس استعمله علي رضي الله عنه على الكوفة زمن الجمل فقال: سمعت عليا يقول: ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد نبيها؟ أبو بكر، ألا أخبركم بخيرها بعد أبي بكر؟ عمر، ألا أخبركم بخيرها بعد عمر؟ ثم سكت. (¬3) - وعن ميمون بن مهران عن عبد الله بن عمر: أن عليا أتى عثمان وهو محصور فأرسل إليه أني قد جئت لأنصرك فأرسل إليه بالسلام وقال: لا حاجة لي فأخذ علي عمامته من رأسه فألقاها في الدار التي فيها عثمان وهو ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (7/ 1396/2501). (¬2) أصول الاعتقاد (7/ 1406/2527). (¬3) أصول الاعتقاد (7/ 1406/2528).

يقول ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب. (¬1) - وعن أبي حصين أن عليا قال: لو أعلم أن بني أمية يذهب ما في نفسها لحلفت خمسين يمينا مرددة بين الركن والمقام أني لم أقتل عثمان ولم أماليء على قتله. (¬2) - وعن منصور عن إبراهيم قال: جاء بشر بن جرموز إلى علي بن أبي طالب فجافاه وقال: هكذا يصنع بأهل البلاء فقال علي: بفيك الحجر: إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله عز وجل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}. اهـ (¬4) - وعن عبد الرحمن بن الشريد عن علي أنه قال: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان من الذين قال الله عز وجل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}. (¬5) - وعن قتادة عن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال: لقيت علي بن أبي طالب بالبصرة يوم الجمل بالجزيرة فقال لي: ما الذي بطأك عنا؟ أحب عثمان بطأ بك عنا؟ قال: ثم حرك دابته وحركت دابتي أعتذر إليه قال: قال لي إن تحبه فقد كان خيرنا وأوصلنا للرحم. (¬6) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (8/ 1439/2582). (¬2) أصول الاعتقاد (8/ 1440/2584). (¬3) الحجر الآية (47). (¬4) أصول الاعتقاد (8/ 1489 - 1490/ 2706). (¬5) أصول الاعتقاد (7/ 1433/2573). (¬6) أصول الاعتقاد (7/ 1434/2575).

موقفه من الجهمية:

- وعن محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أبو بكر. قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر. وخشيت أن يقول عثمان، قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين. (¬1) - وعنه رضي الله عنه قال: لو سيرني عثمان إلى ضرار لسمعت وأطعت. (¬2) - وعن أبي الجلاس قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول لعبد الله السباي: والله ما أفضى إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا ولقد سمعته يقول إن بين يدي الساعة ثلاثين كذابا، وإنك لأحدهم. (¬3) موقفه من الجهمية: قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى: روى عبد الرحمن بن أبي حاتم بسنده إلى علي، قال: حدثنا محمد بن حجاج الحضرمي المضري حدثنا يعلى ابن عبد العزيز حدثنا عتبة بن السكن الفزاري حدثنا الفرج بن يزيد الكلاعي قال: قالوا لعلي يوم صفين: حكمت كافرا أو منافقا، قال: ما حكمت مخلوقا، ما حكمت إلا القرآن. (¬4) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا السياق يبطل تأويل من يفسر كلام ¬

(¬1) البخاري (3671). (¬2) السنة للخلال (1/ 325). (¬3) أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (كتاب الكنى في ترجمة أبي الجلاس (ص.21) وعبد الله بن أحمد بن حنبل في السنة (ص.231) وأبو يعلى في مسنده (1/ 349 - 350/ 449) وابن أبي عاصم في السنة (982) والهروي في ذم الكلام (159). وأورده الهيثمي في المجمع (7/ 333) وقال: "رواه أبو يعلى ورجاله ثقات". (¬4) الفتاوى الكبرى (5/ 55 - 56) وتلبيس إبليس (ص.109) والمنهاج (2/ 251 - 252).

موقفه من الخوارج:

السلف بأن المخلوق هو المفتري المكذوب. والقرآن غير مفترى ولا مكذوب، فانهم لما قالوا: (حكمت مخلوقا) إنما أرادوا مربوبا مصنوعا خلقه الله، لم يريدوا مكذوبا، فقوله: (ما حكمت مخلوقا) نفي لما ادعوه. وقوله: (ما حكمت إلا القرآن) نفي لهذا الخلق عنه. - جاء في أصول الاعتقاد: عن الحارث بن سويد قال: قال علي: يذهب الناس حتى لا يبقى أحد يقول لا إله إلا الله، فإذا فعلوا ذلك ضرب يعسوب الدين ذنبه فيجتمعون إليه من أطراف الأرض كما يجتمع قرع الخريف، ثم قال علي: إني لأعرف أميرهم ومناخ ركابهم يقولون: القرآن مخلوق وليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله منه بدأ وإليه يعود. (¬1) - وفيه عن عمارة بن عبد يقول: سمعت عليا يقول: من تمام النعمة دخول الجنة والنظر إلى وجه الله تبارك وتعالى في جنته. (¬2) موقفه من الخوارج: عن عبيدة عن علي. قال: ذكر الخوارج فقال: فيهم رجل مُخْدَج اليد، أو مُودَن اليد، أو مَثْدُون اليد (¬3)، لولا أن تَبْطَرُوا لحدثتكم بما وعد الله الذين يقتلونهم، على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال قلت: آنت سمعته من محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: إي، ورب الكعبة إي ورب الكعبة، إي ورب الكعبة. (¬4) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 255 - 256/ 374). (¬2) أصول الاعتقاد (3/ 550/859). (¬3) مخدج اليد ومودن اليد: أن ناقص اليد، ومثدون اليد: أي صغير اليد مجتمعها. (¬4) أحمد (1/ 83) ومسلم (2/ 747/1066 (155)) وأبو داود (5/ 120 - 121/ 4763) وابن ماجه (1/ 59/167).

" التعليق: قال ابن هبيرة: فيه من الفقه توفر الثواب في قتل الخوارج، وأنه بلغ إلى أن خاف علي رضي الله عنه أن يبطر أصحابه إذا أخبرهم بثوابهم في قتلهم، وإنما ذكر هذه لئلا يرى أحد في وقت ظهور مثلهم أن قتال المشركين أولى من قتالهم، بل قتالهم على هذا الكلام أولى من قتال المشركين لأن في ذلك حفظ رأس مال الإسلام، وقتال المشركين هو طلب ربح في الإسلام. (¬1) - عن سلمة بن كهيل قال: أخبرني زيد بن وهب الجهني، أنه كان في الجيش الذين كانوا مع علي رضي الله عنه الذين ساروا إلى الخوارج، فقال علي رضي الله عنه: أيها الناس، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يخرج قوم من أمتي يقرؤون القرآن ليست قراءتكم إلى قراءتهم شيئا، ولا صلاتكم إلى صلاتهم شيئا، ولا صيامكم إلى صيامهم شيئا يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، ويمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لو يعلم الجيش يصيبونهم ما قضي لهم على لسان نبيهم - صلى الله عليه وسلم - لنكلوا عن العمل، وآية ذلك أن فيهم رجلا له عضد وليست له ذراع، على عضده مثل حلمة الثدي، عليه شعرات بيض أفتذهبون إلى معاوية وأهل الشام وتتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم؟ والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم، فإنهم قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا في سرح الناس، فسيروا على اسم الله، قال سلمة بن كهيل: فنزلني زيد بن وهب منزلا، حتى مر بنا ¬

(¬1) الإفصاح (1/ 280/149).

على قنطرة، قال: فلما التقينا وعلى الخوارج عبد الله بن وهب الراسبي فقال لهم: ألقوا الرماح وسلوا السيوف من جفونها، فإني أخاف أن يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراء، قال: فوحشوا برماحهم، واستلوا السيوف، وشجرهم الناس برماحهم، قال: وقتلوا بعضهم على بعض، قال: وما أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان، فقال علي رضي الله عنه: التمسوا فيهم المخدج، فلم يجدوا، قال: فقام علي رضي الله عنه بنفسه، حتى أتى ناسا قد قتل بعضهم على بعض، فقال: أخرجوهم، فوجدوه مما يلي الأرض، فكبر، وقال: صدق الله، وبلغ رسوله، فقام إليه عبيدة السلماني فقال: يا أمير المؤمنين،) و (الله الذي لا إله إلا هو لقد سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: إي والله الذي لا إله إلا هو، حتى استحلفه ثلاثا (¬1)، وهو يحلف. (¬2) - جاء في البداية والنهاية: لما بعث علي أبا موسى ومن معه من الجيش إلى دومة الجندل اشتد أمر الخوارج وبالغوا في النكير على علي وصرحوا بكفره، فجاء إليه رجلان منهم، وهما زرعة بن البرج الطائي، وحرقوص بن زهير السعدي فقالا: لا حكم إلا لله، فقال علي: لا حكم إلا لله، فقال له حرقوص: تب من خطيئتك واذهب بنا إلى عدونا حتى نقاتلهم حتى نلقى ربنا. فقال علي: فقد أردتكم على ذلك فأبيتم، وقد كتبنا بيننا وبين القوم ¬

(¬1) قال النووي في شرحه على مسلم (7/ 152): "إنما استحلفه ليسمع الحاضرين ويؤكد ذلك عندهم ويظهر لهم المعجزة التي أخبر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويظهر لهم أن عليا وأصحابه أولى الطائفتين بالحق، وأنهم محقون في قتالهم". (¬2) مسلم (2/ 748 - 749/ 1066 (156)) وأبو داود (5/ 125/4768).

عهودا وقد قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} الآية (¬1) فقال له حرقوص: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه، فقال علي: ما هو بذنب ولكنه عجز من الرأي، وقد تقدمت إليكم فيما كان منه، ونهيتكم عنه، فقال له زرعة بن البرج: أما والله يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله لأقاتلنك أطلب بذلك رحمة الله ورضوانه، فقال علي: تبا لك ما أشقاك كأني بك قتيلا تسفي عليك الريح، فقال: وددت أن قد كان ذلك، فقال له علي: إنك لو كنت محقا كان في الموت تعزية عن الدنيا، ولكن الشيطان قد استهواكم. فخرجا من عنده يحكمان وفشا فيهم ذلك، وجاهروا به الناس، وتعرضوا لعلي في خطبه وأسمعوه السب والشتم والتعريض بآيات من القرآن، وذلك أن عليا قام خطيبا في بعض الجمع فذكر أمر الخوارج فذمه وعابه. فقام جماعة منهم كل يقول لا حكم إلا لله، وقام رجل منهم وهو واضع إصبعه في أذنيه يقول: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (65) (¬2) فجعل علي يقلب يديه هكذا وهكذا وهو على المنبر ويقول: حكم الله ننتظر فيكم. ثم قال: إن لكم علينا أن لا نمنعكم مساجدنا ما لم تخرجوا علينا، ولا نمنعكم نصيبكم من هذا الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا. وقال أبو مخنف عن عبد الملك عن أبي حرة؛ أن عليا لما بعث أبا موسى لإنفاذ ¬

(¬1) النحل الآية (91). (¬2) الزمر الآية (65).

الحكومة اجتمع الخوارج في منزل عبد الله بن وهب الراسبي فخطبهم خطبة بليغة زهدهم في هذه الدنيا ورغبهم في الآخرة والجنة، وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم قال: فاخرجوا بنا إخواننا من هذه القرية الظالم أهلها، إلى جانب هذا السواد إلى بعض كور الجبال، أو بعض هذه المدائن، منكرين لهذه الأحكام الجائرة. ثم قام حرقوص بن زهير فقال بعد حمد الله والثناء عليه: إن المتاع بهذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك، فلا يدعونكم زينتها أو بهجتها إلى المقام بها، ولا تلتفت بكم عن طلب الحق وإنكار الظلم {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ محسنون} (¬1) فقال سنان بن حمزة الأسدي: يا قوم إن الرأي ما رأيتم، وإن الحق ما ذكرتم، فولوا أمركم رجلا منكم، فإنه لا بد لكم من عماد وسناد، ومن راية تحفون بها وترجعون إليها، فبعثوا إلى زيد بن حصن الطائي -وكان من رؤوسهم- فعرضوا عليه الإمارة فأبى، ثم عرضوها على حرقوص بن زهير فأبى وعرضوها على حمزة بن سنان فأبى، وعرضوها على شريح بن أبي أوفى العبسي فأبى وعرضوها على عبد الله بن وهب الراسبي فقبلها وقال: أما والله لا أقبلها رغبة في الدنيا ولا أدعها فرقا من الموت. واجتمعوا أيضا في بيت زيد بن حصن الطائي السنبسي فخطبهم وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتلا عليهم آيات من القرآن منها قوله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى ¬

(¬1) النحل الآية (128).

فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1) الآية، وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (¬2) وكذا التي بعدها وبعدها الظالمون الفاسقون ثم قال: فأشهد على أهل دعوتنا من أهل قبلتنا أنهم قد اتبعوا الهوى، ونبذوا حكم الكتاب، وجاروا في القول والأعمال، وأن جهادهم حق على المؤمنين، فبكى رجل منهم يقال له عبد الله بن سخبرة السلمي، ثم حرض أولئك على الخروج على الناس، وقال في كلامه: اضربوا وجوههم وجباههم بالسيوف حتى يطاع الرحمن الرحيم، فإن أنتم ظفرتم وأطيع الله كما أردتم أثابكم ثواب المطيعين له العاملين بأمره وإن قتلتم فأي شيء أفضل من المصير إلى رضوان الله وجنته. " التعليق: قال الحافظ ابن كثير: وهذا الضرب من الناس من أغرب أشكال بني آدم، فسبحان من نوع خلقه كما أراد، وسبق في قدره العظيم. وما أحسن ما قال بعض السلف في الخوارج: إنهم المذكورون في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ ¬

(¬1) ص الآية (26) .. (¬2) المائدة الآية (44).

وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} (¬1) والمقصود أن هؤلاء الجهلة الضلال، والأشقياء في الأقوال والأفعال، اجتمع رأيهم على الخروج من بين أظهر المسلمين، وتواطئوا على المسير إلى المدائن ليملكوها على الناس ويتحصنوا بها ويبعثوا إلى إخوانهم وأضرابهم -ممن هو على رأيهم ومذهبهم، من أهل البصرة وغيرها- فيوافوهم إليها. ويكون اجتماعهم عليها. فقال لهم زيد بن حصن الطائي: إن المدائن لا تقدرون عليها، فإن بها جيشا لا تطيقونه وسيمنعوها منكم، ولكن واعدوا إخوانكم إلى جسر نهر جوخى، ولا تخرجوا من الكوفة جماعات، ولكن اخرجوا وحدانا لئلا يفطن بكم، فكتبوا كتابا عاما إلى من هو على مذهبهم ومسلكهم من أهل البصرة وغيرها وبعثوا به إليهم ليوافوهم إلى النهر ليكونوا يدا واحدة على الناس، ثم خرجوا يتسللون وحدانا لئلا يعلم أحد بهم فيمنعوهم من الخروج فخرجوا من بين الآباء والأمهات والأخوال والخالات وفارقوا سائر القرابات، يعتقدون بجهلهم وقلة علمهم وعقلهم أن هذا الأمر يرضي رب الأرض والسماوات، ولم يعلموا أنه من أكبر الكبائر الموبقات، والعظائم والخطيئات، وأنه مما زينه لهم إبليس الشيطان الرجيم المطرود عن السماوات الذي نصب العداوة لأبينا آدم ثم لذريته ما دامت أرواحهم في أجسادهم مترددات، والله المسئول أن يعصمنا منه بحوله وقوته إنه مجيب الدعوات، وقد تدارك جماعة من الناس بعض أولادهم وإخوانهم فردوهم ¬

(¬1) الكهف الآيات (103 - 105).

وأنبوهم ووبخوهم فمنهم من استمر على الاستقامة، ومنهم من فر بعد ذلك فلحق بالخوارج فخسر إلى يوم القيامة، وذهب الباقون إلى ذلك الموضع ووافى إليهم من كانوا كتبوا إليه من أهل البصرة وغيرها، واجتمع الجميع بالنهروان وصارت لهم شوكة ومنعة، وهم جند مستقلون وفيهم شجاعة وعندهم أنهم متقربون بذلك؟ فهم لا يصطلى لهم بنار، ولا يطمع في أن يؤخذ منهم بثأر، وبالله المستعان. قال الحافظ ابن كثير: وقال أبو مخنف عن أبي روق عن الشعبي أن عليا لما خرجت الخوارج إلى النهروان وهرب أبو موسى إلى مكة، ورد ابن عباس إلى البصرة، قام في الناس بالكوفة خطيبا فقال: الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح، والحدثان الجليل الكادح، وأشهد أن لا إله غيره وأن محمدا رسول الله، أما بعد فإن المعصية تشين وتسوء وتورث الحسرة، وتعقب الندم، وقد كنت أمرتكم في هذين الرجلين وفي هذه الحكومة بأمري، ونحلتكم رأيي، فأبيتم إلا ما أردتم، فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن: بذلت لهم نصحي بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد ثم تكلم فيما فعله الحكمان فرد عليهما ما حكما به وأنبهما، وقال ما فيه حط عليهما، ثم ندب الناس إلى الخروج إلى الجهاد في أهل الشام، وعين لهم يوم الاثنين يخرجون فيه، وندب إلى ابن عباس والي البصرة يستنفر له الناس إلى الخروج إلى أهل الشام، وكتب إلى الخوارج يعلمهم أن الذي حكم به الحكمان مردود عليهما، وأنه قد عزم على الذهاب إلى الشام، فهلموا حتى نجتمع على قتالهم. فكتبوا إليه: أما بعد فإنك لم تغضب لربك، وإنما غضبت

لنفسك وإن شهدت على نفسك بالكفر واستقبلت التوبة نظرنا فيما بيننا وبينك، وإلا فقد نابذناك على سواء {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} (¬1)، فلما قرأ علي كتابهم يئس منهم وعزم على الذهاب إلى أهل الشام ليناجزهم، وخرج من الكوفة إلى النخيلة في عسكر كثيف -خمسة وستين ألفا- وبعث إليه ابن عباس بثلاثة آلاف ومائتي فارس من أهل البصرة مع جارية بن قدامة ألف وخمسمائة، ومع أبي الأسود الدؤلي ألف وسبعمائة، فكمل جيش علي في ثمانية وستين ألف فارس ومائتي فارس، وقام علي أمير المؤمنين خطيبا فحثهم على الجهاد والصبر عند لقاء العدو، وهو عازم على الشام، فبينما هو كذلك إذ بلغه أن الخوارج قد عاثوا في الأرض فسادا وسفكوا الدماء وقطعوا السبل واستحلوا المحارم، وكان من جملة من قتلوه عبد الله بن خباب صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أسروه وامرأته معه وهي حامل فقالوا: من أنت؟ قال: أنا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنكم قد روعتموني فقالوا: لا بأس عليك، حدثنا ما سمعت من أبيك فقال: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي" (¬2) فاقتادوه بيده فبينما هو يسير معهم إذ لقي بعضهم خنزيرا لبعض أهل الذمة فضربه بعضهم فشق جلده فقال له آخر: لم فعلت هذا وهو لذمي؟ فذهب إلى ذلك الذمي فاستحله وأرضاه وبينا هو معهم إذ سقطت تمرة من نخلة فأخذها أحدهم فألقاها في فمه، فقال له آخر: ¬

(¬1) الأنفال الآية (58). (¬2) تقدم تخريجه في مواقف عبد الله بن خباب سنة (37هـ) ..

بغير إذن ولا ثمن؟ فألقاها ذاك من فمه، ومع هذا قدموا عبد الله بن خباب فذبحوه، وجاءوا إلى امرأته فقالت: إني امرأة حبلى، ألا تتقون الله، فذبحوها وبقروا بطنها عن ولدها، فلما بلغ الناس هذا من صنيعهم خافوا إن هم ذهبوا إلى الشام واشتغلوا بقتال أهله أن يخلفهم هؤلاء في ذراريهم وديارهم بهذا الصنع، فخافوا غائلتهم، وأشاروا على علي بأن يبدأ بهؤلاء، ثم إذا فرغ منهم ذهب إلى أهل الشام بعد ذلك والناس آمنون من شر هؤلاء فاجتمع الرأي على هذا وفيه خيرة عظيمة لهم ولأهل الشام أيضا، فأرسل علي إلى الخوارج رسولا من جهته وهو الحرب بن مرة العبدي، فقال: اخبر لي خبرهم، واعلم لي أمرهم واكتب إلي به على الجلية، فلما قدم عليهم قتلوه ولم ينظروه، فلما بلغ ذلك عليا عزم على الذهاب إليهم أولا قبل أهل الشام. مسير أمير المؤمنين علي إلى الخوارج: لما عزم علي ومن معه من الجيش على البداءة بالخوارج، نادى مناديه في الناس بالرحيل فعبر الجسر فصلى ركعتين عنده ثم سلك علي دير عبد الرحمن ثم دير أبي موسى ثم على شاطئ الفرات، فلقيه هنالك منجم فأشار عليه بوقت من النهار يسير فيه ولا يسير في غيره، فإنه يخشى عليه فخالفه علي فسار على خلاف ما قال فأظفره الله، وقال علي: إنما أردت أن أبين للناس خطأه وخشيت أن يقول جاهل: إنما ظفر لكونه وافقه. وسلك علي ناحية الأنبار وبعث بين يديه قيس بن سعد، وأمره أن يأتي المدائن وأن يتلقاه بنائبها سعد بن مسعود، وهو أخو عبد الله بن مسعود الثقفي -في جيش المدائن فاجتمع الناس هنالك على علي، وبعث إلى الخوارج: أن ادفعوا

إلينا قتلة إخواننا منكم حتى أقتلهم ثم أنا تارككم وذاهب إلى العرب- يعني أهل الشام- ثم لعل الله أن يقبل بقلوبكم ويردكم إلى خير مما أنتم عليه. فبعثوا إلى علي يقولون: كلنا قتل إخوانكم ونحن مستحلون دماءهم ودماءكم، فتقدم إليهم قيس بن سعد بن عبادة فوعظهم فيما ارتكبوه من الأمر العظيم، والخطب الجسيم، فلم ينفع وكذلك أبو أيوب الأنصاري أنبهم ووبخهم فلم ينجح، وتقدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إليهم فوعظهم وخوفهم وحذرهم وأنذرهم وتوعدهم وقال: إنكم أنكرتم علي أمرا أنتم دعوتموني إليه فنهيتكم عنه فلم تقبلوا وها أنا وأنتم فارجعوا إلى ما خرجتم منه ولا ترتكبوا محارم الله فإنكم قد سولت لكم أنفسكم أمرا تقتلون عليه المسلمين، والله لو قتلتم عليه دجاجة لكان عظيما عند الله، فكيف بدماء المسلمين؟ فلم يكن لهم جواب إلا أن تنادوا فيما بينهم أن لا تخاطبوهم ولا تكلموهم وتهيئوا للقاء الرب عز وجل، الرواح الرواح إلى الجنة. وتقدموا فاصطفوا للقتال وتأهبوا للنزال فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصن الطائي السنبسي، وعلى الميسرة شريح بن أوفى، وعلى خيالتهم حمزة بن سنان، وعلى الرجالة حرقوص بن زهير السعدي. ووقفوا مقاتلين لعلي وأصحابه. وجعل علي على ميمنته حجر بن عدي، وعلى الميسرة شبيث بن ربعي ومعقل بن قيس الرياحي، وعلى الخيل أبا أيوب الأنصاري، وعلى الرجالة أبا قتادة الأنصاري، وعلى أهل المدينة -وكانوا في سبعمائة- قيس بن سعد بن عبادة، وأمر علي أبا أيوب الأنصاري أن يرفع راية أمان للخوارج ويقول لهم: من جاء إلى هذه الراية فهو آمن، ومن انصرف إلى الكوفة والمدائن فهو

آمن، إنه لا حاجة لنا فيكم إلا فيمن قتل إخواننا، فانصرف منهم طوائف كثيرون -وكانوا في أربعة آلاف- فلم يبق منهم إلا ألف أو أقل مع عبد الله ابن وهب الراسبي، فزحفوا إلى علي فقدم علي بين يديه الخيل وقدم منهم الرماة وصف الرجالة وراء الخيالة، وقال لأصحابه: كفوا عنهم حتى يبدؤوكم، وأقبلت الخوارج يقولون: لا حكم إلا لله، الرواح الرواح إلى الجنة، فحملوا على الخيالة الذين قدمهم علي، ففرقوهم حتى أخذت طائفة من الخيالة إلى الميمنة، وأخرى إلى الميسرة، فاستقبلهم الرماة بالنبل، فرموا وجوههم، وعطفت عليهم الخيالة من الميمنة والميسرة ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف فأناموا الخوارج فصاروا صرعى تحت سنابك الخيول، وقتل أمراؤهم عبد الله ابن وهب، وحرقوص بن زهير، وشريح بن أوفى، وعبد الله بن سخبرة السلمي، قبحهم الله. قال أبو أيوب: وطعنت رجلا من الخوارج بالرمح فأنفذته من ظهره وقلت له: أبشر يا عدو الله بالنار، فقال: ستعلم أينا أولى بها صليا، قالوا: ولم يقتل من أصحاب علي إلا سبعة نفر وجعل علي يمشي بين القتلى منهم ويقول: بؤسا لكم فقد ضركم من غركم، فقالوا: يا أمير المؤمنين ومن غرهم؟ قال: الشيطان وأنفس بالسوء أمارة، غرتهم بالأماني وزينت لهم المعاصي، ونبأتهم أنهم ظاهرون ثم أمر بالجرحى من بينهم فإذا هم أربعمائة، فسلمهم إلى قبائلهم ليداووهم، وقسم ما وجد من سلاح ومتاع لهم. وقال الهيثم بن عدي في كتاب الخوارج: وحدثنا محمد بن قيس الأسدي ومنصور بن دينار عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة أن

عليا لم يخمس ما أصاب من الخوارج يوم النهروان ولكن رده إلى أهله كله حتى كان آخر ذلك مرجل أتى به فرده. وقال أبو مخنف: حدثني عبد الملك بن أبي حرة أن عليا خرج في طلب ذي الثدية ومعه سليمان بن ثمامة الحنفي أبو حرة والريان بن صبرة بن هوذة فوجده الرياني في حفرة على جانب النهر في أربعين أو خمسين قتيلا، قال: فلما استخرج نظر إلى عضده فإذا لحم مجتمع على منكبه كثدي المرأة له حلمة عليها شعرات سود، فإذا مدت امتدت حتى تحاذي يده الأخرى ثم تنزل فتعود إلى منكبه كثدي المرأة، فلما رآه علي قال: أما والله وما كذبت لولا أن تتكلوا على العمل لأخبرتكم بما قضى الله في قتالهم عارفا للحق. وقال الهيثم بن عدي في كتابه في الخوارج: وحدثني محمد بن ربيعة الأخنسي عن نافع بن مسلمة الأخنسي قال كان ذو الثدية رجلا من عرنة من بجيلة، وكان أسود شديد السواد، له ريح منتنة، معروف في العسكر، وكان يرافقنا قبل ذلك وينازلنا وننازله. وحدثني أبو إسماعيل الحنفي عن الريان بن صبرة الحنفي. قال: شهدنا النهروان مع علي، فلما وجد المخدج سجد سجدة طويلة. وحدثني سفيان الثوري عن محمد بن قيس الهمداني عن رجل من قومه يكنى أبا موسى أن عليا لما وجد المخدج سجد سجدة طويلة. وحدثني يونس بن أبي إسحاق حدثني إسماعيل عن حبة العرني، قال: لما أقبل أهل النهروان جعل الناس يقولون: الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي قطع دابرهم. فقال علي: كلا والله إنهم لفي أصلاب الرجال وأرحام النساء، فإذا

خرجوا من بين الشرايين فقل ما يلقون أحدا إلا ألبوا أن يظهروا عليه، قال: وكان عبد الله بن وهب الراسبي قد قحلت مواضع السجود منه من شدة اجتهاده وكثرة السجود، وكان يقال له: ذو البينات. وروى الهيثم عن بعض الخوارج أنه قال: ما كان عبد الله بن وهب من بغضه عليا يسميه إلا الجاحد. وقال الهيثم بن عدي: ثنا إسماعيل عن خالد عن علقمة بن عامر قال: سئل علي عن أهل النهروان أمشركون هم؟ فقال: من الشرك فروا، قيل أفمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا: فقيل فما هم يا أمير المؤمنين؟ قال: إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم ببغيهم علينا. فهذا ما أورده ابن جرير وغيره في هذا المقام. (¬1) - وجاء في الشريعة عن جندب قال: لما كان يوم قتل علي رضي الله عنه الخوارج نظرت إلى وجوههم وإلى شمائلهم، فشككت في قتالهم، فتنحيت عن العسكر غير بعيد، فنزلت عن دابتي، وركزت رمحي، ووضعت درعي تحتي، وعلقت برنسي مستترا به من الشمس، وأنا معتزل من العسكر ناحية، إذ طلع أمير المؤمنين -رضي الله عنه على بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت في نفسي: ما لي وله؟ أنا أفر منه، وهو يجيء إلي، فقال لي: يا جندب؛ مالك في هذا المكان، تنحيت عن العسكر؟ فقلت: يا أمير المؤمنين؛ أصابني وعك، فشق علي الغبار، فلم أستطع الوقوف؛ قال فقال: أما بلغك ما للعبد في غبار العسكر من الأجر؟ ثم ثنى رحله، فنزل، فأخذت برأس دابته، وقعد فقعدت، فأخذت البرنس بيدي فسترته من الشمس، فقال: فوالله إني لقاعد إذ جاء ¬

(¬1) البداية (7/ 295 - 300)، وانظر تاريخ ابن جرير (3/ 113 وما بعدها).

فارس يركض، فقال: يا أمير المؤمنين، إن القوم قد قطعوا الجسر ذاهبين؛ قال: فالتفت إلي، فقال: إن مصارعهم دون النهر. قال وإن الرجل الذي أخبره عنده واقف، إذ جاء رجل آخر، فقال: يا أمير المؤمنين، قد والله عبروا، فما بقي منهم أحد؛ قال: ويحك، إن مصارعهم دون النهر. قال: فجاء فارس آخر يركض. فقال: يا أمير المؤمنين، والذي بعث نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالحق لقد رجعوا، ثم جاء الناس، فقالوا: قد رجعوا، حتى إنهم ليتساقطون في الماء زحاما على العبور؛ قال: ثم إن رجلا جاء، فقال: يا أمير المؤمنين إن القوم قد صفوا الصفوف، ورموا فينا، وقد جرحوا فلانا، فقال علي رضي الله عنه: هذا حين طاب القتال. قال: فوثب فقعد على بغلته، فقمت إلى سلاحي فلبسته، ثم شددته علي، ثم قعدت على فرسي، وأخذت رمحي، ثم خرجت، فلا والله يا عبد الله بن شريك، ما صليت العصر. قال أبو جعفر لوين: أو قال: الظهر -حتى قتلت بيدي سبعين. (¬1) - وجاء في السنة لعبد الله عن زر بن حبيش أنه سمع عليا يقول: أنا فقأت عين الفتنة، ولولا أنا ما قوتل أهل النهر ولا أهل الجمل، ولولا أني أخشى أن تتركوا العمل لأخبرتكم بالذي قضى الله على لسان نبيكم لمن قاتلهم مبصرا لضلالتهم عارفا للهدى الذي نحن فيه. (¬2) - وعن أبي الطفيل قال: سأل ابن الكواء عليا رضي الله عنه عن ¬

(¬1) الشريعة (1/ 151 - 152/ 58). (¬2) السنة لعبد الله (273).

موقفه من المرجئة:

{الأخسرين أَعْمَالًا} قال: منهم أهل حروراء. (¬1) موقفه من المرجئة: - جاء في السنة لعبد الله: عن علي قال: الإرجاء بدعة والشهادة (¬2) بدعة والبراءة (¬3) بدعة. (¬4) - وفيها أيضا: عن محمد بن علي عن أبيه أنه كان يقول: ما الليل بالليل، ولا النهار بالنهار بأشبه من القدرية بالنصرانية، ومن المرجئة باليهودية. (¬5) - عن أبي صادق عن علي قال: إن الإسلام ثلاث أثافي: الإيمان والصلاة والجماعة، فلا تقبل صلاة إلا بإيمان، ومن آمن صلى ومن صلى جامع، ومن فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه. (¬6) - وفي الإبانة: عن عبد الله بن عمرو بن هند الجملي، قال: كان علي ابن أبي طالب رضي الله عنه يقول: إن الإيمان يبدو لمظة بيضاء في القلب كلما زاد الإيمان زاد البياض، فإذا استكمل الإيمان ابيض القلب، وإن النفاق يبدو لمظة سوداء في القلب كلما زاد النفاق زاد ذلك السواد فإذا استكمل ¬

(¬1) عبد الرزاق في التفسير (2/ 413) وعبد الله بن أحمد في السنة (278) وابن جرير (16/ 34) والشاشي في المسند (2/ 96/620) وابن عبد البر في الجامع (1/ 464/726). (¬2) يعني بالشهادة قول المرء أنا مؤمن تزكية لنفسه. (¬3) يعني بها ما يفعله الخوارج من البراءة ممن خالفهم. (¬4) السنة (ص.86) وأصول الاعتقاد (5/ 1047 - 1048/ 1778). (¬5) الإبانة (2/ 9/138 - 139/ 1578). (¬6) الإيمان لابن أبي شيبة (117) وهو في المصنف (6/ 170/30427).

موقفه من القدرية:

النفاق اسود القلب كله، وايم الله لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتموه أبيض، ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسود. (¬1) - وفيها أيضا: عن عبد الكريم الجزيري، عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود، قالا: لا ينفع قول إلا بعمل، ولا عمل إلا بقول، ولا قول وعمل إلا بنية، ولا نية إلا بموافقة السنة. (¬2) - وفي أصول الاعتقاد: عن ميمون بن مهران: عن علي قال: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد. من لا صبر له، لا إيمان له. (¬3) موقفه من القدرية: - جاء في أصول الاعتقاد: قيل لعلي بن أبي طالب: إن ها هنا رجلا يتكلم في المشيئة قال: فقال له: يا عبد الله خلقك الله عز وجل لما شاء أولما شئت؟ قال: بل لما شاء. قال: فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال: بل إذا شاء، قال: فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال: إذا شاء. قال: فيميتك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال: إذا شاء. قال: فيدخلك حيث شاء أو شئت؟ قال: حيث شاء. قال: والله لو قلت غير هذا لضربت الذي فيه عيناك بالسيف، قال: ثم تلا: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ}.اهـ (¬5) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 841 - 842/ 1122) وأصول الاعتقاد (5/ 1012/1701) والمصنف لابن أبى شيبة (6/ 160/30329) والإيمان له (8) والإيمان لأبي عبيد (ص.18). (¬2) الإبانة (2/ 6/802 - 803/ 1089) والشريعة (1/ 287/280). (¬3) أصول الاعتقاد (4/ 924/1569). (¬4) المدثر الآية (56). (¬5) أصول الاعتقاد (4/ 782 - 783/ 1310).

- وفيه أيضا: عن أبي عبد الرحمن رفع الحديث إلى علي أنه سأله فقال: يا أبا الحسن ما تقول في القدر؟ فقال: طريق مظلم فلا تسلكه. فقال: يا أبا الحسن ما تقول في القدر؟ فقال: بحر عظيم فلا تلجه. فقال: يا أبا الحسن ما تقول في القدر؟ فقال: سر الله فلا تكلفه. (¬1) - وفي الإبانة: عن علي رضي الله عنه: لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يؤمن بالقدر (ووضع يده على فيه). (¬2) - وفيها أيضا: عن يعلى بن مرة أن أصحاب علي قالوا: إن هذا الرجل في حرب وإلى جنب عدو، وإنا لا نأمن أن يغتال، فلو حرسه منا كل ليلة عشرة، قال: وكان علي إذا صلى العشاء لزق بالقبلة؛ فصلى ما شاء الله أن يصلي، ثم انصرف إلى أهله؛ فصلى ذات ليلة؛ ثم انصرف فأتى عليهم؛ فقال: ما يجلسكم هذه الساعة؟ قالوا: جلسنا نتحدث، قال: لتخبرونني. فأخبروه، فقال: من أهل السماء تحرسوني أو من أهل الأرض؟ قالوا: نحن أهون على الله من أن نحرسك من أهل السماء، لا بل نحن نحرسك من أهل الأرض، قال: فلا تفعلوا، إنه إذا قضي أمر من السماء، عمله أهل الأرض، وإن علي من الله جنة حصينة إلى يومي هذا، ثم تذهب، وإنه لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يستيقن غير ظان أنه ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه. (¬3) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 695 - 696/ 1123) والشريعة (1/ 400 - 401/ 460) والإبانة (2/ 9/140 - 141/ 1583). (¬2) الإبانة (2/ 9/135/ 1569). (¬3) الإبانة (2/ 9/135 - 136/ 1570).

- وفيها: عن أنيس بن جابر عن علي؛ قال: ما آدمي إلا معه ملك يقيه ما لم يقدر عليه، فإن جاء القدر؛ خلاه وإياه. (¬1) - وفيها أيضا: عن أبي البحتري أن عليا كان يقول: إياكم والاستنان بالرجال؛ فإن كنتم مستنين لا محالة فعليكم بالأموات؛ لأن الرجل قد يعمل الزمن من عمره بالعمل الذي لو مات عليه دخل الجنة، فإن كان قبل موته تحول فعمل بعمل أهل النار فمات؛ فدخل النار، وأن الرجل ليعمل الزمن من عمره بعمل أهل النار، فإذا كان قبل موته بعام فعمل بعمل أهل الجنة فمات؛ فدخل الجنة. (¬2) - وفيها أيضا: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقول في أهل القدر: هم طرف من النصرانية. (¬3) - وفيها أيضا: عن محمد بن علي عن أبيه أنه كان يقول: ما الليل بالليل، ولا النهار بالنهار بأشبه من القدرية بالنصرانية، ومن المرجئة باليهودية. (¬4) - وفيها: عن إسحاق بن الحارث من بني هاشم وذكر عنده القدرية؛ فقال الهاشمي: أعظك بما وعظ به علي بن أبي طالب رضي الله عنه صاحبا له؛ فقال: إنه قد بلغني أنك تقول بقول أهل القدر، قال: إنما أقول: إني أقدر على أن أصلي وأصوم وأحج وأعتمر، قال علي: أرأيت الذي تقدر عليه؛ ¬

(¬1) الإبانة (2/ 9/136/ 1571). (¬2) الإبانة (2/ 9/136/ 1572). (¬3) الإبانة (2/ 9/138/ 1577). (¬4) الإبانة (2/ 9/138 - 139/ 1578).

أشيء تملكه مع الله أم شيء تملكه من دونه؟ قال: فارتج الرجل فقال علي رضي الله عنه: ما لك لا تتكلم؟ أما لئن زعمت أن ذلك شيء تملكه مع الله عز وجل؛ فقد جعلت مع الله مالكا وشريكا، ولئن كان شيئا تملكه من دون الله؛ لقد جعلت من دون الله مالكا، قال الرجل: قد كان هذا من رأيي وأنا أتوب إلى الله عز وجل منه توبة نصوحا لا أرجع إليه أبدا. (¬1) - وفيها: قال شيخ لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه عند منصرفه من الشام، أخبرنا يا أمير المؤمنين عن مسيرنا إلى الشام؛ أبقضاء من الله وقدر أم غيرهما؟ قال علي رحمه الله: والذي خلق الحبة وبرأ النسمة؛ ما علوتم تلة ولا هبطتم واديا إلا بقضاء من الله وقدره، قال الشيخ: عند الله أحتسب عنائي وإليه أشكو خيبة رجائي، ما أجد لي من الأجر شيئا؟ قال: بلى؛ قد أعظم الله لكم الأجر على مسيركم وأنتم سائرون، وعلى مقامكم وأنتم مقيمون، وما وضعتم قدما، ولا رفعتم أخرى؛ إلا وقد كتب الله لكم أجرا عظيما. قال الشيخ: كيف يا أمير المؤمنين والقضاء والقدر ساقانا وعنهما وردنا وصدرنا؟ فقال علي رضي الله عنه: أيها الشيخ! لعلك ظننته قضاء جبرا وقدرا قسرا، لو كان ذلك كذلك؛ لبطل الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وبطل الثواب والعقاب، ولم يكن المحسن أولى بمثوبة الإحسان من المسيء، ولا المسيء أولى بعقوبة الإساءة من المحسن. قال الشيخ: فما القضاء والقدر؟ قال علي: العلم السابق في اللوح المحفوظ والرق المنثور بكل ما كان وبما هو كائن، وبتوفيق الله ومعونته لمن اجتباه بولايته وطاعته وبخذلان الله وتخليته لمن ¬

(¬1) الإبانة (2/ 9/140/ 1582) وابن عبد البر في الجامع (2/ 987).

أراد له وأحب شقاه بمعصيته ومخالفته، فلا تحسبن غير ذلك؛ فتوافق مقالة الشيطان وعبدة الأوثان وقدرية هذه الأمة ومجوسها، ثم إن الله عز وجل أمر تحذيرا ونهى تخبيرا ولم يطع غالبا ولم يعص مغلوبا، ولم يك في الخلق شيء حدث في علمه، فمن أحسن؛ فبتوفيق الله ورحمته، ومن أساء؛ فبخذلان الله وإساءته هلك، لا الذي أحسن استغنى عن توفيق الله، ولا الذي أساء عليه ولا استبد بشيء يخرج به عن قدرته، ثم لم يرسل الرسل باطلا، ولم ير الآيات والعزائم عبثا، {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}. اهـ (¬2) - وجاء في أصول الاعتقاد: عن أبي علقمة -أو غيره- أن علي بن أبي طالب قال: إن القدر لا يرد القضاء، ولكن الدعاء يرد القضاء. قال الله لقوم يونس: {لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (¬3).اهـ (¬4) - وفيه أيضا: عن علي بن أبي طالب قال: ذكر عنده القدر يوما فأدخل أصبعيه -السبابة والوسطى- في فيه فرقم بهما في باطن يده فقال: ¬

(¬1) ص الآية (27). (¬2) الإبانة (2/ 9/141 - 142/ 1584). (¬3) يونس الآية (98). (¬4) أصول الاعتقاد (4/ 737/1212).

مجالد بن مسعود (40 هـ)

أشهد أن هاتين الرقمتين كانتا في أم الكتاب. (¬1) - وفيه أيضا: عن علي قال: إن أحدكم لن يخلص الإيمان إلى قلبه حتى يستيقن يقينا غير ظن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ويقر بالقدر كله. (¬2) مُجَالِد بن مَسْعُود (¬3) (40 هـ) مجالد بن مسعود السُّلَمِي، أخو مُجَاشِع بن مسعود، يكنى أبا معبد. قال البخاري وابن حبان له صحبة، كان إسلامه بعد أخيه مجاشع بعد الفتح. روى عنه أبو عثمان النهدي. وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أخيه سنة تسع. قال ابن حبان: قتل يوم الجمل سنة ست وثلاثين. قال ابن حجر: هذا فيه نظر، فإن الميت في هذا أخوه مجاشع وأما هذا فذكر أبو القاسم البغوي ما يدل على أنه بقي إلى حدود الأربعين. موقفه من المبتدعة: ذكر ابن وضاح عن عبد الرحمن بن بكرة قال: كنت جالسا عند الأسود بن سريع، وكان مجلسه في مؤخر المسجد الجامع، فافتتح سورة بني ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 737 - 738/ 1213) والشريعة (1/ 400/459) والإبانة (2/ 9/139 - 140/ 1581) والسنة لعبد الله (147). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 738/1214). (¬3) الاستيعاب (4/ 1459) والإصابة (5/ 770) والتاريخ الكبير (8/ 8) وتهذيب الكمال (27/ 227) وتهذيب التهذيب (10/ 37).

أبو مسعود البدري (40 هـ)

إسرائيل حتى بلغ {وكبره تكبيرًا} (¬1) فرفع أصواتهم الذين كانوا حوله جلوسا. فجاء مجالد بن مسعود يتوكأ على عصا فلما رآه القوم قالوا: مرحبا مرحبا، اجلس. قال: ما كنت لأجلس إليكم وإن كان مجلسكم حسنا، ولكنكم صنعتم قبيل شيئا أنكره المسلمون، فإياكم وما أنكر المسلمون. (¬2) أبو مسعود البدري (¬3) (40 هـ) واسمه عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري، قيل لم يشهد بدرا وجزم البخاري بأنه شهدها لأحاديث صحيحة في بعضها التصريح بذلك. وكان ممن شهد العقبة وهو شاب. واتفقوا على أنه شهد أحدا وما بعدها. وهو معدود في علماء الصحابة. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروى عنه أوس بن ضمعج وابنه بشير وثعلبة بن زهدم وحكيم بن أفلح وربعي بن حراش وغيرهم. توفي سنة أربعين أو بعدها. موقفه من المبتدعة: - جاء في أصول الاعتقاد عن المسيب بن رافع قال: سمعت أبا مسعود حين خرج فنزل في طريق القادسية فقلنا: اعهد إلينا فإن الناس قد وقعوا في الفتنة فلا ندري أنلقاك بعد اليوم أم لا؟ فقال: اتقوا الله واصبروا حتى يستريح ¬

(¬1) الإسراء الآية (111). (¬2) ابن وضاح (ص.50 - 51). (¬3) الاستيعاب (3/ 1074 - 1075) والإصابة (4/ 524) وشذرات الذهب (1/ 48) وتهذيب الكمال (20/ 215) والسير (2/ 493) وطبقات ابن سعد (6/ 16).

موقفه من الخوارج:

بر أو يستراح من فاجر وعليكم بالجماعة فإن الله لا يجمع أمته على الضلالة. (¬1) - وفي ذم الكلام عن نعيم بن أبي هند قال: خرج أبو مسعود الأنصاري يريد الحج فشيعناه فقلنا له: أوصنا يا أبا مسعود، فقال: اتهموا الرأي، فلقد رأيتني تدعوني نفسي إلى أن أخرج بسيفي فأضرب به فأدخل النار. (¬2) موقفه من الخوارج: عن أبي وائل عن أبي مسعود البدري قال: خرج معه أصحابه يشيعونه حتى بلغ القادسية، فلما ذهبوا يفارقونه قالوا: رحمك الله إنك قد رأيت خيرا وشهدت خيرا، حدثنا بحديث عسى أن ينفعنا الله به. قال: أجل! رأيت خيرا وشهدت خيرا، وقد خشيت أن أكون أخرت لهذا الزمان لشر يراد بي، فاتقوا الله وعليكم بالجماعة، فإن الله لن يجمع أمة محمد على ضلالة، واصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر. (¬3) حنظلة الكاتب (¬4) (مات بعد علي) حنظلة بن الربيع بن صيفي الأسيدي المعروف بحنظلة الكاتب له صحبة. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعنه الحسن البصري وقيس بن زهير والهيثم بن ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (1/ 122/162) والإبانة (1/ 2/313 - 314/ 149). (¬2) ذم الكلام (ص.188). (¬3) أصول الاعتقاد (1/ 122 - 123/ 163). (¬4) تهذيب الكمال (7/ 438 - 443) وطبقات ابن سعد (6/ 55) والاستيعاب (1/ 379 - 380) والأنساب (1/ 159).

موقفه من الرافضة:

حنش وأبو عثمان النهدي وغيرهم. شهد مع خالد بن الوليد حروبه بالعراق وغيرها، وجهه خالد بالأخماس إلى أبي بكر الصديق. خرج حنظلة وجرير بن عبد الله وعدي بن حاتم من الكوفة فنزلوا قرقيسيا وقالوا: لا نقيم ببلد يشتم فيه عثمان. بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الطائف عينا. روى له مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة. مات بعد علي بن أبي طالب رضي الله عنهما. موقفه من الرافضة: عن مغيرة قال: خرج عدي، وجرير البجلي وحنظلة الكاتب من الكوفة، فنزلوا قرقيسياء، وقالوا: لا نقيم ببلد يشتم فيه عثمان. (¬1) موقفه من المرجئة: عن أبي عثمان النهدي، عن حنظلة الأسيدي قال: (وكان من كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة. قال: سبحان الله! ما تقول: قال: قلت: نكون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين. فإذا خرجنا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات. فنسينا كثيرا. قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا. فانطلقت أنا وأبو بكر، حتى دخلنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قلت: نافق حنظلة، يا رسول الله! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله! نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين. فإذا ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (7/ 1340/2381).

عبادة بن قرص الليثي (41 هـ)

خرجنا من عندك، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات. نسينا كثيرا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم؛ ولكن يا حنظلة! ساعة وساعة. ثلاث مرات. (¬1) " التعليق: قال أبو بكر بن العربي: إن القلب لا يثبت على حال، وإن العبد ليؤمن وتتواتر عنده الآيات حتى يتمكن من قلبه ويواظب العمل الصالح حتى تتمرن عليه جوارحه، ويواصل الذكرى حتى تطمئن نفسه ثم تعروه حالة أو تطرأ عليه غفلة، فإذا به زل عن هذه المرتبة، فلا يزال يعود إلى ذكراه وعمله الصالح حتى يرجع إلى ما كان عليه ... (¬2) عُبَادة بن قُرْص الليثي (¬3) (41 هـ) عُبَادَة بن قُرْص اللَّيْثِي، وقيل: ابن قُرْط والأول أصح، وهو عبادة بن قرص بن عروة بن بجير الكناني الليثي. روى عنه أبو قتادة العدوي، وحميد بن هلال عداده في أهل البصرة، قال ابن حبان: له صحبة. قال رحمه الله تعالى: إنكم لتأتون أمورا هي أدق في أعينكم من الشعر، ¬

(¬1) أحمد (4/ 178 و346) ومسلم (4/ 2106/2750) والترمذي (4/ 574 - 575/ 2514) وابن ماجه (2/ 1416/4239). (¬2) عارضة الأحوذي (9/ 316 - 317). (¬3) طبقات ابن سعد (7/ 82) والحلية (2/ 16) والاستيعاب (2/ 809) وأسد الغابة (3/ 160 - 161) والوافي بالوفيات (16/ 620) والإصابة (3/ 627 - 628).

موقفه من الخوارج:

كنا نعدها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الموبقات. فلما كان بالأهواز سمع أذانا فقصده ليصلي جماعة فأخذه الخوارج فقتلوه. قال أبو عبيدة والمدائني: سنة إحدى وأربعين. موقفه من الخوارج: عن حميد بن هلال عن عبادة بن قرص الليثي أنه قال للخوارج حين أخذوه بالأهواز: ارضوا مني بما رضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أسلمت قالوا: وما رضي به منك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أتيته فشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قال: فقبل ذلك مني قال: فأبوا فقتلوه. (¬1) لبيد بن ربيعة العامري (¬2) (41 هـ) لبيد بن ربيعة بن عامر الكلابي ثم الجعفري الصحابي. كان شاعرا من فحول الشعراء، وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة وفد قومه بنو جعفر فأسلم وحسن إسلامه، فعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل" (¬3). قال أبو عمر بن عبد البر: وهو شعر حسن وفي هذه القصيدة ما يدل على أنه قالها في الإسلام، والله أعلم وذلك قوله: ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (7/ 1306/2314). (¬2) الاستيعاب (3/ 1335 - 1338) والإصابة (5/ 675 - 680) والجرح والتعديل (7/ 181) وتهذيب الأسماء واللغات (القسم الأول/2/ 70 - 71). (¬3) أحمد (2/ 393) والبخاري (7/ 188/3841) ومسلم (4/ 1768/2256) والترمذي (5/ 128/2849) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وابن ماجه (2/ 1236/3757).

موقفه من المبتدعة:

كل امرئ يوما سيعلم سعيه ... إذا كشفت عند الإله المحاصل وقد قال أكثر أهل الأخبار: إن لبيدا لم يقل شعرا منذ أسلم، وقال بعضهم: لم يقل في الإسلام إلا قوله: الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ... حتى اكتسيت من الإسلام سربالا وقد قيل: إن هذا البيت لقردة بن نفاثة السلولي، وهو أصح عندي. وقال غيره: بل البيت الذي قاله في الإسلام قوله: ما عاتب الكريم كنفسه ... والمرء يصلحه القرين الصالح مات سنة إحدى وأربعين. موقفه من المبتدعة: جاء في الإبانة عن المدائني قال: قيل للبيد بعدما أسلم: ما لك لا تقول الشعر؟ فقال: إن في البقرة وآل عمران شغلا عن الشعر إلا أني قد قلت بيتا واحدا: ما عاتب الكريم كنفسه ... والمرء يصلحه الجليس الصالح (¬1) محمد بن مسلمة (¬2) (43 هـ) محمد بن مَسْلَمة بن سلمة بن خالد، أبو عبد الله وأبو عبد الرحمن الأنصاري الأوسيّ، من نجباء الصحابة، شهد بدرا والمشاهد، وهو أحد الذين ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/478/ 505). (¬2) السير (2/ 369 - 373) وطبقات ابن سعد (3/ 443 - 445) والإصابة (6/ 33 - 35) والمعرفة والتاريخ (1/ 307) وتهذيب الكمال (26/ 456 - 459).

موقفه من المشركين:

قتلوا كعب بن الأشرف. واستخلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض غزواته، واستعمله عمر بن الخطاب على صدقات جهينة، وكان عمر إذا شكي إليه عامل، أرسل محمدا يكشف الحال. وكان رضي الله عنه ممن اعتزل الفتنة، واتخذ سيفا من خشب، وقال: بذلك أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. روى عنه المسور ابن مخرمة، وسهل بن أبي حثمة، وقبيصة بن ذؤيب. توفي سنة ثلاث وأربعين. موقفه من المشركين: قال مروان بن الحكم وهو على المدينة وعنده ابن يامين النضيري: كيف كان قتل ابن الأشرف؟ قال ابن يامين: كان غدرا، ومحمد بن مسلمة جالس شيخ كبير، فقال: يا مروان أيغدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندك؟ والله ما قتلناه إلا بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والله لا يؤويني وإياك سقف بيت إلا المسجد، وأما أنت يا ابن يامين فلله علي إن أفلت وقدرت عليك وفي يدي سيف إلا ضربت به رأسك، فكان ابن يامين لا ينزل من بني قريظة حتى يبعث له رسولا ينظر محمد بن مسلمة، فإن كان في بعض ضياعه نزل فقضى حاجته ثم صدر، وإلا لم ينزل، فبينا محمد في جنازة وابن يامين بالبقيع فرأى محمد نعشا عليه جرائد وطبة لامرأة جاء فحله فقام إليه الناس، فقالوا: يا أبا عبد الرحمن ما تصنع؟ نحن نكفيك، فقام إليه فلم يزل يضربه بها جريدة جريدة حتى كسر ذلك الجريد على وجهه ورأسه حتى لم يترك به مصحا، ثم أرسله ولا طباخ به، ثم قال: والله لو قدرت على السيف لضربتك به. (¬1) ¬

(¬1) الصارم المسلول (2/ 184).

عمرو بن العاص (43 هـ)

عمرو بن العاص (¬1) (43 هـ) عمرو بن العاص بن وائل أبو عبد الله ويقال أبو محمد، السهمي، داهية قريش، ورجل العالم ومن يضرب به المثل في الفطنة والدهاء والحزم. أسلم قبل الفتح سنة ثمان وهاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. فعن إبراهيم النخعي قال: عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لواء لعمرو على أبي بكر وعمر وسراة أصحابه. قال الثوري: أراه قال: في غزوة ذات السلاسل. وروي عنه أنه قال: فوالله إني لأشد الناس حياء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما ملأت عيني منه ولا راجعته. وقال: بعث إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "خذ عليك ثيابك وسلاحك، ثم ائتني، فأتيته وهو يتوضأ فصعد فيَّ البصر، وصوبه فقال: إني أريد أن أبعثك على جيش فيسلمك الله ويغنمك، وأرغب لك رغبة صالحة من المال" قلت: يا رسول الله. ما أسلمت من أجل المال، ولكني أسلمت رغبة في الإسلام، ولأن أكون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: يا عمرو، نعما بالمال الصالح للرجل الصالح" (¬2). وقال رضي الله عنه: ليس العاقل من يعرف الخير من الشر، ولكن هو الذي يعرف خير الشرين. وكان يقول رضي الله عنه حين وفاته: اللهم لا بريء فأعتذر ولا عزيز فأنتصر، وإن لا تدركني منك رحمة، أكن من الهالكين. توفي رضي الله عنه عام ثلاث وأربعين. ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (4/ 254 - 261) و (7/ 493 - 494) والإصابة (4/ 650 - 654) والاستيعاب (3/ 1184 - 1191) والبداية (8/ 25 - 27) والعقد الثمين (6/ 398 - 406) وتهذيب التهذيب (8/ 56 - 57) ومستدرك الحاكم (3/ 452 - 455) والمعرفة والتاريخ (1/ 323) والكامل لابن الأثير (3/ 274 - 276) والسير (3/ 54 - 77) وشذرات الذهب (1/ 53). (¬2) أحمد (4/ 197) والبخاري في الأدب المفرد (299) والطبراني في الأوسط (4/ 130/3213) وأبو يعلى (13/ 320 - 322/ 7336) والقضاعي في مسند الشهاب (2/ 259/1315) ابن حبان (8/ 7/3211) الحاكم (2/ 2) وقال: "صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي". وذكره الهيثمي في المجمع (9/ 355 - 356) وقال: "رواه أحمد وقال: ورجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح".

موقفه من المشركين:

موقفه من المشركين: - قال الذهبي في السير: عن محمد بن عمرو عن أبيه عن جده قال: قال عمرو بن العاص: خرج جيش من المسلمين أنا أميرهم، حتى نزلنا الإسكندرية، فقال عظيم منهم: أخرجوا إلي رجلا أكلمه ويكلمني، فقلت: لا يخرج إليه غيري. فخرجت معي ترجماني ومعه ترجمان حتى وضع لنا منبران. فقال: ما أنتم؟ قلت: نحن العرب ومن أهل الشوك والقرظ، ونحن أهل بيت الله كنا أضيق الناس أرضا وشره عيشا. نأكل الميتة والدم ويغير بعضنا على بعض. كنا بشر عيش عاش به الناس حتى خرج فينا رجل ليس بأعظمنا يومئذ شرفا، ولا أكثرنا مالا، قال: أنا رسول الله إليكم يأمرنا بما لا نعرف وينهانا عما كنا عليه. فشنفنا له وكذبناه ورددنا عليه حتى خرج إليه قوم من غيرنا فقالوا: نحن نصدقك ونقاتل من قاتلك. فخرج إليهم وخرجنا إليه وقاتلناه، فظهر علينا وقاتل من يليه من العرب، فظهر عليهم. فلو تعلم ما ورائي من العرب ما أنتم فيه من العيش لم يبق أحد إلا جاءكم. فضحك ثم قال: إن رسولكم قد صدق، وقد جاءتنا رسل بمثل ذلك وكنا عليه حتى ظهرت فينا ملوك، فعملوا فينا بأهوائهم وتركوا أمر الأنبياء، فإن أنتم أخذتم بأمر نبيكم لم يقاتلكم أحد إلا غلبتموه، وإذا فعلتم مثل الذي فعلنا فتركتم أمر نبيكم لم تكونوا أكثر عددا منا ولا أشد منا قوة. (¬1) ¬

(¬1) السير (3/ 70 - 71).

موقفه من القدرية:

" التعليق: صدق هذا العظيم، القوة في اتباع كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، بهما تقوى الأمة وتعلو مكانتها، وبالتفريط فيهما تندحر وتتولى. وقد كان كذلك، والله المستعان. - عن سعيد بن نشيط، أن قرة بن هبيرة قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسلم ... الحديث، وفيه: فبعث عمرا على البحرين، فتوفي وهو ثم. قال عمرو: فأقبلت حتى مررت على مسيلمة، فأعطاني الأمان، ثم قال: إن محمدا أرسل في جسيم الأمور، وأرسلت في المحقرات. قلت: أعرض علي ما تقول: فقال: يا ضفدع نقي فإنك نعم ما تنقين، لا زادا تنقرين، ولا ماء تكدرين، ثم قال: يا وبر يا وبر، ويدان وصدر، وبيان خلقه حفر. ثم أتي بأناس يختصمون في نخلات قطعها بعضهم لبعض. فتسجى قطيفة، ثم كشف رأسه، ثم قال: والليل الأدهم، والذئب الأسحم، ما جاء ابن أبي مسلم من مجرم، ثم تسجى الثانية، فقال: والليل الدامس، والذئب الهامس، ما حرمته رطبا إلا كحرمته يابس، قوموا فلا أرى عليكم فيما صنعتم بأسا. قال عمرو: أما والله إنك كاذب، وإنك لتعلم إنك لمن الكاذبين، فتوعدني. (¬1) موقفه من القدرية: قال عمرو بن العاص: انتهى عجبي إلى ثلاث: المرء يفر من القدر وهو لاقيه، ويرى في عين أخيه القذى فيعيبها، ويكون في عينه مثل الجذع فلا ¬

(¬1) السير (3/ 69).

عبد الله بن سلام (43 هـ)

يعيبها، ويكون في دابته الصعر ويقومها جهده ويكون في نفسه الصعر فلا يقومها. (¬1) عبد الله بن سَلاَم (¬2) (43 هـ) عبد الله بن سلام بن الحارث، أبو يوسف الإسرائيلي الأنصاري، من ذرية يوسف النبي عليه السلام، أسلم وصحب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وشهد له بالجنة. قيل: كان اسمه الحصين، فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروى عنه أبو هريرة وأنس بن مالك وعبد الله بن حنظلة بن الغسيل وابناه يوسف ومحمد وأبو بردة بن أبي موسى وقيس بن عباد وآخرون. وفي صحيح البخاري عن سعد بن أبي وقاص قال: ما سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لأحد يمشي على الأرض: "إنه من أهل الجنة، إلا لعبد الله بن سلام". (¬3) وفيه أيضا عن محمد بن سيرين قال: قال قيس بن عباد: كنت في حلقة فيها سعد بن مالك وابن عمر، فمر عبد الله بن سلام، فقالوا: هذا رجل من أهل الجنة، فقلت له: إنهم قالوا كذا وكذا، قال: سبحان الله، ما كان ينبغي لهم أن يقولوا ما ليس لهم به علم، إنما رأيت كأنما عمود وضع في روضة خضراء فنصب فيها وفي رأسها عروة وفي أسفلها منصف، فقيل: ارقه، فرقيت حتى أخذت بالعروة، فقصصتها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 746 - 747/ 1235). (¬2) طبقات ابن سعد (2/ 352 - 353) والاستيعاب (3/ 921 - 923) وتاريخ دمشق (29/ 97 - 136) وتهذيب الكمال (15/ 74 - 75) وسير أعلام النبلاء (2/ 413 - 426) والإصابة (4/ 118 - 120). (¬3) أحمد (1/ 169) والبخاري (7/ 162/3812) ومسلم (4/ 1930/2483).

موقفه من المشركين:

- صلى الله عليه وسلم -: "يموت عبد الله وهو آخذ بالعروة الوثقى". (¬1) ومناقبه كثيرة رضي الله عنه، توفي سنة ثلاث وأربعين. موقفه من المشركين: عن أنس قال: سمع عبد الله بن سلام بقدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في أرض يخترف، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: فما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: أخبرني بهن جبريل آنفا. قال: جبريل؟ قال: نعم. قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة. فقرأ هذه الآية: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} (¬2)، أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد حوت، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت. قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله. يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني. فجاءت اليهود، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي رجل عبد الله فيكم؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا. قال: أرأيتم إن أسلم عبد الله ابن سلام؟ فقالوا: أعاذه الله من ذلك. فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. فقالوا: شرنا وابن شرنا، وانتقصوه. قال: فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله. (¬3) ¬

(¬1) البخاري (12/ 491/7010) ومسلم (4/ 1931/2484 - (149)). (¬2) البقرة الآية (97). (¬3) أحمد (3/ 108) والبخاري (8/ 209/4480).

معقل بن قيس (43 هـ)

معقل بن قيس (¬1) (43 هـ) معقل بن قيس الرياحي، من أهل الكوفة من بني رياح بن يربوع بن حنظلة بن مالك. أوفده عمار بن ياسر إلى عمر يفتح تستر، وبعثه علي إلى بني ناجية حين ارتدوا فقاتلهم، ووجهه علي لمحاربة يزيد بن شجرة الرهاوي. قال ابن عياش: كان صاحب شرطة علي معقل بن قيس. وذكره يعقوب بن سفيان في أمراء علي يوم الجمل. وقال علي بن مجاهد: كان أول من خرج بعد أهل النخيلة المستورد بن علفة اليربوعي، فسار إليه معقل بن قيس الرياحي، فلقيه بشط دجلة فاختلفا ضربتين، فقتل كل واحد منهما صاحبه. ذكر أبو جعفر الطبري أن ذلك كان في سنة ثلاث وأربعين، وأرخه أبو عبيدة سنة تسع وثلاثين في خلافة علي. قال ابن عساكر: ولا شك أن ذلك كان في أيام معاوية وإمارة المغيرة ابن شعبة على الكوفة. موقفه من الخوارج: - قال حين أنذر المغيرة بن شعبة رؤساء الناس في أمر الخوارج: فقام إليه معقل بن قيس الرياحي فقال: أيها الأمير هل سمي لك أحد من هؤلاء القوم؟ فإن كانوا سموا لك فأعلمنا من هم؟ فإن كانوا منا كفيناكهم، وإن كانوا من غيرنا أمرت أهل الطاعة من أهل مصرنا فأتتك كل قبيلة بسفهائها ¬

(¬1) تاريخ خليفة (198 - 200) وتاريخ الطبري (3/حوادث سنة 43هـ) وتاريخ دمشق (59/ 367 - 368) والإصابة (10/ 39).

فقال: ما سمي لي أحد منهم. ولكن قد قيل لي إن جماعة يريدون أن يخرجوا بالمصر، فقال له معقل: أصلحك الله! فإني أسير في قومي وأكفيك ما هم فيه، فليكفك كل امرئ من الرؤساء قومه ... (¬1) - وفيه أيضا: فقام معقل بن قيس فقال: إنك لا تبعث إليهم أحدا ممن ترى حولك من أشراف المصر إلا وجدته سامعا مطيعا ولهم مفارقا ولهلاكهم محبا، ولا أرى أصلحك الله أن تبعث إليهم أحدا من الناس أعدى لهم ولا أشد عليهم مني، فابعثي إليهم فإني أكفيكهم بإذن الله. فقال: اخرج على اسم الله فجهز معه ثلاثة آلاف رجل. (¬2) - عن سالم بن ربيعة قال: إني جالس عند المغيرة بن شعبة حين أتاه معقل بن قيس يسلم عليه ويودعه، فقال له المغيرة: يا معقل بن قيس، إني قد بعثت معك فرسان أهل البصرة، أمرت بهم فانتخبوا انتخابا، فسر إلى هذه العصابة المارقة، الذين فارقوا جماعتنا وشهدوا عليها بالكفر، فادعهم إلى التوبة، وإلى الدخول في الجماعة، فإن فعلوا فاقبل منهم، واكفف عنهم، وإن هم لم يفعلوا فناجزهم واستعن بالله عليهم. فقال معقل بن قيس: سندعوهم ونعذر، وايم الله ما أرى أن يقبلوا، ولئن لم يقبلوا الحق لا نقبل منهم الباطل، هل بلغك -أصلحك الله- أين منزل القوم؟ (¬3) ثم سار في آثرهم وناجزهم وطردهم من كل مصر حلوا به، إلى أن انتهى إلى منازلة رأسهم ¬

(¬1) تاريخ الطبري (3/ 180). (¬2) تاريخ الطبري (3/ 182). (¬3) تاريخ الطبري (3/ 182 - 183).

المسورة بن علفة فقتل أحدهما الآخر، وأبيد هؤلاء المارقون عن آخرهم. (¬1) - قال الحافظ ابن كثير: وقد كانت في هذه السنة -أعنى سنة ثلاث وأربعين- وقعة عظيمة بين الخوارج وجند الكوفة، وذلك أنهم صمموا- كما قدمنا- على الخروج على الناس في هذا الحين، فاجتمعوا في قريب من ثلاثمائة عليهم المستورد بن علقمة، فجهز عليهم المغيرة بن شعبة جندا عليهم معقل ابن قيس في ثلاثة آلاف، فصار إليهم وقدم بين يديه أبا الرواع في طليعة هي ثلاثمائة على عدة الخوارج، فلقيهم أبو الرواع بمكان يقال له المذار. فاقتتلوا معهم فهزمهم الخوارج، ثم كروا عليهم فهزمتهم الخوارج، ولكن لم يقتل أحد منهم، فلزموا مكانهم في مقاتلتهم ينتظرون قدوم أمير الجيش معقل بن قيس عليهم، فما قدم عليهم إلا في آخر نهار غربت فيه الشمس، فنزل وصلى بأصحابه، ثم شرع في مدح أبى الرواع، فقال له: أيها الأمير إن لهم شدات منكرة، فكن أنت ردأ الناس ومر الفرسان فليقاتلوا بين يديك. فقال معقل بن قيس: نعم ما رأيت، فما كان إلا ريثما قال له ذلك حتى حملت الخوارج على معقل وأصحابه، فانجفل عنه عامة أصحابه، فترجل عند ذلك معقل بن قيس وقال: يا معشر المسلمين الأرض الأرض، فترجل معه جماعة من الفرسان والشجعان قريب من مائتي فارس، منهم أبو الرواع الشاكري، فحمل عليهم المستورد بن علقمة بأصحابه فاستقبلوهم بالرماح والسيوف، ولحق بقية الجيش بعض الفرسان فذمرهم وعيرهم وأنبهم على الفرار، فرجع الناس إلى معقل وهو يقاتل الخوارج بمن معه من الأنصار قتالا شديدا، والناس ¬

(¬1) انظر تفصيل ذلك من تاريخ الطبري (3/ 182 - 193).

أبو موسى الأشعري (44 هـ)

يتراجعون في أثناء الليل، فصفهم معقل بن قيس ميمنة وميسرة ورتبهم، وقال: لا تبرحوا على مصافكم حتى نصبح فنحمل عليهم فما أصبحوا حتى هزمت الخوارج فرجعوا من حيث أتوا، فسار معقل في طلبهم وقدم بين يديه أبا الرواع في ستمائة فالتقوا بهم عند طلوع الشمس، فثار إليهم الخوارج فتبارزوا ساعة، ثم حملوا حملة رجل واحد فصبر لهم أبو الرواع بمن معه وجعل يذمرهم ويعيرهم ويؤنبهم على الفرار ويحثهم على الصبر فصبروا وصدقوا فى الثبات حتى ردوا الخوارج إلى أماكنهم، فلما رأت الخوارج ذلك خافوا من هجوم معقل عليهم، فما يكون دون قتلهم شيء فهربوا بين أيديهم حتى قطعوا دجلة في أرض نهزشير، وتبعهم أبو الرواع ولحقه معقل بن قيس، ووصلت الخوارج إلى المدينة العتيقة فركب إليهم شريك بن عبيد نائب المدائن ولحقهم أبو الرواع بمن معه من المقدمة. (¬1) أبو موسى الأشعري (¬2) (44 هـ) هو عبد الله بن قيس بن سُلَيم، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أبو موسى الأشعري التميميّ، الفقيه المقرئ، وهو معدود فيمن قرأ على النبي - صلى الله عليه وسلم -. أقرأَ أهل البصرة وفقّههم في الدين، حدث عنه بريدة بن الحصيب، وأبو أمامة الباهلي، وأبو سعيد الخدري. وقد استعمله النبي ومعاذا على زبيد، وعدن، ¬

(¬1) البداية والنهاية (8/ 26). (¬2) السير (2/ 380 - 402) والإصابة (4/ 211 - 214) والاستيعاب (3/ 979 - 981) وأسد الغابة (3/ 364 - 366) طبقات ابن سعد (2/ 344 - 345) والجرح والتعديل (5/ 138).

موقفه من المبتدعة:

وولي إمرة الكوفة لعمر، وإمرة البصرة، وقدم ليالي فتح خيبر، وغزا، وجاهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحمل عنه علما كثيرا. عن أبي موسى أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: "يا أبا موسى لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود" (¬1). قال مسروق: كان القضاء في الصحابة في ستة: وذكر منهم أبا موسى. توفي رحمه الله سنة أربع وأربعين على الصحيح. موقفه من المبتدعة: روى ابن بطة في الإبانة بسنده إلى أبي موسى قال: لأن أجاور يهوديا ونصرانيا وقردة وخنازير أحب إلي من أن يجاورني صاحب هوى يمرض قلبي. (¬2) موقفه من الرافضة: عن أبي موسى قال: لو كان قتل عثمان هدى لاجتلبت به الأمة لبنا ولكنه كان ضلالا فاجتلبت به الأمة دما. (¬3) موقفه من الجهمية: - جاء في السنة لعبد الله عن أبي موسى -وكان يعلمهم من سنتهم- قال فبينا يحدثهم إذ شخصت أبصارهم قال ما أشخص أبصاركم عني؟ قالوا القمر قال فكيف إذا رأيتم الله جهرة؟ (¬4) ¬

(¬1) البخاري (9/ 113/5048) ومسلم (1/ 546/793) والترمذي (5/ 650/3855). (¬2) الإبانة (2/ 3/468/ 469). (¬3) أصول الاعتقاد (8/ 1440/2585). (¬4) السنة لعبد الله (173) وأصول الاعتقاد (3/ 551 - 552/ 862).

موقفه من القدرية:

- عن أبي تميمة الهجيمي قال: سمعت أبا موسى الأشعري في قول الله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وزيادة} (¬1) قال: النظر إلى وجه ربهم. (¬2) موقفه من القدرية: جاء في الإبانة عن معمر قال: بلغني أن عمرو بن العاصي قال لأبي موسى: وددت أني وجدت من أخاصم إليه ربي؛ فقال أبو موسى: أنا، فقال عمرو: فقدر علي شيئا ويعذبني عليه؟ فقال أبو موسى: نعم، قال: لم؟ قال: لأنه لا يظلمك، قال: صدقت. (¬3) أم حبيبة أم المؤمنين (¬4) (44 هـ) هي رَمْلَة بنت أبي سفيان صَخْر بن حَرب، بن أُمية، بن عبد شَمس، الأموية زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، تكنى أم حبيية، وقيل اسمها هند، ورملة أصح. وقد تزوجها أولا عبد الله بن جحش بن رباب الأسدي، فولدت منه حبيبة بأرض الحبشة في الهجرة، ثم توفي عبد الله متنصرا مرتدا، فكاتب النبي - صلى الله عليه وسلم - النجاشي، فزوجها به، وأصدق عنه أربعة آلاف درهم، وبعث بها إلى ¬

(¬1) يونس الآية (26). (¬2) أصول الاعتقاد (3/ 508/786). (¬3) الإبانة (2/ 9/172/ 1662). (¬4) طبقات ابن سعد (8/ 96 - 100) وأسد الغابة (7/ 303 - 304) وتهذيب الكمال (35/ 175 - 176) وسير أعلام النبلاء (2/ 218 - 223) والوافي بالوفيات (14/ 145 - 146) وتاريخ الإسلام (حوادث 41 - 60/ص.132 - 134) والإصابة (7/ 651 - 654).

موقفها من المشركين:

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع شرحبيل بن حسنة، وذلك سنة سبع، وعمرها يومئذ بضع وثلاثون سنة. روت عدة أحاديث، وروى عنها أخواها: الخليفة معاوية، وعنبسة وابن أخيها عبد الله بن عتبة بن أبي سفيان، وعروة بن الزبير وأبو صالح السمان وصفية بنت شيبة وجماعة. وأخرج ابن سعد عن عائشة قالت: دعتني أم حبيبة عند موتها، فقالت: قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضرائر، فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك، فقلت: غفر الله لك ذلك كله وحللك من ذلك، فقالت: سررتني سرك الله، وأرسلت إلى أم سلمة، فقالت لها مثل ذلك. توفيت رضي الله عنها سنة أربع وأربعين، وقيل سنة اثنتين. موقفها من المشركين: عن الزهري قال: لما قدم أبو سفيان بن حرب المدينة جاء إلى رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، وهو يريد غزو مكة فكلمه أن يزيد في هدنة الحديبية فلم يقبل عليه رسول الله، فقام فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش النبي - صلى الله عليه وسلم -، طوته دونه فقال: يا بنية أرغبت بهذا الفراش عني أم بي عنه؟ فقالت: بل هو فراش رسول الله وأنت امرؤ نجس مشرك. فقال: يا بنية لقد أصابك بعدي شر. (¬1) ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (8/ 99 - 100).

سلمة بن سلامة بن وقش (45 هـ)

سلمة بن سلامة بن وَقْش (¬1) (45 هـ) سَلَمَة بن سَلاَمَة بن وَقْش بن زُغْبَة بن زَعُورَاء بن عبد الأَشْهل الأنصاري الأشهلي يكنى أبا عوف. شهد العقبتين: في قول الجميع، ثم شهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، استعمله عمر على اليمامة. روى عنه محمود بن لبيد وجبيرة والد زيد بن جبيرة. آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين أبي سبرة بن أبي رهم العامري. وقيل: بينه وبين الزبير بن العوام. توفي سنة خمس وأربعين بالمدينة وهو ابن سبعين سنة. موقفه من المشركين: عن محمود بن لبيد، عن سلمة بن سلامة بن وقش؛ قال: كان بين أبياتنا رجل يهودي، فخرج علينا ذات غداة ضحى. حتى جلس إلى بني عبد الأشهل في ناديهم، وأنا يومئذ غلام شاب، علي بردة لي، مضطجع بفناء أهلي، فأقبل اليهودي. فذكر البعث والقيامة، والجنة والنار، وكان القوم أصحاب وثن لا يرون حياة تكون بعد الموت، فقالوا: ويحك يا فلان، أترى هذا كائنا: أن الله عز وجل يبعث العباد بعد موتهم، إذا صاروا ترابا وعظاما؟ وأن غير هذه الدار يجزون فيها بحسن أعمالهم، ثم يصيرون إلى جنة ونار؟؛ قال: نعم، والذي نفسي بيده. وايم الله لوددت أن حظي من تلك النار أن أنجو منها: أن يسجر لي تنور في داركم. ثم أجعل فيه. ثم يطبق علي، قالوا له: وما علامة ذلك؟ قال: نبي يبعث الآن. قد أظلكم زمانه. ويخرج من هذه ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (3/ 439 - 440) والاستيعاب (2/ 641) وأسد الغابة (2/ 523 - 524) والسير (2/ 355 - 356) والإصابة (3/ 148 - 149).

زيد بن ثابت (45 هـ)

البلاد. وأشار إلى مكة، قالوا: ومتى يكون ذلك الزمان؟ قال: إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه، قال سلمة: فما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإن اليهودي لحي بين أظهرنا، فآمنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدقناه، وكفر به اليهودي وكذبه، فكنا نقول له: ويلك يا فلان أين ما كنت تقول؟ فيقول: إنه ليس به، بغيا وحسدا. (¬1) زيد بن ثابت (¬2) (45 هـ) زيد بن ثابت بن الضحاك، أبو سعيد وأبو خارجة الأنصاري الخزرجي النجاري المدني الصحابي، كاتب الوحي للنبي - صلى الله عليه وسلم -. حدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان. وروى عنه أبو هريرة وابن عمر وابن عباس وأنس ابن مالك وسهل بن سعد وأبو أمامة بن سهل وخلق كثير. عن مسروق قال: كان أصحاب الفتوى من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عمر وعلي وابن مسعود وزيد وأبيّ وأبو موسى. وعن سليمان بن يسار قال: ما كان عمر وعثمان يقدمان على زيد أحدا في الفرائض والفتوى والقراءة والقضاء. وعن مسروق قال: قدمت المدينة فوجدت زيد بن ثابت من الراسخين في العلم. ¬

(¬1) الشريعة (2/ 268 - 269/ 1036). (¬2) طبقات ابن سعد (2/ 358) وتاريخ دمشق (19/ 295 - 341) والاستيعاب (2/ 537 - 540) وتهذيب الكمال (10/ 24 - 32) وتهذيب التهذيب (3/ 399) وسير أعلام النبلاء (2/ 426 - 441) وشذرات الذهب (1/ 54 و62).

موقفه من المبتدعة:

وعن الشعبي قال: أمسك ابن عباس بركاب زيد بن ثابت، فقال: أتمسك فيَّ وأنت ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: إنا هكذا نصنع بالعلماء. وعن سعيد بن المسيب قال: شهدت جنازة زيد بن ثابت، فلما دلي في قبره، قال ابن عباس: من سره أن يعلم كيف ذهاب العلم فهكذا ذهاب العلم، والله لقد دفن اليوم علم كثير. توفي رضي الله عنه سنة خمس وأربعين وهو ابن ست وخمسين، وقيل غير ذلك. موقفه من المبتدعة: - جاء في السير عن شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري: بلغنا أن زيد بن ثابت كان يقول إذا سئل عن الأمر: أكان هذا؟ فإن قالوا: نعم. حدث فيه بالذي يعلم. وإن قالوا: لم يكن. قال: فذروه حتى يكون. - وفيها: كان زيد بن ثابت إذا سأله رجل عن شيء، قال: آلله كان هذا؟ فإن قال: نعم، تكلم فيه، وإلا لم يتكلم. (¬1) هَرِم بن حَيَّان (¬2) (46 هـ) هَرِم بن حَيَّان العَبْدي الربعيّ، ويقال الأزديّ، البصريّ، أحد العابدين. روى عن عمر. وروى عنه الحسن البصري وغيره. قال ابن سعد: كان ثقة ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (2/ 438). (¬2) طبقات ابن سعد (7/ 131) والحلية (2/ 119) والاستيعاب (4/ 1537) تاريخ الإسلام (حوادث61 - 80/ص.533) وسير أعلام النبلاء (4/ 48) والإصابة (6/ 533 - 534) والمنتظم (5/ 218 - 219) والنجوم الزاهرة (1/ 132).

موقفه من الجهمية:

وله فضل وعبادة، وكان عاملا لعمر. وقال الحسن البصري: خرج هرم وعبد الله بن عامر بن كريز، فبينما رواحلهما ترعى إذ قال هرم: أيسرك أنك كنت هذه الشجرة؟ قال: لا والله، لقد رزقني الله الإسلام، وإني لأرجو من ربي، فقال هرم: لكني والله لوددت أني كنت هذه الشجرة، فأكلتني هذه الناقة، ثم بعرتني، فاتخذت جلة، ولم أكابد الحساب، ويحك يا ابن عامر إني أخاف الداهية الكبرى. قال الحسن: كان والله أفقههما وأعلمهما بالله. أرخ لوفاته ابن الجوزي وابن تغري بردي سنة ست وأربعين. موقفه من الجهمية: جاء في أصول الاعتقاد: قال هرم بن حيان: صاحب الكلام على إحدى المنزلتين إن قصر فيه خصم وإن أعرق (¬1) فيه أثم. (¬2) الحسن بن علي بن أبي طالب (¬3) (49 هـ) الحسن بن علي بن أبي طالب، الإمام السيد، ريحانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسبطه، وسيد شباب أهل الجنة، أبو محمد القرشي الهاشمي المدني الشهيد. ولد سنة ثلاث للهجرة. قال أسامة: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأخذني والحسن، ويقول: ¬

(¬1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: "أغرق". (¬2) أصول الاعتقاد (1/ 146/222). (¬3) الجرح والتعديل (3/ 19) والإصابة (2/ 68 - 74) والاستيعاب (1/ 383 - 392) والحلية (2/ 35) وتاريخ بغداد (1/ 137 - 138) وتاريخ الطبري (5/ 158 - 160) والكامل لابن الأثير (3/ 460) والوافي (12/ 107 - 110) والبداية والنهاية (8/ 14 - 19) والعقد الثمين (4/ 156 - 158) والسير (3/ 245 - 287).

موقفه من المبتدعة:

"اللهم إني أحبهما فأحبهما" (¬1). قال الذهبي: وقد كان هذا الإمام سيدا، وسيما، جميلا، عاقلا، ورزينا، جوادا ممدحا، خيرا، دينا، ورعا، محتشما، كبير الشأن وكان منكاحا مطلاقا، تزوج نحوا من سبعين امرأة، وقلما كان يفارقه أربع ضرائر. وفيه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن ابني هذا سيد يصلح به الله فئتين من المسلمين" (¬2). وقيل للحسن بن علي: إن أبا ذر يقول: الفقر أحب إلي من الغنى، والسقم أحب إلي من الصحة، فقال: رحم الله أبا ذر، أما أنا فأقول: من اتكل على حسن اختيار الله له، لم يتمن شيئا، وهذا حد الوقوف على الرضى بما تصرف به القضاء. ولما احتضر الحسن رضي الله عنه قال: اللهم إني أحتسب نفسي عندك، فإنها أعز الأنفس علي. مات سنة تسع وأربعين رضي الله عنه وأرضاه. موقفه من المبتدعة: نقل الذهبي في السير عن الحرمازي: خطب الحسن بن علي بالكوفة، فقال: إن الحلم زينة، والوقار مروءة، والعجلة سفه، والسفه ضعف، ومجالسة أهل الدنائة شين، ومخالطة الفساق ريبة. (¬3) ¬

(¬1) أحمد (5/ 210) والبخاري (7/ 110/3735) والنسائي في الكبرى (5/ 50/8171). (¬2) أحمد (5/ 37 - 38) والبخاري (5/ 384/2704) مطولا، وأبو داود (5/ 48 - 49/ 4662) والترمذي (5/ 616/3773) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (3/ 118 - 119/ 1409) كلهم من طرق عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة فذكره. (¬3) سير أعلام النبلاء (3/ 263).

موقفه من الرافضة:

موقفه من الرافضة: جاء في السير: عن عمرو بن الأصم، قلت للحسن: إن الشيعة تزعم أن عليا مبعوث قبل يوم القيامة، قال: كذبوا والله، ما هؤلاء بالشيعة، لوعلمنا أنه مبعوث ما زوجنا نساءه، ولا اقتسمنا ماله. (¬1) موقفه من القدرية: قال الحسن بن علي: قضي القضاء وجف القلم وأمور بقضاء في كتاب قد خلا. (¬2) كعب بن مالك (¬3) (50 هـ) هو كعب بن مالك بن أبي كعب، عمرو بن القَيْن الأنصاري الخزرجي العقبي الأحدي. شاعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه وأحد الثلاثة الذين خلفوا فتاب الله عليهم، شهد العقبة وله عدة أحاديث تبلغ الثلاثين. روى عنه: عبد الله وعبد الله وعبد الرحمن ومحمد ومعبد بنوه، وجابر وابن عباس وأبو أمامة وآخرون. كانت كنيته: أبا بشير آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين الزبير. قال ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (3/ 263) وهو في الشريعة (3/ 560/2070). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 746/1234) والإبانة (2/ 10/230/ 1830) والشريعة (1/ 465 - 466/ 610) والسنة لعبد الله (132). (¬3) التاريخ الكبير (7/ 219 - 220) والجرح والتعديل (7/ 160) وتاريخ خليفة (202) وطبقاته (103) والاستيعاب (3/ 1323 - 1326) وتاريخ دمشق (50/ 176 وما بعدها) وأسد الغابة (4/ 461 - 462) وتهذيب الكمال (24/ 193 - 196) وتهذيب التهذيب (8/ 440 - 441) والإصابة (5/ 610 - 612) وشذرات الذهب (1/ 56) والسير (2/ 523).

موقفه من المشركين:

كعب: يا رسول الله: قد أنزل في الشعراء ما أنزل، قال: "إن المجاهد مجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنما ترمونهم به نضح النبل" (¬1). نزلت فيه وفي صاحبيه مرارة بن الربيع وهلال بن أمية، آية التوبة {لقد تاب الله علي النبي ... } الآيات. توفي رضي الله عنه سنة خمسين. موقفه من المشركين: قال ابن سيرين: أما كعب، فكان يذكر الحرب، يقول: فعلنا ونفعل، ويتهددهم. وأما حسان، فكان يذكر عيوبهم وأيامهم. وأما ابن رواحة، فكان يعيرهم بالكفر. وقد أسلمت دوس فرقا من بيت قاله كعب: نخيرها ولو نطقت لقالت ... قواطعهن دوسا أو ثقيفا (¬2) موقفه من الرافضة: عن الشعبي قال: لما قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه رثاه كعب بن مالك الأنصاري رحمه الله فقال (¬3): عجبت لقوم أسلموا بعد عزهم ... إمامهم للمنكرات وللغدر فلو أنهم سيموا من الضيم خطة ... لجاد لهم عثمان بالأيد والنصر فما كان في دين الإله بخائن ... ولا كان في الأقسام بالضيق الصدر ¬

(¬1) أحمد (3/ 460) (6/ 387) الطبراني في الكبير (19/ 75 - 76/ 151 - 152 - 153) وفي الأوسط (1/ 386/673) دون قوله: والذي نفسي بيده ... وذكره الهيثمي في المجمع (2/ 126) وقال: "رواه أحمد بأسانيد، ورجال أحدها رجال الصحيح، وروى الطبراني في الأوسط والكبير نحوه". (¬2) السير (2/ 525). (¬3) الشريعة (3/ 153/1494).

المغيرة بن شعبة (50 هـ)

ولا كان نكاثا بعهد محمد ... ولا تاركا للحق في النهي والأمر فإن أبكه أعذر لفقدي عدله ... ومالي عنه من عزاء ولا صبر وهل لامرئ يبكي لعظم مصيبة ... أصيب بها بعد ابن عفان من عذر فلم أر يوما كان أعظم فتنة ... وأهتك منه للمحارم والستر غداة أصيب المسلمون بخيرهم ... ومولاهم في إله العسر واليسر المغيرة بن شعبة (¬1) (50 هـ) المُغيرَة بن شُعْبَة بن أبي عامر بن مسعود، أبو عيسى وقيل أبو عبد الله، الثقفي صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أسلم عام الخندق، وأول مشاهده الحديبية. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وروى عنه أبو أمامة الباهلي، والمسور بن مخرمة وقرة المزني وأولاده عروة وحمزة وعقار. كان موصوفا بالدهاء، قال الشعبي: القضاة أربعة: عمر وعلي وابن مسعود وأبو موسى الأشعري، والدهاة أربعة: معاوية وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وزياد، فأما معاوية فللأناة، وأما عمرو فللمعضلات، وأما المغيرة فللمبادهة، وأما زياد فللصغير والكبير. وكان رضي الله عنه نكّاحا للنساء، أحصن ثمانين امرأة. ولاه عمر بن الخطاب البصرة، ولم يزل عليها حتى قتل عمر، فأقره عثمان عليها، ثم عزله، ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (4/ 284) وتاريخ بغداد (1/ 191) والاستيعاب (4/ 1445 - 1447) وتاريخ دمشق (60/ 13 - 62) وأسد الغابة (5/ 238 - 240) وسير أعلام النبلاء (3/ 21) وتهذيب الكمال (28/ 369 - 376).

موقفه من المشركين:

وشهد اليمامة وفتوح الشام، وذهبت عينه باليرموك، وشهد القادسية وشهد فتح نهاوند، وكان على ميسرة النعمان بن مقرن، وشهد فتح همدان وغيرها. اعتزل الفتنة بعد مقتل عثمان، فلما قتل علي، وصالح معاوية الحسن ودخل الكوفة، ولاه عليها. توفي رضي الله عنه بالكوفة سنة خمسين. موقفه من المشركين: جاء في السير: عن حجاج الصواف حدثني إياس بن معاوية عن أبيه قال: لما كان يوم القادسية، ذهب المغيرة بن شعبة في عشرة إلى صاحب فارس، فقال: إنا قوم مجوس، وإنا نكره قتلكم لأنكم تنجسون علينا أرضنا. فقال: إنا كنا نعبد الحجارة حتى بعث الله إلينا رسولا، فاتبعناه، ولم نجيء لطعام، بل أمرنا بقتال عدونا، فجئنا لنقتل مقاتلتكم، ونسبي ذراريكم. وأما ما ذكرت من الطعام فما نجد ما نشبع منه، فجئنا فوجدنا في أرضكم طعاما كثيرا وماء، فلا نبرح حتى يكون لنا ولكم. فقال العلج: صدق. قال: وأنت تفقأ عينك غدا، ففقئت عينه بسهم. (¬1) موقفه من الخوارج: - قال خليفة بن خياط في تاريخه: وفي ولاية المغيرة بن شعبة على الكوفة خرج شبيب بن بجرة الأشجعي، فوجه إليه المغيرة كثير بن شهاب الحارثي فقتله بأذربيجان. قال أبو عبيدة: خرج شبيب بن بجرة -وكان ممن ¬

(¬1) السير (3/ 32).

شهد النهروان بالكوفة- على المغيرة بن شعبة عند دار الرزق فقتل. (¬1) - قال الطبري: إن قبيصة بن الدمون أتى المغيرة بن شعبة -وكان على شرطته- فقال إن شمر بن جعونة الكلابي جاءني فخبرني أن الخوارج قد اجتمعوا في منزل حيان بن ظبيان السلمي، وقد اتعدوا أن يخرجوا إليك في غرة شعبان. فقال المغيرة بن شعبة لقبيصة بن الدمون -وهو حليف لثقيف وزعموا أن أصله كان من حضرموت من الصدف- سر بالشرطة حتى تحيط بدار حيان بن ظبيان فأتني به؟ وهم إلا أنه أمير تلك الخوارج. فسار قبيصة في الشرطة وفي كثير من الناس فلم يشعر حيان بن ظبيان إلا والرجال معه في داره نصف النهار، وإذا معه معاذ بن جوين ونحو من عشرين رجلا من أصحابهما، وثارت امرأته أم ولد له فأخذت سيوفا كانت لهم فألقتها تحت الفراش، وفزع بعض القوم إلى سيوفهم فلم يجدوها فاستسلموا، فانطلق بهم إلى المغيرة بن شعبة. فقال لهم المغيرة: ما حملكم على ما أردتم من شق عصا المسلمين؟ فقالوا: ما أردنا من ذلك شيئا. قال: بلى قد بلغني ذلك عنكم ثم قد صدق ذلك عندي جماعتكم، قالوا له: أما اجتماعنا في هذا المنزل فإن حيان بن ظبيان أقرأنا القرآن، فنحن نجتمع عنده في منزله فنقرأ القرآن عليه. فقال: اذهبوا بهم إلى السجن، فلم يزالوا فيه نحوا من سنة وسمع إخوانهم بأخذهم فحذروا. (¬2) - وقال: فبلغ الخبر المغيرة بن شعبة أن الخوارج خارجة عليه في أيامه ¬

(¬1) التاريخ (ص.209). (¬2) تاريخ الطبري (3/ 178 - 179).

تلك، وأنهم قد اجتمعوا على رجل منهم. فقام المغيرة بن شعبة في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فقد علمتم أيها الناس أني لم أزل أحب لجماعتكم العافية، وأكف عنكم الأذى، وأني والله لقد خشيت أن يكون ذلك أدب سوء لسفهائكم، فأما الحلماء الأتقياء فلا، وايم الله لقد خشيت ألا أجد بدا من أن يعصب الحليم التقي بذنب السفيه الجاهل، فكفوا أيها الناس سفهاءكم قبل أن يشمل البلاء عوامكم. وقد ذكر لي أن رجالا منكم يريدون أن يظهروا في المصر بالشقاق والخلاف، وايم الله لا يخرجون في حي من أحياء العرب في هذا المصر إلا أبدتهم وجعلتهم نكالا لمن بعدهم، فنظر قوم لأنفسهم قبل الندم، فقد قمت هذا المقام إرادة الحجة والإعذار. فقام إليه معقل بن قيس الرياحي فقال: أيها الأمير هل سمي لك أحد من هؤلاء القوم؟ فإن كانوا سموا لك فأعلمنا من هم؟ فإن كانوا منا كفيناكم، وإن كانوا من غيرنا أمرت أهل الطاعة من أهل مصرنا فأتتك كل قبيلة بسفهائها فقال: ما سمي لي أحد منهم. ولكن قد قيل لي إن جماعة يريدون أن يخرجوا بالمصر، فقال له معقل: أصلحك الله! فإني أسير في قومي وأكفيك ما هم فيه، فليكفك كل امرئ من الرؤساء قومه. فنزل المغيرة بن شعبة وبعث إلى رؤساء الناس فدعاهم، ثم قال لهم: إنه قد كان من الأمر ما قد علمتم، وقد قلت ما قد سمعتم، فليكفني كل امرئ من الرؤساء قومه، وإلا فو الذي لا إله غيره لأتحولن عما كنتم تعرفون إلى ما تنكرون، وعما تحبون إلى ما تكرهون، فلا يلم لائم إلا نفسه وقد أعذر من أنذر. فخرجت الرؤساء إلى عشائرهم، فناشدوهم الله والإسلام إلا دلوهم على من يرون أنه

يريد أن يهيج فتنة، أو يفارق جماعة ... (¬1) إلى أن قال: ثم إن المغيرة بن شعبة أخبر خبرهم، فدعا رؤساء الناس. فقال: إن هؤلاء الأشقياء قد أخرجهم الحين وسوء الرأي، فمن ترون أبعث إليهم؟ قال: فقام إليه عدي بن حاتم، فقال كلنا لهم عدو، ولرأيهم مسفه، وبطاعتك مستمسك، فأينا شئت سار إليهم: فقام معقل بن قيس، فقال: إنك لا تبعث إليهم أحدا ممن ترى حولك من أشراف المصر إلا وجدته سامعا مطيعا، ولهم مفارقا ولهلاكهم محبا، ولا أرى أصلحك الله أن تبعث إليهم أحدا من الناس أعدى لهم ولا أشد عليهم مني فابعثني إليهم فإني أكفيكهم بإذن الله، فقال: اخرج على اسم الله؛ فجهز معه ثلاثة آلاف رجل. (¬2) - عن سالم بن ربيعة قال: إني جالس عند المغيرة بن شعبة حين أتاه معقل بن قيس يسلم عليه ويودعه، فقال له المغيرة: يا معقل بن قيس، إني قد بعثت معك فرسان أهل البصرة، أمرت بهم فانتخبوا انتخابا، فسر إلى هذه العصابة المارقة، الذين فارقوا جماعتنا وشهدوا عليها بالكفر، فادعهم إلى التوبة، وإلى الدخول في الجماعة، فإن فعلوا فاقبل منهم، واكفف عنهم، وإن هم لم يفعلوا فناجزهم واستعن بالله عليهم. فقال معقل بن قيس: سندعوهم ونعذر، وايم الله ما أرى أن يقبلوا، ولئن لم يقبلوا الحق لا نقبل منهم الباطل، ¬

(¬1) تاريخ الطبري (3/ 180). (¬2) تاريخ الطبري (3/ 182).

هل بلغك -أصلحك الله- أين منزل القوم؟ (¬1) وقال ابن كثير: وقد كانت في هذه السنة -أعنى سنة ثلاث وأربعين- وقعة عظيمة بين الخوارج وجند الكوفة، وذلك أنهم صمموا -كما قدمنا- على الخروج على الناس في هذا الحين، فاجتمعوا في قريب من ثلاثمائة عليهم المستورد بن علقمة، فجهز عليهم المغيرة بن شعبة جندا عليهم معقل بن قيس في ثلاثة آلاف، فصار إليهم وقدم بين يديه أبا الرواع في طليعة هي ثلاثمائة على عدة الخوارج، فلقيهم أبو الرواع بمكان يقال له المذار. فاقتتلوا معهم فهزمهم الخوارج، ثم كروا عليهم فهزمتهم الخوارج، ولكن لم يقتل أحد منهم، فلزموا مكانهم في مقاتلتهم ينتظرون قدوم أمير الجيش معقل بن قيس عليهم، فما قدم عليهم إلا في آخر نهار غربت فيه الشمس، فنزل وصلى بأصحابه، ثم شرع في مدح أبى الرواع، فقال له: أيها الأمير إن لهم شدات منكرة، فكن أنت ردأ الناس ومر الفرسان فليقاتلوا بين يديك. فقال معقل ابن قيس: نعم ما رأيت، فما كان إلا ريثما قال له ذلك حتى حملت الخوارج على معقل وأصحابه، فانجفل عنه عامة أصحابه، فترجل عند ذلك معقل بن قيس وقال: يا معشر المسلمين الأرض الأرض، فترجل معه جماعة من الفرسان والشجعان قريب من مائتي فارس، منهم أبو الرواع الشاكري، فحمل عليهم المستورد بن علقمة بأصحابه فاستقبلوهم بالرماح والسيوف، ولحق بقية الجيش بعض الفرسان فذمرهم وعيرهم وأنبهم على الفرار، فرجع الناس إلى معقل وهو يقاتل الخوارج بمن معه من الأنصار قتالا شديدا، والناس ¬

(¬1) تاريخ الطبري (3/ 182 - 183).

جرير بن عبد الله (51 هـ)

يتراجعون في أثناء الليل، فصفهم معقل بن قيس ميمنة وميسرة ورتبهم، وقال: لا تبرحوا على مصافكم حتى نصبح فنحمل عليهم فما أصبحوا حتى هزمت الخوارج فرجعوا من حيث أتوا، فسار معقل فى طلبهم وقدم بين يديه أبا الرواع في ستمائة فالتقوا بهم عند طلوع الشمس، فثار إليهم الخوارج فتبارزوا ساعة، ثم حملوا حملة رجل واحد فصبر لهم أبو الرواع بمن معه وجعل يذمرهم ويعيرهم ويؤنبهم على الفرار ويحثهم على الصبر فصبروا وصدقوا في الثبات حتى ردوا الخوارج إلى أماكنهم، فلما رأت الخوارج ذلك خافوا من هجوم معقل عليهم، فما يكون دون قتلهم شيء فهربوا بين أيديهم حتى قطعوا دجلة في أرض نهزشير، وتبعهم أبو الرواع ولحقه معقل بن قيس، ووصلت الخوارج إلى المدينة العتيقة فركب إليهم شريك بن عبيد نائب المدائن ولحقهم أبو الرواع بمن معه من المقدمة. (¬1) جرير بن عبد الله (¬2) (51 هـ) هو جرير بن عبد الله بن جابر بن مالك بن نصر بن ثعلبة بن حُشَم بن عوف. الأمير النبيل أبو عمرو -وقيل أبو عبد الله- البجلي القسري وقسر من قحطان، من أعيان الصحابة. بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - على النصح لكل مسلم، كان بديع الحسن كامل الجمال. حدث عنه أنس وقيس بن أبي حازم وأبو وائل ¬

(¬1) البداية والنهاية (8/ 26). (¬2) الاستيعاب (1/ 236 - 240) وأسد الغابة (1/ 529 - 531) وطبقات ابن سعد (6/ 22) وتهذيب الكمال (4/ 533 - 540) وتهذيب التهذيب (2/ 73 - 75) وتاريخ خليفة (218) والإصابة (1/ 475 - 476) والسير (2/ 530 - 537) وشذرات الذهب (1/ 57 - 58).

موقفه من المشركين:

والشعبي وأولاده الأربعة: المنذر، وعبد الله وإبراهيم ولم يدركه، وأيوب، وجماعة. روى الإمام أحمد عن جرير: لما دنوت من المدينة، أنخت راحلتي وحللت عيبتي ولبست حلتي، ثم دخلت المسجد فإذا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فرماني الناس بالحدق فقلت لجليسي: يا عبد الله هل ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أمري شيئا؟ قال: نعم، ذكرك بأحسن الذكر، بينما هو يخطب إذ عرض له في خطبته، فقال: "إنه سيدخل عليكم من هذا الفج من خير ذي يمن ألا وإن على وجهه مسحة ملك". قال: فحمدت الله. (¬1) وقال أيضا: ما رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا تبسم في وجهي. جاء مع قومه فأسلموا. وقال عمر: جرير يوسف هذه الأمة. عن الشعبي: كان على ميمنة سعد بن أبي وقاص يوم القادسية جرير. قال محمد بن عمر: لم يزل جرير معتزلا لعلي ومعاوية بالجزيرة ونواحيها حتى توفي بالشراة في ولاية الضحاك ابن عيسى على الكوفة سنة إحدى وخمسين. ومسنده نحو من مائة حديث. موقفه من المشركين: عن جرير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "ألا تريحني من ذي الخلصة -بيت خثعم- وكان يسمى: الكعبة اليمانية- قال: فخربناه أو حرقناه حتى تركناه كالجمل الأجرب وبعث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يبشره فبرك على خيل أحمس ورجالها خمس مرات ... قال: وقلت يا رسول الله إني رجل لا أثبت على الخيل فوضع ¬

(¬1) أحمد (4/ 364) والنسائي في الكبرى (5/ 82/8304) والطبراني (2/ 352 - 353/ 2483) والحاكم (1/ 285) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي وذكره الهيثمي في المجمع (9/ 375) وقال: "رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط باختصار عنهما، وأسانيد الكبير رجاله رجال الصحيح".

موقفه من الرافضة:

يده على وجهي -أو على صدري- وقال اللهم اجعله هاديا مهديا". (¬1) موقفه من الرافضة: عن مغيرة قال: تحول جرير بن عبد الله وحنظلة وعدي بن حاتم من الكوفة إلى قرقيسيا وقالوا لا نقيم ببلد يشتم فيه عثمان. (¬2) سعيد بن زيد (¬3) (51 هـ) سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيْل بن عبد العُزَّى العدويّ، يكنى أبا الأعور وقيل: أبا ثور والأول أكثر. روى عنه ابن عمر وأبو الطفيل، وعمرو ابن حريث وغيرهم. أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، أسلم قبل دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم، وهاجر وشهد أحدا والمشاهد بعدها، ولم يكن بالمدينة زمان بدر فلذلك لم يشهدها. فكان بالحق قوالا، ولماله بذالا ولهواه قامعا وقتالا، ولم يكن ممن يخاف في الله لومة لائم. وكان مجاب الدعوة، اعتزل الفتنة والشرور المؤدية إلى الضيعة والغرور، عازما على السبقة والعبور، المفضي إلى الرفعة والحبور. كان للولايات قاليا وفي مراتب الدنيا وانيا، وفي العبودية غانيا وعن مساعدة نفسه فانيا. له أحاديث يسيرة. مات بالعقيق سنة إحدى وخمسين وهو ابن بضع وسبعين سنة، فغسله سعد بن أبي وقاص وكفنه وخرج معه، وقبر بالمدينة. ¬

(¬1) أحمد (4/ 360) والبخاري (6/ 190/3020) ومسلم (4/ 1925 - 1926/ 2476) وأبو داود (3/ 215/2772) والنسائي في الكبرى (5/ 82/8303). (¬2) أصول الاعتقاد (7/ 1340/2381) والسير (3/ 165). (¬3) طبقات ابن سعد (3/ 379 - 385) والإصابة (3/ 103 - 105) والحلية (1/ 95 - 97) والاستيعاب (2/ 614 - 620) وأسد الغابة (2/ 476 - 478) وتهذيب الكمال (10/ 446 - 454) والسير (1/ 124 - 140).

موقفه من الرافضة:

موقفه من الرافضة: روى الآجري في الشريعة بسنده إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: جاءت أروى ابنة أوس إلى أبي محمد بن عمرو فقالت: يا أبا عبد الملك: إن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل قد بنى ضفيرة وقال ابن سفيان: ضفيرة في حقي، فأته فكلمه، فلينزع عن حقي، فوالله لئن لم يفعل لأصيحن به في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال لها: لا تؤذي صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما كان ليظلمك، ولا يأخذ لك حقا، فخرجت فجاءت عمارة بن عمرو وعبد الله بن مسلمة فقالت لهما: ائتيا سعيد بن زيد، فإنه ظلمني وبنى ضفيرة في حقي، فوالله لئن لم ينزع لأصيحن به في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرجا حتى أتياه في أرضه بالعقيق، فقال لهما: ما أتى بكما؟ فقالا: جاءتنا أروى ابنة أوس فزعمت أنك بنيت ضفيرة في حقها، وحلفت بالله لئن لم تنزع لتصيحن بك في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، زاد ابن بكير: فأحببنا أن نأتيك فنخبرك، ونذكر لك ذلك، فقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من أخذ شبرا من الأرض بغير حقه طوقه الله عزوجل يوم القيامة من سبع أرضين (¬1) لتأتي فلتأخذ ما كان لها من حق، اللهم إن كانت كذبت علي فلا تمتها حتى تعمي بصرها، وتجعل منيتها فيها، فرجعوا فأخبروها بذلك، فجاءت حتى هدمت الضفيرة، وبنت بنيانا فلم تمكث إلا قليلا حتى عميت، وكانت تقوم من الليل ومعها جارية لها تقودها لتوقظ العمال، فقامت ليلة وتركت الجارية ¬

(¬1) أحمد (1/ 188) والبخاري (6/ 360/3198) ومسلم (3/ 1230/1610) والترمذي (4/ 20 - 21/ 1418).

موقفه من الخوارج والرافضة:

لم توقظها، فخرجت تمشي حتى سقطت في البئر، فأصبحت ميتة. (¬1) موقفه من الخوارج والرافضة: - عن عبد الرحمن بن الأخنس أنه كان في المسجد فذكر رجل عليا رضي الله عنه، فقام سعيد بن زيد فقال: أشهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني سمعته وهو يقول: عشرة في الجنة: النبي في الجنة، وأبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير بن العوام في الجنة، وسعد بن مالك في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة ولو شئت لسميت العاشر، قال: فقالوا: من هو؟ فسكت، فقالوا: من هو؟ فقال: هو سعيد بن زيد. (¬2) - وعن رياح بن الحارث، قال: كنت قاعدا عند فلان في مسجد الكوفة وعنده أهل الكوفة، فجاء سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، فرحب به وحياه وأقعده عند رجله على السرير فجاءه رجل من أهل الكوفة يقال له قيس بن علقمة فاستقبله فسب وسب، فقال سعيد: من يسب هذا الرجل؟ فقال: يسب عليا، قال: ألا أرى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسبون عندك ثم لا تنكر ولا تغير، أنا سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول وإني لغني أن أقول عليه ما لم يقل فيسألني عنه غدا إذا لقيته: أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وساق ¬

(¬1) الشريعة (3/ 402 - 403/ 1843) وأصول الاعتقاد (7/ 1328/2362) والحديث أصله في الصحيحين البخاري (3198) ومسلم (1610). (¬2) أحمد (1/ 188) وأبو داود (5/ 39/4649) والترمذي (5/ 610/3757) وحسنه. والنسائي في الكبرى (5/ 60/8210) وابن حبان (15/ 454/6993).

أبو بكرة الثقفي (52 هـ)

معناه، ثم قال: لمشهد رجل منهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغبر فيه وجهه خير من عمل أحدكم عمره ولو عمر عمر نوح. (¬1) أبو بَكْرَة الثَّقَفِي (¬2) (52 هـ) نُفَيْع بن الحارث وقيل بن مَسْرُوح بن كَلَدَة بن عمرو الثقفي صحابي جليل كبير القدر تدلى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ببكرة من حصن الطائف، فلذا كني أبا بكرة. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وروى عنه أولاده: عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد العزيز، وغيرهم. كان من فضلاء الصحابة وصالحيهم كثير العبادة، وكان ممن اعتزل يوم الجمل، ولم يقاتل مع واحد من الفريقين. مات في خلافة معاوية بن أبي سفيان بالبصرة، سنة اثنتين وخمسين وقيل سنة إحدى وخمسين وصلى عليه أبو برزة الأسلمي الصحابي وكان قد آخى بينهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. موقفه من المبتدعة: روى الإمام أحمد عن عيينة بن عبد الرحمن بن يونس قال: حدثني أبي قال: شهدت جنازة عبد الرحمن بن سمرة وخرج زياد يمشي بين يدي السرير، فجعل رجال من أهل عبد الرحمن ومواليهم يستقبلون السرير ويمشون على أعقابهم ¬

(¬1) أحمد (1/ 187) وأبو داود (5/ 39 - 40/ 4650) والنسائي في الكبرى (5/ 56/8193) دون ذكر القصة. ابن ماجه في المقدمة (1/ 48/133) مختصرا. (¬2) طبقات ابن سعد (7/ 15 - 16) والاستيعاب (4/ 1614 - 1615) وأسد الغابة (5/ 334 - 335 و6/ 35 - 36) وتهذيب الكمال (30/ 5 - 9) والسير (3/ 5 - 10) والبداية والنهاية (8/ 59) والإصابة (6/ 467 - 468) وشذرات الذهب (1/ 58).

موقفه من الخوارج:

ويقولون: رويدا رويدا بارك الله فيكم، فكانوا يدبون دبيبا حتى إذا كنا ببعض طريق المربد لحقنا أبو بكرة على بغلة، فلما رأى الذي يصنعون حمل عليهم ببغلته وأهوى إليهم بالسوط وقال: خلوا فوالذي أكرم وجه أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -، لقد رأيتنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنا لنكاد نرمل بها رملا، فانبسط القوم. (¬1) موقفه من الخوارج: - عن زياد بن كسيب العدوي قال: كنت مع أبي بكرة تحت منبر ابن عامر وهو يخطب وعليه ثياب رقاق فقال أبو بلال: انظروا إلى أميرنا يلبس ثياب الفساق. فقال أبو بكرة: اسكت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله. (¬2) أورده الذهبي في سيره وقال عقبه: أبو بلال هذا هو مرداس ابن أدية، خارجي ومن جهله عد ثياب الرجال الرقاق لباس الفساق. (¬3) عمران بن حصين (¬4) (52 هـ) عِمْرَان بن حُصَيْن بن عبيد بن خَلَف أبو نُجَيد الخزاعي. القدوة الإمام ¬

(¬1) أحمد (5/ 38) وأبو داود (3182) والنسائي (1911) واللفظ له. (¬2) أحمد (5/ 42 و48 - 49) بدون ذكر القصة. الترمذي (4/ 435/2224) واللفظ له. وقال: "حديث حسن غريب". (¬3) السير (14/ 508). (¬4) الإصابة (4/ 705 - 706) وشذرات الذهب (1/ 58) وطبقات ابن سعد (4/ 287 - 291) والمستدرك (3/ 470 - 472) ومجمع الزوائد (9/ 381 - 382) والجرح والتعديل (6/ 296) وتهذيب التهذيب (8/ 125 - 126) والاستيعاب (3/ 1208) والسير (2/ 508 - 512).

موقفه من المبتدعة:

صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسلم عام خيبر. وغزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوات، بعثه عمر بن الخطاب إلى البصرة ليفقه أهلها، وكان من فضلاء الصحابة. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن معقل ابن يسار. وروى عنه بشير بن كعب العدوي، والحسن البصري وحفص الليثي وعبد الله بن بريدة ومطرف بن عبد الله بن الشخير وغيرهم. كان الحسن يحلف ويقول: ما قدم عليهم البصرة خير لهم من عمران بن الحصين. وقال محمد بن سيرين: ما قدم البصرة أحد يفضل على عمران بن حصين. وقال معاوية بن قرة: كان عمران بن الحصين من أشد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اجتهادا في العبادة. وعن رافع بن سحبان أن رجلا أتى عمران بن حصين وهو في المسجد فقال: رجل طلق امرأته وهو في مجلس ثلاثا فقال: إثم لزمه وحرمت عليه امرأته فانطلق فذكر ذلك لأبي موسى يريد عيبه، فقال أبو موسى: أكثر الله فينا مثل أبي نجيد. قال عمران: "وقد كان يسلم علي (يعني من طرف الملائكة) حتى اكتويت، فَتُرِكْتُ، ثم تَرَكْتُ الكيّ فعاد" (¬1). توفي سنة اثنتين وخمسين رضي الله عنه. موقفه من المبتدعة: - روى البخاري عن أبي السوار العدوي قال: سمعت عمران بن حصين قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: الحياء لا يأتي إلا بخير. فقال بشير بن كعب: مكتوب في الحكمة: إن من الحياء وقارا وإن من الحياء سكينة. فقال له عمران: أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحدثني عن صحيفتك؟ (¬2) ¬

(¬1) أحمد (4/ 427) مسلم (2/ 899/1226 (167)). (¬2) أحمد (4/ 426و427) والبخاري (10/ 638/6117) ومسلم (1/ 64/37) وأبو داود (5/ 147 - 148/ 4796).

- وجاء في الإبانة: عن حبيب بن أبي نضلة المالكي، قال: لما بني هذا المسجد مسجد الجامع، قال: وعمران بن حصين جالس فذكروا عنده الشفاعة (¬1)، فقال رجل من القوم: يا أبا نجيد إنكم لتحدثوننا أحاديث ما نجد لها أصلا في القرآن، قال: فغضب عمران بن حصين، وقال للرجل: قرأت القرآن؟ قال: نعم. قال: فهل وجدت فيه صلاة المغرب ثلاثا وصلاة العشاء أربعا والغداة ركعتين والأولى أربعا والعصر أربعا؟ قال: فممن أخذتم هذا الشأن ألستم عنا أخذتموه وأخذناه عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وعنا أخذتموه، أو عن من أخذتم في كل أربعين درهما درهم، وفي كذا وكذا شاة كذا وكذا، ومن كذا وكذا بعيرا كذا وكذا، أوجدتم هذا في القرآن؟ قال: لا. قال: فعمن أخذتم هذا ألستم عنا أخذتموه؟ وأخذناه عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذتموه عنا؟ قال: فهل وجدتم في القرآن وليطوفوا بالبيت العتيق، وجدتم طوفوا سبعا واركعوا خلف المقام ركعتين، هل وجدتم هذا في القرآن؟ عمن أخذتموه ألستم أخذتموه عنا وأخذناه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذتموه عنا؟ قالوا: بلى. قال: فوجدتم في القرآن لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام، أوجدتم هذا في القرآن؟ قالوا: لا. قال عمران: فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام (¬2). قال: أو ما سمعتم الله تعالى قال لأقوام في كتابه: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ ¬

(¬1) في الإبانة: "الساعة" والتصحيح من دلائل النبوة للبيهقي (1/ 25). والسياق يؤكده. (¬2) أحمد (4/ 439) وأبو داود (3/ 67 - 68/ 2581) والترمذي (3/ 431/1123). وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (6/ 420 - 421/ 3335) وصححه ابن حبان الإحسان (8/ 61 - 62/ 3267).

موقفه من المشركين:

نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}. حتى بلغ {شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} (48) (¬1). قال حبيب: أنا سمعت عمران يقول: الشفاعة نافعة دون من يسبحون. (¬2) - وروى الخطيب في الفقيه والمتفقه عن الحسن أن رجلا قال لعمران ابن حصين: يا أبا نجيد إنكم لتحدثونا بأحاديث، الله تعالى أعلم بها، حدثونا بالقرآن. قال: القرآن والله نعم، أرأيت لو رفعنا إليه، وقد وجدت في القرآن {أقيموا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزكاة} ثم لم نر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كيف سن لنا كيف نركع، كيف كنا نسجد، كيف كنا نعطي زكاة أموالنا. قال: فأفحم الرجل. (¬3) - عن الحسن أن عمران بن حصين أوصى لأمهات أولاده بوصايا، وقال: من صرخت علي، فلا وصية لها. (¬4) موقفه من المشركين: - عن الحسن عن عمران بن حصين أنه رأى في يد رجل حلقة من صفر، فقال: ما هذه؟ قال: من الواهنة، قال: أما إنها لن تزيدك إلا وهنا ولو مت وأنت ترى أنها نافعتك لمت على غير الفطرة. (¬5) ¬

(¬1) المدثر الآيات (42 - 48). (¬2) الإبانة (1/ 1/233 - 235/ 66) والشريعة (1/ 179/104). (¬3) الفقيه والمتفقه (1/ 237 - 238). (¬4) السير (2/ 511). (¬5) الإبانة (2/ 7/860/ 1172).

موقفه من الخوارج:

موقفه من الخوارج: عن عمران بن الحصين قال: أتى نافع بن الأزرق وأصحابه فقالوا: هلكت يا عمران قال: ما هلكت قالوا: بلى، قال: ما الذي أهلكني؟ قالوا: قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (¬1). قال: قد قاتلناهم حتى نفيناهم، فكان الدين كله لله. إن شئتم حدثتكم حديثا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: وأنت سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم. شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد بعث جيشا من المسلمين إلى المشركين. فلما لقوهم قاتلوهم قتالا شديدا. فمنحوهم أكتافهم. فحمل رجل من لحمتي على رجل من المشركين بالرمح. فلما غشيه قال: أشهد أن لا إله إلا الله إني مسلم، فطعنه فقتله. فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله هلكت. قال: وما الذي صنعت مرة أو مرتين، فأخبره بالذي صنع فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فهلا شققت عن بطنه فعلمت ما في قلبه؟! قال: يا رسول الله لو شققت بطنه لكنت أعلم ما في قلبه. قال: فلا أنت قبلت ما تكلم به، ولا أنت تعلم ما في قلبه. قال: فسكت عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يلبث إلا يسيرا حتى مات. فدفناه فأصبح على ظهر الأرض. فقالوا: لعل عدوا نبشه. فدفناه. ثم أمرنا غلماننا يحرسونه. فأصبح على ظهر الأرض. فقلنا: لعل الغلمان نعسوا. فدفناه. ثم حرسناه بأنفسنا فأصبح على ظهر الأرض. فألقيناه في ¬

(¬1) الأنفال الآية (39).

موقفه من القدرية:

بعض تلك الشعاب. (¬1) موقفه من القدرية: - عن أبي الأسود الدؤلي قال: سألت عمران بن حصين عن باب القدر، فقال لو أن الله عذب أهل السماوات والأرض لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو أنه رحم أهل السماوات والأرض لكانت رحمته أوسع من ذلك، ولو أن رجلا له مثل أحد ذهبا ينفقه في سبيل الله لا يؤمن بالقدر خيره وشره ما تقبل منه. (¬2) - وعنه قال: قال لي عمران بن الحصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر ما سبق؟ أو في ما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟ فقلت: بل شيء قضي عليهم، ومضى عليهم. قال فقال: أفلا يكون ظلما؟ قال: ففزعت من ذلك فزعا شديدا. وقلت: كل شيء خلق الله وملك يده. فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون. فقال لي: يرحمك الله، إني لم أرد بما سألتك إلا لأحزر عقلك. إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقالا: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس اليوم، ويكدحون فيه، أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد ¬

(¬1) ابن ماجه (2/ 1296 - 1297/ 3930 - 3931) والطبراني (18/ 226/562) والطحاوي في مشكله (8/ 277/3234) من طريق عاصم الأحول عن سميط عن عمران به. وحسنه البوصيري في الزوائد، لكن أخرجه أحمد (4/ 438 - 439) والطبراني (18/ 243609) عن المعتمر بن سليمان عن أبيه حدثني سميط عن أبي العلاء قال حدثني رجل من الحي أن عمران بن حصين حدثه ثم ذكر الحديث .. قال الهيثمي في المجمع (1/ 27): "في إسناده رجل مجهول". (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 749/1239) والإبانة (2/ 9/50 - 51/ 1445) والشريعة (1/ 401 - 402/ 461).

فضالة بن عبيد (53 هـ)

سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: "لا. بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم. وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (¬1) ". (¬2) فَضَالة بن عبيد (¬3) (53 هـ) فَضَالة بن عُبَيْد بن نَافِذ أبو محمد الأنصاري الأوسي. القاضي الفقيه، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من أهل بيعة الرضوان قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (¬4) شهد المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أصغر من شهد بيعة الرضوان. قال الذهبي: إن ثبت شهوده أحدا، فما كان يوم الشجرة صغيرا. وعن ابن محيريز قال: سمعت فضالة بن عبيد، فقلت له: أوصني قال: خصال ينفعك الله بهن، إن استطعت أن تعرف ولا تعرف فافعل، وإن استطعت أن تسمع ولا تكلم، فافعل، وإن استطعت أن تجلس ولا يجلس إليك، فافعل. وعنه قال: ثلاث من الفواقر: إمام إن أحسنت لم يشكر وإن أسأت لم يغفر، وجار إن رأى حسنة دفنها، وإن رأى سيئة أفشاها، وزوجة إن حضرت آذتك، وإن غبت خانتك في ¬

(¬1) الشمس الآيتان (7و8). (¬2) أحمد (4/ 438) ومسلم (4/ 2041 - 2042/ 2650). (¬3) البداية والنهاية (8/ 78) والإصابة (2/ 62 - 64) والاستيعاب (3/ 1262 - 1263) وتهذيب التهذيب (8/ 267 - 268) والسير (3/ 113 - 117) والمستدرك (3/ 473) والحلية (2/ 17). (¬4) الفتح الآية (18).

موقفه من المشركين:

نفسها وفي مالك. مات رضي الله عنه عام ثلاث وخمسين للهجرة. موقفه من المشركين: عن ثمامة بن شفي قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوي، ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بتسويتها. (¬1) موقفه من المرجئة: وجاء في السير: عن فضالة، قال: لأن أعلم أن الله تقبل مني مثقال حبة، أحب إلي من الدنيا وما فيها، لأنه تعالى يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (¬2). (¬3) حسان بن ثابت (¬4) (54 هـ) حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو الوليد، ويقال: أبو الحسام المدني، شاعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. حدث عنه ابنه عبد الرحمن والبراء بن عازب، وسعيد بن المسيب وأبو سلمة وآخرون. وحديثه قليل. كان قديم الإسلام ولم يشهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مشهدا وكان يجبن. قال ابن سعد: ¬

(¬1) أحمد (6/ 18) ومسلم (2/ 666/968) واللفظ له. وأبو داود (3/ 549/3219) والنسائي (4/ 393/2029). (¬2) المائدة الآية (27). (¬3) السير (3/ 116). (¬4) الاستيعاب (1/ 341 - 351) وأسد الغابة (2/ 6 - 9) وتهذيب الكمال (6/ 16 - 25) والسير (2/ 512 - 523) والإصابة (2/ 62 - 64) وتهذيب التهذيب (2/ 247 - 248) والوافي بالوفيات (11/ 350 - 358).

موقفه من المشركين:

عاش ستين سنة في الجاهلية وستين في الإسلام. قال أبو عبيدة: فضل حسان ابن ثابت على الشعراء بثلاث: كان شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر النبي - صلى الله عليه وسلم - في أيام النبوة، وشاعر اليمن كلها في الإسلام. وقد أعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيرين أخت مارية أمة قبطية فولدت له عبد الرحمن بن حسان وذلك لذبه بلسانه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هجاء المشركين له. توفي حسان رحمه الله سنة أربع وخمسين وهو ابن مائة وعشرين سنة، وكذلك عاش أبوه ثابت، وجده المنذر، وأبو جده حرام ولا يعرف في العرب أربعة تناسلوا من صلب واحد عاش كل منهم مائة وعشرين سنة غيرهم. موقفه من المشركين: جاء في السير: قالت عائشة: والله إني لأرجو أن يدخله الله الجنة بكلمات قالهن لأبي سفيان بن الحارث: هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء (¬1) موقفه من الرافضة: - جاء في أصول الاعتقاد: عن الزهري قال: قال رسول الله لحسان: هل قلت في أبي بكر؟ قال: نعم، قال: قل: وأنا أسمع فقال: وثاني اثنين في الغار وقد ... طاف العدو بهم إذ صعدوا الجبلا ¬

(¬1) السير (2/ 515).

وكان حب رسول الله قد علموا ... من البرية لم يعدل به رجلا قال: فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه وقال صدقت يا حسان. (¬1) - وفيه: عن الشعبي أن حسان قال في النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي أبي بكر وعمر: ثلاثة برزوا بفضلهم ... نضرهم ربهم إذا نشروا فليس من مؤمن له بصر ... ينكر تفضيلهم إذا ذكروا عاشوا بلا فرقة ثلاثتهم ... واجتمعوا في الممات إذ قبروا (¬2) - وفيه (¬3): عن أسماء بنت أبي بكر قالت: مر الزبير بن العوام بمجلس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحسان ينشدهم شعره وهم غير نشاط لما يسمعون منه فجلس معهم الزبير ثم قال: مالي أراكم غير آذنين لما تسمعون من شعر ابن الفريعة؟ فلقد كان يعرض به لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيحسن استماعه ويحرك عنده ثوبه ولا يشغل عنه بشيء. فقال حسان: أقام على عهد النبي وهديه ... حواريه والقول بالفعل يعدل أقام على منهاجه وطريقه ... يوالي ولي الحق والحق أعدل ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (7/ 1356/2428) وابن سعد في الطبقات (3/ 174) عن الزهري مرسلا والحاكم (3/ 64) من حديث حبيب بن أبي حبيب. وفي إسناده عمرو بن زياد. قال الذهبي في التلخيص: "عمرو يضع الحديث". ابن عدي في الكامل (2/ 161) من حديث أنس. وقال: "وهذا الحديث منكر عن الزهري عن أنس، ما يوصله إلا محمد ابن الوليد عن شبابة، ومحمد بن الوليد ضعيف يسرق الحديث، وقد ذكرته عن محمد بن عبيد وهو صدوق مرسلا، وهذا الحديث موصوله ومرسله منكر، والبلاء فيه من أبي العطوف". (¬2) أصول الاعتقاد (7/ 1408/2535). (¬3) أصول الاعتقاد (8/ 1490 - 1491/ 2708) والحاكم في المستدرك (3/ 362 - 363).

هو الفارس المشهور والبطل الذي ... يصول إذا ما كان يوم محجل إذا كشفت عن ساقها الحرب حشها ... بأبيض سباق إلى الموت يرفل وإن امرؤ كانت صفية أمه ... ومن أسد في بيتها لمرفل له من رسول الله قربى قريبة ... ومن نصرة الإسلام مجد مؤثل وكم كربة ذب الزبير بسيفه ... عن المصطفى والله يعطي ويجزل ثناؤك خير من فعال معاشر ... وفعلك يا ابن الهاشمية أفضل - جاء في سير أعلام النبلاء (¬1): قال ابن إسحاق: وقال حسان في عائشة: رأيتك -وليغفر لك الله- حرة ... من المحصنات غير ذات غوائل حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل وإن الذي قد قيل ليس بلائق ... بك الدهر بل قيل امرئ متماحل فإن كنت أهجوكم كما بلغوكم ... فلا رفعت سوطي إليَّ أناملي وكيف وودي ما حييت ونصرتي ... لآل رسول الله زين المحافل وإن لهم عزا يرى الناس دونه ... قصارا وطال العز كل التطاول عقيلة حي من لؤي بن غالب ... كرام المساعي مجدهم غير زائل مهذبة قد طيب الله خيمها ... وطهرها من كل سوء وباطل - وفي الشريعة (¬2): عن الشعبي قال: سئل ابن عباس رضي الله عنهما من أول من أسلم؟ فقال: أبو بكر رضي الله عنه، أما سمعت قول حسان بن ¬

(¬1) (2/ 163). (¬2) (3/ 33/1306).

موقفه من الجهمية:

ثابت رضي الله عنه: إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا خير البرية أتقاها وأفضلها ... إلا النبي وأولاها بما حملا والثاني التالي المحمود شيمته ... وأول الناس منهم صدق الرسلا موقفه من الجهمية: قال ابن تيمية في المنهاج: ومن هذا قول حسان بن ثابت رضي الله عنه: تعالى علوا فوق العرش إلهنا ... وكان مكان الله أعلى وأعظما مع علم حسان وغيره من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الله غني عن كل ما سواه، وما سواه من عرش وغيره محتاج إليه، وهو لا يحتاج إلى شيء، وقد أثبت له مكانا. (¬1) الأَرْقَم بن أبي الأرقم (¬2) (55 هـ) الأرقم بن أبي الأرقم عبد مناف بن أسد بن عبد الله بن عمر، أبو عبد الله المخزومي صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم -. من السابقين الأولين كان أحد من شهد بدرا، وكان من عقلاء قريش، وهو صاحب حلف الفضول. وقد استخفى النبي - صلى الله عليه وسلم - في داره وهي عند الصفا وكانت تدعى دار الإسلام لإسلام كثير ¬

(¬1) المنهاج (2/ 356). (¬2) طبقات ابن سعد (3/ 242 - 244) والإصابة (1/ 43 - 45) والسير (2/ 479 - 480) والجرح والتعديل (2/ 309 - 310) والمستدرك (3/ 502 - 504) وشذرات الذهب (1/ 61) والعقد الثمين (3/ 280 - 282).

موقفه من المشركين:

من الناس بها، ولاجتماع الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه بها. وعن الأرقم أنه تجهز يريد بيت المقدس، فلما فرغ من جهازه، جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يودعه، فقال: ما يخرجك؟ حاجة أو تجارة؟ قال: لا والله يا نبي الله، ولكن أردت الصلاة في بيت المقدس. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الصلاة في مسجدي خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" (¬1) فجلس الأرقم ولم يخرج. توفي بالمدينة سنة خمس وخمسين وصلى عليه سعد بن أبي وقاص بوصيته إليه. موقفه من المشركين: عن يحيى بن عمران بن عثمان بن الأرقم قال: سمعت جدي عثمان بن الأرقم يقول: أنا ابن سبعة في الإسلام أسلم أبي سابع سبعة وكانت داره بمكة على الصفا وهي الدار التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون فيها في أول الإسلام، وفيها دعا الناس إلى الإسلام، وأسلم فيها قوم كثير، وقال ليلة الاثنين فيها: "اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام" (¬2)، فجاء عمر بن الخطاب من الغد بكرة فأسلم في دار الأرقم وخرجوا منها فكبروا وطافوا البيت ظاهرين، ودعيت دار الأرقم دار الإسلام. (¬3) ¬

(¬1) الطبراني (1/ 306 - 307/ 907) بلفظ: صلاة هاهنا خير من ألف صلاة ثم الحاكم (3/ 504) وصححه ووافقه الذهبي. وذكره الهيثمي في المجمع (4/ 8) وقال: "رواه أحمد والطبراني في الكبير ... ورجال أحمد فيهم يحيى بن عمران جهله أبو حاتم". (¬2) أحمد (2/ 95) والترمذي (5/ 576/3681) وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب". وابن حبان (15/ 305/6881) وفي الباب عن ابن عباس وعمر وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم. (¬3) أخرجه الحاكم (3/ 502).

سعد بن أبي وقاص (55 هـ)

سعد بن أبي وقاص (¬1) (55 هـ) سعد بن مالك بن أُهَيْب ويقال وُهَيْب بن عبد مناف بن زُهْرَة بن كِلاَب القرشي الزهري أبو إسحاق بن أبي وقاص، أحد السابقين الأولين وأحد العشرة وآخرهم موتا. قال سعيد بن المسيب: سمعت سعدا يقول: مكثت سبع ليال، وإني لثلث الإسلام. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرا، روى عنه بنوه: إبراهيم وعامر ومصعب، ومن الصحابة: عائشة وابن عباس وابن عمر وآخرون. كان أحد الفرسان ومقدم الجيوش في فتح العراق، وأول من رمى بسهم في سبيل الله، وأحد الستة أهل الشورى، وكان مجاب الدعوة مشهورا بذلك، ولما قتل عثمان اعتزل الفتنة ولزم بيته. توفي رحمه الله ورضي عنه سنة خمس وخمسين على الأصح. موقفه من المبتدعة: جاء في تلبيس إبليس: عن عبد الله بن أبي سلمة، أن سعد بن مالك سمع رجلا يقول: لبيك ذا المعارج فقال: ما كنا نقول هذا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (3/ 137 - 138) وحلية الأولياء (1/ 92 - 95) والاستيعاب (2/ 606 - 610) وتاريخ بغداد (1/ 144 - 146) والسير (1/ 92 - 124) والإصابة (3/ 73 - 77) وتهذيب التهذيب (3/ 483 - 484) وتاريخ الإسلام (حوادث 41 - 60/ص.212 - 221). (¬2) التلبيس (ص.25). قال الشيخ الألباني رحمه الله: "والتزام تلبيته - صلى الله عليه وسلم - أفضل وإن كانت الزيادة عليها جائزة لإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس الذين كانوا يزيدون على تلبيته قولهم: لبيك ذا المعارج لبيك ذا الفواضل" [مناسك الحج والعمرة (ص.16)].

موقفه من المشركين:

موقفه من المشركين: - قال ابن كثير: قال ابن إسحاق: ثم أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بعد ثلاث سنين من البعثة بأن يصدع بما أمر، وأن يصبر على أذى المشركين. قال: وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلوا ذهبوا في الشعاب واستخفوا بصلاتهم من قومهم فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر يصلون بشعاب مكة إذ ظهر عليهم بعض المشركين فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون، حتى قاتلوهم، فضرب سعد رجلا من المشركين بلحى جمل فشجه، فكان أول دم أهريق في الإسلام. وروى الأموي في مغازيه من طريق الوقاصي عن الزهري عن عامر ابن سعد عن أبيه فذكر القصة بطولها وفيه أن المشجوج هو عبد الله بن خطل لعنه الله. (¬1) - وعن سعد قال: نزلت هذه الآية فيَّ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} (¬2). قال كنت برا بأمي فلما أسلمت قالت: يا سعد ما هذا الدين الذي قد أحدثت؟ لتدعن دينك هذا أَو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعيربي فيقال: يا قاتل أمه، قلت: لا تفعلي يا أمه، إني لا أدع ديني هذا لشيء. فمكثت يوما لا تأكل ولا تشرب وليلة وأصبحت وقد جهدت. فلما رأيت ذلك قلت: يا أمه تعلمين ¬

(¬1) البداية والنهاية (3/ 36) والإصابة (3/ 74). (¬2) لقمان الآية (15).

موقفه من الرافضة:

والله لو كان لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني، إن شئت فكلي أو لا تأكلي. فلما رأت ذلك أكلت. (¬1) - وعن عامر بن سعد، عن أبيه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع له أبويه يوم أحد. قال: كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - ارم، فداك أبي وأمي قال: فنزعت له بسهم ليس فيه نصل. فأصبت جنبه فسقط. فانكشفت عورته. فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. حتى نظرت إلى نواجذه. (¬2) موقفه من الرافضة: - جاء في سير أعلام النبلاء: عن مصعب بن سعد أن رجلا نال من علي فنهاه سعد، فلم ينته، فدعا عليه. فما برح حتى جاء بعير ناد فخبطه حتى مات. (¬3) - وعن عامر بن سعد قال: أقبل سعد من أرض له فإذا الناس عكوف على رجل فاطلع فإذا هو يسب طلحة والزبير وعليا، فنهاه فكأنما زاده إغراء، فقال: ويلك ما تريد إلى أن تسب أقواما هم خير منك لتنتهين أو لأدعون عليك. فقال: هيه فكأنما تخوفني نبيا من الأنبياء، فانطلق فدخل دارا فتوضأ ودخل المسجد ثم قال: اللهم إن كان هذا قد سب أقواما قد سبق لهم منك خير أسخطك سبه إياهم فأرني اليوم به آية تكون آية للمؤمنين. قال: وتخرج بختية من دار بني فلان نادة لا يردها شيء حتى تنتهي إليه ويتفرق الناس عنه ¬

(¬1) السير (1/ 109 - 110). وهو في صحيح مسلم (1748). (¬2) أحمد (1/ 174) والبخاري (7/ 104/3725) ومسلم (4/ 1876/2412) والترمذي (5/ 120/2830) والنسائي في الكبرى (5/ 61/8216) وابن ماجه (1/ 47/130). (¬3) السير (1/ 115 - 116).

موقفه من الصوفية:

فتجعله بين قوائمها فتطؤه حتى طفئ قال: فأنا رأيته يتبعه الناس ويقولون: استجاب الله لك أبا إسحاق استجاب الله لك أبا إسحاق. (¬1) - عن جابر بن سمرة قال شكا أهل الكوفة سعدا إلى عمر رضي الله عنه، فعزله، واستعمل عليهم عمارا، فشكوا حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي. فأرسل إليه فقال: يا أبا إسحاق إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي. قال أبو إسحاق: أما أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أخرم عنها، أصلي صلاة العشاء فأركد في الأوليين وأخف في الأخريين. قال: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق. فأرسل معه رجلا -أو رجالا- إلى الكوفة فسأل عنه أهل الكوفة، ولم يدع مسجدا إلا سأل عنه، ويثنون عليه معروفا، حتى دخل مسجدا لبني عبس، فقام رجل منهم يقال له أسامة ابن قتادة يكنى أبا سعدة قال: أما إذ نشدتنا فإن سعدا كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية. قال سعد: أما والله لأدعون بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبا قام رياء وسمعة فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه بالفتن قال: وكان بعد إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد. قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطريق يغمزهن. (¬2) موقفه من الصوفية: قال سعد بن أبي وقاص وغيره من السلف في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (7/ 1327 - 1328/ 2361). (¬2) البخاري (2/ 300 - 301/ 755) ومسلم (1/ 334 - 335/ 453).

موقفه من الخوارج:

نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (¬1) نزلت في أصحاب الصوامع والديارات. (¬2) موقفه من الخوارج: - قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وممن فسق من السلف الخوارج ونحوهم سعد بن أبي وقاص فاعتبرهم داخلين تحت قوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (¬3).اهـ (¬4) - عن مصعب قال: سألت أبي {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} أَعْمَالًا هم الحرورية؟ قال: لا، هم اليهود والنصارى، أما اليهود فكذبوا محمدا - صلى الله عليه وسلم -، وأما النصارى كفروا بالجنة وقالوا: لا طعام فيها ولا شراب، والحرورية {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ}، وكان سعد يسميهم الفاسقين. (¬5) ¬

(¬1) الكهف الآية (104). (¬2) الفتاوى (10/ 449). (¬3) البقرة الآيتان (26 - 27). (¬4) ذكره ابن تيمية في المنهاج (5/ 250 بتصرف). وهو في مصنف ابن أبي شيبة (7/ 560 - 561/ 37925). (¬5) البخاري (8/ 543/4728).

موقفه من القدرية:

- عن مصعب بن سعد عن سعد في قوله {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (¬1) قال قلت له أهم الخوارج؟ قال: لا ولكنهم أصحاب الصوامع والخوارج الذين زاغوا فأزاغ الله قلوبهم. (¬2) موقفه من القدرية: جاء في الإبانة: عن كثير بن مرة عن ابن الديلمي يعني عبد الله الديلمي أنه لقي سعد بن أبي وقاص فقال له: إني شككت في بعض أمر القدر؛ فحدثني لعل الله يجعل لي عندك فرجا؟ قال: نعم يا ابن أخي، إن الله عز وجل لو عذب أهل السماوات وأهل الأرض؛ عذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم، كانت رحمته إياهم خيرا لهم من أعمالهم، ولو أن لامرئ مثل أحد ذهبا ينفقه في سبيل الله حتى ينفذه ولم يؤمن بالقدر خيره وشره، ما تقبل منه؛ ولا عليك أن تأتي عبد الله بن مسعود. فذهب ابن الديلمي إلى عبد الله ابن مسعود، فقال له مثل مقالته لسعد، فقال له مثل ما قال له سعد، وقال ابن مسعود: ولا عليك أن تلقى أبي بن كعب. فذهب ابن الديلمي إلى أبي ابن كعب، فقال له مثل مقالته لابن مسعود، فقال له أبي مثل مقالة صاحبيه، فقال له أبي: ولا عليك أن تلقى زيد بن ثابت. فذهب ابن الديلمي إلى زيد ابن ثابت فقال له: إني شككت في بعض القدر؛ فحدث لعل الله أن يجعل لي عندك فرجا، قال زيد: نعم يا ابن أخي، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن ¬

(¬1) الكهف الآية (104). (¬2) أخرجه عبد الله في السنة (281) وابن جرير (16/ 33) والحاكم (2/ 370) وقال: "صحيح على شرط الشيخين" ووافقه الذهبي.

عبد الله بن مغفل (57 هـ)

الله عز وجل لو عذب أهل السماء وأهل الأرض عذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم، كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم، ولو أن لامرئ مثل أحد ذهبا ينفقه في سبيل الله حتى ينفذه ولا يؤمن بالقدر خيره وشره؛ دخل النار". (¬1) عبد الله بن مُغَفَّل (¬2) (57 هـ) عبد الله بن مغفل بن عبد غَنْم المزني، أبو سعيد وأبو زياد، كان من أصحاب الشجرة سكن المدينة ثم تحول إلى البصرة، كان يقول: إني لآخذ بغصن من أغصان الشجرة أظل به النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم يبايعونه فقالوا: نبايعك على الموت؟ قال: "لا ولكن لا تفروا" (¬3). وكان أحد العشرة الذين بعثهم عمر بن الخطاب يفقهون الناس. كان أول من دخل من باب مدينة تُستر يوم فتحها. وهو أحد البكائين في غزوة تبوك. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعثمان وعبد الله بن سلام وروى عنه ثابت البناني والحسن البصري ومطرف وسعيد ابن جبير وغيرهم. مات سنة سبع وخمسين وصلى عليه أبو برزة الأسلمي لوصيته. ¬

(¬1) الإبانة (2/ 9/144 - 145/ 1588) والشريعة (1/ 402 - 403/ 462) والمرفوع تقدم تخريجه في مواقف أبي بن كعب (سنة 19هـ). (¬2) طبقات ابن سعد (7/ 13 - 14) والاستيعاب (3/ 996 - 997) والإصابة (4/ 242 - 243) وتهذيب الكمال (16/ 173) وشذرات الذهب (1/ 65) وتهذيب التهذيب (6/ 39) والسير (2/ 483 - 485). (¬3) أحمد (5/ 54) وفي سنده أبو جعفر الرازي ضعيف سيء الحفظ. لكن صح عن معقل بن يسار أنه قال: لم نبايعه على الموت، ولكن بايعناه على أن لا نفر. ورواه مسلم (3/ 1485/1858) وعن جابر عند مسلم (3/ 1483/1856) مثله.

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: روى مسلم عن ابن بريدة قال: رأى عبد الله بن المغفل رجلا من أصحابه يخذف. فقال له: لا تخذف. فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكره -أو قال- ينهى عن الخذف، فإنه لا يصطاد به الصيد، ولا ينكأ به العدو. ولكنه يكسر السن ويفقأ العين (¬1). ثم رآه بعد ذلك يخذف. فقال له: أخبرك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكره، أو ينهى عن الخذف، ثم أراك تخذف، لا أكلمك كلمة، كذا وكذا. (¬2) موقفه من الرافضة: جاء في سير أعلام النبلاء: روى السري بن يحيى، عن الحسن قال: قدم علينا عبد الله، أمره معاوية -غلاما سفيها سفك الدماء سفكا شديدا- فدخل عليه عبد الله بن مغفل فقال: انته عما أراك تصنع فإن شر الرعاء الحطمة. قال: ما أنت وذاك؟ إنما أنت من حثالة أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال: وهل كان فيهم حثالة لا أم لك. قال: فمرض ابن مغفل، فجاءه الأمير عبد الله عائدا فقال: أتعهد إلينا شيئا؟ قال: لا تصل علي، ولا تقم على قبري. (¬3) ¬

(¬1) أحمد (5/ 56) والبخاري (10/ 732/6220) ومسلم (3/ 1547/1954) وأبو داود (5/ 420 - 421/ 5270) والنسائي (8/ 417/4830) وابن ماجه (1/ 8/17). (¬2) مسلم (1954) وابن ماجه (17) والدارمي (1/ 117) والفقيه والمتفقه (1/ 390،390 - 391) والإبانة (1/ 1/259/ 96). (¬3) السير (3/ 545).

موقفه من المرجئة:

موقفه من المرجئة: عن الشيباني قال: لقيت عبد الله بن مغفل فقلت له: إن أناسا من أهل الصلاح يعيبون علي أن أقول: أنا مؤمن، فقال عبد الله: لقد خبت وخسرت إن لم تكن مؤمنا. (¬1) أم المؤمنين عائشة (¬2) (57 هـ) عائشة أم المؤمنين، الصديقة بنت الصديق، العتيقة بنت العتيق، حبيبة الحبيب، وأليفة القريب، بنت خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبي بكر عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر، القرشية التيمية، المكية، النبوية زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، أفقه نساء الأمة على الإطلاق. روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الكثير الطيب، وروت أيضا عن أبيها وعن عمر وفاطمة، وسعد. روى عنها عمر، وابنه عبد الله، وأبو هريرة، وأبو موسى، وابن عباس، وسعيد بن المسيب ومسروق. عن أبي موسى مرفوعا: "كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" (¬3). وعن الزهري، حدثني أبو سلمة أن عائشة قالت: ¬

(¬1) مصنف ابن أبي شيبة (6/ 166/30380). (¬2) طبقات ابن سعد (8/ 58 - 81) والمستدرك (4/ 3/14) والحلية (2/ 43 - 50) والبداية والنهاية (8/ 91 - 94) ومجمع الزوائد (9/ 225 - 244) وتهذيب التهذيب (12/ 433 - 436) والسير (2/ 135 - 201) وشذرات الذهب (1/ 61 - 63) والاستيعاب (4/ 1881 - 1885) والإصابة (8/ 16 - 21) والوافي (16/ 596 - 599). (¬3) أحمد (4/ 394) والبخاري (6/ 551/3411) ومسلم (4/ 1886/2431) والترمذي (4/ 242/1834) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (7/ 78/3957) وابن ماجه (2/ 1091/3280).

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عائش، هذا جبريل وهو يقرأ عليك السلام، قالت وعليه السلام ورحمة الله" (¬1). وعن عمرو بن العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمله على جيش ذات السلاسل، قال: "فأتيته، فقلت: يا رسول الله، أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة. قال: من الرجال؟ قال أبوها" (¬2). وعن مسروق أنه كان إذا حدث عن عائشة رحمها الله قال: حدثتني المبرأة الصديقة ابنة الصديق حبيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) وعن هشام عن أبيه: قال: لقد صحبت عائشة، فما رأيت أحدا قط كان أعلم بآية أنزلت ولا بفريضة، ولا بسنة، ولا بشعر، ولا أروى له، ولا بيوم من أيام العرب، ولا بنسب ولا بكذا، ولا بقضاء، ولا بطب منها، فقلت لها يا خالة: الطب من أين علمته؟ فقالت: كنت أمرض فينعت لي الشيء، ويمرض المريض فينعت له، وأسمع الناس ينعت بعضهم لبعض فأحفظه. وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة أفقه الناس، وأحسن الناس رأيا في العامة. وقال الزهري: لو جمع علم عائشة إلى جميع النساء، لكان علم عائشة أفضل. ¬

(¬1) أحمد (6/ 55) والبخاري (7/ 133/3768) ومسلم (4/ 1896/2447 (91)) وأبو داود (5/ 399/5232) والترمذي (5/ 53 - 54/ 2693) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". ورواه أيضا برقم (3881) و (3882) وابن ماجه (2/ 1218/3696). (¬2) أحمد (4/ 203) والبخاري (7/ 22/3662) ومسلم (4/ 1856/2384) والترمذي (5/ 663/3885و3886) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي في الكبرى (5/ 39/8117). (¬3) الشريعة (3/ 476/1946).

موقفها من الرافضة:

وعن عروة عن عائشة أنها تصدقت بسبعين ألفا، وأنها لترقع جانب درعها رضي الله عنها. وعن ابن المنكدر عن أم ذرة قالت: بعث ابن الزبير إلى عائشة بمال في غرارتين، يكون مائة ألف، فدعت بطبق، فجعلت تقسم في الناس، فلما أمست قالت: هاتي يا جارية فطوري، فقالت أم ذرة يا أم المؤمنين، أما استطعت أن تشتري لنا لحما بدرهم؟ قالت: لا تعنفيني لو أذكرتيني لفعلت. توفيت رضي الله عنها سنة سبع وخمسين. موقفها من الرافضة: - جاء في السير عن موسى بن طلحة قال: ما رأيت أخطب من عائشة ولا أعرب، لقد رأيتها يوم الجمل، وثار إليها الناس، فقالوا: يا أم المؤمنين، حدثينا عن عثمان وقتله. فاستجلست الناس، ثم حمدت الله، وأثنت عليه، ثم قالت: أما بعد ... فإنكم نقمتم على عثمان خصالا ثلاثا: إمرة الفتى، وضربة السوط، وموقع الغمامة المحماة، فلما أعتبنا منهن، مصتموه موص الثوب بالصابون، عدوتم به الفقر الثلاث: حرمة الشهر الحرام، وحرمة البلد الحرام، وحرمة الخلافة، والله لعثمان كان أتقاكم للرب، وأوصلكم للرحم، وأحصنكم فرجا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. (¬1) - وجاء في أصول الاعتقاد: عن محمد بن القاسم مولى هاشم قال: بلغ عائشة أن أناسا يتناولون أبا بكر فبعثت إلى أزفلة منهم فلما حضروا سدلت أستارها ثم دنت فحمدت الله وأثنت عليه وصلت على نبيها - صلى الله عليه وسلم - وعذلت ¬

(¬1) السير (13/ 584 - 585).

وقرعت وقالت: أبي وما أبيه أبي والله لا تعطوه الأيدي ذاك طود منيف وفرع مديد، هيهات كذبت الظنون، أنجح إذ كذبتم، وسبق إذ ونيتم سبق الجواد إذا استولى على الأمد، فتى قريش ناشيا وكهفها كهلا، يفك عانيها ويريش مملقها ويرأب شعثها حتى حلته قلوبها. ثم استشرى في دينه فما برحت شكيمته في ذات الله حتى اتخذ بفنائه مسجدا يحيى فيه ما أماته المبطلون، فكان رحمة الله عليه غزير الدمعة، وقيذ الجوارح شجي النشيج، فانقصفت إليه نسوان مكة وولدانها يسخرون منه ويستهزؤون به {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}، فأكبرت ذلك رجالات قريش فحنت له قسيها وفوقت له سهامها، وامتثلوه غرضا فما فلوا له سيفا ولا وضعوا له قناة، ومر على سيسبائه حتى إذا ضرب الدين بجرانه، وألقى بركته، وأرسيت أوتاده، ودخل الناس فيه أفواجا ومن كل فرقة أشتاتا وأرسالا، اختار الله لنبيه ما عنده، فلما قبض الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - نصب الشيطان رواقه ومد طنبه ونصب حبائله، وأجلب عليهم بخيله ورجله، فظن رجال أن قد تحققت أطماعهم ولات حين يرجون، وأنى والصديق بين أظهرهم، فقام حسرا مشمرا، فجمع حاشيته فرد بشيز الإسلام على غربه، ولم شعثه بطيه ... وأقام اوده بثقافه، فابذعر النفاق بوطأته، وانتاش الدين فنعشه، فلما راح الحق على أهله وقرر الرؤوس على كواهلها، وحقن الدماء في أهبها، أتته منيته فسد ثلمته بنظيره في الرحمة، وشقيقه في السيرة والمعدلة، ذاك ابن ¬

(¬1) البقرة الآية (15).

الخطاب لله أم حفلت له ودرت عليه أو حدت به ففنخ الكفرة وذيحها، وشرد الشرك شذر مذر، وبعج الأرض وبخعها، فقاءت أكلها ولفظت خبيئها، ترأمه ويصدف عنها وتصدى له ويأباها، ثم وزع فيها فيئها وودعها كما صحبها، فأروني ماذا يرثون، وأي يومي أبي تنقمون يوم مقامه إذ عدل فيكم أو يوم ظعنه وقد نظر لكم. وأستغفر الله لي ولكم. (¬1) - وعن أبي عبد الرحمن الأزدي قال: لما انقضى الجمل قامت عائشة فتكلمت فقالت: أيها الناس إن لي عليكم حرمة الأمومة وحق الموعظة، لا يهمني إلا من عصى ربه، قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين سحري ونحري وأنا إحدى نسائه في الجنة، له ادخرني ربي وخصني من كل بضاعة (والصواب بضع) ميز بي مؤمنكم من منافقكم، وفي رخص لكم في صعيد ... وأبي رابع أربعة من المسلمين وأول مسمى صديقا، قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنه راض مطوقه ... ثم اضطرب حبل الدين فأخذ بطرفيه وربق لكم اثناه، فوقذ النفاق وأغاض نبع الردة وأطفأ ما خبأت يهود وأنتم حينئذ جحظ تنتظرون الغدوة وتستمعون الصيحة، فرأب الثأي وأودم العطلة، وامتاح من المهواة واجتهد دفن الزواء، فقبض والله واطيا على هامة النفاق مذكيا نار الحرب للمشركين، يقظان في نصرة الإسلام صفوحا عن الجاهلين. (¬2) - وعن عبد الله بن شقيق العقيلي قال: قلت لعائشة أي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أحب إليه؟ قالت: أبو بكر قلت: فمن بعد؟ قالت: عمر ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (7/ 1381 - 1383/ 2472) وانظر منهاج السنة (6/ 143 - 147). (¬2) أصول الاعتقاد (7/ 1383/2473).

قلت: فمن بعده؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح قلت: فمن الرابع؟ فسكتت. (¬1) - وفيه: عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: ما رأيت أحدا ألزم للأمر الأول من عبد الله بن عمر. (¬2) - وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: أمروا بالاستغفار لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فسبوهم. (¬3) - وعن فاطمة بنت عبد الرحمن اليشكرية عن أمها قالت: دخلت على عائشة أرسلتني عمتي فقلت: يا أم المؤمنين ما ترين في الناس أكثروا في عثمان وشتموه ولعنوه؟ فقالت: لعن الله من لعنه، لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسندا ظهره إلى صدري وجبريل يوحي إليه وعثمان عن يمينه وهو يقول: اكتب عثمان، فما نزل تلك المنزلة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا كريم على الله وعلى نبيه - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) - وفيه: عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أنها ذكرت عند رجل فسبها فقيل: أتسب أمك؟ قال: ما هي أمي! فبلغها فقالت: صدق أنا أم المؤمنين وأما الكافرون فلست لهم بأم. (¬5) - وفيه: عن سعيد بن يحيى بن عيسى عن أبيه عن عائشة أنها قالت: لا ¬

(¬1) أخرجه أحمد (6/ 218) وابن ماجة (1/ 38/102) واللالكائي في أصول الاعتقاد (7/ 1393/2494). (¬2) أصول الاعتقاد (7/ 1418/2547). (¬3) مسلم (4/ 2317/3022). وهو في أصول الاعتقاد (7/ 1323/2349) والشريعة (3/ 544/2042). (¬4) أصول الاعتقاد (7/ 1427/2564). (¬5) أصول الاعتقاد (8/ 1523/2768) والشريعة (3/ 494/1968).

موقفها من الصوفية:

ينتقصني أحد في الدنيا إلا تبرأت منه في الآخرة. (¬1) - عن القاسم بن محمد أن معاوية بن أبي سفيان رحمه الله، حين قدم المدينة يريد الحج دخل على عائشة رحمها الله فكلمها خاليين لم يشهد كلامهما إلا ذكوان أبو عمرو ومولى عائشة، رحمها الله، فكلمها معاوية فلما قضى كلامه تشهدت عائشة، رحمها الله، ثم ذكرت ما بعث الله به نبيه - صلى الله عليه وسلم - من الهدى ودين الحق والذي سن الخلفاء بعده، وحضت معاوية على اتباع أمرهم، فقالت في ذلك فلم تترك، فلما قضت مقالتها، قال لها معاوية: أنت والله العالمة بالله وبأمر رسوله الناصحة المشفقة البليغة الموعظة حضضت على الخير وأمرت به ولم تأمرينا إلا بالذي هو خير لنا وأنت أهل أن تطاعي. فتكلمت هي ومعاوية كلاما كثيرا، فلما قام معاوية اتكأ على ذكوان ثم قال: والله ما سمعت خطيبا قط ليس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبلغ من عائشة رضي الله عنها. (¬2) موقفها من الصوفية: عن هشام بن حسان قال: قيل لعائشة رضي الله عنها: إن قوما إذا سمعوا القرآن يغشى عليهم، فقالت: إن القرآن أكرم من أن تنزف عنه عقول الرجال ولكنه كما قال الله تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (¬3). (¬4) ¬

(¬1) أصول لاعتقاد (8/ 1523/2769). (¬2) الشريعة (3/ 483/1960). (¬3) الزمر الآية (23). (¬4) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن (2/ 16/374).

موقفها من الجهمية:

موقفها من الجهمية: - روى البخاري في صحيحه: عن عائشة رضي الله عنها قالت: والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحياً يتلى ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله عز وجل في بأمر يتلى. (¬1) - وعنها قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت خولة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تشكو زوجها، فكان يخفى علي كلامها، فأنزل الله عز وجل {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} (¬2) الآية. (¬3) موقفها من الخوارج: - جاء في الفتح: وإنما وقع هذا -يعني قول عائشة رضي الله عنها: إذا أعجبك حسن عمل امرئ ... - في قصة ذكرها البخاري في كتاب خلق أفعال العباد (¬4) من رواية عقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت ... -وذكرت الذي كان من شأن عثمان-: وددت أني كنت نسيا منسيا فوالله ما أحببت أن ينتهك من عثمان أمر قط إلا انتهك مني مثله حتى والله لو أحببت قتله لقتلت، يا عبد الله بن عدي لا يغرنك أحد بعد الذين تعلم، فوالله ¬

(¬1) أخرجه أحمد (6/ 194 - 197) والبخاري (8/ 578 - 581/ 4750) ومسلم (4/ 2129 - 2137/ 2770) وأبو داود (5/ 103 - 104/ 4735) والترمذي (5/ 310 - 313/ 3180) دون ذكر موضع الشاهد، والنسائي في الكبرى (5/ 295 - 300/ 8931). (¬2) المجادلة الآية (1). (¬3) أخرجه أحمد (6/ 46) والنسائي (6/ 480/3460) وابن ماجه (1/ 666/2063) وعلقه البخاري (13/ 460). (¬4) (ص51ح143)، وأخرجه أيضا عبد الرزاق (11/ 447/20967).

ما احتقرت أعمال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نجم النفر الذين طعنوا في عثمان فقالوا قولا لا يحسن مثله، وقرءوا قراءة لا يحسن مثلها، وصلوا صلاة لا يصلى مثلها، فلما تدبرت الصنيع إذا هم والله ما يقاربون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أعجبك حسن قول امرئ فقل: {اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} (¬1) ولا يستخفنك أحد. وأخرجه ابن أبي حاتم من رواية يونس بن يزيد عن الزهري أخبرني عروة أن عائشة كانت تقول: احتقرت أعمال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين نجم القراء الذين طعنوا على عثمان. فذكر نحوه وفيه: فوالله ما يقاربون عمل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أعجبك حسن عمل امرئ منهم فقل اعملوا الخ والمراد بالقراء المذكورين الذين قاموا على عثمان وأنكروا عليه أشياء اعتذر عن فعلها، ثم كانوا مع علي ثم خرجوا بعد ذلك على علي. (¬2) - وجاء في الشريعة: عن يزيد بن أبي زياد؛ قال: سألت سعيد بن جبير، عن أصحاب النهر؟ فقال: حدثني مسروق؛ قال: سألتني عائشة رضي الله عنها فقالت: هل أبصرت أنت الرجل الذي يذكرون ذا الثدية؟ قال: قلت: لم أره، ولكن قد شهد عندي من قد رآه، قالت: فإذا قدمت الأرض فاكتب إلي بشهادة نفر قد رأوه أمناء. فجئت والناس أشياع؛ قال: فكلمت من كل سبع عشرة ممن قد رآه؛ قال: فقلت: كل هؤلاء عدل رضى، ¬

(¬1) التوبة الآية (105). (¬2) الفتح (13/ 617).

فقالت: قاتل الله فلانا، فإنه كتب إلي: أنه أصابه بمصر. (¬1) - وعن عاصم بن كليب عن أبيه قال كنت جالسا عند علي إذ جاء رجل عليه ثياب السفر فاستأذن على علي وهو يكلم الناس فشغل عنه فأقبلنا فسألناه من أين قدمت؟ ما خبرك؟ قال خرجت معتمرا فلقيت عائشة فقالت: ما هؤلاء الذين خرجوا من بلادكم يسمون حرورا؟ قال: قلت خرجوا من أرضنا إلى مكان يسمى حروراء به يدعون. قالت: طوبى لمن قتلهم أما والله لو شاء ابن أبي طالب لخبرهم خبرهم. قال فأهل علي وكبر ثم أهل وكبر ثم أهل وكبر فقال: إني دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده عائشة فقال لي: كيف أنت وقوم كذا وكذا، قال عبد الله بن إدريس وصف صفتهم، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: قوم يخرجون من قبل المشرق يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فيهم رجل مخدج اليد كأن يده ثدي حبشية، أنشدكم الله هل أخبرتكم أنه فيهم فأتيتموني فأخبرتموني أنه ليس فيهم فحلفت بالله لكم إنه فيهم، فأتيتموني تسحبونه كما نعت لكم. قالوا: اللهم نعم، قال: فأهل علي وكبر. (¬2) - وقال الإمام مسلم: وحدثنا عبد بن حميد، أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن عاصم عن معاذة قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟ قلت: لست ¬

(¬1) الشريعة (1/ 152/59) والبيهقي في الدلائل (6/ 434). (¬2) السنة لعبد الله (269 - 270) وأخرجه البزار في مسنده (2/ 362/1855 كشف الأستار) وأبو يعلى في مسنده (1/ 363 - 364/ 472)، وقال الهيثمي في المجمع (6/ 238 - 239): "رواه أبو يعلى، ورجاله ثقات، ورواه البزار بنحوه".

موقفها من المرجئة:

بحرورية، ولكني أسأل. قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة. (¬1) موقفها من المرجئة: جاء عن عبد الرحمن بن عصمة قال: كنت عند عائشة فأتاها رسول معاوية بهدية فقال: أرسل بها إليك أمير المؤمنين. فقالت: أنتم المؤمنون إن شاء الله وهو أميركم. وقد قبلت هديته. (¬2) موقفها من القدرية: - جاء في أصول الاعتقاد عن عائشة: إن العبد ليعمل الزمان بعمل أهل الجنة وإنه عند الله لمكتوب من أهل النار. (¬3) - وروى الآجري عن مسروق قال: دخلت أنا وأبو عطية على عائشة رضي الله عنها. فقلنا لها: يا أم المؤمنين، إن أبا عبد الرحمن يعني ابن مسعود يقول: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، فأينا يحب الموت؟ فقالت: يرحم الله ابن أم عبد، حدث أول الحديث وأمسك عن آخره، ثم أنشأت تحدث. فقالت: إذا أراد الله بعبد خيرا بعث إليه ملكا قبل موته بعام يسدده ويوفقه، حتى يموت على خير أحايينه، فيقول الناس: مات فلان على خير أحايينه، فإذا حضر ورأى ما أعد له، جعل ¬

(¬1) مسلم (335) وبنحوه عند البخاري (321). (¬2) السنة لعبد الله (101) والإيمان لابن أبي شيبة (25) والمصنف له (6/ 165/30375) مختصرا و (6/ 189 - 190/ 30572) مطولا، وأصول الاعتقاد (5/ 1021/1723). (¬3) أصول الاعتقاد (4/ 751/1243).

أبو هريرة (58 هـ)

يتهوع نفسه من الحرص على أن يخرج؛ هناك: أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإذا أراد الله بعبد غير ذلك، قيض له شيطانا قبل موته بعام يغويه ويصده حتى يموت على شر أحايينه؛ فيقول الناس: مات فلان على شر أحايينه، فإذا حضر ورأى ما أعد له حتى يبتلع نفسه، كراهية أن تخرج، هناك: كره لقاء الله، وكره الله لقاءه. (¬1) أبو هريرة (¬2) (58 هـ) الإمام الفقيه، المجتهد الحافظ، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو هريرة بن عامر الدوسي اليماني، سيد الحفاظ، الأثبات. اختلف في اسمه على أقوال ¬

(¬1) عبد الرزاق (3/ 587/6749) والأجري في الشريعة (1/ 462 - 463/ 605 - 606) كلاهما عن مسروق قال: دخلت أنا وأبو عطية على عائشة رضي الله عنها فقلنا لها: يا أم المؤمنين إن أبا عبد الرحمن يعني ابن مسعود يقول: فذكره. والحديث قد ورد من طرق أخرى صحيحة منها: حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أخرجه: أحمد (5/ 316،321) والبخاري (11/ 434/6507) ومسلم (4/ 2065/2683) والترمذي (3/ 379/1066) وقال: "حديث عبادة بن الصامت حسن صحيح". والنسائي (4/ 308/1835). حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه: أحمد (2/ 313،346،420) والبخاري (13/ 570/7504) ومسلم (4/ 2066/2685) والنسائي (4/ 307/1833 - 1834). حديث عائشة رضي الله عنها أخرجه: أحمد (6/ 44،55،207،236) والبخاري تعليقا (11/ 434/6507) ومسلم (4/ 2065 - 2066/ 2684) والترمذي (3/ 379 - 380/ 1067) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (4/ 308/1837) وابن ماجه (2/ 1425/4264). حديث أبي موسى رضي الله عنه أخرجه: البخاري (11/ 434/6508 ومسلم (4/ 2067/2686). (¬2) الإصابة (7/ 425 - 445) والاستيعاب (4/ 1768 - 1772) وطبقات ابن سعد (2/ 362 - 364) والسير (2/ 578 - 632) والمستدرك (3/ 506) والحلية (1/ 376 - 385) والبداية والنهاية (8/ 103 - 115) ومجمع الزوائد (9/ 361 - 362) وشذرات الذهب (1/ 63 - 64) والمعرفة والتاريخ (1/ 476 - 491).

موقفه من المبتدعة:

جمة، أرجحها: عبد الرحمن بن صخر والمشهور عنه أنه كني بأولاد هرة برية، قال وجدتها فأخذتها في كمي فكنيت بذلك. حمل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - علما كثيرا طيبا مباركا فيه، ولم يلحق في كثرته، وحمل عن أُبَيّ وأبي بكر وعمر وأسامة وعائشة وغيرهم. وحدث عنه خلق كثير من الصحابة والتابعين. صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة أعوام. وقد جاع أبو هريرة واحتاج، ولزم المسجد، وقال رضي الله عنه: لقد رأيتني أصرع بين القبر والمنبر من الجوع، حتى يقولوا مجنون. وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث يحدثه: "إنه لن يبسط أحد ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ثم يجمع إليه ثوبه إلا وعى ما أقول، فبسطت نمرة علي، حتى إذا قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالته جمعتها إلى صدري، فما نسيت من مقالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك من شيء" (¬1). قال الذهبي: وأبو هريرة إليه المنتهى في حفظ ما سمعه من الرسول عليه السلام وأدائه بحروفه. وقد ولي أبو هريرة البحرين لعمر. توفي رضي الله عنه سنة ثمان وخمسين للهجرة. موقفه من المبتدعة: - جاء في الإبانة: عن نافع بن سرجس عن أبي هريرة قال: يا أيها الناس أظلتكم فتن كأنها قطع الليل المظلم أنجى الناس منها -أو قال فيها- صاحب شياه يأكل من غنمه أو رجل من وراء الدرب آخذ بعنان فرسه ¬

(¬1) أحمد (2/ 240) والبخاري (4/ 361/2047) ومسلم (4/ 1939/2492) والترمذي (5/ 642/3834) بنحوه وقال: "هذا حديث حسن غريب".

يأكل من سيفه. (¬1) - وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: توضئوا مما مست النار، ولو من ثور من أقط. فقال له ابن عباس: يا أبا هريرة: إنا لنتوضأ بالحميم وقد أغلي على النار، وإنا لندهن بالدهن وقد طبخ على النار، فقال أبو هريرة: يا ابن أخي: إذا سمعت بالحديث يحدث به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا تضرب له الأمثال. (¬2) - وعن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا استيقظ أحدكم من منامه فليفرغ على يديه من إنائه ثلاث مرات، فإنه لا يدري أين باتت يده (¬3). قال قين الأشجعي: فما يصنع بالمهراس، يا أبا هريرة؟ قال أبو هريرة: أعوذ بالله من شرك يا قين. (¬4) " الغريب: المهراس: هو حجر منقور مستطيل، عظيم كالحوض، يتوضأ منه الناس. (¬5) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 4/594 - 595/ 759). (¬2) أحمد (2/ 427) و (1/ 366) من مسند ابن عباس. والترمذي (1/ 114 - 115/ 79) والنسائي (1/ 114/174) وابن ماجه (1/ 163/485) وأخرجه بدون ذكر القصة. ومسلم (1/ 272 - 273/ 352) وأبو داود (1/ 134/194). والحديث قد نسخ. (¬3) أحمد (2/ 241) والبخاري (1/ 349/162) ومسلم (1/ 233/278) وأبو داود (1/ 76/103) والترمذي (1/ 36/24) والنسائي (1/ 107/161) وابن ماجه (1/ 138 - 139/ 393). (¬4) أحمد في المسند (2/ 382) والهروي في ذم الكلام (2/ 238 - 239 طبعة الأنصاري) والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 47) إلا أن في المسند والسنن الكبرى 'قيس الأشجعي' بدل 'قين الأشجعي' والصحيح ما هو مثبت. انظر الإصابة (5/ 567) وأسد الغابة (4/ 431). (¬5) اللسان (6/ 248).

موقفه من المشركين:

- وروى الدارمي بسنده إلى أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: بينما رجل يتبختر في بردين خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، فقال له فتى -قد سماه وهو في حلة- يا أبا هريرة أهكذا كان يمشي ذلك الفتى الذي خسف به؟ ثم ضرب بيده فعثر عثرة كاد يتكسر منها فقال أبو هريرة للمنخرين وللفم: إنا كفيناك المستهزئين. (¬1) موقفه من المشركين: روى الإمام مسلم: عن أبي هريرة قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يزالون يسألونك يا أبا هريرة، حتى يقولوا: هذا الله. فمن خلق الله؟ قال، فبينا أنا في المسجد إذ جاءني ناس من الأعراب. فقالوا: يا أبا هريرة، هذا الله. فمن خلق الله؟ قال، فأخذ حصى بكفه فرماهم. ثم قال: قوموا، قوموا، صدق خليلي. (¬2) موقفه من الجهمية: - جاء في أصول الاعتقاد: عن سالم أبي النضر أن أبا هريرة كان يذكر: أنكم لن تروا ربكم حتى تذوقوا الموت. (¬3) - وفيه: عن سعيد بن المسيب قال: رأيت أبا هريرة صلى على منفوس ¬

(¬1) رواه الدارمي (1/ 116) وفيه عبد الله بن صالح كاتب الليث صدوق كثير الخطأ. وأحمد (2/ 413) بقصة مشابهة، قال الشيخ أحمد شاكر 1/ 109): "إسناده صحيح". والمرفوع منه رواه أحمد (2/ 315،492) والبخاري (10/ 316/5789) ومسلم (3/ 1653 - 1654/ 2088). (¬2) مسلم (1/ 121/135) وأبو داود (5/ 91 - 92/ 4721) وأحمد (2/ 387) وفي سند أحمد عمر بن أبي سلمة وهو ضعيف وبقية رجاله ثقات. والمرفوع منه أخرجه البخاري 6/ 413/3276) من حديث أبي هريرة بلفظ آخر. (¬3) أصول الاعتقاد (3/ 553/865).

موقفه من الخوارج:

لم يعمل خطيئة قط فقال: اللهم أعذه من عذاب القبر. (¬1) موقفه من الخوارج: جاء في المصنف لابن أبي شيبة عن عمير بن إسحاق قال: ذكروا الخوارج عند أبي هريرة قال: أولئك شرار الخلق. (¬2) موقفه من المرجئة: - عن عبد الله بن ربيعة الحضرمي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: (الإيمان يزداد وينقص). (¬3) - وجاء في أصول الاعتقاد: عن أبي هريرة أنه قال: إذا أتى الرجل امرأة حراما فارقه الإيمان هكذا -ووضع إحدى يديه على الأخرى- ووصفها سويد بيديه ثم فرق بينهما قليلا ثم قال: يفارقه الإيمان هكذا فإذا رجع راجعه الإيمان، ورد إحداهما على الأخرى. (¬4) - وعنه رضي الله عنه قال: الإيمان نزه فمن زنا فارقه الإيمان، فإن لام نفسه ورجع راجعه الإيمان. (¬5) موقفه من القدرية: - وفي السنة لعبد الله عن موسى بن وردان عن أبي هريرة رضي الله عنه ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (6/ 1210/2141) وعبد الرزاق (3/ 533/6110) والبيهقي (4/ 9 - 10). (¬2) مصنف ابن أبي شيبة (7/ 553/37885). (¬3) السنة (84) والإبانة (2/ 844/1127 - 1130) وأصول الاعتقاد (5/ 1016/1711) والشريعة (1/ 260/237). (¬4) أصول الاعتقاد (6/ 1090/1869) والسنة لعبد الله (ص.98). (¬5) أصول الاعتقاد (6/ 1090/1870) والشريعة (1/ 267/253) والسنة لعبد الله (101) والإيمان لابن أبي شيبة (16) وهو في المصنف (6/ 165/30368) والسنة للخلال (4/ 100/1259).

سمرة بن جندب (58 هـ)

قال: سيكون ناس يصدقون بقدر ويكذبون بقدر. قال موسى: فيلعنهم أبو هريرة عند قوله هذا. (¬1) - وروى عبد الله بن الإمام أحمد بالسند إلى عمار مولى بني هاشم قال: سألت أبا هريرة عن القدر. فقال: أكتفي منه بآخر سورة الفتح. (¬2) سمرة بن جندب (¬3) (58 هـ) سَمُرَة بن جُنْدُب بن هلال الفَزَارِي، من علماء الصحابة، نزيل البصرة، كان الحسن وابن سيرين وفضلاء أهل البصرة يثنون عليه ويجيبون عنه، وقال ابن سيرين: في رسالة سمرة إلى بنيه علم كثير. وكان زياد يستخلفه على البصرة ستة أشهر وعلى الكوفة ستة أشهر وكان شديدا على الخوارج ويقول: شر قتلى تحت أديم السماء. وعن محمد بن سيرين قال: كان سمرة -فيما علمت- عظيم الأمانة صدوق الحديث يحب الإسلام وأهله. وكان من الحفاظ المكثرين. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن عبيدة ابن الجراح، وروى عنه الأسقع وثعلبة بن عباد والحسن البصري وغيرهم. توفي رضي الله عنه سنة ثمان وخمسين. ¬

(¬1) السنة (140). (¬2) السنة لعبد الله (142). (¬3) الاستيعاب (2/ 653 - 655) والإصابة (3/ 178 - 179) وتهذيب الكمال (12/ 130) وتهذيب التهذيب (4/ 213) والسير (3/ 183 - 186).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: جاء في البدع لابن وضاح: عن سمرة بن جندب قال: لا تقوم الساعة حتى تروا أمورا عظاما لم تكونوا ترونها ولا تحدثون بها أنفسكم. (¬1) موقفه من الخوارج: جاء في السير: وكان شديدا على الخوارج، قتل منهم جماعة. (¬2) - قال وهب: حدثني أبي: أن زيادا اشتد في أمر الحرورية بعد قريب وزحاف (¬3)، فقتلهم وأمر سمرة بذلك، وكان يستخلفه على البصرة إذا خرج إلى الكوفة فقتل سمرة منهم بشرا كثيرا. (¬4) اهـ - وعن محمد بن سليم قال: سألت: أنس بن سرين: هل كان سمرة قتل أحدا؟ قال: وهل يحصى من قتل سمرة بن جندب استخلفه زياد على البصرة، وأتى الكوفة، فجاء وقد قتل ثمانية آلاف من الناس، فقال له: هل تخاف أن تكون قد قتلت أحدا بريئا؟ قال: لو قتلت إليهم مثلهم ما خشيت أو كما قال. (¬5) ¬

(¬1) ما جاء في البدع (ص.176). (¬2) السير (3/ 186). (¬3) قال سعيد بن يزيد: كان قريب وزحاف أول من خرج بعد أهل النهراوان من الحرورية. تاريخ خليفة (ص.221). (¬4) تاريخ الطبري (3/ 209) وتاريخ خليفة (ص222). (¬5) تاريخ الطبري (3/ 208).

عقبة بن عامر الجهني (58 هـ)

عقبة بن عامر الجهني (¬1) (58 هـ) عُقْبَة بن عامر بن عَبْس بن عدي بن عمروبن رفاعة الجُهَنِي يكنى أبا حماد، وقيل: أبا عمرو ويقال: أبو الأسد المصري صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم -. روى عنه من الصحابة ابن عباس وجابر بن عبد الله وأبو أمامة الباهلي وغيرهم. ومن التابعين: أبو الخير، وعلي بن رباح وأبو قبيل، وسعيد ابن المسيب وغيرهم. كان عالما مقرئا فصيحا فقيها فرضيا شاعرا كبير الشأن. وهو كان البريد إلى عمر بفتح دمشق. وله دار بخط باب توما. وشهد صفين مع معاوية وأمره بعد ذلك على مصر ثم عزله بعد ثلاث سنين وأغزاه البحر. وكان من أصحاب الصفة، وكان من الرماة المذكورين مات سنة ثمان وخمسين رضي الله عنه. موقفه من الخوارج: عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس قال: ... وذكرت الخوارج عند ابن عامر، فذكر من اجتهادهم، فقال: ليسوا بأشد اجتهادا من اليهود والنصارى ثم هم يقتلون. (¬2) موقفه من المرجئة: عن عقبة بن عامر قال: إن الرجل ليتفضل بالإيمان كما يتفضل ثوب المرأة. (¬3) ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (4/ 343 - 344) والاستيعاب (3/ 1073 - 1074) وأسد الغابة (4/ 51 - 52) وتهذيب الكمال (20/ 202 - 205) والسير (2/ 467 - 469) والإصابة (4/ 520 - 521). (¬2) المصنف لعبد الرزاق (10/ 120/18581). (¬3) السنة لعبد الله (93) وأصول الاعتقاد (5/ 1018/1716).

عمرو بن أمية (قبل 60 هـ)

عمرو بن أمية (¬1) (قبل 60 هـ) عمْرو بن أُمَيَّة بن خُوَيْلِد، أبو أُمَيَّة الضَّمْرِي، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وروى عنه ابناه جعفر وعبد الله وابن أخيه الزبرقان بن عبد الله وأبو قلابة الجرمي وآخرون. شهد بدرا وأحدا مع المشركين، ثم أسلم حين انصرف المشركون عن أحد. وكان رضي الله عنه رجلا شجاعا له إقدام، وأول مشهد شهده مسلما بئر معونة، فأسرته بنو عامر، فقال له عامر بن الطفيل: إنه قد كان على أمي نسمة فأنت حر عنها، وجز ناصيته. بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية وحده إلى قريش، وأرسله إلى النجاشي يدعوه إلى الإسلام، فأسلم، ويأمره أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب، فزوجه إياها، وأصدق عنه أربعمائة دينار، ويرسل من عنده من المسلمين، ففعل. توفي رضي الله عنه آخر أيام معاوية، قبل الستين. موقفه من المشركين: جاء في السير: عن جعفر بن عمرو بن أمية، قال: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - عمرو ابن أمية إلى النجاشي، فوجد لهم بابا صغيرا يدخلون منه مُكَفِّرين (¬2) فدخل منه القهقرى، فشق عليهم، وهموا به، فقال له النجاشي: ما منعك؟ قال: إنا لا نصنع هذا بنبينا، قال: صدق، دعوه، فقيل للنجاشي: إنه يزعم أن عيسى ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (4/ 248) والاستيعاب (3/ 1162 - 1163) وتاريخ دمشق (45/ 418 - 430) وأسد الغابة (4/ 181 - 182) وتهذيب الكمال (21/ 545 - 547) وسير أعلام النبلاء (3/ 179 - 181). (¬2) أي منحنين.

معاوية بن أبي سفيان (60 هـ)

عبد. قال: ما تقولون في عيسى؟ قال: كلمة الله وروحه، قال: ما استطاع عيسى أن يعدو ذلك. (¬1) معاوية بن أبي سفيان (¬2) (60 هـ) يكنى أبا عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان واسم أبيه صخر بن حرب، وأمه هند بنت عتبة، وهو من مسلمة الفتح هو وأبوه وأخوه وأمه، فهو خال المؤمنين وكاتب وحي رب العالمين. جاء عنه أنه قال: أسلمت يوم عمرة القضاء ولكني كتمت إسلامي من أبي إلى يوم الفتح. ولاه عمر على الشام بعد موت أخيه يزيد. وقال عمر إذ دخل الشام ورأى معاوية: هذا كسرى العرب. وعن ابن عمر قال: ما رأيت أحدا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسود من معاوية فقيل له: فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي؟ فقال: كانوا والله خيرا من معاوية وكان معاوية أسود منهم. بويع له بالخلافة سنة إحدى وأربعين فسمي عام الجماعة. قال محمد بن إسحاق: كان معاوية أميرا عشرين سنة وخليفة عشرين سنة. قال فيه ابن عباس: ليس أحد منا أعلم من معاوية، وفي لفظ قيل له إن معاوية أوتر بركعة فقال: إنه فقيه. وسئل الإمام أحمد أيما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال: لغبار لحق بأنف جواد معاوية بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير من عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأماتنا على ¬

(¬1) السير (3/ 180 - 181). (¬2) الاستيعاب (3/ 1416 - 1422) والإصابة (6/ 151 - 155) والسير (3/ 119) وتهذيب الكمال (28/ 176) وشذرات الذهب (1/ 65) والبداية والنهاية (8/ 21).

موقفه من المبتدعة:

محبته. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان وأخته أم حبيبة وغيرهم، وروى عنه ثابت بن سعد وابن عباس وجرير البجلي وغيرهم. مات في رجب سنة ستين رضي الله عنه. موقفه من المبتدعة: - جاء في ذم الكلام: عن محمد بن جبير بن مطعم أن معاوية قام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد: فإنه بلغني أن رجالا منكم يتحدثون بأحاديث ليست في كتاب الله ولا تعرف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولئك جهالكم. (¬1) " التعليق: لا شك أن المبتدعة يعتمدون في كتبهم على الموضوعات والمكذوبات، ومن شك في ذلك فلينظر كتبهم يجدها مليئة بذلك. هذا إن اعتمدوا على النص ولم يحرفوا معناه. وأما إن اعتمدوا أصولا أخرى وضعوها لتقعيد بدعتهم فذاك أمر آخر. - وروى ابن بطة (¬2) بسنده إلى الأوزاعي عن عبادة بن نسي قال: تذاكروا عند معاوية المسائل فرد بعضهم على بعض فقال: ألم تسمعوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الأغلوطات. (¬3) ¬

(¬1) ذم الكلام (ص.184) والإحكام لابن حزم (8/ 31) وذكره ابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 253). (¬2) الإبانة (1/ 2/401/ 301). (¬3) أخرجه أحمد (5/ 435) وأبو داود (4/ 65/3656). كلهم من طريق الأوزاعي عن عبد الله بن سعد، عن الصنابحي عن معاوية مرفوعا. وفيه عبد الله بن سعد، قال الذهبي في الميزان: "مجهول". وقال الشيخ الألباني: "سنده ضعيف".

موقفه من المشركين:

- وقال ابن تيمية في المنهاج: طاف ابن عباس ومعاوية، فجعل معاوية يستلم الأركان الأربعة، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يستلم إلا الركنين اليمانيين فقال معاوية: ليس من البيت شيء مهجورا، فقال ابن عباس رضي الله عنه: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، فقال معاوية: صدقت، ورجع إلى قوله. (¬1) - وروى البخاري عن حميد بن عبد الرحمن أنه: سمع معاوية بن أبي سفيان -عام حج- على المنبر، فتناول قصة من شعر-كانت في يد حرسي- فقال: يا أهل المدينة، أين علماؤكم؟ سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن مثل هذه ويقول: إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذها نساؤهم. (¬2) موقفه من المشركين: عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز أن معاوية قال: إن تسوية القبور من السنة، وقد رفعت اليهود والنصارى، فلا تشبهوا بهم. (¬3) موقفه من الجهمية: روى اللالكائي في أصول الاعتقاد بسنده إلى حسان بن عطية قال: قال معاوية: قصيرة من طويلة، من أتاكم يزعم أنه ربكم فاعلموا أنكم لن ¬

(¬1) المنهاج (2/ 448) والقصة رواها: أحمد (1/ 217) والبخاري (3/ 603 - 604/ 1608) والترمذي (3/ 213/858). (¬2) أحمد (4/ 95،97 - 98) والبخاري (6/ 634 - 635/ 3468) ومسلم (3/ 1679/2127) وأبو داود (4/ 396/4167) والترمذي (5/ 96/2781) والنسائي (8/ 570/5260). (¬3) الاقتضاء (1/ 342).

موقفه من الخوارج:

تروا ربكم عز وجل حتى تموتوا. (¬1) موقفه من الخوارج: قال ابن جرير في أحداث سنة إحدى وأربعين هجرية: وفيها خرجت الخوارج التي اعتزلت أيام علي رضي الله عنه بشهرزور على معاوية. ذكر خبرهم: حدثت عن زياد عن عوانة قال قدم معاوية قبل أن يبرح الحسن من الكوفة حتى نزل النخيلة، فقالت الحرورية -الخمسمائة التي كانت اعتزلت بشهرزور مع فروة بن نوفل الأشجعي- قد جاء الآن ما لا شك فيه فسيروا إلى معاوية فجاهدوه، فأقبلوا وعليهم فروة بن نوفل حتى دخلوا الكوفة، فأرسل إليهم معاوية خيلا من خيل أهل الشام، فكشفوا أهل الشام، فقال معاوية لأهل الكوفة: لا أمان لكم والله عندي حتى تكفوا بوائقكم. فخرج أهل الكوفة إلى الخوارج فقاتلوهم، فقالت لهم الخوارج: ويلكم ما تبغون منا، أليس معاوية عدونا وعدوكم دعونا حتى نقاتله، وإن أصبناه كنا قد كفيناكم عدوكم، وإن أصابنا كنتم قد كفيتمونا. قالوا: لا والله حتى نقاتلكم؛ فقالوا: رحم الله إخواننا من أهل النهر هم كانوا أعلم بكم يا أهل الكوفة، وأخذت أشجع صاحبهم فروة بن نوفل وكان سيد القوم واستعملوا عليهم عبد الله بن أبي الحر رجلا من طيء فقاتلوهم فقتلوا. (¬2) موقفه من القدرية: جاء في أصول الاعتقاد حدثنا إسماعيل عن قيس قال: مرض معاوية ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (3/ 552/863). (¬2) تاريخ الطبري (3/ 169) والبداية والنهاية (8/ 23).

عائذ بن عمرو (61 هـ)

مرضا عيد فيه، فجعل يقلب ذراعيه -كأنها عسيب نخل- وهو يقول: هل الدنيا إلا ما ذقنا وجربنا والله لوددت أني لا أغبر فيكم فوق ثلاث حتى ألحق الله. قالوا: إلى مغفرة الله ورحمته. قال: إلى ما شاء الله من قضاء ... (¬1) عائذ بن عمرو (¬2) (61 هـ) عائذ بن عمرو بن هلال بن عبيد بن يزيد المُزَنِي أبو هُبَيْرَة البصري. روى عنه الحسن ومعاوية بن قرة وسوادة بن عاصم وغيرهم. كان ممن بايع بيعة الرضوان تحت الشجرة وكان من صالحي الصحابة سكن البصرة وابتنى بها دارا. توفي في إمارة عبد الله بن زياد أيام يزيد بن معاوية، قال ابن حجر: أرخه ابن قانع سنة إحدى وستين، وأوصى أن يصلي عليه أبو برزة الأسلمي لئلا يصلي عليه ابن زياد. موقفه من الخوارج: جاء في السنة لعبد الله عن أبي إياس معاوية بن قرة قال: خرج حروري محكم فخرج إليه ناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مزينة بأسيافهم منهم عائذ بن عمرو. (¬3) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (8/ 1534/2791). (¬2) طبقات ابن سعد (7/ 31) والاستيعاب (2/ 799) وأسد الغابة (3/ 146) وتهذيب الكمال (14/ 98 - 100) والوافي بالوفيات (16/ 595) وتهذيب التهذيب (5/ 89) والإصابة (3/ 609 - 610). (¬3) السنة لعبد الله (ص.280).

الحسين بن علي (61 هـ)

الحسين بن علي (¬1) (61 هـ) سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وريحانته من الدنيا ومحبوبه، أبو عبد الله الحسين ابن أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي القرشي الهاشمي. حدث عن جده وأبويه وصهره عمر وطائفة. حدث عنه ولداه علي وفاطمة وعبيد بن حنين، وهمام الفرزدق وعكرمة والشعبي وطلحة العقيلي، وابن أخيه زيد بن الحسن وحفيده محمد ابن علي الباقر، ولم يدركه، وبنته سكينة وآخرون. قال الزبير: مولده في خامس شعبان سنة أربع من الهجرة. قال جعفر الصادق بين الحسن والحسين في الحمل طهر واحد. عن علي قال: الحسين أشبه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صدره إلى قدميه. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه وفي الحسن: "هما ريحانتاي من الدنيا" (¬2) وقال أيضا: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة" (¬3) وغيرها من الأحاديث. وكان ¬

(¬1) التاريخ الكبير (2/ 381) والجرح والتعديل (3/ 55) والاستيعاب (1/ 392 - 399) وتاريخ بغداد (1/ 141) والكامل في التاريخ (4/ 61) والسير (3/ 280 - 321) والبداية والنهاية (5/ 152 وما بعدها) والإصابة (2/ 76 - 81) وأسد الغابة (2/ 24 - 30) وتهذيب الكمال (6/ 396 - 449) وتهذيب التهذيب (2/ 345) وشذرات الذهب (1/ 66). (¬2) أحمد (2/ 85 و93) والبخاري (7/ 119/3753) والترمذي (5/ 615/3770) وقال: "هذا حديث صحيح". والنسائي في الكبرى (5/ 150/8530). (¬3) أحمد (3/ 3) والترمذي (5/ 614/3768) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي في الكبرى (5/ 150/8528) وابن حبان (15/ 411 - 412/ 6959 الإحسان) الحاكم (3/ 166 - 167) وقال: "هذا حديث قد صح من أوجه كثيرة، وأنا أتعجب أنهما لم يخرجاه". وتعقبه الذهبي بقوله: "الحكم فيه لين". وزاد النسائي وابن حبان والحاكم: "إلا ابني الخالة عيسى بن مريم، ويحيى بن زكريا". وفي الباب عن حذيفة بن اليمان وعلي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم وغيرهم من الصحابة.

موقفه من المبتدعة:

رضي الله عنه فاضلا دينا كثير الصيام والصلاة والحج. قال مصعب الزبيري: حج الحسين خمسا وعشرين حجة ماشيا. قتل رضي الله عنه يوم الجمعة لعشر خلت من المحرم يوم عاشوراء سنة إحدى وستين بموضع يقال له كربلاء من أرض العراق بناحية الكوفة، قتله سنان بن أنس النخعي ويقال له أيضا: سنان بن أبي سنان النخعي، الجوشي. وأهل الكوفة يقولون: قاتله هو عمر بن سعد ابن أبي وقاص أمير الجيش الذي قاتل الحسين رضي الله عنه. موقفه من المبتدعة: جاء في أصول الاعتقاد: عن سفيان بن حسين عن الحسين {مَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} (¬1) قال: على السنة. (¬2) موقفه من الرافضة: عن أسلم قال: حدثني من كان في الصف في يوم الحسين رضي الله عنه فقال: ابتدر رجل فقال: أيكم الحسين؟ قال: كان أولنا له إجابة- فقال: أنا الحسين فما تريد يا عبد الله؟ قال: أبشر يا عدو الله بالنار قال: فقال: ويحك أنا؟ قال: نعم. قال: ولم؟ ورب رحيم وشفاعة نبي مطاع. اللهم إن كان عبدك كاذبا فجره إلى النار واجعله اليوم آية لأصحابه. قال: فما هو إلا أن ثنى عنان فرسه فوثب به فألقاه في حيزته وبقيت رجلاه في الركاب فجعل يضربه حتى قطعه. قال: فلقد رأيت مذاكيره ¬

(¬1) الجاثية الآية (18). (¬2) أصول الاعتقاد (1/ 76 - 77/ 66).

أم المؤمنين هند بنت أبي أمية أم سلمة (61 هـ)

تسحب في الأرض. فقال: فوالله ما عجبنا لسرعة إجابة دعائه ولكن لوقوفنا حتى قتل كأن قلوبنا زبر الحديد. (¬1) أم المؤمنين هند بنت أبي أمية أم سلمة (¬2) (61 هـ) هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم أم سلمة القرشية المخزومية أم المؤمنين زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، تزوجها في جمادى الآخرة سنة أربع، وقيل سنة ثلاث. روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أبي سلمة، وفاطمة الزهراء. وروى عنها سعيد بن المسيب وشقيق بن سلمة ومجاهد ونافع مولى ابن عمر وغيرهم. كانت ممن أسلم قديما هي وزوجها وهاجرا إلى الحبشة، وقيل إنها أول ظعينة دخلت المدينة ويقال: إن ليلى امرأة عامر بن ربيعة شركتها في هذه الأولية. كانت أم سلمة موصوفة بالجمال البارع والعقل البالغ، والرأي الصائب، وإشارتها على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية تدل على وفور عقلها وصواب رأيها. كان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يتحاكمن إليها لعلمهن ببراءتها من الغيرة وذلك بفضل دعائه - صلى الله عليه وسلم -. كانت آخر أمهات المؤمنين موتا وذلك آخر سنة إحدى وستين بعدما جاءها نعي الحسين بن علي رضي الله عنه. ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (9/ 147 - 148/ 90). (¬2) الطبقات لابن سعد (8/ 86 - 96) والاستيعاب (4/ 1920 - 1921؛ 1939 - 1940) وأسد الغابة (7/ 329 - 331) وتهذيب الكمال (35/ 317 - 320) والسير (2/ 201 - 210) والبداية والنهاية (8/ 217) والإصابة (8/ 221 - 225) وشذرات الذهب (1/ 69 - 70).

موقفها من الجهمية:

موقفها من الجهمية: جاء في أصول الاعتقاد: عن أم سلمة في قوله: {الرحمن على العرش استوى} (¬1). قالت: الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول والإقرار به إيمان والجحود به كفر. (¬2) علقمة بن قيس (¬3) (62 هـ) عَلْقَمَة بن قيس بن عبد الله بن مالك بن علقمة بن سَلاَمَان بن كهل أبو شِبْل النخعي الكوفي الفقيه عم الأسود بن يزيد وأخيه عبد الرحمن وخال فقيه العراق إبراهيم النخعي. ولد في أيام الرسالة المحمدية، وعداده في المخضرمين. سمع من عمر وعثمان وابن مسعود النخعي وأبو الضحى مسلم ابن صبيح وغيرهم. هاجر في طلب العلم والجهاد، وجود القرآن على ابن مسعود ولازمه حتى رأس في العلم والعمل. قال الذهبي: كان فقيها إماما بارعا طيب الصوت بالقرآن ثبتا فيما ينقل، صاحب خير وورع. كان يشبه ابن مسعود في هديه ودله وسمته وفضله كان أعرج. كان طلبته يسألونه ويتفقهون به ¬

(¬1) طه الآية (5). (¬2) أصول الاعتقاد (3/ 440 - 441/ 663). (¬3) طبقات ابن سعد (6/ 86 - 92) والحلية (2/ 98 - 102) وتاريخ بغداد (12/ 296 - 300) وتهذيب الكمال (20/ 300 - 308) وتذكرة الحفاظ (1/ 48 - 49) والسير (4/ 53 - 61) والبداية والنهاية (8/ 219) والإصابة (5/ 136 - 137) وشذرات الذهب (1/ 70).

موقفه من الخوارج:

والصحابة متوافرون. توفي رحمه الله سنة اثنتين وستين. موقفه من الخوارج: عن علقمة قال: تكلم عنده رجل من الخوارج بكلام كرهه فقال علقمة وَالَّذِينَ {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (¬1) فقال له الخارجي: أو منهم أنت؟ قال: أرجو. (¬2) موقفه من المرجئة: - عن إبراهيم عن علقمة أنه كان يقول لأصحابه: (امشوا بنا نزدد إيمانا). (¬3) - قال رجل لعلقمة أمؤمن أنت؟ قال أرجو إن شاء الله. (¬4) موقفه من القدرية: عن أبي ظبيان قال: كنا عند علقمة، فقرئ عنده هذه الآية {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (¬5). فسئل عن ذلك فقال: هو الرجل تصيبه المصيبة، ¬

(¬1) الأحزاب الآية (58). (¬2) السنة لعبد الله (88) والسنة للخلال (4/ 132) والإبانة (2/ 7/869 - 870/ 1183) والشريعة (1/ 305/325). (¬3) ابن أبي شيبة في كتاب الإيمان (104) والمصنف (6/ 164/30362) وأصول الاعتقاد (5/ 1023/1730). (¬4) السنة لعبد الله (96) وابن أبي شيبة في المصنف (6/ 161/30334 و30374) وفي الإيمان (24) وأبو عبيد في الإيمان (15) وابن بطة في الإبانة (2/ 883/1218) والشريعة (1/ 301/315). (¬5) التغابن الآية (11).

الربيع بن خثيم (62 هـ)

فيعلم أنها من عند الله فيسلم ذلك ويرضى. (¬1) الربيع بن خثيم (¬2) (62 هـ) الرَّبيع بن خُثَيْم بن عائذ، الإمام، القدوة العابد، أبو يزيد الثَّوريّ الكوفيّ أحد الأعلام. أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وأرسل عنه. وروى عن عبد الله بن مسعود وأبي أيوب الأنصاري وعمرو بن ميمون وهو قليل الرواية. قال له عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يا أبا يزيد، لو رآك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأحبك، وما رأيتك إلا ذكرت المخبتين. وكان يقول إذا جاءه الرجل: يا عبد الله اتق الله فيما علمت وما استؤثر به عليك فكله إلى عالمه، لأنا في العمد أخوف عليكم مني في الخطأ. وما خيركم اليوم بخير ولكنه خير من آخر شر منهم وما تتبعون الحق حق اتباعه، وما تفرون من الشر حق فراره، ولا كل ما أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - أدركتم ولا كل ما تقرؤون تدرون ما هو، ثم يقول: السرائر السرائر اللاتي يخفين من الناس وهن لله بواد التمسوا دواءهن، وما دواؤهن إلا أن تتوب ثم لا تعود. عن الشعبي: كان الربيع أورع أصحاب عبد الله. توفي بعد مقتل الحسين رضي الله عنه، وذلك سنة اثنتين وستين وقيل التي قبلها. ¬

(¬1) ابن جرير (28/ 123). (¬2) سير أعلام النبلاء (4/ 258 - 262) وتذكرة الحفاظ (1/ 57) والمعرفة والتاريخ (2/ 563) وتهذيب الكمال (9/ 70 - 76) وتهذيب التهذيب (3/ 242 - 243) والمنتظم (6/ 8 - 9) والبداية والنهاية (8/ 219).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: - جاء في ذم الكلام: عن ربيع بن خثيم قال: ليتق أحدكم تكذيب الله إياه أن يقول: قال الله كذا وكذا فيقول: كذبت، لم أقله، أو يقول: لم يقل الله كذا وكذا، فيقول: كذبت، قد قلته. (¬1) - وعنه قال: اتق الله فيما علمت وما استؤثر به فكله إلى عالمه. (¬2) أبو مسلم الخَوْلاَني (¬3) (62 هـ) اسمه على الأصح: عبد الله بن ثوب وقيل: ابن ثواب وقيل غير ذلك. أبو مسلم الخولاني الزاهد المشهور سيد التابعين أسلم في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقدم المدينة في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهو معدود في كبار التابعين. سمع عمر ومعاذا وأبا عبيدة والكبار. وسمع منه أبو إدريس الخولاني وأبو العالية الرياحي وجبير بن نفير وطائفة. كان فاضلا ناسكا عابدا فقيها، ريحانة الشام، وثقه ابن معين وغيره. له مناقب وكرامات وفضائل، يقال إن الأسود العنسي ألقاه في النار فنجا منها والله أعلم. كان يقال: هو حكيم هذه الأمة توفي رحمه الله سنة اثنتين وستين للهجرة. ¬

(¬1) ذم الكلام (2/ 230/297 طبعة الأنصاري) ورواه بنحوه ابن عبد البر في الجامع (2/ 1075). (¬2) ذم الكلام (3/ 55/558) وورواه مطولا ابن سعد في الطبقات (6/ 184 - 185) وأبو نعيم في الحلية (2/ 108) والفسوي في المعرفة والتاريخ (2/ 564 - 565). (¬3) طبقات ابن سعد (7/ 448) والحلية (2/ 122 - 131) والاستيعاب (4/ 1707 - 1709) وتهذيب الكمال (34/ 290 - 293) وتذكرة الحفاظ (1/ 49) والسير (4/ 7 - 14) وفوات الوفيات (2/ 169) والبداية والنهاية (8/ 149) وتهذيب التهذيب (12/ 235 - 236).

موقفه من المشركين:

موقفه من المشركين: جاء في السير: عن شرحبيل: أن الأسود تنبأ باليمن، فبعث إلى أبي مسلم، فأتاه بنار عظيمة، ثم إنه ألقى أبا مسلم فيها، فلم تضره، فقيل للأسود: إن لم تنف هذا عنك أفسد عليك من اتبعك. فأمره بالرحيل فقدم المدينة، فأناخ راحلته، ودخل المسجد يصلي، فبصر به عمر رضي الله عنه، فقام إليه، فقال: ممن الرجل؟ قال: من اليمن. قال: ما فعل الذي حرقه الكذاب بالنار؟ قال: ذاك عبد الله بن ثوب، قال: نشدتك بالله، أنت هو؟ قال: اللهم نعم. فاعتنقه عمر وبكى، ثم ذهب به حتى أجلسه فيما بينه وبين الصديق. فقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد من صنع به كما صنع بإبراهيم الخليل. (¬1) موقفه من الرافضة: روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، قال: كنت عند الوليد بن عبد الملك، فكان يتناول عائشة رضي الله عنها. فقلت: يا أمير المؤمنين، ألا أحدثك عن رجل من أهل الشام، كان قد أوتي حكمة؟ قال: من هو؟ قلت: أبو مسلم الخولاني، سمع أهل الشام ينالون من عائشة فقال: ألا أخبركم بمثلي ومثل أمكم هذه؟ كمثل عينين في رأس، تؤذيان صاحبهما، ولا يستطيع أن يعاقبهما إلا بالذي هو خير لهما فسكت. فقال الزهري: أخبرنيه أبو إدريس الخولاني عن أبي مسلم. (¬2) ¬

(¬1) السير (4/ 8 - 9). (¬2) أخرجه ابن عساكر (27/ 204) وهو في سير أعلام النبلاء (4/ 9).

موقفه من الخوارج:

موقفه من الخوارج: - جاء في السنة للخلال أن أبا مسلم الخولاني قال: إنه مؤمر عليك مثلك، فإن اهتدى فاحمد الله، وإن عمل بغير ذلك فادع له بالهدى ولا تخالفه فتضل. (¬1) - جاء في البداية والنهاية: وأما كلام أئمة التابعين في هذا الفصل فكثير جدا يطول ذكرنا له، فمن ذلك قول أبي مسلم الخولاني حين رأى الوفد الذين قدموا من قتله -أي عثمان-: إنكم مثلهم أو أعظم جرما، أما مررتم ببلاد ثمود؟ قالوا: نعم قال: فأشهد أنكم مثلهم، لخليفة الله أكرم عليه من ناقته. (¬2) موقفه من القدرية: جاء في الإبانة: عن أبي مسلم الخولاني قال: إن آخر ما جف به القلم خلق آدم، وأن الله عز وجل لما خلقه نشر ذريته في يده وكتب أهل الجنة وأعمالهم، وكتب أهل النار وأعمالهم، ثم قال: هذه لهذه ولا أبالي، وهذه لهذه ولا أبالي. (¬3) ¬

(¬1) السنة للخلال (1/ 86). (¬2) البداية والنهاية (7/ 204 - 205). (¬3) الإبانة (2/ 10/220/ 1794).

مسروق بن الأجدع (62 هـ)

مسروق بن الأجدع (¬1) (62 هـ) مَسْروق بن الأَجْدَع بن مالك، أبو عائشة الوَادِعيّ، الهمدانيّ الكوفيّ، الإمام القدوة، العلم. حدث عن أبي بن كعب وعمر، ومعاذ بن جبل وخباب، وعائشة وابن مسعود وغيرهم. وعنه الشعبي، وإبراهيم النخعي، ويحيى بن وثاب وغيرهم. وعداده في كبار التابعين وفي المخضرمين الذين أسلموا في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -. عن إبراهيم قال: كان أصحاب عبد الله الذين يقرئون الناس ويعلمونهم السنة: علقمة، والأسود، وعبيدة، ومسروقا، والحارث بن قيس، وعمرو بن شرحبيل. كان أحد أصحاب عبد الله صلى خلف أبي بكر ولقي عمر وعليا. وعنه قال: كفى بالمرء علما أن يخشى الله تعالى، وكفى بالمرء جهلا أن يعجب بعمله. وقال: من سره أن يعلم علم الأولين والآخرين، وعلم الدنيا والآخرة، فليقرأ سورة الواقعة. قال الذهبي: هذا قاله مسروق على المبالغة، لعظم ما في السورة من جمل أمور الدارين ومعنى قوله: فليقرأ الواقعة، أي يقرأها بتدبر وتفكر وحضور ولا يكن كمثل الحمار يحمل أسفارا. توفي رضي الله عنه سنة اثنتين وستين للهجرة. ¬

(¬1) الإصابة (6/ 291 - 293) وطبقات ابن سعد (6/ 76 - 84) والحلية (2/ 85 - 98) وتاريخ بغداد (13/ 232 - 235) وتذكرة الحفاظ (1/ 49 - 50) وتهذيب التهذيب (10/ 109 - 111) وشذرات الذهب (1/ 71) والمعرفة والتاريخ (2/ 560) والسير (4/ 63 - 69).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: - جاء في سنن الدارمي: قال مسروق: إني أخاف أو أخشى أن أقيس فتزل قدمي. (¬1) - وجاء في السير: عن الشعبي، قال مسروق: لأن أفتي يوما بعدل وحق، أحب إلي من أن أغزو سنة. (¬2) - وفي جامع بيان العلم وفضله: عن مسروق قال: من يرغب برأيه عن أمر الله عز وجل يضل. (¬3) - وعنه قال: ما أحد من أصحاب الأهواء إلا في القرآن ما يرد عليهم ولكنا لا نهتدي له. (¬4) موقفه من الرافضة: - عن مسروق أنه كان إذا حدث عن عائشة رحمها الله؛ قال: حدثتني المبرأة الصديقة ابنة الصديق حبيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬5) - وعنه أيضا قال: حب أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنة. (¬6) ¬

(¬1) الدارمي (1/ 65) والفقيه والمتفقه (1/ 458 - 459) وذكره ابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 257). (¬2) سير أعلام النبلاء (4/ 66). (¬3) جامع بيان العلم (2/ 1051) وانظر الاعتصام (2/ 848). (¬4) الهروي في ذم الكلام (2/ 114) وأبو خيثمة في العلم (ص.50). (¬5) الشريعة (3/ 476/1946). (¬6) أصول الاعتقاد (7/ 1312/2322) وجامع بيان العلم (2/ 1177).

سعد بن مالك أبو سعيد الخدري (63 هـ)

سعد بن مالك أبو سعيد الخدري (¬1) (63 هـ) هو الإمام المجاهد، مفتي المدينة، سعد بن مالك بن سنان، حدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن عمر وعلي وابن عباس وجابر وزيد بن ثابت. وعنه من الصحابة عائشة وابن عمر وجابر بن سمرة وآخرون، ومن التابعين سعيد بن المسيب وأبو عثمان النهدي وعلقمة والأحنف. أول مشاهده الخندق، وغزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنتي عشرة غزوة، وكان ممن حفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سننا كثيرة وعلما جما، وكان من نجباء الصحابة وعلمائهم وفضلائهم. فعن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه قال: "عرضت يوم أحد على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن ثلاث عشرة، فجعل أبي يأخذ بيدي ويقول: يا رسول الله إنه عبل العظام، وجعل نبي الله يصعد فيّ النظر، ويصوبه، ثم قال: رده، فردني" (¬2). وروى حنظلة بن أبي سفيان عن أشياخه أنه لم يكن أحد من أحداث أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم من أبي سعيد الخدري. توفي سنة ثلاث وستين للهجرة. موقفه من المبتدعة: - جاء في ذم الكلام: قرأ أبو سعيد: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ¬

(¬1) الإصابة (3/ 78 - 80) والاستيعاب (2/ 602) وتاريخ بغداد (1/ 180 - 181) وتذكرة الحفاظ (1/ 44) والوافي بالوفيات (15/ 148) والبداية والنهاية (9/ 43) والسير (3/ 168 - 172) وشذرات الذهب (1/ 81) وتهذيب الكمال (10/ 294 - 299). (¬2) ابن عساكر في التاريخ (20/ 386) الحاكم (3/ 563).

اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} (¬1) فقال: هذا نبيكم وخيار أمتكم لو أطاعهم في كثير من الأمر لعنتوا فكيف بكم اليوم؟ (¬2) " التعليق: انظر رحمك الله إلى هذه العبارة من هذا الصحابي الجليل ما أحسنها وما أصدقها على زمننا هذا، لو يطيع الإنسان الآن علماء السوء الذين باعوا أخراهم بدنياهم وحملوا في أعناقهم كل شر، ولو يطيع الإنسان أمراء السوء الذين ركبوا كل مطية تحمى كراسيهم سواء كانت بطريق مشروع أو غير مشروع، سخروا علماءهم للوقوف أمام أي إصلاح سواء كان في عقائدهم التي اختلط بها الباطل أو في أخلاقهم التي انحطت عن درجة القردة والخنازير إلا من شاء الله. وهكذا لو يطيع الإنسان عامة الناس وما هم عليه من التصورات المنحرفة. فالخير كل الخير في طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما كان عليه صحابته الكرام ومن تبعهم بإحسان. - روى البخاري في صحيحه: من حديث أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيء يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثا قطعه أو يأمر بشيء أمر به ثم ينصرف، قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر فلما أتينا المصلى، إذا منبر بناه كثير بن ¬

(¬1) الحجرات الآية (7). (¬2) ذم الكلام (2/ 219/285).

الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي فجبذت بثوبه، فجبذني فارتفع فخطب قبل الصلاة فقلت له: غيرتم والله. فقال: أبا سعيد قد ذهب ما تعلم. فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم. فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة. (¬1) - وجاء في ذم الكلام: قال سليمان بن يسار: بينا أنا عند ابن عباس إذ دخل علينا أبو سعيد الخدري، فدخل رجل من الصيارفة، فقال: يا أبا عباس ما ترى صرف الذهب وزنا بوزن والورق بالورق زيادة؟ فقال ابن عباس: ليس بذلك بأس إذا كان يدا بيد. فقال أبو سعيد: ليس كذلك، نهى عن هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال ابن عباس: نحن أعلم بهذا منك، إنما كان الربا لنا. فقال أبو سعيد: أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحدثني عن نفسك، لا يجمعني وإياك سقف بيت أبدا. (¬2) - جاء في الإبانة عن الأعرج قال: سمعت أبا سعيد الخدري، يقول لرجل: أتسمعني أحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا تبيعوا الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم إلا مثلا بمثل ولا تبيعوا منها عاجلا بآجل (¬3) ثم أنت تفتي بما تفتي والله لا يؤويني وإياك ما عشت إلا المسجد. (¬4) ¬

(¬1) أحمد (3/ 36،54) والبخاري (2/ 570/956) ومسلم (2/ 605/889) والنسائي (3/ 208/1575) وابن ماجه (1/ 409/1288) بنحوه. (¬2) ذم الكلام (2/ 224 - 225/ 292). (¬3) أحمد (5/ 200،209) والبخاري (4/ 478/2177) ومسلم (3/ 1208 - 1209/ 1584) والترمذي (3/ 542 - 543/ 1241) والنسائي (7/ 320 - 321/ 4584) وأخرجه ابن ماجه (2/ 758 - 759/ 2257) بمعناه. (¬4) الإبانة (1/ 1/258/ 95).

موقفه من الخوارج:

" التعليق: هذا أبو سعيد يقول لهذا الرجل: "لا يؤويني وإياك ما عشت إلا المسجد" لتركه النص وقوله بالرأي، فكيف بنا نحن الآن تضرب نصوص القرآن ونصوص الحديث النبوي والإجماعات المقطوع بها ويطعن في عقائدنا السلفية وتنشر الكتب والمجلات والمقالات والجرائد اليومية والمنشورات العامة والخاصة، ومع هذا كله لا تجد أحدا يحرك ساكنا، وإن تحرك تألب عليه الجميع ووجهت له كل التهم السياسية لأنها هي الرابحة عند المتهمين. هذا من جهة ومن جهة أخرى، تجدنا مع كل هؤلاء مضاحكين متفكهين كأنه لم يقع شيء. والله المستعان. وأما ابن عباس فقد رجع من فوره إلى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما سيأتي ضمن مواقفه رضي الله عنه. (¬1) موقفه من الخوارج: - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقسم قسما إذ أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم فقال: يا رسول الله اعدل. فقال: ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل، قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل. فقال عمر: يا رسول الله، ائذن لي فيه فأضرب عنقه، فقال: دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية: ينظر إلى نصله لا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فما ¬

(¬1) انظر مواقفه من المبتدعة.

موقفه من المرجئة:

يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه -وهو قدحه- فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين فرقة من الناس. قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتي به، حتى نظرت إليه على نعت النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي نعته. (¬1) - وعن عاصم بن شميخ قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول ويداه هكذا -يعني ترتعشان- من الكبر: لقتال الخوارج أحب إلي من قتال عدتهم من أهل الشرك. (¬2) موقفه من المرجئة: عن الأوزاعي قال: كان أبو سعيد الخدري يقول: الشهادة بدعة والبراءة بدعة والإرجاء بدعة. (¬3) موقفه من القدرية: جاء في الإبانة: عن أبي بكر الكلبي قال: رأيت شيخا يزحف عند قصر أوس؛ قال: سمعت أبا سعيد الخدري رحمه الله يقول: لو أن رجلا صام النهار وقام الليل ثم كذب بشيء من القدر؛ لأكبه الله في جهنم رأسه أسفله. (¬4) ¬

(¬1) أخرجه البخاري (6/ 766/3610) ومسلم (2/ 744/1064 (148)). (¬2) المسند (3/ 33) والمصنف لابن أبي شيبة (7/ 553/37886) والسنة لعبد الله (278). (¬3) السنة لعبد الله (ص.86) والإبانة (2/ 904 - 905/ 1269) بنحوه، والسنة للخلال (4/ 87/1228)، وقد مر تفسير المراد بالشهادة والبراءة في مواقف علي رضي الله عنه. (¬4) الإبانة (2/ 9/168/ 1648).

عبد الله بن عمرو بن العاص (65 هـ)

عبد الله بن عمرو بن العاص (¬1) (65 هـ) عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل الإمام الحبر العابد، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن صاحبه، أبو محمد وقيل أبو عبد الرحمن، القرشي السهمي أسلم قبل أبيه. وكان اسمه العاص فغيره النبي - صلى الله عليه وسلم - بعبد الله. له مناقب وفضائل ومقام راسخ في العلم والعمل، حمل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - علما جما، يبلغ ما أسند سبع مائة حديث. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لم يكن أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر حديثا مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب" (¬2). روى عن أبيه وأبي بكر وعمر ومعاذ وعبد الرحمن بن عوف وأبي الدرداء وطائفة. وروى عنه ابنه محمد ومواليه: أبو قابوس وإسماعيل وسالم، وحفيده شعيب، وأنس بن مالك وأبو أمامة وخلق كثير. كان صواما قواما حتى رخص له النبي أن يقرأ القرآن في ثلاث ليال، وأن يصوم يوما ويفطر يوما. ومن أقواله: إن من أشراط الساعة أن توضع الأخيار وترفع الأشرار، ويسود كل قوم منافقوهم. (¬3) ورث عبد الله من أبيه قناطير مقنطرة من الذهب المصري فكان من ملوك الصحابة. اختلف في وفاته ورجح الشيخ أحمد شاكر رحمه الله أنه ¬

(¬1) السير (3/ 79 - 94) والاستيعاب (3/ 956) الإصابة (4/ 192 - 194) وطبقات ابن سعد (4/ 261 - 268) والحلية (1/ 283 - 292) والوافي (17/ 380 - 382) وشذرات الذهب (1/ 73). (¬2) أحمد (2/ 248 - 249) والبخاري (1/ 275/113) والترمذي (5/ 39/2668) وأيضا (5/ 644/3841) وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، والنسائي في الكبرى (3/ 434/5853). (¬3) ما جاء في البدع (ص.159).

موقفه من المبتدعة:

مات بمصر سنة خمس وستين. موقفه من المبتدعة: - جاء في أصول الاعتقاد: قال عبد الله بن عمرو: ما ابتدعت بدعة إلا ازدادت مضيا، ولا تركت سنة إلا ازدادت هويا. (¬1) - وروى ابن وضاح عن سعد بن مسعود قال: قال عبد الله بن عمرو ابن العاص: لو أن رجلين من أوائل هذه الأمة خليا بمصحفهما في بعض هذه الأودية لأتيا الناس اليوم ولا يعرفان شيئا مما كانا عليه. (¬2) - وله أيضا عن عمرو بن شعيب عن أبيه قال: قال عبد الله بن عمرو ابن العاص: يوشك أن تظهر شياطين يجالسونكم في مجالسكم ويفقهونكم في دينكم ويحدثونكم، وإنهم لشياطين. (¬3) موقفه من المشركين: عن عبد الله بن عمرو أنه قال: من بنى بأرض المشركين، وصنع نيروزهم، ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم يوم القيامة. (¬4) موقفه من الخوارج: جاء في السنة لابن أبي عاصم عن عقبة بن وساج قال: كان صاحب لي يحدثني عن شأن الخوارج وطعنهم على أمرائهم، فحججت فلقيت عبد الله ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (1/ 104/128) والإبانة (1/ 2/351/ 227). (¬2) ما جاء في البدع (ص.143) والزهد لابن المبارك (1/ 61/184). (¬3) ما جاء في البدع (ص.168). (¬4) الاقتضاء (1/ 237) وهو عند البيهقي في الكبرى (9/ 234).

موقفه من القدرية:

ابن عمرو فقلت له: أنت من بقية أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد جعل الله عندك علما، وأناس بهذا العراق يطعنون على أمرائهم، ويشهدون عليهم بالضلالة. فقال لي: أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقليد من ذهب وفضة، فجعل يقسمها بين أصحابه، فقام رجل من أهل البادية فقال: يا محمد والله لئن أمرك الله أن تعدل فما أراك أن تعدل. فقال: ويحك من يعدل عليه بعدي. فلما ولّى قال: ردوه رويدا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن في أمتي أخا لهذا يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، كلما خرجوا فاقتلوهم ثلاثا. (¬1) موقفه من القدرية: - جاء في الإبانة عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: من كان يزعم أن مع الله قاضيا أو رازقا أو يملك لنفسه ضرا أو نفعا؛ فأخرس الله لسانه وجعل صلواته هباء، وقطع به الأسباب، وأكبه على وجهه في النار. وقال: إن الله عز وجل خلق الخلق وأخذ منهم الميثاق وكان عرشه على الماء. (¬2) - وفيها: عن معن بن عبد الرحمن بن سعوة عن أبيه عن جده أنه لقي عبد الله بن عمرو؛ قال: قلت: ما تقول في الناس؟ قال: يعملون لما خلقوا له، قال: وكيف ذاك؟ قال: لا يستطيعون إلا ذاك، كتب عليهم رقع رقع، إن ¬

(¬1) الحاكم (2/ 145) والسنة لابن أبي عاصم (2/ 455/934) والمسند للبزار (2/ 359 - 360/ 1850 كشف الأستار)، وذكره الهيثمي في المجمع (6/ 228) وقال: "رواه البزار ورجاله رجال الصحيح". وقال الحافظ ابن حجر في مختصر زوائد البزار (2/ 54 - 55/ 1408): "رجاله من أهل الصحيح". (¬2) الإبانة (2/ 9/166/ 1642).

أبو برزة الأسلمي (65 هـ)

خيرا؛ فخير، وإن شرا؛ فشر. (¬1) - وفيها: عن عبد الله بن عمرو قال: إن أول ما يكفأ الدين كما يُكفأ الإناء، قول الناس في القدر. (¬2) - وجاء في أصول الاعتقاد: عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: إذا مكثت النطفة في رحم المرأة أربعين ليلة جاءها ملك فاختلجها ثم عرج بها إلى الرحمن تبارك وتعالى. فيقول: أخلقها يا أحسن الخالقين. فيقضي الله فيها ما يشاء من أمره ثم تدفع إلى الملك فيسال الملك عن ذلك فيقول: يا رب اسقط أم تمام؟ فيبين له. فيقول: أناقص الأجل أم تام الأجل؟ فيبين له ويقول: يا رب أواحد أو توأم؟ فيبين له فيقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيبين له. ثم يقول: أشقي أم سعيد؟ فيبين له. ثم يقول: يا رب اقطع رزقه فيقطع له رزقه مع خلقه فيهبط بها جميعا. فوالذي نفسي بيده لا ينال من الدنيا إلا ما قسم له فإذا أكل رزقه قبض. (¬3) أبو بَرْزَةَ الأَسْلَمِي (¬4) (65 هـ) صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - نَضْلَة بن عُبَيْد، أسلم قديما وشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ست أو سبع غزوات، منها خيبر وفتح مكة. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدة ¬

(¬1) الإبانة (2/ 9/167/ 1644). (¬2) الإبانة (2/ 9/167/ 1645). (¬3) أصول الاعتقاد (4/ 747 - 748/ 1236). (¬4) الإصابة (6/ 433 - 435) والاستيعاب (4/ 1610) وتاريخ بغداد (1/ 182 - 183) والسير (3/ 40 - 43) والحلية (2/ 32 - 33) وطبقات ابن سعد (4/ 298 - 299 و7/ 9 - 366) وتهذيب التهذيب (10/ 446 - 447).

موقفه من المبتدعة:

أحاديث، وروى عنه ابنه المغيرة، وأبو عثمان النهدي، وعبد الله بن بريدة وآخرون. قال أبو نعيم: هو الذي قتل عبد العزى بن خطل تحت أستار الكعبة بإذن النبي - صلى الله عليه وسلم -. سكن المدينة، وشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة، ثم تحول إلى البصرة فنزلها، وحضر مع علي بن أبي طالب قتال الخوارج بالنهروان، وغزا بعد ذلك خراسان فمات بها. عن ثابت البناني أن أبا برزة كان يلبس الصوف، فقيل له: إن أخاك عائذ بن عمرو يلبس الخز، قال: ويحك. ومن مثل عائذ؟ فانصرف الرجل، فأخبر عائذا، فقال: ومن مثل أبي برزة؟ قال الذهبي عقبه: هكذا كان العلماء يوقرون أقرانهم. توفي سنة خمس وستين على الصحيح. موقفه من المبتدعة: - قال البخاري: حدثنا عبد الله بن صباح حدثنا معتمر قال: سمعت عوفا أن أبا المنهال حدثه أنه سمع أبا برزة قال: إن الله يغنيكم أو نعشكم بالإسلام وبمحمد صلى عليه وسلم. (¬1) - وفيه: قال أبو برزة: إنكم يا معشر العرب كنتم على الحال الذي علمتم من الذلة والقلة والضلالة، وإن الله أنقذكم بالإسلام وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ بكم ما ترون، وهذه الدنيا التي أفسدت بينكم. (¬2) موقفه من المشركين: قال أبو نعيم: هو الذي قتل عبد العزى بن خطل تحت أستار الكعبة ¬

(¬1) البخاري (13/ 305/7271). (¬2) البخاري (13/ 85 - 86/ 7112).

موقفه من الجهمية:

بإذن النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) موقفه من الجهمية: روى أبو داود في سننه: عن عبد السلام بن أبي حازم أبي طالوت، قال: شهدت أبا برزة دخل على عبد الله بن زياد فحدثني فلان، سماه مسلم، وكان في السماط: فلما رآه عبد الله قال: إن مُحَمَّدِيَّكم هذا الدحداح، ففهمها الشيخ، فقال: ما كنت أحسب أني أبقى في قوم يعيروني بصحبة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقال له عبد الله، إن صحبة محمد - صلى الله عليه وسلم - لك زين غير شين، ثم قال: إنما بعثت إليك لأسألك عن الحوض، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر فيه شيئا؟ فقال له أبو برزة: نعم لا مرة ولا ثنتين ولا ثلاثا ولا أربعا ولا خمسا، فمن كذب به فلا سقاه الله منه، ثم خرج مغضبا. (¬2) موقفه من الخوارج: - عن الأزرق بن قيس قال: كنا على شاطئ نهر بالأهواز فجاء أبو برزة يقود فرسا، فدخل في صلاة العصر، فقال رجل انظروا إلى هذا الشيخ، وكان انفلت فرسه فاتبعها في القبلة حتى أدركها، فأخذ بالمقود، ثم صلى، قال: فسمع أبو برزة قول الرجل، فجاء فقال: ما عنفني أحد منذ فارقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير هذا، إني شيخ كبير، ومنزلي متراخ، ولو أقبلت على صلاتي، وتركت فرسي، ثم ذهبت أطلبها، لم آت أهلي إلا في جنح الليل، لقد صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأيت من يسْره، فأقبلنا نعتذر مما قال الرجل. ¬

(¬1) السير (3/ 41). (¬2) أخرجه أحمد (4/ 419) أبو داود (5/ 111 - 112/ 4749).

زيد بن أرقم (66 هـ)

قال الذهبي: وكذا رواه شعبة عن الأزرق قال: كنت مع أبي برزة بالأهواز، فقام يصلي العصر، وعنان فرسه بيده، فجعلت ترجع، وجعل أبو برزة ينكص معها. قال: ورجل من الخوارج يشتمه، فلما فرغ قال: إني غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستا أو سبعا وشهدت تيسيره. (¬1) - جاء في السنة لعبد الله بن أحمد: عن الأزرق بن قيس قال: كنا بالأهواز نقاتل الخوارج وفينا أبو برزة الأسلمي، فجاء إلى نهر فتوضأ ثم قام يصلي. (¬2) زيد بن أرقم (¬3) (66 هـ) زيد بن أرقم بن زيد الأنصاري الخزرجي، نزيل الكوفة، من مشاهير الصحابة. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدة أحاديث. وروى عنه عطاء بن أبي رباح وطاوس وعبد الرحمن بن أبي ليلى وآخرون. كان ممن استصغر يوم أحد. قال أبو المنهال: سألت البراء عن الصرف، فقال: سل زيد ابن أرقم، فإنه خير مني وأعلم. وعن موسى بن عقبة قال حدثني عبد الله بن الفضل أنه سمع أنس بن مالك يقول: "حزنت على من أصيب بالحرة، فكتب إلي زيد بن أرقم -وبلغه شدة حزني- يذكر أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار، وشك ابن الفضل في أبناء أبناء الأنصار، فسأل ¬

(¬1) السير (3/ 41 - 42) وابن عساكر (62/ 94 - 95). (¬2) (ص.281 رقم 1459). (¬3) الإصابة (2/ 589 - 590) والاستيعاب (2/ 535 - 536) والسير (3/ 165 - 168) وطبقات ابن سعد (6/ 18) والمستدرك (3/ 532 - 533) والوافي (15/ 22) وشذرات الذهب (1/ 74) وتهذيب التهذيب (3/ 394 - 395).

موقفه من المبتدعة:

أنسا بعض من كان عنده فقال: هو الذي يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذا الذي أوفى الله له بأُذنه" (¬1) توفي سنة ست وستين. موقفه من المبتدعة: - جاء في ذم الكلام: قال رضي الله عنه: من تمسك بالسنة وثبت نجا، ومن أفرط مرق، ومن خالف هلك. (¬2) موقفه من المشركين: روى البخاري في صحيحه عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: كنت مع عمي، فسمعت عبد الله بن أُبَي بن سلول يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا. وقال أيضا: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكرت ذلك لعمي، فذكر عمي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عبد الله بن أبي وأصحابه، فحلفوا ما قالوا، فصدقهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكذبني، فأصابني هم لم يصبني مثله، فجلست في بيتي، فأنزل الله عز وجل: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ -إلى قوله- هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -إلى قوله- لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} (¬3) فأرسل إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأها علي، ثم قال: إن الله قد صدقك. (¬4) ¬

(¬1) البخاري (8/ 839/4906). (¬2) ذم الكلام (2/ 406 - 407/ 496). (¬3) المنافقون الآيات (1 - 8). (¬4) البخاري (8/ 833/4901) ومسلم (4/ 2140/2772).

موقف السلف من المختار الكذاب (66 هـ)

موقف السلف من المختار الكذاب (66 هـ) بيان زندقته: لقد فصل الحافظ ابن كثير أخباره وحيله وتقلباته الكاذبة. وأوردته هنا لخطره هو وأمثاله ممن دنسوا العقيدة السلفية بدجلهم وكذبهم، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين. قال الحافظ ابن كثير: ثم زالت دولة المختار كأن لم تكن، وكذلك سائر الدول، وفرح المسلمون بزوالها. وذلك لأن الرجل لم يكن في نفسه صادقا بل كان كاذبا يزعم أن الوحي يأتيه على يد جبريل، قال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير حدثنا عيسى القاري أبو عمير بن السدي عن رفاعة الفتياني قال: دخلت على المختار فألقى لي وسادة وقال: لولا أن أخي جبريل قام عن هذه لألقيتها لك. قال: فأردت أن أضرب عنقه قال: فذكرت حديثا حدثنيه أخي عمرو بن الحمق قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيما مؤمن أمن مؤمنا على دمه فقتله فأنا من القاتل بريء (¬1). ثم ذكر الحافظ روايات الحديث ثم قال: وقد قيل لابن عمر: إن المختار يزعم أن الوحي يأتيه فقال صدق، قال تعالى: {وَإِنَّ الشياطين ¬

(¬1) أحمد (5/ 223و224) وابن ماجه (2/ 896/2688) وابن حبان (13/ 320/5982) من طريق رفاعة بن شداد عن عمرو بن الحمق به. وقال البوصيري في الزوائد: "إسناده صحيح ورجاله ثقات لأن رفاعة بن شداد، أخرج له النسائي في سننه ووثقه". وذكره ابن حبان في الثقات. وباقي رجال الإسناد على شرط مسلم. وأخرجه الحاكم (4/ 353) من طريق أخرى وصححه ووافقه الذهبي.

ليوحون إلى أوليآئهم} (¬1) وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: قدمت على المختار فأكرمني وأنزلني عنده، وكان يتعاهد مبيتي بالليل قال: فقال لي: اخرج فحدث الناس؟ قال: فخرجت فجاء رجل فقال: ما تقول في الوحي؟ فقلت: الوحي وحيان، قال الله تعالى: {بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} (¬2) وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} (¬3) قال فهموا أن يأخذوني فقلت: مالكم وذاك، إني مفتيكم وضيفكم. فتركوني وإنما أراد عكرمة أن يعرض بالمختار وكذبه في ادعائه أن الوحي ينزل عليه. وروى الطبراني من طريق أنيسة بنت زيد بن الأرقم أن أباها دخل على المختار ابن أبي عبيد فقال له: يا أبا عامر، لو شفت رأى جبريل وميكائيل، فقال له زيد: خسرت وتعست، أنت أهون على الله من ذلك، كذاب مفتر على الله ورسوله. وقال ابن كثير بعد كلام: وكان يظهر التشيع ويبطن الكهانة وأسر إلى أخصائه أنه يوحى إليه ... ولا شك أنه كان ضالا مضلا أراح الله المسلمين منه بعد ما انتقم به من قوم آخرين من الظالمين كما قال تعالى: {وكذلك ¬

(¬1) الأنعام الآية (121). (¬2) يوسف الآية (3). (¬3) الأنعام الآية (112).

عدي بن حاتم (68 هـ)

نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬1). اهـ (¬2) عدي بن حاتم (¬3) (68 هـ) عدي بن حاتم بن عبد الله، الأمير الشريف أبو وهب وأبو طريف صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - في شعبان سنة سبع، فأسلم وكان نصرانيا وحسن إسلامه، ثم رجع إلى بلاد قومه. روى عنه الشعبي وسعيد بن جبير وخيثمة بن عبد الرحمن وغيرهم. قال الخطيب: فلما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وارتدت العرب ثبت عدي وقومه على الإسلام، وجاء بصدقاتهم إلى أبي بكر الصديق وحضر فتح المدائن، وشهد مع علي الجمل وصفين والنهروان. جاء -رضي الله عنه- إلى عمر فقال: أما تعرفني؟ قال: أعرفك، أقمت إذ كفروا، ووفيت إذ غدروا، وأقبلت إذ أدبروا. وقال سعيد بن عبد الرحمن: فقئت عين عدي بصفين. وقال غير واحد: يوم الجمل. قال المزي: وهو الصحيح. وقال ابن عيينة: حدثت عن الشعبي عن عدي قال: ما دخل وقت صلاة حتى أشتاق إليها. وعنه: ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء. ¬

(¬1) الأنعام الآية (129). (¬2) البداية والنهاية (8/ 294 - 295). (¬3) الاستيعاب (3/ 1057) والسير (3/ 162 - 165) وتاريخ بغداد (1/ 189) وتهذيب الكمال (19/ 524 - 531) وطبقات ابن سعد (6/ 22) والإصابة (6/ 401 - 402).

موقفه من المبتدعة:

قال ابن سعد وغيره: مات عدي رضي الله عنه سنة ثمان وستين، وهو ابن مائة وعشرين سنة. موقفه من المبتدعة: جاء في الإبانة: عن محمد بن سيرين، قال: قال عدي بن حاتم: إنكم لن تزالوا بخير ما لم تعرفوا ما كنتم تنكرون، وتنكروا ما كنتم تعرفون، وما دام عالمكم يتكلم بينكم غير خائف. (¬1) موقفه من الرافضة: عن مغيرة قال: خرج عدي، وجرير البجلي وحنظلة الكاتب من الكوفة، فنزلوا قرقيسياء، وقالوا: لا نقيم ببلد يشتم فيه عثمان. (¬2) موقفه من الخوارج: - قاتل هو وابنه مع علي رضي الله عنه يوم النهراوان. جاء في تاريخ الطبري (¬3): طلب عدي بن حاتم ابنه طرفة فوجده، فدفنه، ثم قال: الحمد لله الذي ابتلاني بيومك على حاجتي إليك اهـ. - وفيه أيضا: أنه قال لما حثهم المغيرة بن شعبة رضي الله عنه على قتال الخوارج: فقام إليه عدي بن حاتم فقال: كلنا لهم عدو، ولرأيهم مسفه، وبطاعتك مستمسك، فأينا شئت سار إليهم. (¬4) ¬

(¬1) الإبانة (1/ 1/190 - 191/ 26). (¬2) أصول الاعتقاد (7/ 1340/2381) (¬3) (3/ 123). (¬4) (3/ 182).

ابن عباس (68 هـ)

- وقال ابن عبد البر: روينا عن خليفة الطائي قال: لما رجعنا من النهراوان، لقينا العزار الطائي قبل أن ينتهي إلى المدائن، فقال لعدي بن حاتم: يا أبا طريف أغانم سالم، أم ظالم آثم؟ قال: بل غانم سالم -إن شاء الله- قال: فالحكم والأمر إذا إليك؟ فقال الأسود بن يزيد والأسود بن قيس المراديان: ما أخرج هذا الكلام منك إلا شر. وإنا لنعرفك برأي القوم، فأتيا به عليا فقالا: إن هذا يرى رأي الخوارج، وقد قال كذا وكذا قال: فما أصنع به؟ قال: تقتله، قال: لا أقتل من لا يخرج علي، قال: فتحبسه، قال: ولا أحبس من ليست له جناية، خليا سبيل الرجل. (¬1) ابن عباس (¬2) (68 هـ) حبر الأمة، وفقيه العصر، وترجمان القرآن، وإمام التفسير، أبو العباس عبد الله ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العباس بن عبد المطلب. قال الواقدي: لا خلاف أنه ولد في الشعب، وبنو هاشم محصورون فولد قبل خروجهم منه بيسير، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين. وحدث عنه بجملة صالحة وعن عمر وعلي ومعاذ، ووالده، وابن عوف وغيرهم. وعنه ابنه علي وعكرمة ومقسم، وأنس بن مالك، وأبو الطفيل وأبو أمامة بن سهل وغيرهم كثير. له مفردات ليست لغيره من الصحابة لاتساع علمه وكثرة فهمه وكمال عقله وسعة ¬

(¬1) فتح البر (1/ 468 - 469). (¬2) الإصابة (6/ 130) والاستيعاب (3/ 933 - 939) وطبقات ابن سعد (2/ 365 - 372) والمستدرك (3/ 355 - 546) ووفيات الأعيان (3/ 62 - 64) والحلية (1/ 314 - 329)) والتذكرة (1/ 40 - 41) والبداية والنهاية (8/ 298 - 310) وشذرات الذهب (1/ 75 - 76) والسير (3/ 331 - 359) والعقد الثمين (5/ 190 - 193).

فضله ونبل أصله رضي الله عنه وأرضاه. دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "اللهم علمه الكتاب" (¬1). وفي رواية أحمد والحاكم: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل". (¬2) عن ابن عباس قال: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قلت لرجل من الأنصار هلم نسأل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنهم اليوم كثير، فقال: واعجباً لك يا ابن عباس، أترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من ترى؟ فترك ذلك. وأقبلت على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل، فآتيه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، فتسفي الريح علي التراب فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عم رسول الله، ألا أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول: أنا أحق أن آتيك، فأسألك، قال: فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس علي، فقال: هذا الفتى أعقل مني. وعنه قال: "كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه من حيث علمتم، فدعا ذات يوم فأدخله معهم فما رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم، قال: ما تقولون في قول الله تعالى: {إذا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (¬3) فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا، فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا، قال: فما ¬

(¬1) البخاري (1/ 224/75) الترمذي (5/ 638/3824) بلفظ: "اللهم علمه الحكمة ... " وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي في الكبرى (5/ 52/8179) بلفظ: "اللهم علمه الحكمة ... " وابن ماجه (1/ 58/166) بلفظ: "اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب". (¬2) أحمد (1/ 328) والحاكم (3/ 534) وصححه ووافقه الذهبي. (¬3) النصر الآية (1).

موقفه من المبتدعة:

تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه له، قال: {إذا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (¬1) وذلك علامة أجلك {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} (¬2)، فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول". (¬3) وقال ابن مسعود: نعم ترجمان القرآن ابن عباس. وقال أيضا: لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عاشره منا رجل. وقال طاووس: ما رأيت أحدا أشد تعظيما لحرمات الله من ابن عباس. وقال سعد بن أبي وقاص: ما رأيت أحدا أحضر فهما، ولا ألب لبا، ولا أكثر علما، ولا أوسع حلما من ابن عباس، لقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات فيقول: قد جاءت معضلة، ثم لا يجاوز قوله: وإن حوله لأهل بدر. وقال القاسم بن محمد: ما رأيت في مجلس ابن عباس باطلا قط. توفي سنة ثمان وستين للهجرة رضي الله عنه. موقفه من المبتدعة: - جاء في أصول الاعتقاد: عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: النظر إلى الرجل من أهل السنة -يدعو إلى السنة، وينهى عن البدعة- عبادة. (¬4) ¬

(¬1) النصر الآية (1). (¬2) النصر الآية (3). (¬3) البخاري (8/ 24/4294) والترمذي (5/ 419 - 420/ 3362) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". (¬4) أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 60 - 61/ 11) والإبانة (1/ 2/343/ 214) وانظر تلبيس إبليس (ص.16).

- وعنه رضي الله عنه في قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} (¬1) قال: تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف وتسود وجوه أهل البدعة والتفرق. (¬2) - وعنه رضي الله عنه: ما كان في القرآن من حلال أو حرام فهو كذلك، وما سكت عنه فهو مما عفي عنه. (¬3) - وروى الدارمي عن هشام بن جحير قال: كان طاووس يصلي ركعتين بعد العصر، فقال له ابن العباس: اتركها. قال: إنما نهي عنها أن تتخذ سلما. قال ابن عباس: فإنه قد نهي عن صلاة بعد العصر فلا أدري أتعذب عليها أم تؤجر لأن الله يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (¬4) قال سفيان: تتخذ سلما يقول: يصلي بعد العصر إلى الليل. (¬5) " التعليق: فماذا يقول المبتدعة في هذا النص: هل ابن عباس لا يعرف البدعة ¬

(¬1) آل عمران الآية (106). (¬2) أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 79/74) وتاريخ بغداد (7/ 379) وانظر درء تعارض العقل والنقل (1/ 48) والمنهاج (3/ 467) ومجموع الفتاوى (3/ 278) واجتماع الجيوش الإسلامية (ص.29) وإعلام الموقعين (1/ 259) والاعتصام (1/ 75). (¬3) الاعتصام (2/ 660) وأصله عند أبي داود (4/ 157/3800) والحاكم (4/ 115) وصححه ووافقه الذهبي. (¬4) الأحزاب الآية (36). (¬5) الدارمي (1/ 115) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 1183) والفقيه والمتفقه (1/ 380 - 381) والباعث (215 - 216).

الحسنة والسيئة؟ وهل ابن عباس لا يعرف المتروكات التي لم ينص على فعلها أو تركها؟ ولكن تلبيسات المبتدعة لا تنتهي. - جاء في الإبانة: قال ابن عباس: إياكم والرأي فإن الله عز وجل رد الرأي على الملائكة وذلك أن الله تعالى قال للملائكة: {إني جَاعِلٌ في الأرض خليفةً} فقالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فيها من يفسد فيها} إلى آخر الآية فقال: {إني أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (¬1) وقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنزل اللَّهُ} (¬2) ولم يقل احكم بينهم بما رأيت. (¬3) - وفي ذم الكلام: قال ابن عباس في قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} (¬4) قال: هم أصحاب الخصومات والمراء في دين الله. (¬5) - وجاء في الشريعة: عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دينهم وَكَانُوا شيعًا} (¬6) وقوله: {ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا ¬

(¬1) البقرة الآية (30). (¬2) المائدة الآية (49). (¬3) الإبانة (2/ 4/621/ 812) وذم الكلام (2/ 212/275). (¬4) الأنعام الآية (68). (¬5) ذم الكلام (4/ 14 - 15/ 725). (¬6) الأنعام الآية (159).

وَاخْتَلَفُوا} (¬1) وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} (¬2) وقوله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} (¬3) وقوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬4) وقوله: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (¬5) الآية. قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله تعالى. (¬6) - روى الدارمي عن عثمان بن حاضر الأزدي قال: دخلت على ابن عباس فقلت أوصني. فقال: نعم، عليك بتقوى الله والاستقامة، اتبع ولا تبتدع. (¬7) - وجاء في أصول الاعتقاد: عن عكرمة عن ابن عباس قال: والله ما أظن على ظهر الأرض اليوم أحدا أحب إلى الشيطان هلاكا مني. فقيل وكيف؟ فقال: والله إنه ليحدث البدعة في مشرق أو مغرب، فيحملها الرجل ¬

(¬1) آل عمران الآية (105). (¬2) آل عمران الآية (7). (¬3) النساء الآية (140). (¬4) الأنعام الآية (153). (¬5) الشورى الآية (13). (¬6) الشريعة (1/ 116/4) والإبانة (1/ 2/275 - 276/ 105) وأصول الاعتقاد (1/ 143/212). (¬7) الدارمي (1/ 53) وذم الكلام (2/ 65 - 66/ 263) والإبانة (1/ 2/318 - 319/ 157) وابن وضاح (ص.65) والفقيه والمتفقه (1/ 436) بنحوه وشرح السنة للبغوي (1/ 214).

إلي فإذا انتهت إلي قمعتها بالسنة فترد عليه. (¬1) - وفيه: عن عكرمة عن ابن عباس قال: ما يأتي على الناس عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا سنة حتى تحيى البدع وتموت السنن، وسمعته يقول: حتى تظهر البدع. (¬2) " التعليق: وقد وقع ما أخبر به ابن عباس، فقد غطت البدع الأرض، وصارت السنة نادرة الوجود وأصبح دعاتها من الغرباء. - وفيه: عن طاوس عن ابن عباس: أن معاوية قال له: أنت على ملة علي؟ قال: لا ولا على ملة عثمان، ولكني على ملة النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) - وفيه: عن ابن طاوس عن أبيه قال: قال رجل لابن عباس: الحمد لله الذي جعل هوانا على هواكم. فقال: كل هوى ضلالة. (¬4) - وفيه: عن التميمي عن ابن عباس في قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ ِشرعةً وَمِنْهَاجًا} (¬5) قال: سبيل وسنة. (¬6) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (1/ 61/12). (¬2) أصول الاعتقاد (1/ 103/125) وابن وضاح (87) والطبراني في الكبير (10/ 319/10610) وقال الهيثمي في المجمع (1/ 188): "ورجاله موثقون". والإبانة (1/ 1/177 - 178/ 11). انظر الاعتصام (1/ 110) والحوادث والبدع (ص.44). (¬3) أصول الاعتقاد (1/ 105/133) والإبانة (1/ 2/354 - 355/ 237). (¬4) أصول الاعتقاد (1/ 146/225) والإبانة (1/ 2/355/ 238) والشريعة (1/ 192 - 193/ 132) وذم الكلام (2/ 402/494) وهو في الاعتصام (2/ 688). (¬5) المائدة الآية (48). (¬6) أصول الاعتقاد (1/ 76/65).

- وفيه أيضا: عن ابن عباس في قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} وهو الإسلام {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬1) قال: أخبر الله نبيه والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان ولا يحتاجون إلى زيادة أبدا، وقد أتمه الله فلا ينقص أبدا، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبدا. (¬2) - وجاء في الإبانة: عن أبي العالية، عن ابن عباس، قال: من أقر باسم من هذه الأسماء المحدثة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه. (¬3) - وفيها: عن القاسم بن محمد أن رجلا جاء إلى ابن عباس فسأله عن الأنفال، فقال ابن عباس: كان الرجل ينفل الفرس وسرجه، فأعاد عليه، فقال مثل ذلك، ثم أعاد عليه، فقال مثل ذلك فقال ابن عباس: تدرون ما مثل هذا؟ هذا مثل صبيغ الذي ضربه عمر رضي الله عنه، أما لو عاش عمر لما سأل أحد عما لا يعنيه. (¬4) - وفيها: عن أبي اليقظان قال: خرج رجل من أسلاف المسلمين يطلب علم السماء ومبتدأ الأشياء ومجاري القضاء وموقع القدر المجلوب وما قد احتجبه الله عز وجل من علم الغيوب التي لم ينزل الكتاب بها ولم تتسع العقول لها. وما طلبه حتى انتهى إلى بحر العلوم ومعدن الفقه وينبوع الحكمة عبد الله بن العباس رحمه الله فلما انتهى بالأمر الذي ارتحله إليه وأقدمه عليه ¬

(¬1) المائدة الآية (3). (¬2) أصول الاعتقاد (5/ 965/1602). (¬3) الإبانة (1/ 2/353 - 354/ 234). (¬4) الإبانة (1/ 417/333) والموطأ (2/ 455/19).

قال له: اقرأ آية الكرسي، فلما بلغ: {ولا يحيطون بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلًّا بِمَا شَاءَ}. قال: أمسك يا ابن أخي فقد بلغت ما تريد، فقد أنبأك الله أنه لا يحاط بشيء من علمه، قال له الرجل: يرحمك الله إن الله قد استثنى، فقال: {إِلًّا بِمَا شَاءَ}. فقال عبد الله: صدقت ولكن أخبرني عن الأمر الذي استثناه من علمه وشاء أن يظهره لخلقه أين يوجد ومن أين يعلم؟ قال: لا يوجد إلا في وحي ولا يعلم إلا من نبي، قال: فأخبرني عن الذي لا يوجد في حديث مأثور ولا كتاب مسطور أليس هو الذي نبأ الله لا يدركه عقل ولا يحيط به علم؟ قال: بلى فإن الذي تسأل عنه ليس محفوظا في الكتب ولا محفوظا عن الرسل، فقام الرجل وهو يقول: لقد جمع الله لي علم الدنيا والآخرة، فانصرف شاكرا. (¬1) - وفي الإبانة: أن رجلا من المسلمين أتى عبد الله بن العباس رحمة الله عليه بابن له فقال: لقد حيرت الخصومة عقله، وأذهبت المنازعة قلبه، وذهبت به الكلفة عن ربه. فقال عبد الله: امدد بصرك يا ابن أخي ما السواد الذي ترى؟ قال: فلان، قال: صدقت، قال: فما الخيال المسرف من خلفه؟ قال: لا أدري، قال عبد الله: يا ابن أخي فكما جعل الله لأبصار العيون حدا محدودا من دونها حجابا مستورا فكذلك جعل لأبصار القلوب غاية لا يجاوزها وحدودا لا يتعداها، قال: فرد الله عليه غارب عقله وانتهى عن المسألة عما ¬

(¬1) الإبانة (1/ 2/421 - 422/ 345).

لا يعنيه والنظر فيما لا ينفعه والتفكر فيما يحيره. (¬1) " التعليق: قال ابن بطة عقبه: الله الله إخواني يا أهل القرآن ويا حملة الحديث، لا تنظروا فيما لا سبيل لعقولكم إليه ولا تسألوا عما لم يتقدمكم السلف الصالح من علمائكم إليه، ولا تكلفوا أنفسكم ما لا قوة بأبدانكم الضعيفة، ولا تنقروا ولا تبحثوا عن مصون الغيب ومكنون العلوم، فإن الله جعل للعقول غاية تنتهي إليها، ونهاية تقصر عندها، فما نطق به الكتاب وجاء به الأثر فقولوه، وما أشكل عليكم فكلوه إلى عالمه، ولا تحيطوا الأمور بحيط العشوا حنادس الظلماء بلا دليل هاد ولا ناقد بصير. أتراكم أرجح أحلاما وأوفر عقولا من الملائكة المقربين حين قالوا: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (¬2). إخواني: فمن كان بالله مؤمنا فليردد إلى الله العلم بغيوبه، وليجعل الحكم إليه في أمره، فيسلك العافية ويأخذ بالمندوحة الواسعة، ويلزم المحجة الواضحة والجادة السابلة والطريق الآنسة، فمن خالف ذلك وتجاوزه إلى الغمط بما أمر به، والمخالفة إلى ما نهى عنه، يقع والله في بحور المنازعة وأمواج المجادلة، ويفتح على نفسه أبواب الكفر بربه والمخالفة لأمره والتعدي لحدوده. والعجب لمن خلق من نطفة من ماء مهين، فإذا هو خصيم مبين، ¬

(¬1) الإبانة (1/ 2/422 - 423/ 346). (¬2) البقرة الآية (32).

كيف لا يفكر في عجزه عن معرفة خلقه؟! أما تعلمون أن الله قد أخذ عليكم ميثاق الكتاب أن لا تقولوا على الله إلا الحق، فسبحان الله أنى تؤفكون!! - وفيها: عن عطاء عن ابن عباس قال: ما اجتمع رجلان يختصمان فافترقا حتى يفتريا على الله عز وجل. (¬1) - وفيها: عن أبي صالح عن ابن عباس قال: لا تجالسوا أصحاب الأهواء، فإن مجالستهم ممرضة للقلوب. (¬2) - وفيها: عن ابن عباس أنه كان يتمثل بهذا البيت: فما الناس بالناس الذين عهدتهم ... ولا الدار بالدار التي كنت تعرف (¬3) - وفيها أيضا: عن ابن عباس في قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} (¬4): فالمحكمات ناسخه وحلاله وحرامه، وحدوده وفرائضه، وما يؤمن به ويعمل به، {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زيغٌ} من أهل الشك، فيحملون المحكم على المتشابه والمتشابه على المحكم، ويلبسون فلبس الله عليهم. فأما المؤمنون فيقولون: {آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/519/ 613). (¬2) الإبانة (2/ 3/521/ 619) والشريعة (1/ 196/139). (¬3) الإبانة (2/ 4/574/ 721). (¬4) آل عمران الآية (7).

مِنْ عند ربنا} محكمه ومتشابهه. (¬1) - ونقل الخطيب عن سليمان بن علي: أخبرنا أبو الجوزاء غير مرة، قال: سألت ابن عباس عن الصرف، فقال: يدا بيد لا بأس به، ثم حججت مرة أخرى، والشيخ حي، فأتيته فسألته عن الصرف قال: وزنا بوزن، قلت له: إنك كنت أفتيتني اثنين بواحد، فلم أزل أفتي به منذ أفتيتني، قال: كان ذلك عن رأي، وهذا أبو سعيد الخدري يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتركت رأيي لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) - ونقل الخطيب: عن ابن عبد الله العدوي قال: سئل لاحق بن حميد أبو مجلز، وأنا شاهد عن الصرف، فقال: كان ابن عباس لا يرى به بأسا زمانا من عمره، حتى لقيه أبو سعيد الخدري، فقال له: يا ابن عباس ألا تتقي الله حتى متى توكل الناس الربا؟ .. أما بلغك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال ذات يوم وهو عند أم سلمة زوجته: إني أشتهي تمر عجوة، وأنها بعثت بصاعين من تمر عتيق إلى منزل رجل من الأنصار، فأوتيت بدلهما تمر عجوة، فقدمته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعجبه، فتناول تمرة ثم أمسك فقال: من أين لكم هذا؟ قالت: بعثت بصاعين من تمر عتيق إلى منزل فلان، فأتينا بدلهما من هذا الصاع الواحد، فألقى التمرة من يده، وقال: ردوه ردوه، لا حاجة فيه، التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والذهب بالذهب، والفضة بالفضة، يدا بيد مثلا بمثل ليس فيه زيادة ولا نقصان، فمن زاد أو نقص فقد ¬

(¬1) الإبانة (2/ 4/605 - 606/ 781). (¬2) الفقيه والمتفقه (1/ 368 - 369) والمسند (3/ 51) والكفاية (ص.28).

أربى، فكل ما يكال أو يوزن. فقال: ذكرتني يا أبا سعيد أمرا نسيته، أستغفر الله وأتوب إليه، وكان ينهى بعد ذلك يعني: عنه أشد النهي. (¬1) - ونقل أيضا: عن ابن عباس قال: تمتع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال عروة بن الزبير: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة فقال ابن عباس: ما يقول عُرَيّة يريد؟ قال: يقول: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة. قال ابن عباس: أراهم سيهلكون، أقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويقولون: نهى أبو بكر وعمر. (¬2) - وجاء في شرح السنة: قال ابن عباس: أما تخافون أن تعذبوا أو يخسف بكم أن تقولوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال فلان. (¬3) - وفي الفقيه والمتفقه: عن ابن عباس: قال: من أحدث رأيا ليس في كتاب الله، ولم تمض به سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لم يدر على ما هو منه إذا لقي الله عز وجل. (¬4) - وفيه: قال الأوزاعي: خاصم نفر من أهل الأهواء علي بن أبي طالب، فقال له ابن عباس: يا أبا الحسن: إن القرآن ذلول حمول ذو وجوه، تقول ويقولون، خاصمهم بالسنة، فإنهم لا يستطيعون أن يكذبوا على السنة. (¬5) ¬

(¬1) الفقيه والمتفقه (1/ 372 - 373) ورواه الحاكم في المستدرك (2/ 42 - 43) وفيه ذكر القصة، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة". ورواه أيضا ابن عدي في الكامل (2/ 425). (¬2) الفقيه والمتفقه (1/ 377) وجامع بيان العلم (2/ 1210) وهو في المسند أيضا (1/ 337). (¬3) شرح السنة (1/ 214). (¬4) الفقيه والمتفقه (1/ 458) وذم الكلام (ص.87). وهو في إعلام الموقعين (1/ 58) وفي الاعتصام (1/ 135). (¬5) الفقيه والمتفقه (1/ 560).

- وجاء في ذم الكلام: عن عبيد بن سعد قال: خرج ابن عباس على رجلين يمتريان في آية فقال: ما امترى رجلان في آية إلا جحدها أحدهما. (¬1) - وفيه: عن ابن عباس قال: آفة الرأي الهوى. (¬2) - وجاء في الشريعة عنه أيضا: أنه بلغه عن مجلس في ناحية بني سهم فيه شباب من قريش يختصمون، ويرتفع أصواتهم. فقال ابن عباس لوهب بن منبه: انطلق بنا إليهم. قال: فانطلقنا حتى وقفنا عليهم، فقال ابن عباس لوهب بن منبه: أخبر القوم عن كلام الفتى الذي كلم به أيوب عليه السلام وهو في بلائه. فقال وهب: قال الفتى: لقد كان في عظمة الله عز وجل، وذكر الموت، ما يكل لسانك، ويقطع قلبك، ويكسر حجتك؟ أفلم تعلم يا أيوب: أن لله عبادا، أسكتتهم خشية الله من غير عي ولا بكم، وإنهم لهم الفصحاء الطلقاء، العالمون بالله وأيامه، ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله تعالى تقطعت قلوبهم، وكلت ألسنتهم، وكلت أحلامهم فرقا من الله تعالى وهيبة له، حتى إذا استفاقوا من ذلك ابتدروا إلى الله تعالى بالأعمال الزاكية، لا يستكثرون لله الكثير، ولا يرضون له بالقليل، ناحلون ذائبون، يراهم الجاهل فيقول: مرضى، وقد خولطوا، وقد خالط القوم أمر عظيم. (¬3) - وعن ابن عباس في قوله: {وَاجْعَلْنَا للمتقين إِمَامًا} (¬4): أئمة ¬

(¬1) ذم الكلام (2/ 89/181). (¬2) ذم الكلام (2/ 286 - 287/ 375). (¬3) الشريعة (1/ 194/136). (¬4) الفرقان الآية (74).

التقوى ولأهله يقتدى بنا. (¬1) رواه ابن جرير وفي رواية ابن أبي حاتم: أئمة هدى ليهتدى بنا، ولا تجعلنا أئمة ضلالة. (¬2) - وجاء في أعلام الموقعين: قال ابن عباس: إنما هو كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن قال بعد ذلك برأيه فلا أدري أفي حسناته يجد ذلك أم في سيئاته. - وقال: من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار. (¬3) - وعن أبي العالية قال: قال ابن عباس: ويل للأتباع من عثرات العالم، قيل: وكيف ذاك يا أبا العباس؟ قال: يقول العالم من قبل رأيه، ثم يسمع الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدع ما كان عليه، وفي لفظ: فيلقى من هو أعلم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه فيخبره فيرجع ويقضي الأتباع بما حكم. (¬4) - وجاء في مقدمة مسلم: عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس؛ قال: إنما كنا نحفظ الحديث، والحديث يحفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأما إذ ركبتم كل صعب وذلول؛ فهيهات. (¬5) - وفيها: عن مجاهد قال: جاء بشير العدوي إلى ابن عباس. فجعل يحدث ويقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجعل ابن عباس لا ¬

(¬1) ابن جرير (19/ 53). (¬2) تفسير ابن أبي حاتم (8/ 2742/15487). (¬3) إعلام الموقعين (1/ 58و59). (¬4) الفقيه والمتفقه (2/ 27 - 28) والمدخل للبيهقي (2/ 288 - 289/ 835و836) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 984) وذكره ابن القيم في إعلام الموقعين (2/ 193). (¬5) مقدمة مسلم (1/ 13) وابن ماجه (27).

موقفه من المشركين:

يأذن لحديثه ولا ينظر إليه. فقال: يا ابن عباس! مالي لا أراك تسمع لحديثي؟ أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تسمع. فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول؛ لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف. (¬1) - وجاء في السنة لعبد الله: عن عطاء عن ابن عباس قال: لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، فإن ذلك يوقع الشك في قلوبكم. (¬2) - وفي السنة للخلال: وعنه رضي الله عنه قال: من فارق الجماعة شبرا فمات فميتة جاهلية. (¬3) موقفه من المشركين: - عن الزهري أخبرني عبد الله بن عبد الله أن عبد الله بن عباس قال: يا معشر المسلمين! كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل الله على نبيكم - صلى الله عليه وسلم - أحدث الأخبار بالله، محضا لم يشب، وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب قد بدلوا من كتب الله وغيروا فكتبوا بأيديهم، قالوا: هو من عند الله ليشتروا بذلك ثمنا قليلا. أو لا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟! فلا والله ما رأينا رجلا منهم يسألكم عن الذي أنزل عليكم. (¬4) ¬

(¬1) مقدمة مسلم (1/ 13). (¬2) السنة لعبد الله (22) وذم الكلام (ص.64). (¬3) السنة للخلال (1/ 87/22). (¬4) البخاري (13/ 607/7523).

موقفه من الرافضة:

- وقال عكرمة: كنا جلوسا عند ابن عباس، فمر طائر يصيح، فقال رجل من القوم خير خير. فقال ابن عباس: لا خير ولا شر. (¬1) - عن ابن عباس رضي الله عنهما: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ. وأما يعوق فكانت لهمدان. وأما نسر فكانت لحمير، لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح. فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت. (¬2) موقفه من الرافضة: - عن ابن أبي مليكة أن ذكوان أبا عمرو حدثه قال: جاء ابن عباس رضي الله عنهما يستأذن على عائشة، وهي في الموت. قال: فجئت وعند رأسها عبد الله ابن أخيها عبد الرحمن، فقلت: هذا ابن عباس يستأذن. قالت: دعني من ابن عباس، لا حاجة لي به، ولا بتزكيته. فقال عبد الله: يا أمه، إن ابن عباس من صالحي بنيك، يودعك ويسلم عليك. قالت: فائذن له إن شئت. قال: فجاء ابن عباس، فلما قعد، قال: أبشري، فوالله ما بينك وبين أن تفارقي كل نصب، وتلقي محمدا - صلى الله عليه وسلم - والأحبة، إلا أن تفارق روحك جسدك. ¬

(¬1) تأويل مختلف الحديث (108). (¬2) البخاري (8/ 862/4920).

قالت: إيها، يا ابن عباس، قال: كنت أحب نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... -يعني: إليه- ولم يكن يحب إلا طيبا، سقطت قلادتك ليلة الأبواء، وأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلقطها، فأصبح الناس ليس معهم ماء، فأنزل الله {فتيمموا صعيدًا طيبًا} (¬1). فكان ذلك من سببك، وما أنزل الله بهذه الأمة من الرخصة. ثم أنزل الله تعالى براءتك من فوق سبع سماوات، فأصبح ليس مسجد من مساجد يذكر فيها الله إلا براءتك تتلى فيه آناء الليل والنهار. قالت: دعني عنك يا ابن عباس، فوالله لوددت أني كنت نسيا منسيا. (¬2) - وعن ميمون بن مهران قال: قلت لابن عباس: أوصني، قال: إياك والنجوم، فإنها تدعو إلى الكهانة، ولا تسبن أحدا من أصحاب نبيك - صلى الله عليه وسلم -، وإذا حضرت الصلاة فلا تؤخرها. (¬3) - وعن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: أتيت ابن عباس فقال لي: ألا أعجبك؟ قلت: وما ذاك؛ قال: إني في المنزل قد أخذت مضجعي للقيلولة فجاءني الغلام فقال: بالباب رجل يستأذن، فقلت: ما جاء في هذه الساعة إلا وله حاجة؛ أدخله، فدخل فقلت: ما حاجتك؟ قال: متى يبعث ذاك الرجل؟ قلت: أي رجل؟ قال: علي بن أبي طالب، قلت: لا يبعث حتى يبعث من في القبور؛ قال: ألا أراك تقول كما يقول هؤلاء الحمقاء؟! قال: قلت: أخرجوا ¬

(¬1) النساء الآية (43). (¬2) أحمد (1/ 220و276و349) والبخاري (8/ 618 - 619/ 4752). (¬3) الشريعة (3/ 550/2055).

هذا عني لا يدخل علي هو ولا ضربه من الناس. (¬1) - عن ابن عباس أنه كان يقول: كلام الحرورية ضلالة، وكلام الشيعة هلكة. (¬2) - وفي الصحيح عن ابن أبي مليكة: قيل لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية؟ فإنه ما أوتر إلا بواحدة؟ قال: أصاب، إنه فقيه. (¬3) - وأخرج اللالكائي بسنده إلى مجاهد عن ابن عباس قال: لا تسبوا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فإن الله عز وجل قد أمرنا بالاستغفار لهم وهو يعلم أنهم سيقتتلون. (¬4) - وبسنده إلى ميمون بن مهران قال: قال لي ابن عباس: يا ميمون، لا تسب السلف، وادخل الجنة بسلام. (¬5) - وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن: {يسألونك عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} (¬6) {يسألونك عن الخمر والميسر} (¬7) {يسألونك عن اليتامى} (¬8) {ويسألونك عن ¬

(¬1) الشريعة (3/ 561/2072). (¬2) جامع بيان العلم وفضله (2/ 1168). (¬3) البخاري (7/ 130/3765). (¬4) أصول الاعتقاد (7/ 1324/2353) وفي الشريعة (3/ 540/2033). (¬5) أصول الاعتقاد (7/ 1325/2355). (¬6) البقرة الآية (217). (¬7) البقرة الآية (219). (¬8) البقرة الآية (220).

موقفه من الجهمية:

المحيض} (¬1) ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم. (¬2) موقفه من الجهمية: - جاء في الفتاوى الكبرى لابن تيمية: قال الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا ابن صالح بن جابر الأنماطي، حدثنا علي بن عاصم عن عمران بن حدير عن عكرمة قال: كان ابن عباس في جنازة، فلما وضع الميت في لحده، قام رجل فقال: اللهم رب القرآن اغفر له. فوثب إليه ابن عباس فقال: مه؟ القرآن منه. زاد الصهيبي في حديثه فقال ابن عباس: القرآن كلام الله وليس بمربوب، منه خرج وإليه يعود. (¬3) - وفي الإبانة عنه في قول الله عز وجل: {قُرْآَنًا عربيًا غير ذي عِوَجٍ} (¬4)؛ قال: غير مخلوق. (¬5) - وقال ابن عباس: لولا أن يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد أن يتكلم بكلام الله. (¬6) - وعنه قال: إن الكرسي الذي وسع السماوات والأرض لموضع ¬

(¬1) البقرة الآية (222). (¬2) سنن الدارمي (1/ 51) والطبراني في الكبير (11/ 454/12288) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 1062) والإبانة (1/ 2/398/ 296). (¬3) الفتاوى الكبرى (5/ 56) وهو في الإبانة (1/ 12/270 - 271/ 40). (¬4) الزمر الآية (28). (¬5) الإبانة (1/ 12/289/ 57) والشريعة (1/ 217 - 218/ 172) وأصول الاعتقاد (2/ 242/355) وشرح السنة للبغوي (1/ 183). (¬6) مقدمة شرح السنة للبغوي (1/ 182).

قدميه، وما يقدر قدر العرش إلا الذي خلقه، وإن السماوات في خلق الرحمن مثل قبة في صحراء. (¬1) - عن ابن عباس {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (¬2) قال: عالم بكم أينما كنتم. (¬3) - جاء في أصول الاعتقاد عنه في قوله عز وجل: {تجري بأعيننا} (¬4) قال: أشار بيده إلى عينيه. (¬5) - وفيه عنه قال: إن الله يمهل في شهر رمضان كل ليلة إذا ذهب الثلث الأول من الليل هبط إلى سماء الدنيا ثم قال هل من سائل فيعطى؟ هل من مستغفر فيغفر له؟ هل من تائب فيتاب عليه. (¬6) - وفيه عنه في قوله عز وجل: {وُجُوهٌ يومئذٍ ناضرةٌ} قال: حسنها. {إلى ربها نَاظِرَةٌ} قال: نظرت إلى الخالق. (¬8) - وفيه عنه قال: هل تنكرون أن تكون الخلة لإبراهيم؟ والكلام ¬

(¬1) السنة لعبد الله (79 - 80). (¬2) الحديد الآية (4). (¬3) السنة لعبد الله (81). (¬4) القمر الآية (14). (¬5) أصول الاعتقاد (3/ 456/691). (¬6) أصول الاعتقاد (3/ 498/766). (¬7) القيامة الآيتان (22و23). (¬8) السنة لعبد الله (ص.62) وأصول الاعتقاد (3/ 514/799) والشريعة (2/ 11 - 12/ 625)

موقفه من الخوارج:

لموسى؟ والرؤية لمحمد - صلى الله عليه وسلم -؟ (¬1) - وقيل لابن عباس: بماذا عرفت ربك؟ فقال: من طلب دينه بالقياس، لم يزل دهره في التباس، خارجا عن المنهاج، ظاعنا في الاعوجاج، عرفته بما عرف به نفسه، ووصفته بما وصف به نفسه. (¬2) موقفه من الخوارج: مناظرته لهم: عن أبي زميل سماك الحنفي عن ابن عباس قال: لما اجتمعت الحرورية يخرجون على علي قال: جعل يأتيه الرجل يقول يا أمير المؤمنين، القوم خارجون عليك، قال: دعهم حتى يخرجوا، فلما كان ذات يوم قلت: يا أمير المؤمنين أبرد بالصلاة، فلا تفتني حتى آتي القوم. قال: فدخلت عليهم وهم قائلون، فإذا هم مسهمة وجوههم من السهر قد أثر السجود في جباههم، كأن أيديهم ثفن الإبل، عليهم قمص مرحضة (¬3). فقالوا: ما جاء بك يا ابن عباس، وما هذه الحلة عليك؟ قال: قلت: ما تعيبون من هذه، فلقد رأيت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن ما يكون من ثياب اليمنية. قال: ثم قرأت هذه الآية {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (¬4) فقالوا: ما جاء بك؟ قلت: جئتكم من عند أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (3/ 550 - 551/ 861) والشريعة (2/ 87 - 88/ 730). (¬2) الفتاوى (2/ 18). (¬3) أي مغسولة. النهاية في غريب الحديث (2/ 208). (¬4) الأعراف الآية (32).

فيكم منهم أحد، ومن عند ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله، جئت لأبلغكم عنهم وأبلغهم عنكم. فقال بعضهم: لا تخاصموا قريشا، فإن الله تعالى يقول: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (¬1) فقال بعضهم: بلى فلنكلمنه. قال: فكلمني منهم رجلان أو ثلاثة قال: قلت: ماذا نقمتم عليه؟ قالوا: ثلاثا، فقلت: ما هن؟ قالوا: حكم الرجال في أمر الله، وقال الله عز وجل: {إِنِ الْحُكْمُ إِلًّا لِلَّهِ} (¬2) قال: قلت هذه واحدة وماذا أيضا؟ قالوا: فإنه قاتل فلم يسب ولم يغنم، فلئن كانوا مؤمنين، ما حل قتالهم، ولئن كانوا كافرين، لقد حل قتالهم وسباهم. قال: قلت: وماذا أيضا؟ قالوا: ومحا نفسه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين. قال: قلت: أرأيتم إن أتيتكم من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما ينقض قولكم هذا، أترجعون؟ قالوا: وما لنا لا نرجع؟ قلت: أما قولكم حكم الرجال في أمر الله فإن الله عز وجل قال في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬3). وقال في المرأة وزوجها: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (¬4). فصير الله ¬

(¬1) الزخرف الآية (58). (¬2) الأنعام الآية (57) .. (¬3) المائدة الآية (95). (¬4) النساء الآية (35).

ذلك إلى حكم الرجال فنشدتكم الله، أتعلمون حكم الرجال في دماء المسلمين وفي إصلاح ذات بينهم، أفضل، أو في دم أرنب ثمن ربع درهم وفي بضع امرأة؟ قالوا: بلى، هذا أفضل. قال: أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم، قال: وأما قولكم قاتل فلم يسب ولم يغنم، أفتسبون أمكم عائشة رضي الله عنها؟! فان قلتم: نسبيها فنستحل منها ما نستحل من غيرها، فقد كفرتم، وإن قلتم ليست بأمنا فقد كفرتم، فأنتم ترددون بين ضلالتين، أخرجت من هذه؟ قالوا: بلى، قال: وأما قولكم محا نفسه من أمير المؤمنين، فأنا آتيكم بمن ترضون، إن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية حين صالح أبا سفيان وسهيل بن عمرو قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أكتب يا علي هذا ما صالح عليه محمد رسول الله ... ، فقال أبو سفيان وسهيل بن عمرو: ما نعلم أنك رسول الله، ولو نعلم أنك رسول الله، ما قاتلناك. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم إنك تعلم أنى رسولك، امح يا علي واكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله وأبو سفيان وسهيل بن عمرو (¬1). قال: فرجع منهم ألفان وبقي بقيتهم فخرجوا فقتلوا أجمعين. (¬2) - وعن عبد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس أنه ذكر عنده الخوارج وما يلقون عند تلاوة القرآن، فقال: ليسوا بأشد اجتهادا من اليهود والنصارى ثم ¬

(¬1) حديث صلح الحديبية أخرجه: البخاري (5/ 380/2699) ومسلم (3/ 1409/1783) وأبو داود (2/ 415/1832) مختصرا من حديث البراء بن عازب. وأخرجه: مسلم (3/ 1411/1784) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنهما. (¬2) جامع بيان العلم (2/ 962 - 964) وهو في المصنف لعبد الرزاق (10/ 157 - 160/ 18678) والمعجم الكبير للطبراني (10/ 257 - 258/ 10598) والمستدرك للحاكم (2/ 150 - 152) والحلية لأبي نعيم (1/ 318 - 320) وأخرج بعضه الإمام أحمد (1/ 342 وغيرهم.

هم يضلون (¬1).اهـ (¬2) - وعن معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال: ذكر لابن عباس الخوارج وما يصيبهم عند قراءة القرآن، قال: يؤمنون بمحكمه، ويضلون عن متشابهه، وقرأ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} (¬3).اهـ (¬4) - وعن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس: {وَمَنْ لَمْ يحكم بِمَا أنزل اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (¬5) قال: هي به كفر وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله. (¬6) - روى البخاري في صحيحه في التفسير بسنده إلى المنهال عن سعيد قال: قال رجل لابن عباس: إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي، قال: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يومئذٍ ولا يتساءلون} (¬7)، {وأقبل بعضهم على ¬

(¬1) ورد في بعض النسخ 'يصلون' بالصاد المهملة، والصواب بالضاد المعجمة، وترجحه رواية الآجري في الشريعة (وهم على ضلالة). (¬2) أصول الاعتقاد (7/ 1306/2315) والشريعة (1/ 144/48) والمصنف لابن أبي شيبة (7/ 556/37901). (¬3) آل عمران الآية (7). (¬4) الشريعة (1/ 144/47) والمصنف لابن أبي شيبة (7/ 556/37902) وذم الكلام (68). (¬5) المائدة الآية (44). (¬6) الإبانة (2/ 6/734/ 1005).

بعضٍ يتساءلون} (¬1)، {ولا يكتمون الله حديثًا} (¬2) {ربنا ما كنا مشركين} (¬3) فقد كتموا في هذه الآية. وقال: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) -إلى قوله- دحاها} (¬4) فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض، ثم قال: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ -إلى - طائعين} (¬5) فذكر في هذه خلق الأرض قبل السماء، وقال تعالى: {وكان الله غفورًا رحيمًا} {عزيزًا حكيمًا} {سميعًا بصيرًا} فكأنه كان ثم مضى، فقال: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} (¬6) في النفخة الأولى، ثم ينفخ في الصور {فَصَعِقَ مَنْ من السَّمَاوَاتِ وَمَنْ في الأرض إِلًّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} (¬7) فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون ثم في النفخة الآخرة {أقبل بَعْضُهُمْ على بعضٍ يتساءلون} (¬8) وأما قوله: {ما كنا مشركين} (¬9) {ولا ¬

(¬1) المؤمنون الآية (101). (¬2) الصافات الآية (27). (¬3) النساء الآية (42). (¬4) الأنعام الآية (23). (¬5) النازعات الآيات (27 - 30). (¬6) فصلت الآيات (9 - 11). (¬7) المؤمنون الآية (101). (¬8) الزمر الآية (68). (¬9) الصافات الآية (27). (¬10) الأنعام الآية (23).

يكتمون الله حديثًا} (¬1) فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم. وقال المشركون: تعالوا نقول لم نكن مشركين، فختم على أفواههم فتنطق أيديهم. فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثا، وعنده {يود الذين كفروا} الآية. (¬2) وخلق الأرض في يومين ثم خلق السماء، ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين، ثم دحا الأرض، ودحوها أن أخرج منها الماء والمرعى وخلق الجبال والجمال والآكام وما بينهما في يومين آخرين فذلك قوله: {دحاها} وقوله: {خَلَقَ الأرض في يومين} (¬3) فجعلت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام، وخلقت السماوات في يومين، {وَكَانَ اللَّهُ غفورًا رحيمًا} (¬4) سمى نفسه ذلك، وذلك قوله، أي لم يزل كذلك، فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد. فلا يختلف عليك القرآن، فإن كلا من عند الله. (¬5) قال الحافظ عقبه: كان هذا الرجل هو نافع بن الأزرق الذي صار بعد ذلك رأس الأزارقة من الخوارج، وكان يجالس ابن عباس بمكة ويسأله ويعارضه. (¬6) - وأورد ابن كثير في تفسيره من سورة النمل عند قوله تعالى: ¬

(¬1) النساء الآية (42). (¬2) النساء الآية (42). (¬3) فصلت الآية (9). (¬4) النساء الآية (100). (¬5) (8/ 713 - 714). (¬6) فتح الباري (8/ 716).

{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} (¬1)، قال مجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما عن ابن عباس وغيره: كان الهدهد مهندسا، يدل سليمان عليه السلام على الماء، إذا كان بأرض فلاة طلبه فنظر له الماء في تخوم الأرض، كما يرى الإنسان الشيء الظاهر على وجه الأرض، ويعرف كم مساحة بعده من وجه الأرض، فإذا دلهم عليه أمر سليمان -عليه السلام- الجان فحفروا له ذلك المكان حتى يستنبط الماء من قراره، فنزل سليمان عليه السلام بفلاة من الأرض، فتفقد الطير ليرى الهدهد، فلم يره، فَقَالَ {فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} (¬2). حدث يوما عبد الله بن عباس بنحو هذا، وفي القوم رجل من الخوارج، يقال له (نافع بن الأزرق)، وكان كثير الاعتراض على ابن عباس، فقال له: قف يا ابن عباس، غلبت اليوم، قال: ولم؟ قال: إنك تخبر عن الهدهد أنه يرى الماء في تخوم الأرض، وإن الصبي ليضع له الحبة في الفخ، ويحثو على الفخ ترابا، فيجيء الهدهد ليأخذها فيقع في الفخ، فيصيده الصبي. فقال ابن عباس: لولا أن يذهب هذا فيقول: رددت على ابن عباس، لما أجبته: فقال له: ويحك، إنه إذا نزل القدر عمى البصر، وذهب الحذر، فقال له نافع: والله لا أجادلك في شيء من القرآن أبدا. (¬3) ¬

(¬1) النمل الآية (20). (¬2) النمل الآية (20). (¬3) تفسير ابن كثير (6/ 195).

موقفه من المرجئة:

موقفه من المرجئة: - جاء في السنة لعبد الله: عن عكرمة عن ابن عباس قال: صنفان من هذه الأمة ليس لهم في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية. (¬1) - وفي الإبانة: عن مجاهد عن ابن عباس وأبي هريرة قالا: الإيمان يزيد وينقص. (¬2) - وفي أصول الاعتقاد: عن عكرمة، عن ابن عباس قال: اتقوا الإرجاء، فإنها شعبة من النصرانية. (¬3) - عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قال لغلمانه: ومن أراد منكم الباءة زوجناه، لا يزني منكم زان إلا نزع منه الإيمان، فإن شاء أن يرده عليه رده، وإن شاء أن يمنعه منعه. (¬4) - عن مورق العجلي عن ابن عباس قال: الحياء والإيمان يعني في قرن واحد، فإذا انتزع أحدهما من العبد اتبعه الآخر. (¬5) قلت: ثبت في المرفوع: الحياء والإيمان قرنا جميعا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر. (¬6) ¬

(¬1) السنة لعبد الله (89) والإبانة (2/ 7/888/ 1232) والسنة للخلال (4/ 138). (¬2) الإبانة (2/ 845/1129) والشريعة (1/ 261/238). (¬3) أصول الاعتقاد (5/ 1059 - 1060/ 1801). (¬4) أصول الاعتقاد (6/ 1089/1866) والإبانة (2/ 715/966) والشريعة (1/ 266 - 267/ 252) والإيمان لابن أبي شيبة (94) والمصنف له (6/ 163/30352) والسنة للخلال (4/ 100/1260). (¬5) أصول الاعتقاد (6/ 1089 - 1090/ 1867). (¬6) البخاري في الأدب المفرد (1313) وأبو نعيم في الحلية (4/ 297) والحاكم (1/ 22) وقال: "صحيح على شرطهما" ووافقه الذهبي. عن ابن عمر رضي الله عنهما.

موقفه من القدرية:

موقفه من القدرية: - عن عبد الله بن الحارث قال: سمعت ابن عباس يقول: إن بني إسرائيل كانوا على شريعة ومنهاج ظاهرين على من ناوأهم حتى تنازعوا في القدر، فلما تنازعوا اختلفوا وتباغضوا وتلاعنوا واستحل بعضهم حرمات بعض، فسلط عليهم عدوهم فمزقهم كل ممزق. (¬1) - وعن عطاء بن أبي رباح: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: يا أبا العباس أرأيت من صدني عن الهدى، وأوردني الضلالة والردى، ألا تراه قد ظلمني؟ قال: إن كان الهدى كان شيئا لك عنده فمنعكه فقد ظلمك، وإن كان هو له يؤتيه من يشاء فلم يظلمك، قم لا تجالسني. (¬2) - جاء في السنة لعبد الله عن يحيى بن سعيد: أن أبا الزبير أخبره أنه كان يطوف مع طاووس بالبيت. فمر بمعبد الجهني. فقال قائل لطاووس: هذا معبد الجهني، الذي يقول في القدر فعدل إليه طاووس حتى وقف عليه، فقال: أنت المفتري على الله القائل ما لا تعلم؟ قال معبد: يكذب علي. قال أبو الزبير: فعدلت مع طاووس حتى دخلنا على ابن عباس فقال له طاووس: يا أبا عباس، الذين يقولون في القدر؟ فقال ابن عباس: أروني بعضهم قال: قلنا: صانع ماذا؟ قال إذن أجعل يدي في رأسه ثم أدق عنقه. (¬3) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 700/1133). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 742 - 743/ 1227). فتح البر (2/ 278). (¬3) السنة (138 - 139) وأصول الاعتقاد (4/ 787/1322) والإبانة (2/ 9/156/ 1611) والشريعة (1/ 417/492).

" التعليق: هذا هو الذي يثلج الصدر مع المبتدعة لا المداهنة والنفاق، ولا دعوى الاستفادة من المبتدعة فيما عندهم من العلوم الشرعية. والواقع أن الله تعالى أغنانا عن المبتدعة في كل الفنون والحمد لله رب العالمين. - عن عطاء قال: قال ابن عباس: لا أعرف أو لا أعلم الحق إلا في كلام قوم ألجؤوا ما غاب عنهم في الأمور إلى الله تبارك وتعالى، وفوضوا أمورهم إلى الله، وعلموا أن كلا بقضاء الله وقدره. (¬1) - عن الأوزاعي أنه بلغه عن ابن عباس أنه ذكر عنده قولهم في القدر، فقال: ينتهي بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يكون قدر خيرا كما أخرجوه من أن يكون قد قدر شرا. (¬2) - عن ميمون بن مهران قال: قال لي ابن عباس: احفظ عني ثلاثا: إياك والنظر في النجوم فإنه يدعو إلى الكهانة، وإياك والقدر فإنه يدعو إلى الزندقة، وإياك وشتم أحد من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فيكبك الله في النار على وجهك. (¬3) " التعليق: هذا النص المبارك فيه سد الذرائع الواردة عن الصحابة رضي الله عنهم. فإن الاشتغال بالنجوم يؤدي إلى الكهانة وهي ضرب من أضراب الشرك بالله، والاشتغال بفلسفة القدرية يؤدي إلى الانسلاخ من الدين، ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 771/1287) والإبانة (2/ 9/165/ 1639). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 772/1291). (¬3) أصول الاعتقاد (4/ 700/1134).

والاشتغال بالحروب والمخاصمات التي وقعت بين بعض الصحابة مع بعضهم مجتهدين في ذلك ومتأولين يكب في نار جهنم، ولا أرى من يشتغل بذلك إلا من كان من الروافض أوفيه شعبة منهم، فما نقرأه ونسمعه من سب معاوية رضي الله عنه فمن هذا الباب والله المستعان. (¬1) - عن ابن عباس أنه سئل عن القدرية؛ فقال: هم شقة من النصرانية. (¬2) - وعن عمرو بن دينار قال: ذكر القدرية عند ابن عباس؛ قال: إن كان في البيت أحد منهم؛ فأرونيه آخذ برأسه. (¬3) - عن مجاهد قال: ذكر القدرية عند ابن عباس؛ فقال: لو رأيت أحدا منهم عضضت أنفه. (¬4) - عن مجاهد قال: قيل لابن عباس: إن ناسا يقولون بالقدر. فقال: يكذبون بالكتاب، لئن أخذت بشعر أحدهم لأنضونه (¬5). إن الله عز وجل كان على عرشه قبل أن يخلق شيئا، فخلق الخلق فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه. (¬6) - جاء في أصول الاعتقاد: عن ابن عباس أن رجلا قدم علينا يكذب بالقدر. فقال: دلوني عليه -وهو يومئذ أعمى. فقالوا له: ما تصنع به؟ فقال: ¬

(¬1) راجع كتابنا من سب الصحابة ومعاوية فأمه هاوية. (¬2) الإبانة (2/ 9/120/ 1546). (¬3) الإبانة (2/ 9/157/ 1612). (¬4) الإبانة (2/ 9/157/ 1613). (¬5) لأقطعنه. (¬6) أصول الاعتقاد (3/ 439/660) والإبانة (1/ 8/338/ 1371) والشريعة (1/ 359 - 360/ 389).

والذي نفسي بيده لئن استمكنت منه لأعضن أنفه حتى أقطعه، ولئن وقعت رقبته بيدي لأدقنها، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كأني بنساء بني فهر يطفن بالخزرج تصطك ألياتهن مشركات، وهذا أول شرك في الإسلام، والذي نفسي بيده لا ينتهي بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يقدر الخير كما أخرجوه من أن يقدر الشر" (¬1).اهـ (¬2) - وفي الإبانة: عن مجاهد قال: أتيت ابن عباس برجل من هذه المفوضة فقلت: يا ابن عباس. هذا رجل يكلمك في القدر، قال: أدنه مني، فقلت: هو ذا هو، فقال: أدنه فقلت: هو ذا هو، تريد أن تقتله؟ قال: إي والذي نفسي بيده؛ لو أدنيته مني لوضعت يدي في عنقه؛ فلم يفارقني حتى أدقها. (¬3) - وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه: أن رجلا قال لابن عباس: إن ناسا يقولون: إن الشر ليس بقدر، فقال ابن عباس: فبيننا وبين أهل القدر هذه الآية: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا - حتى- فَلَوْ شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ} (¬4) والعجز والكيس بقدر. (¬5) ¬

(¬1) أحمد (1/ 330) وابن أبي عاصم في السنة (1/ 39/79) وذكره الهيثمي في المجمع (7/ 204) وقال: "رواه أحمد من طريقين وفيهما أحمد بن عبيد المكي -الصواب: محمد بن عبيد- وثقه ابن حبان وضعفه أبو حاتم، وفي إحداهما رجل لم يسم. وسماه في الأخرى العلاء بن الحجاج ضعفه الأزدي، وقال في المسند إن محمد بن عبيد سمع ابن عباس" اهـ. (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 691/1116). (¬3) الإبانة (2/ 9/157 - 158/ 1615). (¬4) الأنعام الآيتان (148و149). (¬5) المصنف (20073) والإبانة (1/ 8/278/ 1294) وأصول الاعتقاد (3/ 607/970) والشريعة (1/ 415/488).

- وفي الإبانة: عن ابن عباس في قول الله عز وجل: {يحول بين الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} (¬1)؛ قال: يحول بين المؤمن وبين المعاصي، وبين الكافر وبين الإيمان. (¬2) - وروى ابن جرير بسنده عن ابن عباس: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ على عِلْمٍ} (¬3)؛ قال: أضله الله في سابق علمه. (¬4) - قال ابن القيم: فانتظمت الآية على هذا القول في إثبات القدر والحكمة التي لأجلها قدر عليه الضلال. (¬5) - وفي الإبانة: عن دميم بن سماك سمع أباه يحدث، ولقي ابن عباس بالمدينة قال: جاء عبد الله بن عباس في ثلاثة نفر يتماشون؛ فقالوا: هي يا ابن عباس؛ حدثنا عن القدر، قال: فأدرج كم قميصه حتى بدا منكبه ثم قال: لعلكم تتكلمون فيه؟ قالوا: لا، قال: والذي نفسي بيده؛ لو علمت أنكم تتكلمون فيه لضربتكم بسيفي هذا ما استمسك في يدي. (¬6) - وفيها: عن عطاء بن أبي رباح قال: أتيت ابن عباس فقلت له: قد تكلم في القدر؛ فقال: وقد فعلوا ذلك؟ قلت: نعم، قال: والله ما نزلت هذه ¬

(¬1) الأنفال الآية (24). (¬2) الإبانة (2/ 9/159/ 1620). (¬3) الجاثية الآية (23). (¬4) تفسير الطبري (25/ 151) والإبانة (2/ 9/160/ 1622) وأصول الاعتقاد (3/ 625/1003). (¬5) شفاء العليل (1/ 94). (¬6) الإبانة (2/ 9/161/ 1626).

الآية إلا فيهم: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (¬1)، أولئك شرار هذه الأمة؛ لا تعودوا مرضاهم، ولا تشهدوا موتاهم، إن أريتني أحدا منهم فقأت عينه بأصبعي هاتين. (¬2) - وفيها: عن طاووس قال: كنا جلوسا عند ابن عباس، وعنده رجل من أهل القدر؛ فقلت: يا أبا عباس. كيف تقول فيمن يقول لا قدر؟ قال: أفي القوم أحد منهم؟ قلت: ولم؟ قال: آخذ برأسه ثم أقرأ عليه آية كيت، وآية كيت، حتى قرأ آيات من القرآن، حتى تمنيت أن يكون كل من تكلم في القدر شهده، فكان فيما قرأ: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} (¬3). اهـ (¬4) - وفيها: عن ابن عباس في قول الله عز وجل: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} (¬5)؛ يقول شاكا كأنما يصعد في السماء؛ يقول: فكما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء؛ فكذلك لا يقدر على أن يدخل التوحيد ¬

(¬1) القمر الآيتان (48و49). (¬2) الإبانة (2/ 9/162/ 1628) وأصول الاعتقاد (3/ 597/948). (¬3) الإسراء الآية (4). (¬4) الإبانة (2/ 9/162 - 163/ 1630) والشريعة (1/ 417/493) والسنة لعبد الله (141). (¬5) الأنعام الآية (125).

والإيمان قلبه، حتى يدخله الله عز وجل في قلبه. (¬1) - وفيها: عن ابن عباس قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} (¬2)، قال: خلق الله عز وجل آدم فأخذ ميثاقه أنه ربه، وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصيباتهم، ثم أخرج ولده من ظهره كهيئة الذر؛ فأخذ مواثيقهم أنه ربهم وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصيباتهم. (¬3) - وفيها: عن ابن عباس قال: ما في الأرض قوم أبغض إلي من قوم من القدرية، يأتونني يخاصمونني، وذاك أنهم أحسب لا يعلمون قدرة الله عز وجل، قال الله تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (¬4). اهـ (¬5) - وفيها: عن ابن عباس {يعلم السر وأخفى} (¬6)؛ قال: السر: ما أسر في نفسه، وأخفى: ما لم يكن وهو كائن. (¬7) - وفيها: عن ابن عباس قال: ما تكلم أحد في القدر إلا خرج من الإيمان. (¬8) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 9/163/ 1631). (¬2) الأعراف الآية (172). (¬3) الإبانة (2/ 9/164/ 1634). (¬4) الأنبياء الآية (23). (¬5) الإبانة (2/ 9/164 - 165/ 1637) والسنة لعبد الله (139) والشريعة (1/ 416/491). (¬6) طه الآية (7). (¬7) الإبانة (2/ 9/165/ 1638). (¬8) الإبانة (2/ 9/166/ 1641) والشريعة (1/ 414/486).

- وفيها عنه: أنه قرأ: {وَحَرَامٌ على قريةٍ} (¬1) قال: وجب عليهم أنهم لا يرجعون، لا يرجع منهم راجع، ولا يتوب منهم تائب. (¬2) - وفيها: عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عباس فقال: يا أبا عباس. أوصني، فقال: أوصيك بتقوى الله، وإياك وذكر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنك لا تدري ما سبق لهم من الفضل، وإياك وعمل النجوم إلا ما يهتدى به في بر أو بحر، فإنها تدعو إلى كهانة، وإياك ومجالسة الذين يكذبون بالقدر، ومن أحب أن تستجاب دعوته، وأن يزكى عمله ويقبل منه؛ فليصدق حديثه، وليؤد أمانته، وليسلم صدره للمسلمين. (¬3) - وفيها: عن أبي الخليل قال: كنا نتحدث عن القدر؛ فوقف علينا ابن عباس، فقال: إنكم قد أفضتم في أمر لن تدركوا غوره. (¬4) - وروى ابن جرير بسنده عن ابن عباس في قوله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عليه بِفَاتِنِينَ (162) إِلًّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} (¬5) يقول: ما أنتم بفاتنين على أوثانكم أحدا إلا من قد سبق له أنه صال الجحيم. (¬6) - وعن ابن عباس في قوله عز وجل: {قد أفلح من زكاها (9) وقد ¬

(¬1) الأنبياء الآية (95). (¬2) الإبانة (2/ 9/166/ 1641). (¬3) الإبانة (2/ 11/310/ 1987). (¬4) الإبانة (2/ 11/310/ 1988). (¬5) الصافات الآيتان (162و163). (¬6) تفسير الطبري (23/ 109) وبنحوه في الإبانة (1/ 8/272/ 1285) وأصول الاعتقاد (3/ 625/1004).

خَابَ مَنْ دساها} (¬1) يقول: قد أفلح من زكى الله نفسه، وقد خاب من دسى الله نفسه فأضلها. (¬2) - وعن ابن عباس في قوله: {وهديناه النجدين} (¬3) قال: الخير والشر. (¬4) - وروى ابن جرير بسنده عن ابن عباس في قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} (¬5) قال: إن الله سبحانه بدأ خلق ابن آدم مؤمنا وكافرا، كما قال جل ثناؤه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} (¬6) ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مؤمنا وكافرا. (¬7) - وفي أصول الاعتقاد عن ابن عباس في قوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} (¬8) يعني قال: من كان كافرا ضالا فهديناه {وَجَعَلْنَا لَهُ نورًا ¬

(¬1) الشمس الآيتان (9و10). (¬2) أصول الاعتقاد (3/ 601/955). (¬3) البلد الآية (10). (¬4) أصول الاعتقاد (3/ 602/957). (¬5) الأعراف الآيتان (29و30). (¬6) التغابن الآية (2). (¬7) تفسير الطبري (8/ 156) وأصول الاعتقاد (3/ 603/961) والإبانة (1/ 8/277/ 1292) والشريعة (1/ 332/355). (¬8) الأنعام الآية (122).

يمشي به في الناس} يعني بالنور: القرآن من صدق به وعمل به، كمن مثله في الظلمات والكفر والضلالة. (¬1) - وفيه أيضا: عن ابن عباس في قوله: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يديه وَمِنْ خَلْفِهِ يحفظونه مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (¬2) قال: فإذا جاء القدر خلوا عنه. (¬3) - وفيه: عن ابن عباس في قوله: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (¬4) قال: فريقين: فريقا يرحم فلا يختلف، وفريقا لا يرحم فيختلف، فمنهم شقي وسعيد. (¬5) - وفيه عن ابن عباس: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} (¬6) يقول: الحسنة والسيئة من عند الله، أما الحسنة فأنعم الله بها عليك، وأما السيئة فابتلاك بها. (¬7) - وفيه: عن ابن عباس قال: {تَبَّتْ يدا أبي لَهَبٍ} (¬8) بما جرى من ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (3/ 604/962). (¬2) الرعد الآية (11). (¬3) أصول الاعتقاد (3/ 604/963). (¬4) هود الآيتان (118و119). (¬5) أصول الاعتقاد (3/ 605/966). (¬6) النساء الآية (78). (¬7) أصول الاعتقاد (3/ 610 - 611/ 976). (¬8) المسد الآية (1).

القلم في اللوح المحفوظ. (¬1) - وفيه: عن ابن عباس في قوله تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} (¬2) يقول: ما كان الله ليعذب أقواما وأنبياؤهم بين أظهرهم حتى يخرجهم. ثم قال: {وَمَا كان الله معذبهم وهم يستغفرون} يقول: ومن قد سبق له من الله الدخول في الإيمان وهو الاستغفار. ويقول للكافر: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (¬3) فميز أهل السعادة من أهل الشقا. فقال: {وَمَا لَهُمْ ألا يعذبهم الله} (¬4) فعذبهم الله يوم بدر بالسيف. (¬5) - وفيه عن ابن عباس: {فَبِمَا أغويتني} قال: أضللتني. (¬7) - وفيه عن ابن عباس: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حسرتى على ما فرطت في جَنْبِ اللَّهِ} {أَوْ تَقُولَ لَوْ أن الله هداني لَكُنْتُ مِنَ المتقين} أو ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (3/ 614 - 615/ 986). (¬2) الأنفال الآية (33). (¬3) آل عمران الآية (179). (¬4) الأنفال الآية (34). (¬5) أصول الاعتقاد (3/ 615/987). (¬6) الأعراف الآية (16). (¬7) أصول الاعتقاد (3/ 624/1002).

تقول: {لو أن لي كرةً فأكون مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (¬1) من المهتدين. فأخبر الله سبحانه: أنهم لو ردوا لم يقدروا على الهدى {وَلَوْ ردوا لعادوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لكاذبون} (¬2) قال: {وَنُقَلِّبُ أفئدتهم وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يؤمنوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (¬3). قال: لو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى، كما حلنا بينهم وبينه أول مرة. (¬4) - وفيه: عن ابن عباس في قوله: {وَمَنْ يرد اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ من اللَّهِ شئيًا} يقول الله: من يرد الله ضلالته لم تغن عنه شيئا. (¬6) - وفيه: عن ابن عباس في قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلًّا ليعبدون} (¬7) قال: ما خلقتهم عليه من طاعتي ومعصيتي، ومن شقوتي وسعادتي. (¬8) - وفيه: عن ابن عباس في هذه الآية {إِنَّا كُنَّا نستنسخ مَا كُنْتُمْ ¬

(¬1) الزمر الآيات (56 - 58). (¬2) الأنعام الآية (28). (¬3) الأنعام الآية (110). (¬4) أصول الاعتقاد (3/ 627 - 628/ 1010). (¬5) المائدة الآية (41). (¬6) أصول الاعتقاد (3/ 630/1015). (¬7) الذاريات الآية (56). (¬8) أصول الاعتقاد (3/ 633/1018).

تَعْمَلُونَ} (¬1) قال: كتب الله أعمال بني آدم وما هم عاملون إلى يوم القيامة، قال: والملائكة يستنسخون ما يعمل بنو آدم يوما بيوم، فذلك قوله: {إِنَّا كُنَّا نستنسخ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. (¬2) - وروى ابن جرير بسنده عن ابن عباس، قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بقدرٍ} (¬3) قال: خلق الله الخلق كلهم بقدر، وخلق لهم الخير والشر بقدر، فخير الخير السعادة، وشر الشر الشقاء، بئس الشر الشقاء. (¬4) - وفي أصول الاعتقاد: عن ابن عباس قال: باب شرك فتح على أهل الصلاة، التكذيب بالقدر، فلا تجادلوهم فيجري شركهم على أيديكم. (¬5) - وفيه عن أبي رجاء قال: سمعت ابن عباس وهو يخطب على المنبر بالبصرة يقول: لا يزال أمر هذه الأمة مقاربا أو قواما ما لم ينظروا في الولدان والقدر - أو حتى ينظروا في الولدان والقدر. (¬6) - وفيه عن عطاء قال: سمعت ابن عباس يقول: كلام القدرية كفر، وكلام الحرورية ضلالة، وكلام الشيعة هلكة. (¬7) ¬

(¬1) الجاثية الآية (29). (¬2) أصول الاعتقاد (3/ 595/944). (¬3) القمر الآية (49). (¬4) الطبري (27/ 111) وأصول الاعتقاد (3/ 597/949) بنحوه. (¬5) أصول الاعتقاد (4/ 696 - 697/ 1126) ووالإبانة (2/ 9/160/ 1623) والشريعة (1/ 420/498). (¬6) أصول الاعتقاد (4/ 697/1127). (¬7) أصول الاعتقاد (4/ 713/1165).

- وفيه عن ابن عباس في قوله: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (¬1) قال: هم الكفار الذين خلقهم الله للنار وخلق النار لهم، فزالت عنهم الدنيا وحرمت عليهم الجنة، قال الله: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} (¬2).اهـ (¬3) - وفيه: عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (¬4) وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ على الهدى} (¬5) وقوله: {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حَرَجًا} (¬6) وقوله: {مَا كَانُوا ليؤمنوا إلا أن يشاء اللَّهُ (¬7) وقوله: {وما كان لنفسٍ أن تؤمن إلا بإذن الله} (¬8) وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هداها} (¬9) وقوله: {وَلَوْ شَاءَ ربك ¬

(¬1) الزمر الآية (15). (¬2) الحج الآية (11). (¬3) أصول الاعتقاد (4/ 637/1022) وتفسير الطبري (23/ 205). (¬4) البقرة الآية (6). (¬5) الأنعام الآية (35). (¬6) الأنعام الآية (125). (¬7) الأنعام الآية (111). (¬8) يونس الآية (100). (¬9) السجدة الآية (13).

لَآَمَنَ مَنْ في الأرض كُلُّهُمْ جميعًا} (¬1) وقوله: {جَعَلْنَا في أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا} (¬2) وقوله: {مَنْ أغفلنا قَلْبَهُ عَنْ ذكرنا} (¬3) وقوله: {فَمِنْهُمْ شقيٌّ وسعيدٌ} (¬4) ونحو هذا من القرآن. وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول. (¬5) - وفيه عن ابن عباس قال: القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله ولم يؤمن بالقدر كان كفره بالقضاء نَقْضاً للتوحيد، ومن وحد الله وآمن بالقدر كان العروة الوثقى لا انفصام لها. (¬6) - عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان الهدهد يدل سليمان على الماء. فقلت له كيف ذاك والهدهد ينصب له الفخ عليه التراب؟ فقال: أَعَضَّكَ اللهُ بِهَنِ أَبِيكَ ألم يكن إذا جاء القضاء ذهب البصر. (¬7) - وفيه عن عكرمة قال: كنت حاضرا عند عبد الله بن عباس فجاءه ¬

(¬1) يونس الآية (99). (¬2) يس الآية (8). (¬3) الكهف الآية (28). (¬4) هود الآية (105). (¬5) أصول الاعتقاد (4/ 637 - 638/ 1024). (¬6) أصول الاعتقاد (4/ 742/1224) والإبانة (2/ 9/159/ 1619) والشريعة (1/ 418 - 419/ 496) وفي السنة لعبد الله (141). (¬7) أصول الاعتقاد (4/ 743/1228).

رجل فقال: يا أبا عباس، أخبرني من القدرية؟ فإن الناس قد اختلفوا عندنا بالمشرق. فقال ابن عباس: القدرية قوم يكونون في آخر الزمان دينهم الكلام، يقولون إن الله لم يقدر المعاصي على خلقه، وهو معذبهم على ما قدر عليهم، فأولئك هم القدرية هم مجوس هذه الأمة، وأولئك ملعونون على لسان النبيين أجمعين، فلا تقاولوهم فيفتنوكم، ولا تجالسوهم، ولا تعودوا مرضاهم، ولا تشهدوا جنائزهم، أولئك أتباع الدجال، لخروج الدجال أشهى إليهم من الماء البارد. فقال الرجل: يا أبا عباس لا تجد علي فإني سائل مبتلى بهم. قال: قل. قال: كيف صار في هذه الأمة مجوس وهذه الأمة مرحومة؟ قال: أخبرك لعل الله ينفعك. قال: افعل. قال: إن المجوس زعمت أن الله لم يخلق شيئا من الهوام والقذر، ولم يخلق شيئا يضر، وإنما يخلق المنافع وكل شيء حسن، وإنما القدر هو الشر، والشر كله خلق إبليس وفعله. وقالت القدرية: إن الله أراد من العباد أمرا لم يكن، وأخرجوه عن ملكه وقدرته، وأراد إبليس من العباد أمرا وكان. إبليس عند القدرية أقوى وأعز. فهؤلاء القدرية، وكذبوا أعداء الله. إن الله يبتلي ويعذب على ما ابتلى وهو غير ظالم لا يسأل عما يفعل، ويمن ويثيب على منه إياهم وهو فعال لما يريد، ولكنهم أعداء الله ظنوا ظنا فحققوا ظنهم عند أنفسهم وقالوا: نحن العاملون والمثابون والمعذبون بأعمالنا ليس لأحد علينا منة، وذهب عليهم أن المن من الله وأصابهم الخذلان. قال سويد بن سعيد: لا إله إلا الله ما أوحشه من قول. وإن الله هو الهادي والمضل الراحم المعذب. فقال الرجل: الحمد لله الذي مَن بك علي يا أبا عباس، وفقك الله، نصرك الله، أعزك الله. أما والله لقد كنت من أشدهم قولا أدين الله به، وقد استبان لي

قول الضياء. فأنا أشهد الله وأشهدكم أني تايب إلى الله وراجع مما كنت أقوله، وقد أيقنت أن الخير من الله، وأن المعاصي من الله يبتلي بها من يشاء من عباده، ولا مقدر إلا الله ولا هادي ولا مضل غيره. قال عكرمة: فما زال الرجل عندنا باكيا حتى خرج غازيا في البحر فاستشهد رحمه الله. (¬1) - وفيه: أتى عبد الله بن عباس على قوم يتنازعون في القدر، فقال: لا تختلفوا في القدر، فإنكم لو قلتم: إن الله شاء لهم أن يعملوا بطاعته فخرجوا من مشيئة الله إلى مشيئة أنفسهم فقد أوهنتم الله بأعظم ملكه، وإن قلتم إن الله جبرهم على الخطايا ثم عذبهم عليها، قلتم: إن الله ظلمهم. (¬2) - وجاء في الفتاوى: قال ابن عباس: إن الله خلق العرش فاستوى عليه، ثم خلق القلم فأمره ليجري بإذنه -وعظم القلم كقدر ما بين السماء والأرض- فقال القلم: بم يا رب أجري؟ فقال: بما أنا خالق وكائن في خلقي، من قطر أو نبات، أو نفس أو أثر -يعني به العمل- أو رزق أو أجل. فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة. فأثبته الله في الكتاب المكنون عنده تحت العرش. (¬3) - وجاء في الشريعة: عن ابن عباس: كل شيء بقدر، حتى وضعك يدك على خدك. (¬4) - وفيها: عن ابن عباس: الحذر لا يغني من القدر، ولكن الدعاء يدفع ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 768 - 770/ 1286). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 771/1288). (¬3) مجموع الفتاوى (16/ 139). (¬4) الشريعة (1/ 414/485) والإبانة (2/ 9/165/ 1939).

القدر. (¬1) ¬

(¬1) الشريعة (1/ 416/490).

أبو الأسود الدؤلي (69 هـ)

- وفيها: عن مجاهد: قلت لابن عباس: إني أردت أن آتيك برجل يتكلم في القدر؛ قال: لو أتيتني به لأستتب له وجهه أو لأوجعت رأسه، لا تجالسهم ولا تكلمهم. (¬1) - وفي المنهاج: عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (¬2) قال: يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. (¬3) أبو الأَسْود الدُّؤَلِي (¬4) (69 هـ) اسمه ظالم بن عمرو، العلامة الفاضل قاضي البصرة، ولد في أيام النبوة. كان أول من تكلم في النحو، أمره علي بوضع شيء في النحو لما سمع اللحن. من أقواله: إن أبغض الناس إلي أن أسابّ كل أهوج ذرب اللسان. ومنها: ليس السائل الملحف خيرا من المانع الحابس. أسلم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يره. كان ذا دين وعقل ولسان وبيان، وفهم وذكاء وحزم، وكان من كبار التابعين. استخلفه ابن عباس على البصرة لما خرج منها، فأقره علي بن أبي طالب. كان معدودا في طبقات من الناس، مقدما في كل منها، كان يعد في ¬

(¬1) الشريعة (1/ 418/495). (¬2) التغابن الآية (11). (¬3) منهاج السنة (5/ 136). (¬4) الإصابة (5/ 261) وطبقات ابن سعد (7/ 99) ووفيات الأعيان (2/ 535 - 539) وتهذيب التهذيب (12/ 10 - 11) والسير (4/ 81 - 86).

موقفه من القدرية:

التابعين وفي الشعراء والفقهاء والمحدثين، والأشراف والفرسان والأمراء والنحاة والحاضري الجواب. روى عن عمر وعلي وأبي بن كعب وطائفة. وروى عنه ابنه أبو حرب ويحيى بن يعمر وابن بريدة وغيرهم. مات في طاعون الجارف سنة تسع وستين. موقفه من القدرية: جاء في أصول الاعتقاد: عن يحيى بن يعمر قال: كان رجل من جهينة وفيه رهق، وكان يتوثب على جيرانه، ثم إنه قرأ القرآن وفرض الفرائض وقَصَّ على الناس، ثم إنه صار من أمره أنه زعم أن العمل أنف، من شاء عمل خيرا ومن شاء عمل شرا، قال: فلقيت أبا الأسود الدؤلي، فذكرت ذلك له، فقال: كذب، ما رأينا أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يثبت القدر. (¬1) سَفِينَة أبو عبد الرحمن (¬2) مولى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - (بعد 70 هـ) اختلف في اسمه على عدة أقوال، كنيته أبو عبد الرحمن ولقبه سفينة. كان عبدا لأم سلمة فأعتقته، وشرطت عليه خدمة النبي - صلى الله عليه وسلم - ما عاش. فقال: لو لم تشترطي علي ما فارقته. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلي وأم سلمة. روى له في مسند بقي أربعة عشر حديثا، وحديثه مخرج في الكتب سوى البخاري. ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 645 - 646/ 1037). (¬2) التاريخ الكبير (4/ 209) والاستيعاب (2/ 684) والإصابة (3/ 132) وأسد الغابة (2/ 503 - 504) والسير (3/ 172 - 173) وتهذيب الكمال (11/ 204 - 206) وتهذيب التهذيب (4/ 125).

موقفه من الرافضة:

حدث عنه ابناه عمر وعبد الرحمن والحسن البصري، وسعيد بن جهمان وابن المنكدر، وأبو ريحانة عبد الله بن مطر وغيرهم. قال رضي الله عنه: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، وكان إذا أعيا بعض القوم ألقى علي سيفه، ألقى علي ترسه، حتى حملت من ذلك شيئا كثيرا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنت سفينة" (¬1)، فكان يحب أن يكنى بها. فلزمه ذلك. توفي رضي الله عنه بعد سنة سبعين. موقفه من الرافضة: عن سعيد بن جمهان عن سفينة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك، أو ملكه من يشاء" قال سعيد: قال لي سفينة: أمسك عليك: أبا بكر سنتين، وعمر عشرا، وعثمان اثني عشرة، وعلي كذا، قال سعيد: قلت لسفينة: إن هؤلاء يزعمون أن عليا رضي الله عنه لم يكن بخليفة، قال: كذبت استاه بني الزرقاء، يعني مروان. (¬2) ¬

(¬1) أحمد (5/ 221 - 222) البزار (كشف الأستار عن زوائد البزار 3/ 270 - 271/ 2732) الطبراني في الكبير (7/ 83/6440) والطبراني (7/ 82 - 83/ 6439) البيهقي في الدلائل (6/ 47) الحاكم (3/ 606) وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. كلهم من طريق سعيد بن جمهان أنه سأل سفينة عن اسمه؟ فقال: فذكر الحديث بنحو ما سبق. ووقع عند الحاكم، حشرج بن نباتة قال: سألت سفينة عن اسمه فذكره. ولم يذكر سعيد بن جمهان. وذكره الهيثمي في المجمع (9/ 369) وقال: "رواه أحمد والبزار والطبراني بأسانيد ورجال أحمد والطبراني ثقات". (¬2) أحمد (5/ 220 و221) وأبو داود (5/ 36/4646 - 4647) والترمذي (4/ 436/2226) وقال: "هذا حديث حسن". والنسائي في الكبرى (5/ 47/8155) وابن حبان (الإحسان (15/ 392/6943) والحاكم (3/ 71 و145) وصححه ووافقه الذهبي. وأشار إلى تصحيحه الحافظ في الفتح (8/ 97).

عبد الرحمن بن أبزى (بعد 70 هـ)

عبد الرحمن بن أَبْزَى (¬1) (بعد 70 هـ) عبد الرحمن بن أَبْزَى الخُزَاعِي مولى نافع بن عبد الحارث، مختلف في صحبته، وجزم البخاري والذهبي وغيرهما أن له صحبة. وهو الذي استخلفه نافع بن عبد الحارث على أهل مكة حين لقي عمر بن الخطاب بعسفان، وقال: إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض. له رواية وفقه وعلم. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أبي بن كعب وعبد الله بن خباب، وابن عباس وعلي، وعمار، وعمر، وأبي بكر وآخرين. حدث عنه ابناه سعيد وعبد الله، والشعبي، وعلقمة ابن مرثد، وأبو إسحاق السبيعي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى وآخرون. يروى عن عمر أنه قال: "ابن أبزى ممن رفعه الله بالقرآن". قال أبو حاتم: أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلى خلفه. وقال ابن عبد البر: استخلفه علي على خراسان. عاش إلى سنة نيف وسبعين فيما يظهر. موقفه من الرافضة: عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى قال: قلت لأبي: لو أتيت برجل يسب أبا بكر ما كنت صانعا؟ قال: أضرب عنقه، قلت: فعمر؟ قال: أضرب عنقه. (¬2) ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (5/ 462) والتاريخ الكبير (5/ 245) والجرح والتعديل (5/ 209) والاستيعاب (2/ 822) وأسد الغابة (3/ 278) وتهذيب الأسماء واللغات (القسم الأول/1/ 293 - 294) وتهذيب الكمال (16/ 501 - 503) وتهذيب التهذيب (6/ 132) والإصابة (4/ 282 - 283) والسير (3/ 201 - 202). (¬2) الشريعة 3/ 588 - 589/ 2125 وقال الآجري عقبه: "وكان عبد الرحمن بن أبزى قاضي المدينة".

البراء بن عازب (72 هـ)

البراء بن عازب (¬1) (72 هـ) البراء بن ع (9) بن الحارث الأنصاريّ الحارثيّ المدني، يكنى أبا عُمَارَة، وقيل أبا عمرو، وقيل غير ذلك، والأشهر والأكثر الأول، وهو أصح إن شاء الله تعالى. سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا كثيرا، ومن أبي بكر الصديق، وعمر وعثمان وعلي وغيرهم. وسمع منه: عبد الله بن يزيد الخطمي وأبو جحيفة السوائي الصحابيان، وعدي بن ثابت وجماعة من التابعين. من فقهاء الصحابة نزيل الكوفة، صحابي ابن صحابي، استصغر يوم بدر وهو من أقران ابن عمر، غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة غزوة وشهد مع علي الجمل وصفين وقتال الخوارج، توفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وسبعين. موقفه من الجهمية: - عن البراء بن عازب في قول الله عز وجل: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} (¬2) قال: نزلت في عذاب القبر. (¬3) - عن أبي إسحاق، عن البراء، أو عن أبي عبيدة في قول الله عز وجل: ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (4/ 364 - 368) والاستيعاب (1/ 155 - 157) وتاريخ بغداد (1/ 177) وتهذيب الكمال (4/ 34 - 37) والسير (3/ 194 - 196) والوافي بالوفيات (10/ 104 - 105) البداية والنهاية (8/ 332) والإصابة (1/ 378 - 379) وشذرات الذهب (1/ 77 - 78). (¬2) إبراهيم الآية (27). (¬3) أخرجه مسلم (4/ 2202/2871 [74]) والنسائي (4/ 407/2055).

موقفه من المرجئة:

{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} (¬1) قال: عذاب القبر. (¬2) موقفه من المرجئة: - جاء عن البراء في قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (¬3) قال: صلاتكم نحو بيت المقدس. (¬4) الأَحْنَف بن قَيْس (¬5) (72 هـ) الأحْنَف بن قَيْس بن معاوية أبو بَحْر البصري التَّمِيمِي، الأمير الكبير العالم النبيل، أحد من يضرب بحلمه وسؤدده المثل. والأحنف لقب له وإنما اسمه الضحاك، وقيل صخر. أسلم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يره. وكان سيدا شريفا مطاعا، مؤمنا عليم اللسان. حدث عن عمر وعلي وأبي ذر، والعباس وأبي مسعود وعثمان وعدة. وحدث عنه الحسن البصري، وعروة بن الزبير وطلق بن حبيب وغيرهم. قال الحسن البصري: ما رأيت شريف قوم أفضل منه. ¬

(¬1) السجدة الآية (21). (¬2) الشريعة (2/ 184/909). (¬3) البقرة الآية (143). (¬4) الإبانة (2/ 6/807 - 808/ 1099) وأصول الاعتقاد (4/ 896 - 897/ 1504) والسنة للخلال (4/ 47 - 48/ 1142). (¬5) السير (4/ 86) تاريخ دمشق (24/ 298 - 356) والبداية والنهاية (8/ 331) وشذرات الذهب (1/ 78) ووفيات الأعيان (2/ 499) وطبقات ابن سعد (7/ 93).

موقفه من المبتدعة:

من أقواله: عجبت لمن يجري في مجرى البول مرتين كيف يتكبر. وعنه قال: ما نازعني أحد إلا أخذت أمري بأمور: إن كان فوقي عرفت له، وإن كان دوني رفعت قدري عنه، وإن كان مثلي تفضلت عليه. وقيل إن رجلا خاصم الأحنف، وقال: لئن قلت واحدة، لتسمعن عشرا، فقال: لكنك إن قلت عشرا لم تسمع واحدة. وعنه: الكامل من عدت سقطاته. وعنه قال: جنبوا مجالسنا ذكر النساء والطعام، إني أبغض الرجل يكون وصافا لفرجه وبطنه. توفي سنة اثنتين وسبعين. موقفه من المبتدعة: جاء في أصول الاعتقاد: قال الأحنف بن قيس: كثرة الخصومة تنبت النفاق في القلب. (¬1) عَبِيدَة السَّلْمَانِي (¬2) (72 هـ) عبيدة بن عمرو السلماني الفقيه، المرادي الكوفي، أحد الأعلام، التابعي الكبير، يقال له: السلماني نسبة إلى بني سلمان. أسلم عبيدة في عام فتح مكة بأرض اليمن، ولا صحبة له، وأخذ عن علي وابن مسعود وغيرهما، وبرع في الفقه، وكان ثبتا في الحديث. روى عنه إبراهيم النخعي، والشعبي وابن سيرين وغيرهم. قال أحمد العجلي: كان عبيدة أحد أصحاب عبد الله بن ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (1/ 145/220). (¬2) الاستيعاب (3/ 1023) وتهذيب الأسماء واللغات (القسم الأول/1/ 317) والسير (4/ 40 - 44) وتاريخ بغداد (11/ 117 - 120) وتهذيب الكمال (19/ 266 - 268) وتهذيب التهذيب (7/ 84 - 85).

موقفه من المبتدعة:

مسعود الذين يقرئون ويفتون. وقال ابن سيرين: ما رأيت رجلا كان أشد توقيا من عبيدة. وكان شريح إذا أشكل عليه شيء أرسلهم إلى عبيدة. توفي سنة اثنتين وسبعين. موقفه من المبتدعة: روى الخطيب بسنده إلى عبيدة عن علي قال: اجتمع رأيي ورأي عمر على أن أمهات الأولاد لا يبعن، قال: ثم رأيت بعد: أن تباع في دَيْن سيدها، وأن تعتق من نصيب ولدها، فقلت -أي عبيدة-: رأيك ورأي الجماعة أحب إلي من رأيك في الفرقة، ولم ينكر عَلِيٌّ علَى عبيدة هذا القول. (¬1) مُصْعَب بن الزُّبَيْر (¬2) (72 هـ) مصعب بن الزبير بن العَوَّام القرشيّ الأسدي أمير العراقين، أبو عيسى وأبو عبد الله، كان فارسا شجاعا جميلا وسيما، حارب المختار وقتله. روى عمر بن أبي زائدة أن الشعبي قال: ما رأيت أميرا قط على منبر أحسن من مصعب. قال عبد الله بن قيس الرقيات: إنما مصعب شهاب من اللـ ... ـه تجلت عن وجهه الظلماء ملكه ملك عزة ليس فيها ... جبروت منه ولا كبرياء يتقي الله في الأمور وقد أفـ ... ـلح من كان همه الاتقاء ¬

(¬1) الفقيه والمتفقه (2/ 124 - 125) وذكره ابن تيمية في منهاج السنة (8/ 280). (¬2) السير (4/ 140 - 145) والبداية والنهاية (8/ 321 - 325) وطبقات ابن سعد (5/ 182) وتاريخ بغداد (13/ 105 - 108) والتاريخ الكبير (7/ 350).

موقفه من المبتدعة:

عن ابن عائشة قال: سمعت أبي يقول قيل لعبد الملك بن مروان -وهو يحارب مصعبا- إن مصعبا قد شرب الشراب؟ فقال عبد الملك: مصعب يشرب الشراب؟ والله لو علم مصعب أن الماء ينقص من مروءته ما روى منه. من أقواله: العجب من ابن آدم كيف يتكبر وقد جرى في مجرى البول مرتين. قتل مصعب يوم نصف جمادى الأولى سنة اثنتين وسبعين. وله أربعون سنة. موقفه من المبتدعة: جاء في الشريعة: عن علي بن زيد أن مصعب بن الزبير هم بعريف الأنصار أن يقتله، فدخل عليه أنس بن مالك فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "استوصوا بالأنصار خيرا أو معروفا، اقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم". قال: فنزل مصعب من سريره على بساطة، فألزق عنقه، أو قال: خده، أو قال: تمعك، فقال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الرأس والعين، أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الرأس والعين. (¬1) جُنْدُب بن عبد الله البَجَلِي (¬2) (73 هـ) جندب بن عبد الله بن سفيان الإمام أبو عبد الله البجلي، صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - نزل الكوفة والبصرة، روى عنه الحسن وابن سيرين وأبو عمران الجوني ¬

(¬1) أحمد (3/ 240 - 241) وابن عدي في الكامل (5/ 198) والآجري في الشريعة (2/ 394) وقال الألباني رحمه الله: "وعلي بن زيد هو ابن جدعان فيه ضعف، لكن حديثه جيد في الشواهد". انظر الصحيحة (916). (¬2) السير (3/ 174 - 175) وتهذيب الكمال (5/ 137 - 139) والاستيعاب (1/ 256 - 257) والإصابة (1/ 509 - 510) وأسد الغابة (1/ 566 - 568) والوافي بالوفيات (11/ 193 - 194) وتهذيب التهذيب (2/ 117 - 118).

موقفه من المرجئة:

وأنس بن سيرين وغيرهم. عن يونس بن جبير قال: شيعنا جندبا فقلت له: أوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله، وأوصيكم بالقرآن فإنه نور بالليل المظلم، وهدى بالنهار، فاعملوا به على ما كان من جهد وفاقة، فإن عرض بلاء فقدم مالك دون دينك، فإن المخروب من خرب دينه، والمسلوب من سلب دينه واعلم أنه لا فاقة بعد الجنة ولا غنى بعد النار. توفي في حدود ثلاث وسبعين. موقفه من المرجئة: روى ابن ماجه بسنده: عن أبي عمران الجوني عن جندب بن عبد الله قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونحن فتيان حزاورة فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا به إيمانا. (¬1) عبد الله بن الزُّبَيْر (¬2) (73 هـ) عبد الله بن الزبير بن العَوَّام، كنيته أبو بكر وأبو خُبَيْب، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، هاجرت من مكة وهي حامل بابنها عبد الله فولدته، أتت به أمه النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضعته في حجره فدعا بتمرة فمضغها ثم تفل في فيه فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم حنكه بالخبزة، ثم دعا له وبرك عليه ¬

(¬1) ابن ماجه في المقدمة (1/ 23/61) والإبانة (2/ 7/847 - 848/ 1136) وأصول الاعتقاد (5/ 1017 - 1018/ 1715). (¬2) الإصابة (4/ 89 - 95) والاستيعاب (3/ 905 - 910) والمستدرك (3/ 547 - 556) والحلية (1/ 329 - 347) ووفيات الأعيان (3/ 71 - 73) والعقد الثمين (5/ 141 - 159) والبداية والنهاية (8/ 332 - 345) وشذرات الذهب (1/ 79 - 80) وتهذيب التهذيب (5/ 213 - 215) والسير (3/ 363 - 380).

وكان أول مولود في الإسلام للمهاجرين بالمدينة. وهو أحد العبادلة، وأحد الشجعان من الصحابة، وكان فارس قريش في زمانه وله مواقف مشهودة، شهد اليرموك وهو مراهق وفتح المغرب وغزو القسطنطينية. كان لا ينازع في ثلاثة: شجاعة ولا عبادة ولا بلاغة. بويع بالخلافة عند موت يزيد سنة أربع وستين وحكم على الحجاز واليمن ومصر والعراق وخراسان وبعض الشام ولم يستوسق له الأمر، فإن مروان غلب على الشام ثم مصر، وقام عند مصرعه ابنه عبد الملك بن مروان وحارب ابن الزبير، وقتل ابن الزبير رحمه الله فاستقل بالخلافة عبد الملك وآله. قال عنه ابن عباس: قارئ لكتاب الله، عفيف في الإسلام. عن عمرو بن دينار قال: ما رأيت مصليا قط أحسن صلاة من عبد الله ابن الزبير. وعن مجاهد: كان ابن الزبير إذا قام للصلاة كأنه عمود. وقال ابن أبي مليكة قال لي عمر بن عبد العزيز: إن في قلبك من ابن الزبير قلت: لو رأيته ما رأيت مناجيا ولا مصليا مثله. وقال ثابت البناني: كنت أمر بابن الزبير وهو خلف المقام يصلي كأنه خشبة منصوبة لا تتحرك. وعن مجاهد: ما كان باب من العبادة يعجز عنه الناس إلا تكلفه ابن الزبير. وعن أنس: أن عثمان أمر زيدا وابن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث فنسخوا المصاحف وقال: إذا اختلفتم أنتم وزيد في شيء فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم. مسنده نحو من ثلاثة وثلاثين حديثا، له صحبة ورواية أحاديث، عداده في صغار الصحابة وإن كان كبيرا في العلم والشرف والجهاد والعبادة. روى عن أبيه وجده لأمه الصديق، وأمه أسماء وخالته

موقفه من المبتدعة:

عائشة، وعمر وعثمان وغيرهم حدث عنه أخوه عروة -الفقيه- وابناه: عامر وعباد، وابن أخيه محمد بن عروة، وعبيدة السلماني وطاووس وغيرهم. قتل ابن الزبير في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين رحمه الله. موقفه من المبتدعة: - جاء في الإبانة: عن الأعرج: مر ابن الزبير بابنه وهو يكلم الأشتر في اختلاف الناس، فقال: لا تحاجه بالقرآن حاجه بالسنة. (¬1) - وفي الموطأ عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير أنه رأى رجلا متجردا بالعراق، فسأل الناس عنه فقالوا: إنه أمر بهديه أن يقلد، فلذلك تجرد، قال ربيعة: فلقيت عبد الله بن الزبير، فذكرت له ذلك، فقال: بدعة، ورب الكعبة. (¬2) " التعليق: قال أبو شامة: فوصف ذلك عبد الله بأنه بدعة، لما كان موهما أنه من الدين، لأنه قد ثبت أن التجرد مشروع في الإحرام، بنسك الحج أو العمرة، فإذا فعل في غير ذلك أوهم من لا يعلم من العوام أنه مشروع في هذه الحالة الأخرى. لأنه قد ثبتت شرعيته في صورة، فربما يقتدى به، ويتفاقم الأمر في انتشار ذلك، ويعسر الفطام عنه، كما قد وقع في غيره من البدع. (¬3) ¬

(¬1) الإبانة (1/ 2/406 - 407/ 312). (¬2) الموطأ (1/ 341/53) وذكره أبو شامة في الباعث (ص.90). (¬3) الباعث (ص.90).

موقفه من الصوفية:

موقفه من الصوفية: أخرج أبو نعيم عن عامر بن عبد الله بن الزبير -رضي الله تعالى عنه- قال: جئت أبي فقال: أين كنت؟ فقلت: وجدت أقواما ما رأيت خيرا منهم، يذكرون الله فيرعد أحدهم حتى يغشى عليه من خشية الله، فقعدت معهم، فقال: لا تقعد معهم بعدها، فرآني كأنه لم يأخذ ذلك في، فقال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلو القرآن، ورأيت أبا بكر وعمر يتلوان القرآن، فلا يصيبهم هذا، أفتراهم أخشع لله من أبي بكر وعمر؟! فرأيت أن ذلك كذلك، فتركتهم (¬1) اهـ. " التعليق: قال الشاطبي رحمه الله: وهذا يشعر بأن ذلك كله تَعَمُّلٌ وتكلف لا يرضى به أهل الدين. (¬2) موقفه من الخوارج: قال ابن كثير: وقد كان التف على عبد الله بن الزبير جماعة من الخوارج يدافعون عنه، منهم نافع بن الأزرق، وعبد الله بن أباض وجماعة من رؤوسهم. فلما استقر أمره فى الخلافة قالوا فيما بينهم: إنكم قد أخطأتم، لأنكم قاتلتم مع هذا الرجل ولم تعلموا رأيه في عثمان بن عفان، -وكانوا ينتقصون عثمان- فاجتمعوا إليه فسألوه عن عثمان فأجابهم فيه بما يسوؤهم، وذكر لهم ما كان متصفا به من الإيمان والتصديق، والعدل والإحسان، ¬

(¬1) حلية الأولياء (3/ 167 - 168) وتلبيس إبليس (ص.311 - 312). (¬2) الاعتصام (1/ 353).

موقفه من القدرية:

والسيرة الحسنة، والرجوع إلى الحق إذا تبين له. فعند ذلك نفروا عنه وفارقوه وقصدوا بلاد العراق وخراسان، فتفرقوا بأبدانهم وأديانهم ومذاهبهم ومسالكهم المختلفة المنتشرة التي لا تنضبط ولا تنحصر، لأنها مفرعة على الجهل وقوة النفوس، والاعتقاد الفاسد، ومع هذا استحوذوا على كثير من البلدان والكور، حتى انتزعت منهم. (¬1) موقفه من القدرية: روى مالك في كتاب القدر: عن زياد بن سعد عن عمرو بن دينار أنه قال: سمعت عبد الله بن الزبير يقول في خطبته: إن الله هو الهادي والفاتن. (¬2) عبد الله بن عمر (¬3) (73 هـ) عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نُفَيْل القرشي العدوي، الإمام القدوة، شيخ الإسلام أبو عبد الرحمن ولد سنة ثلاث من البعثة النبوية أسلم وهو صغير، ثم هاجر مع أبيه لم يحتلم، واستصغر يوم أحد، فأول غزواته الخندق، وهو ممن بايع تحت الشجرة قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (¬4) وأمه زينب بنت مظعون أم ¬

(¬1) البداية والنهاية (8/ 243). (¬2) الموطأ) 2/ 900) وأصول الاعتقاد (4/ 733/1201) والإبانة (2/ 9/171/ 1659). (¬3) الإصابة (4/ 181 - 188) والاستيعاب (3/ 950 - 953) وطبقات ابن سعد (4/ 142 - 188) والحلية (1/ 292 - 314) والبداية (9/ 4 - 5) ووفيات الأعيان (3/ 28 - 31) والسير (3/ 203 - 239) والعقد الثمين (5/ 215 - 217) والمستدرك (3/ 556 - 561) وتاريخ بغداد (1/ 171 - 173) والوافي (17/ 362 - 364). (¬4) الفتح الآية (18).

موقفه من المبتدعة:

أم المؤمنين حفصة. روى علما كثيرا نافعا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بلغت مروياته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثين وستمائة وألفي حديث، وروى عن جمع من الصحابة، وروى عنه خلق كثير. وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل، قال: فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلا" (¬1). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت أحدا ألزم للأمر الأول من ابن عمر. وكان رضي الله عنه شديد الاتباع للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وكان كثير الإنفاق في سبيل الله تعالى. وكان ممن اعتزل الفتنة، وقال: كففت يدي فلم أندم، والمقاتل على الحق أفضل. وقال مالك: كان إمام الناس عندنا بعد زيد بن ثابت، عبد الله بن عمر مكث ستين سنة يفتي الناس. وقال ابن عمر رضي الله عنه: ما آسى على شيء إلا أني لم أقاتل الفئة الباغية. قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: مات ابن عمر وهو في الفضل مثل أبيه. مات رضي الله عنه سنة ثلاث وسبعين. موقفه من المبتدعة: - روى ابن أبي شيبة عن ابن عمر قال: الأذان الأول يوم الجمعة بدعة. (¬2) " التعليق: قال الحافظ: .. والذي يظهر أن الناس أخذوا بفعل عثمان في جميع البلاد إذ ذاك لكونه خليفة مطاع الأمر، لكن ذكر الفاكهاني أن أول من أحدث الأذان الأول بمكة الحجاج، وبالبصرة زياد، وبلغني أن أهل المغرب الأدنى الآن ¬

(¬1) أحمد (2/ 146) والبخاري (3/ 7/1122) ومسلم (4/ 1927 - 1928/ 2479) وابن ماجه (2/ 1291/3919). (¬2) ابن أبي شيبة في مصنفه (1/ 470/5437).

لا تأذين عندهم سوى مرة، وروى ابن أبي شيبة من طريق ابن عمر قال: "الأذان الأول يوم الجمعة بدعة" فيحتمل أن يكون قال ذلك على سبيل الإنكار، ويحتمل أنه يريد أنه لم يكن في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكل ما لم يكن في زمنه يسمى بدعة ... وتبين بما مضى أن عثمان أحدثه لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة، قياسا على بقية الصلوات فألحق الجمعة بها وأبقى خصوصيتها بالأذان بين يدي الخطيب، وفيه استنباط معنى من الأصل لا يبطله، وأما ما أحدث الناس قبل وقت الجمعة من الدعاء إليها بالذكر والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو في بعض البلاد دون بعض، واتباع السلف الصالح أولى. (¬1) - وفي أصول الاعتقاد: عن سالم أن ابن عمر قال: ما فرحت بشيء في الإسلام أشد فرحا بأن قلبي لم يدخله شيء من هذه الأهواء. (¬2) " التعليق: هنيئا لك يا صاحب رسول الله بهذه الراحة، أما نحن فقد أحاطت بنا البدع من كل جانب ومرضت قلوبنا بها والله المستعان. - وفي الإبانة: عن نافع عن ابن عمر قال: كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة. (¬3) - وروى مسلم عن سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنَّكم إليها". ¬

(¬1) فتح الباري (2/ 501). (¬2) أصول الاعتقاد (1/ 147/227) وذم الكلام (ص.188) والحجة للأصبهاني (1/ 304). (¬3) الإبانة (1/ 2/339/ 205) وأصول الاعتقاد (1/ 104/126) ومحمد بن نصر في السنة (ص.29). وانظر الباعث على إنكار البدع والحوادث (ص.75) وطبقات الحنابلة (1/ 69).

قال: فقال بلال بن عبد الله: والله، لنمنعهن. قال: فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا سيئا، ما سمعته سبه مثله قط. وقال: أخبرك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقول: والله، لنمنعهن. (¬1) - وفي ذم الكلام: عن محمد بن عون الخراساني قال: سألت نافعا مولى ابن عمر عن صلاة المسافر فقال: قال ابن عمر رضي الله عنه: صلاة المسافر ركعتان، من خالف السنة كفر. (¬2) " التعليق: قال أبو عمر: الكفر ههنا كفر النعمة وليس بكفر ينقل عن الملة، كأنه قال: كفر لنعمة التأسي التي أنعم الله على عباده بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ففيه الأسوة الحسنة في قبول رخصته، كما في امتثال عزيمته - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) - وفي ذم الكلام: عن جابر بن زيد أن ابن عمر لقيه في الطواف، فقال له: يا أبا الشعثاء، إنك من فقهاء البصرة، فلا تفت إلا بقرآن ناطق أو سنة ماضية، فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت. (¬4) - وروى مالك عن حميد بن قيس المكي عن مجاهد أنه قال: كنت مع عبد الله بن عمر فجاءه صائغ فقال: يا أبا عبد الرحمن، إني أصوغ الذهب ثم ¬

(¬1) مسلم (1/ 326 - 327/ 442 [135]) وابن ماجة (1/ 16) وسنن الدارمي (1/ 117 - 118) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 1209) وذم الكلام (ص.92). (¬2) ذم الكلام (2/ 317 - 318/ 420) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 1207) والحلية لأبي نعيم (7/ 185 - 186) والسنن الكبرى للبيهقي (3/ 140) والباعث لأبي شامة (ص.225). (¬3) فتح البر (5/ 424). (¬4) الهروي في ذم الكلام (2/ 217/282) والدارمي (1/ 59) والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 457 - 458).

أبيع الشيء من ذلك بأكثر من وزنه، فأستفضل في ذلك قدر عمل يدي، فنهاه عبد الله بن عمر عن ذلك. فجعل الصائغ يردد عليه المسألة وعبد الله ينهاه عن ذلك حتى انتهى إلى باب المسجد أو إلى دابة يريد أن يركبها فقال عبد الله بن عمر: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما هذا عهد نبينا إلينا وعهدنا إليكم. (¬1) - وروى مالك عن ابن شهاب عن رجل من آل خالد بن أسيد أنه سأل عبد الله بن عمر، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إنا نجد صلاة الخوف وصلاة الحضر في القرآن، ولا نجد صلاة السفر؟ فقال ابن عمر: يا ابن أخي، إن الله عز وجل بعث إلينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ولا نعلم شيئا، فإنما نفعل كما رأيناه يفعل. (¬2) - وروى عن نافع أن عبدا لعبد الله بن عمر سرق وهو آبق، فأرسل به عبد الله بن عمر إلى سعيد بن العاص، وهو أمير المدينة، ليقطع يده، فأبى سعيد أن يقطع يده، وقال: لا تقطع يد الآبق السارق إذا سرق، فقال له عبد الله بن عمر: في أي كتاب الله وجدت هذا؟ ثم أمر به عبد الله بن عمر، فقطعت يده. (¬3) - عن ابن عمر قال: إنما مثلنا في هذه الفتنة كمثل قوم يسيرون على جادة يعرفونها، فبينا هم كذلك، إذ غشيتهم سحابة وظلمة، فأخذ بعضهم يمينا وشمالا، فأخطأ الطريق، وأقمنا حيث أدركنا ذلك، حتى جلا الله ذلك ¬

(¬1) الموطأ (2/ 633) ومن طريقه: النسائي (7/ 320/4582) مختصرا والشافعي في الرسالة (ص.277) وقال أحمد شاكر في تعليقه: "هذا حديث صحيح جدا". (¬2) الموطأ (1/ 145 - 146/ 7) والنسائي (3/ 117/1433) وابن ماجه (1/ 339/1066). (¬3) الموطأ (2/ 833/26).

عنا، فأبصرنا طريقنا الأول، فعرفناه، فأخذنا فيه. إنما هؤلاء فتيان قريش يقتتلون على هذا السلطان وعلى هذه الدنيا، ما أبالي أن لا يكون لي ما يقتل عليه بعضهم بعضا بنعلي هاتين الجرداوين. (¬1) - وجاء في أصول الاعتقاد: عن مجاهد قال: قيل لابن عمر: إن نجدة يقول: كذا وكذا. فجعل لا يسمع منه كراهية أن يقع في قلبه منه شيء. (¬2) - وفي الإبانة: عن غيلان بن جرير قال: جعل رجل يقول لابن عمر: أرأيت أرأيت، فقال ابن عمر: اجعل أرأيت عند الثريا. (¬3) - عن نافع أن ابن عمر كان يكري مزارعه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي إمارة أبي بكر وعثمان، وصدرا من خلافة معاوية، حتى بلغه في آخر خلافة معاوية، أن رافع بن خديج يحدث فيها بنهي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدخل عليه وأنا معه. فسأله فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن كراء المزارع، فتركها ابن عمر بعد. وكان إذا سئل عنها بعد، قال: زعم رافع بن خديج أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها. (¬4) - وفي سنن الترمذي: عن ابن شهاب أن سالم بن عبد الله حدثه أنه سمع رجلا من أهل الشام، وهو يسأل عبد الله بن عمر عن التمتع بالعمرة إلى الحج. فقال عبد الله بن عمر: هي حلال. فقال الشامي: إن أباك قد نهى ¬

(¬1) السير (3/ 237). (¬2) أصول الاعتقاد (1/ 137 - 138/ 199) وذم الكلام (ص.187). (¬3) الإبانة (2/ 3/517/ 606) وذم الكلام (2/ 223 - 224/ 290). (¬4) أحمد (4/ 140) والبخاري (5/ 28/2343 - 2344 - 2345) ومسلم (3/ 1180/1547 [109]) واللفظ له، والنسائي (7/ 57/3920) كلهم عن أيوب عن نافع به.

عنها. فقال عبد الله بن عمر: أرأيت إن كان أبي نهى عنها؛ وصنعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أأمر أبي نتبع أم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! فقال الرجل: بل أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: لقد صنعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) - وروى ابن ماجه في المقدمة: عن أبي جعفر قال: كان ابن عمر إذا سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثا لم يعده ولم يقصر دونه. (¬2) - جاء في كتاب الحوادث والبدع: وروى أستاذنا القاضي أبو الوليد في 'المنتقى' أن ابن عمر حضر جنازة، فقال: لتسرعن بها وإلا رجعت. " التعليق: قال الطرطوشي: انظروا -رحمكم الله- لما ترك الإسراع -وهو سنة-، هم ابن عمر بالانصراف، ولم ير أن قراطين من الأجر بقيا بترك سنة من سنن النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) - وقال مجاهد: كنت مع ابن عمر، فثوب رجل في الظهر أو العصر، فقال: اخرج بنا، فإن هذه بدعة. وفي رواية: اخرج بنا من عند هذا المبتدع، ولم يصل فيه. (¬4) - وفي سنن الدارمي: عن ابن عمر أنه جاءه رجل، فقال: إن فلانا يقرأ ¬

(¬1) الترمذي (3/ 185 - 186/ 824) وقال: "حديث حسن صحيح" كما في تحفة الأحوذي (3/ 470) وأحمد (2/ 95) بلفظ أطول، وقد تقدمت قصة علي مع عثمان رضي الله عنهما في التمتع فلتنظر. (¬2) مقدمة ابن ماجة (1/ 4/4). (¬3) الحوادث والبدع (ص.144). (¬4) أبو داود (1/ 367/538) وذكره الترمذي بعد حديث (198) وأورده الطرطوشي في الحوادث والبدع (ص.149) والشاطبي في الاعتصام (2/ 556).

موقفه من المشركين:

عليك السلام، قال: بلغني أنه قد أحدث. فإن كان أحدث فلا تقرأ عليه السلام. (¬1) موقفه من المشركين: - عن ابن عمر أنه مر به راهب، فقيل له: هذا يسب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال ابن عمر: لو سمعته لقتلته، إنا لم نعطهم الذمة على أن يسبوا نبينا - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) - عن سعيد بن جبير قال: خرج علينا عبد الله بن عمر فرجونا أن يحدثنا حديثا حسنا، قال فبادرنا إليه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن حدثنا عن القتال في الفتنة والله يقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} (¬3). فقال: هل تدري ما الفتنة ثكلتك أمك؟ إنما كان محمد - صلى الله عليه وسلم - يقاتل المشركين، وكان الدخول في دينهم فتنة، وليس كقتالكم على الملك. (¬4) - وخرج ابن وهب عن عبد الله بن عمر، قال: من كان يزعم أن مع الله قاضيا أو رازقا، أو يملك لنفسه ضرا أو نفعا، أو موتا أو حياة أو نشورا، لقي الله فأدحض حجته، وأخرس لسانه، وجعل صلاته وصيامه هباء منثورا، وقطع به الأسباب، وكبه في النار على وجهه. (¬5) ¬

(¬1) سنن الدارمي (1/ 108) وأحمد (2/ 136 - 137) واللالكائي (4/ 701/1135) وهو في شرح السنة للبغوي (1/ 151). (¬2) الصارم (210). (¬3) البقرة الآية (193). (¬4) البخاري (7095). (¬5) السنة (148) وأصول الاعتقاد (4/ 772 - 773/ 1292) والإبانة (2/ 9/166 - 167/ 1643) وانظر الاعتصام (1/ 143).

موقفه من الرافضة:

- عن إسماعيل بن عبد الرحمن بن ذؤيب قال: دخلت مع ابن عمر مسجدا بالجحفة، فنظر إلى شرافات، فخرج إلى موضع فصلى فيه، ثم قال لصاحب المسجد: إني رأيت في مسجدك هذا -يعني الشرافات- شبهتها بأنصاب الجاهلية، فمر أن تكسر. (¬1) موقفه من الرافضة: - عن نافع أو غيره، أن رجلا قال لابن عمر: يا خير الناس، أو ابن خير الناس. فقال: ما أنا بخير الناس، ولا ابن خير الناس، ولكني عبد من عباد الله، أرجو الله، وأخافه، والله لن تزالوا بالرجل حتى تهلكوه. (¬2) - وعن سالم بن عبد الله بن عمر قال: قال عبد الله بن عمر: جاءني رجل في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه فكلمني بكلام طويل، يريد في كلامه بأن أعيب على عثمان، وهو امرؤ في لسانه ثقل لا يكاد يقضي كلامه في سريع، فلما قضى كلامه، قلت: قد كنا نقول -ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي-: أفضل أمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعده أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان؛ وأنا والله ما نعلم عثمان قتل نفسا بغير حق، ولا جاء من الكبائر شيئا، ولكن إنما هو هذا المال، فإن أعطاكموه رضيتم، وإن أعطى أولي قرابته سخطتم، إنما تريدون أن تكونوا كفارس والروم لا يتركون لهم أميرا إلا قتلوه، قال: ففاضت عيناه بأربع من الدمع ثم قال: اللهم لا نريد ذلك. (¬3) ¬

(¬1) الاقتضاء (1/ 344). (¬2) أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 307) من طريق عبد الرزاق عن معمر، وهو في السير (3/ 236). (¬3) الشريعة (3/ 161 - 162/ 1510).

- وعن عثمان بن موهب قال: جاء رجل حج البيت فرأى قوما جلوسا فقال: من هؤلاء القعود؟ قال: هؤلاء قريش. قال: من الشيخ؟ قالوا: ابن عمر. فأتاه فقال: إني سائلك عن شيء أتحدثني؟ قال: أنشدك بحرمة هذا البيت، أتعلم أن عثمان بن عفان فر يوم أحد؟ قال: نعم. قال: فتعلمه تغيب عن بدر فلم يشهدها؟ قال: نعم. قال: فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم. قال: فكبر. قال ابن عمر: تعال لأخبرك ولأبين لك عما سألتني عنه: أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه. وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت مريضة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه. وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فإنه لو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان بن عفان لبعثه مكانه، فبعث عثمان، وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده اليمنى: هذه يد عثمان، فضرب بها على يده فقال هذه لعثمان. اذهب بهذا الآن معك. (¬1) - وعن ابن أبي نُعْم قال: كنت جالسا عند ابن عمر، فجاءه رجل يسأل عن دم البعوض؟ فقال له ابن عمر: ممن أنت؟ قال: أنا من أهل العراق، فقال: انظروا إلى هذا، يسألني عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: هما ريحانتيّ من الدنيا!. (¬2) - وعن نافع عن ابن عمر قال: ما رأيت أحدا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ¬

(¬1) البخاري (7/ 461/4066). (¬2) أخرجه بذكر القصة أحمد (2/ 114) واللفظ له. والبخاري (7/ 119/3753) والترمذي (5/ 615/3770) وقال: "هذا حديث صحيح". والنسائي في الكبرى (5/ 150/8530).

موقفه من الصوفية:

أسود من معاوية. قال: قلت هو كان أسود من أبي بكر؟ قال: هو والله أخير منه، وهو والله كان أسود من أبي بكر. قال: قلت فهو كان أسود من عمر؟ قال: عمر والله كان أخير منه، وهو والله أسود من عمر. قال: قلت هو كان أسود من عثمان؟ قال: والله إن كان عثمان لسيدا وهو كان أسود منه. قال الدوري: قال بعض أصحابنا قال أحمد بن حنبل: معنى أسود أي أسخى. (¬1) - وعن نسير بن ذعلوق قال: سمعت ابن عمر يقول: لا تسبوا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن مقام أحدهم خير من عمل أحدكم عمره كله. (¬2) - وعن أبي مجلز قال: قلت لابن عمر: إن الله عز وجل قد أوسع، والبر أفضل من التمر، قال: إن أصحابي سلكوا طريقا فأنا أحب أن أسلكه. (¬3) موقفه من الصوفية: - روى ابن الجوزي في تلبيس إبليس بسنده إلى أبي عيسى أو عيسى قال: ذهبت إلى عبد الله بن عمر فقال أبو السوار: يا أبا عبد الرحمن، إن قوما عندنا إذا قرئ عليهم القرآن يركض أحدهم من خشية الله، قال: كذبت. قال: بلى ورب هذه البنية. قال: ويحك، إن كنت صادقا فإن الشيطان ليدخل جوف أحدهم. والله ما هكذا كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) - خرج أبو عبيد في أحاديث أبي حازم قال: مر ابن عمر برجل من أهل العراق ساقط والناس حوله، فقال ما هذا؟ فقالوا إذا قرئ عليه القرآن أو ¬

(¬1) السنة للخلال (1/ 441 - 442). (¬2) أصول الاعتقاد (7/ 1323/2350) والشريعة (3/ 549/2054). (¬3) الإبانة (1/ 1/262/ 99). (¬4) تلبيس إبليس (ص.314).

موقفه من الجهمية:

سمع الله يذكر، خر من خشية الله. قال ابن عمر: والله إنا لنخشى الله ولا نسقط (¬1). قال الشاطبي: وهذا إنكار. (¬2) - وقال ابن عمر: ويح الآخر، أليس الفقه في الدين خيرا من كثير العمل؟! إن قوما لزموا بيوتهم فصاموا وصلوا، حتى يبست جلودهم على أعظمهم، لم يزدادوا بذلك من الله إلا بعدا. (¬3) موقفه من الجهمية: - عن ابن عمر قال: إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر إلى ملكه ألفي عام، يرى أدناه كما يرى أقصاه، وإن أفضلهم منزلة لمن ينظر إلى وجه الله في كل يوم مرتين. (¬4) - وعنه قال: خلق الله أربعة أشياء بيده: العرش وآدم والقلم وعدن وقال لسائر خلقه: كن فكان. (¬5) - وفي الصحيح عن آدم بن علي قال: سمعت ابن عمر يقول: إن الناس يصيرون يوم القيامة جُثا كل أمة تتبع نبيها، يقولون يا فلان: اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذلك، يوم يبعثه الله المقام المحمود. (¬6) ¬

(¬1) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن (2/ 15/372) وابن الجوزي في التلبيس (ص.310). (¬2) الاعتصام (1/ 352). (¬3) الفقيه والمتفقه (1/ 108). (¬4) أصول الاعتقاد (3/ 553/866). (¬5) أصول الاعتقاد (3/ 477/730) والشريعة (2/ 130/801). (¬6) أخرجه البخاري (8/ 509/4718).

موقفه من الخوارج:

- وعنه قال: القرآن كلام الله غير مخلوق. (¬1) موقفه من الخوارج: - عن عمرو بن الحارث أن بكير بن الأشج حدثه أنه سأل نافعا: كيف كان رأي ابن عمر في الحرورية؟ قال: يراهم شرار الخلق، قال: إنهم انطلقوا إلى آيات في الكفار فجعلوها على المؤمنين. (¬2) - عن أبي نعامة الأسدي عن خال له قال: سمعت ابن عمر يقول: إن نجدة وأصحابه عرضوا لعير لنا، ولو كنت فيهم لجاهدتهم. (¬3) - عن عبد الله بن عمر عن نافع قال: لما سمع ابن عمر بنجدة قد أقبل وأنه يريد المدينة، وأنه يسبي النساء ويقتل الولدان، قال: إذا لا ندعه وذلك، وهم بقتاله وحرض الناس، فقيل له: إن الناس لا يقاتلون معك، ونخاف أن تترك وحدك، فتركه. (¬4) - عن نافع قال: قيل لابن عمر: إن نجدة يقول: إنك كافر -وأراد قتل مولاك إذ لم يقل إنك كافر، فقال عبد الله: كذب والله ما كفرت منذ أسلمت. قال نافع: وكان ابن عمر حين خرج نجدة يرى قتاله. (¬5) - وعن سوار بن شبيب قال: جاء رجل إلى ابن عمر فقال: إن ههنا ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 257/377). (¬2) علقه البخاري (12/ 350)، ووصله ابن عبد البر في التمهيد (فتح البر 1/ 469)، قال ابن حجر: "وصله الطبري في مسند علي من تهذيب الآثار ... وسنده صحيح". (¬3) السنة لعبد الله (279). (¬4) مصنف ابن أبي شيبة (7/ 553/37887). (¬5) ابن عبد البر (فتح البر 1/ 460).

موقفه من المرجئة:

قوما يشهدون علي بالكفر، فقال: ألا تقول لا إله إلا الله فتكذبهم. (¬1) موقفه من المرجئة: - جاء في أصول الاعتقاد: عن قيس أبي محمد قال: إني لجالس عند ابن عمر إذ جاءه رجل من أهل الشام، قال: يا أبا عبد الرحمن إن لنا كروما وأعنابا وإنا قد نبيع منها قال: أي ذاك تريد، أما العنب فحلال، وأما الزبيب فحلال وأما الخمر فحرام. قال: فرفع صوته فقال: اللهم إني أشهدك وأشهد من حضر أني لا آمن أن يعصرها، ولا أن يشربها، ولا أن يسقيها، ولا أن يبيعها، ولا أن يهديها، فوالذي نفس ابن عمر بيده لا يشربها عبد إلا نقص الإيمان من قلبه حتى لا يبقى منه قليل ولا كثير، ولا يكون في بيت إلا كان رجسا مرتجسا منه. (¬2) - وروى ابن أبي شيبة بسنده: عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عمر: (إن الحياء والإيمان قرنا جميعا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر). (¬3) - وفيه عن نافع عن ابن عمر أنه كان يقول: اللهم لا تنزع مني الإيمان كما أعطيتنيه. (¬4) موقفه من القدرية: - روى اللالكائي بسنده: عن ابن عمر قال: لو برزت لي القدرية في صعيد واحد فلم يرجعوا لضربت أعناقهم. (¬5) ¬

(¬1) ابن أبي شيبة (6/ 166/30381). (¬2) أصول الاعتقاد (5/ 1020 - 1021/ 1722). (¬3) ابن أبي شيبة في الإيمان (21) وفي المصنف (6/ 165/30372). (¬4) ابن أبي شيبة في المصنف (6/ 160/30327) وفي الإيمان له (15). (¬5) أصول الاعتقاد (4/ 783/1311).

- وفيه: قال ابن عمر: القدرية مجوس هذه الأمة، فإن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم. (¬1) - وفي السنة لعبد الله: قال ابن عمر: من زعم أن مع الله باريا أو قاضيا أو رازقا، أو يملك لنفسه ضرا أو نفعا، أو موتا أو حياة أو نشورا، بعثه الله يوم القيامة فأخرس لسانه وأعمى بصره وجعل عمله هباء منثورا، وقطع به الأسباب، وكبه على وجهه في النار. (¬2) - وروى مسلم بسنده عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة: معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، فقلنا لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم. وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر. (¬3) - وجاء في الإبانة: عن عبد الله بن عبد الرحمن قال: قال رجل لعبد الله ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 711 - 712/ 1161). (¬2) السنة (148) وأصول الاعتقاد (4/ 772 - 773/ 1292) والإبانة (2/ 9/166 - 167/ 1643) وانظر الاعتصام (1/ 143). (¬3) مسلم (8).

ابن عمر إن ناسا من أهل العراق يكذبون بالقدر، ويزعمون أن الله عز وجل لا يقدر الشر؛ قال: فبلغهم أن عبد الله بن عمر منهم بريء وأنهم منه براء، والله؛ لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا ثم أنفقه في سبيل الله؛ ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر خيره وشره. (¬1) - وفيها: عن أبي حازم قال: ذكر عند ابن عمر قوم يكذبون بالقدر؛ فقال: لا تجالسوهم، ولا تسلموا عليهم، ولا تعودوهم، ولا تشهدوا جنائزهم، وأخبروهم أني منهم بريء، وأنهم مني براء، وهم مجوس هذه الأمة. (¬2) - وفيها: عن يحيى بن يعمر قال: قلت لابن عمر: إن عندنا رجالا بالعراق يقولون: إن شاؤوا عملوا، وإن شاؤوا لم يعملوا، وإن شاؤوا دخلوا الجنة، وإن شاؤوا دخلوا النار، وإن شاؤوا وإن شاؤوا؛ فقال: إني منهم بريء، وإنهم مني براء. (¬3) - وفي السنة لعبد الله: عن يحيى بن يعمر قال قلت لابن عمر إن ناسا عندنا يقولون: الخير والشر بقدر وناس عندنا يقولون الخير بقدر والشر ليس بقدر فقال ابن عمر إذا رجعت إليهم فقل لهم: ان ابن عمر يقول إنه منكم بريء وأنتم منه برآء. (¬4) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 9/56/ 1452). (¬2) الإبانة (2/ 9/152 - 153/ 1601). (¬3) الإبانة (2/ 9/153/ 1602) والشريعة (1/ 256/231). (¬4) السنة لعبد الله (141).

- وعن ابن عمر أنه كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من قدر السوء. (¬1) - وعن زياد بن عمر القرشي عن أبيه؛ قال: كنت جالسا عند ابن عمر؛ فسئل عن القدر، فقال: شيء أراد الله أن لا يطلعكم عليه؛ فلا تريدوا من الله ما أبى عليكم. (¬2) - وفي أصول الاعتقاد: عن محمد بن كعب القرظي قال: ذكرت القدرية عند عبد الله بن عمر قال: إذا كان يوم القيامة جمع الناس في صعيد واحد فينادي مناد يسمع الأولين والآخرين: أين خصماء الله؟ فيقوم القدرية. (¬3) - وفيه: عن نافع قال: بينما نحن عند عبد الله بن عمر جاءه إنسان فقال: إن فلانا يقرأ عليك السلام لرجل من أهل الشام. فقال ابن عمر: إنه قد بلغني أنه قد أحدث حدثا، فإن كان كذلك فلا تقرأن عليه مني السلام. سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "سيكون في أمتي مسخ وخسف وهو في الزنديقية والقدرية" (¬4). (¬5) - وفي السنة لعبد الله: كان لابن عمر صديق من أهل الشام يكاتبه فكتب إليه مرة عبد الله بن عمر: بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر، فإياك أن تكتب إلي فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "سيكون في أمتي أقوام ¬

(¬1) الإبانة (2/ 9/156/ 1610). (¬2) الإبانة (2/ 11/313/ 1992) والشريعة (1/ 449/573). (¬3) أصول الاعتقاد (4/ 699/1132). (¬4) أحمد (2/ 108 و136 - 137) وأبو داود (5/ 20 - 21/ 4613) بنحوه. والترمذي (4/ 397/2152) وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب". وابن ماجه (2/ 1350/4061) والحاكم (1/ 84) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم فقد احتج بأبي صخر حميد بن زياد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. (¬5) أصول الاعتقاد (4/ 701/1135) والإبانة (2/ 9/154/ 1607).

عبد الله بن عتبة بن مسعود (73 هـ)

يكذبون بالقدر" (¬1).اهـ (¬2) - وفيه: عن نافع قال: جاء رجل إلى ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن الزنا بقدر؟ قال: نعم. قال: قدره الله علي ثم يعذبني؟ قال: نعم يا ابن اللخنا لو كان عندي إنسان لأمرته أن يجأ بأنفك. (¬3) عبد الله بن عُتْبَة بن مَسْعُود (¬4) (73 هـ) عبد الله بن عتبة بن مسعود الهُذَلِيّ، ابن أخي عبد الله بن مسعود، في صحبته خلاف، روى عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة وأبي مسعود الأنصاري. وروى عنه محمد بن سيرين وأبو إسحاق السبيعي، وابناه عبد الله وعون. قال ابن سعد: كان ثقة، رفيعا، كثير الحديث والفتيا، فقيها. توفي سنة ثلاث وسبعين. موقفه من المبتدعة: جاء في طبقات الحنابلة: عنه قال: إنك لن تخطئ الطريق ما دمت على الأثر. (¬5) ¬

(¬1) أحمد (2/ 90) وأبو داود (5/ 20 - 21/ 4613) وانظر الحديث الذي قبله. (¬2) السنة لعبد الله (140). (¬3) أصول الاعتقاد (4/ 773/1293) (¬4) تهذيب الكمال (15/ 269 - 271) وطبقات ابن سعد (6/ 120) والتاريخ الكبير (5/ 485) والاستيعاب (3/ 945 - 946) والجرح والتعديل (5/ 569) وأسد الغابة (3/ 202 - 203) وشذرات الذهب (1/ 82). (¬5) طبقات الحنابلة (1/ 71).

موقفه من المشركين:

موقفه من المشركين: عن محمد، قال: قال عبد الله بن عتبة: ليتقين أحدكم أن يكون يهوديا أو نصرانيا وهو لا يشعر. قال محمد: فظننته أخذ ذلك من هذه الآية: {وَمَنْ يتولهم مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (¬1).اهـ (¬2) عمرو بن مَيْمُون (¬3) (74 هـ) عمرو بن ميمون الأَوْدِي المَدْحِجي الكوفيّ، أبو عبد الله، أدرك الجاهلية وأسلم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - على يد معاذ وصحبه، ثم قدم المدينة وصحب ابن مسعود وحدث عنهما وعن عمر وأبي ذر، وسعد وأبي هريرة وعائشة وغيرهم. روى عنه سعيد بن جبير والشعبي وحصين بن عبد الرحمن وآخرون. روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون: قال: "رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قردة قد زنت فرجموها، فرجمتها معهم" (¬4). مات سنة أربع وسبعين. موقفه من المبتدعة: جاء في الإبانة عنه قال: إياكم وهذه الزعانف الذين رغبوا عن السنة ¬

(¬1) المائدة الآية (51). (¬2) الإبانة (2/ 7/858/ 1165). (¬3) الجرح والتعديل (6/ 258/1422) والإصابة (5/ 154 - 155) والاستيعاب (3/ 1205 - 1206) وتهذيب الكمال (22/ 261 - 267) والسير (4/ 158 - 161) وأسد الغابة (4/ 263/4033). (¬4) البخاري (7/ 197/3849).

أبو عبد الرحمن السلمي (74 هـ)

وخالفوا الجماعة. (¬1) " الغريب: الزعنفة: رديء كل شيء ورذاله ... والقطعة من القبيلة تشذ وتنفرد، وكل جماعة ليس أصلهم واحدا، جمع زعانف. (¬2) أبو عبد الرحمن السُّلمي (¬3) (74 هـ) عبد الله بن حبيب بن رُبَيِّعَة الكوفي، أبو عبد الرحمن السُّلَمِي القارئ، ولأبيه صحبة. روى عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي ابن أبي طالب وأبي هريرة وطائفة. وروى عنه سعيد بن جبير، وعطاء بن السائب وإبراهيم النخعي وأبو إسحاق السبيعي، وعدد كثير. قال أبو إسحاق السبيعي: أقرأ أبو عبد الرحمن السلمي القرآن في المسجد أربعين سنة. وروى البخاري في صحيحه عن عثمان بن عفان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" قال: وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج. قال: وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا. (¬4) توفي رحمه الله في إمرة بشر ابن مروان في خلافة عبد الملك بن مروان سنة أربع وسبعين. ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/448/ 408). (¬2) المعجم الوسيط (394). (¬3) طبقات ابن سعد (6/ 172 - 175) والحلية (4/ 191 - 195) وتاريخ بغداد (9/ 430 - 431) وتهذيب الكمال (14/ 408) وسير أعلام النبلاء (4/ 267 - 272) وتاريخ الإسلام (حوادث 61 - 80/ 556 - 558) والبداية والنهاية (9/ 7). (¬4) البخاري (9/ 91/5027).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: قال أبو عبد الرحمن: وفضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الرب على خلقه، وذلك لأنه منه. (¬1) موقفه من الخوارج: جاء في مقدمة مسلم: حدثنا أبو كامل الجحدري. حدثنا حماد، وهو ابن زيد قال: حدثنا عاصم، قال: كنا نأتي أبا عبد الرحمن السلمي ونحن غلمة أيفاع. فكان يقول لنا: لا تجالسوا القصاص غير أبي الأحوص، وإياكم وشقيقا. قال وكان شقيق هذا يرى رأي الخوارج، وليس بأبي وائل. (¬2) مَالِك بن أبِي عَامِر الأَصْبَحِي (¬3) (74 هـ) مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث الأصبحي أبو أنس جد الإمام مالك ابن أنس. كان عالما فاضلا، روى عن ربيعة بن محرز كاتب عمر، وطلحة بن عبد الله وعثمان بن عفان وعمر بن الخطاب وأبي هريرة وغيرهم. وروى عنه ابناه أنس والربيع، وسالم أبو النصر وسليمان بن يسار وآخرون. قال الإمام مالك: كان جدي مالك ممن قرأ في زمن عثمان، وكان يكتب المصاحف. وقال مالك بن أبي عامر شهدت عمر بن الخطاب عند الجمرة ¬

(¬1) الإبانة (1/ 12/252). (¬2) مقدمة مسلم (1/ 20). (¬3) تهذيب الكمال (27/ 148 - 150) والبداية والنهاية (9/ 7) وطبقات ابن سعد (5/ 63 - 64) وتهذيب التهذيب (10/ 19) وشذرات الذهب (1/ 82).

موقفه من المبتدعة:

وأصابه حجر فدماه. ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل المدينة وقال: فرض له عثمان. سئل الربيع بن مالك: متى هلك أبوك؟ قال: حين اجتمع الناس على عبد الملك بن مروان سنة أربع وسبعين. موقفه من المبتدعة: روى ابن وضاح عن مالك بن أنس عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنه قال: ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة. (¬1) عُبَيْد بن عُمَيْر (¬2) (74 هـ) عبيد بن عمير بن قتادة اللَّيْثِي الجُنْدَعي المكي، أبو عاصم الواعظ المفسر، ولد في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، روى عن أبيه وعن عمر بن الخطاب وعلي وأبي ذر وعائشة وغيرهم. وروى عنه ابنه عبد الله وعطاء بن أبي رباح وابن أبي مليكة وعمرو بن دينار وجماعة. وكان من ثقات التابعين وأئمتهم بمكة، وكان يذكر الناس فيحضر ابن عمر مجلسه. فعن ثابت قال: أول من قص عبيد بن عمير على عهد عمر بن الخطاب. عن عطاء قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة فقالت له: خفف فإن الذكر ثقيل -تعني إذا وعظت- عن مجاهد قال: نفخر على التابعين بأربعة وذكر منهم عبيد بن عمير. توفي سنة أربع وسبعين. ¬

(¬1) ما جاء في البدع (138). (¬2) السير (4/ 156 - 157) وتهذيب الكمال (19/ 223 - 225) وطبقات ابن سعد (5/ 463 - 464) والاستيعاب (3/ 1018) وأسد الغابة (3/ 540) والبداية والنهاية (9/ 6 - 7) وتهذيب التهذيب (7/ 71) والإصابة (5/ 60).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: - جاء في الشريعة: عن عبيد بن عمير، قال: يؤتى بالرجل الطويل العظيم يوم القيامة، فيوضع في الميزان، فلا يزن عند الله جناح بعوضة، وقرأ: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنًا} (¬1). اهـ (¬2) - وفيها: عن عبيد بن عمير في (العتل) قال: هو القوي الشديد الأكول الشروب، يوضع في الميزان، فلا يزن شعيرة، يدفع الملك من أولئك سبعين ألفا دفعة واحدة في النار. (¬3) موقفه من المرجئة: عن عبيد بن عمير الليثي قال: ليس الإيمان بالتمني، ولكن الإيمان قول يعقل وعمل يعمل. (¬4) صَفْوَان بن مُحْرِز (¬5) (74 هـ) صفون بن محرز بن زياد المازنيّ البصريّ كان ثقة، وهو تابعي مشهور. له فضل وورع، وكان من عباد أهل البصرة. حدث عن أبي موسى الأشعري وعمران بن حصين وابن عمر. وروى عنه جامع بن شداد وعاصم الأحول ¬

(¬1) الكهف الآية (105). (¬2) الشريعة (2/ 209/958). (¬3) الشريعة (2/ 209/959). (¬4) السنة لعبد الله (86) والإبانة (2/ 804 - 805/ 1092) والسنة للخلال (4/ 81/1212). (¬5) الحلية (2/ 213 - 217) وطبقات ابن سعد (7/ 147 - 148) والسير (4/ 286) وتهذيب التهذيب (4/ 430) والإصابة (3/ 470 - 471).

موقفه من المبتدعة:

وقتادة وغيرهم. وقيل: كان واعظا قانتا لله، قد اتخذ لنفسه سربا يبكي فيه. مات بعد انقضاء أمر ابن الزبير. وأرخه ابن حبان سنة أربع وسبعين، وهي السنة التي قتل فيها ابن الزبير. موقفه من المبتدعة: جاء في الإبانة: عن محمد بن واسع، قال: رأيت صفوان بن محرز المازني، ورأى شبيبة يتجادلون قريبا منه في المسجد الجامع -قال حماد: وأشار بيده محمد بن واسع في ناحية بني سليم- قال: فرأيته قام ينفض ثيابه ويقول: إنما أنتم جرب، إنما أنتم جرب. (¬1) موقف السلف من شبيب بن يزيد الخارجي (77 هـ) جاء في السير: وكان قد خرج صالح بن مسرح العابد التميمي بدارا، وله أصحاب يفقههم ويقص عليهم، ويذم عثمان وعليا كدأب الخوارج، ويقول: تأهبوا لجهاد الظلمة، ولا تجزعوا من القتل في الله، فالقتل أسهل من الموت، والموت لا بد منه. فأتاه كتاب شبيب يقول: إنك شيخ المسلمين، ولن نعدل بك أحدا، وقد استجبت لك، والآجال غادية ورائحة، ولا آمن أن تخترمني المنية ولم أجاهد الظالمين، فيا له غبنا، ويا له فضلا متروكا، جعلنا الله ممن يريد الله بعمله، ثم أقبل هو وأخوه مصاد والمحلل بن وائل، وإبراهيم ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/513/ 595) والشريعة (1/ 193/134) وانظر الاعتصام (2/ 792).

ابن حجر، والفضل بن عامر الذهلي، إلى صالح، فصاروا مائة وعشرة أنفس، ثم شدوا على خيل لمحمد بن مروان، فأخذوها وقويت شوكتهم، فسار لحربهم عدي بن عدي بن عميرة الكندي، فالتقوا فانهزم عدي، وبعد مديدة توفي صالح من جراحات، سنة ست وسبعين، وعهد إلى شبيب فهزم العساكر، وعظم الخطب، وهجم على الكوفة وقتل جماعة أعيان. فندب الحجاج لحربه زائدة بن قدامة الثقفي، فالتقوا فقتل زائدة، ودخلت غزالة جامع الكوفة، وصلت وردها وصعدت المنبر، ووفت نذرها، وهزم شبيب جيوش الحجاج مرات، وقتل عدة من الأشراف، وتزلزل له عبد الملك، وتحير الحجاج في أمره، وقال: أعياني هذا، وجمع له جيشا كثيفا نحو خمسين ألفا. وعرض شبيب جنده فكانوا ألفا، وقال: يا قوم، إن الله نصركم وأنتم مائة، فأنتم اليوم مئون. ثم ثبت معه ست مائة، فحمل في مائتين على الميسرة هزمها، ثم قتل مقدم العساكر عتاب بن ورقاء التميمي، فلما رآه شبيب صريعا توجع له، فقال خارجي له: يا أمير المؤمنين تتوجع لكافر؟ ثم نادى شبيب برفع السيف، ودعا إلى طاعته، فبايعوه ثم هربوا في الليل. ثم جاء المدد من الشام، فالتقاه الحجاج بنفسه، فجرى مصاف لم يعهد مثله، وثبت الفريقان، وقتل مصاد أخو شبيب، وزوجته غزالة، ودخل الليل وتقهقر شبيب وهو يخفق رأسه، والطلب في أثره، ثم فتر الطلب عنهم، وساروا إلى الأهواز، فبرز متوليها محمد ابن موسى بن طلحة، فبارز شبيبا فقتله شبيب، ومضى إلى كرمان فأقام شهرين ورجع، فالتقاه سفيان بن أبرد الكلبي وحبيب الحكمي على جسر دجيل. فاقتتلوا حتى دخل الليل، فعبر شبيب على الجسر،

جابر بن عبد الله (78 هـ)

فقطع به، فغرق وقيل: بل نفر به فرسه، فألقاه في الماء سنة سبع وسبعين وعليه الحديد فقال: {ذلك تقدير العزيز العليم} (¬1) وألقاه دجيل إلى الساحل ميتا. (¬2) جابر بن عبد الله (¬3) (78 هـ) جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، الأنصاري السلمي من بني سلمة، يكنى أبا عبد الله على الأصح. كان من المكثرين الحفاظ للسنن، روى علما كثيرا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن أبي بكر وعمر وعلي وأبي عبيدة ومعاذ بن جبل والزبير وطائفة. وحدث عنه جماعة منهم ابن المسيب وعطاء ابن أبي رباح والحسن البصري وغيرهم. كان مفتي المدينة في زمانه، وكان من أهل بيعة الرضوان، وكان آخر من شهد ليلة العقبة الثانية موتا. روى مسلم في صحيحه عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسع عشرة غزوة، قال جابر: لم أشهد بدرا ولا أحدا، منعني أبي، فلما قتل عبد الله يوم أحد، لم أتخلف عن رسول الله غزوة قط" (¬4). وفيه أيضا عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من يصعد الثنية، ثنية المُرار، فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل، ¬

(¬1) يس الآية (38). (¬2) السير (4/ 148 - 149) والبداية (9/ 18 - 22) وتاريخ الطبري (3/ 556 وما بعدها). (¬3) الإصابة (1/ 434 - 435) والاستيعاب (1/ 219 - 220) والسير (3/ 189 - 194) وتذكرة الحفاظ (1/ 43 - 44) وشذرات الذهب (1/ 84) وتهذيب الأسماء واللغات (1/ 142/100) وأسد الغابة (1/ 492). (¬4) أحمد (3/ 329) ومسلم (3/ 1448/1813).

موقفه من المبتدعة:

قال: فكان أول من صعدها خيلنا، خيل بني الخزرج، ثم تتامّ الناس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وكلكم مغفور له، إلا صاحب الجمل الأحمر، فأتيناه فقلنا له: تعال يستغفر لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: والله لأن أجد ضالتي أحب إلي من أن يستغفر لي صاحبكم. قال: وكان رجل ينشد ضالة له" (¬1). مات سنة ثمان وسبعين، وهو ابن أربع وتسعين سنة، وكان قد ذهب بصره رضي الله عنه. موقفه من المبتدعة: - روى الهروي (¬2) عن جابر قال: كان القرآن ينزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويبينه لنا كما أمره الله. قال الله عز وجل: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (¬3) وقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬4). - وفي الإبانة (¬5) عن الأوزاعي قال: حدثني أبو عمار قال: حدثني جار كان لجابر بن عبد الله قال: قدمت من سفر فجاء جابر يسلم علي، فجعلت أحدثه عن افتراق الناس وما أحدثوا، فجعل جابر يبكي. ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا وسيخرجون منه ¬

(¬1) مسلم (4/ 2144 - 2145/ 2780). (¬2) ذم الكلام (2/ 170 - 171/ 253). (¬3) القيامة الآيتان (18و19). (¬4) النحل الآية (44). (¬5) (1/ 2/300/ 137).

موقفه من الخوارج:

أفواجا" (¬1). موقفه من الخوارج: - روى مسلم في صحيحه: عن يزيد الفقير قال: كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج، فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج، ثم نخرج على الناس قال: فمررنا على المدينة، فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم -جالس إلى سارية- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فإذا هو قد ذكر الجهنميين قال: فقلت له: يا صاحب رسول الله، ما هذا الذي تحدثون والله يقول: {إِنَّكَ مَنْ تدخل النار فقد أخزيته} (¬2) و {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها} (¬3) فما هذا الذي تقولون؟ قال: فقال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم، قال: فهل سمعت بمقام محمد عليه السلام (يعني الذي يبعثه الله فيه) قلت: نعم، قال: فإنه مقام محمد - صلى الله عليه وسلم - المحمود الذي يخرج الله به من يخرج. قال: ثم نعت وضع الصراط ومر الناس عليه. قال: وأخاف أن لا أكون أحفظ ذاك. قال غير أنه قد زعم أن قوما يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها. قال: يعني فيخرجون كأنهم عيدان السماسم، قال: فيدخلون نهرا من أنهار الجنة فيغتسلون فيه فيخرجون كأنهم القراطيس، فرجعنا. قلنا: ويحكم أترون الشيخ يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! ¬

(¬1) أحمد (3/ 343)، وقال الهيثمي في المجمع (7/ 281): "رواه أحمد وجار جابر لم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح". وعزاه السيوطي في الدر 6/ 408) لابن مردويه. وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه الحاكم 4/ 496) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. (¬2) آل عمران الآية (192). (¬3) السجدة الآية (20).

موقفه من المرجئة:

فرجعنا، فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد. (¬1) - وعن سليمان بن قيس اليشكري -وكان من أهل البيت- قال: قلت لجابر بن عبد الله: أفي أهل القبلة طواغيت؟ قال: لا. قلت: أكنتم تدعون أحدا من أهل القبلة مشركا؟ قال: لا. (¬2) - وفي رواية عنه قال: قلت لجابر بن عبد الله: أكنتم تعدون الذنب شركا؟ قال: لا، إلا عبادة الأوثان. (¬3) - وعن جعفر بن محمد عن أبيه، حدثني جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "شفاعتي يوم القيامة لأهل الكبائر من أمتي" (¬4) فقلت: ما هذا يا جابر؟ قال: نعم يا محمد، إنه من زادت حسناته على سيئاته يوم القيامة فذلك الذي يدخل الجنة بغير حساب، ومن استوت حسناته وسيئاته فذلك الذي يحاسب يسيرا ثم يدخل الجنة، وإنما شفاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن أوبق نفسه وأغلق ظهره. (¬5) موقفه من المرجئة: جاء في الإبانة: عن مجاهد بن جبير أبي الحجاج عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قلت له: ما كان يفرق بين الكفر والإيمان عندكم من ¬

(¬1) صحيح مسلم (1/ 179/191). (¬2) أصول الاعتقاد (6/ 1146/2008)، وبنحوه في أصول السنة لأبي زمنين (220). (¬3) أصول الاعتقاد (6/ 1146/2007). (¬4) الترمذي (4/ 540/2436) وقال: "هذا حديث حسن غريب". وابن ماجه (2/ 1441/4310) وابن حبان (14/ 386/6467) والحاكم (1/ 69) وقال: "صحيح على شرط مسلم". (¬5) أصول الاعتقاد (6/ 1168/2055).

موقفه من القدرية:

الأعمال في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: الصلاة. (¬1) موقفه من القدرية: جاء في أصول الاعتقاد: قال جابر: لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر كله خيره وشره، ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. (¬2) شُرَيْح القاضي (¬3) (78 هـ) هو الفقيه أبو أمية، شريح بن الحارث بن قَيْس بن الجَهْم الكِنْدِي الكوفي القاضي. ويقال: إنه من أولاد الفرس الذين كانوا باليمن، يقال: له صحبة ولم يصح، بل هو ممن أسلم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وانتقل من اليمن زمن الصديق. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا، وعن زيد بن أسلم وعبد الله بن مسعود، وعلي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب. وروى عنه إبراهيم النخعي وتميم بن سلمة، والشعبي ومجاهد، وابن سيرين وغيرهم. تولى القضاء لعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب ثم عزله علي، ثم ولاه معاوية، فاستمر في القضاء إلى أن مات سنة ثمان وسبعين. قيل أقام على قضاء الكوفة ستين سنة، وقضى بالبصرة سنة. ¬

(¬1) الإبانة (2/ 672/876). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 750 - 751/ 1242). (¬3) طبقات ابن سعد (6/ 131) ووفيات الأعيان (2/ 460) والسير (4/ 100 - 106) وأخبار القضاة (2/ 189) والبداية والنهاية (9/ 24 - 28) وتهذيب الكمال (12/ 435 - 445).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: - روى الدارمي عن أبي بكر الهذلي عن الشعبي قال: شهدت شريحا، وجاءه رجل من مراد فقال: يا أبا أمية، ما دية الأصابع؟ قال: عشر عشر. قال: يا سبحان الله! أسواء هاتان؟ -جمع بين الخنصر والإبهام- فقال شريح: يا سبحان الله! أسواء أذنك ويدك؟ فإن الأذن يواريها الشعر والكمة والعمامة فيها نصف الدية، وفي اليد نصف الدية، ويحك، إن السنة سبقت قياسكم، فاتبع ولا تبتدع، فإنك لن تضل ما أخذت بالأثر. قال أبو بكر: فقال لي الشعبي: يا هذلي، لو أن أحنفكم قتل وهذا الصبي في مهده أكان ديتهما سواء؟ قلت: نعم قال: فأين القياس. (¬1) - وروى ابن عبد البر عن شريح قال: إنما أقتفي الأثر، فما وجدت في الأثر حدثتكم به. (¬2) غُضَيْف بن الحارث (¬3) (80 هـ) غضيف بن الحارث بن زُنَيْم، أبو أسماء عداده في صغار الصحابة، وله رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن عمر وأبي عبيدة، وبلال وغيرهم. روى عنه ابنه عبد الرحمن، وحبيب بن عبيد ومكحول وغيرهم. سكن حمص. عن غضيف ¬

(¬1) الدارمي (1/ 66) وجامع بيان العلم (2/ 1050). (¬2) جامع بيان العلم وفضله (1/ 781) والإبانة (1/ 2/360/ 252) وذكره ابن القيم في إعلام الموقعين (4/ 151). (¬3) الإصابة (5/ 323 - 325) وطبقات ابن سعد (7/ 429 - 443) وتهذيب التهذيب (8/ 248 - 250) والسير (3/ 453 - 455) والجرح والتعديل (7/ 54) وتهذيب الكمال (23/ 112 - 116).

موقفه من المبتدعة:

أنه مر بعمر فقال: نعم الفتى غضيف فلقيت أبا ذر بعد ذلك فقال: يا أخي استغفر لي. قلت: أنت صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنت أحق أن تستغفر لي. قال: إني سمعت عمر يقول: نعم الفتى غضيف، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه". (¬1) بقي حتى خلافة عبد الملك بن مروان. توفي في حدود سنة ثمانين. موقفه من المبتدعة: روى الإمام أحمد في مسنده: عن غضيف بن الحارث الثمالي قال: بعث إلي عبد الملك بن مروان، فقال: يا أبا أسماء، إنا قد أجمعنا الناس على أمرين. قال: وما هما؟ قال: رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة، والقصص بعد الصبح والعصر، فقال: أما إنهما أمثل بدعتكم عندي، ولست مجيبك إلى شيء منهما. قال: لم؟ قال: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة، فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة. (¬2) " التعليق: وقفة قصيرة مع هذا النص تريك الفرق بين علماء السلف وعلماء الخلف، فالآن لو دعي عالم منهم لملك أو أمير أو أقل، وطلب منه ما طلب -مهما كان ذلك الطلب- لعد هذا من الشرف، سواء كان الطلب، بدعة ¬

(¬1) أحمد (5/ 145و165و177) أبو داود (3/ 365/2962) وابن ماجه (1/ 40/108) نالحاكم (3/ 86 - 87) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة". ووافقه الذهبي. (¬2) أحمد (4/ 105) واللالكائي في أصول الاعتقاد (1/ 102/121) ومحمد بن نصر في السنة (ص.32/ 97). وقال الهيثمي في المجمع (1/ 188): "وفيه أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم وهو منكر الحديث".

جبير بن نفير (80 هـ)

أو فتوى توافق الهوى أو غير ذلك، إلا من عصمه الله. والله المستعان. جُبَيْر بن نُفَيْر (¬1) (80 هـ) جبير بن نفير بن مالك بن عامر الحَضْرَمِيّ الحِمْصِيّ، ويكنى أبا عبد الرحمن. أدرك حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يره، وروى عنه مرسلا. وحدث عن أبي بكر وعمر والمقداد وأبي ذر وأبي هريرة وعائشة وعدة. روى عنه ولده عبد الرحمن، ومكحول وخالد بن معدان وآخرون. وكان جبير ثقة من كبار تابعي أهل الشام من القدماء. ومن كلامه: قال: استقبلت الإسلام من أوله، ولم أزل أرى في الناس صالحا وطالحا. قال ابن سعد وغيره: مات سنة ثمانين. موقفه من القدرية: - جاء في الإبانة: عنه قال: إن التكذيب بالقدر شرك فتح على أهل ضلالة، فلا تجادلوهم فيجري شركهم على أيديكم. (¬2) - وروى الآجري بسنده عن جبير بن نفير: إن الله تعالى كان عرشه على الماء، وإنه خلق القلم. فكتب ما هو خالق، وما هو كائن إلى يوم القيامة. (¬3) ¬

(¬1) السير (4/ 76 - 78) وتهذيب الكمال (4/ 509 - 511) وطبقات ابن سعد (7/ 440) والاستيعاب (1/ 234) وتهذيب التهذيب (2/ 64 - 65). (¬2) الإبانة (2/ 3/523/ 627). (¬3) الشريعة (1/ 431 - 432/ 534).

أبو إدريس الخولاني (80 هـ)

أبو إدريس الخَوْلاَنِي (¬1) (80 هـ) عائذ الله بن عبد الله، ويقال عيذ الله بن إدريس بن عائذ قاضي دمشق وعالمها، وواعظها. روى عن عمر بن الخطاب، ومعاذ بن جبل، وأبي الدرداء، وعبادة بن الصامت وآخرين. وعنه جماعة منهم الزهري وربيعة بن يزيد وبشر ابن عبد الله ومكحول. قال مكحول: ما رأيت مثل أبي إدريس الخولاني. وقال سعيد ابن عبد العزيز: كان أبو إدريس عالم الشام بعد أبي الدرداء. وسئل دحيم عن أبي إدريس وعن جبير، أيهما أعلم؟ قال: أبو إدريس هو المقدم، ورفع أيضا من شأن جبير بن نفير لإسناده وأحاديثه. وقال أبو زرعة: أحسن أهل الشام لقيا لأجلة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: جبير بن نفير وأبو إدريس وكثير بن مرة. توفي سنة ثمانين للهجرة. موقفه من المبتدعة: روى ابن بطة في الإبانة بسنده إلى أبي إدريس قال: لأن أرى في المسجد نارا تضطرم، أحب إلي من أن أرى فيه بدعة لا تغير. (¬2) " التعليق: انظر هذه الكراهية للبدعة ما أعظمها! فاحتراق المسجد وما فيه أحب من وجود البدعة فيه: فالمساجد الآن في العالم الإسلامي مليئة بالبدع، فهل لها من مغير؟ ¬

(¬1) الإصابة (5/ 5 - 6) وطبقات ابن سعد (7/ 48) وتاريخ خليفة (280) والحلية (5/ 122 - 129) والبداية والنهاية (9/ 34) وتهذيب التهذيب (5/ 85 - 87) وتذكرة الحفاظ (1/ 56 - 57) وشذرات الذهب (1/ 88) والسير (4/ 272 - 277) والمعرفة والتاريخ (2/ 317 - 327). (¬2) الإبانة (2/ 3/514/ 599) وذم الكلام (ص.197) والسنة (ص.96) وابن وضاح (ص.83) والحوادث والبدع (ص.109 - 110) وانظر الاعتصام (1/ 112).

موقفه من المرجئة:

موقفه من المرجئة: عن يزيد بن يزيد بن جابر قال: بلغني عن أبي إدريس الخولاني، قال: ما على ظهرها من بشر لا يخاف على إيمانه إلا ذهب. (¬1) موقفه من القدرية: - جاء في الإبانة عنه قال: ألا إن أبا جميلة لا يؤمن بالقدر فلا تجالسوه. (¬2) - وفيها: عن أبي إدريس الخولاني أنه رأى رجلا يتكلم في القدر فقام إليه فوطئ بطنه، ثم قال: إن فلانا لا يؤمن بالقدر، فلا تجالسوه. فخرج الرجل من دمشق إلى حمص. (¬3) عبد الله بن جعفر (¬4) (80 هـ) عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب أبو جعفر القرشي الهاشمي الحبشي المولد، المدني الدار، الجواد بن الجواد. عداده في صغار الصحابة، استشهد أبوه يوم مؤتة فكفله النبي - صلى الله عليه وسلم - ونشأ في حجره. له رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن عمه علي بن أبي طالب وعن أمه أسماء بنت عميس. روى عنه أولاده: إسماعيل وإسحاق ومعاوية، وأبو جعفر الباقر، والقاسم بن ¬

(¬1) الإبانة (2/ 757/1056). (¬2) الإبانة (2/ 3/449/ 411). (¬3) الإبانة (2/ 3/450/ 412). (¬4) السير (3/ 456 - 462) والاستيعاب (3/ 880 - 882) والإصابة (4/ 40 - 43) وأسد الغابة (3/ 199 - 201) وشذرات الذهب (1/ 87) وتهذيب الكمال (14/ 367 - 372) والبداية والنهاية (9/ 35 - 36).

موقفه من الرافضة:

محمد، وآخرون. وهو آخر من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه من بني هاشم. كان كبير الشأن كريما جوادا يصلح للإمامة. عن عبد الله قال: "أتانا النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ما أخبر بقتل جعفر بعد ثالثة فقال: لا تبكوا أخي بعد اليوم، ثم قال: ايتوني ببني أخي، وقال: أما عبد الله فشبه خلقي وخلقي، ثم أخذ بيدي فأشالها، ثم قال: اللهم اخلف جعفرا في أهله، وبارك لعبد الله في صفقته". وقال عنا: أنا وليهم في الدنيا والآخرة. (¬1) وكان ابن عمر إذا سلم عليه قال: "السلام عليك يا ابن ذي الجناحين" (¬2)، ولعبد الله أخبار في الجود والبذل كثيرة، وكان وافر الحشمة، كثير التنعم، حتى كان يقال له: قطب السخاء. توفي سنة ثمانين وصلى عليه أبان بن عثمان والي المدينة. موقفه من الرافضة: عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عبد الله بن جعفر قال: ولينا أبو بكر خير خليفة، أرحمه بنا، وأحناه علينا. (¬3) موقفه من القدرية: جاء في الإبانة: كان عبد الله بن جعفر وعمر بن عبد الله يسيران في موكب لهما، فذكروا القدرية وكلامهم، فقال ابن جعفر: هم الزنادقة، فقال ¬

(¬1) أحمد (1/ 204) وأبو داود (4/ 409 - 410/ 4192) مختصرا. والنسائي (8/ 564/5242) مختصرا. والحاكم (3/ 298) مختصرا وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. كلهم من طريق وهب بن جرير قال حدثني أبي عن محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب عن الحسن بن سعد عن عبد الله بن جعفر رفعه. (¬2) البخاري (7/ 94/3709) والنسائي في الكبرى (5/ 47 - 48/ 8158). (¬3) المستدرك للحاكم (3/ 79) وأصول الاعتقاد (7/ 1378/2459) والشريعة (2/ 440/1247).

خيثمة بن عبد الرحمن (بعد سنة 80 هـ)

عمر بن عبد الله: إنما يتكلمون في القدر؛ فقال ابن جعفر: هم والله الزنادقة. (¬1) خَيْثَمَة بن عبد الرحمن (¬2) (بعد سنة 80 هـ) خيثمة بن عبد الرحمن بن أبي سَبْرَة الجُعْفِي الكوفي، وأبوه وجده صحابيان. روى عن أبيه والبراء بن ع (9) وعائشة وعدي بن حاتم وعبد الله ابن عباس وابن عمر وعلي رضي الله عنهم، وطائفة. وروى عنه إبراهيم النخعي وسليمان الأعمش وقتادة ويونس بن أبي إسحاق وسعيد بن مسروق وغيرهم. قال أحمد العجلي: كوفي تابعي ثقة، وكان رجلا صالحا، وكان يركب الخيل، وكان سخيا. وعن طلحة بن مصرف: ما رأيت بالكوفة أحدا أعجب إلي من إبراهيم وخيثمة. قال البخاري: مات قبل أبي وائل. قال شعبة: عن نعيم بن أبي هند، قال: رأيت أبا وائل في جنازة خيثمة وهو على حمار وهو يقول: واحزناه، أو كلمة نحوها. توفي رحمه الله بعد سنة ثمانين. موقفه من المرجئة: جاء في مجموع الفتاوى: قال خيثمة بن عبد الرحمن: الإيمان يسمن في الخصب، ويهزل في الجذب، فخصبه العمل الصالح، وجذبه الذنوب والمعاصي. (¬3) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 10/220/ 1796). (¬2) طبقات ابن سعد (6/ 286) والحلية (4/ 113) وتهذيب الكمال (8/ 370) وتاريخ خليفة (ص303) وتاريخ الإسلام (حوادث 81 - 100/ص.58) وسير أعلام النبلاء (4/ 320 - 321) وتهذيب التهذيب (3/ 178 - 179). (¬3) مجموع الفتاوى (7/ 226).

محمد بن علي بن الحنفية (81 هـ)

محمد بن علي بن الحَنَفِيَّة (¬1) (81 هـ) هو محمد بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، كنيته أبو القاسم وأبو عبد الله، القرشي الهاشمي، المدني، أخو الحسن والحسين، وأمه من سبي اليمامة، وهي خولة بنت جعفر الحنفية. روى عن أبيه علي، وأبي هريرة، وعثمان وابن عباس، وعنه جماعة منهم: أبناؤه إبراهيم والحسن وعبد الله وعمر وعون، وكذا عطاء بن أبي رباح وسالم بن أبي الجعد. وفد على معاوية، وعبد الملك بن مروان، وكانت الشيعة في زمانه تتغالى فيه، وتدعي إمامته، ولقبوه بالمهدي، ويزعمون أنه لم يمت. قال عبد الأعلى: إن محمد بن علي كان يكنى أبا القاسم، وكان ورعا كثير العلم. وقال عنه العجلي: تابعي ثقة، كان رجلا صالحا. ومن أقواله: ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بدا حتى يجعل الله من أمره فرجا، أو قال: مخرجا. وقال: من كرمت عليه نفسه لم يكن للدنيا عنده قدر. وقال أيضا: إن الله جعل الجنة ثمنا لأنفسكم فلا تبيعوها بغيرها. توفي رحمه الله سنة إحدى وثمانين. موقفه من المبتدعة: - جاء في الإبانة: عن محمد قال: لا تجالسوا أصحاب الخصومات فإنهم ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (5/ 91 - 116) وحلية الاولياء (3/ 174 - 180) والبداية والنهاية (9/ 38 - 39) وسير أعلام النبلاء (4/ 110 - 129) ووفيات الأعيان (4/ 169 - 173) وتهذيب الكمال (26/ 147 - 152) وتهذيب التهذيب (9/ 354 - 355) وشذرات الذهب (1/ 88 - 90) والعقد الثمين (2/ 157) والوافي بالوفيات (4/ 99 - 102).

الذين يخوضون في آيات الله. (¬1) - وفيها (¬2): عنه قال: إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء، وكان يرى أن هذه الآية نزلت فيهم {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} (¬3). " التعليق: رضي الله عن هذا الإمام، إذ حصر الثبات لحملة السنة والكتاب والعقيدة السلفية الصحيحة، وأما المبتدعة فلا تجد لهم ثباتا، لأنهم في شك مما هم فيه، ولأن شروط الثبات فقدت فيهم، ومن شك في ذلك فليراجع تراجم الفلاسفة والكلاميين كم واحد منهم تاب وتراجع عن بدعته، وأعلن توبته للناس كما فعل الأشعري والرازي والغزالي وغيرهم مما لا يحصى لكثرتهم. - وجاء في أصول الاعتقاد: عن أبي يعلى عن محمد بن الحنفية قال: لا تنقضي الدنيا حتى تكون خصومات الناس في ربهم. (¬4) - وروى ابن بطة: عن جابر قال: قال لي محمد بن علي: يا جابر، لا تخاصم فإن الخصومة تكذب القرآن. (¬5) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 4/619/ 808) وذم الكلام (ص.191). (¬2) الإبانة (2/ 3/498/ 552). (¬3) الأنعام الآية (68). (¬4) أصول الاعتقاد (1/ 143 - 144/ 213) والإبانة (2/ 3/521/ 617). (¬5) الإبانة (2/ 3/495/ 542).

موقفه من المشركين:

موقفه من المشركين: جاء في السير: عن محمد قال: نحن أهل بيتين من قريش نتخذ من دون الله أندادا، نحن وبنو أمية. (¬1) موقفه من المرجئة: عن فضيل بن يسار عن محمد بن علي قال: في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن" (¬2)، قال: إذا أتى شيئا من ذلك نزع منه الإيمان، فإن تاب تاب الله عليه. قال محمد بن علي: هذا الإسلام وأدار إدارة واسعة وأدار في جوفها إدارة صغيرة، وقال: هذا الإيمان، قال: فالإيمان مقصور في الإسلام، قال: فقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزني حين يزني وهو مؤمن" إذا أتى شيئا من ذلك خرج من الإيمان إلى الإسلام، قال: فإذا تاب تاب الله عليه ورجع إلى الإيمان. (¬3) موقفه من القدرية: روى اللالكائي بسنده عن منذر أبي يعلى قال: قال محمد بن الحنفية: من أحب رجلا على عدل ظهر فيه وهو في علم الله من أهل النار آجره الله كما لو كان من أهل الجنة، ومن أبغض رجلا على جور ظهر منه وهو في ¬

(¬1) السير (4/ 116). (¬2) أحمد (2/ 376) والبخاري (5/ 150 - 151/ 2475) ومسلم (1/ 76/57) وأبو داود (5/ 64 - 65/ 4689) والترمذي (5/ 16 - 17/ 2625) وقال: "حديث حسن صحيح غريب". والنسائي (8/ 715 - 716/ 5675) وابن ماجه (2/ 1298 - 1299/ 3936) من حديث أبي هريرة. (¬3) الإبانة (2/ 5/712 - 713/ 960).

موقف السلف من معبد الجهني القدري (81 هـ)

علم الله من أهل الجنة آجره الله كما لو كان من أهل النار. (¬1) موقف السلف من معبد الجهني القدري (81 هـ) قال ابن كثير في البداية: يقال إنه معبد بن عبد الله بن عكيم راوي الحديث: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" (¬2) وقيل غير ذلك في نسبه. سمع الحديث من ابن عباس وابن عمر ومعاوية وعمران بن حصين وغيرهم، وشهد يوم التحكيم وسأل أبا موسى في ذلك ووصاه، ثم اجتمع بعمرو بن العاص فوصاه في ذلك فقال له: إيها ياتيس جهنة، ما أنت من أهل السر والعلانية وأنه لا ينفعك الحق ولا يضرك الباطل، وهذا توسم فيه من عمرو ابن العاص، ولهذا كان هو أول من تكلم في القدر، ويقال إنه أخذ ذلك عن رجل من النصارى من أهل العراق يقال له سوس، وأخذ غيلان القدر من معبد، وقد كانت لمعبد عبادة، وفيه زهادة، ووثقه ابن معين وغيره في حديثه، وقال الحسن البصري: إياكم ومعبدا فإنه ضال مضل، وكان ممن خرج مع ابن الأشعث، فعاقبه الحجاج عقوبة عظيمة بأنواع العذاب ثم قتله. وقال سعيد بن عفير: بل صلبه عبد الملك بن مروان في سنة ثمانين بدمشق ثم قتله. وقال خليفة بن خياط مات قبل التسعين فالله أعلم وقيل إن الأقرب قتل ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 764/1277). (¬2) أحمد (4/ 310 - 311) وأبو داود (4/ 370 - 371/ 4127 - 4128) والترمذي (4/ 194/1729) وقال: "هذا حديث حسن". والنسائي (7/ 197/4260) وابن ماجه (2/ 1194/3613).

المهلب بن أبي صفرة (82 هـ)

عبد الملك له والله سبحانه وتعالى أعلم. (¬1) المُهَلَّب بن أَبي صُفْرَة (¬2) (82 هـ) أبو سعيد، المُهَلَّب بن أبي صُفْرَة الأَزْدِي العَتَكِي البصري. أمير عبد الملك بن مروان على خراسان، صاحب الحروب والفتوح، حدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص وسمرة بن جندب وابن عمر والبراء بن عازب. وروى عنه سماك بن حرب وأبو إسحاق وعمر بن سيف. قال أبو إسحاق السبيعي: لم أر أميرا أيمن نقيبة ولا أشجع لقاء ولا أبعد مما يكره ولا أقرب مما يحب من المهلب. كان من أشجع الناس، حمى البصرة من الخوارج، وله معهم وقائع مشهورة بالأهواز، غزا أرض الهند سنة أربع وأربعين. روي أنه قدم على عبد الله بن الزبير أيام خلافته بالحجاز والعراق وتلك النواحي وهو يومئذ بمكة، فخلا به عبد الله يشاوره، فدخل عليه عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف بن وهب القرشي الجمحي فقال: من هذا الذي قد شغلك يا أمير المؤمنين يومك هذا؟ قال أو ما تعرفه؟ قال: لا، قال: هذا سيد أهل العراق، قال: فهو المهلب بن أبي صفرة. قال: نعم، فقال المهلب: من هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا سيد قريش، فقال: فهو عبد الله بن صفوان، قال: نعم. من أقواله: يعجبني في الرجل أن أرى عقله ¬

(¬1) البداية والنهاية (9/ 36 - 37). (¬2) الإصابة (6/ 386 - 388) وطبقات ابن سعد (7/ 129 - 130) وتاريخ الطبري (6/ 354 - 355) ووفيات الأعيان (5/ 350 - 359) وشذرات الذهب (1/ 90 - 91) والجرح والتعديل (8/ 369 - 370) وسير أعلام النبلاء (4/ 383 - 385) وتهذيب التهذيب (10/ 329 - 330) والبداية والنهاية (9/ 42) وتهذيب الكمال (29/ 8 - 13).

موقفه من الخوارج:

زائدا على لسانه ولا أرى لسانه زائدا على عقله. وقال أيضا: نعم الخصلة السخاء، تستر عورة الشريف، وتلحق خسيسة الوضيع، وتحبب المزهود فيه. وقال: ما شيء أبقى للملك من العفو، خير مناقب الملك العفو. وعلق الذهبي على هذه القولة بقوله: ينبغي أن يكون العفو من الملك عن القتل، إلا في الحدود، وأن لا يعفو عن وال ظالم، ولا عن قاض مرتش، بل يعجل بالعزل، ويعاقب المتهم بالسجن، فحلم الملوك محمود إذا ما اتقوا الله وعملوا بطاعته. توفي رحمه الله غازيا سنة اثنتين وثمانين. موقفه من الخوارج: قال ابن كثير في البداية والنهاية في معرض حديثه عن حوادث سنة ثمان وستين: وفيها كانت وقعة الأزارقة. وذلك أن مصعبا كان قد عزل عن ناحية فارس المهلب بن أبي صفرة، وكان قاهرا لهم وولاه الجزيرة، وكان المهلب قاهرا للأزارقة، وولى على فارس عمر بن عبد الله بن معمر، فثاروا عليه فقاتلهم عمر بن عبد الله فقهرهم وكسرهم، وكانوا مع أميرهم الزبير ابن الماجور، ففروا بين يديه إلى اصطخر فأتبعهم فقتل منهم مقتلة عظيمة، وقتلوا ابنه، ثم ظفر بهم مرة أخرى، ثم هربوا إلى بلاد أصبهان ونواحيها، فتقووا هنالك وكثر عَددهم وعُددهم، ثم أقبلوا يريدون البصرة، فمروا ببعض بلاد فارس وتركوا عمر بن عبد الله بن معمر وراء ظهورهم، فلما سمع مصعب بقدومهم ركب في الناس وجعل يلوم عمر بن عبد الله بتركه هؤلاء يجتازون ببلاده، وقد ركب عمر ابن عبد الله في آثارهم، فبلغ الخوارج أن مصعبا أمامهم وعمر بن عبد الله وراءهم، فعدلوا إلى المدائن فجعلوا يقتلون النساء

والولدان، ويبقرون بطون الحبالى، ويفعلون أفعالا لم يفعلها غيرهم، فقصدهم نائب الكوفة الحارث بن أبي ربيعة ومعه أهلها وجماعات من أشرافها، منهم ابن الأشتر وشبث بن ربعي، فلما وصلوا إلى جسر الصراة قطعه الخوارج بينه وبينهم، فأمر الأمير بإعادته، ففرت الخوارج هاربين بين يديه، فأتبعهم عبد الرحمن بن مخنف في ستة آلاف فمروا على الكوفة ثم صاروا إلى أرض أصبهان، فانصرف عنهم ولم يقاتلهم، ثم أقبلوا فحاصروا عتاب ابن ورقاء شهرا، بمدينة جيا، حتى ضيقوا على الناس فنزلوا إليهم فقاتلوهم فكشفوهم، وقتلوا أميرهم الزبير بن الماجور وغنموا ما في معسكرهم، وأمرت الخوارج عليهم قطرى بن الفجاءة ثم ساروا إلى بلاد الأهواز، فكتب مصعب بن الزبير إلى المهلب بن أبي صفرة -وهو على الموصل- أن يسير إلى قتال الخوارج، وكان أبصر الناس بقتالهم، وبعث مكانه إلى الموصل إبراهيم بن الأشتر فانصرف المهلب إلى الأهواز فقاتل فيها الخوارج ثمانية أشهر قتالا لم يسمع بمثله. (¬1) - وقال أيضا وهو يتحدث عن حوادث سنة اثنتين وسبعين: ففيها كانت وقعة عظيمة بين المهلب بن أبي صفرة وبين الأزارقة من الخوارج بمكان يقال له سولاق، مكثوا نحوا من ثمانية أشهر متواقفين. وجرت بينهم حروب يطول بسطها، وقد استقصاها ابن جرير، وقتل في أثناء ذلك من هذه المدة مصعب بن الزبير. ثم إن عبد الملك أقر المهلب بن أبي صفرة علىالأهواز وما معها، وشكر سعيه وأثنى عليه ثناء كثيرا، ثم تواقع الناس في دولة ¬

(¬1) البداية والنهاية (8/ 296 - 297).

محمد بن سعد بن أبي وقاص (82 هـ)

عبد الملك بالأهواز، فكسر الناس الخوارج كسرة فظيعة، وهربوا في البلاد لا يلوون على أحد، وأتبعهم خالد بن عبد الله أمير الناس وداود بن محندم فطردوهم، وأرسل عبد الملك إلى أخيه بشر بن مروان أن يمدهم بأربعة آلاف، فبعث إليه أربعة آلاف، عليهم عتاب بن ورقاء، فطردوا الخوارج كل مطرد، ولكن لقي الجيش جهدا عظيما وماتت خيولهم ولم يرجع أكثرهم إلا مشاة إلى أهليهم. (¬1) - وقال عنه أيضا: ولي حرب الخوارج أول دولة الحجاج، وقتل منهم في يوم واحد أربعة آلاف وثمانمائة. (¬2) محمد بن سعد بن أبي وقاص (¬3) (82 هـ) الإمام الثقة أبو القاسم القرشي المدني. قيل: إنه كان يلقب ظل الشيطان لقصره. أرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. روى عن أبيه سعد وعثمان بن عفان وأبي الدرداء وطائفة. حدث عنه ابناه: إبراهيم وإسماعيل، وأبو إسحاق السبيعي ويونس بن جبير، وإسماعيل بن أبي خالد وعبد الحميد ابن عبد الرحمن ابن زيد بن الخطاب وجماعة. أمه ماوية ابنة قيس بن معدي كرب من كندة. قال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث ليست بالكثيرة، وكان قد خرج مع ¬

(¬1) البداية والنهاية (8/ 328 - 329). (¬2) البداية والنهاية (9/ 47). (¬3) الجرح والتعديل (7/ 261) والتاريخ الكبير (1/ 88) وطبقات ابن سعد (5/ 167و6/ 221) وتهذيب الكمال (25/ 258 - 260) وتهذيب التهذيب (9/ 183) والسير (4/ 348 - 349) وطبقات خليفة (243) وشذرات الذهب (1/ 91) الكامل لابن الأثير (4/ 472 - 482).

موقفه من المبتدعة:

عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وشهد دير الجماجم فأتي به الحجاج فقتله. روى جملة صالحة من العلم. وذكره ابن حبان في كتاب الثقات. وكان مصرعه رحمه الله في سنة اثنتين وثمانين. موقفه من المبتدعة: عن داود بن أبي هند أن محمد بن سعد بن أبي وقاص سمع قوما يتكلمون بالفارسية فقال: ما بال المجوسية بعد الحنيفية. (¬1) شَقِيق بن سَلَمَة (¬2) (82 هـ) الإمام الكبير أبو وائل الأسدي شيخ الكوفة. مخضرم أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وما رآه. حدث عن عمر وعثمان وعلي وعمار، ومعاذ وابن مسعود وأبي الدرداء وغيرهم. وروى كذلك عن أقرانه كمسروق وعلقمة وحمران بن أبان. وكان من أئمة الدين. وحدث عنه خلق كثير منهم: عمرو ابن مرة وحبيب ابن أبي ثابت والحكم بن عتيبة وغيرهم. فعن وكيع عن أبي العنبس، قلت لأبي وائل: هل أدركت النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، وأنا غلام أمرد ولم أره. وقال الأعمش، قال لي شقيق بن سلمة: يا سليمان لو رأيتنا ونحن هراب من خالد ابن الوليد يوم بزاخة، فوقعت عن البعير، فكادت تندق عنقي، فلو مت ¬

(¬1) ابن أبي شيبة (9/ 11). (¬2) الإصابة (3/ 386 - 387) والاستيعاب (2/ 710) وطبقات ابن سعد (6/ 96 - 102) وتاريخ بغداد (9/ 268 - 271) ووفيات الأعيان (2/ 476 - 477) وتهذيب الكمال (12/ 548 - 554) وتذكرة الحفاظ (1/ 60) والحلية (4/ 101 - 112) وسير أعلام النبلاء (4/ 161 - 166).

موقفه من المبتدعة:

يومئذ كانت النار، قال: وكنت يومئذ ابن إحدى عشرة سنة. قال الذهبي: وفي نسخة ابن إحدى وعشرين سنة وهو أشبه. وعن محمد بن الفضل عن أبيه، عن أبي وائل، أنه تعلم القرآن في شهرين. وقال الأعمش: قال لي إبراهيم النخعي: عليك بشقيق فإني أدركت الناس وهم متوافرون، وإنهم ليعدونه من خيارهم. وقال عاصم بن أبي النجود: ما سمعت أبا وائل سب إنسانا قط ولا بهيمة. وعن عاصم قال: كان أبو وائل إذا صلى في بيته ينشج نشيجا، ولو جعلت له الدنيا على أن يفعله وأحد يراه ما فعله. قال الذهبي: قد كان هذا السيد رأسا في العلم والعمل. قال خليفة: مات بعد الجماجم سنة اثنتين وثمانين. وقيل: في خلافة عمر بن عبد العزيز. قال الحافظ المزي: والمحفوظ الأول والله أعلم. موقفه من المبتدعة: - جاء في الإبانة: قال الزبرقان: نهاني أبو وائل أن أجالس أصحاب أرأيت أرأيت. (¬1) - وروى ابن وضاح: عن الأعمش قال: قال لي شقيق أبو وائل: يا سليمان! ما شبّهت قراء زمانك إلا بغنم رعت حمضا، فمن رآها ظن أنها سمان، فإذا ذبحها لم يجد فيها شاة سمينة. (¬2) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/451/ 415) والدارمي (1/ 66) وانظر إعلام الموقعين (1/ 74). (¬2) ما جاء في البدع (ص.172) وكتاب الزهد لابن المبارك (ص.198) والحلية لأبي نعيم (4/ 104 - 105).

موقفه من الخوارج:

موقفه من الخوارج: قال الحافظ: وأخرج إسحاق بن راهويه في مسنده من طريق حبيب بن أبي ثابت قال: أتيت أبا وائل فقلت: أخبرني عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي، فيم فارقوه وفيم استحل قتالهم؟ قال: لما كنا بصفين استحر القتل في أهل الشام، فرفعوا المصاحف فذكر قصة التحيكم، فقال الخوارج ما قالوا ونزلوا حروراء، فأرسل إليهم علي فرجعوا، ثم قالوا نكون في ناحيته فإن قبل القضية قاتلناه، وإن نقضها قاتلنا معه، ثم افترقت منهم فرقة يقتلون الناس، فحدث علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمرهم. (¬1) موقفه من المرجئة: عن زبيد قال: سألت أبا وائل عن المرجئة فقال: حدثني عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" (¬2).اهـ (¬3) " التعليق: قال الحافظ في الفتح: ففي الحديث تعظيم حق المسلم والحكم على من سبه بغير حق بالفسق، ومقتضاه الرد على المرجئة، وعرف من هذا مطابقة جواب أبي وائل للسؤال عنهم، كأنه قال: كيف تكون مقالتهم حقا والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا. قوله: (وقتاله كفر) إن قيل: وهذا وإن تضمن الرد على المرجئة لكن ¬

(¬1) الفتح (12/ 367). وأخرجه بسياق أتم أبو يعلى (1/ 364 - 367/ 483). قال الهيثمي في المجمع (6/ 238): "رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح". وصحح إسناده الحافظ في المطالب العالية (4504). (¬2) أحمد (1/ 385) والبخاري (1/ 147/48) ومسلم (1/ 81/64) والترمذي (4/ 311/1983) والنسائي (7/ 138/4121) وابن ماجه (1/ 27/69) عن ابن مسعود. (¬3) السنة لعبد الله (86 - 87) وأصول الاعتقاد (5/ 1073/1839) والسنة للخلال (4/ 114 - 115/ 1297).

زاذان الضرير (82 هـ)

ظاهره يقوي مذهب الخوارج الذين يكفرون بالمعاصي، فالجواب: إن المبالغة في الرد على المبتدع اقتضت ذلك، ولا متمسك للخوارج فيه، لأن ظاهره غير مراد، لكن لما كان القتال أشد من السباب؛ لأنه مفض إلى إزهاق الروح، عبر عنه بلفظ أشد من لفظ الفسق وهو الكفر، ولم يرد حقيقة الكفر التي هي الخروج عن الملة، بل أطلق عليه الكفر مبالغة في التحذير، معتمدا على ما تقرر من القواعد أن مثل ذلك لا يخرج عن الملة، مثل حديث الشفاعة، ومثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}. اهـ (¬2) زاذان الضّرير (¬3) (82 هـ) زَاذَان أبو عمر الكِنْدي البَزَّاز الضرير الكوفي أحد العلماء الكبار، ولد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وشهد خطبة عمر بالجابية. روى عن عمر وعلي وسلمان وابن مسعود وغيرهم. وروى عنه أبو صالح السمان وعمرو ابن مرة والمنهال ابن عمرو وآخرون. وكان ثقة صادقا، كان يتعاطى النبيذ والغناء في شبابه، فتاب على يد عبد الله بن مسعود، وحصلت له إنابة ورجوع إلى الحق وخشية شديدة، حتى كان في الصلاة كأنه خشبة. توفي سنة اثنتين وثمانين بعد الجماجم. ¬

(¬1) النساء الآية (48). (¬2) الفتح (1/ 151). (¬3) السير (4/ 280 - 281) وطبقات ابن سعد (6/ 178 - 179) والبداية والنهاية (9/ 50) وتهذيب الكمال (9/ 263 - 265) وشذرات الذهب (1/ 90) وتهذيب التهذيب (3/ 302 - 303).

موقفه من المرجئة:

موقفه من المرجئة: عن زاذان وميسرة، قالا: أتينا الحسن بن محمد فقلنا: ما هذا الكتاب الذي وضعت؟ -وكان هو الذي أخرج كتاب المرجئة- قال زاذان: قال لي: يا أبا عمر لوددت أني كنت مت قبل أن أخرج هذا الكتاب أو قبل أن أضع هذا الكتاب. (¬1) " التعليق: هذا الأثر أورده عبد الله بن الإمام أحمد في السنة في سياق ذكر المرجئة، وابن بطة في باب القول في المرجئة. وساق الحافظ محمد بن يحيى العدني محتوى الكتاب المذكور في كتابه الإيمان (¬2) الذي وضع جل فصوله في الرد على المرجئة، وصنيع هؤلاء الأئمة في إيرادهم له في أبواب المرجئة يوهم أن المقصود به الإرجاء المتعلق بالإيمان، وليس كذلك، بل القصد إرجاء أمر الطائفتين المقتتلتين في الفتنة، وبيان ذلك ما جاء في تهذيب الكمال للمزي (¬3): عن عثمان بن إبراهيم بن محمد بن حاطب، قال: أول من تكلم في الإرجاء الأول؛ الحسن بن محمد بن الحنفية، كنت حاضرا يوم تكلم وكنت في حلقته مع عمي، وكان في الحلقة جخدب وقوم معه، فتكلموا في علي وعثمان وطلحة والزبير فأكثروا، والحسن ساكت، ثم تكلم، فقال: قد سمعت مقالتكم ولم أر شيئا أمثل من أن يرجأ علي وعثمان وطلحة والزبير، فلا ¬

(¬1) الإبانة (2/ 904/1268) والسنة لعبد الله (89) وطبقات ابن سعد (5/ 238) والسنة للخلال (4/ 136 - 137/ 1358). (¬2) (ص.195 - 199). (¬3) (6/ 321 - 328).

يتولوا ولا يتبرأ منهم، ثم قام فقمنا. قال: فقال لي عمي: يا بني ليتخذن هؤلاء هذا الكلام إماما. قال عثمان: فقال به سبعة رجال رأسهم جخدب من تيم الرباب، ومنهم حرملة التيمي تيم الرباب أبو علي بن حرملة، قال: فبلغ أباه محمد بن الحنفية ما قال: فضربه بعصا فشجه وقال: لا تولّ (¬1) أباك عليا؟ قال: وكتب الرسالة التي ثبت فيها الإرجاء بعد ذلك. ونبه على ذلك الحافظ بن حجر في تهذيب التهذيب (¬2) قال: المراد بالإرجاء الذي تكلم الحسن بن محمد فيه؛ غير الإرجاء الذي يعيبه أهل السنة المتعلق بالإيمان، وذلك أني وقفت على كتاب الحسن بن محمد المذكور، أخرجه ابن أبي عمر العدني في كتاب الإيمان له في آخره قال: حدثنا إبراهيم ابن عيينة، عن عبد الواحد بن أيمن قال: كان الحسن بن محمد يأمرني أن أقرأ هذا الكتاب على الناس: أما بعد، فإنا نوصيكم بتقوى الله -فذكر كلاما كثيرا في الموعظة والوصية لكتاب الله واتباع ما فيه، وذكر اعتقاده، ثم قال في آخره: ونوالي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، ونجاهد فيهما لأنهما لم تقتتل عليهما الأمة، ولم تشك في أمرهما، ونرجئ من بعدهما ممن دخل في الفتنة، فنكل أمرهم إلى الله- إلى آخر الكلام، فمعنى الذي تكلم فيه الحسن؛ أنه كان يرى عدم القطع على إحدى الطائفتين المقتتلتين في الفتنة بكونه مخطئا أو مصيبا، وكان يرى أنه يرجئ الأمر فيهما، وأما الإرجاء الذي يتعلق بالإيمان فلم يعرج عليه، فلا يلحقه بذلك عاب، والله أعلم. اهـ ¬

(¬1) في الأصل: لا تولي. (¬2) (2/ 320 - 321).

أبو البختري (83 هـ)

قلت: وإنما أوردناه ضمن مواقف السلف من المرجئة ليتم التنبيه عليه في بابه الذي يورد فيه. وعلى أي فانظر رحمك الله إلى غيرة زاذان وميسرة رحمهما الله على العقيدة السلفية وإنكارهما للكتاب المذكور، فكم هي الكتب اليوم التي تحتاج إلى إنكار غيرة على الحق والله المستعان. أبو البَخْتَرِي (¬1) (83 هـ) سعيد بن فَيْرُوز الطَّائِي، الكوفي، أحد العباد. حدث عن أبي برزة الأسلمي، وابن عباس، وابن عمر. روى عنه عمرو بن مرة، وعطاء بن السائب، ويونس بن خباب. قال حبيب بن أبي ثابت: اجتمعت أنا وسعيد ابن جبير وأبو البختري فكان أبو البختري أعلمنا وأفقهنا. وكان أبو البختري يقول: لأن أكون في قوم أتعلم منهم، أحب إلي من أن أكون في قوم أعلمهم. وقال عنه يحيى بن معين: ثقة، وقال هلال بن خباب: كان من أفاضل أهل الكوفة. توفي سنة ثلاث وثمانين. موقفه من المرجئة: عن سلمة بن كهيل قال: اجتمعنا في الجماجم؛ أبو البختري، وميسرة أبو صالح، وضحاك المشرقي، وبكير الطائي، فأجمعوا على أن الإرجاء بدعة، ¬

(¬1) السير (4/ 279) وحلية الأولياء (4/ 379) وطبقات ابن سعد (6/ 292) وتهذيب الكمال (11/ 32) وتهذيب التهذيب (4/ 72 - 73) وشذرات الذهب (1/ 92).

عبد الرحمن بن يزيد أبو بكر (83 هـ)

والولاية بدعة، والبراءة بدعة، والشهادة بدعة. (¬1) عبد الرحمن بن يزيد أبو بكر (¬2) (83 هـ) عبد الرحمن بن يزيد بن قيس، الإمام الفقيه، أبو بكر النخعي. حدث عن عثمان وابن مسعود، وسلمان الفارسي، وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم وجماعة. روى عنه إبراهيم النخعي وأبو إسحاق السبيعي، وعمارة بن عمير وغيرهم. وكان عابدا ناسكا. قال المفضل الغلابي: عباد الرحمن من قريش كلهم عابد، عبد الرحمن بن زياد بن أبي سفيان، وعبد الرحمن بن خالد ابن الوليد، وعبد الرحمن بن أبان بن عثمان، وعبد الرحمن بن يزيد بن معاوية. قال ابن حبان: قتل في الجماجم سنة ثلاث وثمانين. وقيل سنة اثنتين وثمانين. موقفه من المبتدعة: روى ابن بطة بسنده إلى عبد الرحمن بن يزيد أنه رأى محرما عليه ثيابه، فنهى المحرم، فقال: ايتني بآية من كتاب الله عز وجل بنزع ثيابي، فقرأ عليه: {وَمَا آَتَاكُمُ الرسول فخذوه وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬3).اهـ (¬4) ¬

(¬1) السنة لعبد الله (89 - 90) وأصول الاعتقاد (5/ 1050/1784) والإيمان لأبي عبيد (22) بنحوه، والإبانة (2/ 7/905/ 1270). (¬2) الثقات لابن حبان (5/ 86) والسير (4/ 78) وتهذيب الكمال (18/ 12) والتاريخ الكبير (5/ 363) وطبقات ابن سعد (6/ 121) وتاريخ الإسلام (حوادث سنة 81 - 100/ 132). (¬3) الحشر الآية (7). (¬4) الإبانة (1/ 1/249 - 250/ 82) والشريعة (1/ 180/106) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 1182 - 1183).

أبو الجوزاء أوس بن عبد الله (83 هـ)

أبو الجَوْزَاء أَوْس بن عبد الله (¬1) (83 هـ) أوس بن عبد الله، أبو الجوزاء، المجانب للأهواء والآراء، المفارق للتلاعن والأسواء، من قراء البصرة ومن كبار علمائها. روى عن عائشة، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعنه جماعة منهم أبان بن أبي عياش، وسليمان بن علي الربعي، وعمرو بن مالك النكري. قال أبو الجوزاء: ما لعنت شيئا، ولا أكلت شيئا ملعونا قط، ولا آذيت أحدا قط. قتل في الجماجم سنة ثلاث وثمانين. وقيل التي قبلها. موقفه من المبتدعة: - جاء في الإبانة عنه أنه قال: لأن تجاورني القردة والخنازير في دار؛ أحب إلي من أن يجاورني رجل من أهل الأهواء، وقد دخلوا في هذه الآية: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (¬2).اهـ (¬3) - وجاء في السير عنه قال: لأن أجالس الخنازير أحب إلي من أن أجالس أحدا من أهل الأهواء. (¬4) ¬

(¬1) السير (4/ 371 - 372) وطبقات ابن سعد (7/ 223 - 224) الحلية (3/ 78 - 82) وتهذيب الكمال (3/ 392 - 393) والتاريخ الكبير (2/ 16 - 17). (¬2) آل عمران الآية (119). (¬3) الإبانة (2/ 3/467/ 466) وأصول الاعتقاد (1/ 147 - 148/ 231) وذم الكلام (ص.193) والشريعة (3/ 581/2110). وانظر الاعتصام (1/ 91). (¬4) السير (4/ 372) وهو في الطبقات (7/ 224) والحلية (3/ 78).

موقفه من المشركين:

- وفيها: وعنه أنه قال: ما ماريت أحدا قط. (¬1) موقفه من المشركين: قال: نقل الحجارة أهون على المنافق من قراءة القرآن. (¬2) موقفه من الصوفية: عن عمرو بن مالك قال: بينما نحن يوما عند أبي الجوزاء يحدثنا؛ إذ خر رجل فاضطرب، فوثب أبو الجوزاء فسعى قبله فقيل: يا أبا الجوزاء إنه رجل به الموت فقال: إنما كنت أراه من هؤلاء القفازين ولو كان منهم لأمرت به وأخرجته من المسجد إنما ذكرهم الله فقال: تفيض أعينهم وتقشعر جلودهم. عبد الرحمن بن أبي ليلى (¬3) (83 هـ) الإمام العلامة الحافظ أبو عيسى الأنصاري الكوفي الفقيه، ويقال له: أبو محمد. حدث عن عمر وعلي وأبي ذر وابن مسعود وغيرهم رضي الله عنهم. وحدث عنه عمرو بن مرة، والحكم بن عتيبة والأعمش وطائفة سواهم. قال محمد بن سيرين: جلست إلى عبد الرحمن بن أبي ليلى وأصحابه يعظمونه كأنه أمير. وعن عبد الله بن الحارث أنه اجتمع بابن أبي ليلى فقال: ما شعرت أن النساء ولدن مثل هذا. وقال أبو نعيم وخليفة بن خياط وأبو ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (4/ 372). (¬2) الحلية (3/ 80). (¬3) طبقات ابن سعد (6/ 109) وتهذيب الكمال (17/ 372 - 376) والسير (4/ 262 - 268) وميزان الاعتدال (2/ 584) وتهذيب التهذيب (6/ 260 - 262) وشذرات الذهب (1/ 62).

موقفه من الرافضة:

موسى محمد بن المثنى: مات سنة ثلاث وثمانين. موقفه من الرافضة: - جاء في السنة لعبد الله: عن عمرو بن مرة عن ابن أبي ليلى قال ذكر عنده قول الناس في علي فقال عبد الرحمن قد جالسناه وحدثناه وواكلناه وشاربناه وقمنا له على الأعمال، فما سمعته يقول شيئا مما تقولون، أولا يكفيكم أن تقولوا: ابن عم رسول الله وختنه، وشهد بيعة الرضوان وشهد بدرا؟! (¬1) - وعن أبي حصين أن الحجاج استعمل عبد الرحمن بن أبي ليلى على القضاء ثم عزله، ثم ضربه ليسب عليا رضي الله عنه، وكان يوري ولا يصرح. (¬2) موقفه من الجهمية: عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وزيادة} (¬3) قال: الزيادة: النظر إلى وجه ربهم تبارك وتعالى، {ولا يرهق وجوههم قترٌ ولا ذلةٌ} بعد النظر إلى ربهم عز وجل. (¬4) ¬

(¬1) السنة لعبد الله (234). (¬2) تذكرة الحفاظ (1/ 58) (¬3) يونس الآية (26). (¬4) أصول الاعتقاد (3/ 510 - 511/ 792) والسنة لعبد الله (52).

موقف السلف من عمران بن حطان الخارجي (84 هـ)

موقف السلف من عمران بن حطان الخارجي (84 هـ) خطورة مخالطة أهل الأهواء: قال ابن كثير: كان أولا -أي عمران بن حطان- من أهل السنة والجماعة فتزوج امرأة من الخوارج حسنة جميلة جدا فأحبها وكان هو ذميم الشكل فأراد أن يردها إلى السنة فأبت فارتد معها إلى مذهبها. (¬1) وقال ابن تيمية في المنهاج: ومعلوم أن شر الذين يبغضونه (أي علي بن أبي طالب) هم الخوارج الذين كفروا واعتقدوا أنه مرتد عن الإسلام، واستحلوا قتله تقربا إلى الله تعالى حتى قال شاعرهم عمران بن حطان: يا ضربة من تقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا إني لأذكره حينا فأحسبه ... أو فى البرية عند الله ميزانا فعارضه شاعر أهل السنة فقال: (وهو الفقيه الطبري) يا ضربة من شقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش خسرانا إني لأذكره حينا فألعنه ... لعنا وألعن عمران بن حطانا (¬2) وقال محمد بن أحمد الطبيب يرد عليه أيضا: يا ضربة من غدور صار ضاربها ... أشقى البرية عند الله إنسانا إذا تفكرت فيه ظلت ألعنه ... وألعن الكلب عمران بن حطانا (¬3) ¬

(¬1) البداية والنهاية (9/ 56) والسير (4/ 214). (¬2) المنهاج (5/ 10). (¬3) من هامش الكامل للمبرد (3/ 1085) وبنحوها في البداية والنهاية (9/ 57).

واثلة بن الأسقع (85 هـ)

جاء في سير أعلام النبلاء: فبلغ شعره عبد الملك بن مروان، فأدركته حمية لقرابته من علي رضي الله عنه فهدر دمه ووضع عليه العيون. فلم تحمله أرض، فاستجار بروح بن زنباع، فأقام في ضيافته، فقال: ممن أنت؟ قال: من الأزد. فبقي عنده سنة فأعجبه إعجابا شديدا، فسمر روح ليلة عند أمير المؤمنين، فتذاكرا شعر عمران هذا. فلما انصرف روح، تحدث مع عمران بما جرى، فأنشده بقية القصيد، فلما عاد إلى عبد الملك قال: إن في ضيافتي رجلا ما سمعت منه حديثا قط إلا وحدثني به وبأحسن منه، ولقد أنشدني تلك القصيدة كلها. قال: صفه لي، فوصفه له. قال: إنك لتصف عمران بن حطان، اعرض عليه أن يلقاني. قال: فهرب إلى الجزيرة، ثم لحق بعمان فأكرموه. (¬1) واثلة بن الأسقع (¬2) (85 هـ) واثِلَة بن الأَسْقَع بن عبد العُزَّى من بني كِنَانَة اللَّيْثِي. اختلف في كنيته، قيل: أبو شداد، ويقال: أبو الأسقع، وقيل: أبو محمد، وقيل: أبو الخطاب، وقيل: أبو قرصافة. أسلم والنبي - صلى الله عليه وسلم - يتجهز إلى تبوك وشهدها معه: وكان من فقراء المسلمين وسكن الصفة رضي الله عنه، وطال عمره. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (4/ 215). (¬2) السير (3/ 383 - 387) وشذرات الذهب (1/ 95) الاستيعاب (4/ 1563 - 1564) وتهذيب التهذيب (11/ 101) وتهذيب الكمال (30/ 393 - 396) والإصابة (6/ 591) وأسد الغابة (5/ 399 - 340) وطبقات ابن سعد (7/ 407 - 408) والتاريخ الكبير (8/ 187) وتهذيب الأسماء واللغات (القسم الأول/2/ 142 - 143).

موقفه من القدرية:

وأبي مرثد الغنوي وأبي هريرة وأم سلمة. روى عنه أبو إدريس الخولاني وشداد أبو عمار، وبسر بن عبيد الله وعبد الواحد النصري ومكحول وغيرهم. وبعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - نزل الشام وشهد فتح دمشق وحمص. توفي رضي الله عنه سنة خمس وثمانين. وقيل سنة ثلاث وثمانين وهو آخر من مات بدمشق من الصحابة. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة وخمسون حديثا. موقفه من القدرية: جاء في أصول الاعتقاد: عن حبيب بن عمر الأنصاري قال حدثني أبي قال: سألت واثلة بن الأسقع عن الصلاة خلف القدري؟ فقال: لا يصلى خلفه، أما لو صليت خلفه لأعدت صلاتي. (¬1) أبو أُمَامَة البَاهِلِّي (¬2) (86 هـ) هو صُدَيّ بن عَجْلاَن بن وهب ويقال ابن الحارث ويقال ابن عمرو أبو أمامة مشهور بكنيته صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزيل حمص، رُوي أنه بايع تحت الشجرة. عن محمد بن زياد: رأيت أبا أمامة أتى على رجل في المسجد، وهو ساجد، يبكي ويدعو، فقال: أنت أنت، لو كان هذا في بيتك. روى علما كثيرا وحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن عمر وعن عبادة بن الصامت ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 806 - 807/ 1347) والإبانة (2/ 10/260/ 1874). (¬2) طبقات ابن سعد (7/ 411 - 412) والإصابة (3/ 420 - 421) والاستيعاب (2/ 736) وسير أعلام النبلاء (3/ 359 - 363) والبداية والنهاية (9/ 73) ومجمع الزوائد (9/ 386 - 387) وشذرات الذهب (1/ 96) والجرح والتعديل (4/ 454) والمستدرك (3/ 641 - 642) وتهذيب الكمال (13/ 158 - 164) ومشاهير علماء الأمصار (50).

موقفه من المشركين:

وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم وغيرهم. وروى عنه خالد بن معدان والقاسم أبو عبد الرحمن وسالم بن أبي الجعد وغيرهم. توفي بالشام سنة ست وثمانين في خلافة عبد الملك بن مروان وهو ابن إحدى وستين سنة. موقفه من المشركين: عن أبي غالب عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قومي أدعوهم إلى الله تبارك وتعالى، وأعرض عليهم شرائع الإسلام، فأتيتهم وقد سقوا إبلهم وأحلبوها وشربوا، فلما رأوني قالوا: مرحبا بالصدي ابن عجلان، ثم قالوا بلغنا أنك صبوت إلى هذا الرجل، قلت: لا، ولكن آمنت بالله وبرسوله، وبعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليكم أعرض عليكم الإسلام وشرائعه. فبينا نحن كذلك إذ جاءوا بقصعة دم فوضعوها، واجتمعوا عليها يأكلوها، فقالوا: هلم يا صدي، فقلت: ويحكم إنما أتيتكم من عند من يحرم هذا عليكم بما أنزله الله عليه. قالوا: وما ذاك؟ قلت: نزلت عليه هذه الآية {حُرِّمَتْ عليكم الميتة وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخنزير} إلى قوله {إِلًّا مَا ذكيتم} (¬1) فجعلت أدعوهم إلى الإسلام ويأبون، فقلت لهم: ويحكم ائتوني بشيء من ماء فإني شديد العطش. قالوا: لا، ولكن ندعك تموت عطشا، قال: فاعتممت وضربت رأسي في العمامة ونمت في الرمضاء في حر شديد، فأتاني آت في منامي بقدح زجاج لم ير الناس أحسن منه، وفيه شراب لم ير الناس ¬

(¬1) المائدة الآية (3).

موقفه من الخوارج:

ألذ منه، فأمكنني منها فشربتها، فحيث فرغت من شرابي استيقظت، ولا والله ما عطشت ولا عرفت عطشا بعد تلك الشربة، فسمعتهم يقولون: أتاكم رجل من سراة قومكم فلم تمجعوه بمذقة فأتوني بمذيقتهم فقلت: لا حاجة لي فيها، إن الله تبارك وتعالى أطعمني وسقاني، فأريتهم بطني فأسلموا عن آخرهم. (¬1) موقفه من الخوارج: - عن أبي غالب واسمه حزور قال: كنت بالشام فبعث المهلب سبعين رأسا من الخوارج، فنصبوا على درج دمشق فكنت على ظهر بيت لي، فمر أبو أمامة فنزلت فاتبعته، فلما وقف عليهم دمعت عيناه وقال: سبحان الله ما يصنع الشيطان ببني آدم، قالها ثلاثا: كلاب جهنم، كلاب جهنم، شر قتلى تحت ظل السماء -ثلاث مرات- خير قتلى من قتلوه، طوبى لمن قتلهم أو قتلوه (¬2)، ثم التفت إلي فقال: أبا غالب! إنك بأرض هم بها كثير، فأعاذك الله منهم، قلت: رأيتك بكيت حين رأيتهم. قال: بكيت رحمة حين رأيتهم كانوا من أهل الإسلام (في السنة لعبد الله: كانوا مؤمنين) فكفروا بعد إيمانهم، هل تقرأ سورة آل عمران قلت: نعم. فقرأ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ}، حتى بلغ {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا ¬

(¬1) مستدرك الحاكم (3/ 641 - 642). (¬2) أحمد (5/ 250،269) والترمذي (5/ 210/3000) وقال: "هذا حديث حسن". وابن ماجه (1/ 62/176) والحاكم (2/ 149 - 150) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي.

اللَّهُ} (¬1) وإن هؤلاء كان في قلوبهم زيغ فزيغ بهم، ثم قرأ {ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بعد مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} إلى قوله: {ففي رحمة الله هم فيها خَالِدُونَ} (107) (¬2)، قلت: هم هؤلاء يا أبا أمامة؟ قال: نعم. قلت: من قبلك تقول أو شيء سمعت من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: إني إذا لجريء بل سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا مرة ولا مرتين حتى عد سبعا، ثم قال: إن بني إسرائيل تفرقوا على إحدى وسبعين فرقة، وإن هذه الأمة تزيد عليها فرقة كلها في النار إلا السواد الأعظم (¬3)، قلت: يا أبا أمامة ألا ترى ما فعلوا؟ قال: {عليه ما حمل وعليكم مَا حُمِّلْتُمْ} الآية (¬4). (¬5) - وعنه رضي الله عنه قال: زاغوا فأزاغ الله قلوبهم؛ قال: هم الخوارج. (¬6) ¬

(¬1) آل عمران الآية (7). (¬2) آل عمران الآيات (105 - 107). (¬3) أخرجه: ابن أبي عاصم في السنة (1/ 34/68) والطبراني في الكبير (8/ 268/8035) وفي الأوسط (8/ 98/7198) والبيهقي (8/ 188) وذكره الهيثمي في المجمع (7/ 258) وقال: "رواه الطبراني في الأوسط والكبير بنحوه وفيه أبو غالب وثقه ابن معين وغيره، وبقية رجال الأوسط ثقات وكذلك أحد إسنادي الكبير". (¬4) النور الآية (54). (¬5) أحمد (5/ 253) وعبد الله بن أحمد في السنة (283) وعبد الرزاق (10/ 152/18663) والطبراني (8/ 319/8033) والمصنف لابن أبي شيبة (7/ 554/37892) وأصول الاعتقاد (1/ 114 - 115/ 151) والشريعة (1/ 155 - 156/ 63و64). (¬6) السنة لعبد الله (281) والسنة للخلال (1/ 157).

موقفه من المرجئة:

- وعنه قال: {فيتبعون مَا تَشَابَهَ منه} قال: الخوارج وأهل البدع. (¬1) موقفه من المرجئة: عن القاسم عن أبي أمامة قال: من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان. (¬2) موقفه من القدرية: روى ابن بطة بسنده عن أبي أمامة قال: ما آدمي إلا ومعه ملكان؛ ملك يكتب عمله، وملك يقيه ما لم يقدر له. (¬3) عبد الملك بن مروان (¬4) (86 هـ) عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية الخليفة الفقيه، أبو الوليد الأموي. ولد سنة ست وعشرين، سمع عثمان وأبا هريرة وأبا سعيد وأم سلمة، ومعاوية وابن عمر وغيرهم. روى عنه عروة وخالد بن معدان ورجاء بن حيوة وغيرهم. تملك بعد أبيه الشام ومصر، ثم حارب ابن الزبير الخليفة وقتل أخاه مصعبا في وقعة مسكى، واستولى على العراق، وجهز الحجاج لحرب ابن الزبير، فقتل ابن الزبير سنة ثلاث وسبعين. واستوسقت ¬

(¬1) الإبانة (2/ 4/606 - 607/ 783) وابن أبي حاتم (2/ 594/3179). (¬2) أصول الاعتقاد (5/ 1017/1714). (¬3) الإبانة (2/ 9/171/ 1657). (¬4) السير (4/ 246 - 249) وتهذيب الكمال (18/ 408 - 414) وطبقات ابن سعد (5/ 223 - 235) والبداية والنهاية (8/ 263) وتهذيب التهذيب (6/ 368 - 369) والشذرات (1/ 97).

موقفه من المشركين:

الممالك لعبد الملك وهو عام الجماعة. كان قبل الخلافة عابدا ناسكا بالمدينة، شهد مقتل عثمان وهو ابن عشر. قال عبادة بن نسي: قال ابن عمر: إن لمروان ابنا فقيها فسلوه. عن نافع قال: لقد رأيت المدينة وما بها شاب أشد تشميرا ولا أفقه ولا أنسك ولا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك. قال الذهبي: ذكرته لغزارة علمه. قال الشعبي: ما جالست أحدا إلا وجدت لي عليه الفضل إلا عبد الملك بن مروان فإني ما ذاكرته حديثا إلا زادني فيه ولا شعرا إلا زادني فيه. قال الذهبي: كان من رجال الدهر ودهاة الرجال، وكان الحجاج من ذنوبه. توفي في شوال سنة ست وثمانين عن نيف وستين سنة. موقفه من المشركين: جاء في البداية والنهاية: عن عبد الرحمن بن حسان قال: كان الحارث الكذاب من أهل دمشق، وكان مولى لأبي الجلاس، وكان له أب بالجولة، فعرض له إبليس، وكان رجلا متعبدا زاهدا لو لبس جبة من ذهب لرؤيت عليه الزهادة والعبادة، وكان إذا أخذ بالتحميد لم يسمع السامعون مثل تحميده ولا أحسن من كلامه، فكتب إلى أبيه وكان بالجولة: يا أبتاه أعجل علي فإني قد رأيت أشياء أتخوف أن يكون الشيطان قد عرض لي، قال فزاده أبوه غيا على غيه، فكتب إليه أبوه: يا بني أقبل على ما أمرت به فإن الله تعالى يقول: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} (¬1) ولست بأفاك ولا أثيم، فامض لما أمرت به، وكان يجيء ¬

(¬1) الشعراء الآيتان (221و222).

إلى أهل المسجد رجلا فيذاكرهم أمره ويأخذ عليهم العهد والميثاق إن هو يرى ما يرضى وإلا كتم عليه. قال: وكان يريهم الأعاجيب. كان يأتي إلى رخامة في المسجد فينقرها بيده فتسبح تسبيحا بليغا حتى يضج من ذلك الحاضرون. قلت: وقد سمعت شيخنا العلامة أبا العباس ابن تيمية رحمه الله يقول كان ينقر هذه الرخامة الحمراء التي في المقصورة فتسبح، وكان زنديقا. قال ابن أبي خيثمة في روايته: وكان الحارث يطعمهم فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، وكان يقول لهم: اخرجوا حتى أريكم الملائكة، فيخرج بهم إلى دير المراق فيريهم رجالا على خيل فيتبعه على ذلك بشر كثير، وفشا أمره في المسجد، وكثر أصحابه وأتباعه، حتى وصل الأمر إلى القاسم بن مخيمرة، قال: فعرض على القاسم أمره، وأخذ عليه العهد إن هو رضي أمرا قبله، وإن كرهه كتم عليه، قال فقال له: إني نبي، فقال القاسم: كذبت يا عدو الله، ما أنت نبي، وفي رواية ولكنك أحد الكذابين الدجالين الذين أخبر عنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الساعة لا تقوم حتى يخرج ثلاثون دجالون كذابون كلهم يزعم أنه نبي" (¬1) وأنت أحدهم ولا عهد لك. ثم قام فخرج إلى أبي إدريس -وكان على القضاء بدمشق- فأعلمه بما سمع من الحارث فقال أبو إدريس نعرفه، ثم أعلم أبو إدريس عبد الملك بذلك. وفي رواية أخرى أن مكحولا وعبد الله بن أبي زائدة دخلا على الحارث فدعاهما إلى نبوته فكذباه وردا عليه ما قال، ¬

(¬1) أحمد (2/ 313) والبخاري (6/ 764/3609) ومسلم (4/ 2239 - 2240/ 157) وأبو داود (4/ 507/4333) والترمذي (4/ 432/2218) من حديث أبي هريرة.

ودخلا على عبد الملك فأعلماه بأمره، فتطلبه عبد الملك طلبا حثيثا، واختفى الحارث وصار إلى دار بيت المقدس يدعو إلى نفسه سرا واهتم عبد الملك بشأنه حتى ركب إلى النصرية فنزلها فورد عليه هناك رجل من أهل النصرية ممن كان يدخل على الحارث وهو ببيت المقدس فأعلمه بأمره وأين هو، وسأل مِن عبد الملك أن يبعث معه بطائفة من الجند الأتراك ليحتاط عليه فأرسل معه طائفة وكتب إلى نائب القدس ليكون في طاعة هذا الرجل ويفعل ما يأمره به، فلما وصل الرجل إلى النصرية ببيت المقدس بمن معه انتدب نائب القدس لخدمته، فأمره أن يجمع ما يقدر عليه من الشموع ويجعل مع كل رجل شمعته فإذا أمرهم بإشعالها في الليل أشعلوها كلهم في سائر الطرق والأزقة حتى لا يخفى أمره، وذهب الرجل بنفسه فدخل الدار التي فيها الحارث فقال لبوابه استأذن على نبي الله، فقال: في هذه الساعة لا يؤذن عليه حتى يصبح، فصاح النصري أسرجوا، فأشعل الناس شموعهم حتى صار الليل كأنه النهار، وهم النصري على الحارث فاختفى منه في سرب هناك فقال أصحابه هيهات يريدون أن يصلوا إلى نبي الله، إنه قد رفع إلى السماء، قال فأدخل النصري يده في ذلك السرب فإذا بثوبه فاجتره فأخرجه، ثم قال للفرعانين من أتراك الخليفة [:خذوه] (¬1) قال فأخذوه فقيدوه، فيقال إن القيود والجامعة سقطت من عنقه مرارا ويعيدونها، وجعل يقول: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ ¬

(¬1) زيادة ليست في الأصل، والسياق يقتضيها.

عبد الله بن أبي أوفى (87 هـ)

سَمِيعٌ قَرِيبٌ} (¬1) وقال لأولئك الأتراك: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} (¬2)؟ فقالوا له بلسانهم ولغتهم: هذا كراننا فهات كرانك، أي هذا قرآننا فهات قرآنك، فلما انتهوا به إلى عبد الملك أمر بصلبه على خشبة وأمر رجلا فطعنه بحربة فانثنت في ضلع من أضلاعه، فقال له عبد الملك: ويحك أذكرت اسم الله حين طعنته؟ فقال: نسيت، فقال: ويحك سم الله ثم اطعنه، قال فذكر اسم الله ثم طعنه فأنفذه، وقد كان عبد الملك حبسه قبل صلبه وأمر رجالا من أهل الفقه والعلم أن يعظوه ويعلموه أن هذا الذي به من الشيطان، فأبى أن يقبل منهم فصلبه بعد ذلك، وهذا من تمام العدل والدين. (¬3) عبد الله بن أبي أَوْفَى (¬4) (87 هـ) عبد الله بن أبي أوفى علقمة بن خالد بن الحارث الفقيه المعمر، صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أبو معاوية وقيل: أبو محمد، الأسلمي من أهل بيعة الرضوان، وخاتمة من مات بالكوفة من الصحابة، وأبوه صحابي أيضا. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدة أحاديث. وروى عنه إبراهيم بن مسلم الهجري وإسماعيل بن أبي خالد وعطاء بن السائب وسليمان الأعمش وغيرهم. وقد فاز عبد الله ¬

(¬1) سبأ الآية (50). (¬2) غافر الآية (28) .. (¬3) البداية (9/ 29 - 31). (¬4) السير (3/ 428 - 430) وتهذيب الكمال (14/ 317 - 319) والبداية والنهاية (9/ 81) وطبقات ابن سعد (4/ 301 - 302) والاستيعاب (3/ 870 - 871) والإصابة (4/ 18 - 19) وأسد الغابة (3/ 181 - 182) وشذرات الذهب (1/ 96).

موقفه من الخوارج:

بالدعوة النبوية حيث أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بزكاة والده فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم صل على آل أبي أوفى". (¬1) وقد كف بصره في آخر حياته. في الصحيحين أن عبد الله قال: "غزونا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات نأكل الجراد" (¬2). توفي سنة سبع وثمانين بالكوفة وقد قارب مائة سنة. موقفه من الخوارج: - روى ابن أبي عاصم: عن أبي حفص أنه سمع عبد الله بن أبي أوفى وهم يقاتلون الخوارج، وكان غلام له قد لحق بالخوارج من الشق الآخر، فناديناه يا فيروز، يا فيروز، هذا عبد الله بن أبي أوفى، فقال: نعم الرجل لو هاجر، قال عبد الله: ما يقول عدو الله؟ فقيل له: يقول نعم الرجل لو هاجر. فقال: أهجرة بعد هجرتي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: طوبى لمن قتلهم وقتلوه (¬3).اهـ (¬4) - وعن سعيد بن جمهان قال: أتيت عبد الله بن أبي أوفى وهو محجوب البصر فسلمت عليه، قال لي: من أنت؟ فقلت: أنا سعيد بن جمهان قال: فما ¬

(¬1) أحمد (4/ 353و383) والبخاري (3/ 460 - 461/ 1497) ومسلم (2/ 756 - 757/ 1078) وأبو داود (2/ 246 - 247/ 1590) والنسائي (5/ 31/2458) وابن ماجه (1/ 572/1796). (¬2) أحمد (4/ 353و357و380) والبخاري (9/ 774/5495) ومسلم (3/ 1546/1952) وأبو داود (4/ 164/3812) والترمذي (4/ 236 - 237/ 1821 - 1822) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (7/ 239/4367 - 4368). (¬3) أحمد (4/ 382) وابن أبي عاصم (2/ 438 - 439/ 906) وفيه سعيد بن جمهان. قال الحافظ: "صدوق له أفراد". وحسن إسناده الشيخ الألباني في تخريجه لكتاب السنة. (¬4) ابن أبي عاصم (2/ 438 - 439/ 906) وأصول الاعتقاد (7/ 1305/2312) وهو عند الإمام أحمد في مسنده (4/ 382) والسنة لابنه (279).

موقفه من المرجئة:

فعل والدك؟ قال: قلت: قتلته الأزارقة. قال: لعن الله الأزارقة، لعن الله الأزارقة، حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم كلاب النار (¬1) قال: قلت: الأزارقة وحدهم أم الخوارج كلها؟ قال: بل الخوارج كلها. قال: قلت: فإن السلطان يظلم الناس ويفعل بهم. قال: فتناول يدي فغمزها بيده غمزة شديدة ثم قال: ويحك يا ابن جمهان، عليك بالسواد الأعظم، عليك بالسواد الأعظم، إن كان السلطان يسمع منك فأته في بيته فأخبره بما تعلم، فإن قبل منك وإلا فدعه، فإنك لست بأعلم منه. (¬2) موقفه من المرجئة: عن بلال بن المنذر الحنفي قال: كنا مع ابن أبي أوفى فقالت له امرأة: يا صاحب رسول الله استغفر لي فقال: إنما يغفر لك بعملك. (¬3) عبد الله بن بُسْر (¬4) (88 هـ) عبد الله بن بُسْر المازني، كنيته: أبو بسر ويقال أبو صفوان، نزيل حمص، له أحاديث قليلة، وصحبة يسيرة ولأخويه عطية والصماء ولأبيهم صحبة. ¬

(¬1) أحمد (4/ 355) وابن ماجه (1/ 61/173) والحاكم (3/ 571) وصححه ووافقه الذهبي. وللحديث شواهد من حديث أبي أمامة. (¬2) المسند للإمام أحمد (4/ 382 - 383) والسنة لابنه (286) والسنة لابن أبي عاصم (2/ 438/905) والمسند للطيالسي (822) وأصول الاعتقاد (7/ 1306/2313). (¬3) أصول الاعتقاد (5/ 1019/1719). (¬4) طبقات ابن سعد (7/ 413) والإصابة (4/ 23 - 24) وتهذيب الكمال (14/ 333) والجرح والتعديل (5/ 11) والسير (3/ 430 - 433) وشذرات الذهب (1/ 98 - 111).

موقفه من المبتدعة:

روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أبيه وأخيه. وروى عنه خالد بن معدان وأبو الزاهرية، وصفوان بن عمرو وحريز بن عثمان وغيرهم. غزا جزيرة قبرس مع معاوية في دولة عثمان. مات بالشام وقيل بحمص منها سنة ثمان وثمانين، وهو آخر من مات بالشام من الصحابة. موقفه من المبتدعة: جاء في الإبانة: عن زيد بن ضمير الرحبي قال: سألت عبد الله بن بسر صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم -: كيف حالنا من حال من كان قبلنا؟ قال: سبحان الله لو نشروا من القبور ما عرفوكم إلا أن يجدوكم قياما تصلون. (¬1) يحيى بن يعمر (¬2) (89 هـ) يحيى بن يَعْمَر الفقيه، المقرئ، أبو إسماعيل العَدْوَانيّ البصري، قاضي مرو، حدث عن أبي ذر الغفاري وعمار بن ياسر وابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم. وروى عنه عبد الله بن بريدة، وقتادة، وعكرمة، وعطاء الخراساني. وقرأ القرآن على أبي الأسود الدؤلي، وكان من أوعية العلم وحملة الحجة. قال هارون بن موسى: أول من نقط القرآن يحيى بن يعمر. ولاه الأمير قتيبة بن مسلم قضاء خراسان، فكان إذا انتقل من بلد إلى بلد ¬

(¬1) الإبانة (2/ 4/572 - 573/ 717). (¬2) السير (4/ 441) وتذكرة الحفاظ (1/ 75) وطبقات ابن سعد (7/ 368) وتهذيب الكمال (32/ 53) والبداية والنهاية (9/ 78) وشذرات الذهب (1/ 175).

موقفه من القدرية:

استخلف على القضاء بها. قال أبو عمرو الداني: روى القراءة عنه عرضا عبد الله بن أبي إسحاق وأبو عمرو ابن العلاء. قال خليفة بن خياط: توفي قبل التسعين وقال ابن الجوزي: توفي سنة تسع وثمانين. موقفه من القدرية: روى اللالكائي بسنده: عن يحيى بن يعمر قال: كان رجل من جهينة وفيه رهق وكان يتوثب على جيرانه، ثم إنه قرأ القرآن وفرض الفرائض وقص على الناس، ثم إنه صار من أمره أنه زعم: أن العمل أنف من شاء عمل خيرا ومن شاء عمل شرا. قال: فلقيت أبا الأسود الديلي فذكرت ذلك له. فقال: كذب ما رأينا أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يثبت القدر. (¬1) - عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين، أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا في المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي -أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله- فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم، وذكر من شأنهم؛ وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر: لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر، ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب، قال: بينما ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 645 - 646/ 1037).

نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا" قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" قال: فأخبرني عن الساعة قال: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل" قال: فأخبرني عن أمارتها، قال: "أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان" قال: ثم انطلق، فلبثت مليا، ثم قال: "يا عمر، أتدري من السائل؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم". (¬1) ¬

(¬1) أحمد (1/ 27) ومسلم (1/ 36 - 38/ 8) وأبو داود (5/ 69 - 73/ 4695) والترمذي (5/ 8 - 9/ 2610) والنسائي (8/ 472 - 475/ 5005) وابن ماجه (1/ 24 - 25/ 63).

أبو العالية (90 هـ)

أبو العَالِيَة (¬1) (90 هـ) رُفَيْع بن مِهْرَان، الإمام المقرئ الحافظ المفسر، أبو العالية الرِّيَاحِيّ البصري أحد الأعلام، مولى امرأة من بني رياح بن يربوع حي من بني تميم، أعتقته سائبة. أدرك الجاهلية وأسلم بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - في خلافة أبي بكر الصديق ودخل عليه، وصلى خلف عمر بن الخطاب، وروى عنه وعن علي وأبي بن كعب وابن مسعود وأبي ذر، وعائشة وأبي موسى وابن عباس وعدة. وروى عنه بكر بن عبد الله المزني، وثابت البناني وخالد الحذاء وأبو خلدة خالد بن دينار وغيرهم. حفظ القرآن وقرأه على أبي بن كعب، وتصدر لإفادة العلم، وبعد صيته. وعن أبي خلدة عن أبي العالية قال: كنت آتي ابن عباس فيرفعني على السرير، وقريش أسفل من السرير، فتغامزت بي قريش، وقالوا: يرفع هذا العبد على السرير، ففطن بهم ابن عباس فقال: إن هذا العلم يزيد الشريف شرفا، ويجلس المملوك على الأسرة. وقال أبو خلدة: ذكر الحسن البصري لأبي العالية، فقال: رجل مسلم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأدركنا الخير وتعلمنا قبل أن يولد، وكنت آتي ابن عباس وهو أمير البصرة، فيجلسني على السرير وقريش أسفل. وقال أبو خلدة: قال أبو العالية: لما كان زمان علي ومعاوية وإني لشاب، القتال أحب إلي من الطعام الطيب، فتجهزت بجهاز حسن حتى أتيتهم، فإذا صفان ما يرى طرفاهما، إذا ¬

(¬1) تهذيب الكمال (9/ 214 - 218) وطبقات ابن سعد (7/ 112 - 117) وسير أعلام النبلاء (4/ 207 - 213) وحلية الأولياء (2/ 217 - 224) وتذكرة الحفاظ (1/ 61 - 62) وشذرات الذهب (1/ 102) وتهذيب التهذيب (3/ 284 - 286) ومشاهير علماء الأمصار (95).

موقفه من المبتدعة:

كبر هؤلاء كبر هؤلاء وإذا هلل هؤلاء هلل هؤلاء، فراجعت نفسي، فقلت: أي الفريقين أنَزِّلُه كافرا؟ ومن أكرهني على هذا؟ قال: فما أمسيت حتى رجعت وتركتهم. توفي رحمه الله سنة تسعين. موقفه من المبتدعة: - جاء في أصول الاعتقاد عن عاصم قال أبو العالية: ما أدري أي النعمتين علي أعظم: إذ أخرجني الله من الشرك إلى الإسلام، أو عصمني في الإسلام أن يكون لي فيه هوى. (¬1) - وفيه قال: تعلموا الإسلام، فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام. ولا تحرفوا الإسلام يمينا ولا شمالا، وعليكم بسنة نبيكم، والذي كان عليه أصحابه، وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء. فحدثت الحسن، فقال: صدق ونصح. قال: فحدثت حفصة بنت سيرين فقالت: يا باهلي: أنت حدثت محمدا (¬2) بهذا؟ قلت: لا، قالت: فحدثه إذا. (¬3) - وجاء في الإبانة: عن أبي العالية في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (1/ 147/230) وذم الكلام (ص.196). (¬2) تعني أخاها محمد بن سيرين. (¬3) أصول الاعتقاد (1/ 62 - 63/ 17) وابن وضاح (ص.75) والمروزي في السنة (ص.13) والآجري في الشريعة (1/ 124/19) وذم الكلام (ص.195) والإبانة (1/ 2/299 - 300/ 136) والاستقامة (1/ 254) والاعتصام (1/ 114 - 115). وبنحوه في السير (4/ 210).

موقفه من الجهمية:

اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} (¬1) قال: الذين أخلصوا الدين والعمل والدعوة. (¬2) - وفيها (¬3): عنه أيضا قال: آيتان في كتاب الله ما أشدهما على الذين يجادلون في القرآن: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬4)، {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} (¬5). - وفي طبقات الحنابلة: قال أبو العالية: من مات على السنة مستورا فهو صديق. والاعتصام بالسنة نجاة. (¬6) موقفه من الجهمية: قال أبو العالية: استوى إلى السماء: ارتفع. (¬7) موقفه من الخوارج: عن محمد بن واسع عن أبي العالية قال: ما أدري أي النعمتين أعظم علي، نعمة أنعمها علي فأنقذني بها من الشرك، أو نعمة أنعمها علي فأنقذني بها من الحرورية. (¬8) ¬

(¬1) فصلت الآية (30). (¬2) الإبانة (1/ 2/334 - 335/ 195). (¬3) الإبانة (2/ 3/494/ 540). (¬4) غافر الآية (4). (¬5) البقرة الآية (176). (¬6) طبقات الحنابلة (2/ 42). (¬7) علقه البخاري (13/ 496). (¬8) عبد الرزاق (10/ 153/18667) ورياض الجنة بتخريج أصول السنة لابن أبي زمنين (304) والطبقات لابن سعد (7/ 114) والسير (4/ 212).

موقفه من المرجئة:

موقفه من المرجئة: - عن الربيع بن أنس عن أبي العالية: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صدقوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (¬1) يقول: تكلموا بكلام الإيمان وحققوه بالعمل. (¬2) - قال شيخ الإسلام ابن تيمية: قال أبو العالية: أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه. (¬3) موقفه من القدرية: - جاء في أصول الاعتقاد: عن عاصم الأحول قال: لما خاض الناس في القدر اجتمع رفيع أبو العالية ومسلم بن يسار. فقال أحدهما لصاحبه: تعال حتى ننظر فيما خاض الناس فيه. قال: اجتمع رأيهما أنهما قالا: يكفيك من هذا الأمر أن تعلم: أنه لن يصيبك إلا ما كتب الله لك وأنك مجزي بعملك. (¬4) - وفي الإبانة: عن أبي العالية {كَمَا بدأكم تعودون} (¬5)؛ قال: عادوا إلى علمه فيهم، ألم تسمع إلى قول الله عز وجل: {فريقًا هدى ¬

(¬1) البقرة الآية (177). (¬2) الإبانة (2/ 792/1074) والشريعة (1/ 285/278). (¬3) مجموع الفتاوى (6/ 353)، وفي البخاري معلقا من قول ابن أبي مليكة في كتاب الإيمان (1/ 147 الفتح) وقال الحافظ: "وصله ابن أبي خيثمة في تاريخه لكنه أبهم العدد". (¬4) أصول الاعتقاد (4/ 761/1269). (¬5) الأعراف الآية (29).

إبراهيم التيمي أبو أسماء (92 هـ)

وفريقًا حق عليهم الضلالة} (¬1).اهـ (¬2) إبراهيم التَّيْمِي أبو أسماء (¬3) (92 هـ) إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي، من تيم الرباب، أبو أسماء الكوفي، الإمام القدوة الفقيه، كان من العباد. حدث عن أبيه يزيد بن شريك التيمي، وأنس بن مالك، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعمرو بن ميمون الأودي. وحدث عنه الحكم بن عتيبة والأعمش، ومسلم البطين، وجماعة. كان إبراهيم شابا صالحا قانتا لله عالما فقيها كبير القدر واعظا. روى أبو حيان عن إبراهيم قال: ما عرضت قولي على عملي إلا خفت أن أكون مكذبا. وروى الثوري قال إبراهيم التيمي: كم بينكم وبين القوم، أقبلت عليهم الدنيا فهربوا، وأدبرت عنكم فاتبعتموها. قتله الحجاج وقيل: بل مات في حبسه سنة اثنتين وتسعين وقيل سنة أربع وتسعين، ولم يبلغ أربعين سنة. موقفه من المبتدعة: روى ابن عبد البر في جامع بيان العلم عنه أنه كان يقول: اللهم اعصمني بدينك وبسنة نبيك من الاختلاف في الحق، ومن اتباع الهوى، ومن ¬

(¬1) الأعراف الآية (30). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 761/1269) والإبانة (1/ 8/277 - 278/ 1293). (¬3) طبقات ابن سعد (6/ 285 - 286) والسير (5/ 60 - 62) وتهذيب الكمال (2/ 232 - 233) والتاريخ الكبير (1/ 334 - 335) والجرح والتعديل (2/ 145).

أنس بن مالك (92 هـ)

سبيل الضلالة، ومن شبهات الأمور، ومن الزيغ والخصومات. (¬1) أنس بن مالك (¬2) (92 هـ) أنس بن مالك بن النَّضْر بن ضَمْضَم الإمام المفتي المقرئ المحدث، أبو حمزة الأنصاري الخزرجي النجاري المدني، نزيل البصرة، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخادمه. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - علما جما، وعن أبي بكر وعمر وعثمان وعدة، وروى عنه خلق عظيم منهم الحسن، وابن سيرين والشعبي وغيرهم، وبقي أصحابه الثقات إلى بعد الخمسين ومائة، وبقي ضعفاء أصحابه إلى بعد التسعين ومائة، وبقي بعدهم ناس لا يوثق بهم. فعن أنس قال: "قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وأنا ابن عشر، ومات وأنا ابن عشرين، وكن أمهاتي يحثثنني على خدمته" (¬3). وغزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مرة، وبايع تحت الشجرة. وعنه قال: "جاءت بي أمي؛ أم أنس، إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أزرتني بنصف خمارها وردتني بنصفه، فقالت: يا رسول الله. هذا أنيس ابني، أتيتك به يخدمك، ¬

(¬1) جامع بيان العلم وفضله (2/ 1179) وذكره الشاطبي في الاعتصام (1/ 116). (¬2) طبقات ابن سعد (7/ 17 - 26) والاستيعاب (1/ 109 - 111) والإصابة (1/ 126 - 129) والبداية والنهاية (9/ 88 - 92) وتذكرة الحفاظ (1/ 44 - 45) وسير أعلام النبلاء (3/ 395 - 406) ومجمع الزوائد (9/ 325) والمستدرك (3/ 573 - 575) وشذرات الذهب (1/ 100 - 101) وتهذيب الكمال (3/ 353 - 378). (¬3) أحمد (3/ 110) مسلم (3/ 1603/2029 (125)) من طريق زهير بن حرب ومحمد بن عبد الله بن نمير قال حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن أنس قال: فذكره. والطرف الأخير من الحديث الذي فيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الأيمن فالأيمن" أخرجه أحمد (3/ 113و97) والبخاري (5/ 38/2352) ومسلم (3/ 1603/2029) وأبو داود (4/ 113 - 114/ 3726) والترمذي (4/ 271/1893) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي في الكبرى (4/ 193/6861و6862) وابن ماجه (2/ 1133/3425) كلهم من طرق عن ابن شهاب عن أنس رضي الله عنه فذكره.

موقفه من المبتدعة:

فادع الله له، فقال: اللهم أكثر ماله وولده، قال أنس: فوالله، إن مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي ليتعادون على نحو المائة اليوم" (¬1). توفي رضي الله عنه سنة اثنتين وتسعين. موقفه من المبتدعة: - في صحيح البخاري: قال الزهري دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلت له ما يبكيك فقال: ما أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت. (¬2) - وروى ابن بطة: عن ثابت عن أنس قال: ما من شيء كنت أعرفه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلا قد أصبحت له منكرا، إلا أني أرى شهادتكم هذه ثابتة. قال: فقيل: يا أبا حمزة فالصلاة؟ قال: قد فعل فيها ما رأيتم. (¬3) " التعليق: قال الطرطوشي: فانظروا -رحمكم الله- إذا كان في ذلك الزمان طمس الحق وظهر الباطل حتى لا يعرف من الأمر القديم إلا القبلة، فما ظنك بزمانك هذا؟!! والله المستعان. (¬4) - وجاء في ذم الكلام: عن حميد الأعرج، قال: سمع أنس بن مالك ابنه ¬

(¬1) مسلم (4/ 1929/2481 (143)) من طريق عمر بن يونس عن عكرمة عن إسحاق عن أنس رضي الله عنه قال فذكره. وأصل حديث دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنس بكثرة المال والولد .. أخرجه أحمد (3/ 194 و248) والبخاري (11/ 217/6378 - 6379) ومسلم (4/ 1928/2480) والترمذي (5/ 640/3829). (¬2) البخاري (2/ 16/530). (¬3) الإبانة (2/ 4/573/ 718). وبنحوه عند أحمد (3/ 101) والبخاري (2/ 16/529) والترمذي (4/ 545/2447). (¬4) الحوادث والبدع (ص.42).

موقفه من الرافضة:

عبد الله يخاصم الأشتر، فقال: لا تخاصم بالقرآن وخاصم بالسنة. (¬1) - وعن أنس قال: إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الموبقات. (¬2) موقفه من الرافضة: روى الآجري بسنده إلى حميد، قال: قال أنس بن مالك: قالوا: إن حب عثمان وعلي رضي الله عنهما لا يجتمع في قلب مؤمن وكذبوا، قد اجتمع حبهما بحمد الله في قلوبنا. (¬3) موقفه من الصوفية: عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سئل عن القوم يقرأ عليهم القرآن فيصعقون، فقال: ذلك فعل الخوارج. (¬4) " تنبيه: انظر رعاك الله كيف سرى هذا الداء الأجرب الذي تعبد به الصوفية ربهم، وهو لعمري داء أجرب، كيف لا وقد أنكره خادم النبي - صلى الله عليه وسلم - وجعله من شيم الخوارج. موقفه من الجهمية: - عن أنس بن مالك قال: دخلت على ابن زياد، وهم يتذاكرون الحوض، فلما رأوني طلعت عليهم، قالوا: قد جاءكم أنس فقالوا: يا أنس ما ¬

(¬1) ذم الكلام (ص.67). (¬2) أحمد (3/ 157) والبخاري (11/ 400/6492). (¬3) الشريعة (3/ 22/1287). (¬4) أبو عبيد في فضائل القرآن (2/ 16/375) وتلبيس إبليس (ص.311).

تقول في الحوض؟ فقلت: والله ما شعرت أني أعيش حتى أرى أمثالكم. تشكون في الحوض، لقد تركت عجائز بالمدينة، ما تصلي واحدة منهن صلاة إلا سألت ربها عز وجل أن يوردها حوض محمد - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) " التعليق: قال محمد بن الحسين الآجري رحمه الله تعالى معلقا: ألا ترون إلى أنس بن مالك رحمه الله يتعجب ممن يشك في الحوض، إذ كان عنده أن الحوض مما يؤمن به الخاصة والعامة حتى إن العجائز يسألن الله عز وجل أن يسقيهن من حوضه - صلى الله عليه وسلم -، فنعوذ بالله ممن لا يؤمن بالحوض، ويكذب به. - قال عبد الله الرومي: جاء رجل إلى أنس بن مالك وأنا عنده فقال: يا أبا حمزة: لقيت قوما يكذبون بالشفاعة وعذاب القبر. فقال: أولئك الكذابون فلا تجالسهم. (¬2) - عن أنس قال: من كذب بالشفاعة فلا نصيب له فيها. (¬3) - عن أنس بن مالك في قوله عز وجل: {ولدينا مزيد} (¬4). قال: يظهر لهم الرب عز وجل يوم القيامة. (¬5) ¬

(¬1) الشريعة (2/ 177/893). (¬2) الإبانة (2/ 3/448/ 408) وأصول الاعتقاد (6/ 1198/2120). (¬3) أصول الاعتقاد (6/ 1182/2088) والآجري في الشريعة (2/ 147/829). (¬4) ق الآية (35). (¬5) أصول الاعتقاد (3/ 519/813).

موقفه من الخوارج:

موقفه من الخوارج: جاء في الإبانة: عن يزيد قال: قلت لأنس بن مالك: إن ناسا يشهدون علينا بالشرك فقال: أولئك شر الخليقة، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: بين العبد والشرك أو الكفر ترك الصلاة أو من ترك الصلاة كفر. (¬1) موقفه من القدرية: جاء في الإبانة: قال أبو بلال القسملي: سألت أنس بن مالك: هل كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرون القدر؟ قال: إنه لم يك شيء أكره إليهم من الخصومات، وكانوا إذا ذكر لهم شيء من ذلك نفضوا أرديتهم وتفرقوا. (¬2) عُرْوَة بن الزُّبَيْر (¬3) (93 هـ) عروة ابن حواري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن عمته صفية، الزبير بن العوام بن خويلد الإمام، عالم المدينة أبو عبد الله القرشي الأسدي، المدني الفقيه، أحد الفقهاء السبعة. حدث عن أبيه بشيء يسير لصغره، وعن أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق وعن خالته أم المؤمنين عائشة ولازمها وتفقه بها، وكان عالما ¬

(¬1) الإبانة (5/ 676 - 677/ 882) وتعظيم قدر الصلاة للمروزي (2/ 880 - 881/ 900) والمرفوع منه أخرجه ابن ماجه (1/ 342/1080). (¬2) الإبانة (2/ 3/524/ 630). (¬3) طبقات ابن سعد (5/ 178 - 182) والبداية والنهاية (9/ 101 - 103) وحلية الأولياء (2/ 176 - 183) وسير أعلام النبلاء (4/ 421 - 437) ووفيات الأعيان (3/ 255 - 258) والمعرفة والتاريخ (1/ 364 - 365 و550 - 554) وتهذيب الكمال (20/ 11 - 25) وتذكرة الحفاظ (1/ 62 - 63) وشذرات الذهب (1/ 103 - 104) ومشاهير علماء الأمصار (64).

موقفه من المبتدعة:

بالسيرة حافظا ثبتا. حدث عنه بنوه: هشام ومحمد وعثمان ويحيى، وحفيده عمر بن عبد الله بن عروة، والزهري وأبو الزناد، وخلق كثير. قال الزهري: رأيته بحرا لا ينزف، قال: وكان يتألف الناس حديثه. وعن عثمان بن عروة قال: كان عروة يقول: يا بني هلموا فتعلموا فإن أزهد الناس في عالم أهله، وما أشده على امرئ أن يسأل عن شيء من أمر دينه فيجهله. وعن هشام بن عروة عن أبيه أنه وقعت الأكلة في رجله، فقيل له: ألا ندعو لك طبيبا؟ قال: إن شئتم، فجاء الطبيب فقال: أسقيك شرابا يزول فيه عقلك. فقال: امض لشأنك ما ظننت أن خلقا يشرب شرابا ويزول فيه عقله حتى لا يعرف ربه، قال: فوضع المنشار على ركبته اليسرى ونحن حوله فما سمعنا له حسا، فلما قطعها جعل يقول: لئن أخذت لقد أبقيت، ولئن ابتليت لقد عافيت. وترك حزبه من القراءة تلك الليلة. وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: إذا رأيت الرجل يعمل الحسنة فاعلم أن لها عنده أخوات، وإذا رأيته يعمل السيئة فاعلم أن لها عنده أخوات، فإن الحسنة تدل على أختها وإن السيئة تدل على أختها. توفي رضي الله عنه سنة ثلاث وتسعين. موقفه من المبتدعة: روى الدارمي عن عروة بن الزبير قال: ما زال أمر بني إسرائيل معتدلا ليس فيه شيء حتى نشأ فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم أبناء النساء التي سبت بنو إسرائيل من غيرهم، فقالوا فيهم بالرأي فأضلوهم. (¬1) ¬

(¬1) الدارمي (1/ 50) وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 1047) وذكره الشاطبي في الاعتصام (1/ 135). وابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 74).

موقفه من الرافضة:

" التعليق: لاشك أن الدعوة إلى الرأي والبعد عن النص أمر دخيل، حمله أعداء الإسلام إلى الإسلام، نرجوا الله تعالى أن يخلصنا من هذه الدعوة المشئومة إنه سميع مجيب. - وجاء في الاعتصام عن هشام بن عروة عن أبيه: أنه كان يقول: السنن السنن، فإن السنن قوام الدين. (¬1) موقفه من الرافضة: - عن هشام بن عروة، عن أبيه؛ قال: لقد صحبت عائشة رحمها الله حتى قلت قبل وفاتها بأربع سنين أو خمس: لو توفيت اليوم ما ندمت على شيء فاتني منها، فما رأيت أحدا قط كان أعلم بآية أنزلت ولا بفريضة ولا بسنة، ولا أعلم بشعر ولا أروى له، ولا بيوم من أيام العرب، ولا بنسب، ولا بكذا ولا بكذا، ولا بقضاء ولا بطب منها. فقلت لها: يا أمه، الطب من أين علمتيه؟ فقالت: كنت أمرض فينعت لي الشيء، ويمرض المريض فينعت له فينتفع، فأسمع الناس بعضهم لبعض فأحفظه. قال عروة: فلقد ذهب عني عامة علمها لم أسأل عنه. (¬2) - عن تميم بن سلمة عن عروة قال: لقد رأيت عائشة تقسم سبعين ألفا وهي ترقع درعها. (¬3) ¬

(¬1) الاعتصام (2/ 848). (¬2) الشريعة (3/ 482/1958) وهو في أصول الاعتقاد (8/ 1520 - 1521/ 2759). (¬3) أصول الاعتقاد (8/ 1522/2764).

موقفه من المرجئة:

- عن هشام عن القاسم بن محمد قال: سمعت ابن الزبير قال: ما رأيت امرأة قط أجود من عائشة وأسخى، كانت تجمع الشيء إلى الشيء حتى إذا اجتمع عندها. وضعته مواضعه وأما أسماء فكانت لا تمسك شيئا لغد. (¬1) موقفه من المرجئة: - عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: ما نقصت أمانة عبد قط إلا نقص إيمانه. (¬2) - وعنه عن أبيه قال: لا يغرنكم صلاة امرئ ولا صيامه، ما شاء صام وما شاء صلى، لا دين لمن لا أمانة له. (¬3) علي بن الحسين (¬4) (93 هـ) علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب زيد العابدين الهاشمي العلوي المدني، يكنى أبا الحسين ويقال: أبو الحسن، ويقال أبو محمد، ويقال أبو عبد الله، وأمه أم ولد، اسمها سَلاَّمَة سُلاَفَة بنت ملك الفرس يَزْدَجِرْد، وقيل غزالة. حدث عن أبيه الحسين، وكان معه يوم كائنة كربلاء وله ثلاث وعشرون سنة. وحدث أيضا عن صفية أم المؤمنين وعائشة، وعمه ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (8/ 1521 - 1522/ 2763). (¬2) أصول الاعتقاد (5/ 1023/1729) والإبانة (2/ 852/1148) والشريعة (1/ 273/272) والإيمان لابن أبي شيبة (10) وفي المصنف (6/ 159/30323) والسنة للخلال (4/ 49/114). (¬3) المصنف لابن أبي شيبة (6/ 160/30326) والإيمان له (13). (¬4) السير (4/ 386 - 401) ووفيات الأعيان (3/ 266 - 269) وحلية الأولياء (3/ 133 - 145) وطبقات ابن سعد (5/ 211) وتذكرة الحفاظ (1/ 74 - 75) وتهذيب الكمال (20/ 382 - 404) وشذرات الذهب (1/ 104).

موقفه من المبتدعة:

الحسن وطائفة، وحدث عنه أولاده: أبو جعفر محمد، وعمر، وزيد المقتول، وعبد الله، والزهري وعمرو بن دينار، والحكم بن عتيبة وزيد بن أسلم وخلق سواهم. عن سعيد بن المسيب قال: ما رأيت رجلا أورع من علي بن الحسين. وقال أبو حازم الأعرج: ما رأيت هاشميا أفضل من علي بن الحسين. قال الواقدي وأبو عبيد والبخاري والفلاس: مات رحمه الله سنة ثلاث وتسعين وقيل سنة أربع وتسعين. ودفن بالبقيع. وليس للحسين بن علي عقب إلا من ولد زين العابدين هذا. موقفه من المبتدعة: جاء في أصول الاعتقاد عن إبراهيم بن أبي حفصة بياع السابري قال: قلت لعلي بن الحسين: ناس يقولون: لا ننكح إلا من كان على رأينا، ولا نصلي إلا خلف من كان على رأينا، قال علي بن الحسين: ننكحهم بالسنة ونصلي خلفهم بالسنة. (¬1) موقفه من المشركين: - قال أبو نعيم: حدثنا عيسى بن دينار -ثقة- قال: سألت أبا جعفر عن المختار، فقال: قام أبي على باب الكعبة، فلعن المختار، فقيل له: تلعنه وإنما ذبح فيكم؟ قال: إنه كان يكذب على الله وعلى رسوله. (¬2) - وعن علي بن حسين: أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدخل فيها، فيدعو فنهاه. فقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (1/ 74/57). (¬2) السير (4/ 397).

موقفه من الرافضة:

عن جدي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم. (¬1) قال ابن تيمية معلقا (¬2): إن أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين رضي الله عنه، نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره - صلى الله عليه وسلم -، واستدل بالحديث ... وكذلك ابن عمه حسن بن حسن شيخ أهل بيته كره أن يقصد الرجل القبر للسلام عليه ... فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت!! الذين لهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرب النسب وقرب الدار، لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا لها أضبط. موقفه من الرافضة: - جاء في سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي: قال أبو حازم المدني ما رأيت هاشميا أفقه من علي بن الحسين، سمعته وقد سئل: كيف كانت منزلة أبي بكر وعمر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فأشار بيده إلى القبر ثم قال: بمنزلتهما منه الساعة. (¬3) " التعليق: ما أكثر فقه هؤلاء الرجال، أليس هذا من أئمة أهل البيت؟ ماذا يقول الروافض قبحهم الله ولعنهم، في قولة هذا الإمام؟ فرضي الله عنه وأرضاه. ¬

(¬1) ابن أبي شيبة (2/ 150/7542) وأبو يعلى (1/ 361/469) وإسماعيل القاضي في فضل الصلاة (20). قال الهيثمي في المجمع (4/ 3): "رواه أبو يعلى وفيه جعفر بن إبراهيم الجعفري ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرجا وبقية رجاله ثقات". قال الشيخ الألباني في فضل الصلاة للقاضي: "حديث صحيح بطرقه وشواهده". (¬2) الاقتضاء (2/ 659 - 660). (¬3) السير (4/ 394 - 395) أصول الاعتقاد (7/ 1378/2460).

- وفيها عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: جاء رجل إلى أبي فقال: أخبرني عن أبي بكر قال: عن الصديق تسأل؟ قال وتسميه الصديق؟ قال: ثكلتك أمك قد سماه صديقا من هو خير مني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمهاجرون والأنصار فمن لم يسمه صديقا فلا صدق الله قوله، اذهب فأحب أبا بكر وعمر وتولهما، فما كان من أمر ففي عنقي. (¬1) - وفيها: عن محمد بن علي، عن أبيه، قال قدم قوم من العراق، فجلسوا إلي، فذكروا أبا بكر وعمر فسبوهما، ثم ابتركوا في عثمان ابتراكا، فشتمتهم. (¬2) - جاء في البداية: عن محمد بن علي عن أبيه قال: جلس قوم من أهل العراق فذكروا أبا بكر وعمر فنالوا منهما، ثم ابتدأوا في عثمان فقال لهم: أخبروني أأنتم من المهاجرين الأولين الذين {أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (¬3) ؟ قالوا: لا. قال: فأنتم من الذين {تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} (¬4)؟ قالوا لا. فقال لهم: أما أنتم فقد أقررتم وشهدتم على أنفسكم أنكم لستم من هؤلاء ولا من هؤلاء، وأنا أشهد أنكم لستم من الفرقة الثالثة الذين قال الله عز وجل فيهم {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ ¬

(¬1) السير (4/ 395) (¬2) السير (4/ 395) (¬3) الحشر الآية (8). (¬4) الحشر الآية (9).

موقفه من الجهمية:

{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} (¬1) الآية. فقوموا عني لا بارك الله فيكم، ولا قرب دوركم، أنتم مستهزئون بالإسلام، ولستم من أهله. (¬2) - وعن القاسم بن عوف قال: قال علي بن الحسين: جاءني رجل فقال: جئتك في حاجة، وما جئت حاجا ولا معتمرا، قلت: وما هي؟ قال: جئت لأسألك متى يبعث علي؟ فقلت: يبعث -والله- يوم القيامة، ثم تهمه نفسه. (¬3) - وعن يحيى بن سعيد قال: سمعت علي بن الحسين -وكان أفضل هاشمي أدركته- يقول: أيها الناس أحبونا حب الإسلام، فما برح حبكم حتى صار علينا عارا. (¬4) - وعن أبي جعفر محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين قال: من زعم منا أهل البيت أو غيره أن طاعته مفترضة على العباد فقد كذب علينا ونحن منهم براء، فاحذر ذلك إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأولي الأمر من بعده. (¬5) موقفه من الجهمية: - عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: سئل علي بن الحسين عن القرآن، فقال: ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الخالق. (¬6) ¬

(¬1) الحشر الآية (10). (¬2) البداية (9/ 112). (¬3) السنة لابن أبي عاصم (997) وهو في السير (4/ 396) والبداية والنهاية (9/ 112) (¬4) الطبقات لابن سعد (5/ 214) والسنة لابن أبي عاصم (996) والسنة للخلال (1/ 500). (¬5) أصول الاعتقاد (8/ 1481/2684). (¬6) أصول الاعتقاد (2/ 263/387) والسنة لعبد الله (30) والمنهاج (2/ 253).

موقفه من القدرية:

- وعن الزهري قال: سألت علي بن الحسين عن القرآن؟ قال: كتاب الله وكلامه. (¬1) موقفه من القدرية: جاء في أصول الاعتقاد: قال علي بن الحسين: إن أصحاب القدر حملوا مقدرة الله عز وجل على ضعف رأيهم فقالوا لله: لم؟ ولا ينبغي أن يقال لله: لم؟ (¬2) سعيد بن المسيب (¬3) (94 هـ) هو سعيد بن المُسَيِّب بن حَزْن بن أبي وَهْب. أبو محمد القرشي المخزومي المدني، سيد التابعين في زمانه، ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر بن الخطاب وقيل لأربع مضين منها بالمدينة. رأى عمر، وسمع عثمان وعليا وزيد ابن ثابت، وعائشة وأبا هريرة وابن عباس وخلقا سواهم. روى عنه إدريس ابن صبيح وأسامة بن زيد الليثي، وإسماعيل بن أمية، وحسان بن عطية، وغيرهم. قال علي بن المديني: لا أعلم في التابعين أحدا أوسع علما من سعيد ابن المسيب، نظرت فيما روى عنه الزهري وقتادة ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن حرملة، فإذا كل واحد منهم لا يكاد يروي ما يرويه الآخر ولا يشبهه، فعلمت أن ذلك لسعة علمه، وكثرة روايته، وإذا قال سعيد: ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 264/389) والإبانة (2/ 12/17 - 18/ 206). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 758/1621). (¬3) طبقات ابن سعد (5/ 119 - 143) والبداية والنهاية (9/ 99 - 110) ووفيات الأعيان (2/ 375 - 378) والوافي بالوفيات (15/ 262) وسير أعلام النبلاء (4/ 217 - 246) وتهذيب الكمال (11/ 66 - 75) وتذكرة الحفاظ (1/ 54 - 56) وحلية الأولياء (2/ 161 - 175) وشذرات الذهب (1/ 102 - 103) والمعرفة والتاريخ (1/ 468 - 479).

موقفه من المبتدعة:

مضت السنة، فحسبك به. قال علي: وهو عندي أجل التابعين. وعن مالك عن يحيى بن سعيد، قال: سئل سعيد بن المسيب عن آية، فقال سعيد: لا أقول في القرآن شيئا. قال الذهبي: ولهذا قل ما نقل عنه في التفسير. ومن كلام ابن المسيب قال: لا تملؤوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكار من قلوبكم؛ لكيلا تحبط أعمالكم. توفي رحمه الله سنة أربع وتسعين. موقفه من المبتدعة: - روى الدارمي: عن أبي رباح شيخ من آل عمر قال: رأى سعيد بن المسيب رجلا يصلي بعد العصر الركعتين يكثر، فقال له: يا أبا محمد أيعذبني الله على الصلاة؟ قال: لا ولكن يعذبك الله بخلاف السنة. (¬1) " التعليق: قال الشيخ الألباني رحمه الله: وهذا من بدائع أجوبة سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى، وهو سلاح قوي على المبتدعة الذين يستحسنون كثيرا من البدع باسم أنها ذكر وصلاة، ثم ينكرون على أهل السنة إنكار ذلك عليهم، ويتهمونهم بأنهم ينكرون الذكر والصلاة!! وهو في الحقيقة إنما ينكرون خلافهم للسنة في الذكر والصلاة ونحو ذلك. (¬2) - وروى عن عبد الرحمن بن حرملة قال: جاء رجل إلى سعيد بن المسيب، يودعه بحج أوعمرة فقال له: لا تبرح حتى تصلي: فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يخرج بعد النداء من المسجد إلا منافق إلا رجل أخرجته حاجة وهو ¬

(¬1) الدارمي (1/ 116) والبيهقي (2/ 466) والفقيه والمتفقه (1/ 381) بنحوه. (¬2) الإرواء (2/ 236).

موقفه من الرافضة:

يريد الرجعة إلى المسجد". فقال: إن أصحابي بالحرة، قال: فخرج، قال: فلم يزل سعيد يولع بذكره حتى أخبر أنه وقع من راحلته فانكسرت فخذه. (¬1) - وجاء في الاقتضاء: وروى الخلال بإسناد صحيح عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال: أحدث الناس الصوت عند الدعاء. (¬2) موقفه من الرافضة: - جاء في أصول الاعتقاد: عن علي بن زيد أن سعيد بن المسيب قال له: مر غلامك فلينظر إلى وجه هذا الرجل، قلت له: أنت تكفيني أخبرني عنه فقال: إن هذا الرجل قد سود الله وجهه كان يقع في علي وطلحة والزبير فجعلت أنهاه فجعل لا ينتهي فقلت: اللهم إن كنت تعلم أنه قد كانت لهم سوابق وقدم فإن كان مسخطا لك ما يقول، فأرني به آية واجعله آية للناس فسود الله وجهه. (¬3) - وروى ابن عبد البر في جامع بيان العلم بسنده إلى ابن المسيب أنه سئل عن شيء فقال: اختلف فيه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا رأي لي معهم. قال ابن وضاح: هذا هو الحق. قال أبو عمر: معناه أنه ليس له أن يأتي بقول يخالفهم جميعا به؟ (¬4) - قال سعيد بن المسيب: لو شهدت لأحد حي أنه من أهل الجنة ¬

(¬1) الدارمي (1/ 118 - 119) وأبو داود في مراسيله (84/ 25) والبيهقي (3/ 56 - 57) ومالك في الموطأ (1/ 162) وعبد الرزاق (1/ 508/1946). قال الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب (1/ 224/264): "صحيح لغيره". (¬2) اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 639). (¬3) أصول الاعتقاد (7/ 1332/2370) وفي السير (4/ 242 بنحوه). (¬4) جامع بيان العلم وفضله (1/ 770).

موقفه من الجهمية:

لشهدت لعبد الله بن عمر. (¬1) موقفه من الجهمية: - جاء في أصول الاعتقاد: عن سعيد بن المسيب في قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وزيادة} (¬2) قال: أحسنوا: شهادة أن لا إله إلا الله، والحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله. (¬3) - وقال سعيد: إذا تكلم الناس في ربهم وفي الملائكة ظهر لهم الشيطان فقدمهم إلى عبادة الأوثان. (¬4) موقفه من القدرية: عن قتادة قال: سألت سعيد بن المسيب عن القدر؛ فقال: ما قدره الله؛ فقد قدره. (¬5) أبو سلمة بن عبد الرحمن (¬6) (94 هـ) أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الحافظ، كان طلابة للعلم، فقيها، مجتهدا، كبير القدر، حجة. قيل اسمه عبد الله، وقيل إسماعيل، وقيل اسمه وكنيته واحد. ولد سنة بضع وعشرين. روى عن أبيه، وأنس بن مالك ¬

(¬1) السنة للخلال (1/ 363). (¬2) يونس الآية (26). (¬3) أصول الاعتقاد (3/ 509 - 510/ 789). (¬4) أصول الاعتقاد (1/ 137/197). (¬5) الإبانة (2/ 10/221/ 1799). (¬6) السير (4/ 287 - 292) وتهذيب الكمال (33/ 370 - 376) وطبقات ابن سعد (5/ 155 - 157) وأخبار القضاة (1/ 116 - 118) وتذكرة الحفاظ (1/ 59).

موقفه من المبتدعة:

وأسامة بن زيد وابن عباس وعائشة، وعطاء وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز وآخرين. وعنه جماعة منهم ابنه عمر بن أبي سلمة والشعبي والزهري وهشام بن عروة. قال ابن سعد: وكان ثقة فقيها كثير الحديث. قال معمر عن الزهري: أربعة من قريش وجدتهم بحورا: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعبد الله بن عبد الله. قال: وكان أبو سلمة كثيرا ما يخالف ابن عباس، فحرم لذلك من ابن عباس علما كثيرا. قال عقيل بن خالد، عن الزهري: قدمت مصر على عبد العزيز بن مروان وأنا أحدث عن سعيد بن المسيب، فقال لي إبراهيم بن عبد الله بن قارظ: ما أسمعك تحدث إلا عن ابن المسيب؟ فقلت: أجل، فقال: لقد تركت رجلين من قومك لا أعلم أكثر حديثا منهما: عروة بن الزبير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، فلما رجعت إلى المدينة، وجدت عروة بحرا لا تكدره الدلاء. قال الذهبي: لم يكثر عن أبي سلمة وهو من عشيرته، ربما كان بينهما شيء، وإلا فما أبو سلمة بدون عروة في سعة العلم. توفي سنة أربع وتسعين. موقفه من المبتدعة: روى الخطيب في الفقيه والمتفقه: عن أبي نضرة قال: قدم أبو سلمة -وهو ابن عبد الرحمن- فنزل دار أبي بشير، فأتيت الحسن، فقلت: إن أبا سلمة قدم وهو قاضي المدينة وفقيههم، انطلق بنا إليه، فأتيناه، فلما رأى الحسن، قال: من أنت؟ قال: أنا الحسن بن أبي الحسن، قال: ما كان بهذا المصر أحد أحب إلي أن ألقاه منك، وذلك أنه بلغني أنك تفتي الناس، فاتق الله يا حسن، وأفت الناس بما أقول لك: أفتهم بشيء من القرآن قد علمته، أو سنة ماضية قد سنها

الصالحون والخلفاء، وانظر رأيك الذي هو رأيك فألقه. (¬1) العلاء بن زياد (¬2) (94 هـ) الشيخ الزاهد أبو نَصْر العلاء بن زياد بن مطر بن شريح العدوي البصري، قدم الشام. أرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا، وروى عن أبي هريرة وعمران بن حصين وعياض بن حمار ومطرف بن عبد الله بن الشخير وغيرهم. روى عنه الحسن وقتادة ومطر الوراق وإسحاق بن سويد العدوي وأسيد بن عبد الرحمن الخثعمي. قال الذهبي: وكان ربانيا تقيا قانتا لله، بكاء من خشية الله. عن قتادة قال: كان زياد بن مطر العدوي قد بكى حتى عمي وبكى ابنه العلاء بن زياد بعده حتى عشي بصره، قال: وكان إذا أراد أن يتكلم أو يقرأ جهشه البكاء. ذكر البخاري في صحيحه في تفسير (حم المؤمن): "وكان العلاء بن زياد يذكر النار، فقال رجل: لم تقنط الناس؟ قال: وأنا أقدر أن أقنط الناس، والله عز وجل يقول: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} (¬3) ويقول: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} (¬4) ¬

(¬1) الفقيه والمتفقه (2/ 344 - 345) وبنحوه في إعلام الموقعين (1/ 74). (¬2) طبقات ابن سعد (7/ 217) وحلية الأولياء (2/ 243 - 249) وتهذيب الكمال (22/ 497 - 506) وسير أعلام النبلاء (4/ 202 - 206) وتاريخ الإسلام (حوادث 81 - 100/ص.444 - 447) وتهذيب التهذيب (8/ 181 - 182). (¬3) الزمر (53). (¬4) غافر الآية (43).

موقفه من الخوارج:

ولكنكم تحبون أن تُبَشَّروا بالجنة على مساوئ أعمالكم، وإنما بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - مبشرا بالجنة لمن أطاعه ومنذرا بالنار لمن عصاه". (¬1) قال ابن حبان: مات بالشام في آخر ولاية الحجاج سنة أربع وتسعين. موقفه من الخوارج: جاء في السير: عن العلاء بن زياد، قال: ما يضرك شهدت على مسلم بكفر أو قتلته. (¬2) عطاء بن يسار (¬3) (94 هـ) الإمام عطاء بن يسار الهلالي، أبو محمد المدني القاص، مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أخو سليمان بن يسار وعبد الله بن يسار وعبد الملك بن يسار. روى عن مولاته ميمونة وأبي سعيد الخدري وابن عباس وأبي هريرة وابن عمر وطائفة. روى عنه زيد بن أسلم وعبد الله بن مقسم وشريك بن أبي نمر وهلال بن أبي ميمونة. قال أبو حازم: ما رأيت رجلا قط كان ألزم لمسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عطاء بن يسار. قال ابن حجر: ثقة فاضل، صاحب مواعظ وعبادة. ¬

(¬1) البخاري تعليقا (8/ 711). (¬2) سير أعلام النبلاء (4/ 204) والحلية لأبي نعيم (2/ 246). (¬3) طبقات ابن سعد (5/ 173) وتاريخ ابن عساكر (40/ 438 - 454) وتهذيب الكمال (20/ 125 - 127) والسير (4/ 448) وتهذيب التهذيب (7/ 217) والتقريب (1/ 676) وشذرات الذهب (1/ 125).

موقفه من الجهمية:

من أقواله رحمه الله: جدوا في دار العمل لدار الثواب، وجدوا في دار الفناء لدار البقاء. ولم نر شيئا إلى شيء أزين من حلم إلى علم. توفي رحمه الله سنة أربع وتسعين، وقيل غير ذلك. موقفه من الجهمية: روى اللالكائي في أصول الاعتقاد عن عطاء بن يسار قال: ما من ليلة بعد ليلة القدر أفضل منها -يعني ليلة النصف من شعبان- ينزل الله تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا فيغفر إلا لمشرك أو مشاحن أو قاطع رحم. (¬1) عبد الله بن أبي قتادة (¬2) (95 هـ) عبد الله بن أبي قَتَادَة بن رَبْعِيّ بن بلذمة، أبو إبراهيم ويقال: أبو يحيى المدني، أمه سلافة بنت البراء بن معرور بن صخر. روى عن أبيه، وعن جابر ابن عبد الله. وعنه جملة منهم: ابناه ثابت ويحيى، وسلمة بن دينار، وزيد بن أسلم. قال ابن سعد: وكان ثقة قليل الحديث. توفي سنة خمس وتسعين. موقفه من المبتدعة: روى ابن بطة في الإبانة (¬3): عن عبد الله بن أبي قتادة قال: من دعا إلى سنة فأجيب إليها أعطاه الله أجر من أجاب إليها، ولا ينقص ذلك من ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (3/ 499 - 500/ 769). (¬2) طبقات ابن سعد (5/ 274) وتاريخ خليفة (309) والتاريخ الكبير (5/ 175 - 176) والجرح والتعديل (5/ 32) وتهذيب الكمال (15/ 440 - 442). (¬3) الإبانة (1/ 2/342 - 343/ 213).

سعيد بن جبير (95 هـ)

أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة فأجابه إليها أحد، حمله الله مثل أوزارهم، ولا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا، ثم تلا هذه الآية: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25] (¬1). سعيد بن جُبَيْر (¬2) (95 هـ) سعيد بن جبير بن هشام أبو محمد، ويقال أبو عبد الله، الإمام الحافظ المقرئ المفسر، أحد الأعلام، من كبار التابعين. روى عن أبي هريرة وعائشة وابن عباس فأكثر عنه وجود، وابن عمر وأنس وأبي سعيد الخدري وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم وكذا عن بعض التابعين. روى عنه آدم بن سليمان والد يحيى بن آدم، وأيوب السختياني، وثابت بن عجلان وجعفر ابن أبي المغيرة وأبو صالح السمان، وابنه عبد الله بن سعيد بن جبير وغيرهم. قال عطاء بن السائب: كان سعيد بن جبير بفارس، وكان يتحزن، يقول: ليس أحد يسألني عن شيء، وكان يبكينا، ثم عسى أن لا يقوم حتى نضحك. وعن عبد السلام بن حرب عن خصيف قال: كان أعلمهم بالقرآن مجاهد، وأعلمهم بالحج عطاء، وأعلمهم بالحلال والحرام طاووس، وأعلمهم بالطلاق سعيد بن المسيب وأجمعهم لهذه العلوم سعيد بن جبير. ¬

(¬1) النحل الآية (25). (¬2) طبقات ابن سعد (6/ 256 - 267) وتهذيب الكمال (10/ 356 - 376) والبداية والنهاية (9/ 98 - 99) والوافي بالوفيات (15/ 206 - 207) ووفيات الأعيان (2/ 371 - 374) وسير أعلام النبلاء (4/ 321 - 343) والحلية (4/ 272 - 309) وتذكرة الحفاظ (1/ 76 - 77) والعقد الثمين (4/ 549 - 553) وشذرات الذهب (1/ 108 - 110).

موقفه من المبتدعة:

وقال جعفر بن أبي المغيرة: كان ابن عباس بعد ما عمي إذا أتاه أهل الكوفة يسألونه يقول: تسألوني وفيكم ابن أم دهماء؟ يعني سعيد بن جبير. وعن سعيد بن جبير قال: سأل رجل ابن عمر عن فريضة فقال: ائت سعيد ابن جبير فإنه أعلم بالحساب مني، وهو يفرض فيها ما أفرض. قتله الحجاج سنة خمس وتسعين، فأهلكه الله بعده بخمسة عشر يوما، وقيل أربعين يوما. موقفه من المبتدعة: - روى عبد الله بن الإمام أحمد عن أبي المختار قال: شكا ذر سعيد بن جبير إلى أبي البختري الطائي فقال: مررت فسلمت عليه، فلم يرد علي، فقال أبو البختري لسعيد بن جبير، فقال سعيد: إن هذا يجدد كل يوم دينا، لا والله لا أكلمه أبدا. (¬1) - وروى الدارمي عن أيوب عن سعيد بن جبير، عن عبد الله بن مغفل قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخذف (¬2) وقال: إنها لا تصطاد صيدا ولا تنكي عدوا، ولكنها تكسر السن وتفقأ العين، فرفع رجل بينه وبين سعيد قرابة شيئا من الأرض فقال: هذه، وما يكون هذه؟! فقال سعيد: ألا أراني أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم تهاون به، لا أكلمك أبدا. (¬3) - وجاء في السير عن سعيد بن جبير في قوله: {فَإِنْ كُنْتَ في شَكٍّ ¬

(¬1) السنة لعبد الله (ص.90) والإبانة (2/ 7/891/ 1240) وأصول الاعتقاد (5/ 1062 - 1063/ 1812). (¬2) تقدم تخريج المرفوع منه ضمن مواقف عبد الله بن مغفل سنة (57هـ). (¬3) الدارمي (1/ 177) وذم الكلام (ص.96) مختصرا.

مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} (¬1) قال: لم يشك ولم يسأل. (¬2) - وروى الدارمي في سننه: عن أيوب قال رآني سعيد بن جبير جلست إلى طلق بن حبيب، فقال لي: ألم أرك جلست إلى طلق بن حبيب؟ لا تجالسنه. (¬3) - وروى أيضا: عن كلثوم بن جبر، أن رجلا سأل سعيد بن جبير عن شيء فلم يجبه، فقيل له فقال ((أزا يشان)) (¬4)؟. (¬5) - وجاء في ذم الكلام عن مروان الأصفر قال: كنت عند سعيد بن جبير جالسا، فسأله رجل عن آية من كتاب الله فقال: الله أعلم، فقال: قل فيها أصلحك الله برأيك، قال: أقول في كتاب الله برأيي؟! مرتين أو ثلاثا، ولم يجبه بشيء. (¬6) - وفي الشريعة: عن سعيد بن جبير؛ أنه حدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا فقال رجل: إن الله تعالى قال في كتابه: كذا وكذا. فقال: ألا أراك تعارض حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكتاب الله تعالى، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم بكتاب الله تعالى. (¬7) ¬

(¬1) يونس الآية (94). (¬2) السير (12/ 180 - 181) وهو عند الطبري (11/ 168). (¬3) الدارمي (1/ 108). (¬4) كلمة فارسية معناها: منهم، أي: من أهل الأهواء. (¬5) الدارمي (1/ 109). (¬6) ذم الكلام (90) والسنن لسعيد بن منصور (1/ 174/41) والشعب للبيهقي (2/ 425/2285). (¬7) الشريعة (1/ 180/105) والإبانة (1/ 1/248 - 249/ 81) وذم الكلام (96) والدارمي (1/ 145).

موقفه من الرافضة:

- وروى ابن بطة: عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {وعمل صالحًا ثم اهتدى} (¬1). قال: لزم السنة والجماعة. (¬2) موقفه من الرافضة: عن سعيد بن جبير قال: ما لم يعرفه البدريون فليس من الدين. (¬3) موقفه من الخوارج: جاء في الشريعة للآجري عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} قال: أما المتشابهات فهن آي في القرآن يتشابهن على الناس إذا قرؤوهن، من أجل ذلك يضل من ضل ممن ادعى هذه الكلمة، كل فرقة يقرؤون آيات من القرآن ويزعمون أنها لهم أصابوا بها الهدى. ومما تتبع الحرورية من المتشابه قول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (¬4) ويقرؤون معها {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يعدلون} (¬5) فإذا رأوا الإمام يحكم بغير الحق قالوا: قد كفر. ومن كفر عدل بربه، فقد أشرك فهؤلاء الأئمة مشركون، فيخرجون فيفعلون ¬

(¬1) طه الآية (82). (¬2) الإبانة (1/ 2/322 - 323/ 165). (¬3) جامع بيان العلم وفضله (1/ 771) ومجموع الفتاوى (4/ 5). (¬4) المائدة الآية (44). (¬5) الأنعام الآية (1).

موقفه من المرجئة:

ما رأيت؛ لأنهم يتأولون هذه الآية. (¬1) موقفه من المرجئة: - عن عبد الله بن حبيب عن أمه، قالت: سمعت سعيد بن جبير وذكر المرجئة، فقال: اليهود. (¬2) - وعن سعيد بن جبير قال: المرجئة يهود القبلة. (¬3) - وعنه قال: مثل المرجئة مثل الصابئين. (¬4) - وعن قيس بن مسلم عن سعيد جبير: في قوله: {ليطمئن قَلْبِي} (¬5) قال: ليزداد إيماني. وكذلك فسره مالك بن أنس. (¬6) - وعن أيوب رآني سعيد بن جبير وأنا جالس إلى طلق بن حبيب، قال أيوب: وما أدركت بالبصرة أعبد منه، ولا أبر بوالديه منه -يعني من طلق- وكان يرى رأي المرجئة. فقال سعيد: ألم أرك جالسا إليه، لا تجالسه. قال أيوب: وكان والله ناصحا وما استشرته. ولكن يحق للمسلم إذا رأى من أخيه ما يكره أن يأمره وينهاه. (¬7) ¬

(¬1) الشريعة (1/ 143 - 144/ 46). (¬2) الإبانة (2/ 886/1226) والسنة لعبد الله (88) والسنة للخلال (4/ 134 - 135/ 1353). (¬3) أصول الاعتقاد (5/ 1061/1809) والسنة لعبد الله (97). (¬4) السنة لعبد الله (88 - 89) والشريعة (1/ 309/334) والسنة للخلال (4/ 135/1355). (¬5) البقرة الآية (260). (¬6) أصول الاعتقاد (5/ 966 - 967/ 1603) والإبانة (2/ 846/1133) والشريعة (1/ 273/273) والسنة لعبد الله (109) والسنة للخلال (4/ 40/1123). (¬7) أصول الاعتقاد (5/ 1061 - 1062/ 1810) ونحو في الشريعة (1/ 309/335) والسنة لعبد الله (ص.88).

- وعن أبي الجحاف قال: قال سعيد بن جبير لذر: يا ذر (¬1) ما لي أراك كل يوم تجدد دينا. (¬2) - وعن حبيب قال: كنت عند سعيد بن جبير في مسجد فتذاكرنا ذرا في حديثنا فنال منه، فقلت: يا أبا عبد الله إنه لواد لك بحسن الثناء عليك إذا ذكرت، فقال: ألا تراه ضالا كل يوم يطلب دينه. (¬3) - وعن أبي المختار الطائي قال: شكا ذر سعيد بن جبير إلى أبي البختري الطائي قال: مررت به فسلمت عليه فلم يرد علي، فقال أبو البختري لسعيد بن جبير، فقال سعيد بن جبير: إن هذا كل يوم يجددنا دينا، لا والله لا أكلمه أبدا. (¬4) - وعن العلاء بن عبد الله بن رافع أن ذرا أبا عمر أتى سعيد بن جبير يوما في حاجة قال فقال: لا حتى تخبرني على أي دين أنت اليوم أو رأي أنت اليوم، فإنك لا تزال تلتمس دينا قد أضللته، ألا تستحي من رأي أنت اليوم أكبر منه. (¬5) - وعن عطاء بن السائب قال: ذكر سعيد بن جبير المرجئة قال: فضرب لهم مثلا فقال: مثلهم مثل الصابئين، إنهم أتوا اليهود فقالوا: ما دينكم؟ قالوا اليهودية قالوا: فمن نبيكم؟ قالوا: موسى قالوا: فماذا لمن ¬

(¬1) كان يرى الإرجاء، وسيأتي الموقف منه إن شاء الله (قبل 100هـ). (¬2) أصول الاعتقاد (5/ 1062/1811) والإبانة (2/ 891/1239) والسنة لعبد الله (ص.90). (¬3) السنة لعبد الله (93). (¬4) أصول الاعتقاد (5/ 1062 - 1063/ 1812) والإبانة (2/ 891/1240) والسنة لعبد الله (ص.90). (¬5) السنة لعبد الله (89) والسنة للخلال (4/ 139/13694) والإبانة (2/ 890/1237).

تبعكم؟ قالوا الجنة. ثم أتوا النصارى فقالوا: ما دينكم؟ قالوا: النصرانية، قالوا: فما كتابكم؟ قالوا: الإنجيل، قالوا: فمن نبيكم؟ قالوا: عيسى، قالوا: فماذا لمن تبعكم؟ قالوا: الجنة، قالوا: فنحن به ندين. (¬1) - وعن عطاء بن دينار الهذلي أن عبد الملك بن مروان كتب إلى سعيد بن جبير يسأله عن هذه المسائل. فأجابه فيها: سألت عن الإيمان، قال: فالإيمان هو التصديق، أن يصدق العبد بالله وملائكته وما أنزل من كتاب وما أرسل من رسول، وباليوم الآخر. وتسأل عن التصديق. والتصديق: أن يعمل العبد بما صدق به من القرآن، وما ضعف عن شيء منه وفرط فيه عرف أنه ذنب، واستغفر الله وتاب منه ولم يصر عليه فذلك هو التصديق. وتسأل عن الدين، والدين العبادة، فإنك لن تجد رجلا من أهل دين يترك عبادة أهل دينه، ثم لا يدخل في دين آخر إلا صار لا دين له، وتسأل عن العبادة والعبادة هي الطاعة، وذلك أنه من أطاع الله فيما أمره به وفيما نهاه عنه، فقد أتم عبادة الله، ومن أطاع الشيطان في دينه وعمله، فقد عبد الشيطان، ألم تر أن الله قال للذين فرطوا: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} (¬2) وإنما كانت عبادتهم الشيطان أنهم أطاعوه في دينهم. (¬3) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (5/ 1063/1814) والسنة لعبد الله (89) والإبانة (2/ 887 - 888/ 1230) والسنة للخلال (4/ 136). (¬2) يس الآية (60). (¬3) المروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/ 346/345).

موقفه من القدرية:

موقفه من القدرية: - جاء في أصول الاعتقاد عن سعيد بن جبير قال: القدرية يهود. (¬1) - وفيه: عن سعيد بن جبير: {لولا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سبق} (¬2). قال: ما سبق لأهل بدر من السعادة. (¬3) - وفيه: في قوله: {كما بدأكم تعودون} (¬4) قال: كما كتب عليكم تكونون. (¬5) - وفي الإبانة عن سعيد بن جبير {فَأَلْهَمَهَا فجورها وَتَقْوَاهَا} (¬6)؛ قال: فألزمها فجورها وتقواها. (¬7) - وفيها: عن سعيد في قوله تعالى: {أُولَئِكَ ينالهم نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} (¬8)؛ قال: ينالهم ما كتب عليهم من شقوة أو سعادة من خير أو شر. (¬9) - وفيها: عن سعيد بن جبير في قوله: {يحول بين المرء ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 760 - 761/ 1267). (¬2) الأنفال الآية (68). (¬3) أصول الاعتقاد (3/ 612/980). (¬4) الأعراف الآية (29). (¬5) أصول الاعتقاد (3/ 612/982) والإبانة (2/ 10/199/ 1727). (¬6) الشمس الآية (8). (¬7) الإبانة (2/ 10/199 - 200/ 1728). (¬8) الأعراف الآية (37). (¬9) الإبانة (2/ 10/200/ 1730).

مطرف بن عبد الله (95 هـ)

وَقَلْبِهِ} (¬1)؛ قال: يحول بين المؤمن والكفر، وبين الكافر والإيمان. (¬2) مُطَرِّف بن عبد الله (¬3) (95 هـ) مطرف بن عبد الله بن الشِّخِّير الإمام القدوة الحجة، أبو عبد الله العامري الحَرَشِيّ البصري، كان رأسا في العلم والعمل، وله جلالة في الإسلام ووقع في النفوس. روى عن أبيه رضي الله عنه، وعلي وعمار وأبي ذر وعثمان وعائشة وغيرهم. وروى عنه الحسن البصري، وأخوه يزيد بن عبد الله وثابت البناني وغيرهم. من أقواله: إن الفتنة لا تجيء حين تجيء لتهدي، ولكن لتقارع المؤمن عن نفسه. وعن ثابت البناني أن مطرف بن عبد الله قال: لبثت في فتنة ابن الزبير تسعا أو سبعا ما أخبرت فيها بخبر ولا استخبرت فيها عن خبر. وعن حميد بن هلال قال: أتى مطرف بن عبد الله زمان ابن الأشعث ناس يدعونه إلى قتال الحجاج، فلما أكثروا عليه قال: أرأيتم هذا الذي تدعوني إليه، هل يزيد على أن يكون جهادا في سبيل الله؟ قالوا: لا، قال: فإني لا أخاطر بين هلكة أقع فيها وبين فضل أصيبه. وعنه قال: قال لي عمران بن حصين ألا ¬

(¬1) الأنفال الآية (24). (¬2) الإبانة (2/ 10/200/ 1729). (¬3) الإصابة (6/ 260 - 262) وطبقات ابن سعد (7/ 141 - 146) وحلية الأولياء (2/ 198 - 212) ووفيات الأعيان (5/ 211) والبداية والنهاية (9/ 69 - 70و140) وسير أعلام النبلاء (4/ 187 - 195) وتذكرة الحفاظ (1/ 64 - 65) وتهذيب الكمال (28/ 67 - 70) وشذرات الذهب (1/ 110 - 111) ومشاهير علماء الأمصار (88).

موقفه من المبتدعة:

أحدثك حديثا لعل الله أن ينفعك به في الجماعة، إني أراك تحب الجماعة، قال قلت: لأنا أحرص على الجماعة من الأرملة، لأني إذا كانت الجماعة عرفت وجهي. توفي رضي الله عنه سنة خمس وتسعين وقيل غيرها. موقفه من المبتدعة: - جاء في ذم الكلام عن مطرف قال: أكثر أتباع الدجال، اليهود وأهل البدع. (¬1) " التعليق: الله أكبر وسبحان الله ما أعظم فقه السلف، وفراستهم في المبتدعة، وقد صارت أفعالهم الآن لا فرق بينها وبين الدجال في قليل ولا كثير، فعمدة الدجال في ترويج دجله هو الكذب والحيل بجميع أنواعها، وقد كان المبتدعة كذلك، وكذلك أشبهوا اليهود في تعصبهم الأعمى ليهوديتهم الضالة، وكذلك المبتدعة يتعصبون لبدعتهم الممقوتة. نرجو الله العفو والعافية. - جاء في السير عن مطرف قال: كنا نأتي زيد بن صوحان فكان يقول: يا عباد الله، أكرموا وأجملوا، فإنما وسيلة العباد إلى الله بخصلتين: الخوف والطمع. فأتيته ذات يوم وقد كتبوا كتابا، فنسقوا كلاما من هذا النحو: إن الله ربنا، ومحمد نبينا، والقرآن إمامنا، ومن كان معنا كنا وكنا. ¬

(¬1) ذم الكلام (ص.192).

ومن خالفنا كانت يدنا عليه وكنا وكنا. قال: فجعل يعرض الكتاب عليهم رجلا رجلا، فيقولون: أقررت يا فلان؟ حتى انتهوا إلي فقالوا: أقررت يا غلام؟ قلت: لا، قال -يعني زيدا: لا تعجلوا على الغلام، ما تقول يا غلام؟ قلت: إن الله قد أخذ علي عهدا في كتابه، فلن أحدث عهدا سوى العهد الذي أخذه علي. فرجع القوم من عند آخرهم ما أقر منهم أحد، وكانوا زهاء ثلاثين نفسا. (¬1) - وجاء في أصول الاعتقاد عن مطرف بن الشخير قال: لو كانت هذه الأهواء كلها هوى واحدا لقال القائل الحق فيه، فلما تشعبت واختلفت عرف كل ذي عقل أن الحق لا يتفرق. (¬2) - وفي الإبانة: عن غيلان قال: قال مطرف: إن الفتنة لا تجيء تهدي الناس ولكن لتقارع المؤمن عن دينه. (¬3) - وفيها: عن أبي عقيل قال: قلت لأبي العلاء: ما كان مطرف يصنع إذا هاج هيج؟ قال: كان لا يقرب لها صفا ولا جماعة حتى تنجلي عما انجلت. (¬4) - وفي ذم الكلام: عن أيوب قال: قال رجل لمطرف إنا نريد كتاب الله، فقال مطرف: إنا لا نريد بكتاب الله بدلا، ولكن نريد من هو أعلم به منا. (¬5) ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (4/ 192). (¬2) أصول الاعتقاد (1/ 169/312) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 921) وذكره الشاطبي في الاعتصام (1/ 82 - 83). (¬3) الإبانة (2/ 4/593/ 755). (¬4) الإبانة (2/ 4/595/ 760). (¬5) ذم الكلام (ص.80) وكتاب العلم أبي خيثمة (ص.97) وجامع بيان العلم (2/ 1193).

موقفه من الخوارج:

موقفه من الخوارج: جاء في السير: وقال حميد بن هلال: أتت الحرورية مطرف بن عبد الله يدعونه إلى رأيهم، فقال: يا هؤلاء لو كان لي نفسان بايعتكم بإحداهما وأمسكت الأخرى، فإن كان الذي تقولون هدى أتبعتها الأخرى، وإن كان ضلالة، هلكت نفس وبقيت لي نفس، ولكن هي نفس واحدة لا أغرر بها. (¬1) " التعليق: رضي الله عن هذا الإمام العلم، ونحن نقول: لو كانت لنا نفسان لقاتلناكم بالأولى فإذا قضت نحبها أتبعناها الثانية، وذلك أنكم استحللتم دماء المسلمين وقتلتم خيارهم، وعتوتم في الأرض فسادا، وقد أمرنا في الأحاديث الصحيحة بقتالكم. موقفه من القدرية: - روى ابن بطة بسنده: عن مطرف؛ قال: ليس لأحد أن يصعد فوق بيت، فيلقي نفسه، ثم يقول: قدر لي. ولكنا نتقي ونحذر، فإن أصابنا شيء؛ علمنا أنه لن يصيبنا إلا ما كتب لنا. (¬2) - وفيها عنه أنه كان يقول: لو كان الخير في كف أحدنا ما استطاع أن يفرغه في قلبه حتى يكون الله هو الذي يفرغه في قلبه. (¬3) ¬

(¬1) السير (4/ 195) وعند ابن سعد في الطبقات (7/ 143). (¬2) الإبانة (2/ 10/196/ 1713). (¬3) الإبانة (2/ 10/196/ 1714).

-وفيها: عنه قال: إنا لم نوكل إلى القدر، وإليه نصير. (¬1) - وفيها: عنه قال لابني أخيه: يا ابني أخي، فوضا أمركما إلى الله عز وجل تستريحا. (¬2) - وفيها: عن يوسف بن أسباط قال: كان مطرف بن عبد الله بن الشخير يدعو بهؤلاء الدعوات الخمس الكلمات: اللهم إني أعوذ بك من شر الشيطان، ومن شر السلطان، ومن شر ما تجري به الأقلام، وأعوذ بك من أن أقول حقا هو لك رضى أبتغي به حمد سواك، وأعوذ بك من أن أتزين للناس بشيء يشنيني عندك، وأعوذ بك أن تجعلني عبرة لغيري، وأعوذ بك أن يكون أحد هو أسعد بما علمتني مني. (¬3) - وفي أصول الاعتقاد عن مطرف قال: نظرت فإذا ابن آدم ملقى بين يدي الله وبين يدي إبليس. فإن شاء الله أن يعصمه عصمه، وإن تركه ذهب به إبليس. (¬4) - وفيه: عن ثابت: أن مطرف قال: نظرت في هذا الأمر ممن كان، فإذا بدؤه من الله عز وجل وإذا تمامه على الله، ونظرت ما ملاكه فإذا ملاكه الدعاء. (¬5) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 10/196/ 1716) والشريعة (1/ 426/518). (¬2) الإبانة (2/ 10/197 - 198/ 1721). (¬3) الإبانة (2/ 11/280/ 1915). (¬4) أصول الاعتقاد (4/ 755 - 756/ 1256) والإبانة (2/ 10/195 - 196/ 1712) والشريعة (1/ 426/516). (¬5) أصول الاعتقاد (4/ 756/1257) والإبانة (2/ 10/195/ 1711).

إبراهيم النخعي (96 هـ)

إبراهيم النخعي (¬1) (96 هـ) إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود، النَّخَعِي اليماني ثم الكوفي، كنيته أبو عمران، وأمه مليكة بنت يزيد، أخت الأسود بن يزيد وعبد الرحمن بن يزيد. روى عن خاله الأسود بن يزيد ومسروق وعلقمة بن قيس وعبيدة السلماني وغيرهم. وروى عنه إبراهيم بن مهاجر البجلي، وسليمان الأعمش وسماك بن حرب وغيرهم. كان النخعي مفتي أهل الكوفة هو والشعبي في زمانهما، وكان رجلا صالحا فقيها متوقيا، قليل التكلف، وهو مختف من الحجاج. عن طلحة بن مصرف قال: قلت لإبراهيم النخعي: يا أبا عمران من أدركت من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: دخلت على أم المؤمنين عائشة. وكان يدخل على عائشة مع الأسود وعلقمة. وعن عاصم قال: تبعت الشعبي فمررنا بإبراهيم، فقام له إبراهيم عن مجلسه، فقال له الشعبي: أما إني أفقه منك حيا، وأنت أفقه مني ميتا، وذاك أن لك أصحابا يلزمونك، فيحيون علمك. قال إبراهيم: تكلمت ولو وجدت بدا لم أتكلم، وإن زمانا أكون فيه فقيها لزمان سوء. توفي رحمه الله في سنة ست وتسعين في خلافة الوليد بن عبد الملك بالكوفة. قال الشعبي لما أخبر بموته: أحمد الله أما إنه لم يخلف خلفه مثله، قال: وهو ميتا أفقه منه حيا. ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (6/ 270 - 284) والحلية (4/ 219 - 240) ومشاهير علماء الأمصار (101) وسير أعلام النبلاء (4/ 520 - 529) ووفيات الأعيان (1/ 25 - 26) وتهذيب الكمال (2/ 233 - 240) والبداية والنهاية (9/ 140) وتذكرة الحفاظ (1/ 73 - 74) وشذرات الذهب (1/ 11).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: - جاء في الشريعة وطبقات الحنابلة قال أبو حمزة لإبراهيم: يا أبا عمران أي هذه الأهواء أعجب إليك؟ فإني أحب أن آخذ برأيك وأقتدي بك قال: ما جعل الله في هذه الأهواء مثقال ذرة من خير، وما هي إلا زينة من الشيطان. وما الأمر إلا الأمر الأول. وقد جعل الله على الحق نورا يكشف به العلماء ويصرف به شبهات الخطأ، وإن الباطل لا يقوم للحق. قال الله عز وجل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (¬1) فهذه لكل واصف كذب إلى يوم القيامة، وإن أعظم الكذب أن تكذب على الله. (¬2) - وروى ابن وضاح عنه قال: لا تجالسوا أصحاب الأهواء ولا تكلموهم، فإني أخاف أن ترتد قلوبكم. (¬3) - وجاء في ذم الكلام عنه قال: إن العبد إذا أعيى الشيطان، قال: فمن أين فمن أين؟ ثم أتاه من هواه. (¬4) - وروى ابن بطة عنه قال: كانوا يرون التلون في الدين من شك القلوب في الله. (¬5) ¬

(¬1) الأنبياء الآية (18). (¬2) طبقات الحنابلة (1/ 71) والاعتصام (2/ 688) والباعث (74) وطرفه الأول في الشريعة (1/ 192/131). (¬3) ابن وضاح (ص.108) والإبانة (2/ 3/438 - 439/ 374) وذكره الشاطبي في الاعتصام (1/ 113). (¬4) ذم الكلام (ص.222). (¬5) الإبانة (2/ 3/505/ 575).

- وجاء في السنة لعبد الله بن الإمام أحمد عن المغيرة قال: مر إبراهيم التيمي بإبراهيم النخعي فسلم، فلم يرد عليه. (¬1) - وجاء في الإبانة: عن أبي حمزة عن إبراهيم قال: لو أن أصحاب محمد مسحوا على ظفر لما غسلته التماس الفضل في اتباعهم. (¬2) - وفيها: عنه أيضا عن إبراهيم قال: لو بلغني أنهم لم يجاوزوا بالوضوء ظفرا لما جاوزت، وكفى بنا على قوم إزراء أن نخالف أعمالهم. (¬3) - وفيها: عن فضيل عن إبراهيم قال: كانوا لا يسألون إلا عن الحاجة. (¬4) - وفيها: عن الأعمش قال: قال إبراهيم: لا تجالسوا أهل الأهواء فإن مجالستهم تذهب بنور الإيمان من القلوب، وتسلب محاسن الوجوه، وتورث البغضة في قلوب المؤمنين. (¬5) - وفيها: عن أبي نعيم الفضل بن دكين قال: حدثنا محل، قال: دخلت على إبراهيم أنا والمغيرة، ومعنا رجل آخر فذكرنا له من قولهم فقال: لا تكلموهم ولا تجالسوهم، وقال لأعرفن إذا قمت من عندي ولا ترجعن إلي. (¬6) - وفيها: عن ابن عون عن إبراهيم قال: لا تجالس بني فلان فإنهم ¬

(¬1) السنة (ص.90) واللالكائي (5/ 1061/1808). (¬2) الإبانة (1/ 2/361/ 254). (¬3) الإبانة (1/ 2/361 - 362/ 255) والدارمي (1/ 72) وذكره ابن القيم في إعلام الموقعين (4/ 151). (¬4) الإبانة (1/ 2/409/ 319). (¬5) الإبانة (2/ 3/439/ 375). (¬6) الإبانة (2/ 3/449/ 410).

كذابون. (¬1) - وفيها: عن العوام بن حوشب: سمعت إبراهيم النخعي يقول في قوله عز وجل: {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} (¬2) قال: أغرى بعضهم ببعض في الخصومات والجدال في الدين. (¬3) - وجاء في ذم الكلام: وعنه قال في قوله تعالى: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} ما أرى الإغراء في هذه الأمة إلا الأهواء المتفرقة والبغضاء. (¬4) - وفي الإبانة: عن الحسن بن عمرو، عن إبراهيم، قال: ما خاصمت قط. (¬5) - وروى الدارمي عن الأعمش قال: ما سمعت إبراهيم يقول برأيه في شيء قط. (¬6) - وجاء في الفقيه والمتفقه: قال إبراهيم النخعي: الجماعة، هو الحق وإن كنت وحدك. (¬7) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/452/ 417). (¬2) المائدة الآية (14). (¬3) الإبانة (2/ 3/500/ 558) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 932). (¬4) ذم الكلام (ص.201). (¬5) الإبانة (2/ 3/524 - 525/ 631). (¬6) الدارمي (1/ 47) وذم الكلام (ص.99). (¬7) الفقيه والمتفقه (2/ 404 - 405).

موقفه من الصوفية:

- وفي ذم الكلام: عن مغيرة عن إبراهيم قال: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذونه -زاد هشيم- كنا إذا أتينا الرجل لنأخذ عنه نظرنا إلى سمته وإلى صلاته، ثم أخذنا عنه. هذا كله من قول إبراهيم. (¬1) - وفيه: عن أبي حمزة الأعور قال: لما كثرت المقالات بالكوفة أتيت إبراهيم النخعي فقلت: يا أبا عمران ما ترى ما ظهر بالكوفة من المقالات؟ فقال: أوه رققوا قولا، واخترعوا دينا من قبل أنفسهم، ليس في كتاب الله ولا من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإياك وإياهم. (¬2) - وفي سنن الدارمي: قال الأعمش: كان إبراهيم لا يرى غيبة للمبتدع. (¬3) - وجاء في الإبانة عنه قال: إن القوم لم يدخر عنهم شيء خبيء لكم لفضل عندكم. (¬4) موقفه من الصوفية: جاء في تلبيس إبليس عن سفيان بن عيينة قال: سمعت خلف بن حوشب يقول: كان خوات يرعد عند الذكر، فقال له إبراهيم: إن كنت تملكه فما أبالي أن لا أعتد بك، وإن كنت لا تملكه فقد خالفت من كان قبلك، (وفي رواية: فقد خالفت من هو خير منك). ¬

(¬1) ذم الكلام (ص.292) والدارمي (1/ 112) والحلية (4/ 225). (¬2) ذم الكلام (ص.204). (¬3) الدارمي (1/ 109) وأصول الاعتقاد (1/ 158/276). (¬4) الإبانة (2/ 7/892/ 1245) والسنة لعبد الله (24) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 946/1808).

موقفه من الجهمية:

" التعليق: قال ابن الجوزي رحمه الله: إبراهيم هو النخعي الفقيه وكان متمسكا بالسنة شديد الاتباع للأثر، وقد كان خوات من الصالحين البعداء عن التصنع، وهذا خطاب إبراهيم له، فكيف بمن لا يخفى حاله في التصنع؟! (¬1) اهـ. قال جامعه: ولو أدرك ابن الجوزي أهل هذا الزمان، ماذا يقول؟ وماذا يسمي كتابه الذي وضعه من أجل التنبيه على كثير من الأخطاء التي وقعت فيها الأمة الإسلامية؟ والله المستعان. موقفه من الجهمية: روى الآجري في الشريعة: عن حماد قال: سألت إبراهيم عن هذه الآية: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} (¬2) قال: حدثت أن المشركين قالوا لمن دخل النار: ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون؟ فيغضب الله عز وجل لهم، فيقول للملائكة والنبيين: اشفعوا، فيشفعون فيخرجون من النار، حتى إن إبليس ليتطاول رجاء أن يخرج معهم، فعند ذلك ود الذين كفروا لو كانوا مسلمين. (¬3) موقفه من الخوارج: - جاء في سير أعلام النبلاء: قال أبو حمزة الثمالي: كنت عند إبراهيم النخعي، فجاء رجل فقال: يا أبا عمران، إن الحسن البصري يقول: إذا تواجه ¬

(¬1) تلبيس إبليس (ص.315 - 316). (¬2) الحجر الآية (2). (¬3) الشريعة (2/ 146/827).

موقفه من المرجئة:

المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. فقال رجل: هذا من قاتل على الدنيا، فأما قتال من بغى، فلا بأس به. فقال إبراهيم: هكذا قال أصحابنا عن ابن مسعود، فقالوا له: أين كنت يوم الزاوية؟ قال: في بيتي، قالوا: فأين كنت يوم الجماجم؟ قال: في بيتي، قالوا: فإن علقمة شهد صفين مع علي، فقال: بخ بخ، من لنا مثل علي بن أبي طالب ورجاله. (¬1) موقفه من المرجئة: - عن أبي حمزة الثمالي الأعور قال: قلت لإبراهيم: ما ترى في رأي المرجئة؟ فقال: أوه، لفقوا قولا، فأنا أخافهم على الأمة، والشر من أمرهم كثير، فإياك وإياهم. (¬2) - وعن المغيرة عنه قال: سؤال الرجل الرجل: أمؤمن أنت؟ بدعة. (¬3) - وعن أبي حمزة قال: سأل رجل إبراهيم النخعي أمؤمن أنت؟ قال ما أشك في إيماني، وسؤالك إياي عن هذا بدعة؟ (¬4) - وعنه قال: الخوارج أعذر عندي من المرجئة. (¬5) - وعنه قال: ما أعلم قوما بأحمق في رأيهم من هذه المرجئة، إنهم يقولون: مؤمن ضال، ومؤمن فاسق. (¬6) ¬

(¬1) السير (4/ 526). (¬2) الشريعة (1/ 307/330) والإبانة (2/ 892/1243). (¬3) السنة للخلال (4/ 130/1337) والسنة لعد الله (ص.87) والشريعة (1/ 304/324). (¬4) السنة لعبد الله (ص.95). (¬5) السنة لعبد الله (ص.95). (¬6) السنة لعبد الله (ص.97).

- وعن ميمون بن أبي حمزة قال: قال لي إبراهيم النخعي: لا تدعوا هذا الملعون يدخل علي بعد ما تكلم في الإرجاء -يعني حمادا-. (¬1) - وعن عيسى بن علي الضبي، قال: كان رجل معنا يختلف إلى إبراهيم، فبلغ إبراهيم أنه قد دخل في الإرجاء، فقال له إبراهيم: إذا قمت من عندنا فلا تعد. (¬2) - وجاء في طبقات ابن سعد عن إبراهيم قال: إياكم وأهل هذا الرأي المحدث، يعني المرجئة. - وفيها عن محمد بن عبد الله الأسدي قال: سمعت محلا يروي عن إبراهيم قال: الإرجاء بدعة. - وفيها عن محل قال: كان رجل يجالس إبراهيم يقال له محمد، فبلغ إبراهيم أنه يتكلم في الإرجاء فقال له إبراهيم: لا تجالسنا. - وفيها عن محل قال: قلت لإبراهيم إنهم يقولون لنا مؤمنون أنتم؟ قال: إذا سألوكم فقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم، إلى آخر الآية. - وفيها عن محل قال: قال لنا إبراهيم: لا تجالسوهم، يعني المرجئة. - وفيها عن غالب أبي الهذيل أنه كان عند إبراهيم فدخل عليه قوم من المرجئة، قال: فكلموه فغضب وقال: إن كان هذا كلامكم فلا تدخلوا علي. ¬

(¬1) السنة لعبد الله (ص.108). (¬2) تلبيس إبليس (ص.22).

- وفيها عن الأعمش قال: ذكر عند إبراهيم المرجئة فقال: والله إنهم أبغض إلي من أهل الكتاب. (¬1) - وعن مغيرة قال: كان إبراهيم التيمي يدعو إلى هذا الرأي، فحدث بذلك إبراهيم النخعي فأتيته فقال: أخبرنا يا مغيرة هل يدعو إلى هذا الرأي أحدا، فإنه حلف لي بالله أن الله لم يطلع على قلبه أنه يرى هذا الرأي. وقد كنت سمعته يدعو إليه ولكن جعلت لا أخبر إبراهيم النخعي. (¬2) - وعن المغيرة قال: مر -يعني إبراهيم التيمي- بإبراهيم النخعي فسلم عليه فلم يرد عليه. (¬3) - وعن سعيد بن صالح -يعني الأسدي- قال: قال إبراهيم: لأنا لفتنة المرجئة أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة. (¬4) - وعنه قال: تركت المرجئة الدين أرق من ثوب سابري. (¬5) - وقال: إذا قيل لك أمؤمن أنت؟ فقل: لا إله إلا الله. (¬6) - وعنه قال: إذا قيل لك أمؤمن أنت؟ فقل: أرجو. (¬7) ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (6/ 273 - 274). (¬2) أصول الاعتقاد (5/ 1060/1805). (¬3) أصول الاعتقاد (5/ 1061/1808) والسنة لعبد الله (ص.90). (¬4) أصول الاعتقاد (5/ 1060 - 1061/ 1806) ونحوه في الشريعة (1/ 307 - 308/ 331) والإبانة (2/ 885/1221) والسنة لعبد الله (ص.84) والسنة للخلال (4/ 137/1360). (¬5) أصول الاعتقاد (5/ 1061/1807) والسنة لعبد الله (ص.84) والسنة للخلال (4/ 138/1361). (¬6) السنة لعبد الله (87) والسنة للخلال (4/ 129/1336) والشريعة (1/ 305/327) ونحوه في الإبانة (2/ 879/1208). (¬7) السنة لعبد الله (87) والإبانة (2/ 879/1209).

موقفه من القدرية:

- وعن الحسن بن عبد الله قال: سمعت إبراهيم يقول لذر: ويحك يا ذر ما هذا الدين الذي جئت به؟ قال ذر: ما هو إلا رأي رأيته. قال ثم سمعت ذرا يقول: إنه لدين الله الذي بعث به نوح. (¬1) - وعن إبراهيم النخعي أنه قال لمحمد بن السائب التيمي: ما دمت على هذا الرأي فلا تقربنا، وكان مرجئا. (¬2) موقفه من القدرية: - جاء في السنة لعبد الله عنه قال: إن آفة كل دين كان قبلكم أو قال: آفة كل دين، القدر. (¬3) - وفي الإبانة عن إبراهيم قال: كانوا يقولون النطفة التي قدر منها الولد لو ألقيت على صخرة لخرجت تلك النسمة منها. (¬4) - وفيها: عن إبراهيم {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} (¬5)؛ قال: بمضلين إلا من قدر له أن يصلى الجحيم. (¬6) ¬

(¬1) السنة لعبد الله (94). (¬2) الشريعة (3/ 579 - 580/ 2105) وما جاء في البدع لابن وضاح (144). (¬3) السنة (135) والإبانة (2/ 10/221/ 1801) والشريعة (1/ 431/532). (¬4) الإبانة (2/ 9/47/ 1442). (¬5) الصافات الآية (162). (¬6) الإبانة (1/ 8/271 - 272/ 1284) والشريعة (1/ 431/531).

الحسن بن الحسن بن علي (97 هـ)

الحسن بن الحسن بن علي (¬1) (97 هـ) الحسن ابن سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أبي محمد الحسن ابن أمير المؤمنين، أبي الحسن علي بن أبي طالب، الهاشمي العلوي، المدني، أبو محمد. روى عن أبيه الحسن بن علي، وابن عمه عبد الله بن جعفر، وبنت عمه فاطمة بنت الحسين. روى عنه جماعة منهم: أبناؤه إبراهيم والحسن وعبد الله، وابن عمه الحسن بن محمد بن الحنفية، وإسحاق بن يسار المدني. توفي سنة سبع وتسعين. موقفه من المشركين: - عن سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى. فقال: هلم إلى العشاء، فقلت: لا أريده. فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ قلت: سلمت على النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال: إذا دخلت المسجد فسلم. ثم قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم" (¬2)، ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء. (¬3) - وعن ابن عجلان عن رجل يقال له سهيل عن الحسن بن الحسن بن علي قال: رأى قوما عند القبر فنهاهم وقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (5/ 319 - 320) وتهذيب الكمال (6/ 89 - 95) والبداية والنهاية (9/ 170 - 171) وسير أعلام النبلاء (4/ 483 - 487) وتهذيب التهذيب (2/ 263) والوافي بالوفيات (11/ 416 - 418). (¬2) تقدم تخريجه ضمن مواقف علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب سنة (93 هـ). (¬3) الاقتضاء (1/ 298 - 299) والسير (4/ 483 - 484).

عبد الله بن محيريز (99 هـ)

بيوتكم قبورا، وصلوا علي حيث ما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني. (¬1) عبد الله بن مُحَيْرِيز (¬2) (99 هـ) عبد الله بن محيريز بن جُنَادَة، الإمام الفقيه، القدوة الرباني، أبو مُحَيْرِيز، الجمحي، المكي. من رهط أبي محذورة، وكان يتيما في حجره، نزل الشام، وسكن بيت المقدس. حدث عن عبادة بن الصامت، وأبي محذورة المؤذن زوج أمه، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبي سعيد الخدري وآخرين. وروى عنه طائفة منهم: خالد بن معدان، ومكحول، وحسان بن عطية والزهري، وأبو زرعة يحيى السيباني وغيرهم. قال رجاء بن حيوة: إن يفخر علينا أهل المدينة بعابدهم ابن عمر، فإنا نفخر عليهم بعابدنا ابن محيريز. وعن خالد بن دريك قال: كانت في ابن محيريز خصلتان ما كانتا في أحد ممن أدركت من هذه الأمة، كان من أبعد الناس أن يسكت عن حق بعد أن يتبين له حتى يتكلم فيه، غضب في الله من غضب، ورضي فيه من رضي، وكان من أحرص الناس أن يكتم من نفسه أحسن ما عنده. وقال الأوزاعي: كان ابن أبي زكريا يقدم ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق (3/ 577/6726) وابن أبي شيبة (2/ 150/7542) وإسماعيل بن إسحاق في فضل الصلاة (30) وابن خزيمة في حديث علي بن حجر (436) وابن عساكر في تاريخ دمشق (13/ 61 - 62). وهذا مرسل كما قال الذهبي في السير (4/ 484) لكن يشهد له حديث علي المتقدم. (¬2) الإصابة (5/ 208 - 209) والاستيعاب (3/ 983 - 985) وتهذيب الكمال (16/ 106 - 111) وتذكرة الحفاظ (1/ 68 - 69) والحلية (5/ 138 - 149) والبداية والنهاية (9/ 185 - 186) والسير (4/ 494 - 496) والعقد الثمين (5/ 281 - 282) وشذرات الذهب (1/ 116) والوافي بالوفيات (17/ 599 - 600).

موقفه من المبتدعة:

فلسطين، فيلقى ابن محيريز فتتقاصر إليه نفسه لما يرى من فضل ابن محيريز. وقال ضمرة الشيباني: كان عبد الله بن الديلمي من أبصر الناس لإخوانه، فذكر ابن محيريز في مجلس هو فيه، فقال رجل: كان بخيلا، فغضب ابن الديلمي وقال: كان جوادا حيث يحب الله، بخيلا حيث تحبون. وعن رجاء بن أبي سلمة قال: كان ابن محيريز يجيء إلى عبد الملك بصحيفة فيها النصيحة يقرئه ما فيها، فإذا فرغ منها أخذ الصحيفة. وقال يحيى السيباني: قال لنا ابن محيريز: إني أحدثكم فلا تقولوا: حدثنا ابن محيريز، إني أخشى أن يصرعني ذلك القول مصرعا يسوؤني. قال ابن محيريز: لأن يكون في جلدي برص أحب إلي من أن ألبس ثوب حرير. توفي رحمه الله سنة تسع وتسعين. موقفه من المبتدعة: جاء في تلبيس إبليس عن عبد الله بن محيريز قال: يذهب الدين سنة سنة كما يذهب الحبل قوة قوة. (¬1) سليمان بن عبد الملك (¬2) (99 هـ) سليمان بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، القرشي، الأموي، أمير المؤمنين، أبو أيوب. بويع بعد أخيه الوليد سنة ست وتسعين. روى عن أبيه وعبد الرحمن بن هنيدة، وروى عنه ابنه عبد الواحد والزهري. وقال يزيد ¬

(¬1) تلبيس إبليس (ص.22). (¬2) تاريخ الطبري (4/ 57 - 59) وسير أعلام النبلاء (5/ 111 - 113) وتاريخ الإسلام (حوادث 81 - 100/ص.377) ووفيات الأعيان (2/ 420 - 427) وفوات الوفيات (2/ 68 - 70) وشذرات الذهب (1/ 116).

موقفه من الجهمية:

ابن حازم: كان سليمان بن عبد الملك يخطبنا كل جمعة، لا يدع أن يقول: أيها الناس إنما أهل الدنيا على رحيل لم تمض بهم نية ولم تطمئن لهم دار حتى يأتي وعد الله وهم على ذلك، لا يدوم نعيمها ولا تؤمن فجائعها، ولا يتقى من شر أهلها، ثم قرأ: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} (¬1). وكان رحمه الله ينهى الناس عن الغناء. وعن ابن سيرين قال: يرحم الله سليمان بن عبد الملك، افتتح خلافته بإحيائه الصلاة لوقتها، واختتمها باستخلافه عمر بن عبد العزيز. توفي رحمه الله سنة تسع وتسعين. موقفه من الجهمية: جاء في السنة لعبد الله عن محمد بن قيس قال: إن فضل القرآن على الكلام كفضل الخالق على سائر خلقه. قال محمد بن قيس سمعت سليمان بن عبد الملك يخطب بها على المنبر. (¬2) طلق بن حبيب (¬3) (قبل 100 هـ) طَلْق بن حَبِيب، الموفق النجيب، والمتعبد اللبيب، العَنَزِي، بصري زاهد كبير، من العلماء العاملين. روى عن أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، ¬

(¬1) الشعراء الآيتان (205و207). (¬2) السنة لعبد الله (28). (¬3) طبقات ابن سعد (7/ 227) والحلية (3/ 63 - 75) والتاريخ الكبير (4/ 359) والجرح والتعديل (4/ 440 - 491) والسير (4/ 601 - 603) وتهذيب الكمال (13/ 451 - 454).

وجندب بن عبد الله، وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص، والأحنف بن قيس، وبشير ابن كعب العدوي، وغيرهم. وعنه جماعة منهم: الأعمش، وطاووس، وأبو العالية البَرَّاء، وأيوب السختياني، وبكر بن عبد الله المزني. قال أيوب: ما رأيت أحدا أعبد من طلق بن حبيب. عن طاووس قال: كنت أطوف معه، فذكر وحلف، ما رأيت أحدا من الناس أحسن صوتا بالقرآن من طلق بن حبيب، وكان ممن يخشى الله. عن بكر المزني قال: لما كانت فتنة ابن الأشعث، قال طلق بن حبيب: اتقوها بالتقوى، فقيل له: صف لنا التقوى؟ فقال: العمل بطاعة الله على نور من الله رجاء ثواب الله، وترك معاصي الله على نور من الله مخافة عذاب الله. قال الذهبي: أبدع وأوجز، فلا تقوى إلا بعمل، ولا عمل إلا بترو من العلم والاتباع، ولا ينفع ذلك إلا بالإخلاص لله، لا ليقال: فلان تارك للمعاصي بنور الفقه، إذ المعاصي يفتقر اجتنابها إلى معرفتها، ويكون الترك خوفا من الله، لا ليمدح بتركها، فمن داوم على هذه الوصية فقد فاز. قال طلق: إن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العباد، وإن نعم الله أكثر من أن تحصى، ولكن أصبحوا تائبين، وأمسوا تائبين. قال ابن الأعرابي: كان يقال: فقه الحسن، وورع ابن سيرين، وحلم مسلم بن يسار، وعبادة طلق، وكان طلق يتكلم على الناس ويعظ. وقد كان رحمه الله يرى الإرجاء، وقد تقدم قريبا موقف سعيد بن جبير منه. كانت وفاته ما بين التسعين والمائة.

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: جاء في الإبانة: عن سليمان بن عتيق، قال: لما وقعت الفتنة، قال طلق ابن حبيب: اتقوها بالتقوى، قالوا: وما التقوى؟ قال: أن تعمل بطاعة الله على نور من نور الله رجاء ثواب الله، والتقوى ترك معاصي الله على نور من الله خوف عقاب الله. (¬1) موقف السلف من ذر الهمداني المرجئي (مات قبل 100 هـ) قال الإمام أحمد: لا بأس به، هو أول من تكلم في الإرجاء. (¬2) وقال المغيرة: سلم ذر على إبراهيم النخعي فلم يرد عليه لأنه كان يرى الإرجاء. (¬3) وقال ذر: قد شرعت شيئا -أو قال: دينا- أخاف أن يتخذ سنة. (¬4) عن أبي المختار الطائي: شكا ذر الهمداني سعيد بن جبير إلى أبي البختري الطائي، فقال: مررت فسلمت عليه فلم يرد علي فقال: أبو البختري لسعيد بن جبير في ذلك، فقال سعيد: إن هذا يحدث كل يوم دينا، والله لا كلمته أبدا. (¬5) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 4/598/ 766) والسير (4/ 601). (¬2) الميزان (2/ 32/ت2697). (¬3) السنة لعبد الله (90). (¬4) التنبيه والرد للملطي (ص.154). (¬5) السنة لعبد الله (90) وأصول الاعتقاد (5/ 1062 - 1063/ 1812) والإبانة (2/ 891/1240).

القاسم بن مخيمرة (100 هـ)

عن ابن عون قال: كان إبراهيم -أي النخعي- يعيب على ذر قوله في الإرجاء. (¬1) وقال إبراهيم: إذا لقيت ذرا فتنصل إلي منه. (¬2) عن العلاء بن عبد الله بن رافع أن ذرا أبا عمر أتى سعيد بن جبير يوما في حاجة قال: فقال: لا حتى تخبرني على أي دين أنت اليوم أو رأي أنت اليوم، فإنك لا تزال تلتمس دينا قد أضللته، ألا تستحي من رأي أنت اليوم أكبر منه. (¬3) القاسم بن مُخَيْمِرَة (¬4) (100 هـ) الإمام القدوة، أبو عروة الهمداني الكوفي نزيل دمشق. حدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي سعيد الخدري، وأبي أمامة الباهلي. وروى عنه الأوزاعي وأبو إسحاق السبيعي، وعلقمة بن مرثد. عن القاسم بن مخيمرة قال: لم يجتمع على مائدتي لونان من طعام قط، وما أغلقت بابي قط ولي خلفه هم. قال الأوزاعي: كان القاسم يقدم علينا مرابطا متطوعا، وسمعته يقول: لأن أطأ على سنان محمي ينفذ من قدمي أحب إلي من أن أطأ على قبر مؤمن متعمدا. توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز سنة مائة. ¬

(¬1) السنة لعبد الله (84). (¬2) التنبيه والرد للملطي (ص.154). (¬3) السنة لعبد الله (89) والسنة للخلال (4/ 139/1364). (¬4) السير (5/ 201) وتهذيب الكمال (23/ 442) وتهذيب التهذيب (8/ 337) وطبقات ابن سعد (6/ 303).

موقفه من القدرية:

موقفه من القدرية: جاء في الإبانة: عن عبد الله بن العلا بن زبر قال: سمعت القاسم بن مخيمرة يقول لرجل يأتي التباعات: يا فلان، ويحك يا فلان، اتق الله وراجع ما كنت عليه من الإسلام، فقال: يا أبا عروة. اسمع مني حتى أكلمك؛ فقال القاسم: لا حاجة لي في كلامك، وكان رجلا يتهم بالقدر. (¬1) الحسن بن محمد بن الحَنَفِيَّة (¬2) (100 هـ) الحسن بن محمد بن الحنفية، أبو محمد، وأمه جمال بنت قيس. كان من ظرفاء بني هاشم وأهل العقل منهم، وهو تابعي جليل. روى عن أبيه، وابن عباس، وجابر وسلمة بن الأكوع، وعدة. وروى عنه الزهري وعمرو بن دينار وموسى بن عبيدة وآخرون. وكان من علماء أهل البيت، قال فيه عمرو بن دينار: ما رأيت أحدا أعلم بما اختلف فيه الناس من الحسن بن محمد، ما كان زُهريُّكم إلا غلاما من غلمانه. من أقواله: إن أحسن رداء ارتديت به رداء الحلم، هو والله عليك أحسن من بردي حبرة، فإن لم تكن حليما فتحالم. ¬

(¬1) الإبانة (2/ 10/227/ 1820). (¬2) طبقات ابن سعد (5/ 328) والبداية والنهاية (9/ 140) والوافي بالوفيات (12/ 213 - 214) وتهذيب الكمال (6/ 316 - 323) والسير (4/ 130 - 131) وتهذيب التهذيب (2/ 320 - 321) والمعرفة والتاريخ (1/ 543 - 544) وشذرات الذهب (1/ 121).

موقفه من القدرية:

توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز ولم يكن له عقب. موقفه من القدرية: جاء في أصول الاعتقاد عن أبي الضحى، قال الحسن بن محمد بن علي: لا تجالسوا أهل القدر. (¬1) عبد الله بن الديلمي (¬2) (100 هـ) عبد الله بن فَيْرُوز الدَّيْلَمِيّ، أبو بِشْر، كان يسكن بيت المقدس. روى عن أبيه، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وغيرهم. وعنه ربيعة بن يزيد على خلاف فيه، وأبو إدريس الخولاني، وعروة ابن رويم، وغيرهم. قال ابن حجر: ذكره ابن قانع في معجم الصحابة، وأبو زرعة الدمشقي في تابعي أهل الشام، وأما ابن حبان فقال: هو عبد الله بن ديلم بن هوشع الحميري عداده في أهل مصر، كذا قال. وروى ابن سيرين عنه قال: كنت ثالث ثلاثة ممن يخدم معاذ بن جبل. توفي عام مائة. موقفه من المبتدعة: - روى اللالكائي بسنده إلى عبد الله بن الديلمي قال: إن أول ذهاب الدين ترك السنة، يذهب الدين سنة سنة كما يذهب الحبل قوة قوة. (¬3) - وروى ابن وضاح: عن عبد الله بن الديلمي قال: ما ابتدعت بدعة إلا ازدادت مضيا، ولا تركت سنة إلا ازدادت هربا. (¬4) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 764 - 765/ 1278) والإبانة (2/ 10/230/ 1829). (¬2) تهذيب الكمال (15/ 435 - 437) والإصابة (5/ 204 - 205) وتهذيب التهذيب (5/ 358 - 359) وتقريب التهذيب (1/ 440). (¬3) أصول الاعتقاد (1/ 104/127) والدارمي (1/ 45) والإبانة (1/ 2/350/ 226). (¬4) ما جاء في البدع (ص.85).

القرن 2

أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز (¬1) (101 هـ) عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، أمير المؤمنين، أبو حفص القرشي الأموي المدني ثم المصري، الخليفة الزاهد الراشد أشج بني أمية. كان واحد أمته في الفضل، ونجيب عشيرته في العدل، جمع زهدا وعفافا، وورعا وكفافا، شغله آجل العيش عن عاجله وألهاه إقامة العدل عن عاذله، كان للرعية أمنا وأمانا، وعلى من خالفه حجة وبرهانا، كان مفوها عليما، ومفهما حكيما. حدث عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، والسائب بن يزيد وسعيد بن المسيب وعروة، وأبي سلمة بن عبد الرحمن وغيرهم. وعنه جماعة منهم: أبو سلمة أحد شيوخه، ورجاء بن حيوة وابن المنكدر والزهري، وأيوب السختياني ويحيى بن سعيد الأنصاري. روى ضمام ابن إسماعيل عن أبي قبيل: أن عمر بن عبد العزيز بكى وهو غلام صغير، فأرسلت إليه أمه، وقالت: ما يبكيك؟ قال: ذكرت الموت، قال وكان يومئذ قد جمع القرآن، فبكت أمه حين بلغها ذلك. عن عمرو بن ميمون قال: كانت العلماء مع عمر بن عبد العزيز تلامذة. وعنه أيضا قال: أتينا عمر بن عبد العزيز، ونحن نرى أنه يحتاج إلينا، فما كنا معه إلا تلامذة. وكذلك جاء عن مجاهد وغيره. قال حماد بن واقد: سمعت مالك بن دينار يقول: الناس يقولون عني ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (5/ 330 - 408) وتاريخ الطبري (6/ 565 - 573) والحلية (5/ 253 - 353) والكامل (5/ 58 - 66) وتذكرة الحفاظ (1/ 118 - 121) والسير (5/ 114 - 148) والبداية والنهاية (9/ 192 - 219) والوافي بالوفيات (22/ 506 - 510) والعقد الثمين (6/ 331 - 334) وتهذيب الكمال (21/ 432 - 447) وشذرات الذهب (1/ 112 - 119).

موقفه من المبتدعة:

زاهد، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فتركها. عن عمر بن ذر: حدثني عطاء بن أبي رباح، قال: حدثتني فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز أنها دخلت عليه، فإذا هو في مصلاه يده على خده، سائلة دموعه، فقلت: يا أمير المؤمنين. ألشيء حدث؟ قال: يا فاطمة. إني تقلدت أمر أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، والمظلوم المقهور، والغريب المأسور، والكبير وذي العيال في أقطار الأرض، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم، وأن خصمهم دونهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، فخشيت ألا تثبت لي حجة عند خصومته، فرحمت نفسي وبكيت. قال عطاء: كان عمر بن عبد العزيز يجمع كل ليلة الفقهاء فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة ويبكون. عن الأوزاعي قال: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز رسالة، لم يحفظها غيري وغير مكحول: أما بعد، فإنه من أكثر ذكر الموت، رضي من الدنيا باليسير، ومن عد كلامه من عمله، قل كلامه إلا فيما ينفعه. توفي سنة إحدى ومائة. موقفه من المبتدعة: - عن جعفر بن برقان أن عمر بن عبددالعزيز قال لرجل: وسأله عن الأهواء فقال: عليك بدين الصبي الذي في الكتاب والأعرابي واله عما سواهما. (¬1) - روى الدارمي بسنده إلى عبيد الله بن عمر أن عمر بن عبد العزيز ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (1/ 153/250) والإبانة (1/ 2/334/ 194) والشريعة (3/ 579/2104) وذم الكلام (ص.199)، الدارمي (1/ 91) والتلبيس (ص.109).

خطب فقال: يا أيها الناس إن الله لم يبعث بعد نبيكم نبيا، ولم ينزل بعد هذا الكتاب الذي أنزله عليه كتابا، فما أحل الله على لسان نبيه فهو حلال إلى يوم القيامة، وما حرم على لسان نبيه فهو حرام إلى يوم القيامة، ألا وإني لست بقاض، ولكني منفذ، ولست بمبتدع ولكني متبع، ولست بخير منكم، غير أني أثقلكم حملا، ألا وإنه ليس لأحد من خلق الله أن يطاع في معصية الله، ألا هل أسمعت. (¬1) - وعنه قال: ما أتاك به الزهري مما رواه فاشدد يديك به، وما أتاك به من رأيه فانبذه. (¬2) - قال مطرف بن عبد الله: سمعت مالك بن أنس إذا ذكر عنده الزائغون في الدين يقول: قال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها اتباع لكتاب الله تعالى، واستكمال لطاعة الله تعالى وقوة على دين الله، ليس لأحد من الخلق تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن تركها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا. (¬3) - عن الأوزاعي قال كتب عمر بن عبد العزيز أنه لا رأي لأحد في ¬

(¬1) سنن الدارمي (1/ 115) والطبقات لابن سعد (5/ 340) والمعرفة والتاريخ للفسوي (1/ 574 - 575). (¬2) ذم الكلام (ص.105). (¬3) الشريعة (1/ 174/98) والإبانة (2/ 3/511،513/ 594) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 1176) والفقيه والمتفقه (1/ 435 - 436) وأصول الاعتقاد (1/ 105 - 106/ 135) وانظر اجتماع الجيوش الإسلامية (ص.146) والاعتصام (1/ 116 - 117).

كتاب وإنما رأي الأئمة فيما لم ينزل فيه كتاب ولم تمض به سنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا رأي لأحد في سنة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) - كتب رجل إلى عمر بن عبد العزيز يسأله عن القدر، فكتب: أما بعد، أوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في أمره، واتباع سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وترك ما أحدث المحدثون بعد ما جرت به سنته، وكفوا مؤنته، فعليك بلزوم السنة، فإنها لك -بإذن الله- عصمة، ثم اعلم أنه لم يبتدع الناس بدعة إلا قد مضى قبلها ما هو دليل عليها أو عبرة فيها، فإن السنة إنما سنها من قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق، فارض لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، وهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وبفضل ما كانوا فيه أولى، فإن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم إنما حدث بعدهم ما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم، فإنهم هم السابقون، فقد تكلموا فيه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم من مقصر، وما فوقهم من محسر، وقد قصر قوم دونهم فجفوا، وطمح عنهم أقوام فغلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم. (¬2) ¬

(¬1) سنن الدارمي (1/ 114) وجامع بيان العلم وفضله (1/ 781) وابن بطة في الإبانة (1/ 1/262 - 263/ 100) وذم الكلام (ص.107) والآجري في الشريعة (1/ 182/113) والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 508) وهو في إعلام الموقعين (1/ 74). (¬2) أبو داود (5/ 18/4612) وبنحوه عند ابن بطة في الإبانة (1/ 2/321/ 163) والحلية (5/ 338) والشريعة (1/ 444 - 445) وذم الكلام (ص.198) وابن وضاح (ص.72 - 73) وانظر طبقات الحنابلة (1/ 70) والباعث (ص.71) والتلبيس (ص.110) والاعتصام (1/ 65 - 66).

" التعليق: رحمك الله يا أمير المؤمنين، ما أحسن ما قلت وأفضل ما فعلت! تخاطب عمالك بهذه الحكم الغالية، وتبين لهم أن الخير كل الخير في الالتزام بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن الذي سنها علم ما فيها من الخير وما في خلافها من الشر، وأن السابقين الأولين لم يعجزهم الابتداع في دين الله والزيادة فيه، ولكنهم يعلمون أن الخير كل الخير في اتباع سنته، والشر كل الشر في البدع والمحدثات، فبالله عليك قل لي: ماذا يقول المبتدعة في مثل هذه النصوص القاطعة الواضحة التي تسد باب الابتداع في وجوههم؟ - قال ابن عبد البر: روينا عن الحسن البصري أنه قال: ما ورد علينا قط كتاب عمر بن عبد العزيز إلا بإحياء سنة، أو إماتة بدعة، أو رد مظلمة. فهؤلاء هم الأئمة الذين هم لله في الأرض حجة. (¬1) - عن يحيى بن سعيد قال: قال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر الشك، أو قال: يكثر التحول. (¬2) - عن الأوزاعي قال: قال عمر بن عبد العزيز: إذا رأيت قوما يتناجون في دينهم بشيء دون العامة فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة. (¬3) ¬

(¬1) الاستذكار (1/ 389) وبنحوه في أصول الاعتقاد (1/ 62/16). (¬2) أصول الاعتقاد (1/ 144/216) والإبانة (2/ 3/503/ 569) والشريعة (1/ 189/122) وجامع بيان العلم (2/ 931) والفقيه والمتفقه (1/ 562) والدارمي (1/ 91) وشرح السنة (1/ 217). (¬3) أصول الاعتقاد (1/ 153/251) وجامع بيان العلم (2/ 932) وذم الكلام (ص.283) والدارمي (1/ 91) وتلبيس إبليس (ص.109).

- عن عمرو بن مهاجر أن عمر بن عبد العزيز كان يقول: إذا سمعت المراء فأقصر. (¬1) - عن عمر بن عبد العزيز قال: من عمل على غير علم، كان ما يفسد أكثر مما يصلح. (¬2) - عن ابن أبي ذئب قال: أخبرني مخلد بن خفاف، قال: ابتعت غلاما، فاستغللته، ثم ظهرت منه على عيب، فخاصمت فيه إلى عمر بن عبد العزيز، فقضى لي برده، وقضى علي برد غلته، فأتيت عروة فأخبرته، فقال أروح إليه العشية فأخبره أن عائشة أخبرتني: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في مثل هذا أن الخراج بالضمان (¬3). فعجلت إلى عمر فأخبرته ما أخبرني عروة عن عائشة عن النبي فقال عمر: فما أيسر علي من قضاء قضيته، الله يعلم أني لم أرد فيه إلا الحق، فبلغتني فيه سنة عن رسول الله، فأرد قضاء عمر، وأنفذ سنة رسول الله. فراح إليه عروة، فقضى لي أن آخذ الخراج من الذي قضى به علي له. (¬4) - عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيما حتى حدث فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم فغالوا فيهم بالرأي فضلوا ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/528/ 644). (¬2) الفقيه والمتفقه (1/ 109) وجامع بيان العلم وفضله (1/ 131) وانظر مجموع الفتاوى (2/ 382). (¬3) أحمد 6/ 49) وأبو داود (3/ 777 - 779/ 3508) والترمذي (3/ 581 - 582/ 1285) وقال: "هذا حديث حسن صحيح. والنسائي (7/ 292/4502) وابن ماجه (2/ 753 - 754/ 2242) والحاكم (2/ 15) وابن حبان الإحسان (11/ 299/4928) كلهم من طرق عن ابن أبي ذئب عن مخلد بن خفاف به وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه. (¬4) الشافعي في الرسالة (1232) ومن طريقه رواه البيهقي في السنن (5/ 321 - 322) والفقيه والمتفقه (1/ 506) ورواه أبو داود الطيالسي مختصرا (1424).

وأضلوا. (¬1) - قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: ألا وإني أعالج أمرا لا يعين عليه إلا الله، قد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصح عليه الأعجمي، وهاجر عليه الأعرابي، حتى حسبوه دينا لا يرون الحق غيره. (¬2) - روي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: أنه خطب الناس، فكان من جملة كلامه في خطبته أن قال: والله إني لولا أن أنعش سنة قد أميتت، أو أن أميت بدعة قد أحييت، لكرهت أن أعيش فيكم فواقا. (¬3) - عن عمر بن عبد العزيز: أنه كان يقول: اثنان لا نعاتبهما: صاحب طمع، وصاحب هوى، فإنهما لا ينزعان. (¬4) - وقال عمر بن عبد العزيز: لا تكن ممن يتبع الحق إذا وافق هواه، ويخالفه إذا خالف هواه، فإذا أنت لا تثاب على ما اتبعته من الحق، وتعاقب على ما خالفته. قال ابن تيمية: وهو كما قال -رضي الله عنه- لأنه في الموضعين إنما قصد اتباع هواه لم يعمل لله. (¬5) - وقد قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: الرأي فيهم -يعني في أهل الأهواء- أن يستتابوا فإن تابوا وإلا عرضوا على السيف وضربت رقابهم، ومن قتل منهم على ذلك فميراثه لورثته لأنهم مسلمون إلا أنهم قتلوا لرأيهم ¬

(¬1) ذم الكلام (ص.36) ومعرفة السنن للبيهقي (1/ 109). (¬2) الاعتصام (1/ 42). (¬3) الاعتصام (1/ 46) وبنحوه في طبقات ابن سعد (5/ 344). (¬4) الاعتصام (1/ 163). (¬5) مجموع الفتاوى (10/ 480).

موقفه من المشركين:

رأى السوء. (¬1) - عن هشام بن عروة أن عمر بن عبد العزيز أخذ قوما على شراب ومعهم رجل صائم فضربه معهم فقيل له: إن هذا صائم، فقال: {فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (¬2). (¬3) موقفه من المشركين: - جاء في الصارم: وكان عمر بن عبد العزيز يقول: يقتل، وذلك أنه من شتم النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو مرتد عن الإسلام ولا يشتم مسلم النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) - وفيه عن خليد أن رجلا سب عمر بن عبد العزيز فكتب عمر: إنه لا يقتل إلا من سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن اجلده على رأسه أسواطا، ولولا أني أعلم أن ذلك خير له لم أفعل. رواه حرب، وذكره الإمام أحمد، وهذا مشهور عن عمر بن عبد العزيز، وهو خليفة راشد، عالم بالسنة متبع لها. (¬5) موقفه من الرافضة: - جاء في أصول الاعتقاد: عن الحارث بن عتبة أن عمر بن عبد العزيز أتي برجل سب عثمان فقال ما حملك على أن سببته قال: أبغضته قال: أبغضت رجلا وسببته قال: فأمر به فجلد ثلاثين سوطا. (¬6) ¬

(¬1) أصول السنة (ص.308). (¬2) النساء الآية (140). (¬3) الإبانة (2/ 3/481/ 515). (¬4) الصارم (10). (¬5) الصارم (213). (¬6) أصول الاعتقاد (7/ 1340/2383) وهو في الصارم المسلول (571).

موقفه من الجهمية:

-وفيه عن إبراهيم بن ميسرة قال: ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنسانا قط إلا إنسانا شتم معاوية فضربه أسواطا. (¬1) - وفي السنة للخلال عن جحشة بن العلاء قال: كان عمر بن عبد العزيز إذا سئل عن صفين والجمل قال: أمر أخرج الله يدي منه ما أدخل لساني فيه. (¬2) موقفه من الجهمية: روى اللالكائي في أصول الاعتقاد: عن محمد بن كعب القرظي يحدث عن عمر بن عبد العزيز قال: إذا فرغ الله من أهل الجنة وأهل النار أقبل تبارك وتعالى في ظلل من الغمام ومعه الملائكة فيقف على أهل أول درجة من الجنة فيسلم عليهم فيردون عليه وهو قوله: {سلامٌ قولاً من ربٍ رحيم} (¬3). (¬4) موقفه من الخوارج: - روى ابن عبد البر بسنده إلى هشام بن يحيى الغساني عن أبيه قال: خرجت علَيَّ الحرورية بالموصل فكتبت إلى عمر بن عبد العزيز بمخرجهم، فكتب إلي يأمرني بالكف عنهم وأن أدعو رجالا منهم فأجعلهم على مراكب من البريد، حتى يقدموا على عمر فيجادلهم، فإن يكونوا على الحق اتبعهم وإن يكن عمر على الحق اتبعوه، وأمرني أن أرتهن منهم رجالا وأن أعطيهم ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (7/ 1341/2385) وهو في الصارم المسلول (571). (¬2) السنة للخلال (1/ 461 - 462) وفي جامع بيان العلم (2/ 934/1778) وهو في المنهاج (6/ 254). (¬3) يس الآية (58). (¬4) أصول الاعتقاد (3/ 500/771).

رهنا يكون في أيديهم حتى تنقضي الأمور وأجلهم في سيرهم ومقامهم ثلاثة أشهر فلما قدموا على عمر أمر بنزولهم ثم أدخلهم عليه فجادلهم حتى إذا لم يجد لهم حجة رجعت طائفة منهم، ونزعوا عن رأيهم وأجابوا عمر وقالت طائفة منهم: لسنا نجيبك حتى تكفر أهل بيتك وتلعنهم وتبرأ منهم، فقال عمر: إنه لا يسعكم فيما خرجتم له إلا الصدق، أعلموني هل تبرأتم من فرعون أو لعنتموه أو ذكرتموه في شيء من أموركم، قالوا: لا، قال: فكيف، وسعكم تركه ولم يصف الله عز وجل عبدا بأخبث من صفته إياه ولا يسعني ترك أهل بيتي ومنهم المحسن والمسيء والمخطئ والمصيب. (¬1) - وعن هشام بن يحيى الغساني عن أبيه أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه في الخوارج: إن كان من رأي القوم أن يسيحوا في الأرض من غير فساد على الأئمة، ولا على أحد من أهل الذمة، ولا يتناولون أحدا، ولا قطع سبيل من سبل المسلمين، فليذهبوا حيث شاؤوا، وإن كان رأيهم القتال، فوالله لو أن أبكاري من ولدي خرجوا رغبة عن جماعة المسلمين، لأرقت دماءهم ألتمس بذلك وجه الله والدار الآخرة. (¬2) - وله بسنده إلى محمد بن سليم -أحد بني ربيعة بن حنظلة بن عدي- قال: بعثني وعون بن عبد الله عمر بن عبد العزيز إلى خوارج خرجت بالجزيرة، فذكر الخبر في مناظرة عمر الخوارج وفيه قالوا: خالفت أهل بيتك وسميتهم الظلمة، فإما أن يكونوا على الحق أو يكونوا على الباطل، فإن زعمت أنك ¬

(¬1) جامع بيان العلم (2/ 965). (¬2) التمهيد (انظر فتح البر 1/ 470 - 471).

على الحق وهم على الباطل فالعنهم وتبرأ منهم، فإن فعلت فنحن منك وأنت منا، وإن لم تفعل فلست منا ولسنا منك، فقال عمر: إني قد علمت أنكم لم تتركوا الأهل والعشائر وتعرضتم للقتل والقتال إلا وأنتم ترون أنكم مصيبون، ولكنكم أخطأتم وضللتم وتركتم الحق، أخبروني عن الدين أواحد أو اثنان؟ قالوا: بلى، واحد، قال: فيسعكم في دينكم شيء يعجز عني؟ قالوا: لا، قال: أخبروني عن أبي بكر وعمر ما حالهما عندكم؟ قالوا: أفضل أسلافنا أبو بكر وعمر، قال: ألستم تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما توفي ارتدت العرب فقاتلهم أبو بكر فقتل الرجال وسبى الذرية والنساء؟ قالوا: بلى، قال عمر بن عبد العزيز: فلما توفي أبو بكر وقام عمر رد النساء والذراري على عشائرهم؟ قالوا: بلى، قال عمر: فهل تبرأ عمر من أبي بكر ولعنه بخلافه إياه؟ قالوا: لا، قال: فتتولونهما على اختلاف سيرتهما؟ قالوا: نعم، قال عمر: فما تقولون في بلال بن مرداس؟ قالوا: من خير أسلافنا بلال بن مرداس، قال: أفلستم قد علمتم أنه لم يزل كافا عن الدماء والأموال وقد لطخ أصحابه أيديهم في الدماء والأموال فهل تبرأت إحدى الطائفتين من الأخرى أو لعنت إحداهما الأخرى؟ قالوا: لا، قال: فتتولونهما جميعا على اختلاف سيرتهما؟ قالوا: نعم، قال عمر: فأخبروني عن عبد الله بن وهب الراسبي حين خرج من البصرة هو وأصحابه يريدون أصحابكم بالكوفة فمروا بعبد الله بن خباب فقتلوه وبقروا بطن جاريته، ثم عدوا على قوم من بني قطيعة فقتلوا الرجال وأخذوا الأموال وغلوا الأطفال في المراجل، وتأولوا قول الله عز وجل: {إِنَّكَ إِنْ إن تذرهم يضلوا

عبادك ولا يلدوا إلا فاجرًا كفارًا} (¬1)، ثم قدموا على أصحابهم من أهل الكوفة وهم كافون عن الفروج والدماء والأموال فهل تبرأت إحدى الطائفتين من الأخرى أو لعنت إحداهما الأخرى؟ قالوا: لا، قال عمر: فتتولونهما على اختلاف سيرتهما؟ قالوا: نعم، قال عمر: فهؤلاء الذين اختلفوا بينهم في السيرة والأحكام ولم يتبرأ بعضهم من بعض على اختلاف سيرتهم، ووسعهم ووسعكم ذلك ولا يسعني حين خالفت أهل بيتي في الأحكام والسيرة حتى ألعنهم وأتبرأ منهم؟ أخبروني عن اللعن أفرض هو على العباد؟ قالوا: نعم، قال عمر لأحدهما: متى عهدك بلعن فرعون؟ قال: ما لي بذلك عهد منذ زمان، فقال عمر: هذا رأس من رؤوس الكفر ليس له عهد بلعنه منذ زمان، وأنا لا يسعني أن لا ألعن من خالفتهم من أهل بيتي، وذكر تمام الخبر. (¬2) " التعليق: تأمل هذه المناظرة التي عقدها أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز مع طائفة الخوارج تر البون الشاسع بين العقل الراجح المنور بالعلم الغزير والعقل الطائش المظلم بالجهل الفاضح، وبين الوسطية والاعتدال في الأمور والتطرف والتنطع الذي يتصف به خوارج كل زمان. نسأل الله العافية. - وروى ابن أبي شيبة بسنده إلى مغيرة قال: خاصم عمر بن عبد العزيز ¬

(¬1) نوح الآية (27). (¬2) جامع بيان العلم وفضله (2/ 966 - 967).

الخوارج، فرجع من رجع منهم، وأبت طائفة منهم أن يرجعوا، فأرسل عمر رجلا على خيل وأمره أن ينزل حيث يرحلون، ولا يحركهم ولا يهيجهم، فإن قتلوا وأفسدوا في الأرض فاسط عليهم وقاتلهم، وإن هم لم يقتلوا ولم يفسدوا في الأرض فدعهم يسيرون. (¬1) - وله بسنده إلى عبيد بن الحسن: قال: قالت الخوارج لعمر بن عبد العزيز: تريد أن تسير فينا بسيرة عمر بن الخطاب؟ فقال: ما لهم قاتلهم الله، والله ما زدت أن أتخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إماما. (¬2) - وروى عبد الرزاق بسنده إلى عيسى بن المغيرة قال: خرج خارجي بالسيف بخراسان فأخذ، فكتب فيه إلى عمر بن عبد العزيز، فكتب فيه: إن كان جرح أحدا فاجرحوه، وإن قتل أحدا فاقتلوه، وإلا فاستودعوه السجن، واجعلوا أهله قريبا منه، حتى يتوب من رأي السوء. (¬3) - وعن ابن وهب قال: أخبرني ابن أبي الزناد عن أبيه قال: خرجت حرورية بالعراق في خلافة عمر بن عبد العزيز وأنا يومئذ بالعراق مع عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، فكتب إلينا عمر بن عبد العزيز يأمرنا أن ندعوهم إلى العمل بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فلما أعذر في دعائهم كتب إليه أن قاتلهم فإن الله وله الحمد، لم يجعل لهم سلفا يحتجون به علينا، فبعث إليهم عبد الحميد جيشا فهزمتهم الحرورية، فلما بلغ ذلك عمر بعث ¬

(¬1) المصنف (7/ 557/37908). (¬2) المصنف (7/ 360/37922). (¬3) المصنف (10/ 118/18576).

موقفه من المرجئة:

إليهم مسلمة بن عبد الملك في جيش من أهل الشام وكتب إلى عبد الحميد أنه قد بلغني ما فعل جيشك جيش السوء وقد بعثت إليك مسلمة بن عبد الحميد فخل بينه وبينهم فلقيهم مسلمة فأظفره الله عليهم وأظفره بهم. (¬1) موقفه من المرجئة: عن عدي بن عدي قال: كتب إلي عمر بن عبد العزيز: أما بعد: فإن للإيمان فرايض وشرايع فمن استكملها استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان فإن عشت أبينها لكم حتى تعملوا بها إن شاء الله وإن مت فوالله ما أنا على صحبتكم بحريص. (¬2) موقفه من القدرية: روى اللالكائي بسنده إلى حيان بن عبيد الله التميمي عن أبيه قال: شهدت عمر بن عبد العزيز وقد أدخل عليه غيلان، فقال: ويحك يا غيلان، أراني أبلغ عنك ويحك يا غيلان أراني أبلغ عنك؟ أيا غيلان أحقا ما أبلغ عنك؟ فسكت فقال: هات فإنك آمن فإن يك الذي تدعو الناس إليه حقا فأحق من دعا إليه الناس نحن هات. فأسكت طويلا، فقال عمر: ويحك فإنك آمن وأمره أن يجلس فجلس فتكلم بلسان ذلق، فقال: إن الله لا يوصف إلا بالعدل ولم يكلف نفسا إلا وسعها ولا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها، ولم ¬

(¬1) رياض الجنة بتخريج أصول السنة لابن أبي زمنين (306 - 307). (¬2) علقه البخاري في أول كتاب الإيمان (1/ 63 فتح) ووصله ابن أبي شيبة في كتاب الإيمان (135) وفي المصنف له (6/ 166/30384) وأحمد في الإيمان كما في الفتح (1/ 65) والخلال في السنة (4/ 57/1162) وابن بطة في الإبانة (2/ 858 - 859/ 1166) واللالكائي (4/ 926/1572).

يكلف المسافر صلاة المقيم ولم يكلف الله المريض عمل الصحيح ولم يكلف الفقير مثل صدقة الغني ولم يكلف الناس إلا ما جعل إليه السبيل وأعطاهم المشيئة فقال: {فَمَنْ شَاءَ فليؤمن وَمَنْ شَاءَ فليكفر} (¬1) وقال: اعْمَلُوا {مَا شِئْتُمْ} (¬2) فلما فرغ من كلام كثير قال له عمر في آخر كلامه: يا غيلان ما تقول في قول الله: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (¬3). أنت تزعم يا غيلان -ذكر كلاما كثيرا سقط من الكتاب- فأسكت غيلان لا يجيبه وجعل عمر يسأله وغيلان يرفع بصره إلى السماء مرة وإلى الأرض مرة، وانتفخت أوداجه، فقال: ما يمنعك أن تتكلم وقد جعلت لك ¬

(¬1) الكهف الآية (29). (¬2) فصلت الآية (40). (¬3) يس الآيات (1 - 10).

الأمان؟ فقال غيلان: أستغفر الله وأتوب إليه يا أمير المؤمنين، ادع الله لي بالمغفرة، فقال: اللهم إن كان عبدك صادقا فوفقه وسدده وإن كان كاذبا أعطاني بلسانه ما ليس في قلبه بعد أن أنصفته وجعلت له الأمان فسلط عليه من يمثل به. قال: فصار من أمره بعد أن قطع لسانه وصلب. (¬1) - وجاء في الإبانة: أن عمر بن عبد العزيز قيل له: إن غيلان يقول في القدر كذا وكذا، فقال: يا غيلان: ما تقول في القدر؛ فتقور ثم قرأ: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} حتى قرأ: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (¬2)؛ قال: فقال عمر: القول فيه طويل عريض، ما تقول في القلم؟ قال: قد علم الله ما هو كائن، قال: أما والله لو لم تقلها لضربت عنقك. (¬3) - وفيها عن الأوزاعي قال: كتب غيلان إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد يا أمير المؤمنين؛ فهل رأيت عليما حكيما أمر قوما بشيء ثم حال بينهم وبينه ويعذبهم عليه، قال: فكتب إليه عمر رضي الله عنه: أما بعد؛ فهل رأيت قادرا قاهرا يعلم ما يكون خلف لنفسه عدوا وهو يقدر على هلاكه، قال: فبطلت الرسالة الأولى. (¬4) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 791 - 792/ 1326) والشريعة (1/ 438 - 439/ 556) والإبانة (2/ 10/235 - 236/ 1840) والسنة (145 - 146) (¬2) الإنسان الآيات (1 - 3). (¬3) الإبانة (2/ 10/236 - 237/ 1841) وبنحوه في السنة (120). (¬4) الإبانة (2/ 11/279/ 1911).

- وروى الآجري في الشريعة بسنده: سأل رجل عمر بن عبد العزيز عن القدر؟ فقال: ما جرى ذباب بين اثنين إلا بقدر ثم قال للسائل: لا تعودن تسألني عن مثل هذا. (¬1) - وفي الشريعة عن عمرو بن مهاجر: أقبل غيلان وهو مولى لآل عثمان وصالح بن سويد إلى عمر بن عبد العزيز. فبلغه أنهما ينطقان في القدر، فدعاهما فقال: إن علم الله تعالى نافذ في عباده أم منتقض؟ قالا: بل نافذ يا أمير المؤمنين؛ قال: ففيم الكلام؟ فخرجا، فلما كان عند مرضه بلغه أنهما قد أسرفا، فأرسل إليهما وهو مغضب. فقال: ألم يك في سابق علمه حين أمر إبليس بالسجود: أنه لا يسجد؟؛ قال عمرو: فأومأت إليهما برأسي: قولا: نعم، فقالا: نعم، فأمر بإخراجهما، وبالكتاب إلى الأجناد بخلاف ما قالا، فمات عمر رضي الله عنه قبل أن ينفذ تلك الكتب. (¬2) - وفي أصول الاعتقاد عن أبي جعفر الخطمي قال: شهدت عمر بن عبد العزيز وقد دعا غيلان لشيء بلغه عنه في القدر. فقال له: ويحك يا غيلان ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: يكذب علي يا أمير المؤمنين ويقال علي ما لا أقول. قال: ما تقول في العلم؟ قال: نفذ العلم. قال: أنت مخصوم اذهب الآن فقل ما شئت. يا غيلان إنك إن أقررت بالعلم خصمت وإن جحدته كفرت وإنك إن تقر به فتخصم خير لك من أن تجحد فتكفر. ثم قال له: أتقرأ يس؟ فقال: نعم. قال: اِقرأ. قال: فقرأ: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} ¬

(¬1) الشريعة (1/ 442 - 443/ 568) وأصول الاعتقاد (4/ 752 - 753/ 1247). (¬2) الشريعة (1/ 443/569).

إلى قوله: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُون} (¬1) قال: قف. كيف ترى؟ قال: كأني لم أقرأ هذه الآية يا أمير المؤمنين. قال: زد. فقرأ: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} (¬2). فقال له عمر: قل: {سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (¬3). قال: كيف ترى؟ قال: كأني لم أقرأ هذه الآيات قط وإني أعاهد الله أن لا أتكلم في شيء مما كنت أتكلم فيه أبدا. قال: اذهب. فلما ولى قال: اللهم إن كان كاذبا بما قال فأذقه حر السلاح. قال: فلم يتكلم زمن عمر فلما كان يزيد بن عبد الملك كان رجلا لا يهتم بهذا ولا ينظر فيه. قال: فتكلم غيلان. فلما ولي هشام أرسل إليه فقال له: أليس قد كنت عاهدت الله لعمر لا تتكلم في شيء من هذا أبدا؟ قال: أقلني فوالله لا أعود. قال: لا أقالني الله إن أقلتك هل تقرأ فاتحة الكتاب؟ قال: نعم. قال: اِقرأ الحمد لله رب العالمين. فقرأ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ ¬

(¬1) يس الآيات (1 - 7). (¬2) يس الآيتان (8و9). (¬3) يس الآيتان (9و10).

نَسْتَعِينُ} (¬1). قال: قف: على ما استعنت؟ على أمر بيده لا تستطيعه أو على أمر في يدك -أو بيدك-؟ اذهبا فاقطعا يديه ورجليه واضربا عنقه واصلباه. (¬2) " التعليق: هكذا يستجاب للصالحين الصادقين في المبتدعة الهالكين الذين آثروا زبالة الأذهان الفاسدة الضالة على نور الوحي، الذي نزل من السماء طاهرا مطهرا، لم يدنس، لا بفكر فلان ولا بجهالة علان. فعقاب الله للمبتدع في الدنيا مع ما يدخر له للآخرة. - قال محمد بن الحسين الآجري: كان غيلان مصرا على الكفر بقوله في القدر، فإذا حضر عند عمر رحمه الله نافق، وأنكر أن يقول بالقدر، فدعا عليه عمر بأن يجعله الله تعالى آية للمؤمنين، إن كان كذابا، فأجاب الله عز وجل فيه دعوة عمر، فتكلم غيلان في وقت هشام، هو وصالح مولى ثقيف، فقتلهما وصلبهما، وقبل ذلك قطع يد غيلان ولسانه، ثم قتله وصلبه، فاستحسن العلماء في وقته ما فعل بهما. فهكذا ينبغي لأئمة المسلمين وأمرائهم إذا صح عندهم أن إنسانا يتكلم في القدر بخلاف ما عليه من تقدم أن يعاقبه بمثل هذه العقوبة، ولا تأخذهم ¬

(¬1) الفاتحة الآيات (2 - 5). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 789 - 791/ 1325) والسنة لعبد الله (146).

في الله لومة لائم. (¬1) - وروى أبو داود بسنده إلى أبي الصلت قال: كتب رجل إلى عمر بن عبد العزيز يسأله عن القدر، فكتب: أما بعد أوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في أمره، واتباع سنة نبيه. إلى أن قال (¬2): كتبت تسأل عن الإقرار بالقدر فعلى الخبير -بإذن الله- وقعت، ما أعلم ما أحدث الناس من محدثة، ولا ابتدعوا من بدعة هي أبين أثرا ولا أثبت أمرا من الإقرار بالقدر، لقد كان ذكره في الجاهلية الجهلاء، يتكلمون به في كلامهم وفي شعرهم، يعزون به أنفسهم على ما فاتهم، ثم لم يزده الإسلام بعد إلا شدة، ولقد ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غير حديث ولا حديثين، وقد سمعه منه المسلمون فتكلموا به في حياته وبعد وفاته، يقينا وتسليما لربهم، وتضعيفا لأنفسهم، أن يكون شيء لم يحط به علمه، ولم يحصه كتابه، ولم يمض فيه قدره، وإنه مع ذلك لفي محكم كتابه: منه اقتبسوه، ومنه تعلموه، ولئن قلتم: (لم أنزل الله آية كذا؟ ولم قال كذا؟) لقد قرأوا منه ما قرأتم، وعلموا من تأويله ما جهلتم، وقالوا بعد ذلك: كله بكتاب وقدر، وكتبت الشقاوة، وما يقدر يكن، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا نملك لأنفسنا ضرا ولا نفعا، ثم رغبوا بعد ذلك ورهبوا. (¬3) - وجاء في أصول الاعتقاد: قال عمر بن عبد العزيز في أصحاب القدر: يستتابون فإن تابوا وإلا نفوا من ديار المسلمين. (¬4) ¬

(¬1) الشريعة (1/ 443). (¬2) تقدم معنا في مواقفه من المبتدعة. (¬3) أبو داود (5/ 19 - 20/ 4612). (¬4) أصول الاعتقاد (4/ 785/1318) والإبانة (2/ 10/234/ 1837) والسنة لعبد الله (147).

- وروى مالك عن عمه أبي سهيل قال: كنت مع عمر بن عبد العزيز فقال لي: ما ترى في هؤلاء القدرية قال: قلت: أرى أن تستتيبهم فإن قبلوا ذلك وإلا عرضتم على السيف. فقال عمر بن عبد العزيز: ذلك رأيي، قلت لمالك: فما رأيك أنت. قال: هو رأيي. (¬1) - وروى عبد الله بسنده: عن نافع بن مالك أبي سهيل (¬2) أن عمر بن عبد العزيز قال له ما ترى في الذين يقولون لا قدر قال أرى أن يستتابوا وإلا ضربت أعناقهم قال عمر وذلك الرأي فيهم لو لم يكن إلا هذه الآية الواحدة كفى بها {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} (¬3). (¬4) - وروى اللالكائي بسنده عن عمر بن ذر قال: بينما عمر بن عبد العزيز في نفر منهم يزيد -أو زياد- الفقير كذى- قال داود وموسى بن كثير أبو الصباح وناس من أهل الكوفة. قال: فتكلم متكلمنا ويرى أنه عمر ابن ذر قال: ما بلغ فريتنا لعمر وظننا أنه لا يقدر على جوابه فلما سكت. تكلم عمر بن عبد العزيز فلم يدع شيئا مما جاء به إلا أجابه فيه. قال: ثم ابتدأ الكلام فما كنا عنده إلا تلامذة فقال فيما قال: إن الله لو كلف العباد العمل ¬

(¬1) الموطأ (2/ 900) والسنة (147) والإبانة (2/ 10/233/ 1834) وأصول الاعتقاد (4/ 784/1315) والشريعة (1/ 437/552) وأصول السنة لابن أبي زمنين (307). (¬2) في الأصل: أبو إسماعيل، وهو خطأ. (¬3) الصافات الآيات (161 - 163). (¬4) السنة لعبد الله (147).

على قدر عظمته لما قامت لذلك سماء ولا أرض ولا جبل ولا شيء من الأشياء ولكن أخذ منهم اليسر. ولو أراد -أو أحب- أن لا يعصى لم يخلق إبليس رأس المعصية. (¬1) - وبنحوه أخرج الآجري بسنده: عن عمر بن ذر قال: جلسنا إلى عمر بن عبد العزيز فتكلم منا متكلم، فعظم الله تعالى وذكر بآياته، فلما فرغ تكلم عمر بن عبد العزيز، فحمد الله وأثنى عليه، وشهد شهادة الحق، وقال للمتكلم: إن الله تعالى كما ذكرت وعظمت، ولكن الله تعالى: لو أراد أن لا يعصى ما خلق إبليس وقد بين ذلك في آية من القرآن، علمها من علمها، وجهلها من جهلها؛ ثم قرأ: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} قال: ومعنا: رجل رأى رأي القدرية، فنفعه الله تعالى بقول عمر بن عبد العزيز، ورجع عما كان يقول: فكان أشد الناس بعد ذلك على القدرية. (¬2) - وعن الأوزاعي قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى ابن له كتابا فكان فيما كتب فيه: إني أسأل الله الذي بيده القلوب يصنع ما شاء من هدى وضلالة ... (¬3) - وعن معمر قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة أما بعد: فإن استعمالك سعد بن مسعود على عمان من الخطايا التي قدر الله ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 751 - 752/ 1245). (¬2) الشريعة (1/ 442/567) وأصول الاعتقاد (3/ 625/1005) والإبانة (2/ 10/237 - 238/ 1845 مختصرا). (¬3) أصول الاعتقاد (4/ 752/1246).

عليك وقدر أن تبتلى بها. (¬1) - وروى عبد الله بن أحمد بسنده: قال عمر بن عبد العزيز: ويلهم يعني "القدرية" أما يقرءون هذه الآيات {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} ويلهم أما يقرءون وقرأ حتى بلغ {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (¬2). (¬3) - وروى ابن بطة في الإبانة: عن حكيم بن عمر قال: قال عمر بن عبد العزيز: ينبغي لأهل القدر أن يوعز إليهم فيما أحدثوا من القدر، فإن كفوا، وإلا؛ سلت ألسنتهم من أقفيتهم استلالا. (¬4) - وفيها عن سيار قال: خطب عمر بن عبد العزيز؛ فقال: يا أيها الناس. من أحسن منكم؛ فليحمد الله، ومن أساء؛ فليستغفر الله، ثم إذا أساء؛ فليستغفر الله، ثم إذا أساء؛ فليستغفر الله، ثم إذا أساء؛ فليستغفر الله، مع أني قد علمت أن أقواما سيعملون أعمالا وضعها الله في رقابهم وكتبها عليهم. (¬5) - وفيها عن أبي خطاب أن عمر بن عبد العزيز كان يقول في دعائه: وأنك إن كنت خصصت برحمتك أقواما أطاعوك فيما أمرتهم به وعملوا لك ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 753/1248) والإبانة (2/ 10/237/ 1844) والسنة (143). (¬2) الصافات الآيات (161 - 173). (¬3) السنة لعبد الله (137 - 138). (¬4) الإبانة (2/ 10/234/ 1836). (¬5) الإبانة (2/ 10/237/ 1842) والشريعة (1/ 441/564).

مجاهد بن جبر (101 هـ)

فيما خلقتهم له؛ فإنهم لم يبلغوا ذلك إلا بك، ولم يوفقهم لذلك إلا أنت، كانت رحمتك إياهم قبل طاعتهم لك. (¬1) - وفيها عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال: قال عمر بن عبد العزيز: لا تغزوا مع القدرية؛ فإنهم لا ينصرون. (¬2) - وفيها عن حكيم بن عمير قال: قيل لعمر بن عبد العزيز: إن قوما ينكرون من القدر شيئا، فقال عمر: بينوا لهم وارفقوا بهم حتى يرجعوا، فقال قائل: هيهات هيهات يا أمير المؤمنين، لقد اتخذوا دينا يدعون إليه الناس؛ ففزع لها عمر؛ فقال: أولئك أهل أن تسل ألسنتهم من أقفيتهم، هل طار ذباب بين السماء والأرض إلا بمقدار؟ (¬3) مُجاهد بن جَبْر (¬4) (101 هـ) مجاهد بن جبر الإمام شيخ القراء والمفسرين أبو الحجاج المكي. روى عن ابن عباس فأكثر وأطاب أخذ عنه القرآن والتفسير والفقه وعن أبي هريرة وعائشة وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وغيرهم. قرأ عليه جماعة منهم ابن كثير الداري وأبو عمرو بن العلاء وابن محيصن وحدث عنه عكرمة وطاووس ¬

(¬1) الإبانة (2/ 10/238/ 1847). (¬2) الإبانة (2/ 10/238/ 1848). (¬3) الإبانة (2/ 10/238 - 239/ 1849) والشريعة (1/ 440/559). (¬4) طبقات ابن سعد (5/ 466 - 467) ومشاهير علماء الأمصار (82) والبداية والنهاية (9/ 224) وتذكرة الحفاظ (1/ 92 - 93) والسير (4/ 449 - 457) والحلية (3/ 279 - 310) وتهذيب الكمال (27/ 228) والعقد الثمين (7/ 132 - 134) وشذرات الذهب (1/ 125) وتقريب التهذيب (2/ 229) وميزان الاعتدال (3/ 439 - 440).

موقفه من المبتدعة:

وعطاء وغيرهم. كان يقول: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين عرضة، وفي رواية قال: عرضت القرآن ثلاث عرضات على ابن عباس، أقفه عند كل آية أسأله؛ فيم نزلت وكيف كانت. قال سفيان الثوري: خذوا التفسير من أربعة: مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والضحاك. قال خصيف: كان مجاهد أعلمهم بالتفسير. وقال قتادة: أعلم من بقي بالتفسير مجاهد. قال ابن جريج: لأن أكون سمعت من مجاهد فأقول: سمعت مجاهدا؛ أحب إلي من أهلي ومالي. قال سلمة بن كهيل: ما رأيت أحدا يريد بهذا العلم وجه الله إلا هؤلاء الثلاثة: عطاء ومجاهد وطاووس. قال مجاهد: صحبت ابن عمر وأنا أريد أن أخدمه؛ فكان يخدمني. وعنه قال: ربما أخذ ابن عمر لي بالركاب. وقال: طلبنا هذا العلم وما لنا فيه نية، ثم رزق الله النية بعد. وقال: لا تنوهوا بي في الخلق. عن قتادة قال: أعلم من بقي بالحلال والحرام الزهري، وأعلم من بقي بالقرآن مجاهد. مات سنة إحدى ومائة وهو ساجد رحمه الله تعالى. موقفه من المبتدعة: - روى ابن بطة بسنده إلى ابن أبي نجيح عن مجاهد: {ولا تَتَّبِعُوا السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سبيله} (¬1) قال: البدع والشبهات. (¬2) - عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد في قوله عز وجل: {شرعةً ¬

(¬1) الأنعام الآية (153). (¬2) الإبانة (1/ 2/298/ 134) والدارمي (1/ 68) وذم الكلام (ص.192).

وَمِنْهَاجًا} (¬1) قال: سبيلا وسنة. (¬2) - وعنه قال: ما أدري أي النعمتين علي أعظم؛ أن هداني للإسلام أو عافاني من هذه الأهواء. (¬3) قال الذهبي: مثل الرفض والقدر والتجهم. (¬4) " التعليق: إن هذه الكلمات من هذا الإمام ونظرائه بمقام الحجب والسدود التي يضعها السلف أمام المبتدعة أصحاب الأهواء الذين ضلوا وأضلوا، فانظر كيف قارن رضي الله عنه بين نعمة الإسلام، وكفى بها نعمة، وبين نقمة البدع والأهواء؟! نسأل الله السلامة والعافية. - عن الأعمش عن مجاهد قال: أفضل العبادة حسن الرأي، يعني السنة. (¬5) - عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: {يخوضون في ءاياتنا} (¬6) يستهزؤون، نهى محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يقعد معهم إلا أن ينسى فإذا ذكر فليقم وذلك ¬

(¬1) المائدة الآية (48). (¬2) الإبانة (1/ 2/346 - 347/ 221). (¬3) الدارمي (1/ 92) وذم الكلام (ص.193). (¬4) سير إعلام النبلاء (4/ 454 - 455). (¬5) الإبانة (1/ 2/348/ 223) وتأويل مختلف الحديث (ص.57). (¬6) الأنعام الآية (68).

قوله: {فلا تقعد بعد الذكرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (¬1). (¬2) - عن قيس بن سعد قال: سمعت مجاهدا يقول: لا تجالسوا أهل الأهواء فإن لهم عرة كعرة الجرب. (¬3) - قال عبد الرحمن بن مهدي: أدركت الناس وهم على الجملة يعني لا يتكلمون ولا يخاصمون. قال عبد الله: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: {لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} (¬4) قال: لا خصومة بيننا وبينكم. - عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: {ءايات محكمات} (¬6) قال: ما فيه من الحلال والحرام وما سوى ذلك من المتشابهات يصدق بعضه بعضا وهو مثل قوله: {وَمَا يضل بِهِ إِلًّا الْفَاسِقِينَ} (¬7). وهو مثل قوله: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} (¬8). ¬

(¬1) الأنعام الآية (68). (¬2) الإبانة (2/ 3/430/ 351) وتفسير الطبري (7/ 229). (¬3) الإبانة (2/ 3/441/ 382). (¬4) الشورى الآية (15). (¬5) الإبانة (2/ 3/529/ 648). (¬6) آل عمران الآية (7). (¬7) البقرة الآية (26). (¬8) الأنعام الآية (125).

موقفه من الرافضة:

ومثل قوله: {وَالَّذِينَ اهتدوا زادهم هدًىوَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} (17) (¬1). {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} (¬2). الشبهات: ما أهلكوا به والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به. (¬3) - عن مجاهد في قول الله: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} (¬4)، يقول: ما قدموا من خير، وآثارهم التي أورثوا الناس بعدهم من الضلالة. (¬5) - عن مجاهد قال: ليس أحد من خلق الله إلا وهو يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬6) موقفه من الرافضة: عن مجاهد قال: لو أدركتم معاوية لقلتم هذا المهدي. (¬7) موقفه من الجهمية: - جاء في السنة لعبد الله: عن مجاهد {لا يملكون مِنْهُ خِطَابًا} (¬8) ¬

(¬1) محمد الآية (17). (¬2) آل عمران الآية (7). (¬3) الإبانة (2/ 4/608 - 609/ 787). (¬4) يس الآية (12). (¬5) ابن أبي حاتم في التفسير (10/ 3190/18043) وذكره صاحب الاعتصام (1/ 90 - 91). (¬6) جامع بيان العلم (2/ 925) والحلية (3/ 300). (¬7) المنهاج (6/ 233). (¬8) النبأ الآية (37).

موقفه من المرجئة:

قال: كلام الله. (¬1) - وجاء في أصول الاعتقاد: عن مجاهد: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} (¬2) قال: الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى الرب. (¬3) - وفيه عنه في قوله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} (¬4) قال: حسنة {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (¬5) قال: تنظر إلى ربها تبارك وتعالى. (¬6) - وفيه عنه قال: ما من ميت يموت حتى يعرض عليه أهل مجلسه إن كانوا من أهل لهو فأهل لهو وإن كانوا أهل ذكر فأهل ذكر. (¬7) - وفي البخاري معلقا: وقال مجاهد، استوى: علا على العرش. (¬8) موقفه من المرجئة: - عن الوليد بن زياد عن مجاهد قال: يبدؤون فيكم مرجئة ثم يكونون قدرية ثم يصيرون مجوسا. (¬9) ¬

(¬1) السنة لعبد الله (30). (¬2) يونس الآية (26). (¬3) أصول الاعتقاد (3/ 512 - 513/ 797). (¬4) القيامة الآية (22). (¬5) القيامة الآية (23). (¬6) أصول الاعتقاد (3/ 515/802) والسنة لعبد الله (81). (¬7) أصول الاعتقاد (6/ 1202/2126). (¬8) علقه البخاري (13/ 403). (¬9) أصول الاعتقاد (5/ 1060/1803) والإبانة (2/ 123/1554) وبنحوه في السنة لعبد الله (148).

موقفه من القدرية:

- وعن مجاهد قال: الإيمان يزيد وينقص والإيمان قول وعمل. (¬1) - وعن عبد الوهاب بن مجاهد قال: كنت عند أبي فجاء ولده يعقوب فقال: يا أبتاه، إن لنا أصحابا يزعمون أن إيمان أهل السماء وأهل الأرض واحد. فقال: يا بني، ما هؤلاء بأصحابي، لا يجعل الله من هو منغمس في الخطايا كمن لا ذنب له. (¬2) موقفه من القدرية: - جاء في الاعتصام للشاطبي: عن حميد الأعرج قال: قدم غيلان مكة يجاور بها، فأتى غيلان مجاهدا فقال: يا أبا الحجاج، بلغني أنك تنهى الناس عني وتذكرني ... بلغك عني شيء لا أقوله؟ إنما أقول كذا، فجاء بشيء لا ينكر. فلما قام، قال مجاهد: لا تجالسوه فإنه قدري. قال حميد: فإني يوما في الطواف لحقني غيلان من خلفي يجذب ردائي فالتفت فقال: كيف يقرأ مجاهد حرف كذا وكذا فأخبرته، فمشى معي، فبصر بي مجاهد معه، فأتيته فجعلت أكلمه فلا يرد علي، وأسأله فلا يجيبني. فقال: فغدوت إليه فوجدته على تلك الحال فقلت: يا أبا الحجاج أبلغك عني شيء ما أحدثت حدثا، مالي؟ قال ألم أرك مع غيلان وقد نهيتكم أن تكلموه أو تجالسوه. قال: قلت يا أبا الحجاج، ما أنكرت قولك وما بدأته هو بدأني. قال: والله يا حميد لولا أنك عندي مصدق ما نظرت لي في وجه منبسط ما عشت، ولئن عدت لا ¬

(¬1) السنة لعبد الله (83) وأصول الاعتقاد (5/ 1023/1728). (¬2) السير (4/ 455).

تنظر لي في وجه منبسط ما عشت. (¬1) - وفي الإبانة عن حميد بن قيس الأعرج، قال: صليت إلى جنب رجل يتهم بالقدرية؛ فلقيت مجاهدا فأعرض عني فقلت له: فقال: ألم أرك صليت إلى جنب فلان؟ قلت: إنما ضمتني وإياه الصلاة. (¬2) - وروى عبد الله بسنده عنه قال: لا يكون مجوسية حتى يكون قدرية ثم يتزندقوا ثم يتمجسوا. (¬3) - وروى اللالكائي بسنده عن مجاهد في قوله: {إني أعلم ما لا تعلمون} (¬4) قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها. (¬5) - وروى عن سفيان عن منصور: عن مجاهد في قوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحصيناه في إمام مبين} (¬6) قال: في أم الكتاب. (¬7) - وروى عن شريك عن عطاء بن السائب: عن مجاهد في قوله: {يمحو الله ما يشاء ويثبت} (¬8) قال: إن الله عز وجل ينزل كل شيء ¬

(¬1) الاعتصام (2/ 790) وما جاء في البدع (110 - 111). (¬2) الإبانة (2/ 10/207/ 1754). (¬3) السنة (148) وبنحوه في أصول الاعتقاد (4/ 714/1168) والإبانة (2/ 9/123/ 1554). (¬4) البقرة الآية (30). (¬5) أصول الاعتقاد (3/ 602 - 603/ 959) والسنة (134) والإبانة (2/ 10/202/ 1736). (¬6) يس الآية (12). (¬7) أصول الاعتقاد (3/ 609/973) والإبانة (1/ 8/292/ 1309). (¬8) الرعد الآية (39).

يكون في ليلة القدر فيمحو ما يشاء من المقادير والآجال والأرزاق إلا الشقاوة والسعادة فإنه ثابت. (¬1) - وروى عن مجاهد: وَجَعَلْنَا {مِنْ بَيْنِ أيديهم سدًا وَمِنْ خَلْفِهِمْ} (¬2) قال: عن الحق. (¬3) - وروى عن مجاهد في قوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} (¬4) قال: مكتوب في ورقة في عنقه شقي أو سعيد. (¬5) - وجاء في الإبانة: عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (¬6)؛ قال: بمن قدر له الهدى والضلالة. (¬7) - وفيها عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} (¬8)؛ قال: يترددون في الضلالة. (¬9) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (3/ 610/975). (¬2) يس الآية (9). (¬3) أصول الاعتقاد (3/ 616/988). (¬4) الإسراء الآية (13). (¬5) أصول الاعتقاد (3/ 630/1014) والإبانة (2/ 10/204 - 205/ 1743). (¬6) القلم الآية (7). (¬7) الإبانة (2/ 10/202/ 1736). (¬8) النمل الآية (4). (¬9) الإبانة (2/ 10/202/ 1737).

- وفيها عن مجاهد: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ} (¬1)؛ قال: كتب على الشيطان. (¬2) - وفيها عن مجاهد أنه قال في قوله عز وجل: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} (¬3) قال: وما يدريكم أنكم تؤمنون، {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} (¬4): نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم تلك الآية؛ فلا يؤمنون كما حلت بينهم وبينه أول مرة. (¬5) - وفيها عن مجاهد: {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} (¬6)؛ قال: هو ما سبق لهم. (¬7) - وفيها عن مجاهد: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (¬8)؛ قال: المؤمن مؤمن، والكافر كافر. (¬9) - وفيها عن مجاهد: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا ¬

(¬1) الحج الآية (4). (¬2) الإبانة (2/ 10/203/ 1738). (¬3) الأنعام الآية (109). (¬4) الأنعام الآية (110). (¬5) الإبانة (2/ 10/203 - 204/ 1741). (¬6) الأعراف الآية (37). (¬7) الإبانة (2/ 10/204/ 1742). (¬8) الأعراف الآية (29). (¬9) الإبانة (2/ 10/205/ 1745).

مسلم بن يسار (101 هـ)

عَامِلُونَ} (63) (¬1) قال: لهم أعمال لا بد لهم من أن يعملوها. (¬2) - وفيها عن مجاهد: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} (¬3)؛ قال: الشقوة والسعادة. (¬4) - وفيها عن مجاهد في قوله عز وجل: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} (¬5)؛ قال: طريقة الحق، {لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا}؛ قال: ماء كثيرا لنفتنهم فيه حتى يرجعوا إلى ما كتب عليهم. (¬6) مسلم بن يسار (¬7) (101 هـ) مسلم بن يسار البصري أبو عبد الله المكي، الفقيه الزاهد القدوة. روى عن عبادة بن الصامت ولم يلقه، وعن ابن عباس، وابن عمر وأبيه يسار. حدث عنه محمد بن سيرين، وهو من طبقته، وقتادة، وثابت البناني، وأيوب السختياني وغيرهم. قال ابن عون: كان لا يفضل عليه أحد في زمانه. كان ¬

(¬1) المؤمنون الآية (63). (¬2) الإبانة (2/ 10/205 - 206/ 1747). (¬3) الإنسان الآية (3). (¬4) الإبانة (2/ 10/206/ 1750). (¬5) الجن الآية (16). (¬6) الإبانة (2/ 10/206 - 207/ 1751). (¬7) طبقات ابن سعد (7/ 186 - 188) وتهذيب الكمال (27/ 551) والحلية (2/ 290 - 298) وتهذيب التهذيب (10/ 140 - 141) ومشاهير علماء الأمصار (88) والسير (4/ 510 - 514) والبداية والنهاية (9/ 186 - 187) وشذرات الذهب (1/ 119).

موقفه من المبتدعة:

ثقة فاضلا عابدا ورعا. روى حميد بن الأسود عن ابن عون قال: أدركت هذا المسجد وما فيه حلقة تنسب إلى الفقه إلا حلقة مسلم بن يسار قال أيوب السختياني قيل لابن الأشعث: إن أردت أن يقتلوا حولك كما قتلوا يوم الجمل حول جمل عائشة فأخرج معك مسلم بن يسار، فأخرجه مكرها. قال أيوب عن أبي قلابة: قال لي مسلم بن يسار: إني أحمد الله إليك أني لم أرم بسهم ولم أضرب فيها بسيف، قلت له: فكيف بمن رآك بين الصفين فقال: هذا مسلم بن يسار لن يقاتل إلا على حق، فقاتل حتى قتل؟ فبكى والله حتى وددت أن الأرض انشقت فدخلت فيها. توفي رحمه الله سنة إحدى ومائة. موقفه من المبتدعة: - قال: لا تمكن صاحب بدعة من سمعك فيصب فيها ما لا تقدر أن تخرجه من قلبك. (¬1) - وعنه قال: إياك والمراء فإنها ساعة جهل العالم وبها يبتغي الشيطان زلته. (¬2) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/459/ 436). (¬2) ذم الكلام (ص.200) والإبانة (2/ 3/497/ 550) والشريعة (1/ 187/118).

ذكوان أبو صالح السمان (101 هـ)

ذَكْوَان أبو صالح السَّمَّان (¬1) (101 هـ) القدوة الحافظ الحجة ذكوان بن عبد الله مولى أم المؤمنين جويرية. ولد في خلافة عمر، وشهد يوم الدار وحصر عثمان. سمع من: سعد بن أبي وقاص، وعائشة، وأبي هريرة ولازمه مدة. حدث عنه: ابنه سهيل، والأعمش، وعبد الله بن دينار، والزهري. كان من كبار العلماء بالمدينة، قال فيه أحمد بن حنبل: ثقة ثقة من أجل الناس وأوثقهم. قال الأعمش: كان أبو صالح مؤذنا فأبطأ الإمام، فأمنا، فكان لا يكاد يجيزها من الرقة والبكاء. توفي سنة إحدى ومائة. موقفه من القدرية: جاء في السنة: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (¬2) وأنا قدرتها عليك. (¬3) ¬

(¬1) السير (5/ 36) وطبقات ابن سعد (5/ 301) وتهذيب التهذيب (3/ 219) وتهذيب الكمال (8/ 517) وتاريخ الإسلام (حوادث 101 - 120/ص.290 - 291) وتذكرة الحفاظ (1/ 89). (¬2) النساء الآية (79). (¬3) السنة لعبد الله (144) وأصول الاعتقاد (3/ 611/978).

موقفه من المبتدعة:

الضَّحَّاك بن مُزَاحِم (¬1) (102 هـ) الضحاك، أبو محمد، صاحب التفسير، كان من أوعية العلم. حدث عن: سعيد بن جبير، وعطاء، وطاووس. وروى عنه: عمارة بن أبي حفصة، وأبو سعيد البقال، وقرة بن خالد. قال سفيان الثوري: كان الضحاك يعلم ولا يأخذ أجرا. وقال الضحاك: حق على كل من تعلم القرآن أن يكون فقيها، وتلا قول الله: {كُونُوا ربانيين بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} (¬2). وكان إذا أمسى بكى، فيقال له: ما يبكيك؟ قال: لا أدري ما صعد اليوم من عملي. توفي سنة اثنتين ومائة. موقفه من المبتدعة: عن حوشب عن الضحاك في قوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}. قال: استقام. (¬4) موقفه من الجهمية: - جاء في الإبانة: عن الضحاك بن مزاحم قال: كان أولوكم يتعلمون الورع أما إنه سيأتي زمان يتعلمون فيه الكلام. (¬5) ¬

(¬1) السير (4/ 598) وتهذيب الكمال (13/ 291) وتهذيب التهذيب (4/ 453) وميزان الاعتدال (2/ 325) وشذرات الذهب (1/ 124). (¬2) آل عمران (79). (¬3) طه الآية (82). (¬4) الإبانة (1/ 2/323/ 166). (¬5) الإبانة (2/ 3/529/ 647).

موقفه من القدرية:

- وفي الشريعة: عن الضحاك: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} قال: هو على العرش، وعلمه معهم. (¬2) موقفه من القدرية: - جاء في الإبانة: عن الضحاك بن مزاحم في قول الله عز وجل: {يحول بين المرء وقلبه} (¬3)؛ قال: يحول بين الكافر وبين طاعته، وبين المؤمن وبين معصيته. (¬4) - وروى الآجري بسنده: عن الضحاك في قوله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عليه بِفَاتِنِينَ (162) إِلًّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} (¬5) يقول: من سبق له في علم الله تعالى أنه يصلى الجحيم. (¬6) خالد بن مَعْدَان (¬7) (103 هـ) الإمام، شيخ أهل الشام خالد بن معدان بن أبي كَرِب الكَلاَعيّ، أبو ¬

(¬1) المجادلة الآية (7). (¬2) الشريعة (2/ 68/698) والسنة لعبد الله (80). (¬3) الأنفال الآية (24). (¬4) الإبانة (1/ 8/279/ 1298). (¬5) الصافات الآيتان (161و163). (¬6) الشريعة (1/ 434/542). (¬7) طبقات ابن سعد (7/ 455) وحلية الأولياء (5/ 210) وتاريخ دمشق (16/ 189 - 205) وتهذيب الكمال (8/ 167 - 174) وسير أعلام النبلاء (4/ 536 - 541) وتهذيب التهذيب (3/ 118 - 120) وشذرات الذهب (1/ 126).

موقفه من القدرية:

عبد الله الشامي الحمصي. حدث عن أبي هريرة وأبي أمامة الباهلي وابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء وجمع من الصحابة، وأكثر ذلك مرسل. وروى عنه حسان بن عطية وصفوان بن عمرو والأحوص بن حكيم وثابت بن ثوبان وداود بن عبيد الله وغيرهم. قال خالد بن معدان: أدركت سبعين رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال بحير بن سعد: ما رأيت أحدا ألزم للعلم من خالد بن معدان، وكان علمه في مصحف له أزرار وعرى. وقال أبو أسامة: كان الثوري إذا جلسنا معه إنما نسمع الموت الموت، فحدثنا عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان قال: لو كان الموت علما يستبق إليه ما سبقني إليه أحد إلا أن يسبقني رجل بفضل قوته، قال: فما زال الثوري يحب خالد بن معدان منذ بلغه هذا الحديث عنه. وكان الإمام الأوزاعي يعظمه ويجله. ومن أقواله رحمه الله: أكل وحمد خير من أكل وصمت. وقال: من التمس المحامد في مخالفة الحق، رد الله تلك المحامد عليه ذما، ومن اجترأ على الملاوم في موافقة الحق، رد الله تلك الملاوم عليه حمدا. توفي رحمه الله سنة ثلاث ومائة في خلافة يزيد بن عبد الملك. موقفه من القدرية: جاء في سير أعلام النبلاء: وقال محمد بن حمير: حدثنا محمد بن زياد الألهاني قال: كنا في المسجد إذ مر بمعبد الجهني إلى عبد الملك، فقال الناس:

مصعب بن سعد (103 هـ)

هذا هو البلاء. فقال خالد بن معدان: إن البلاء كل البلاء إذا كانت الأئمة منهم. (¬1) مصعب بن سعد (¬2) (103 هـ) مصعب بن سعد بن أبي وقاص القرشي الزهري أبو زُرَارَة المدني والد زرارة ابن مصعب. روى عن أبيه سعد بن أبي وقاص وصهيب بن سنان، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعدي بن حاتم وغيرهم. وروى عنه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي والحكم بن عتيبة والزبير بن عدي، وزياد بن فياض وغيرهم. وكان ثقة كثير الحديث. توفي رحمه الله سنة ثلاث ومائة. موقفه من المبتدعة: قال: لا تجالس مفتونا فإنه لن يخطئك منه إحدى اثنتين: إما أن يفتنك فتتابعه، وإما أن يؤذيك قبل أن تفارقه. (¬3) موقفه من الرافضة: عن طلحة بن مصرف عن مصعب بن سعد قال: الناس على ثلاث منازل فمضت منزلتان وبقيت واحدة فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا ¬

(¬1) السير (4/ 187) (¬2) طبقات ابن سعد (5/ 169و6/ 222) وتهذيب الكمال (28/ 24 - 26) والسير (4/ 350) والبداية والنهاية (9/ 238) والكامل في التاريخ (5/ 106) وشذرات الذهب (1/ 125) ومشاهير علماء الأمصار (68). (¬3) الإبانة (2/ 3/442/ 385) والبيهقي في الشعب (7/ 61) وما جاء في البدع (ص.110 - 111) وانظر الاعتصام (2/ 790 - 791).

على التي بقيت قال ثم قرأ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} (¬1) هؤلاء المهاجرون وهذه منزلة ثم قرأ: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (¬2) قال: وهؤلاء الأنصار وهذه منزلة قد مضت ثم قرأ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (¬3) قد مضت هاتان وبقيت هذه المنزلة فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي قد بقيت، يقول أن تستغفروا لهم. (¬4) ¬

(¬1) الحشر الآية (8). (¬2) الحشر الآية (9). (¬3) الحشر الآية (10). (¬4) أصول الاعتقاد (7/ 1324 - 1325/ 2354).

الشعبي (104 هـ)

الشعبي (¬1) (104 هـ) عامر بن شَرَاحيل أبو عمرو الهَمْدَانِي، ثم الشعبي، الكوفي، وأمه من سبي جلولاء. حدث عن جماعة من الصحابة منهم علي بن أبي طالب وأبو هريرة وعائشة وسعد بن أبي وقاص وأبو سعيد وجابر بن سمرة وابن عمر وخلق سواهم. وروى عنه إبراهيم بن مهاجر وحصين بن عبد الرحمن السلمي وإسماعيل بن أبي خالد وغيرهم. قال أحمد بن عبد الله العجلي: سمع من ثمانية وأربعين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال أشعث بن سوار: نعى لنا الحسن الشعبي، فقال: كان والله كبير العلم عظيم الحلم، قديم السلم من الإسلام بمكان. قال الشعبي: إنما كان يطلب هذا العلم من اجتمعت فيه خصلتان: العقل والنسك، فإن كان ناسكا ولم يكن عاقلا، قال: هذا أمر لا يناله إلا العقلاء، فلم يطلبه، وإن كان عاقلا ولم يكن ناسكا قال: هذا أمر لا يناله إلا النساك، فلم يطلبه، قال: ولقد رهبت أن يكون يطلبه اليوم من ليست فيه واحدة منهما، لا عقل ولا نسك. قال الذهبي: قلت: أظنه أراد بالعقل الفهم والذكاء. من كلامه: قال: ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها. وقال: إنما سمي هوى لأنه يهوي بأصحابه. وقال: لا أدري نصف العلم. توفي الشعبي رحمه الله سنة أربع ومائة. ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (6/ 246 - 256) والحلية (4/ 310 - 338) وتاريخ بغداد (12/ 227 - 234) والسير (4/ 294 - 319) ووفيات الأعيان (3/ 12 - 16) وتهذيب الكمال (14/ 28 - 40) وتذكرة الحفاظ (1/ 79 - 88) والبداية والنهاية (9/ 239 - 240) والوافي بالوفيات (16/ 587 - 589) والجرح والتعديل (6/ 322 - 324) وشذرات الذهب (1/ 126 - 128).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: - روى الدارمي عن مالك هو ابن مغول قال: قال لي الشعبي: ما حدثوك هؤلاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخذ به وما قالوه برأيهم فألقه في الحش. وفي شرف أصحاب الحديث وغيره: فبل عليه. (¬1) - جاء في طبقات ابن سعد عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي قال: لقد أتى علي زمان وما من مجلس أحب إلي أن أجلس فيه من هذا المسجد، فلكناسة اليوم أجلس عليها أحب إلي من أن أجلس في هذا المسجد. قال: وكان يقول إذا مر عليهم: ما يقول هؤلاء الصعافقة؟ أو قال: بنو استها -شك قبيصة- ما قالوا لك برأيهم فبل عليه، وما حدثوك عن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فخذ به. (¬2) " التعليق: قلت: لأنهم هم القدوة؛ هم الذين شاهدوا التنزيل، وفهموا التأويل، وهم المختارون للبلاغ عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -. - وروى الدارمي عن عيسى عن الشعبي قال: جاءه رجل فسأله عن شيء فقال: كان ابن مسعود يقول فيه كذا وكذا، قال أخبرني أنت برأيك؟ فقال: ألا تعجبون من هذا؟ أخبرته عن ابن مسعود ويسألني عن رأيي، وديني ¬

(¬1) الدارمي (1/ 67) وذم الكلام (ص.297) والإبانة (2/ 3/517/ 607) والمدخل للبيهقي (2/ 274/814) وشرف أصحاب الحديث (ص.74) وانظر سير أعلام النبلاء (4/ 319) و (7/ 176) وإعلام الموقعين (1/ 73). (¬2) طبقات ابن سعد (6/ 251) وشرف أصحاب الحديث (ص.74).

عندي آثر من ذلك، والله لأن أتغنى أغنية أحب إلي من أن أخبرك برأيي. (¬1) " التعليق: هذا الإمام الشعبي يغضب ويقارن رأيه بأغنية، ربما لو قالها لتأثم بها، فما بالك بمن يترك نص القرآن والسنة ويأخذ بأقوال من لم يشموا رائحة الوحي. - وقال: إنما هلك من كان قبلكم حين تشعبت بهم السبل وحادوا عن الطريق، فتركوا الآثار وقالوا في الدين برأيهم فضلوا وأضلوا. (¬2) - وقال الشعبي: إنما الرأي بمنزلة الميتة إذا احتجت إليها أكلتها. (¬3) - عن أبي حمزة قال: سئل الشعبي عن مسألة فقال: لا تجالس أصحاب القياس فتحل حراما أو تحرم حلالا. (¬4) - وروى الدارمي عن الشعبي قال: إياكم والمقايسة والذي نفسي بيده لئن أخذتم بالمقايسة لتحلن الحرام ولتحرمن الحلال، ولكن ما بلغكم عمن حفظ من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فاعملوا به. (¬5) - عن صالح بن مسلم قال: لقيت الشعبي في السدة فمشيت معه حتى ¬

(¬1) الدارمي (1/ 47) وأورده ابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 257). (¬2) جامع بيان العلم وفضله (2/ 1050). (¬3) شرح السنة (1/ 216). (¬4) الإبانة (2/ 3/450 - 451/ 414) وتأويل مختلف الحديث (ص.58). (¬5) الدارمي (1/ 47) وذم الكلام (ص.103) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 1047) والفقيه والمتفقه (1/ 460) وانظر إعلام الموقعين (1/ 255).

إذا قاربنا أبواب المسجد نظر إليه فقال: يعلم الله لقد بغض إلي هؤلاء هذا المسجد حتى هو أبغض إِلَيَّ من داري، فقلت له: ومن هؤلاء يا أبا عمرو؟ فقال: هؤلاء الآرائيون يعني أصحاب الرأي. (¬1) - عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: ما من كلمة أبغض إلي من أرأيت أرأيت. (¬2) - وعنه قال: لو أدرك هؤلاء الآرائيون النبي - صلى الله عليه وسلم - لنزل القرآن كله: يسألونك، يسألونك. (¬3) - عن الشعبي قال: إنما سميت الأهواء لأنها تهوي بصاحبها في النار. (¬4) - روى عطاء بن السائب عن الشعبي قال: ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها. (¬5) - عن الشعبي قال: سل عما كان ولا تسأل عما لم يكن ولا يكون. (¬6) - عن خالد بن عبد الله عن بيان عن الشعبي قال: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} (¬7). قال: بيان من العمى وهدى ¬

(¬1) ذم الكلام (ص.105) والإبانة (2/ 3/516/ 603) والفقيه والمتفقه (1/ 462) بنحوه، والحلية (4/ 320). (¬2) الإبانة (2/ 3/517/ 605). (¬3) الإبانة (1/ 2/419/ 343). (¬4) أصول الاعتقاد (1/ 147/229) والسنة لعبد الله (ص.90) والدارمي (1/ 110) والحلية (4/ 320). (¬5) سير أعلام النبلاء (4/ 311) وحلية الأولياء (4/ 313). (¬6) الإبانة (1/ 2/410/ 321). (¬7) آل عمران الآية (138).

موقفه من الرافضة:

مهده أكان ديتهما سواء قلت: نعم. قال: فأين القياس؟ (¬1) موقفه من الرافضة: - جاء في سير أعلام النبلاء: ابن حميد: حدثنا حر، عن مغيرة قال رجل من الكيسانية عند الشعبي: كانت عائشة من أبغض زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه. قال: خالفت سنة نبيك. (¬2) - وفيها: روى عقيل بن يحيى: حدثنا أبو داود، عن شعبة، عن منصور الغداني، عن الشعبي، قال: أدركت خمس مئة صحابي أو أكثر يقولون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي. وأما عمرو بن مرزوق، فرواه عن شعبة، وفيه: يقولون: علي وطلحة والزبير في الجنة. (¬3) - وفيها: عبد الله بن إدريس، عن عمرو بن خليفة، عن أبي عمرو، عن الشعبي، قال: أصبحت الأمة على أربع فرق: محب لعلي مبغض لعثمان، ومحب لعثمان مبغض لعلي، ومحب لهما، ومبغض لهما. قلت: من أيها أنت؟ قال: مبغض لباغضهما. (¬4) - وفيها: وروى خالد بن سلمة، عن الشعبي قال: حب أبي بكر وعمر ¬

(¬1) سنن الدارمي (1/ 66) والإبانة (1/ 2/419/ 343) وذم الكلام (ص.103) وفي السير (4/ 311) والحلية (4/ 320 مختصرا). (¬2) السير (4/ 300). (¬3) السير (4/ 301). (¬4) السير (4/ 308) والتذكرة (1/ 82 - 83 مختصرا).

ومعرفة فضلهما من السنة. (¬1) - عن حصين؛ عن عامر؛ قال: ما كذب على أحد في هذه الأمة كما كذب على علي رضي الله عنه. (¬2) - جاء في الميزان: وقال ابن حبان: رشيد الهجري كوفي، كان يؤمن بالرجعة. ثم قال ابن حبان: قال الشعبي: دخلت عليه فقال: خرجت حاجا، فقلت: لأعهدن بأمير المؤمنين. فأتيت بيت علي فقلت لإنسان: استأذن لي على أمير المؤمنين. قال: أو ليس قد مات. قلت: قد مات فيكم، والله إنه ليتنفس الآن نفس الحي. قال: أما إذ عرفت سر آل محمد فادخل. فدخلت على أمير المؤمنين، وأنبأني بأشياء تكون. فقال له الشعبي: إن كنت كاذبا فلعنك الله. وبلغ الخبر زيادا فبعث إلى رشيد الهجري فقطع لسانه وصلبه على باب دار عمرو بن حريث. (¬3) - محمد بن المثنى، حدثنا عبد الله بن داود، عن عبد الرحمن بن مالك ابن مغول، عن أبيه، قال لي الشعبي: ائتني بزيدي صغير أخرج لك منه رافضيا كبيرا، وائتني برافضي صغير أخرج لك منه زنديقا كبيرا. (¬4) - قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: وبهذا وأمثاله يتبين أن الرافضة أمة ليس لها عقل صريح؛ ولا نقل صحيح، ولا دين مقبول؛ ولا دنيا منصورة، بل هم من أعظم الطوائف كذبا وجهلا ودينهم يدخل على المسلمين كل ¬

(¬1) السير (4/ 310). (¬2) الشريعة (3/ 567 - 568/ 2084). (¬3) الميزان (2/ 52). (¬4) الميزان (2/ 584).

زنديق ومرتد، كما دخل فيهم النصيرية؛ والإسماعيلية وغيرهم، فإنهم يعمدون إلى خيار الأمة يعادونهم، وإلى أعداء الله من اليهود والنصارى والمشركين يوالونهم، ويعمدون إلى الصدق الظاهر المتواتر يدفعونه، وإلى الكذب المختلق الذي يعلم فساده يقيمونه؛ فهم كما قال فيهم الشعبي -وكان من أعلم الناس بهم- لو كانوا من البهائم لكانوا حمرا، ولو كانوا من الطير لكانوا رخما. (¬1) - عن مالك بن مغول قال: قال الشعبي: يا مالك: لو أردت أن يعطوني رقابهم عبيدا أو أن يملؤا بيتي ذهبا على أن أكذب لهم على علي لفعلوا ولكن والله لا كذبت عليه أبدا. يا مالك: إنني قد درست الأهواء كلها فلم أر قوما هم أحمق من الخشبية؛ لو كانوا من الدواب لكانوا حمرا ولو كانوا من الطير لكانوا رخما. وقال: أحذرك الأهواء المضلة وشرها الرافضة وذلك أن منهم يهود يغمصون الإسلام لتحيا ضلالتهم كما يغمص بولس بن شاؤل ملك اليهود ليغلبوا. لم يدخلوا في الإسلام رغبة ولا رهبة من الله ولكن مقتا لأهل الإسلام وطعنا عليهم فأحرقهم علي بن أبي طالب بالنار ونفاهم من البلدان: منهم عبد الله بن سبأ نفاه إلى ساباط وعبد الله بن شباب نفاه إلى جازت، وأبو الكروش وابنه. وذلك أن محنة الرافضة محنة اليهود. قالت اليهود: لا يصلح الملك إلا في ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (4/ 471 - 472).

آل داود. وقالت الرافضة لا تصلح الإمارة إلا في آل علي. وقالت اليهود: لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المسيح الدجال أو ينزل عيسى من السماء. وقالت الرافضة: لا جهاد حتى يخرج المهدي ثم ينادي مناد من السماء. واليهود يؤخرون صلاة المغرب حتى تشتبك النجوم. وكذلك الرافضة. والحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال أمتي على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب حتى تشتبك النجوم". (¬1) واليهود يولون عن القبلة شيئا. وكذلك الرافضة. واليهود تسدل أثوابها وكذلك الرافضة. وقد مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجل قد سدل ثوبه فقمصه عليه (¬2). واليهود حرفوا التوراة. وكذلك الرافضة حرفوا القرآن. واليهود يستحلون دم كل مسلم. وكذلك الرافضة. واليهود: لا يرون الطلاق ثلاثا شيئا. وكذلك الرافضة. واليهود لا يرون على النساء عدة وكذلك الرافضة. واليهود يبغضون جبريل ويقولون: هو عدونا من الملائكة. وكذلك صنف من الرافضة يقولون غلط بالوحي إلى محمد. وفضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلتين: سئلت اليهود من خير أهل ملتكم؟ قالوا: ¬

(¬1) أحمد (4/ 147) وأبو داود (1/ 291/418) والحاكم (1/ 190 - 191) وقال: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي. (¬2) الطبراني (22/ 111 - 112/ 283) وفي الأوسط (7/ 95 - 96/ 6160) وفي الصغير (2/ 317/853) والبيهقي (2/ 243) وابن عدي في الكامل (2/ 381) والبزار (2/ 286/595 كشف)، قال الهيثمي في المجمع (2/ 50): "رواه الطبراني في الثلاثة والبزار، وهو ضعيف".

موقفه من الخوارج:

أصحاب موسى. وسئلت الرافضة: من شر أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب محمد. وسئلت النصارى: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: حواري عيسى. وسئلت الرافضة: من شر أهل ملتكم؟ قالوا: حواري محمد. أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم. فالسيف مسلول عليهم إلى يوم القيامة لا يثبت لهم قدم ولا تقوم لهم راية ولا تجتمع لهم كلمة. دعوتهم مدحوضة وجمعهم متفرق كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله عز وجل. (¬1) - وجاء في المنهاج: ولهذا قال فيهم الشعبي: يأخذون بأعجاز لا صدور لها أي بفروع لا أصول لها. (¬2) موقفه من الخوارج: - جاء في المنهاج: وقد قيل للشعبي في فتنة ابن الأشعث: أين كنت يا عامر؟ قال: كنت حيث يقول الشاعر: ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (7/ 1549 - 1552/ 2823) والسنة للخلال (1/ 496 - 498) وهو في المنهاج (1/ 22 - 23). (¬2) المنهاج (8/ 355).

موقفه من القدرية:

عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى ... وصوت إنسان فكدت أطير أصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء. (¬1) موقفه من القدرية: أخرج اللالكائي بسنده: قال الشعبي: لا تجالسوا القدرية فوالذي يحلف به إنهم لنصارى. (¬2) الحسن بن وهب (104 هـ) موقفه من القدرية: جاء في الاعتصام عن الحسن بن وهب الجمحي قال: الذي كان بيني وبين فلان خاص، فانطلق بأهله إلى بئر ميمون فأرسل إلي أن ائتني، فأتيته عشية فبت عنده، قال: فهو في فسطاط وأنا في فسطاط آخر فجعلت أسمع صوته الليل كله كأنه دوي النحل. قال: فلما أصبحنا جاء بغدائه فتغدينا، قال: ثم ذكر ما بيني وبينه من الإخاء والحق قال: فقال لي: أدعوك إلى رأي الحسن. قال: ثم فتح لي شيئا من القدر، قال: فقمت من عنده فما كلمته بكلمة حتى لقي الله. قال: فأنا يوما خارج من الطريق في الطواف وهو داخل أو أنا داخل وهو خارج، فأخذ بيدي فقال: يا أبا عمر حتى متى؟ حتى متى؟ قال: فلم أكلمه فقال: مالي؟ أرأيت لو أن رجلا قال: {تَبَّتْ يدا أبي ¬

(¬1) منهاج السنة (4/ 529). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 761/1268).

أبو قلابة (104 هـ)

لَهَبٍ} (¬1) ليست من القرآن؟ ما كنت تقول له؟ قال: فنزعت يدي من يده. قال: علي: قال مؤمل: فحدثت به سفيان بن عيينة فقال لي: ما كنت أرى أنه بلغ هذا كله. قال علي: وسمعته أنا وأحمد. قال: حدثت أنا سفيان بن عيينة عن معلى الطحان ببعض حديثه، فقال: ما أحوج صاحب هذا الرأي إلى أن يقتل. (¬2) أبو قِلاَبَة (¬3) (104 هـ) عبد الله بن زيد بن عمرو، ويقال ابن عامر، الإمام شيخ الإسلام أبو قلابة الجَرْمِي البصري. روى عن أنس بن مالك الأنصاري وعبد الله بن عباس، ومعاوية بن أبي سفيان والنعمان بن بشير وثابت بن الضحاك، وآخرين. وعنه جملة منهم: أيوب السختياني وحسان بن عطية وحميد الطويل ويحيى بن أبي كثير. قال حماد بن زيد: سمعت أيوب ذكر أبا قلابة فقال: كان والله من الفقهاء ذوي الألباب. عن أيوب قال: وجدت أعلم الناس بالقضاء أشدهم منه فرارا، وأشدهم منه فرقا، وما أدركت بهذا المصر رجلا كان أعلم بالقضاء من أبي قلابة. قال علي بن أبي حملة: قدم علينا مسلم بن يسار دمشق، فقلنا له: يا أبا عبد الله، لو علم الله أن بالعراق من هو أفضل منك ¬

(¬1) المسد الآية (1). (¬2) الاعتصام (1/ 297 - 298). (¬3) طبقات ابن سعد (7/ 183 - 185) والحلية (2/ 282 - 289) وتهذيب الكمال (14/ 542 - 548) وتذكرة الحفاظ (1/ 94) والسير (4/ 468 - 475) والبداية والنهاية (9/ 240) والوافي بالوفيات (17/ 185 - 186) وميزان الاعتدال (2/ 425 - 426) وشذرات الذهب (1/ 126).

موقفه من المبتدعة:

لجاءنا به، فقال: كيف لو رأيتم عبد الله بن زيد أبا قلابة الجرمي؟ قال: فما ذهبت الأيام والليالي حتى قدم علينا أبو قلابة. وعن أبي خشينة صاحب الزيادي: ذكر أبو قلابة عند محمد بن سيرين، فقال: ذاك أخي حقا. توفي سنة أربع ومائة. موقفه من المبتدعة: - قال الدارمي: أخبرنا مسلم بن إبراهيم حدثنا وهيب حدثنا أيوب عن أبي قلابة قال: ما ابتدع رجل بدعة إلا استحل السيف. (¬1) - جاء في السنة للخلال قال: حدثنا أبو عبد الله، قال: ثنا إسماعيل، قال: ثنا أيوب، قال: قال أبو قلابة: ما وجدت مثل أهل الأهواء إلا مثل النفاق، فإن الله قد ذكر النفاق بقول مختلف وعمل مختلف، قال: غير أن جميع ذلك الضلال. (¬2) - عن أيوب عن أبي قلابة قال: إن أهل الأهواء أهل الضلالة، ولا أرى مصيرهم إلا النار، فجربهم فليس أحد منهم ينتحل قولا -أو قال حديثا- فيتناهى به الأمر دون السيف، وإن النفاق كان ضروبا ثم تلا: {وَمِنْهُمْ مَنْ عاهد اللَّهَ} (¬3)، {وَمِنْهُمْ مَنْ يلمزك في الصدقات} (¬4)، {وَمِنْهُمُ الذين ¬

(¬1) الدارمي (1/ 45) وأصول الاعتقاد (1/ 152/147) والشريعة (1/ 200/145) وطبقات ابن سعد (7/ 184) وانظر الاعتصام (1/ 113). (¬2) السنة للخلال (4/ 111). (¬3) التوبة الآية (75). (¬4) التوبة الآية (58).

يؤذون النَّبِيَّ} (¬1) فاختلف قولهم، واجتمعوا في الشك والتكذيب. وإن هؤلاء اختلف قولهم واجتمعوا في السيف، ولا أرى مصيرهم إلا النار. قال حماد: ثم قال أيوب عند ذا الحديث أو عند الأول: وكان والله من الفقهاء ذوي الألباب -يعني أبا قلابة-. (¬2) " التعليق: وإذا لم يكن أبو قلابة من الفقهاء فمن هم الفقهاء؟ هم أصحاب العمم المنتفخة المؤسسة على الجهل والضلال؟! فهذه المقارنة التي ذكرها أبو قلابة بين المبتدعة والمنافقين من أروع ما قرأت في ذم أهل البدع، فكما أن المنافق لا ثبات له كما وصفه الله تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} (¬3) فالشك والحيرة والريب ملأ قلوبهم، فكذلك المبتدعة مثلهم نسأل الله العافية. - جاء في طبقات ابن سعد بالسند إلى أيوب: قال أبو قلابة، لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو ¬

(¬1) التوبة الآية (61). (¬2) الدارمي (1/ 45 - 46) والشريعة مختصرا (1/ 200/143) وطبقات ابن سعد (7/ 184). (¬3) النساء الآية (143).

يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون. (¬1) - وعن أيوب عن أبي قلابة قال: إذا حدثت الرجل بالسنة، فقال: دعنا من هذا وهات كتاب الله، فاعلم أنه ضال. (¬2) - عن أيوب السختياني قال: قال لي أبو قلابة: يا أيوب احفظ عني أربعا: لا تقل في القرآن برأيك، وإياك والقدر، وإذا ذكر أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فأمسك، ولا تمكن أصحاب الأهواء من سمعك فينبذوا فيه ما شاءوا. (¬3) - قال أبو قلابة: يا أيوب احفظ عني ثلاث خصال: إياك وأبواب السلطان، وإياك ومجالسة أصحاب الأهواء، والزم سوقك؛ فإن الغنى من العافية. (¬4) - عن أيوب قال: كان أبو قلابة إذا قرأ هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} (¬5) قال: يقول أبو قلابة: فهذا جزاء كل مفتر إلى يوم القيامة: أن يذله الله. (¬6) ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (7/ 184) وأصول الاعتقاد (1/ 151/244) والإبانة (2/ 3/435/ 363) والشريعة (1/ 188/120) وذم الكلام (ص.201) والسنة لعبد الله (ص.24) وابن وضاح (ص.106) والدارمي (1/ 108). وانظر الاعتصام (1/ 112) وشرح السنة (1/ 227) والسير (4/ 472.). (¬2) ابن سعد (7/ 184) وكذا في السير (4/ 472) ذم الكلام (ص.74). (¬3) الإبانة (2/ 3/445/ 397) وأصول الاعتقاد (1/ 151 - 152/ 246) وذم الكلام (ص.139). (¬4) جامع بيان العلم وفضله (1/ 635). (¬5) الأعراف الآية (152). (¬6) أصول الاعتقاد (1/ 161/288) والطبري في التفسير (9/ 70).

موقفه من الخوارج:

- عن إسحاق بن أحمد، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا إسماعيل، قال: أخبرنا خالد، قال: حدثني رجل قال: رآني أبو قلابة وأنا مع عبد الكريم، فقال: مالك ولهذا الهزء الهزء. (¬1) موقفه من الخوارج: ذكر ابن أبي شيبة بسنده إلى غيلان بن جرير قال: أردت أن أخرج مع أبي قلابة إلى مكة، فاستأذنت عليه، فقلت أدخل؟ قال: إن لم تكن حروريا. (¬2) موقفه من القدرية: - جاء في الإبانة: عن أيوب قال: قال لي أبو قلابة: احفظ عني ثلاث خصال: لا تجالس أهل القدر؛ فيمرثوك، وإياك وأبواب السلطان، والزم سوقك. (¬3) أبو رجاء العُطَارِدِي (¬4) (105 هـ) الإمام الكبير، عمران بن مِلْحَان التميمي البصري أبو رجاء العُطَارِدي من كبار المخضرمين، أدرك الجاهلية، وأسلم بعد فتح مكة، ولم ير النبي - صلى الله عليه وسلم -. حدث عن عمر، وعلي، وابن عباس، وروى عنه: أيوب، وابن عون، وعوف الأعرابي. وكان كثير الصلاة وتلاوة القرآن، وكان يقول: ما آسى على شيء ¬

(¬1) الإبانة (2/ 7/891/ 1242) والسنة لعبد الله (ص.90). (¬2) المصنف لابن أبي شيبة (7/ 557/37910). (¬3) الإبانة (2/ 11/324/ 2014). (¬4) الإصابة (7/ 148 - 149) والسير (4/ 253) والاستيعاب (3/ 1209 - 1212) والحلية (2/ 304) وتهذيب الكمال (22/ 356).

موقفه من المشركين:

من الدنيا إلا أن أعفر في التراب وجهي كل يوم خمس مرات. وقال أبو الأشهب: كان أبو رجاء العطاردي يختم بنا في قيام لكل عشرة أيام. قال ابن عبد البر: مات سنة خمس ومائة. موقفه من المشركين: - جاء في السير: عن أبي رجاء قال: أدركت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا شاب أمرد، ولم أر ناسا كانوا أضل من العرب، كانوا يجيئون بالشاة البيضاء فيعبدونها، فيختلسها الذئب، فيأخذون أخرى مكانها يعبدونها، وإذا رأوا صخرة حسنة، جاؤوا بها، وصلوا إليها، فإذا رأوا أحسن منها رموها، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أرعى الإبل على أهلي، فلما سمعنا بخروجه، لحقنا بمسيلمة. (¬1) - وفيها: عن يوسف بن عطية، عن أبيه: دخلت على أبي رجاء فقال: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان لنا صنم مدور، فحملناه على قتب، وتحولنا ففقدنا الحجر، انسل فوقع في رمل، فرجعنا في طلبه فإذا هو في رمل قد غاب فيه، فاستخرجته، فكان ذلك أول إسلامي، فقلت: إن إلها لم يمتنع من تراب يغيب فيه لإله سوء وإن العنز لتمنع حياها بذنبها. فكان ذلك أول إسلامي. فرجعت إلى المدينة وقد توفي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) موقفه من الرافضة: عن أبي رجاء العطاردي قال: لا تسبوا أهل هذا البيت، بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن جارا لي من بلهجيم، حين قتل الحسين رضي الله عنه قال: ألم ¬

(¬1) السير (4/ 254). (¬2) السير (4/ 256 - 257).

عكرمة مولى ابن عباس (105 هـ)

تروا إلى الكذا ابن الكذا يعني الحسين فرماه الله عز وجل بكوكبين من السماء، فطمسا بصره. (¬1) عِكْرِمَة مولى ابن عباس (¬2) (105 هـ) العلامة الحافظ، إمام المفسرين عكرمة القرشي الهاشمي، أبو عبد الله المدني، مولى ابن عباس، أصله من البربر من أهل المغرب. قيل: كان لحصين ابن أبي الحر العنبري، فوهبه لابن عباس. حدث عن عائشة وأبي هريرة وابن عباس وعلي بن أبي طالب مرسلا كما قال أبو زرعة الرازي، وابن عمر وعبد الله بن عمرو، وخلق كثير. وحدث عنه الشعبي وإبراهيم النخعي وحبيب بن أبي ثابت وعمرو بن دينار وجابر بن زيد، وأمم سواهم. قال عمرو بن دينار: دفع إلي جابر بن زيد مسائل أسأل عنها عكرمة وجعل يقول: هذا عكرمة مولى ابن عباس، هذا البحر فسلوه. وقال الشعبي: ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة. تكلم فيه الإمام مالك، ولذلك تركه الإمام مسلم وغيره، واتهمه بعضهم برأي الخوارج، لكن صنف في الذب عنه جماعة من الأئمة منهم أبو جعفر الطبري ومحمد بن نصر المروزي وأبو عبد الله بن منده وأبو عمر بن عبد البر. قال العجلي: مكي، تابعي، ثقة، بريء مما يرميه به الناس من الحرورية. ¬

(¬1) الشريعة (3/ 326/1734) (¬2) طبقات ابن سعد (2/ 385 و5/ 287) وثقات ابن حبان (5/ 229 - 230) وتهذيب الكمال (20/ 264 - 292) وسير أعلام النبلاء (5/ 12 - 36) وميزان الاعتدال (3/ 93 - 97) وتهذيب التهذيب (7/ 263 - 273) والتقريب (1/ 685).

موقفه من المبتدعة:

وقال الحافظ ابن حجر: ثقة ثبت، عالم بالتفسير، لم يثبت تكذيبه عن ابن عمر، ولا يثبت عنه بدعة. مات رحمه الله سنة خمس ومائة، وقيل غير ذلك. موقفه من المبتدعة: - عن قتادة: أن عكرمة أنكر مسح الخفين، فقلت له: إن ابن عباس بلغني أنه كان يمسح، قال: ابن عباس إذا خالف القرآن لم يؤخذ عنه. قال همام في هذا الحديث: عن قتادة قال: قلت لعكرمة: لولا ابن عباس ما سألك أحد عن شيء. (¬1) هذا موقف طيب من عكرمة مبني على أصل نفي التقليد فالأصل صحيح لكن ثبت المسح بالسنة. قال الخطيب معلقا: كان ابن عباس أعلم بكتاب الله من عكرمة، وإنما مسح على الخفين لثبوت ذلك عنده، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعله، (¬2) وحمل الآية التي أشار إليها عكرمة على ما ذكر أبو عبيد، أن المراد بغسل الأرجل إذا لم تكن مستورة بالخفاف، وأن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسرت كتاب الله عز وجل. (¬3) ¬

(¬1) الفقيه والمتفقه (1/ 235 - 236). (¬2) عبد الرزاق (1/ 208/802) وابن أبي شيبة (1/ 165/1893) والطحاوي في شرح المشكل (6/ 291 - 292) والبيهقي (1/ 273) وقال: "هذا إسناد صحيح كلهم عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا عليه: للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوم وليلة وهو في حكم المرفوع وقد ثبت عن غيره من الصحابة رضي الله عنهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ". (¬3) الفقيه والمتفقه (1/ 236).

موقفه من الجهمية:

- وعن عكرمة: {ولا يزالون مختلفين} (¬1) يعني: في الأهواء، {إِلًّا مَنْ رحم ربك} (¬2) هم أهل السنة. (¬3) موقفه من الجهمية: - عن عكرمة أنه كان يقرأ هذا الحرف {فلما تجلى ربك للجبل جعله دكًا} (¬4) قال: كان حجرا أصم فلما تجلى له صار تلا ترابا دكا من الدكوات. (¬5) - جاء في أصول الاعتقاد: عن عكرمة في قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وزيادة} (¬6) قال: قوله: أحسنوا الحسنى: قول لا إله إلا الله والحسنى الجنة والزيادة (النظر) إلى وجهه الكريم. (¬7) ¬

(¬1) هود الآية (118). (¬2) هود الآية (119). (¬3) الاعتصام (1/ 83) ورواه بنحوه ابن جرير في تفسيره (5/ 533/18713 شاكر). (¬4) الأعراف الآية (143). (¬5) السنة لعبد الله (65). (¬6) يونس الآية (26). (¬7) أصول الاعتقاد (3/ 512/796).

المسيب بن رافع الأسدي (105 هـ)

المُسَيَّب بن رافع الأَسَدِي (¬1) (105 هـ) الفقيه الكبير المسيب بن رافع الأسدي الكاهلي، أبو العلاء الكوفي الأعمى، والد العلاء بن المسيب. روى عن الأسود بن يزيد والبراء بن عازب وأبي إياس عامر بن عبدة وذكوان أبي صالح السمان وخلق. وروى عنه سليمان الأعمش وعاصم بن بهدلة وابنه العلاء وإسماعيل بن أبي خالد وعمرو بن ثابت وآخرون. ذكره ابن حبان في الثقات. وعن يزيد بن هارون عن العوام عن المسيب بن رافع أنه كان يختم القرآن في ثلاث ثم يصبح اليوم الذي يختم فيه صائما. وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة. مات رحمه الله سنة خمس ومائة. موقفه من المبتدعة: عن العلاء بن المسيب عن أبيه قال: إنا نتبع ولا نبتدع، ونقتدي ولا نبتدي ولن نضل ما تمسكنا بالآثار. (¬2) طاووس (¬3) (106 هـ) طَاوُوس بن كَيْسَان الفقيه القدوة عالم اليمن، أبو عبد الرحمن الفارسي ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (6/ 293) وثقات ابن حبان (5/ 437) وسير أعلام النبلاء (5/ 102) وتهذيب الكمال (27/ 586) وتهذيب التهذيب (10/ 153) وشذرات الذهب (1/ 131). (¬2) ذم الكلام (ص.98). (¬3) طبقات ابن سعد (5/ 537 - 542) والحلية (4/ 3 - 23) ووفيات الأعيان (2/ 509 - 511) والسير (5/ 38 - 49) وتهذيب الكمال (13/ 357 - 375) وتذكرة الحفاظ (1/ 90) والوافي بالوفيات (16/ 412) والعقد الثمين (5/ 58 - 59) وشذرات الذهب (1/ 133 - 134) والبداية والنهاية (9/ 244 - 253).

موقفه من المبتدعة:

ثم اليمني الجندي الحافظ. روى عن أبي هريرة وابن عباس وزيد بن ثابت وعائشة. وعنه جماعة منهم: عطاء ومجاهد، وعكرمة وعمرو بن دينار. قال قيس بن سعد: هو فينا مثل ابن سيرين في أهل البصرة. قال سفيان: وحلف لنا إبراهيم بن ميسرة وهو مستقبل الكعبة، ورب هذه البنية ما رأيت أحدا، الشريف والوضيع عنده بمنزلة، إلا طاووسا. عن ابن أبي نجيح عن أبيه أن طاووسا قال له: يا أبا نجيح، من قال واتقى الله خير ممن صمت واتقى الله. ويروى أن طاووسا جاء في السحر يطلب رجلا، فقالوا: هو نائم، قال: ما كنت أرى أن أحدا ينام في السحر. عن داود بن إبراهيم أن طاووسا رأى رجلا مسكينا في عينيه عمش، وفي ثوبه وسخ، فقال له: عُدَّ أن الفقر من الله، فأين أنت من الماء. وقال ابن حبان: كان من عباد أهل اليمن، ومن سادات التابعين، وكان قد حج أربعين حجة، وكان مستجاب الدعوة. قال ابن شهاب: لو رأيت طاووسا: علمت أنه لا يكذب. توفي سنة ست ومائة. موقفه من المبتدعة: - عن ابن حثيم أن طاوسا كان جالسا هو وطلق بن حبيب، فجاءهما رجل من أهل الأهواء، فقال: أتأذن لي أن أجلس؟ فقال له طاوس: إن جلست قمنا. فقال: يغفر الله لك أبا عبد الرحمن. فقال: هو ذاك إن جلست والله قمنا فانصرف الرجل. (¬1) - عن الصلت بن راشد، قال: سألت طاوسا عن مسألة فقال لي: أكانت؟ قلت: نعم، قال: آلله، قلت: آلله، قال: إن أصحابنا أخبرونا عن ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/447/ 403).

معاذ بن جبل أنه قال: أيها الناس لا تسألوا عن البلاء قبل نزوله فيذهب بكم ههنا وههنا وإنكم إن لم تسألوا لم تبتلوا، فإنه لا ينفك أن يكون في المسلمين من إذا قال وفق أو قال سدد. (¬1) - وقال طاوس: إني لأرحم الذين يسألون عما لم يكن مما أسمع منهم. (¬2) - وعن طاوس قال: ما ذكر الله هوى في القرآن إلا عابه. (¬3) " التعليق: صدق طاوس رحمه الله قال تعالى: {فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا} (¬4) فنهى عن اتباعه لأنه يصد عن العدل ويصد عن سبيل الله، قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (¬5). وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلى الأرض وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} (¬6)، وقال: {أرءيت من اتخذ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عليه وكيلاً} (¬7)، وقال: {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدًى ¬

(¬1) الإبانة (1/ 2/395 - 396/ 293). (¬2) الإبانة (1/ 2/419/ 342). (¬3) أصول الاعتقاد (1/ 147/228). (¬4) النساء الآية (135). (¬5) ص الآية (26). (¬6) الأعراف الآية (176). (¬7) الفرقان الآية (43).

موقفه من المشركين:

من اللَّهِ} (¬1) وغيرها من الآيات الذامات للهوى. - وروى مسلم في مقدمة صحيحه: عن سليمان بن موسى قال لقيت طاوسا فقلت: حدثني فلان كيت وكيت، قال: إن كان صاحبك مليا فخذ عنه. (¬2) موقفه من المشركين: عن معمر عن ابن طاووس أو غيره أن رجلا كان يسير مع طاووس، فسمع غرابا ينعب فقال: خير، فقال طاووس: أي خير عند هذا أو شر؟ لا تصحبني، أو قال: لا تمش معي. (¬3) موقفه من الرافضة: روى اللالكائي بسنده إلى محمد بن بلال عن طاوس قال: حب أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنة. (¬4) موقفه من الجهمية: روى اللالكائي في أصول الاعتقاد عن طاوس قال: أصحاب المراء والمقاييس لا يزال بهم المراء والمقاييس حتى يجحدوا الرؤية ويخالفوا السنة. (¬5) ¬

(¬1) القصص الآية (50). (¬2) أخرجه: مسلم في المقدمة (1/ 15) والرامهرمزي في المحدث الفاصل (ص.407) والخطيب في الكفاية بنحوه (ص.132). (¬3) السير (5/ 40). (¬4) أصول الاعتقاد (7/ 1312/2323) وهو في المنهاج (6/ 136 - 137). (¬5) أصول الاعتقاد (3/ 554 - 555/ 868).

موقفه من الخوارج:

موقفه من الخوارج: - عن سعيد المكي عن طاوس: {وَمَنْ لَمْ يحكم بما أنزل اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (¬1) قال: ليس بكفر ينقل عن الملة. (¬2) - روى عبد الرزاق بسنده إلى ابن طاووس قال: لما قدمت الحروراء علينا فر أبي، فلحق بمكة، ثم لقي ابن عمر فقال: قدمت الحروراء علينا، ففررت منهم، ولو أدركوني لقتلوني، فقال ابن عمر: أفلحت إذا وأنجحت. (¬3) - وله بسنده إليه قال: كان أبي يحرض يوم رزيق في قتال الحرورية. (¬4) موقفه من المرجئة: - عن ابن طاوس عن أبيه قال: مثل الإيمان كشجرة، فأصلها الشهادة وساقها وورقها كذا، وثمرها الورع ولا خير في شجرة لا ثمر لها ولا خير في إنسان لا ورع له. (¬5) - وعن ابن طاوس عن أبيه قال: كان إذا قيل له: أمؤمن أنت؟ قال: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا يزيد على ذلك. (¬6) ¬

(¬1) المائدة الآية (44). (¬2) الإبانة (2/ 6/735/ 1006). (¬3) المصنف (10/ 119/18580). (¬4) المصنف (10/ 120/18581). (¬5) السنة لعبد الله (85) والسنة للخلال (4/ 59 - 60/ 1166). (¬6) السنة لعبد الله (88) والإبانة (2/ 7/877 - 878/ 1203) والإيمان لأبي عبيد (13) والسنة للخلال (4/ 129/1334) والشريعة (1/ 305/326).

موقفه من القدرية:

موقفه من القدرية: - جاء في السنة لعبد الله: كان طاوس بمكة يصلي ورجلان خلفه يتجادلان في القدر، فانصرف إليهما فقال: يرحمكما الله تجادلان في حكم الله. (¬1) - وأخرج اللالكائي بسنده: قال حنظلة بن أبي سفيان: كنت أرى طاوسا إذا أتاه قتادة يفر منه، وكان قتادة يرى القدر. (¬2) - وروى اللالكائي بسنده عن طاوس قال: أدركت ناسا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون: كل شيء بقدر. وسمعت عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله: "كل شيء بقدر حتى العجز والكيس" (¬3). (¬4) - وعن عبد الله بن الإمام أحمد قال: حدثنا أبي حدثنا سفيان قال: قال عمر: وقال لنا طاوس أخزوا معبدا الجهني فإنه قدري. (¬5) - وجاء في سير أعلام النبلاء: قال طاوس: احذروا قول معبد، فإنه كان قدريا. (¬6) - وروى عن عمرو قال: بينما طاوس يطوف بالبيت لقيه معبد الجهني فقال له طاوس أنت معبد؟ قال: نعم. قال: فالتفت إليهم طاوس فقال: هذا ¬

(¬1) السنة لعبد الله (138). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 704/1143). (¬3) أحمد (2/ 110) ومسلم (4/ 2045/2655). (¬4) أصول الاعتقاد (4/ 640/1027) والإبانة (2/ 9/173/ 1663). (¬5) السنة لعبد الله (122). (¬6) السير (4/ 187).

القاسم بن محمد (106 هـ)

معبد فأهينوه. (¬1) - روى عبد الله بن الإمام أحمد بسنده إلى يحيى بن سعيد أن أبا الزبير أخبره أنه كان يطوف مع طاوس بالبيت فمر بمعبد الجهني فقال قائل لطاوس: هذا معبد الجهني الذي يقول في القدر، فعدل إليه طاوس حتى وقف عليه، فقال: أنت المفتري على الله القائل ما لا تعلم. قال معبد: يكذب علي، قال أبو الزبير: فعدلت مع طاوس حتى دخلنا على ابن عباس، فقال له طاوس: يا أبا عباس الذين يقولون في القدر فقال ابن عباس: أروني بعضهم. قال: قلنا صانع ماذا؟ قال إذا أجعل يدي في رأسه ثم أدق عنقه. (¬2) - وجاء في الإبانة عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال: اجتنبوا الكلام في القدر؛ فإن المتكلمين فيه يقولون بغير علم. (¬3) القاسم بن محمد (¬4) (106 هـ) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، الإمام القدوة الحافظ الحجة عالم وقته بالمدينة مع سالم وعكرمة، أبو محمد وأبو عبد الرحمن القرشي التيمي البكري المدني. تربى القاسم في حجر عمته أم المؤمنين عائشة وتفقه منها ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 704/1141) والإبانة (2/ 11/301/ 1963). (¬2) السنة لعبد الله (138 - 139). (¬3) الإبانة (2/ 10//214/ 1774) وشرح السنة للبغوي (1/ 145). (¬4) طبقات ابن سعد (5/ 187 - 194) والجرح والتعديل (7/ 118) وحلية الأولياء (2/ 183 - 187) وسير أعلام النبلاء (5/ 53 - 60) ووفيات الأعيان (4/ 59 - 60) وتهذيب الكمال (23/ 427 - 435) وتذكرة الحفاظ (1/ 96 - 97) والبداية والنهاية (9/ 260 - 261) وشذرات الذهب (1/ 135).

موقفه من المبتدعة:

وأكثر عنها. وحدث عن جماعة من الصحابة منهم أبو هريرة وابن عباس وابن عمر ومعاوية وزينب بنت جحش وأسماء بنت عميس وطائفة. وحدث عنه ابنه عبد الرحمن، والشعبي ونافع العمري والزهري وخلق كثير. قال ابن سعد: أمه أم ولد يقال لها: سودة، وكان ثقة، عالما، رفيعا، فقيها، إماما، ورعا، كثير الحديث. عن القاسم، قال: كانت عائشة قد استقلت بالفتوى في خلافة أبي بكر وعمر وإلى أن ماتت، وكنت ملازما لها مع ترهاتي، وكنت أجالس البحر ابن عباس وقد جلست مع أبي هريرة وابن عمر فأكثرت، فكان هناك -يعني ابن عمر- ورع وعلم جم ووقوف عما لا علم له به. قال ابن حبان: من سادات التابعين، ومن أفضل أهل زمانه علما وأدبا وعقلا وفقها، وكان صموتا لا يتكلم، فلما ولي عمر بن عبد العزيز قال أهل المدينة: اليوم تنطق العذراء في خذرها -أرادوا به القاسم بن محمد-. عن أبي الزناد قال: ما رأيت أحدا أعلم بالسنة من القاسم بن محمد وما كان الرجل يعد رجلا حتى يعرف السنة. توفي سنة ست ومائة. موقفه من المبتدعة: - روى عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه قال: ما رأيت أحدا أعلم بالسنة من القاسم بن محمد، وما كان الرجل يعد رجلا حتى يعرف السنة، وما رأيت أحدَّ ذهنا من القاسم، إن كان ليضحك من أصحاب الشبه كما يضحك الفتى. (¬1) - وقال القاسم: إن من إكرام الرجل نفسه أن لا يقول إلا ما أحاط به ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (5/ 56).

موقفه من القدرية:

علمه. (¬1) - وقال رحمه الله: يا أهل العراق والله لا نعلم كثيرا مما تسألوننا عنه، ولأن يعيش الرجل جاهلا إلا أن يعلم ما فرض الله عليه، خير له من أن يقول على الله ورسوله ما لا يعلم. (¬2) - عن ابن عون قال: قال القاسم: إنكم تسألون عن أشياء ما كنا نسأل عنها وتنقرون عن أشياء ما كنا ننقر عنها وتسألون عن أشياء ما أدري ما هي ولو علمناها ما حل لنا أن نكتمكوها. (¬3) - جاء في السير أنه رحمه الله أوصى أن لا يبنى على قبره. (¬4) موقفه من القدرية: - جاء في أصول الاعتقاد عن القاسم قال: ويحكم كيف تنكرون القدر وقد كان في خطبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له" (¬5).اهـ (¬6) - وجاء في ذم الكلام: عن القاسم أنه مر بقوم يذكرون القدر فقال: تكلموا فيما سمعتم الله ذكر في كتابه وكفوا عما كف الله عنه. (¬7) ¬

(¬1) الفقيه والمتفقه (2/ 368) والمدخل للبيهقي (2/ 269/805). (¬2) المعرفة والتاريخ (1/ 546) وجامع بيان العلم (2/ 837) والمدخل للبيهقي (2/ 270/807). (¬3) الدارمي (1/ 49). (¬4) السير (5/ 60). (¬5) أحمد (3/ 371) ومسلم (2/ 593/867 (45)) والنسائي (3/ 209 - 210/ 1577) وابن ماجه (1/ 17/45) من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر به. (¬6) أصول الاعتقاد (4/ 762/1271). (¬7) ذم الكلام (195).

سالم بن عبد الله (106 هـ)

- وجاء في الإبانة: عن عكرمة بن عمار قال: سمعت سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد يلعنان القدرية؛ فقلت لهما: من القدرية يرحمكما الله؟ قالا: الذين يقولون الزنا ليس بقدر. (¬1) سالم بن عبد الله (¬2) (106 هـ) سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب الإمام الزاهد الحافظ مفتي المدينة، أبو عمر ولد في خلافة عثمان حدث عن أبيه فجود وأكثر وعن أبي هريرة وأبي لبابة وعائشة وغيرهم. وروى عنه ابنه أبو بكر وسالم بن أبي الجعد وعمرو بن دينار ومحمد بن واسع وغيرهم. قال مالك: لم يكن أحد في زمن سالم أشبه بمن مضى من الصالحين في الزهد والفضل والعيش منه. قال ابن المبارك: كان فقهاء أهل المدينة الذين كانوا يصدرون عن رأيهم سبعة: ابن المسيب وسليمان بن يسار وسالم والقاسم وعروة وعبيد الله بن عبد الله وخارجة بن زيد. وقال أحمد وابن راهويه: أصح الأسانيد الزهري عن سالم عن أبيه. توفي سالم سنة ست ومائة في آخر ذي الحجة، وهشام بن عبد الملك بالمدينة وكان حج بالناس تلك السنة ثم قدم المدينة فوافق موت سالم فصلى عليه. ¬

(¬1) الإبانة (2/ 9/122/ 1553) والسنة لعبد الله (122). (¬2) طبقات ابن سعد (5/ 195 - 201) والجرح والتعديل (4/ 184) والحلية (2/ 193 - 198) والسير (4/ 457 - 467) ووفيات الأعيان (2/ 34 - 50) والوافي بالوفيات (15/ 83 - 85) وتهذيب الكمال (10/ 145 - 154) وتذكرة الحفاظ (1/ 88 - 89) والبداية والنهاية (9/ 244) وشذرات الذهب (1/ 133).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: - روى الحميدي عن عمرو بن دينار عن سالم عن أبيه قال: قال عمر: إذا رميتم الجمرة وذبحتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء حرم عليكم إلا النساء والطيب. قال سالم: وقالت عائشة: طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحرمه قبل أن يحرم ولحله بعدما رمى الجمرة وقبل أن يزور (¬1)، قال سالم: وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن تتبع. (¬2) - وقال ابن وهب: حدثني ابن لهيعة أن رجلا سأل سالم بن عبد الله بن عمر عن شيء، فقال: لم أسمع في هذا شيئا، فقال له الرجل: فأخبرني أصلحك الله برأيك، فقال: لا، ثم أعاد عليه، فقال: إني أرضى برأيك، فقال سالم: إني لعلي إن أخبرتك برأيي ثم تذهب فأرى بعد ذلك رأيا غيره فلا أجدك. (¬3) موقفه من القدرية: - جاء في السنة عن عكرمة بن عمار قال: سمعت القاسم بن محمد وسالم ابن عبد الله يلعنان القدرية الذين يكذبون بقدر الله حتى يؤمنوا بخيره وشره. (¬4) - وجاء في أصول الاعتقاد عن سالم بن عبد الله بن عمر -وسأله ¬

(¬1) أحمد (6/ 39) والبخاري (3/ 505/1539) ومسلم (2/ 846/1189) وأبو داود (2/ 358 - 359/ 1745) والترمذي (3/ 259/917) والنسائي (5/ 147 - 148/ 2683 - 2686) وابن ماجه (2/ 976/2926). (¬2) ذم الكلام (ص.90) والمسند للشافعي (1/ 299/779) والسنن الكبرى للبيهقي (5/ 135 - 136). (¬3) إعلام الموقعين (1/ 74). (¬4) السنة لعبد الله (122) والإبانة (2/ 9/122/ 1553) بنحوه.

عبد الله بن أبي سلمة العمري (106 هـ)

رجل- فقال: أيزني الرجل بقدر؟ فقال: نعم. قال: أشيء كتبه الله عليه؟ قال: نعم. قال: فيعذبه عليه وقد كتبه عليه؟ قال: فحصبه. (¬1) عبد الله بن أبي سلمة العمري (106 هـ) موقفه من الجهمية: عن عبد الله بن أبي سلمة العمري المدني -نزيل بغداد- أنه سئل عن من قال: إن القرآن غير مخلوق؟ فقال: إن الذي لا يقول: إنه غير مخلوق فهو يقول مخلوق إلا أنه جعل هذه سترة يستتر بها. (¬2) سليمان بن يسار (¬3) (107 هـ) الفقيه، الإمام، عالم المدينة ومفتيها أبو أيوب، مولى أم المؤمنين ميمونة. حدث عن: زيد بن ثابت، وابن عباس، وأبي هريرة. وروى عنه: الزهري، وعمرو بن دينار، وأبو الزناد. قال ابن سعد: كان ثقة، عالما، رفيعا، فقيها، كثير الحديث. وقال أبو الزناد: كان ممن أدركت من فقهاء المدينة وعلمائهم ممن يرضى وينتهى إلى قولهم فذكر منهم سليمان بن يسار. وقال الزهري: كان من العلماء. مات سنة سبع ومائة. ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 761 - 762/ 1270). (¬2) أصول الاعتقاد (2/ 359/527). (¬3) السير (4/ 444) وتهذيب الكمال (12/ 100 - 103) وتهذيب التهذيب (4/ 228) والحلية (2/ 190) ووفيات الأعيان (2/ 399) وشذرات الذهب (1/ 134).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: عن مالك قال: كان سليمان بن يسار إذا سمع في مجلس مراء قام وتركهم. (¬1) موقفه من القدرية: أخرج اللالكائي بسنده إلى عكرمة قال: سمعت القاسم وسليمان -يعني ابن يسار- يلعنان القدرية. (¬2) موقف السلف من كثير عزة الشيعي ومخازيه (107 هـ) - قال الزبير بن بكار: كان شيعيا، يقول بتناسخ الأرواح، وكان خشبيا يؤمن بالرجعة. (¬3) - من مخازي كثير قوله: (¬4) ألا إن الأئمة من قريش ... ولاة الحق أربعة سواء علي والثلاثة من بنيه ... هم الأسباط ليس بهم خفاء فسبط سبط إيمان وبر ... وسبط غيبته كربلاء وسبط لا يذوق الموت حتى ... يقود الخيل يقدمها اللواء ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/523/ 626). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 713 - 714/ 1167). (¬3) السير (5/ 152). (¬4) المنهاج (3/ 475 - 476).

بكر بن عبد الله المزني (108 هـ)

تغيب لا يرى فيهم زمانا ... برضوى عنده عسل وماء بكر بن عبد الله المزني (¬1) (108 هـ) بكر بن عبد الله بن عمرو الإمام القدوة الواعظ الحجة أبو عبد الله المزني أحد الأعلام روى عن المغيرة بن شعبة وابن عباس وابن عمر وغيرهم روى عنه ثابت البناني وعاصم الأحول وسليمان التيمي وآخرون. كان ثبتا ثقة كثير الحديث حجة فقيها. قال ابن المديني: كان من خيار الناس. كان سليمان التيمي يقول: الحسن شيخ البصرة وبكر فتاها. من أقواله: إذا رأيتم الرجل موكلا بعيوب الناس ناسيا لعيبه فاعلموا أنه قد مكر به. وقال: لا يكون العبد تقيا حتى يكون تقي الطمع تقي الغضب. وقال: من مثلك يا ابن آدم؟ خلى بينك وبين الماء والمحراب متى شئت تطهرت ودخلت على ربك عز وجل ليس بينك وبينه ترجمان ولا حاجب. توفي سنة ثمان ومائة. موقفه من المرجئة: جاء في الإبانة: عن بكر بن عبد الله -يعني المزني- قال: لو انتهيت إلى هذا المسجد وهو غاص بأهله مفعم من الرجال، فقيل لي: أي هؤلاء خير؟ لقلت لسائلي: أتعرف أنصحهم لهم فإن عرفه عرفت أنه خيرهم. ولو انتهيت ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (7/ 209 - 211) والجرح والتعديل (2/ 388) والسير (4/ 532 - 536) وتهذيب الكمال (4/ 216) والحلية (2/ 224 - 232) والبداية والنهاية (9/ 267 - 268) وشذرات الذهب (1/ 135) ومشاهير علماء الأمصار (90).

موقفه من القدرية:

إلى هذا المسجد وهو غاص بأهله مفعم من الرجال، فقيل لي: أي هؤلاء شر؟ لقلت لسائلي: أتعرف أغشهم لهم؟ فإن عرفه عرفت أنه شرهم، وما كنت لأشهد على خيرهم أنه مؤمن مستكمل الإيمان، ولو شهدت له بذلك شهدت أنه في الجنة. وما كنت لأشهد على شرهم أنه منافق بريء من الإيمان ولو شهدت عليه بذلك شهدت أنه في النار ولكن أخاف على خيرهم، فكم عسى خوفي على شرهم، فإذا رجوت لشرهم فكم رجائي لخيرهم هكذا السنة. (¬1) موقفه من القدرية: روى أبو نعيم في الحلية بسنده إلى عبد الله بن بكر بن عبد الله المزني: أخبرتني أم عبد الله بنت بكر بن عبد الله قالت: كان أبوك قد جعل على نفسه أن لا يسمع رجلين يتنازعان في القدر إلا قام فصلى ركعتين. (¬2) مُوَرِّق العجلي (¬3) (108 هـ) الإمام مورق بن عبد الله العِجْلِي، أبو المعتمر البصري. روى عن عمر وأبي الدرداء وأبي ذر وابن عمر وجندب، وجماعة. وعنه توبة العنبري وقتادة وعاصم الأحول وحميد الطويل وإسماعيل بن أبي خالد. ¬

(¬1) الإبانة (2/ 751 - 752/ 1045). (¬2) الحلية (2/ 225). (¬3) طبقات ابن سعد (7/ 213) والحلية (2/ 234) والسير (4/ 353) وتهذيب الكمال (29/ 16 - 17) وتهذيب التهذيب (10/ 331) والكاشف (2/ 300).

موقفه من المبتدعة:

قال ابن سعد: كان ثقة عابدا. وذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان من العباد الخشن. وقال الذهبي: عابد مجاهد بار. مات رحمه الله سنة ثمان ومائة، وقيل خمس ومائة. موقفه من المبتدعة: عن حماد بن سلمة عن حميد أن قوما قرؤوا السجدة، فلما سجدوا رفعوا أيديهم واستقبلوا القبلة. فأنكر ذلك عليهم مورق العجلي وكرهه. (¬1) الحسن البصري (¬2) (110 هـ) الحسن بن أبي الحسن يسار أبو سعيد البصري مولى زيد بن ثابت وأمه مولاة لأم سلمة أم المؤمنين، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر. سمع عثمان يخطب في الجمعة. وكان سيد أهل زمانه علما وعملا. روى عن عمران بن حصين والمغيرة بن شعبة وسمرة وابن عباس وغيرهم، لكن في روايته تدليس إذا عنعن. روى عنه أيوب وشيبان النحوي ويونس بن عبيد وغيرهم. وكان جامعا عالما رفيعا فقيها ثقة حجة مأمونا عابدا ناسكا كثير العلم فصيحا جميلا وسيما، عن أبي بردة قال: ما رأيت أحدا أشبه بأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - منه. وعن أنس بن مالك قال: سلوا الحسن فإنه حفظ ونسينا، وقال قتادة: ¬

(¬1) ابن وضاح (ص.52). (¬2) طبقات ابن سعد (7/ 156 - 178) والمعرفة والتاريخ (2/ 32و3/ 32) والجرح والتعديل (3/ 40 - 42) وحلية الأولياء (2/ 131 - 161) والوافي بالوفيات (12/ 306 - 308) ووفيات الأعيان (2/ 69 - 73) وسير أعلام النبلاء (4/ 563) وتهذيب الكمال (6/ 95 - 127) وتذكرة الحفاظ (1/ 71 - 72) والبداية والنهاية (9/ 280 - 286) وشذرات الذهب (1/ 136 - 138).

موقفه من المبتدعة:

ما جمعت علم الحسن إلى أحد من العلماء إلا وجدت له فضلا عليه، غير أنه إذا أشكل عليه شيء كتب فيه إلى سعيد بن المسيب يسأله، وما جالست فقيها قط إلا رأيت فضل الحسن. قال معاذ بن معاذ: قلت للأشعث: قد لقيت عطاء وعندك مسائل، أفلا سألته؟ قال: ما لقيت أحدا بعد الحسن إلا صغر في عيني. وقال قتادة وحميد ويونس: ما رأينا أحدا أكمل مروءة من الحسن. وقال عوف: ما رأيت رجلا أعلم بطريق الجنة من الحسن. عن بكر ابن عبد الله قال: من سره أن ينظر إلى أفقه من رأينا فلينظر إلى الحسن. وقال قتادة: كان الحسن من أعلم الناس بالحلال والحرام. رمي بالقول في القدر! لكن قال سليمان التيمي: رجع الحسن عن قوله في القدر. قال حميد: سمعت الحسن يقول: خلق الله الشيطان، وخلق الخير، وخلق الشر. فقال رجل: قاتلهم الله! يكذبون على هذا الشيخ. قال أيوب السختياني: لو رأيت الحسن لقلت إنك لم تجالس فقيها قط. مات في أول رجب سنة عشر ومائة، وكانت جنازته مشهودة، صلوا عليه عقيب الجمعة. موقفه من المبتدعة: - صلى الحسن الجمعة وجلس فبكى، فقيل له ما يبكيك يا أبا سعيد؟ فقال: تلومني على البكاء، ولو أن رجلا من المهاجرين اطلع من باب مسجدكم؛ ما عرف شيئا مما كان عليه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أنتم اليوم عليه إلا قبلتكم هذه. (¬1) ¬

(¬1) إغاثة اللهفان (1/ 206).

- عن الحسن قال: أدركت عشرة آلاف من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لو رأوكم لقالوا: ما لهؤلاء؟ .. مجانين؟ ولو رأيتموهم لقلتم: هؤلاء مجانين، ولو رأوا خياركم لقالوا: ما لهؤلاء في الآخرة من حاجة، ولو رأوا شراركم لقالوا: ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب. (¬1) - عن الحسن قال: لو أن رجلا أدرك السلف الأول ثم بعث اليوم ما عرف من الإسلام شيئا -قال: ووضع يده على خده ثم قال- إلا هذه الصلاة. ثم قال: أما والله على ذلك لمن عاش في هذه النكراء، ولم يدرك هذا السلف الصالح فرأى مبتدعا يدعوا إلى بدعته، ورأى صاحب دنيا يدعوا إلى دنياه فعصمه الله عن ذلك، وجعل قلبه يحن إلى ذلك السلف الصالح يسأل عن سبيلهم ويقتص آثارهم ويتبع سبيلهم، ليعوض أجرا عظيما. فكذلك فكونوا إن شاء الله. (¬2) - وروى الدارمي عن المبارك عن الحسن قال: سننكم -والله الذي لا إله إلا هو- بينهما بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى وهم أقل الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا. (¬3) - وعنه رضي الله عنه كان يقول: لا تجالسوا أهل الأهواء ولا ¬

(¬1) ما جاء في البدع (ص.130). (¬2) ما جاء في البدع (ص.140) وذكره الشاطبي في الاعتصام (1/ 34) وفيه عن أنس وهو خطأ. (¬3) الدارمي (1/ 71 - 72) والباعث (ص.72).

تجادلوهم ولا تسمعوا منهم. (¬1) - وعنه قال: لا تجالسوا أهل الأهواء فإن مجالستهم ممرضة للقلوب. (¬2) - وعنه رضي الله عنه قال: أهل الهوى بمنزلة اليهود والنصارى. (¬3) - وعنه رضي الله عنه قال: ليس لأهل البدع غيبة. (¬4) - وعنه قال: ثلاثة ليست لهم حرمة في الغيبة: أحدهم صاحب بدعة الغالي ببدعته. (¬5) - وعنه قال: ليس لصاحب بدعة ولا لفاسق يعلن بفسقه غيبة. (¬6) - وعنه رضي الله عنه قال: صاحب البدعة لا يقبل الله له صلاة ولا صياما ولا حجا ولا عمرة ولا جهادا ولا صرفا ولا عدلا. (¬7) - وعنه قال: صاحب البدعة لا يزداد اجتهادا -صياما وصلاة- إلا ازداد من الله بعدا. (¬8) - وعنه قال: لا يقبل الله من صاحب البدعة شيئا. (¬9) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (1/ 150/240) وذم الكلام (ص.189) والإبانة (2/ 3/444/ 395) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 944) والبيهقي في الشعب (7/ 61) وميزان الاعتدال (1/ 3). (¬2) الإبانة (2/ 3/438/ 373) وانظر الاعتصام (1/ 113). (¬3) أصول الاعتقاد (1/ 148/233). (¬4) ذم الكلام (ص.177) وأصول الاعتقاد (1/ 158/280) والكفاية في علم الرواية (ص.43). (¬5) أصول الاعتقاد (1/ 158/278). (¬6) أصول الاعتقاد (1/ 158/279). (¬7) أصول الاعتقاد (1/ 156 - 157/ 270) وذم الكلام (ص.148) والشريعة (1/ 200/144) والباعث (ص.73). (¬8) ابن وضاح (ص.67) وأورده الشاطبي في الاعتصام (1/ 111). (¬9) أصول الاعتقاد (1/ 157/271).

- وعنه قال: أبى الله تبارك وتعالى أن يأذن لصاحب هوى بتوبة. (¬1) - وعنه رضي الله عنه قال في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (¬2). قال: وكان علامة حبه إياهم: اتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) - وعنه رضي الله عنه قال: يا أهل السنة ترفقوا رحمكم الله فإنكم من أقل الناس. (¬4) - عن مبارك بن فضالة عن الحسن في هذه الآية: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (¬5) قال: هو المنافق لا يهوى شيئا إلا ركبه. (¬6) - وكان الحسن البصري يقول: شر داء خالط قلبا يعني الهوى. (¬7) - عن الحسن في قوله: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (¬8) قال: الكتاب: القرآن. والحكمة: السنة. (¬9) - وعنه أن رجلا أتاه فقال: يا أبا سعيد إني أريد أن أخاصمك فقال ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (1/ 159 - 160/ 285). (¬2) آل عمران الآية (31). (¬3) أصول الاعتقاد (1/ 77/68). (¬4) أصول الاعتقاد (1/ 63/19). (¬5) الجاثية الآية (23). (¬6) السير (4/ 570 - 571). (¬7) السنة لعبد الله (ص.25) والسنة للخلال (5/ 34). (¬8) البقرة الآية (129). (¬9) أصول الاعتقاد (1/ 78/70).

الحسن: إليك عني فإني قد عرفت ديني وإنما يخاصمك الشاك في دينه. (¬1) - وعنه قال: ذهبت المعارف وبقيت المناكر ومن بقي من المسلمين فهو مغموم. (¬2) - وعنه قال: ما لي لا أرى زمانا إلا بكيت منه فإذا ذهب بكيت عليه. (¬3) " التعليق: قال ابن بطة: إخواني فاستمعوا إلى كلام هؤلاء السادة من الماضين، والأئمة العقلاء من علماء المسلمين، والسلف الصالح من الصحابة والتابعين، هذه أقوالهم والإسلام في طرافة ومطاوعة، وعنفوان قوته واستقامته والأئمة راشدون والأمراء مقسطون، فما ظنكم بنا وبزمان أصبحنا فيه وما نعانيه ونقاسيه ولم يبق من الدين إلا العكر، ومن العيش إلا الكدر ونحن في دردى الدنيا وثمادها؟! - عن مرة سمع الحسن يقول: لا تمكن أذنيك من صاحب هوى فيمرض قلبك، ولا تجيبن أميرا وإن دعاك لتقرأ عنده سورة من القرآن؛ فإنك لا تخرج من عنده إلا بشر مما دخلت. (¬4) - عن الحسن البصري قال: لا تجالس صاحب هوى فيقذف في قلبك ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (1/ 144/215) والإبانة (2/ 3/509/ 586) والشريعة (1/ 189 - 190/ 124) وانظر طبقات الحنابلة (2/ 39). (¬2) الإبانة (1/ 1/184 - 185/ 19). (¬3) الإبانة (1/ 1/186/ 21). (¬4) الإبانة (2/ 3/444 - 445/ 396) وشعب الإيمان (7/ 60).

ما تتبعه عليه فتهلك أو تخالفه فيمرض قلبك. (¬1) - عن ابن عيينة قال: سمعت رجلا من أهل البصرة يذكر عن الحسن، قال: ما أدركت فقيها قط يماري ولا يداري ينشر حكم الله فإن قبلت حمد الله وإن ردت حمد الله. (¬2) - عن سفيان بن حسين قال: سمعت الحسن وتلا هذه الآية: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} (¬3). قال: ابتغاء الضلالة. (¬4) - عن الحسن أنه كان يقول: اتهموا أهواءكم ورأيكم على دين الله وانتصحوا كتاب الله على أنفسكم. (¬5) - وعنه قال: شرار عباد الله يتبعون شرار المسائل يعمون بها عباد الله عز وجل. (¬6) - عن الأشعث عن الحسن قال: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذونه. (¬7) - قال الشاطبي: وخرج ابن وضاح في كتاب (القطعان) حديث ¬

(¬1) ما جاء في البدع (ص.110) وذكره الشاطبي في الاعتصام (1/ 112). (¬2) الإبانة (2/ 3/518 - 519/ 611). (¬3) آل عمران الآية (7). (¬4) الإبانة (2/ 4/606/ 782). (¬5) الإبانة (1/ 2/389/ 283). (¬6) الإبانة (1/ 2/402 - 403/ 304). (¬7) ذم الكلام (ص.292).

الأوزاعي: أنه بلغه عن الحسن: أنه قال: لن يزال لله نصحاء في الأرض من عباده، يعرضون أعمال العباد على كتاب الله، فإذا وافقوه، حمدوا الله، وإذا خالفوه، عرفوا بكتاب الله ضلالة من ضل، وهدى من اهتدى، فأولئك خلفاء الله. (¬1) - ونقل عبيد بن حميد بن مهران، قال: سألت الحسن كيف يصنع أهل هذه الأهواء الخبيثة بهذه الآية في آل عمران: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (¬2)، قال: نبذوها -ورب الكعبة- وراء ظهورهم. (¬3) - وعن الحسن: إنما هلك من كان قبلكم حين تشعبت بهم السبل، وحادوا عن الطريق، فتركوا الآثار، وقالوا في الدين برأيهم، فضلوا وأضلوا. (¬4) - عن الحسن أنه تلا هذه الآية {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (¬5) قال: قاس إبليس وهو أول من قاس. (¬6) - عن أبي التياح قال: قلت للحسن: إمامنا يقص، فيجتمع الرجال والنساء، فيرفعون أصواتهم بالدعاء. فقال الحسن: إن رفع الصوت بالدعاء ¬

(¬1) الاعتصام (1/ 46). (¬2) آل عمران الآية (105). (¬3) الاعتصام (1/ 75). (¬4) الاعتصام (1/ 135 - 136). (¬5) الأعراف الآية (12) وص الآية (75). (¬6) الدارمي (1/ 65) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 892).

لبدعة، وإن مد الأيدي بالدعاء لبدعة، وإن اجتماع الرجال والنساء لبدعة. (¬1) - قال الحسن: إن هذا القرآن قد قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله، ولم يأتوا الأمر من قبل أوله؛ قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (¬2)، وما تدبر آياته إلا اتباعه بعلمه، أما والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: والله لقد قرأت القرآن كله ما أسقطت منه حرفا، وقد والله أسقطه كله، ما رئي القرآن له في خلق ولا عمل، وإن أحدهم ليقول: والله إني لأقرأ السورة في نفس واحد، ما هؤلاء بالقراء ولا العلماء الورعة، متى كان القراء يقولون مثل هذا؟. لا كثر الله في الناس مثل هذا. قال الحسن: ولقد قرأ القرآن ثلاثة نفر: فرجل قرأ القرآن، فأعده بضاعة؛ يطلب به ما عند الناس، من مصر إلى مصر. وقوم قرؤوا القرآن فثقفوه تثقيف القدح، فأقاموا حروفه، وضيعوا حدوده، واستدروا به ما عند الولاة، واستطالوا به على أهل بلادهم، وما أكثر هذا الصنف من حملة القرآن. لا كثر الله صنفهم تعالى. قال: ورجل قرأ القرآن، فبدأ بدواء ما يعلم من القرآن، فجعله على داء قلبه، فهملت عيناه، وسهر نومه، وتسربل الحزن، وارتدى الخشوع، فبهم يسقي الله الغيث، وينفي العدو، ويدفع البلاء، فوالله لهذا الضرب من حملة القرآن أقل في الناس من الكبريت الأحمر. (¬3) ¬

(¬1) الاقتضاء (2/ 639 - 640). (¬2) ص الآية (29). (¬3) الحوادث والبدع (ص.98 - 99)

موقفه من المشركين:

- قال الحسن: عمل قليل في سنة خير من عمل كثير في بدعة. (¬1) موقفه من المشركين: عن حميد الطويل عن الحسن: {كذلك نَسْلُكُهُ في قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} (¬2) قال الشرك. (¬3) موقفه من الرافضة: - روى الآجري في الشريعة بسنده إلى عبد ربه؛ قال: كنا عند الحسن في مجلس، فذكر كلاما، وذكر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أولئك أصحاب محمد، كانوا أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا؛ قوم اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم؛ فإنهم كانوا ورب الكعبة على الهدي المستقيم. (¬4) - وله بسنده إلى أبي مودود بحر بن موسى؛ قال: سمعت الحسن قرأ هذه الآية: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (¬5). قال: والله ما هي لأهل حرورا، ولكنها لأبي بكر وعمر وأصحابهما. (¬6) - وجاء في أصول الاعتقاد عن مبارك بن فضالة: سمعت الحسن حلف ¬

(¬1) جامع بيان العلم (2/ 1204) وشعب الإيمان (7/ 72) وهو في الاعتصام (1/ 112). (¬2) الحجر الآية (12). (¬3) أبو داود (4619). (¬4) الشريعة (2/ 421/1221) وجامع بيان العلم (2/ 946). (¬5) المائدة الآية (54). (¬6) الشريعة (2/ 421 - 422/ 1223).

موقفه من الصوفية:

بالله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استخلف أبا بكر. (¬1) - وفيه: عن عبد العزيز بن جعفر اللؤلؤي قال: قلت للحسن حب أبي بكر وعمر سنة قال: لا: فريضة (¬2) - وفيه عن كلثوم بن جوشن قال: سأل النضر بن عمرو الحسن البصري فقال: أبو بكر أفضل أم علي فقال: سبحان الله ولا سواء سبقت لعلي سوابق شركه فيها أبو بكر وأحدث أحداثا لم يشركه فيها أبو بكر. أبو بكر أفضل قال: فعمر أفضل أم علي فذكر مثل قوله الأول ثم قال عمر أفضل قال: فعلي أفضل أم عثمان فذكر مثل قوله الأول ثم قال: عثمان أفضل فطمع الشامي فقال: علي أفضل أم معاوية فقال: سبحان الله ولا سواء سبقت لعلي سوابق لم يشركه فيها معاوية وأحدث علي أحداثا شركه معاوية في أحداثه علي أفضل من معاوية. (¬3) موقفه من الصوفية: جاء في الاعتصام عن يونس بن عبيد أن رجلا قال للحسن: يا أبا سعيد، ما ترى في مجلسنا هذا؟ قوم من أهل السنة والجماعة لا يطعنون على أحد، نجتمع في بيت هذا يوما وفي بيت هذا يوما فنقرأ كتاب الله، وندعو لأنفسنا ولعامة المسلمين؟ قال: فنهى الحسن عن ذلك أشد النهي. (¬4) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (7/ 1369/2446). (¬2) أصول الاعتقاد (7/ 1312/2321). (¬3) أصول الاعتقاد (8/ 1453 - 1454/ 2626). (¬4) الاعتصام (1/ 507) وابن وضاح (48).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: - قال الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء: واصل بن عطاء هو وعمرو بن عبيد رأسا الاعتزال، طرده الحسن عن مجلسه لما قال: الفاسق لا مؤمن ولا كافر، فانضم إليه عمرو، واعتزلا حلقة الحسن، فسموا المعتزلة. (¬1) " التعليق: ما أحسن فعل هذا الإمام مع رأسي هذه الفرقة الضالة التي جرت على المسلمين من البلايا ما الله أعلم به. فكم ذهب بسببهم من الضحايا من خيرة علماء السلف، وكم عذبوا، وكم انحرف من انحرف من المسلمين بسبب فكرهم الضال، وما يزال بلاؤهم على المسلمين إلى الآن. كفى الله المسلمين شرهم وشر من يحبهم ويشيد بهم، ويجعلهم في مقدمة قادة الفكر الحر، وهو -إن صح التعبير- زبالة فكر الفلاسفة الضلال الذين لم يشموا رائحة الوحي والهداية فضلا عن أن يكونوا مصدر هداية. والخلاصة أنهم أخذوا من كل فكر أسوأه والله المستعان، فليحذر الشباب الذي يريد الهداية من الترويج لمثل هذه الفرق الضالة التي شنت الحرب على الكتاب والسنة، ومن كذب بهذا فليقرأ أصولهم وليعرضها على الكتاب والسنة، فهل هي موافقة في نسبة ما فوق تسعين بالمائة أو خمسين أو عشرة أو صفر. هم وغيرهم ممن يدعي أن له فكرا حرا، وإلا كان هؤلاء المروجون لمثل هؤلاء يهرفون بما لا يعرفون وما أكثرهم والله المستعان. ¬

(¬1) السير (5/ 464).

- وروى عبد الله بن أحمد بسنده إلى سليمان بن المغيرة عن يحيى البكاء قال: كانت رقاع تأتي الحسن من قبل عمرو بن عبيد فيها مسائل، فإذا علم أنها من قبله لم يجب فيها. (¬1) - عن الحسن قال: إذا كان يوم القيامة برز ربنا تبارك وتعالى، فيراه الخلق، ويحجب الكفار فلا يرونه، وهو قوله: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ ربهم يومئذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (¬2).اهـ (¬3) - وروى اللالكائي بسنده إلى الحسن في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (¬4). قال: النضرة الحسن، نظرت إلى ربها عز وجل فنضرت بنوره عز وجل. (¬5) - وقال: لو علم العابدون في الدنيا أنهم لا يرون ربهم في الآخرة؛ لذابت أنفسهم في الدنيا. (¬6) - وقال: إن الله تعالى ليتجلى لأهل الجنة، فإذا رآه أهل الجنة نسوا نعيم الجنة. (¬7) ¬

(¬1) السنة لعبد الله (153). (¬2) المطففين الآية (15). (¬3) أصول الاعتقاد (3/ 517/805). (¬4) القيامة الآيتان (22و23). (¬5) أصول الاعتقاد (3/ 514/800) والسنة لعبد الله (162) والشريعة (2/ 12/626). (¬6) السنة لعبد الله (62) وأصول الاعتقاد (3/ 555/869) والشريعة (2/ 7/612). (¬7) الشريعة (2/ 7 - 8/ 613).

- وقال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وزيادة} (¬1) قال: الحسنى، دخول الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله. (¬2) - وجاء في السنة لعبد الله: أتى رجل الحسن فقال له: يا أبا سعيد إني إذا قرأت كتاب الله فذكرت شروطه وعهوده ومواثيقه قطع رجائي فقال له الحسن: ابن أخي، إن القرآن كلام الله إلى القوة والمتانة وإن أعمال بني آدم إلى الضعف والتقصير ولكن سدد وقارب وأبشر. (¬3) - وعن عوف قال: سئل الحسن عن القرآن خالق أو مخلوق فقال: ما هو بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله. (¬4) - وقال: لو كان ما يقول الجعد حقا لبلغه النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬5) - وعنه في تفسير هذه الآية: {وَلَوْ أَنَّمَا في الأرض مِنْ شَجَرَةٍ} (¬6) - مذ خلق الله الدنيا إلى أن تقوم الساعة- أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر لتكسرت الأقلام ونفدت البحور ولم تنفد كلمات الله: فعلت كذا صنعت كذا. (¬7) - وعن عبد الملك بن أبي سليمان قال: ذكر الميزان عند الحسن فقال: ¬

(¬1) يونس الآية (26). (¬2) أصول الاعتقاد (3/ 510/790). (¬3) السنة لعبد الله (29). (¬4) أصول الاعتقاد (2/ 264 - 265/ 391). (¬5) الفتح (13/ 504). (¬6) لقمان الآية (27). (¬7) أصول الاعتقاد (2/ 246/361).

موقفه من الخوارج:

له لسان وكفتان. (¬1) موقفه من الخوارج: - جاء في أصول الاعتقاد عن عصام بن زيد رجل من مزينة قال: كان رجل من الخوارج يغشى مجلس الحسن فيؤذيهم. فقيل للحسن: يا أبا سعيد ألا تكلم الأمير حتى يصرفه عنا؟ قال فسكت عنهم قال: فأقبل ذات يوم والحسن جالس مع أصحابه فلما رآه قال: اللهم قد علمت أذاه لنا فاكفناه بما شئت. قال: فخر -والله- الرجل من قامته فما حمل إلى أهله إلا ميتا على سرير فكان الحسن إذا ذكره بكى وقال: البائس ما كان أغره بالله؟ (¬2) - وفي الشريعة عن سليمان بن أبي نشيط، عن الحسن -وذكر الخوارج- فقال: حيارى سكارى، ليس بيهود ولا نصارى، ولا مجوس فيعذرون. (¬3) - وفيها أيضا: قال رجل للحسن: يا أبا سعيد؛ ما تقول في أمرائنا هؤلاء؟ فقال الحسن: ما عسى أن أقول فيهم، هم لحجنا، وهم لغزونا، وهم لقسم فيئنا، وهم لإقامة حدودنا، والله إن طاعتهم لغيظ، وإن فرقتهم لكفر، وما يصلح الله بهم أكثر مما يَفْسُد. وقيل للحسن: يا أبا سعيد؛ إن خارجيا خرج بالخريبة، فقال: المسكين رأى منكرا فأنكره، فوقع فيما هو أنكر منه. (¬4) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (6/ 1245/2210). (¬2) أصول الاعتقاد (9/ 232 - 233/ 166). (¬3) الشريعة (1/ 144 - 145/ 49). (¬4) الشريعة (2/ 434 - 435) وطرفه الأخير أخرجه المصنف نفسه موصولا (1/ 145/50).

- قال محمد بن الحسين الآجري تعليقا على كلام الحسن: فلا ينبغي لمن رأى اجتهاد خارجي قد خرج على إمام، عدلا كان الإمام أو جائرا، فخرج وجمع جماعة وسل سيفه، واستحل قتال المسلمين، فلا ينبغي له أن يغتر بقراءته للقرآن، ولا بطول قيامه في الصلاة، ولا بدوام صيامه، ولا بحسن ألفاظه في العلم إذا كان مذهبه مذهب الخوارج. (¬1) قال محقق كتاب الشريعة: ومن هنا يعلم خطأ وانحراف كثير من الشباب المتحمس لإنكار المنكر، فسرعان ما نجده يتبع الشعارات واللافتات، بمجرد سماعه لها، أو لأصحابها من ذوي العاطفة الجياشة وممن يزعم أنه يريد الجهاد في سبيل الله، أو يظهر منه بعض علامات الصلاح، فالله الله يا شباب الإسلام لا يغرنكم مثل ذلك، وعليكم بطريق أهل العلم فاقتدوا بهم، واصدروا عن أقوالهم، ولا يستهوينكم الشيطان، وامتثلوا قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (¬2) وقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (¬3) والزيغ عن طريق كبار أهل العلم، والطعن فيهم هو من أكبر أسباب الضعف والضلال والانحراف في هذه الأمة والنكبات التي نعيشها اليوم، وما أكثرها ولا حول ولا قوة إلا بالله. - جاء في الاعتصام للشاطبي عن الحسن؛ قال: العامل على غير علم ¬

(¬1) الشريعة (1/ 145). (¬2) النساء الآية (59). (¬3) النحل الآية (43).

موقفه من المرجئة:

كالسائر على غير طريق، والعامل على غير علم ما يفسد أكثر مما يصلح، فاطلبوا العلم طلبا لا يضر بترك العبادة، واطلبوا العبادة طلبا لا يضر بترك العلم؛ فإن قوما طلبوا العبادة وتركوا العلم حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا (¬1) -يعني: الخوارج-، والله أعلم؛ لأنهم قرؤوا القرآن، ولم يتفهموا، حسبما أشار إليه الحديث: يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم. (¬2) - وقال أبو هلال: كنت عند قتادة، فجاء الخبر بموت الحسن، فقلت: لقد كان غمس في العلم غمسة، قال قتادة: بل نبت فيه وتحقبه وتشربه، والله لا يبغضه إلا حروري. (¬3) موقفه من المرجئة: - قال أبو حيان البصري سمعت الحسن يقول: لا يصح القول إلا بعمل ولا يصح قول وعمل إلا بنية ولا يصح قول وعمل ونية إلا بالسنة. (¬4) - وجاء في الإبانة: عن عبد الملك بن جدان أن عبد الواحد بن زيد والحسن دخلا المسجد يوم الجمعة فجلسا فدمعت عين الحسن، فقال عبد الواحد: يا أبا سعيد ما يبكيك؟ فقال: أرى قولا ولا أرى فعلا، معرفة بلا يقين أرى رجالا ولا أرى عقولا أسمع أصواتا ولا أرى أنيسا دخلوا ثم ¬

(¬1) الاعتصام (2/ 682) وهو في جامع بيان العلم (1/ 545). (¬2) أحمد (1/ 404) والترمذي (4/ 417 - 418/ 2188) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وابن ماجه (1/ 59/168) من حديث عبد الله بن مسعود. (¬3) السير (4/ 573 - 574) وابن سعد في الطبقات (7/ 174). (¬4) أصول الاعتقاد (1/ 63/18) والإبانة (2/ 803/1090) والشريعة (1/ 287/281).

خرجوا حرموا ثم استحلوا عرفوا ثم أنكروا وإنما دين أحدهم لعقه على لسانه ولو سألته هل يؤمن بيوم الحساب، لقال: نعم، كذب ومالك يوم الدين ما هذه من أخلاق المؤمنين، إن من أخلاق المؤمنين قوة في الدين وحزما في لين وإيمانا في يقين وحرصا في علم وقصدا في غنى وتجملا في فاقة ورحمة للمجهود وعطاء في حق ونهيا عن شهوة وكسبا في حلال وتحرجا عن طمع ونشاطا في هدى وبرا في استقامة لا يحيف على من يبغض ولا يأثم في الحب ولا يدعي ما ليس له ولا ينابز بالألقاب ولا يشمت بالمصائب ولا يضر بالجار ولا يهمز، في الصلاة متخشع، وإلى الزكاة متسرع، إن صمت لم يغمه الصمت، وإن ضحك لم يعل صوته، في الزلازل وقور، وفي الرخاء شكور، قانع بالذي له لا يجمح به الغيظ ولا يغلبه الشح، يخالط الناس ليعلم ويصمت ليسلم وينطق ليفهم إن كان مع الذاكرين لم يكتب من الغافلين وإن كان مع الغافلين كتب من الذاكرين وإن بغي عليه صبر حتى يكون الله هو الذي ينتقم له يوم القيامة. (¬1) - وعن طريف بن شهاب قال: قلت للحسن: إن أقواما يزعمون أن لا نفاق ولا يخافون النفاق. قال الحسن: والله لأن أكون أعلم أني بريء من النفاق أحب إلي من طلاع الأرض ذهبا. (¬2) - وقال الربيع بن أنس: وكان الحسن يقول: الإيمان كلام وحقيقته العمل، فإن لم يحقق القول بالعمل لم ينفعه القول. (¬3) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 665 - 666/ 864). (¬2) الإبانة (2/ 758/1059) وانظر تذكرة الحفاظ (2/ 694). (¬3) الإبانة (2/ 792/1074) والشريعة (1/ 285/278).

- وعن أبي بشر الحلبي، عن الحسن، قال: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، من قال حسنا وعمل غير صالح رده الله على قوله، ومن قال حسنا وعمل صالحا رفعه العمل ذلك بأن الله عز وجل يقول: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (¬1). (¬2) - عن أبي عقيل الدورقي قال: سمعت الحسن يقول: لو شاء الله عز وجل لجعل الدين قولا لا عمل فيه أو عملا لا قول فيه ولكن جعل دينه قولا وعملا وعملا وقولا، فمن قال قولا حسنا وعمل سيئا رد قوله على عمله، ومن قال قولا حسنا وعمل عملا صالحا رفع قوله عمله، ابن آدم قولك أحق بك. (¬3) - وعن سلام الخراساني سمعت الحسن في قوله تعالى: {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (¬5) قال: وما زادهم البلاء إلا إيمانا بالرب وتسليما للقضاء. (¬6) - وعن جعفر بن سليمان: قيل للحسن: ما الإيمان؟ قال: الصبر ¬

(¬1) فاطر الآية (10). (¬2) الإبانة (2/ 805/1093) واقتضاء العلم العمل للخطيب (56) والإيمان لابن أبي شيبة (93) وفي المصنف (6/ 163/30351). (¬3) الإبانة (2/ 896 - 897/ 1250). (¬4) الأحزاب الآية (22). (¬5) أصول الاعتقاد (5/ 1023/1731).

موقفه من القدرية:

والسماح قال: الصبر عن محارم الله والسماح بفرايض الله. (¬1) - وعن هشام عن الحسن قال: الإيمان قول وعمل. (¬2) - وعن هشام قال: كان الحسن ومحمد يقولان: (مسلم) ويهابان (مؤمن). (¬3) - وعن عوف قال: قال الحسن- في تفسير حديث: لا يزني الزاني .. (¬4): يجانبه الإيمان ما كان كذلك، فإن رجع، راجعه الإيمان. (¬5) موقفه من القدرية: - جاء في السنن لأبي داود عن أيوب قال: كذب على الحسن ضربان من الناس: قوم القدر رأيهم وهم يريدون أن ينفقوا بذلك رأيهم، وقوم له في قلوبهم شنآن وبغض يقولون: أليس من قوله كذا؟ أليس من قوله كذا؟ (¬6) - وعن ابن عون قال: لو علمنا أن كلمة الحسن تبلغ ما بلغت لكتبنا برجوعه كتابا وأشهدنا عليه شهودا، ولكنا قلنا: كلمة خرجت لا تحمل. (¬7) - وعن أيوب قال: قال لي الحسن: ما أنا بعائد إلى شيء منه أبدا. (¬8) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 928/1578). (¬2) السنة لعبد الله (85) والشريعة (1/ 288/283) وأصول الاعتقاد (4/ 929/1581). (¬3) السنة لعبد الله (88) وأصول الاعتقاد (4/ 895/1501). (¬4) أخرجه من حديث أبي هريرة: أحمد (2/ 376) والبخاري (5/ 150 - 151/ 2475) ومسلم (1/ 76/57) وأبو داود (5/ 64 - 65/ 4689) والترمذي (5/ 16 - 17/ 2625) وقال: "حديث حسن صحيح غريب". والنسائي (8/ 715 - 716/ 5675)، ابن ماجه (2/ 1298 - 1299/ 3936). (¬5) الشريعة (1/ 268/256) والسنة لعبد الله (ص.102). (¬6) أبو داود (4622). (¬7) أبو داود (4622). (¬8) أبو داود (4625).

- وروى ابن بطة عن سفيان قال: سمعت أبي وكان ثقة عن العلاء بن عبد الله بن بدر قال: دخلت على الحسن وهو جالس على سرير هندي فقلت: وددت أنك لم تكلم في القدر بشيء؛ فقال: وأنا وددت أني لم أكن تكلمت فيه بشيء. (¬1) - وجاء في السنة لعبد الله عن مرحوم بن عبد العزيز العطار قال: سمعت أبي وعمي يقولان: سمعنا الحسن وهو ينهى عن مجالسة معبد الجهني يقول: لا تجالسوه فإنه ضال مضل. (¬2) - وجاء في أصول الاعتقاد عنه رضي الله عنه قال: الشقي من شقي في بطن أمه. (¬3) - وفيه عنه رضي الله عنه في قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (¬4) قال الحسن: قد أفلحت نفس أتقاها الله عز وجل، وقد خابت نفس أغواها الله عز وجل. (¬5) - وعن عاصم قال: سمعت الحسن يقول في مرضه الذي مات فيه: إن الله قدر أجلا وقدر معه مرضا وقدر معه معافاة فمن كذب بالقدر فقد كذب بالقرآن ومن كذب القرآن فقد كذب بالحق. (¬6) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 10/188/ 1692). (¬2) السنة (122 - 123) وأصول الاعتقاد (4/ 704/1142) ونحوه في الشريعة (1/ 456 - 457/ 592). (¬3) أصول الاعتقاد (4/ 754/1251). (¬4) الشمس الآيات (8 - 10). (¬5) أصول الاعتقاد (3/ 601/954) والإبانة (2/ 10/183/ 1674). (¬6) أصول الاعتقاد (4/ 755/1254) والشريعة (1/ 424/509 بلفظ أطول).

قال الآجري معلقا: بطلت دعوى القدرية على الحسن، إذ زعموا أنه إمامهم، يموهون على الناس، ويكذبون على الحسن، لقد ضلوا ضلالا بعيدا، وخسروا خسرانا مبينا. (¬1) - جاء في السنة لعبد الله عن حميد قال: قدم الحسن مكة فقال لي فقهاء مكة الحسن بن مسلم وعبد الله بن عبيد: لو كلمت الحسن، فأخلانا يوما، فكلمت الحسن فقلت: يا أبا سعيد إخوانك يحبون أن تجلس لهم يوما قال: نعم ونعمة عين فواعدهم يوما فجاؤوا فاجتمعوا وتكلم الحسن وما رأيته قبل ذلك اليوم ولا بعده أبلغ منه ذلك اليوم، فسألوه عن صحيفة طويلة فلم يخطئ فيها شيئا إلا في مسألة فقال له رجل: يا أبا سعيد، من خلق الشيطان قال: سبحان الله- سبحان الله، وهل من خالق غير الله؟ ثم قال: إن الله خلق الشيطان وخلق الشر وخلق الخير، فقال رجل منهم: قاتلهم الله يكذبون على الشيخ. (¬2) - وروى أبو داود بسنده عن خالد الحذاء، قال: قلت للحسن: يا أبا سعيد، أخبرني عن آدم أللسماء خلق أم للأرض؟ قال: لا، بل للأرض، قلت: أرأيت لو اعتصم فلم يأكل من الشجرة؟ قال: لم يكن له منه بد، قلت: أخبرني عن قوله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} (¬3) قال: إن الشياطين لا يفتنون بضلالتهم إلا من أوجب الله ¬

(¬1) الشريعة (1/ 424). (¬2) السنة لعبد الله (144) والإبانة (2/ 10/190 - 191/ 1698) وأبو داود بنحوه (4618). (¬3) الصافات الآيتان (162و163).

عليه الجحيم. (¬1) - وفي السير عنه قال: من كذب بالقدر فقد كفر. (¬2) - وفيها عن ابن سيرين -وقيل له في الحسن: وما كان ينحل إليه أهل القدر؟ قال: كانوا يأتون الشيخ بكلام مجمل، لو فسروه له لساءهم. (¬3) - وروى أبو داود بسنده عن حميد: كان الحسن يقول: لأن يسقط من السماء إلى الأرض أحب إليه أن يقول: الأمر بيدي. (¬4) - وروى ابن بطة عن منصور بن عبد الرحمن؛ قال: كنت مع الحسن فقال لي رجل إلى جنبه سله عن قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} (¬5)، فسألته عنها فقال: ومن يشك في هذا، ما من مصيبة بين السماء والأرض إلا في كتاب من قبل أن تبرأ النسمة. (¬6) - وفيها عن عيسى بن الربيع عن كثير بن زياد قال: سألت الحسن عن هذه الآية: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ ¬

(¬1) أبو داود (4614) والشريعة (1/ 327/349) والإبانة (2/ 10/186/ 1683). (¬2) السير (4/ 581). (¬3) السير (4/ 582). (¬4) أبو داود (4617) والإبانة (2/ 10/182 - 183/ 1672). (¬5) الحديد الآية (22). (¬6) الإبانة (2/ 10/180/ 1668).

مُسْوَدَّةٌ} (¬1)؛ قال: هم الذين يقولون: الأشياء إلينا، إن شئنا فعلنا، وإن شئنا لم نفعل. (¬2) - وفيها عن محمد بن مروان العقيلي قال: سمعت عوفا يقول: سمعت الحسن يقول: من كذب بالقدر؛ فقد كذب بالإسلام، إن الله عز وجل قدر خلق الخلق بقدر، وقسم الأرزاق بقدر، وقسم البلاء بقدر، وقسم العافية بقدر، وأمر ونهى. (¬3) - وفيها عن ربيعة بن كلثوم قال: سأل رجل الحسن ونحن عنده فقال: يا أبا سعيد. أرأيت ليلة القدر؛ أفي كل رمضان هي؟ قال: إي والله الذي لا إله إلا هو؛ إنها لفي كل شهر رمضان، إنها ليلة يفرق فيها كل أمر حكيم، فيها يقضي الله عز وجل كل خلق وأجل وعمل ورزق إلى مثلها. (¬4) - وفيها عن يونس عن الحسن أنه كان إذا تلا هذه الآية: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} (¬5)؛ قال: قد علم الله من كل نفس ما هي عاملة وما هي صانعة، وإلى ما هي صائرة (¬6). - وفيها عن المعلمي بن زياد قال: قلت للحسن: المقتول بأجل قتل؟ ¬

(¬1) الزمر الآية (60). (¬2) الإبانة (2/ 10/183/ 1673). (¬3) الإبانة (2/ 10/183 - 184/ 1676). (¬4) الإبانة (2/ 10/184/ 1677). (¬5) النجم الآية (32). (¬6) الإبانة (2/ 10/185/ 1681).

قال: وأي أجل ينتظر بعد الموت؟ (¬1) - وفيها عن حميد أن شعيب بن أبي مريم قرأ للحسن: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (¬2)؛ فقال الحسن: نعم القرآن عند الله في أم الكتاب، قال: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} (¬3) قال: نعم. (¬4) - وفيها عن حميد قال: سألت الحسن عن هذه الآية: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} (¬5)؛ قال: اقرأ ما بعدها، فقرأت: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} (¬6)؛ قال: هو هكذا خلق هكذا. (¬7) - وفيها عن الحسن بن أبي الحسن قال: جف القلم، ومضى القضاء، وتم القدر بتحقيق الكتاب وتصديق الرسل وسعادة من عمل واتقى، وشقاوة من ظلم واعتدى، وبالولاية من الله عز وجل للمؤمنين، وبالتبرئة من الله ¬

(¬1) الإبانة (2/ 10/186/ 1684). (¬2) الزخرف الآيات (1 - 4). (¬3) المسد الآيتان (1و2). (¬4) الإبانة (2/ 10/190/ 1697). (¬5) المعارج الآية (19). (¬6) المعارج الآيتان (20و21). (¬7) الإبانة (2/ 10/192/ 1701).

للمشركين. (¬1) - وفيها عن عبد المؤمن السدوسي قال: سمعت الحسن سئل عن هذه الآية: يعني {كل يوم هو في شأن} (¬2)؛ فقال: إن الله عز وجل ليقضي القضية في السماء وهو كل يوم في شأن ثم يضرب لها أجلا ثم يمسكها إلى أجلها، فإذا جاء أجلها؛ أرسلها، فليس لها مردود أنه كائن في يوم كذا من شهر كذا في بلد كذا من المصيبة من القحط والرزق من المصيبة في الخاصة والعامة. (¬3) - وفيها عن أبي جعفر الخطمي أن الفضيل الرقاشي كان جالسا عند محمد بن كعب القرظي فكلمه في القدر؛ فقال الحسن: تحسن تشهد؟ قال: نعم، قال: فتشهد حتى بلغ: (من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له)؛ قال: فأخذ العصا فضرب، فلما قفا، قال: لا يرجع هذا عن قوله أبدا (¬4). - وفيها عن الحسن في هذه الآية {وحيل بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَايشتهون} (¬5)؛ قال: حيل بينهم وبين الإيمان. (¬6) - وفيها عن حميد: قرأت القرآن كله على الحسن في بيت أبي خليفة؛ ¬

(¬1) الإبانة (2/ 10/194/ 1705) والشريعة (1/ 422/502). (¬2) الرحمن الآية (29). (¬3) الإبانة (2/ 10/194/ 1706). (¬4) الإبانة (2/ 10/208/ 1756). (¬5) سبأ الآية (54). (¬6) الإبانة (1/ 8/279/ 1299).

محمد بن سيرين (110 هـ)

ففسره لي أجمع على الإثبات، فسألته عن قوله تعالى: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} (¬1)؛ قال: الشرك سلكه في قلوبهم، وسألته عن قوله: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} (¬2)؛ قال: أعمال سيعملونها، وسألته عن قوله: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} (¬3)؛ قال: ما أنتم عليه بمضلين إلا من هو صالي الجحيم. (¬4) - وفيها عن المبارك قال: جالست الحسن ثنتي عشرة سنة؛ فما سمعته يفسر شيئا من القرآن إلا على إثبات القدر. (¬5) محمد بن سيرين (¬6) (110 هـ) محمد بن سيرين شيخ الإسلام أبو بكر الأنصاري مولى أنس بن مالك إمام وقته ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان. سمع من أبي هريرة وعمران بن حصين وابن عمر وغيرهم وروى عنه قتادة وأيوب ويونس بن عبيد وابن ¬

(¬1) الشعراء الآية (200). (¬2) المؤمنون الآية (63). (¬3) الصافات الآيتان (162و163). (¬4) الإبانة (1/ 8/279 - 280/ 1300). (¬5) الإبانة (2/ 10/182/ 1672). (¬6) طبقات ابن سعد (7/ 193 - 206) والجرح والتعديل (7/ 280) وحلية الأولياء (2/ 263 - 282) وتاريخ بغداد (5/ 331 - 338) ووفيات الأعيان (4/ 181 - 183) وتهذيب الكمال (25/ 344 - 355) وتذكرة الحفاظ (1/ 77 - 78) وسير أعلام النبلاء (4/ 606 - 622) والبداية والنهاية (9/ 286 - 288) والوافي بالوفيات (3/ 146) ومشاهير علماء الأمصار (88).

موقفه من المبتدعة:

عون وآخرون قال هشام بن حسان: أدرك محمد ثلاثين صحابيا، وقال هشام أيضا: حدثني أصدق من أدركته من البشر محمد بن سيرين، قال ابن عون: كان ابن سيرين يحدث بالحديث على حروفه. كان ثقة مأمونا عاليا رفيعا فقيها إماما كثير العلم ورعا. عن ابن عون قال: لم أر في الدنيا مثل ثلاثة محمد بن سيرين بالعراق والقاسم بن محمد بالحجاز ورجاء بن حيوة بالشام ولم يكن في هؤلاء مثل محمد. عن عثمان البتي قال: لم يكن بالبصرة أحد أعلم بالقضاء من محمد بن سيرين. قال بكر بن عبد الله المزني: من أراد أن ينظر إلى أورع من أدركنا فلينظر إلى محمد بن سيرين. كان يتجر فإذا ارتاب في شيء تركه. من أقواله: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذونه. مات سنة عشر ومائة بعد موت الحسن البصري بمائة يوم وله سبع وسبعون سنة. موقفه من المبتدعة: - جاء عنه رضي الله عنه أنه قال: أول من قاس إبليس وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس. (¬1) - وعنه رضي الله عنه أنه كان إذا سمع كلمة من صاحب بدعة وضع أصبعيه في أذنيه، ثم قال: لا يحل لي أن أكلمه حتى يقوم من مجلسي. (¬2) - وروى اللالكائي بسنده إلى أسماء قال: دخل رجلان على محمد بن ¬

(¬1) ذم الكلام (ص.102) والدارمي (1/ 65) والفقيه والمتفقه (1/ 466) وجامع بيان العلم (2/ 892) وذكره ابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 254). (¬2) الإبانة (2/ 3/473/ 484).

سيرين من أهل الأهواء فقالا: يا أبا بكر، نحدثك بحديث، قال: لا. قالا: نقرأ عليك آية من كتاب الله. قال: لا. قال: تقومان عني وإلا قمت. فقام الرجلان فخرجا، فقال بعض القوم: ما كان عليك أن يقرءا آية. قال: إني كرهت أن يقرءا آية فيحرفانها فيقر ذلك في قلبي. (¬1) - وجاء في ذم الكلام عنه قال: لو خرج الدجال في نفسي لاتبعه أصحاب الأهواء. (¬2) - وروى الدارمي بسنده إلى قتادة قال: حدث ابن سيرين رجلا بحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال رجل: قال فلان كذا وكذا، فقال ابن سيرين: أحدثك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقول: قال فلان وفلان كذا وكذا، لا أكلمك أبدا. (¬3) - وروى الدارمي بسنده إلى ابن عون عن ابن سيرين قال: كانوا يرون أنه على الطريق ما كان على الأثر. (¬4) - وجاء في الإبانة عن ابن عون قال: قال محمد: إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء وكان يرى أن هذه الآية نزلت فيهم: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (1/ 150 - 151/ 242) والسنة لعبد الله (ص.24) وبنحوه في الإبانة (2/ 3/445 - 446/ 398) والشريعة (1/ 191/127) والدارمي (1/ 109) وابن وضاح (ص.115 - 116) وانظر الاعتصام (2/ 792). (¬2) ذم الكلام (4/ 52 - 53 طبعة الأنصاري) وأصول الاعتقاد (1/ 148/235). وفيه: لو خرج الدجال لرأيت أنه سيتبعه أهل الأهواء. (¬3) سنن الدارمي (1/ 117). (¬4) سنن الدارمي (1/ 53 - 54) وذم الكلام (ص.99) وأصول الاعتقاد (1/ 97 - 98/ 109) والإبانة (1/ 2/356/ 241) والشريعة (1/ 132/32) وجامع بيان العلم (1/ 783).

فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}. اهـ (¬2) - وروى الدارمي بسنده إلى ابن سيرين قال: ما أخذ رجل ببدعة فراجع سنة. (¬3) - وعن شعيب بن الحبحاب، قلت لابن سيرين: ما ترى في السماع من أهل الأهواء؟ قال: لا نسمع منهم ولا كرامة. (¬4) - قال مسلم في مقدمة صحيحه: حدثنا أبو جعفر محمد بن الصباح قال حدثنا إسماعيل بن زكرياء عن عاصم الأحول عن ابن سيرين قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد. فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم. (¬5) " التعليق: أقول: هكذا كان منهاج السلف رضي الله عنهم في التمييز بين أهل السنة وأهل البدع، فأهل البدع لا يُؤْمَنون في علمهم ولا في روايتهم، فيجب اجتنابهم والتحذير منهم والرد عليهم وبدعهم. وأما أهل هذا الزمان فلا يهمهم أن فلانا من أهل البدع أو فلانا من أهل السنة، فالأمر عندهم سيان، ¬

(¬1) الأنعام الآية (68). (¬2) الإبانة (2/ 3/498/ 552) والشريعة (1/ 426/515) وذم الكلام (ص.190) وكذا في السير (4/ 610)، وأورده الشاطبي في الاعتصام (1/ 91). (¬3) الدارمي (1/ 69) والباعث (ص.72). (¬4) السير (4/ 611). (¬5) أخرجه: مسلم في المقدمة (1/ 15) وبنحوه في الدارمي (1/ 112) والحلية (2/ 278) والمحدث الفاصل (ص.208 - 209) والكفاية (ص.122).

فلا نفرق بين أفعى وسمكة؛ فكل ما سقط في الشبكة هو صالح للقوت وللغذاء، والله المستعان. - عن ابن سيرين أنه سئل عن شيء، فقال: أكره أن أقول برأيي ثم يبدو لي بعد ذلك رأي آخر فأطلبك فلا أجدك. (¬1) - وسئل أيضا ابن سيرين عن شيء فقيل له: ألا تقول فيه برأيك، فقال: إني أكره أن أجرب السم على نفسي. (¬2) - وقال رجل لابن سيرين إن فلانا يريد أن يأتيك ولا يتكلم بشيء قال: قل لفلان لا ما يأتيني، فإن قلب ابن آدم ضعيف وإني أخاف أن أسمع منه كلمة فلا يرجع قلبي إلى ما كان. (¬3) - عن مهدي بن ميمون قال: سمعت محمد بن سيرين وماراه رجل في شيء فقال له محمد: إني قد أعلم ما تريد وأنا أعلم بالمراء منك ولكني لا أماريك. (¬4) - عن ابن عون قال: سمعت محمد بن سيرين ينهى عن الجدال إلا رجلا إن كلمته طمعت في رجوعه. (¬5) - عن محمد قال: كانوا يرون أهل الردة وأهل تقحم الكفر: أهل الأهواء. (¬6) ¬

(¬1) الإبانة (1/ 2/423/ 348). (¬2) الإبانة (1/ 2/423/ 349). (¬3) الإبانة (2/ 3/446/ 399). (¬4) الإبانة (2/ 3/522/ 623 والشريعة (1/ 196/140). (¬5) الإبانة (2/ 3/541/ 681 وهو في السير (4/ 614). (¬6) أصول الاعتقاد (1/ 148/234).

- عن سلمة بن علقمة قال: كان محمد بن سيرين ينهى عن كلام ومجالسة أهل الأهواء. (¬1) - عن أشعث قال: كان محمد بن سيرين لا يكاد يقول في شيء برأيه. (¬2) - وقال ابن سيرين: لأن يموت الرجل جاهلا خير له من أن يقول ما لا يعلم. (¬3) - عن محمد بن سيرين قال: إن هذا العلم دين. فانظروا عمن تأخذون دينكم. (¬4) " التعليق: أقول: وقد اشترط علماء الحديث في من يؤخذ عنه العلم أن يكون ثقة عدلا ضابطا، وقد اختلفوا في رواية المبتدع، فمنعها البعض وقبلها البعض بشروط، والصحيح أنها تؤخذ فيما لم يكن داعية إلى بدعته أو يَكُنِ النص في خدمتها، هذا في المحدثين والذين عرفوا برواية الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأما من لم يعرف بعلم ولا رواية فهذا ليس محل جدال في رد روايته. - عن أيوب قال: كان رجل يرى رأيا فرجع عنه، فأتيت محمدا فرحا بذلك أخبره، فقلت: أشعرت أن فلانا ترك رأيه الذي كان يرى؟ فقال: أنظر إلام يتحول، إن آخر الحديث أشد عليهم من أوله: "يمرقون من الإسلام ثم ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/522/ 624). (¬2) الفقيه والمتفقه (1/ 463). (¬3) إعلام الموقعين (2/ 185). (¬4) أخرجه مسلم في المقدمة (1/ 14) وابن سعد في الطبقات (7/ 194) والرامهرمزي في المحدث الفاصل (ص.414) وأبو نعيم في الحلية (2/ 278) والخطيب في الكفاية (ص.121 - 122).

موقفه من الرافضة:

لا يعودون فيه" (¬1).اهـ (¬2) - وجاء في الباعث لأبي شامة قال: وأخرج الحافظ أبو القاسم في كتاب فضل أصحاب الحديث عن ابن سيرين قال: إن قوما تركوا العلم ومجالسة العلماء، واتخذوا محاريب فصلوا فيها، حتى يبس جلد أحدهم على عظمه، خالفوا السنة، فهلكوا. والله ما عمل عامل بغير علم إلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح. (¬3) - عن الحسن وابن سيرين أنهما قالا: لا تجالسوا أصحاب الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم. (¬4) موقفه من الرافضة: - عن محمد بن سيرين قال: كنت أطوف بالكعبة فإذا رجل يقول اللهم اغفر لي وما أظن أن تغفر لي. قلت يا عبد الله ما سمعت أحدا يقول كما تقول؟ قال إني كنت قد أعطيت الله عهدا إن قدرت أن ألطم وجه عثمان بن عفان لطمته فلما قتل ووضع على سرير في البيت والناس يصلون عليه دخلت كأني أصلي فوجدت خلوة فرفعت الثوب عن وجهه فلطمته وتنحيت وقد يبست يميني فإذا هي يابسة سوداء كأنها عود شيز. (¬5) - وفي السنة للخلال عن ابن سيرين قال: كان معاوية لا يتهم في ¬

(¬1) تقدم تخريجه ضمن مواقف ابن مسعود سنة (32هـ) وسيأتي من حديث أبي ذر ضمن مواقف ابن هبيرة سنة (560هـ). (¬2) ما جاء في البدع (ص.118). (¬3) الباعث (ص.213). (¬4) سنن الدارمي (1/ 110). (¬5) أصول الاعتقاد (7/ 1329/2363).

موقفه من الصوفية:

الحديث على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) موقفه من الصوفية: - جاء في الاعتصام: وسئل محمد بن سيرين عن الرجل يقرأ عنده القرآن فيصعق؟ فقال: ميعاد ما بيننا وبينه أن يجلس على حائط ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره فإن وقع فهو كما قال. (¬2) وقد قيل لمحمد بن سيرين إن قوما يقصدون لبس الصوف، ويقولون: إن المسيح كان يلبسه. فقال: هدي نبينا أحب إلينا من هدي غيره. (¬3) موقفه من الجهمية: جاء في الاعتصام عن أيوب قال: كنت يوما عند محمد بن سيرين إذ جاء عمرو بن عبيد، فدخل، فلما جلس وضع محمد يده في بطنه وقام، فقلت لعمرو: انطلق بنا، قال: فخرجنا، فلما مضى عمرو رجعت، فقلت: يا أبا بكر، قد فطنت إلى ما صنعت، قال: أقد فطنت؟ قلت: نعم، قال: أما إنه لم يكن ليضمني معه سقف بيت. (¬4) موقفه من الخوارج: - جاء في أصول الاعتقاد: عن معمر عن ابن سيرين قال: سؤال الرجل ¬

(¬1) السنة للخلال (4/ 440). (¬2) الاعتصام (1/ 353) وأبو عبيد في فضائل القرآن (2/ 16/376) والحلية (2/ 265) وتلبيس إبليس (ص.312 - 313). (¬3) المنهاج (4/ 43). (¬4) الاعتصام (2/ 791) وابن وضاح (112).

موقفه من المرجئة:

أخاه أمؤمن أنت محنة بدعة كما يمتحن الخوارج. (¬1) - وعن عبد الله بن مسلم المروزي قال: كنت أجالس ابن سيرين، فتركته وجالست الإباضية، فرأيت كأني مع قوم يحملون جنازة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتيت ابن سيرين فذكرته له، فقال: مالك جالست أقواما يريدون أن يدفنوا ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) - وفي المصنف لابن أبي شيبة عن الهذيل بن بلال قال: كنت عند محمد بن سيرين فأتاه رجل فقال: إن عندي غلاما لي أريد بيعه، قد أعطيت به ستمائة درهم، وقد أعطاني الخوارج ثمانمائة، أفأبيعه منهم؟ قال كنت بايعه من يهودي أو نصراني؟ قال: لا، قال فلا تبعه منهم. (¬3) - وفي المصنف لعبد الرزاق عن أيوب عن ابن سيرين قال: سأله رجل -أحسبه من أهل اليمامة- قال: أتينا الحرورية، زمان كذا وكذا، لا يسألونا عن شيء، غير أنهم يقتلون من لقوا، فقال ابن سيرين: ما علمت أحدا كان يتحرج من قتل هؤلاء تأثما، ولا من قتل من أراد مالك إلا السلطان، فإن للسلطان لحقا. (¬4) موقفه من المرجئة: - عن حبيب بن الشهيد عن محمد بن سيرين قال: إذا قيل لك أمؤمن أنت؟ ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (5/ 1060/1804). (¬2) السير (4/ 617). (¬3) مصنف ابن أبي شيبة (15/ 331 - 332/ 19787). (¬4) مصنف عبد الرزاق (10/ 119/18579).

موقفه من القدرية:

فقل له: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} (¬1). (¬2) - جاء في السنة عن خالد بن عبد الرحمن بن بكر السلمي قال: كنت عند محمد وعنده أيوب فقلت له: يا أبا بكر، الرجل يقول لي مؤمن أنت؟ أقول مؤمن، فانتهرني أيوب فقال محمد: وما عليك أن تقول آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله. (¬3) موقفه من القدرية: - عن صالح المري قال: دخل على ابن سيرين فلان يعني رجلا مبتدعا وأنا شاهد ففتح بابا من أبواب القدر فتكلم فيه فقال له ابن سيرين: أحب لك أن تقوم وإما أن نقوم. (¬4) - وروى اللالكائي بسنده إلى ابن سيرين قال: إن لم يكن أهل القدر من الذين يخوضون في آيات الله فلا أدري من هم. (¬5) - وفيه عن يحيى بن عتيق قال: كنا في بيت محمد بن سيرين أنا وسالم ابن قتيبة فقال سالم: لوددنا أنا علمنا ما قول محمد بن سيرين في القدر. قال: فدخل رجل فقلنا سله ما يقول في القدر؟ فسأله الرجل. قال: فنكس محمد ونكسنا مطرقين. ثم إن محمدا قال له: أيهم أمرك بها؟ ثم سكت ساعة ثم ¬

(¬1) البقرة الآية (136). (¬2) السنة لعبد الله (87) والسنة للخلال (4/ 129/1335) والشريعة (1/ 304/322). (¬3) السنة لعبد الله (87). (¬4) الإبانة (2/ 3/473/ 485) والتلبيس (22). (¬5) أصول الاعتقاد (4/ 696/1125) والسنة لعبد الله (147).

قال: إن الشيطان ليس له سلطان ولكن من أطاعه أضله. (¬1) - وفيه عن محمد بن سيرين: أنه كره ذبائح القدرية. (¬2) - وفي الإبانة: عن حبيب بن الشهيد عن محمد بن سيرين قال: إذا أراد الله بعبد خيرا؛ جعل له واعظا من قلبه يأمره وينهاه، وقال ابن سيرين: ما ينكر هؤلاء أن يكون الله عز وجل علم علما جعله كتابا، وقال ابن سيرين: يجري الله الخير على يدي من يشاء، ويجري الشر على يدي من يشاء. (¬3) - وفيها عن عبد الملك بن عبد الله بن محمد بن سيرين قال: سألت ابن عون عن القدر؛ فقال: سألت جدك محمد بن سيرين عن القدر؛ فقال: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (¬4). اهـ (¬5) - وفيها عن عثمان البتي قال: دخلت على ابن سيرين فقال لي: ما يقول الناس في القدر؟ قال: فلم أدر ما رددت عليه، قال: فرفع شيئا من الأرض فقال: ما يزيد على ما أقول لك مثل هذا، إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيرا؛ وفقه لمحابه وطاعته وما يرضى به عنه، ومن أراد به غير ذلك؛ اتخذ عليه الحجة ثم عذبه غير ظالم له. (¬6) - وفيها عن محمد بن سيرين أن رجلا أتاه فسأله عن القدر، فقال ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 762 - 763/ 1272). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 806/1346). (¬3) الإبانة (2/ 10/198/ 1723) والشريعة (1/ 425/511 مختصرا). (¬4) الأنفال الآية (23). (¬5) الإبانة (2/ 10/198/ 1724). (¬6) الإبانة (2/ 10/198 - 199/ 1725) والشريعة (1/ 424 - 425/ 510).

فضيل بن فضالة (ما بين 101 هـ و110 هـ)

محمد: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (¬1). فأعاد عليه الكلام فوضع محمد يديه في أذنيه، قال: ليخرجن عني أو لأخرجن عنه، قال: فخرج الرجل، فقال محمد: إن قلبي ليس بيدي وإني لا آمن من أن يبعث في قلبي شيئا لا أقدر أن أخرجه منه وكان أحب إلي أن لا أسمع كلامه. (¬2) - ومن اللَّطائف ما روى ابن بطة عن ابن عون قال: عطست شاة عند ابن سيرين فقال: يرحمك الله إن لم تكوني قدرية. (¬3) فضيل بن فضالة (¬4) (ما بين 101 هـ و110 هـ) فُضَيْل بن فَضَالَةَ الهَوْزَنِي الشامي تابعي. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا وعن حبيب بن عبيد الرحبي وخالد بن معدان وعطية بن رافع وغيرهم. روى عنه صفوان ابن عمرو ومعاوية بن صالح ومحمد بن الوليد الزبيدي وآخرون. ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن حجر: مقبول، أرسل شيئا، من الخامسة. وذكره الذهبي في تاريخه في أعيان الطبقة الحادية عشرة المؤرخة ما بين 101هـ و110هـ. موقفه من الجهمية: ¬

(¬1) النحل الآية (90). (¬2) الإبانة (2/ 3/458/ 432). (¬3) الإبانة (2/ 10/199/ 1726). (¬4) تهذيب الكمال (23/ 304 - 305) والتاريخ الكبير (7/ 120 - 121) والكاشف (2/ 125) وتهذيب التهذيب (8/ 298) والتقريب (2/ 15) وتاريخ الإسلام (حوادث 101 - 120/ص.216).

عن الفضيل بن فضالة الهوزني قال: إن الله يهبط إلى سماء الدنيا ليلة النصف من شعبان فيعطي رغابا ويفك رقابا ويفخم عقابا. (¬1) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (3/ 501/773).

طلحة بن مصرف (112 هـ)

طلحة بن مصرف (¬1) (112 هـ) طلحة بن مُصَرِّف بن عمرو الإمام الحافظ المقرئ، المجود، شيخ الإسلام أبو محمد، ويقال أبو عبد الله الكوفي. روى عن أنس بن مالك وسعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر، ويحيى بن سعيد الأنصاري. وعنه: ابنه محمد، وشعبة ابن الحجاج وأبو إسحاق السبيعي وآخرون. قال عبد الله بن إدريس عن حريش بن سليم: شهدت أبا إسحاق، وسلمة بن كهيل، وحبيب بن أبي ثابت، وأبا معشر، كلهم يقول: لم أر مثل طلحة، أو ما أدركت مثل طلحة، وقد رأوا أصحاب عبد الله. قال يحيى بن أبي بكير عن شعبة: كنت في جنازة طلحة بن مصرف فقال أبو معشر: ما ترك بعده مثله، وأثنى عليه. قال ابن إدريس: كانوا يسمونه سيد القراء. قال أحمد بن عبد الله العجلي: اجتمع قراء أهل الكوفة في منزل الحكم بن عتيبة فأجمعوا على أن أقرأ أهل الكوفة طلحة ابن مصرف، فبلغه ذلك، فغدا إلى الأعمش يقرأ عليه ليذهب عنه ذلك الاسم. توفي سنة اثنتي عشرة ومائة. موقفه من المبتدعة: عن طلحة بن مصرف بن عمرو قال: لا تجالسوا أهل الأهواء فإن لهم عرة (¬2) كعرة الجرب. (¬3) ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (6/ 308 - 309) وحلية الأولياء (5/ 14 - 29) وسير أعلام النبلاء (5/ 191 - 193) وتهذيب الكمال (13/ 433 - 437) والجرح والتعديل (4/ 473) والوافي بالوفيات (16/ 483 - 484) وتهذيب التهذيب (5/ 25) وشذرات الذهب (1/ 145) ومشاهير علماء الأمصار (110). (¬2) عرة: هي الفضيحة والقذارة. (¬3) ذم الكلام (ص.236).

موقفه من الرافضة:

موقفه من الرافضة: - جاء في سير أعلام النبلاء: وقال الحسن بن عمرو: قال لي طلحة بن مصرف: لولا أني على وضوء لأخبرتك بما تقول الرافضة. (¬1) " التعليق: الله أكبر ما أعظم هذه الكلمة من هذا الإمام الذي عاش في أول القرن الثاني قبل أن يستطير شر الروافض فكيف لو عاش بعد هذا القرن ورأى ما جلبه هؤلاء الكفرة على المسلمين من بلايا ومصائب لا يعلم عددها ومقدارها إلا الله، وما سقوط خلافة المسلمين ببغداد وغيرها إلا بسبب الروافض، كم ذبح من عالم وكم قتل من مسلم وما يزال بلاؤهم إلى الآن. وجهلة الدعاة إلى الإسلام يكتبون كتبا ومقالات يدعون فيها إلى التقارب بين الروافض والسنة وتعقد المؤتمرات واللقاءات لهذا القصد ولا يدرون أنه لا ينفع مع هؤلاء إلا الحجة والبيان والسنة والقرآن. والله المستعان. - وفي أصول الاعتقاد: عن طلحة بن مصرف قال: كان يقال بغض بني هاشم نفاق وبغض أبي بكر وعمر نفاق والشاك في أبي بكر كالشاك في السنة. (¬2) ¬

(¬1) السير (5/ 192) وأصول الاعتقاد (7/ 1345/2401). (¬2) أصول الاعتقاد (7/ 1342/2389) وذكره في الصارم المسلول (584).

رجاء بن حيوة (112 هـ)

رجاء بن حيوة (¬1) (112 هـ) رجاء بن حَيْوَة بن جَرْوَل، ويقال: ابن جزل بن الأحنف، الإمام، القدوة، الوزير العادل أبو المقدام، ويقال: أبو نصر الشامي الفلسطيني. روى عن أبي سعيد الخدري وأبي أمامة وجابر وابن عمرو، وآخرين. وعنه خلق كثير منهم: مكحول والزهري وقتادة، وعبد الله بن عون. قال ابن سعد: كان ثقة، عالما، فاضلا، كثير العلم. قال رجاء بن أبي سلمة: ما من رجل من أهل الشام أحب إلي أن أقتدي به من رجاء بن حيوة. عن ابن عون قال: ما لقيت أكف من ثلاثة: رجاء بن حيوة بالشام، والقاسم بن محمد بالحجاز، وابن سيرين بالعراق يقول: لم يجاوزوا ما علموا أو لم يتكلفوا أن يقولوا برأيهم. عن رجاء بن حيوة قال: يقال ما أحسن الإسلام ويزينه الإيمان، وما أحسن الإيمان ويزينه التقوى، وما أحسن التقوى ويزينه العلم، وما أحسن العلم ويزينه الحلم، وما أحسن الحلم ويزينه الرفق. عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر: كنا مع رجاء بن حيوة فتذاكرنا شكر النعم، فقال: ما أحد يقوم بشكر نعمة، وخلفنا رجل على رأسه كساء فكشف الكساء عن رأسه، فقال: ولا أمير المؤمنين؟ قلنا: وما ذكر أمير المؤمنين هاهنا؟ إنما أمير المؤمنين رجل من الناس، فغفلنا عنه، فالتفت رجاء فلم يره، فقال: أتيتم من صاحب الكساء -وفي لفظ: فإن دعيتم فاستحلفتم فاحلفوا- فما علمنا إلا وبحرسي ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (7/ 454 - 455) والجرح والتعديل (3/ 501) والحلية (5/ 170 - 177) ووفيات الأعيان (2/ 301 - 303) وتهذيب الكمال (9/ 151 - 159) والسير (4/ 557 - 561) والبداية والنهاية (9/ 315) وتذكرة الحفاظ (1/ 118) والوافي بالوفيات (14/ 103) وشذرات الذهب (1/ 145) ومشاهير علماء الأمصار (117).

موقفه من المبتدعة:

قد أقبل فقال: أجيبوا أمير المؤمنين، فأتينا باب هشام، فأذن لرجاء من بيننا فلما دخل عليه، قال: هيه يا رجاء يذكر أمير المؤمنين فلا تحتج له؟ قال: فقلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: ذكرتم شكر النعم فقلتم: ما أحد يقوم بشكر نعمة، قيل لكم: ولا أمير المؤمنين، فقلتم: أمير المؤمنين رجل من الناس، فقلت: لم يكن ذلك، قال: آلله؟ قلت: آلله. قال رجاء: فأمر بذلك الساعي فضرب سبعين سوطا، وخرجت وهو متلوث في دمه، فقال: هذا وأنت ابن حيوة. قلت: سبعون سوطا في ظهرك خير من دم مؤمن، قال ابن جابر: فكان رجاء بن حيوة بعد ذلك إذا جلس في مجلس التفت فقال: احذروا صاحب الكساء. توفي سنة اثنتي عشرة ومائة. موقفه من المبتدعة: أخرج ابن عساكر في ترجمة عبد الرحمن بن سليمان عن هارون بن معروف حدثنا ضمرة حدثنا رجاء بن جميل قال: شهدت رجاء بن حيوة في جنازة عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الملك فسمع رجلا يقول: استغفروا له غفر الله لكم فقال رجاء: اسكت دق الله عنقك. (¬1) موقفه من القدرية: جاء في أصول الاعتقاد بالسند إلى ابن أبى السائب عن رجاء بن حيوة أنه كتب إلى هشام بن عبد الملك أمير المؤمنين: بلغني أنه دخلك من قبل غيلان وصالح، فأقسم بالله لقتلهما أفضل من قتل ألفين من الترك والديلم. (¬2) ¬

(¬1) ابن عساكر (34/ 401) والباعث (ص.273 - 274). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 792 - 793/ 1327) والإبانة (2/ 10/239/ 1850) والشريعة (1/ 439/557).

معاوية بن قرة (113 هـ)

" التعليق: الله أكبر ما أعظم هذا، انظر رحمك الله كيف عرف السلف خطر البدع على الأمة الإسلامية، فيجعلون قتل رجل منهم يعادل قتل ألفين من الكفرة، فكيف لو عاشوا إلى هذا الزمن الذي صارت فيه الكلمة للمبتدعة وصار العالم الإسلامي لا يعرف إلا البدع، -إلا من رحم ربك- وأنها هي الإسلام، وأن من قال بخلافها يعتبر خارجيا أو متطرفا أو متنطعا أو وهابيا إلى غير ذلك من الألقاب التي اخترعها المبتدعة وأعوانهم، والله المستعان. - وجاء في السنة لعبد الله بن الإمام أحمد: عن إبراهيم بن أبي عبلة قال: وقف رجاء بن حيوة على مكحول وأنا معه فقال: يا مكحول بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر ووالله لو أعلم ذلك لكنت صاحبك من بين الناس. فقال مكحول: لا والله أصلحك الله ما ذلك من شاني ولا من قولي أو نحو ذلك قال ليث وكان مكحول يعجبه كلام غيلان فكان إذا ذكره قال: كل كليلة، يريد قل قليلة وكانت فيه لكنة يعني مكحولا. (¬1) معاوية بن قرة (¬2) (113 هـ) معاوية بن قُرَّة بن إياس المزني البصري أبو إياس. قال: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس فيهم إلا من طَعَنَ أو طُعِنَ أو ضَرَبَ أو ضُرِب مع ¬

(¬1) السنة لعبد الله (135). (¬2) طبقات ابن سعد (7/ 221) والجرح والتعديل (8/ 378 - 379) ومشاهير علماء الأمصار (92) وسير أعلام النبلاء (5/ 153 - 155) وتهذيب الكمال (28/ 210 - 217) وشذرات الذهب (1/ 147) والتقريب (2/ 197).

موقفه من المبتدعة:

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. روى عن أبيه وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وعلي ومعقل وغيرهم. وروى عنه ابنه إياس ومنصور بن زاذان وثابت البناني وخالد الحذاء وغيرهم. سئل معاوية كيف ابنك لك؟ قال: نعم الابن كفاني أمر دنياي وفرغني لآخرتي. قال ابن حبان: كان من عقلاء الناس. وقال ابن حجر: ثقة عالم. من أقواله: بكاء العمل أحب إلي من بكاء العين. لا تجالس بعلمك السفهاء ولا تجالس بسفهك العلماء. لأن لا يكون فيَّ نفاق أحب إلي من الدنيا وما فيها كان عمر يخشاه وآمنه أنا؟ توفي سنة ثلاث عشرة ومائة وهو ابن ست وسبعين سنة. موقفه من المبتدعة: جاء عنه رضي الله عنه أنه قال: إياكم وهذه الخصومات فإنها تحبط الأعمال. (¬1) موقفه من الرافضة: عن مبارك بن فضالة قال: سمعت معاوية بن قرة يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - استخلف أبا بكر. (¬2) موقفه من الخوارج: جاء في السنة لعبد الله عنه قال: هلكت الخوارج والأهواء. (¬3) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (1/ 145 - 146/ 221) وذم الكلام (ص.194) والسنة لعبد الله (ص.24) والشريعة (1/ 188 - 189/ 121) والإبانة (2/ 3/522/ 621). (¬2) أصول الاعتقاد (7/ 1369/2446). (¬3) السنة لعبد الله (273).

موقفه من المرجئة:

موقفه من المرجئة: وجاء في كتاب الإيمان لابن أبي شيبة: عن معاوية بن قرة قال: كان أبو الدرداء يقول: (اللهم إني أسألك إيمانا دائما، وعلما نافعا، وهديا قيما) قال معاوية: فنرى أن من الإيمان إيمانا ليس بدائم، ومن العلم علما لا ينفع، ومن الهدي هديا ليس بقيم. (¬1) عبد الله بن عبيد بن عمير (¬2) (113 هـ) عبد الله بن عُبَيْد بن عُمَيْر، أبو هاشم. يروي عن: عائشة، وابن عباس، وابن عمر، وحدث عنه: ابن جريج وجرير بن حازم والأوزاعي. قال أبو زرعة وأبو حاتم: ثقة. قال عبد الله بن عبيد: لا تقنعن لنفسك باليسير من الأمر في طاعة الله عز وجل كعمل المهين الدنيء، ولكن اجهد واجتهد فعل الحريص الحفي، وتواضع لله عز وجل دون الضعف فعل الغريب السبي. توفي سنة ثلاث عشرة ومائة. موقفه من المرجئة: جاء في أصول الاعتقاد: عن هارون بن إبراهيم (التبريزي) قال: سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير يقول: الإيمان قائد والعمل سايق والنفس حرون. فإذا وني قائدها لم يستقم سايقها وإذا وني سايقها لم تستقم لقائدها. الإيمان ¬

(¬1) كتاب الإيمان لابن أبي شيبة (رقم 106) والمصنف له (6/ 164/30364). (¬2) السير (4/ 157) وتهذيب الكمال (15/ 259) وطبقات ابن سعد (5/ 474) والحلية (3/ 354) وتهذيب التهذيب (5/ 308).

وهب بن منبه (114 هـ)

بالله مع العمل والعمل مع الإيمان ولا يصلح هذا إلا مع هذا حتى يقدمان على الخير إن شاء الله. (¬1) وهب بن منبه (¬2) (114 هـ) وَهْب بن مُنَبِّه بن كَامِل بن سِيج بن ذي كِبَار، وهو الأسوار اليماني الصنعاني الذِّماري، أبو عبد الله الأَبْنَاوِي أخو همام بن منبه، ومعقل بن منبه وغيلان بن منبه. مولده في زمن عثمان سنة أربع وثلاثين، ورحل وحج. روى عن أنس بن مالك وابن عباس وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر وغيرهم. وروى عنه ولداه: عبد الله وعبد الرحمن، وابن ابنته إدريس بن سنان والد عبد المنعم بن إدريس وسماك بن الفضل، وعوف الأعرابي وغيرهم. قال العجلي: وهب تابعي ثقة، كان على قضاء صنعاء. قال وهب بن منبه لعطاء الخراساني: كان العلماء قبلنا قد استغنوا بعلمهم عن دنيا غيرهم، فكانوا لا يلتفتون إلى دنياهم، وكان أهل الدنيا يبذلون دنياهم في علمهم، فأصبح أهل العلم منا اليوم يبذلون لأهل الدنيا علمهم رغبة في دنياهم، وأصبح أهل الدنيا قد زهدوا في علمهم لما رأوا من سوء موضعه عندهم. توفي رحمه الله سنة أربع عشرة ومائة. ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 928 - 929/ 1579). (¬2) طبقات ابن سعد (5/ 543) والجرح والتعديل (9/ 24) وسير أعلام النبلاء (4/ 544 - 557) وحلية الأولياء (4/ 23 - 81) وتهذيب الكمال (31/ 140 - 162) وتذكرة الحفاظ (1/ 100 - 101) والبداية والنهاية (9/ 288 - 313) ووفيات الأعيان (6/ 35 - 36) ومشاهير علماء الأمصار (121 - 123).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: - قال الذهبي: وعنه قال: احفظوا عني ثلاثا: إياكم وهوى متبعا، وقرين سوء، وإعجاب المرء بنفسه. (¬1) - وعن وهب بن منبه قال: الفقيه العفيف الزاهد المتمسك بالسنة أولئك أتباع الأنبياء في كل زمان. (¬2) - عن عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبا يقول: دع المراء والجدال عن أمرك، فإنك لا تعجز أحد رجلين: رجل هو أعلم منك، فكيف تماري وتجادل من هو أعلم منك؟ ورجل أنت أعلم منه، فكيف تماري وتجادل من أنت أعلم منه، ولا يطيعك، فاقطع ذلك عليك. (¬3) موقفه من الجهمية: - جاء في تاريخ ابن عساكر عن معمر عن سماك بن الفضل قال: كنت عند عروة بن محمد وإلى جنبه وهب بن منبه، فجاء قوم فشكوا عاملهم، وذكروا منه شيئا قبيحا، فتناول وهب عصى كانت في يد عروة، فضرب بها رأس العامل حتى سال دمه، فضحك عروة واستلقى على قفاه، وقال: يعيب علينا أبو عبد الله الغضب، وهو يغضب. فقال وهب: وما لي لا أغضب وقد غضب الذي خلق الأحلام، إن الله يقول: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} (¬4) ¬

(¬1) السير (4/ 549). (¬2) الشريعة (1/ 111/3) والإبانة (1/ 1/201/ 38). (¬3) الشريعة (1/ 195/137) والإبانة (2/ 3/526/ 638) وانظر السير (4/ 549). (¬4) الزخرف الآية (55).

يقول: أغضبونا. (¬1) " التعليق: وهذا النص صريح في إثبات صفة الغضب فلا أدري ماذا يقول المؤولة والمفوضة في هذا وأمثاله هل هذا تفويض أو تشبيه أو إثبات للصفة على الوجه الذي يليق بجلاله وعظمته. - وجاء في سير أعلام النبلاء في ترجمة الجعد بن درهم قال المدائني: كان زنديقا وقد قال له وهب: إني لأظنك من الهالكين لو لم يخبرنا الله أن له يدا وأن له عينا ما قلنا ذلك، ثم لم يلبث الجعد أن صلب. (¬2) " التعليق: جاء في هامش السير (¬3) اعتراض من المعلق على ابن كثير في ذكره سند الجعد في ضلاله، ثم ذكر رأي بعض المتأخرين في أن الجعد قتل في أمر سياسي، وأن بني أمية ما كانوا يعتنون بأمر العقيدة، والواقع أن هذا الكلام لا يصدر إلا عمن لا علم له ولا خبرة بعصر بني أمية الذي كان مكتظا بعلماء التابعين والصحابة، وظهرت رؤوس البدع، وتصدى السلف لها، ومن بينهم خلفاء بني أمية وما نحن ببعيدين عن مناظرة عمر بن عبد العزيز الخوارج وغيرهم. ¬

(¬1) تاريخ ابن عساكر (63/ 379) والسير (4/ 547 - 548). (¬2) السير (5/ 433) والبداية (9/ 365). (¬3) (5/ 433).

موقفه من الخوارج:

موقفه من الخوارج: جاء في السير: علي بن المديني: حدثنا هشام بن يوسف، أخبرني داود ابن قيس، قال: كان لي صديق يقال له أبو شمر ذو خولان، فخرجت من صنعاء أريد قريته، فلما دنوت منها وجدت كتابا مختوما إلى أبي شمر، فجئته فوجدته مهموما حزينا، فسألته عن ذلك فقال: قدم رسول من صنعاء، فذكر أن أصدقاء لي كتبوا لي كتابا فضيعه الرسول، قلت: فهذا الكتاب، فقال: الحمد لله، ففضه فقرأه، فقلت: أقرئنيه، فقال: إني لأستحدث سنك، قلت: فما فيه؟ قال: ضرب الرقاب قلت: لعله كتبه إليك ناس حرورية في زكاة مالك، قال: من أين تعرفهم؟ قلت: إني وأصحابا لي نجالس وهب بن منبه، فيقول لنا: احذروا أيها الأحداث الأغمار هؤلاء الحروراء لا يدخلونكم في رأيهم المخالف، فإنهم عرة (¬1) لهذه الأمة، فدفع إلي الكتاب فقرأته فإذا فيه: سلام عليك، فإنا نحمد إليك الله، ونوصيك بتقواه، فإن دين الله رشد وهدى، وإن دين الله طاعة الله ومخالفة من خالف سنة نبيه، فإذا جاءك كتابنا، فانظر أن تؤدي -إن شاء الله- ما افترض الله عليك من حقه، تستحق بذلك ولاية الله، وولاية أوليائه والسلام. قلت له: فإني أنهاك عنهم، قال: فكيف أتبع قولك وأترك قول من هو أقدم منك؟ قلت: فتحب أن أدخلك على وهب حتى تسمع قوله؟ قال: نعم. فنزلنا إلى صنعاء، فأدخلته على وهب -ومسعود بن عوف وَالٍ على اليمن ¬

(¬1) العرة: عذرة الناس، فلان عرة أهله أي شرهم.

من قبل عروة بن محمد- فوجدنا عند وهب- نفرا، فقال لي بعض النفر: من هذا الشيخ؟ قلت: له حاجة، فقام القوم، فقال وهب: ما حاجتك يا ذا خولان؟ فهرج (¬1) وجبن، فقال لي وهب: عبر عنه، قلت: إنه من أهل القرآن والصلاح، والله أعلم بسريرته، فأخبرني أنه عرض له نفر من أهل حروراء فقالوا له: زكاتك التي تؤديها إلى الأمراء لا تجزئ عنك، لأنهم لا يضعونها في مواضعها فأدها إلينا، ورأيت يا أبا عبد الله أن كلامك أشفى له من كلامي، فقال: يا ذا خولان، أتريد أن تكون بعد الكبر حروريا تشهد على من هو خير منك بالضلالة؟ فماذا أنت قائل لله غدا حين يقفك الله؟ ومن شهدت عليه، فالله يشهد له بالإيمان، وأنت تشهد عليه بالكفر، والله يشهد له بالهدى، وأنت تشهد عليه بالضلالة، فأين تقع إذا خالف رأيك أمر الله، وشهادتك شهادة الله؟ أخبرني يا ذا خولان، ماذا يقولون لك؟ فتكلم عند ذلك وقال لوهب: إنهم يأمرونني أن لا أتصدق إلا على من يرى رأيهم ولا أستغفر إلا له، فقال: صدقت، هذه محنتهم الكاذبة، فأما قولهم في الصدقة، فإنه قد بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر أن امرأة من أهل اليمن دخلت النار في هرة ربطتها (¬2)، أفإنسان ممن يعبد الله يوحده ولا يشرك به أحب إلى الله أن يطعمه من جوع، أو هرة؟ والله يقول: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (¬3) الآيات. ¬

(¬1) هرج في الحديث خلط فيه. (¬2) أخرجه البخاري (6/ 438/3318) ومسلم (4/ 1760/2242) عن عبد الله بن عمر، وفي الباب عن أبي هريرة. (¬3) الإنسان الآية (8).

وأما قولهم لا يستغفر إلا لمن يرى رأيهم، أهم خير أم الملائكة، والله يقول: {ويستغفرون لمن في الأرض} (¬1) فوالله ما فعلت الملائكة ذلك حتى أمروا به: {لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} (¬2) وجاء ميسرا: {ويستغفرون للذين ءامنوا}. (¬3) يا ذا خولان إني قد أدركت صدر الإسلام، فوالله ما كانت الخوارج جماعة قط إلا فرقها الله على شر حالاتهم، وما أظهر أحد منهم قوله إلا ضرب الله عنقه، ولو مكن الله لهم من رأيهم لفسدت الأرض، وقطعت السبل والحج، ولعاد أمر الإسلام جاهلية، وإذا لقام جماعة، كل منهم يدعو إلى نفسه الخلافة، مع كل واحد منهم أكثر من عشرة آلاف، يقاتل بعضهم بعضا ويشهد بعضهم على بعض بالكفر، حتى يصبح المؤمن خائفا على نفسه ودينه ودمه وأهله وماله، لا يدري مع من يكون، قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} (¬4) وقال: {إنا لننصر رسلنا والذين آَمَنُوا} (¬5) فلو كانوا مؤمنين لنصروا، وقال: {وَإِنَّ جندنا ¬

(¬1) الشورى الآية (5). (¬2) الأنبياء الآية (27). (¬3) غافر الآية (7). (¬4) البقرة الآية (251). (¬5) غافر الآية (51).

موقفه من المرجئة:

لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (¬1) ألا يسعك يا ذا خولان من أهل القبلة ما وسع نوحا من عبدة الأصنام، إذ قال له قومه: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرذلون} (¬2) إلى أن قال: فقال ذو خولان: فما تأمرني؟ قال: انظر زكاتك فأدها إلى من ولاه الله أمر هذه الأمة، وجمعهم عليه، فإن الملك من الله وحده وبيده، يؤتيه من يشاء، فإذا أديتها إلى والي الأمر برئت منها، وإن كان فضل فصل به أرحامك ومواليك وجيرانك والضيف، فقال: اشهد أني نزلت عن رأي الحرورية. (¬3) موقفه من المرجئة: عن سفيان الثوري عن عبد العزيز بن رفيع: عن وهب بن منبه قال: الإيمان عريان ولباسه التقوى ورأس ماله الفقه وزينته الحياء. (¬4) موقفه من القدرية: - جاء في السير: عن عمرو بن دينار، قال: دخلت على وهب داره بصنعاء، فأطعمني من جوزة في داره، فقلت له: وددت أنك لم تكن كتبت في القدر كتابا، فقال: وأنا والله. قال أحمد: اتهم بشيء منه ورجع. وقال العجلي: رجع. (¬5) ¬

(¬1) الصافات الآية (173). (¬2) الشعراء الآية (111). (¬3) سير أعلام النبلاء (4/ 553 - 555). (¬4) أصول الاعتقاد (4/ 926/1571). (¬5) السير (4/ 548).

محمد بن علي بن الحسين أبو جعفر الباقر (114 هـ)

- وروى ابن بطة بسنده عن يزيد الخراساني قال: بينا أنا ومكحول إذ قال: يا وهب بن منبه. أي شيء بلغني عنك في القدر؟ قال: عني؟ قال: نعم، فقال: والذي كرم محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالنبوة؛ لقد اقترأت من الله عز وجل اثنين وسبعين كتابا، منه ما يسر ومنه ما يعلن، ما منه كتاب إلا وجدت فيه: من أضاف إلى نفسه شيئا من قدر الله؛ فهو كافر بالله، فقال مكحول: الله أكبر. (¬1) محمد بن علي بن الحسين أبو جعفر الباقر (¬2) (114 هـ) محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو جعفر الباقر، القرشي الهاشمي المدني ولد زين العابدين. روى عن ابن عمر وأنس وجابر وأبيه زين العابدين ومحمد بن الحنفية وطائفة. وروى عنه ابنه جعفر بن محمد الصادق، والزهري، وربيعة بن أبي عبد الرحمن وغيرهم. قال عنه الذهبي: كان أحد من جمع بين العلم والعمل والسؤدد، والشرف، والثقة، والرزانة، وكان أهلا للخلافة، وهو أحد الأئمة الاثني عشر الذين تبجلهم الشيعة الإمامية وتقول بعصمتهم وبمعرفتهم بجميع الدين، فلا عصمة إلا للملائكة والنبيين، وكل أحد يصيب ويخطئ ويؤخذ من قوله ويترك سوى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه معصوم مؤيد بالوحي. وقال أيضا: وشهر أبو جعفر بالباقر، من بقر العلم، أي شقه ¬

(¬1) الإبانة (2/ 10/213 - 214/ 1772). (¬2) طبقات ابن سعد (5/ 320 - 324) والجرح والتعديل (8/ 36) ومشاهير علماء الأمصار (62) وسير أعلام النبلاء (4/ 401 - 409) وحلية الأولياء (3/ 180 - 192) والبداية والنهاية (9/ 321 - 324) والوافي بالوفيات (4/ 102 - 103) وشذرات الذهب (1/ 149).

موقفه من المبتدعة:

فعرف أصله وخفيه. ولقد كان أبو جعفر إماما مجتهدا، تاليا لكتاب الله، كبير الشأن. ولكن لا يبلغ في القرآن درجة ابن كثير ونحوه، ولا في الفقه درجة أبي الزناد، وربيعة ولا في الحفظ ومعرفة السنن درجة قتادة وابن شهاب، فلا نحابيه ولا نحيف عليه، ونحبه في الله لما تجمع فيه من صفات الكمال. توفي سنة أربع عشرة ومائة. موقفه من المبتدعة: روى الدارمي بسنده إلى محمد بن علي قال: لا تجالس أصحاب الخصومات فإنهم يخوضون في آيات الله. (¬1) موقفه من الرافضة: - جاء في السير: عن بسام الصيرفي، قال: سألت أبا جعفر عن أبي بكر وعمر، فقال: والله إني لأتولاهما وأستغفر لهما، وما أدركت أحدا من أهل بيتي إلا وهو يتولاهما. (¬2) - وفيها عن سالم بن أبي حفصة وكان يترفض، قال: دخلت على أبي جعفر وهو مريض فقال -وأظن قال ذلك من أجلي: اللهم إني أتولى وأحب أبا بكر وعمر، اللهم إن كان في نفسي غير هذا، فلا نالتني شفاعة محمد يوم القيامة - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) - وفيها عن الأعمش، عنه قال: يزعمون أني المهدي، وإني إلى أجلي ¬

(¬1) سنن الدارمي (1/ 71و110). (¬2) السير (4/ 403). (¬3) السير (7/ 406).

أدنى مني إلى ما يدعون. (¬1) - وفيها عن عروة بن عبد الله، قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي عن حلية السيوف، فقال: لا بأس به، قد حلى أبو بكر الصديق سيفه. قلت: وتقول الصديق؟ فوثب وثبة واستقبل القبلة ثم قال: نعم الصديق، نعم الصديق، فمن لم يقل الصديق، فلا صدق الله له قولا في الدنيا والآخرة. (¬2) - وفي الشريعة: عن حكيم بن جبير قال: كنت في مجلس فيه رهط من الشيعة فعاب بعضهم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فقلت: على من يقول هذا لعنة الله فقال رجل من القوم: من أبي جعفر أخذناه؛ قال: فلقيت أبا جعفر فقلت: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ قال: وما يقول الناس فيهما؟. فقلت: يقلونهما. فقال: إنما يقول ذلك فيهما المراق، تولهما مثل ما تتولى به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (¬3) - وفيها: عن جابر عن أبي جعفر قال: قلت له: هل كان فيكم أهل البيت أحد يسب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فقال: لا، فتولهما واستغفر لهما وأحبهما، قلت: هل كان فيكم أحد يؤمن بالرجعة؛ قال: لا. (¬4) - وفي أصول الاعتقاد عن سالم بن أبي حفصة سألت أبا جعفر محمد ابن علي وجعفرا عن أبي بكر وعمر فقالا: تولهما وابرأ من عدوهما فإنهما ¬

(¬1) السير (4/ 407). (¬2) السير (4/ 408). (¬3) الشريعة (3/ 459/1919). (¬4) الشريعة (3/ 561/2073).

كانا إمامي هدى. (¬1) - وفيه عن كثير النواء قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي: جعلني الله فداك أرأيت أبا بكر وعمر هل ظلماكم من حقكم من شيء أو ذهبا به. قال: لا والذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ما ظلمانا من حقنا شيئا قال: قلت: جعلني الله فداك فأتولاهما؟ قال: ويحك تولهما لعن الله مغيرة وبيان فإنهما كذبا علينا أهل البيت. (¬2) - وفيه عن جابر قال: قلت لأبي جعفر جعلت فداك هل كان أحد منكم تبرأ من أبي بكر وعمر، وفي حديث ابن الأصبهاني: يسب أبا بكر وعمر قال: لا، ثم قال: أحبهما واستغفر لهما وتولهما. (¬3) - وفيه عن يونس بن بكير، عن أبي جعفر يعني محمد بن علي بن الحسن قال: من جهل فضل أبي بكر وعمر فقد جهل السنة. (¬4) - وفيه عن عبد الله بن قشير قال: لقيت أبا جعفر محمد بن علي يشهد أن أبا بكر الصديق وعمر الفاروق رضوان الله عليهما والرافضة تنكر ذلك. (¬5) - وفيه عن مغيرة قال: كان أبو جعفر يقول: اللهم إنك تعلم أني لست لهم بإمام. (¬6) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (7/ 1326/2358) والسير (4/ 402). (¬2) أصول الاعتقاد (7/ 1378 - 1379/ 2462). (¬3) أصول الاعتقاد (7/ 1379/2463). (¬4) أصول الاعتقاد (7/ 1312/2324) والشريعة (3/ 417/1863). (¬5) أصول الاعتقاد (8/ 1481 - 1482/ 2685). (¬6) أصول الاعتقاد (8/ 1543/2805).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: - جاء في السير: عن بسام الصيرفي، قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي عن القرآن فقال: كلام الله غير مخلوق. (¬1) - وعن جعفر بن محمد عن أبيه أنه سأله: إن قوما يقولون القرآن مخلوق. فقال: ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله. (¬2) موقفه من المرجئة: - قال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين: ما ليل بليل ولا نهار بنهار أشبه من المرجئة باليهود. (¬3) - وعن الفضيل بن يسار قال: سئل أبو جعفر محمد بن علي عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن" (¬4) فقال: هذا الإسلام ودور دائرة عظيمة ثم دور دائرة في جوفها أصغر منها، ثم قال: هذا الإيمان مقصور في الإسلام، فإذا هو زنا أو سرق خرج من الإيمان إلى الإسلام، فإذا تاب رجع إلى الإيمان، ولا يخرجه من الإسلام إلا الكفر بالله. (¬5) موقفه من القدرية: ¬

(¬1) السير (4/ 408). (¬2) أصول الاعتقاد (2/ 264/390) والإبانة (2/ 12/6/ 182). (¬3) أصول الاعتقاد (5/ 1063 - 1064/ 1815). (¬4) تقدم تخريجه في مواقف الحسن البصري سنة (110هـ). (¬5) أصول الاعتقاد (5/ 1092/1877) والإبانة (2/ 854/1154) والشريعة (1/ 264/248) والسنة لعبد الله (97و102) والبزار كما في المجمع (1/ 101 - 102).

- جاء في أصول الاعتقاد عن الحارث بن سريج البزاز: قلت لمحمد بن علي: إن لنا إماما يقول في القدر، فقال: يا ابن الفارسي، انظر كل صلاة صليتها خلفه أعدها- إخوان اليهود والنصارى قاتلهم الله أنى يؤفكون. (¬1) " التعليق: الله أكبر! انظر بغض السلفي للمبتدعة إلى أي حد وصل، فإذا كانت الصلاة لا تجوز وراءهم، فماذا بقي لهم من الخير؟ والواقع أن البدع والمبتدعة ليس فيهم خير، فكلهم شر نسأل الله المعافاة. - وروى الآجري وابن بطة بسنديهما عن حرب بن شريح أبي سفيان البزار قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي فقال: أشامي أنت؟ فقالوا له: إنه مولاك، فقال: مرحبا، وألقى لي وسادة من أدم، قال: قلت: إن منهم من يقول لا قدر، ومنهم من يقول قدر الخير، وما قدر الشر. ومنهم من يقول ليس شيء كائنا ولا شيء كان إلا جرى به القلم، فقال: بلغني أن قبلكم أئمة يضلون الناس مقالتهم، المقالتان الأوليان، فمن رأيتهم منهم إماما يصلي بالناس؛ فلا تصلوا وراءه، ثم سكت هنيهة؛ فقال: من مات منهم؛ فلا تصلوا عليه، وإنهم إخوان اليهود، قلت: قد صليت خلفهم؛ قال: من صلى خلف أولئك؛ فليعد الصلاة. (¬2) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 807/1348). (¬2) الإبانة (2/ 10/228/ 1824) والشريعة (1/ 432/536).

عطاء بن أبي رباح (115 هـ)

عطاء بن أبي رَبَاح (¬1) (115 هـ) عطاء بن أبي رباح واسمه أسلم القرشي الفهري، أبو محمد المكي مولى آل أبي خثيم ويقال مولى بني جمح. كان من مولدي الجند ونشأ بمكة، ولد في أثناء خلافة عمر. روى عن عائشة وأم سلمة وأبي هريرة وابن عباس وجماعة. روى عنه: أبان ابن صالح ومجاهد بن جبر وأبو إسحاق السبيعي وغيرهم. قال أبو عاصم الثقفي: سمعت أبا جعفر الباقر يقول للناس -وقد اجتمعوا عليه-: عليكم بعطاء، هو والله خير لكم مني. قال الأصمعي: دخل عطاء بن أبي رباح على عبد الملك بن مروان وهو جالس على سريره وحوله الأشراف من كل بطن وذلك بمكة في وقت حجه في خلافته فلما بصر به قام إليه فسلم عليه، وأجلسه معه على السرير وقعد بين يديه، وقال له: يا أبا محمد حاجتك؟ فقال: يا أمير المؤمنين اتق الله في حرم الله وحرم رسوله فتعاهده بالعمارة، واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار فإنك بهم جلست هذا المجلس، واتق الله في أهل الثغور فإنه حصن المسلمين، وتفقد أمور المسلمين فإنك وحدك المسؤول عنهم، واتق الله فيمن على بابك فلا تغفل عنهم ولا تغلق دونهم بابك، فقال له أفعل، ثم نهض وقام وقبض عليه عبد الملك، فقال: يا أبا محمد إنما سألتنا حوائج غيرك، وقد قضيناها فما حاجتك؟ فقال: مالي إلى مخلوق حاجة، ثم خرج، فقال عبد الملك: هذا ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (5/ 467 - 470) والجرح والتعديل (6/ 330 - 331) ووفيات الأعيان (3/ 261 - 263) وتهذيب الكمال (20/ 69 - 85) وسير أعلام النبلاء (5/ 78 - 88) والمعرفة والتاريخ (1/ 700 - 703) والبداية والنهاية (9/ 317 - 321) ومشاهير علماء الأمصار (81) والعقد الثمين (6/ 84 - 93) وتاريخ خليفة (346) وشذرات الذهب (1/ 147 - 148).

موقفه من المبتدعة:

وأبيك الشرف، هذا وأبيك السؤدد. توفي رحمه الله سنة خمس عشرة أو أربع عشرة ومائة. موقفه من المبتدعة: - جاء في سنن الدارمي بالسند إليه قال: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (¬1) قال: أولوا العلم والفقه، وطاعة الرسول اتباع الكتاب والسنة. (¬2) - وجاء أيضا في سنن الدارمي بالسند إلىعبد العزيز بن رفيع قال: سئل عطاء عن شيء قال: لا أدري قال: قيل له: ألا تقول فيه برأيك؟ قال: إني أستحيي من الله أن يدان في الأرض برأيي. (¬3) - وجاء في ذم الكلام: عنه في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دينهم وَكَانُوا شيعًا} (¬4). قال هم أصحاب الخصومات والمراء في دين الله. (¬5) - عن عطاء في قول الله عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬6). قال: (إلى الله) إلى كتابه، وإلى الرسول إلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬7) ¬

(¬1) النساء الآية (59). (¬2) الدارمي (1/ 72) وأصول الاعتقاد (1/ 80/75) والطبري (5/ 149). (¬3) الدارمي (1/ 47) وذم الكلام (ص.104) والإبانة (2/ 3/423/ 347). (¬4) الأنعام الآية (159). (¬5) ذم الكلام (ص.192). (¬6) النساء الآية (59). (¬7) الإبانة (1/ 1/252/ 86) والشريعة (1/ 182/112).

موقفه من الخوارج:

- عن عطاء قال: الساقط يوالي من شاء. (¬1) - عن ابن جريج عن عطاء قال: ليس الدين الرأي ولكنه السمع. (¬2) - عن عطاء بن أبي رباح أنه قال لجلسائه في أصحاب الأهواء: إذا رأيتم منهم أحدا قد جلس إلينا فأعلموني بأمارة أجعلها بينهم، فإذا جلس إليهم منهم أحد فأعلموا أخذ نعليه ثم قام. (¬3) موقفه من الخوارج: - جاء في البداية والنهاية: وقال سعيد بن سلام البصري: سمعت أبا حنيفة النعمان يقول: لقيت عطاء بمكة، فسألته عن شيء فقال: من أين أنت؟ فقلت: من أهل الكوفة. قال: أنت من أهل القرية الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعا؟ قلت: نعم قال: فمن أي الأصناف أنت؟ قلت: ممن لا يسب السلف ويؤمن بالقدر، ولا يكفر أحدا من أهل القبلة بذنب: فقال عطاء: عرفت فالزم. (¬4) - وجاء في أصول الاعتقاد: عن عثمان بن الأسود قال: سمعت عطاء يقول: صَلِّ على كل من وضع على هذا الباب ممن يستقبل قبلتك قال فذكرت له أناسا فقال لهم شيئا فقال: صل على كل من صلى إلى القبلة منهم. (¬5) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/507/ 581). (¬2) ذم الكلام (ص.104) (¬3) أصول السنة لابن أبي زمنين (ص.302). (¬4) البداية والنهاية (9/ 319). (¬5) أصول الاعتقاد (7/ 1302/2307).

موقفه من المرجئة:

موقفه من المرجئة: - جاء في الإبانة: عن مبارك بن حسان قال: قلت لسالم الأفطس: رجل أطاع الله فلم يعصه ورجل عصى الله فلم يطعه فصار المطيع إلى الله فأدخله الجنة وصار العاصي إلى الله فأدخله النار، هل يتفاضلان في الإيمان؟ قال: لا، فذكرت ذلك لعطاء، فقال: سلهم الإيمان طيب أو خبيث فإن الله قال: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (¬1). قال: فسألتهم فلم يجيبوني، فقال سالم: إنما الإيمان منطق ليس معه عمل فذكرت ذلك لعطاء فقال: سبحان الله أما تقرؤون الآية التي في سورة البقرة: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} ثم وصف الله على هذا الاسم العمل فألزمه فقال: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} إلى قوله: {هُمُ الْمُتَّقُونَ} (¬2) قال: سلهم هل دخل هذا العمل في هذا الاسم؟ فقال: وَمَنْ {ومن أراد الآخرة وسعى ¬

(¬1) الأنفال الآية (37). (¬2) البقرة الآية (177).

لَهَا سعيها وَهُوَ مُؤْمِنٌ} (¬1). فألزم الاسم العمل وألزم العمل الاسم. (¬2) - قال معقل بن عبيد العبسي: فحججت فدخلت على عطاء بن أبي رباح في نفر من أصحابي وإذا هو يقرأ سورة يوسف قال: فسمعته يقرأ هذا الحرف: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} (¬3) مخففة، قال: قلت له: إن لنا حاجة فأدخلنا ففعل، فأخبرته أن قوما قبلنا قد أحدثوا وتكلموا وقالوا: إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين، فقال: أو ليس الله عز وجل يقول: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} (¬4) قال: وقلت: إنهم يقولون: ليس في الإيمان زيادة قال: أو ليس قد قال الله فيما أنزل: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} (¬5) هذا الإيمان الذي زادهم، قال فقلت: إنهم انتحلوك وبلغني أن ابن درهم دخل عليك في أصحابه فعرضوا عليك قولهم، فقبلته فقلت هذا الأمر، فقال: لا والله الذي لا إله إلا هو مرتين أو ثلاثا. (¬6) - وفي أصول الاعتقاد: عن ابن مجاهد قال: كنت عند عطاء بن أبي ¬

(¬1) الإسراء الآية (19). (¬2) الإبانة (2/ 7/897 - 898/ 1251). (¬3) يوسف الآية (110). (¬4) البينة الآية (5). (¬5) الفتح الآية (4). (¬6) أصول الاعتقاد (5/ 1024 - 1025/ 1732) والسنة لعبد الله (117 - 119) والسنة للخلال (4/ 29 - 32/ 1105) والإبانة (2/ 808 - 811/ 1101).

الحكم بن عتيبة (115 هـ)

رباح فجاء ابنه يعقوب فقال: يا أبتاه إن أصحابا لنا يزعمون أن إيمانهم كإيمان جبريل فقال: يا بني ليس إيمان من أطاع الله كإيمان من عصى الله. (¬1) الحَكَم بن عُتَيْبَة (¬2) (115 هـ) الإمام الكبير عالم أهل الكوفة، أبو محمد الكندي. حدث عن أبي جحيفة السوائي، وشريح القاضي، وإبراهيم النخعي. وعنه: منصور، والأعمش، والأوزاعي، وشعبة. قال أحمد بن حنبل: هو أثبت الناس في إبراهيم، وقال عباس الدوري: كان الحكم صاحب عبادة وفضل. وقال أحمد العجلي: كان صاحب سنة واتباع. وقال الأوزاعي: حججت فلقيت عبدة ابن أبي لبابة، فقال لي: هل لقيت الحكم؟ قلت: لا، قال: فالقه، فما بين لابتيها أفقه منه. توفي رحمه الله سنة خمس عشرة ومائة. موقفه من المبتدعة: - عن الحكم بن عتيبة قال: ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) - عن سفيان عن عمرو بن قيس قال قلت: للحكم -يعني- بن عتيبة: ما اضطر الناس إلى هذه الأهواء أن يدخلوا فيها؟ قال: الخصومات. (¬4) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (5/ 1027 - 1028/ 1734) والسنة لعبد الله (98). (¬2) السير (5/ 208) وتهذيب الكمال (7/ 114) وتهذيب التهذيب (2/ 432) وطبقات ابن سعد (6/ 331) والوافي بالوفيات (13/ 111) وشذرات الذهب (1/ 151). (¬3) جامع بيان العلم وفضله (2/ 925/1761). (¬4) أصول الاعتقاد (1/ 145/218) والشريعة (1/ 192/130) والإبانة (2/ 3/500/ 557).

موقفه من المرجئة:

موقفه من المرجئة: قال معقل بن عبيد العبسي: فلقيت الحكم بن عتيبة فقلت له: إن عبد الكريم، وميمون بلغهما أنه دخل عليك ناس من المرجئة فعرضوا عليك قولهم، فقبلت قولهم قال: فَقَبِلَ ذَلِكَ عَلَيَّ ميمون وعبد الكريم؟ فقلت: لا، قال: دخل علي اثنا عشر رجلا وأنا مريض فقالوا: يا أبا محمد أبلغك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه رجل بأمة سوداء أو حبشية فقال: يا رسول الله إن علي رقبة مؤمنة أفترى هذه مؤمنة فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتشهدين أن محمدا رسول الله؟ قالت: نعم، قال: وتشهدين أن الله يبعث من بعد الموت؟ قالت: نعم قال: فأعتقها قال فخرجوا وهم ينتحلوني (¬1). (¬2) مُحَارِب بن دِثَار (¬3) (116 هـ) مُحَارِب بن دِثَار بن كُرْدُوس بن قِرْوَاش السدوسي الكوفي الفقيه قاضي الكوفة، وليها لخالد بن عبد الله القسري يكنى أبا مطرف. سمع من ابن عمر وجابر ابن عبد الله، وعبد الله بن يزيد الخطمي، وجماعة. وسمع منه: ¬

(¬1) رواه مالك في الموطإ (2/ 777) وعبد الرزاق (9/ 175/16814) وأحمد (3/ 451 - 452) والبيهقي (10/ 57) وقال: "هذا مرسل". عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن رجل من الأنصار. قال الهيثمي في المجمع (2/ 244): "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح". وروى نحوه مسلم في صحيحه (537) من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه. (¬2) أصول الاعتقاد (5/ 1024 - 1025/ 1732) والسنة لعبد الله (117 - 119) والسنة للخلال (4/ 29 - 32/ 1105) والإبانة (2/ 808 - 811/ 1101). (¬3) المعرفة والتاريخ (2/ 674 - 680) وطبقات ابن سعد (6/ 307) وتهذيب الكمال (27/ 255 - 258) وميزان الاعتدال (3/ 441) والسير (5/ 217 - 219) وتهذيب التهذيب (10/ 49 - 51) وشذرات الذهب (1/ 152).

موقفه من الرافضة:

مسعر وشعبة، والثوري وعدد كثير. كان من ثقات التابعين وأخيارهم وعلمائهم وثقه غير واحد، بل قال الذهبي في الميزان: وهو حجة مطلقا. قال الثوري: ما يخيل إلي أني رأيت أحدا أفضله عليه. قال ابن سعد: كان من المرجئة الأولى الذين يرجئون عليا وعثمان إلى أمر الله، ولا يشهدون عليهما بإيمان ولا بكفر. توفي رحمه الله سنة ست عشرة ومائة. موقفه من الرافضة: - جاء في الشريعة عن مالك بن مغول قال: سمعت محارب بن دثار يقول: أليس يحزنك أن أمتنا ... قد فرقوا دينهم إذ اشتجروا بعد نبي الهدى وصاحبه ... الصديق والمرتضى به عمر ثلاثة برزوا وبسبقهم ... ينصرهم ربهم إذا نشروا فليس من مسلم له بصر ... ينكر تفضيلهم إذا ذكروا عاشوا بلا فرقة ثلاثتهم ... واجتمعوا في الممات إذا قبروا (¬1) - عن سفيان قال محارب بن دثار: بغض أبي بكر وعمر نفاق. (¬2) ¬

(¬1) الشريعة (3/ 453 - 454/ 1911). (¬2) السنة للخلال (1/ 290).

عون بن عبد الله (116 هـ)

عون بن عبد الله (¬1) (116 هـ) عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، الإمام القدوة العابد الزاهد أبو عبد الله الهذلي الكوفي أخو فقيه المدينة عبيد الله بن عبد الله بن عتبة. روى عن أبيه وأخيه وابن المسيب وابن عباس وعبد الله بن عمرو وطائفة. وروى عنه إسحاق بن يزيد الهذلي ومالك بن مغول وحنظلة بن أبي سفيان وجماعة. ومن كلامه: قال: لا أحسب الرجل ينظر في عيوب الناس إلا من غفلة قد غفلها عن نفسه. قال الأصمعي: كان من آدب أهل المدينة وأفقههم، كان مرجئا ثم تركه وقال أبياتا في مفارقة الإرجاء. وقيل: خرج مع ابن الأشعث وفر فأمنه محمد بن مروان بالجزيرة وتعلم منه ولده مروان. توفي رحمه الله سنة ست عشرة ومائة. موقفه من المبتدعة: - جاء في أصول الاعتقاد: عنه قال: من مات على الإسلام والسنة فله بشير بكل خير. (¬2) - عن عون بن عبد الله: لا تفاتح أصحاب الأهواء في شيء فإنهم يضربون القرآن بعضه ببعض. (¬3) ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (6/ 313) وحلية الأولياء (4/ 240 - 272) والسير (5/ 103 - 105) والجرح والتعديل (6/ 384 - 385) وتهذيب الكمال (22/ 453 - 460) وشذرات الذهب (1/ 140) وتهذيب التهذيب (8/ 171 - 173). (¬2) أصول الاعتقاد (1/ 74 - 75/ 60). (¬3) الإبانة (2/ 3/522/ 625).

موقفه من الخوارج:

موقفه من الخوارج: وجاء في السنة لعبد الله: عن عاصم الأحول عن عون بن عبد الله قال بعثني عمر بن عبد العزيز إلى الخوارج أكلمهم. فقلت لهم: هل تدرون ما علامتكم في وليكم التي إذا لقيكم بها أمن بها عندكم وكان بها وليكم. وما علامتكم في عدوكم التي إذا لقيكم بها خاف عندكم وكان بها عدوكم؟ قالوا ما ندري ما تقول؟ قلت: فإن علامتكم عند وليكم التي إذا لقيكم بها أمن بها عندكم وكان بها وليكم أن يقول أنا نصراني أو يهودي أو مجوسي. وعلامتكم عند عدوكم التي إذا لقيكم بها خاف بها عندكم وكان بها عدوكم أن يقول أنا مسلم. (¬1) موقفه من المرجئة والخوارج: عن أبي نوفل الهذلي عن أبيه قال: كان عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود من آدب أهل المدينة وأفقههم وكان مرجئا ثم رجع فأنشد يقول: لأول ما نفارق غير شك ... نفارق ما يقول المرجئونا وقالوا مؤمن من أهل جور ... وليس المؤمنون بجائرينا وقالوا مؤمن دمه حلال ... وقد حرمت دماء المؤمنينا (¬2) موقفه من القدرية: جاء في الإبانة عنه قال: لا تجالسوا أهل القدر ولا تخاصموهم فإنهم ¬

(¬1) السنة لعبد الله (275). (¬2) أصول الاعتقاد (5/ 1077/1850) والإبانة (2/ 7/906/ 1273).

مكحول (116 هـ)

يضربون القرآن بعضه ببعض. (¬1) مكحول (¬2) (116 هـ) مَكْحُول الشامي، أبو عبد الله، ويقال: أبو أيوب، ويقال: أبو مسلم والمحفوظ أبو عبد الله الدمشقي الفقيه. أرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث، وأرسل عن عدة من الصحابة لم يدركهم كأبي بن كعب وثوبان وعبادة بن الصامت وأبي هريرة وجماعة وروى عن طائفة من التابعين لم يلقهم كأبي مسلم الخولاني ومسروق. وحدث عن جماعة لقيهم. وحدث عنه الزهري وربيعة الرأي وأسامة بن زيد الليثي وجماعة. قال أبو حاتم: ما بالشام أحد أفقه من مكحول، وقال سعيد بن عبد العزيز: كان إذا سئل -أي مكحول- يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، هذا رأي والرأي يخطئ ويصيب. وعن تميم بن عطية قال: كثيرا ما كنت أسمع مكحولا يسأل، فيقوم ندانم يعني: لا أدري، وكان أعجميا. قال ابن يونس: ذكر أن مكحولا من أهل مصر، ويقال: كان لرجل من هذيل مصري فأعتقه، فسكن الشام. ويقال: إنه من الفرس من السبي الذين سبوا من فارس ويكنى أبا مسلم، وكان فقيها عالما ورأى أبا أمامة وأنسا وسمع واثلة بن الأسقع. توفي رحمه الله سنة ست عشرة ومائة. ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/466/ 463). (¬2) طبقات ابن سعد (7/ 453 - 454) والجرح والتعديل (8/ 407 - 408) وسير أعلام النبلاء (5/ 155 - 160) وحلية الأولياء (5/ 177 - 193) وتهذيب الكمال (28/ 464 - 474) ووفيات الأعيان (5/ 280 - 283) وتذكرة الحفاظ (1/ 107 - 108) والبداية والنهاية (9/ 317) وشذرات الذهب (1/ 146 - 147).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: - عن مكحول قال: السنة سنتان: سنة الأخذ بها فريضة وتركها كفر. وسنة الأخذ بها فضيلة وتركها إلى غير حرج. (¬1) " التعليق: قال ابن بطة: وأنا أشرح لكم طرفا من معنى كلام مكحول يخصكم ويدعوكم إلى طلب السنن التي طلبها، والعمل بها فرض، والترك لها والتهاون بها كفر. فاعلموا رحمكم الله أن السنن التي لزم الخاصة والعامة علمها والبحث والمسألة عنها والعمل بها؛ هي السنن التي وردت تفسيرا لجملة فرض القرآن مما لا يعرف وجه العمل به إلا بلفظ ذي بيان وترجمة. قال الله عز وجل: {وأقيموا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزكاة} (¬2)، وقال: {وأتموا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (¬3)، وقال: {كُتِبَ عليكم الصيام كَمَا كُتِبَ على الذين من قَبْلِكُمْ} (¬4)، وقال: {وجاهدوا في سبيل اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} (¬5) وقال: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ ورباع} (¬6) ¬

(¬1) الشريعة (1/ 182 - 183/ 114) والإبانة (1/ 1/263/ 101). (¬2) البقرة الآية (110). (¬3) البقرة الآية (196). (¬4) البقرة الآية (183). (¬5) التوبة الآية (20). (¬6) النساء الآية (3).

وقال: {وأحل لكم البيع وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬1). فليس أحد يجد السبيل إلى العمل بما اشتملت عليه هذه الجمل من فرائض الله عز وجل دون تفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتوقيف والتحديد والترتيب. ففرض على الأمة علم السنن التي جاءت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تفسير هذه الجمل من فرائض الكتاب؛ فإنها أحد الأصلين اللذين أكمل الله بهما الدين للمسلمين، وجمع لهم بهما ما يأتون وما يتقون فلذلك صار الأخذ بها فرضا وتركها كفرا. وأنا أذكر حديثا يحتج به المبطلون للشريعة ويحتال به المموهون وأهل الخديعة ليعرفه إخواننا فيردوه على من احتج به عليهم، وهو حديث رواه رجل جرحه أهل العلم بالحديث وأئمة المحدثين وأسقطوه. حدث بأحاديث بواطيل وأنكرها العلماء عليه، يعرف هذا الرجل بعثمان بن عبد الرحمن الوقاصي. حدثنا أبو الحسن أحمد بن زكريا بن يحيى بن عبد الرحمن الساجي البصري، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا محمد بن الحارث المخزومي، قال: حدثنا يحيى بن جعدة المخزومي، عن عمر بن حفص، عن عثمان بن عبد الرحمن -يعني الوقاصي- عن سالم، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عمر! لعل أحدكم متكئ على أريكته ثم يكذبني. ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فأنا قلته وإن لم يوافقه فلم أقله". (¬2) ¬

(¬1) البقرة الآية (110). (¬2) سيأتي تخريجه ضمن مواقف محمد أمان الجامي سنة (1416هـ).

قال ابن الساجي: قال أبي رحمه الله: هذا حديث موضوع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: وبلغني عن علي بن المديني أنه قال: ليس لهذا الحديث أصل، والزنادقة وضعت هذا الحديث. قال ابن بطة: وصدق ابن الساجي وابن المديني رحمهما الله، لأن هذا الحديث كتاب الله يخالفه ويكذب قائله وواضعه، والحديث الصحيح والسنة الماضية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترده. قال الله عز وجل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬1). والذي أمرنا الله عز وجل أن نسمع ونطيع ولا نضرب لمقالته عليه السلام المقاييس، ولا نلتمس لها المخارج، ولا نعارضها بالكتاب ولا بغيره، ولكن نتلقاها بالإيمان والتصديق والتسليم إذا صحت بذلك الرواية. وأما السنة الواردة عنه - صلى الله عليه وسلم - التي تخالف هذا الحديث الموضوع التي نقلها أهل العدالة والأمانة، فهو ما حدثنا: أبو جعفر محمد بن عبيد الله بن العلا الكاتب، قال: حدثنا علي بن حرب، قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن علي. وحدثني أبو صالح محمد بن أحمد بن ثابت قال: حدثنا أبو الأحوص وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود، وهذا لفظه، قالا: حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي رضي ¬

(¬1) النساء الآية (65).

الله عنه قال: إذا حدثتكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثا فظنوا برسول الله أهناه وأتقاه وأهداه. ولم يذكر الأعمش في حديثه أبا عبد الرحمن السلمي. حدثنا ابن الصواف قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أبي قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي عليه السلام قوله: أو نحوه. فالذي ذكرته رحمكم الله في هذا الباب من طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحضضت عليه من اتباع سنته واقتفاء أثره موافق كله لكتاب الله عز وجل وسنة رسول الله وهو طريق الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين والصحابة والتابعين وعليه كان السلف الصالح من فقهاء المسلمين وهي سبيل المؤمنين التي من اتبع غيرها ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا. فإذا سمع أحدكم حديثا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواه العلماء واحتج به الأئمة العقلاء فلا يعارضه برأيه وهوى نفسه فيصيبه ما توعده الله عز وجل به، فإنه قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬1). وهل تدري ما الفتنة ههنا؟ هي والله الشرك بالله العظيم والكفر بعد الإيمان؛ فإن الله عز وجل قال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} (¬2). يقول: حتى لا يكون شرك فإنه قال تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حيث ثَقِفْتُمُوهُمْ ¬

(¬1) النور الآية (63). (¬2) البقرة الآية (193).

موقفه من الجهمية:

وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حيث أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أشد مِنَ الْقَتْلِ} (¬1). يقول: الشرك بالله أشد من قتلكم لهم. ثم قال عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (¬2). أعاذنا الله وإياكم من هذه الأهوال، ووفقنا وإياكم لصالح الأعمال. (¬3) - عن مكحول قال: القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن. (¬4) - وروي عن مكحول أنه قال: تفقه الرعاع فساد الدين والدنيا، وتفقه السفلة فساد الدين. (¬5) موقفه من الجهمية: - جاء في الإبانة: عن الأوزاعي قال: سمعت الزهري ومكحولا يقولان: القرآن كلام الله غير مخلوق. (¬6) - وروى أبو بكر الخلال في كتاب السنة عن الأوزاعي قال: سئل مكحول والزهري عن تفسير الأحاديث فقالا: أمروها كما جاءت. (¬7) ¬

(¬1) البقرة الآية (191). (¬2) النساء الآية (115). (¬3) الإبانة (1/ 1/264 - 269). (¬4) الإبانة (1/ 1/253/ 88) وذم الكلام (75) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 1194). (¬5) ابن عبد البر في الجامع (1/ 620) وهو عند الطرطوشي في الحوادث والبدع (126) والشاطبي في الاعتصام (2/ 683). (¬6) الإبانة (2/ 12/8/ 185). (¬7) الفتاوى (5/ 39).

موقفه من المرجئة:

موقفه من المرجئة: عن عبيد الله بن عبيد الكلاعي قال: أخذ بيدي مكحول فقال: يا أبا وهب، كيف تقول في رجل ترك صلاة مكتوبة متعمدا؟ فقلت: مؤمن عاص. فشد بقبضته على يدي، ثم قال: يا أبا وهب ليعظم شأن الإيمان في نفسك، من ترك صلاة مكتوبة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله، ومن برئت منه ذمة الله فقد كفر. (¬1) موقفه من القدرية: - جاء في الإبانة: عن مسافر قال: جاء رجل إلى مكحول من إخوانه، فقال: يا أبا عبد الله. ألا أعجبك أني عدت اليوم رجلا من إخوانك، فقال: من هو؟ قال: لا عليك. قال: أسألك، قال: هو غيلان، فقال: إن دعاك غيلان فلا تجبه، وإن مرض فلا تعده، وإن مات فلا تمش في جنازته، ثم حدثهم مكحول عن عبد الله بن عمر، وذكروا عندهم القدرية، فقال: أو قد أظهروه وتكلموا به؟ قال: نعم، فقال ابن عمر: أولئك نصارى هذه الأمة ومجوسها. (¬2) - وفيها عن أيوب قال: سمعت مكحولا يقول لغيلان: لا تموت إلا مفتونا. (¬3) - وفيها عن إبراهيم بن عبد الله الكناني قال: حلف مكحول لا يجمعه ¬

(¬1) ابن أبي شيبة في الإيمان (129) وفي المصنف (6/ 171 - 172/ 30438). (¬2) الإبانة (2/ 10/216/ 1780). (¬3) الإبانة (2/ 10/216/ 1781) والشريعة (1/ 458/595).

وغيلان سقف بيت إلا سقف المسجد، وإن كان ليراه في أسطوان من أسطوانات السوق؛ فيخرج منه. (¬1) - وفيها عن سعيد بن عبد العزيز قال: قال مكحول: حسيب غيلان الله، لقد ترك هذه الأمة في لجج مثل لجج البحار. (¬2) - وفيها عن ثابت بن ثوبان: سمعت مكحولا يقول: ويحك يا غيلان؛ ركبت بهذه الأمة مضمار الحرورية، غير أنك لا تخرج عليهم بالسيف، والله لأنا على هذه الأمة منك أخوف من المزققين أصحاب الخمر. (¬3) - وفيها عن إبراهيم بن مروان قال: قال أبي: قلت لسعيد بن عبد العزيز: يا أبا محمد: إن الناس يتهمون مكحولا بالقدر، فقال: كذبوا، لم يك مكحول بقدري. (¬4) - وفيها عن الأوزاعي قال: لا نعلم أحدا من أهل العلم نسب إلى هذا الرأي إلا الحسن ومكحولا ولم يثبت ذلك عنهما، قال أبو مسهر: كان سعيد بن عبد العزيز يبرئ مكحولا ويدفعه عن القدر. (¬5) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 10/217/ 1785). (¬2) الإبانة (2/ 11/300/ 1961) والشريعة (1/ 458/594). (¬3) الإبانة (2/ 11/300 - 301/ 1962). (¬4) الإبانة (2/ 10/218/ 1786). (¬5) الإبانة (2/ 10/218/ 1788).

نافع مولى ابن عمر (117 هـ)

نافع مولى ابن عمر (¬1) (117 هـ) الإمام المفتي الثبت نافع مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي، أبو عبد الله المدني. قيل إن أصله من المغرب وقيل: من نيسابور وقيل غير ذلك. سمع من ابن عمر وعائشة وأبي هريرة وجماعة من الصحابة، وسمع منه: الزهري وأيوب السختياني وعبيد الله بن عمر وخلق من التابعين. كان من الثقات النبلاء والأئمة الأجلاء، وكان عمر بن عبد العزيز قد بعثه إلى مصر يعلم الناس السنن، كان صغير النفس، وكان في حياة سالم لا يفتي شيئا. قال البخاري: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر. قال الخليلي: نافع من أئمة التابعين بالمدينة، إمام في العلم متفق عليه. وقال ابن حجر: ثقة ثبت فقيه مشهور. مات رحمه الله تعالى سنة سبع عشرة ومائة على الأصح. موقفه من المرجئة: عن معقل قال: قدمت المدينة فجلست إلى نافع فقلت له: يا أبا عبد الله إن لي إليك حاجة قال: سرا أم علانية فقلت: لا بل سر قال: دعني من السر سر لا خير فيه فقلت: ليس من ذاك، فلما صلينا العصر قام وأخذ بيدي وخرج من الخوخة ولم ينتظر القاص وقال: حاجتك قال: قلت: اخلني هذا، فقال: تنح قال: فذكرت له قولهم (¬2) فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن ¬

(¬1) المعرفة والتاريخ (1/ 645 - 647) وتهذيب الكمال (29/ 298 - 306) وتذكرة الحفاظ (1/ 99 - 100) والسير (5/ 95 - 101) والبداية والنهاية (9/ 332) وشذرات الذهب (1/ 154). (¬2) أي المرجئة.

موقفه من القدرية:

أضربهم بالسيف حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" (¬1) قال: قلت: إنهم يقولون: نحن نقر بالصلاة فريضة ولانصلي، وإن الخمر حرام ونحن نشربها، وإن نكاح الأمهات حرام ونحن نريده فنتر يده من يدي وقال: من فعل هذا فهو كافر. (¬2) موقفه من القدرية: - جاء في الإبانة: عن محمد بن يزيد الرحبي قال: قلت لنافع مولى ابن عمر: إن قبلنا قوما يقولون إن الله عز وجل لم يقدر الذنوب على أهلها والناس مخيرون بين الخير والشر، قال: أولئك قوم كفروا بعد إيمانهم. (¬3) - روى اللالكائي بسنده: عن عبد المجيد بن أبي رواد عن أبيه قال: كنت عند نافع مولى ابن عمر فجاء رجل يسأل عن شيء فقال له: أنا أفتيك يا قدري. (¬4) - وعن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة قال: سمعت نافعا مولى ابن عمر يقول لأمير كان على المدينة: أصلحك الله اضرب أعناقهم- يعني القدرية. قال: وأنا يومئذ قدري حتى رأيت في المنام كأني أخاصم ناسا قال فتلوت آية. فلما أصبحت جاءني أصحابي فقلت يا هؤلاء إني أستغفر الله ¬

(¬1) هذا الحديث رواه: البخاري (13/ 311/7284و7285) ومسلم (1/ 51 - 52/ 20) وأبو داود (2/ 198/1556) والترمذي (5/ 5 - 6/ 2607) والنسائي (7/ 88/3980) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) أصول الاعتقاد (5/ 1024 - 1025/ 1732) والسنة لعبد الله (117 - 119) والسنة للخلال (4/ 29 - 32/ 1105) والإبانة (2/ 808 - 811/ 1101). (¬3) الإبانة (2/ 9/121/ 1547). (¬4) أصول الاعتقاد (4/ 714/1169).

قتادة بن دعامة (117 هـ)

وأتوب إليه فأخبرتهم بما رأيت فرجع بعضهم وأبى بعض أن يرجع. (¬1) - وأخرج ابن بطة: عن ابن وهب قال: أخبرني يحيى بن أيوب عن سليمان بن حميد أنه كان جالسا مع محمد بن كعب القرظي؛ فحدثهم عن امرأة قدمت من المجوس ومعها ابن لها، فأسلمت وحسن إسلامها؛ فكبر ابنها فكذب بالقدر ودعى أمه إلى ذلك، فقالت: يا بني. هذا دين آبائك المجوس؛ أفترجع إلى المجوسية بعد إذ أسلمنا؟ قال: سليمان يعني: ابن حميد: كان نافع مولى ابن عمر قريبا من مجلسه، فسمع حديثه؛ فأقبل على القرظي، فقال: صدقت، والذي نفسي بيده؛ إنه لدين المجوسية. (¬2) - وأخرج الآجري في الشريعة: قيل لنافع: إن هذا الرجل يتكلم في القدر؛ قال: فأخذ كفا من حصى فضرب بها وجهه. (¬3) قَتَادَة بن دِعَامَة (¬4) (117 هـ) أبو الخطاب قَتَادَة بن دِعَامَة السدوسي البصري الضرير الأكمه، كان من أوعية العلم، وممن يضرب به المثل في قوة الحفظ. روى عن عبد الله بن سرجس وأنس بن مالك وسعيد بن المسيب وعامر الشعبي وخلق كثير. روى ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 783/1312) والسنة لعبد الله (147). (¬2) الإبانة (2/ 10/210/ 1761). (¬3) الشريعة (1/ 432/535). (¬4) طبقات ابن سعد (7/ 229 - 231) والجرح والتعديل (7/ 133 - 135) ووفيات الأعيان (4/ 85 - 86) وتهذيب الكمال (23/ 498 - 517) وتذكرة الحفاظ (1/ 122 - 124) وسير أعلام النبلاء (5/ 269 - 283) وميزان الاعتدال (3/ 385) ومشاهير علماء الأمصار (96) وشذرات الذهب (1/ 153 - 154) والبداية والنهاية (9/ 325 - 326).

موقفه من المبتدعة:

عنه أيوب السختياني وابن أبي عروبة ومعمر بن راشد والأوزاعي ومسعر بن كدام، وأمم سواهم. قال أحمد بن حنبل: كان قتادة عالما بالتفسير، وباختلاف العلماء، ثم وصفه بالفقه والحفظ، وأطنب في ذكره وقال: قلما تجد من يتقدمه. قال قتادة: ما قلت لمحدث قط أعد علي، وما سمعت أذناي شيئا قط إلا وعاه قلبي. قال ابن حبان: كان من علماء الناس بالقرآن والفقه، وكان من حفاظ أهل زمانه، على قدر فيه. قال أبو داود: لم يثبت عندنا عن قتادة القول بالقدر، والله أعلم. قال ابن أبي حاتم: كان قتادة بارع العلم، نسيج وحده في الحفظ في زمانه، لا يتقدمه كبير أحد. وعنه في قوله تعالى: {إِنَّمَا الله من عباده الْعُلَمَاءُ} (¬1) قال: كفى بالرهبة علما، اجتنبوا نقض الميثاق، فإن الله قدم فيه وأوعد، وذكره في آي من القرآن تقدمة ونصيحة وحجة، إياكم والتكلف والتنطع والغلو والإعجاب بالأنفس، تواضعوا لله لعل الله يرفعكم. توفي سنة سبع عشرة ومائة بواسط وقيل ثماني عشرة. موقفه من المبتدعة: - جاء في الإبانة أن قتادة كان إذا تلا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا ربنا اللَّهُ ثُمَّ استقاموا} (¬2) قال: إنكم قد قلتم ربنا الله فاستقيموا على أمر الله وطاعته وسنة نبيكم وامضوا حيث تؤمرون، فالاستقامة أن تلبث على الإسلام ¬

(¬1) فاطر الآية (28). (¬2) الأحقاف الآية (13).

والطريقة الصالحة ثم لا تمرق منها ولا تخالفها ولا تشذ عن السنة ولا تخرج عنها. فإن أهل المروق من الإسلام منقطع بهم يوم القيامة، ثم إياكم وتصرف الأخلاق واجعلوا الوجه واحدا والدعوة واحدة، فإنه بلغنا أنه "من كان ذا وجهين وذا لسانين كان له يوم القيامة لسانان من نار" (¬1). (¬2) - جاء في أصول الاعتقاد: عن عاصم الأحول قال: قال قتادة: يا أحول! إن الرجل إذا ابتدع بدعة ينبغي لها أن تذكر حتى تحذر. (¬3) " التعليق: نعم ويبين بطلانها، وكذلك رؤوس المبتدعة وأفراخهم، ويعتبر ذلك من أفضل القرب إلى الله، ومن الجهاد في سبيله كما قال بعض السلف والحمد لله رب العالمين. - روى الدارمي بسنده إلى أبي عوانة عن قتادة قال: ما قلت برأيي منذ ¬

(¬1) رواه أبو يعلى (5/ 159/2771و2772) وابن أبي الدنيا في كتاب الصمت (ص.282) والبزار (2/ 428/2025 كشف الأستار) والطبراني في الأوسط (9/ 409/8880) وأبو نعيم في الحلية (2/ 160) والخطيب في التاريخ (12/ 103) من طرق عن أنس بن مالك به، وذكره الهيثمي في المجمع (8/ 95) وقال: "رواه الطبراني في الأوسط وفيه مقدام بن داود وقد ضعف، ورواه البزار بنحوه، وأبو يعلى وفيه إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف". وأخرجه أبو داود (5/ 191/4873) والبخاري في الأدب المفرد (1310) وابن حبان (الإحسان 13/ 68/5756) من حديث عمار بن ياسر وحسن إسناده العراقي في تخريج الإحياء (4/ 1777/2806). وفي الباب عن أبي هريرة وسعد بن أبي وقاص وجندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنهم. قال الشيخ الألباني رحمه الله بعد ذكر هذه الطرق: "وبالجملة فالحديث صحيح بمجموع هذه الطرق، والله أعلم". انظر الصحيحة (2/ 584 - 585). (¬2) الإبانة (1/ 2/317 - 318/ 156). (¬3) أصول الاعتقاد (1/ 154/256) والكفاية في علم الرواية (ص.44).

ثلاثون سنة، قال أبو هلال: منذ أربعون سنة. (¬1) " التعليق: انظر كيف كان السلف يتمسكون بالنص ولا يعدلون به إلى آرائهم الطيبة التي كانت مبنية على النصوص، ومع ذلك لشدة حبهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وورعهم عن الوقوع في الخطأ التزموا بالنصوص. وأما نحن فأعرضنا عن النصوص بالكلية وجعلنا حججنا في قول فلان وعلان مهما كان مصدر رأيه سواء كان مستاقا من ضلال اليونان؛ أو من الفكر الهندي والمسيحي؛ أو من متأخرة الفقهاء الذين لم يشموا رائحة السنة، أو من الفكر الاستشراقي النصراني، والله المستعان. - عن قتادة في قوله عز وجل: {واذكرن ما يتلى عليكم في بيوتكن من آيات اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} (¬2)، قال: القرآن والسنة. (¬3) - عن قتادة: {ويعلمهم الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (¬4)، قال: السنة. (¬5) - وعنه: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يخوضوا في حديث غيره} (¬6)، قال: نهاه الله أن يجلس مع الذين يخوضون في آيات الله يكذبون بها وإن نسي ¬

(¬1) سنن الدارمي (1/ 47). (¬2) الأحزاب الآية (34). (¬3) الإبانة (1/ 1/255/ 91) والسنة للمروزي (ص.108 - 109). (¬4) البقرة الآية (129). (¬5) أصول الاعتقاد (1/ 78/71) والإبانة (1/ 2/344 - 345/ 217). (¬6) الأنعام الآية (68).

فلا يقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين. (¬1) - وعنه في قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (¬2)، قال: لا تبتدعوا ولا تجالسوا مبتدعا. (¬3) - قال قتادة: إنا والله ما رأينا الرجل يصاحب من الناس إلا مثله وشكله فصاحبوا الصالحين من عباد الله لعلكم أن تكونوا معهم أو مثلهم. (¬4) - عن قتادة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يجادل في الله عِلْمٍ} (¬5)، قال: صاحب بدعة يدعو إلى بدعته. (¬6) - عن قتادة: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين} (71) (¬7)، قال: خصومة علمها الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يخاصمون بها أهل الضلالة. (¬8) - وعن قتادة في قوله تعالى: {كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} (¬9): يعني أهل البدع. (¬10) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/430 - 431/ 352) والطبري (5/ 228). (¬2) النساء الآية (171). (¬3) الإبانة (2/ 3/440/ 380) وما جاء في البدع (ص.66). (¬4) الإبانة (2/ 3/479 - 480/ 511). (¬5) الحج الآية (3). (¬6) أصول الاعتقاد (1/ 129/178). (¬7) الأنعام الآية (71). (¬8) ذم الكلام (ص.128). (¬9) آل عمران الآية (105). (¬10) الاعتصام (1/ 75).

موقفه من الرافضة:

- قال الحافظ في الفتح: وأخرج عبد بن حميد بسند صحيح عن قتادة في قوله: {وَاجْعَلْنَا للمتقين إِمَامًا} (¬1) أي قادة في الخير ودعاة هدى يؤتم بنا في الخير. (¬2) موقفه من الرافضة: - عن سعيد عن قتادة قال: ما سب أحد عثمان إلا افتقر. (¬3) - عن قتادة قال: لو أصبحتم في مثل عمل معاوية لقال أكثركم: هذا المهدى. (¬4) موقفه من الجهمية: - جاء في الإبانة عن معاذ بن معاذ قال: جاء الأشعث بن عبد الملك إلى قتادة فقال: من أين؟ لعلك دخلت في هذه المعتزلة؟ قال: قال له رجل: إنه لزم الحسن ومحمدا، قال: هي ها الله إذا فالزمهما. (¬5) - وفي أصول الاعتقاد: عن قتادة في قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وزيادة} (¬6) قال: ذكر لنا أن المؤمنين إذا دخلوا الجنة ناداهم ربهم: إن الله وعدكم الحسنى: وهي الجنة والزيادة: النظر إلى وجه الرحمن. (¬7) ¬

(¬1) الفرقان الآية (74). (¬2) الفتح (13/ 251). (¬3) أصول الاعتقاد (7/ 1344/2397). (¬4) المنهاج (6/ 233). (¬5) الإبانة (2/ 11/305/ 1976). (¬6) يونس الآية (26). (¬7) أصول الاعتقاد (3/ 513/798).

موقفه من الخوارج:

- وعن معمر عن قتادة في قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} (¬1) قال يأتيهم في ظلل من الغمام، وتأتيهم الملائكة عند الموت. (¬2) - وعن قتادة في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} (¬3) قال: قال المشركون: إنما هنا كلام يوشك أن ينفد. فأنزل الله تعالى ما تسمعون. يقول: لو كان شجر الأرض أقلاما ومع البحر سبعة أبحر مدادا لتكسرت الأقلام ونفدت البحور قبل أن تنفد عجائب ربي وحكمته وكلماته وعلمه. (¬4) موقفه من الخوارج: عن معمر عن قتادة في قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} (¬5) وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} قال: إن لم يكونوا الحرورية والسبائية، فلا أدري من هم، ولعمري لقد كان في أهل بدر والحديبية الذين شهدوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيعة ¬

(¬1) البقرة الآية (210). (¬2) السنة لعبد الله (187). (¬3) لقمان الآية (27). (¬4) أصول الاعتقاد (2/ 245 - 246/ 360). (¬5) آل عمران الآية (7).

الرضوان من المهاجرين والأنصار خبر لمن استخبر، وعبرة لمن استعبر، لمن كان يعقل أو يبصر. إن الخوارج خرجوا وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ كثير بالمدينة والشام والعراق، وأزواجه يومئذ أحياء. والله إن خرج منهم ذكر ولا أنثى حروريا قط، ولا رضوا الذي هم عليه، ولا مالأوهم فيه، بل كانوا يحدثون بعيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياهم ونعته الذي نعتهم به، وكانوا يبغضونهم بقلوبهم، ويعادونهم بألسنتهم، وتشتد والله عليه أيديهم إذا لقوهم. ولعمري لو كان أمر الخوارج هدى لاجتمع، ولكنه كان ضلالا فتفرق. كذلك الأمر إذا كان من عند غير الله وجدت فيه اختلافا كثيرا. فقد ألاصوا هذا الأمر منذ زمان طويل. فهل أفلحوا فيه يوما أو أنجحوا؟ يا سبحان الله؟ كيف لا يعتبر آخر هؤلاء القوم بأولهم؟ لو كانوا على هدى، قد أظهره الله وأفلحه ونصره، ولكنهم كانوا على باطل أكذبه الله وأدحضه. فهم كما رأيتهم، لكما خرج لهم قرن أدحض الله حجتهم، وأكذب أحدوثتهم، وأهراق دماءهم. إن كتموا كان قرحا في قلوبهم، وغما عليهم. وإن أظهروه أهراق الله دماءهم. ذاكم والله دين سوء فاجتنبوه. والله إن اليهودية لبدعة، وإن النصرانية لبدعة، وإن الحرورية لبدعة وإن السبائية لبدعة ما نزل بهن كتاب ولا سنهن نبي. (¬1) - وعنه في قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} (¬2) ، قال: تُدْخِل مقلوبُ تُخْلِد، ولا نقول كما قال أهل حروراء. (¬3) ¬

(¬1) ابن جرير (6/ 187 - 189) وعبد الرزاق في التفسير (1/ 115). (¬2) آل عمران الآية (192). (¬3) تفسير القرطبي (4/ 201).

موقفه من المرجئة:

موقفه من المرجئة: - جاء في السنة لعبد الله: عن الأوزاعي قال: كان يحيى وقتادة يقولان: ليس من الأهواء شيء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء. (¬1) - وعن قتادة قال: إنما حدث هذا الإرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث. (¬2) موقفه من القدرية: - روى اللالكائي بسنده إلى الحكم بن عمر: أرسلني خالد بن عبد الله إلى قتادة وهو بالجيزة أسأله عن مسائل فكان فيما سألته قلت: أخبرني عن قول: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} (¬3) هم مشركوا العرب؟ قال: لا ولكنهم الزنادقة المباينة الذين جعلوا لله شركاء في خلقه فقالوا: إن الله يخلق الخير وإن الشيطان يخلق الشر وليس لله على الشيطان قدرة. (¬4) - وجاء في مجموع الفتاوى: عن قتادة: {والذي قدر فهدى} (¬5) قال: لا والله ما أكره الله عبدا على معصية قط ولا على ضلالة، ولا رضيها له ولا أمره، ولكن رضي لكم الطاعة فأمركم بها، ونهاكم عن ¬

(¬1) السنة لعبد الله (86) وأصول الاعتقاد (5/ 1064/1816) والإبانة (2/ 885 - 886/ 1223) والشريعة (1/ 309/337). (¬2) أصول الاعتقاد (5/ 1074/1841) والإبانة (2/ 889/1235) والسنة لعبد الله (86) والسنة للخلال (4/ 87 - 88/ 1230). (¬3) الحج الآية (17). (¬4) أصول الاعتقاد (4/ 774/1297). (¬5) الأعلى الآية (3).

معصيته. (¬1) قال ابن تيمية معلقا: قتادة ذكر هذا عند هذه الآية ليبين أن الله قدر ما قدره من السعادة والشقاوة، كما قال الحسن وقتادة، وغيرهما من أئمة المسلمين، فإنهم لم يكونوا متنازعين. فما سبق من سبق تقدير الله، وإنما كان نزاع بعضهم في الإرادة وخلق الأفعال. وإنما نازع في التقدير السابق والكتاب أولئك الذين تبرأ منهم الصحابة كابن عمر، وابن عباس، وغيرهما. وذكر قتادة أن الله لن يكره أحدا على معصية، وهذا صحيح؛ فإن أهل السنة المثبتين للقدر متفقون على أن الله لا يكره أحدا على معصية كما يكره الوالي والقاضي وغيرهما للمخلوق على خلاف مراده، يكرهونه بالعقوبة والوعيد، بل هو سبحانه يخلق إرادة العبد للعمل وقدرته وعمله، وهو خالق كل شيء. وهذا الذي قاله قتادة قد يظن فيه أنه من قول القدرية، وأنه لسبب مثل هذا اتهم قتادة بالقدر، حتى قيل: إن مالكا كره لمعمر أن يروي عنه التفسير لكونه اتهم بالقدر، وهذا القول حق، ولم يعرف أحد من السلف قال: إن الله أكره أحدا على معصية. (¬2) - وجاء في الإبانة: عن قتادة في قوله: {وَهُوَ الحكيم الخبير} (¬3)؛ ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (16/ 140). (¬2) مجموع الفتاوى (16/ 140 - 141). (¬3) سبأ الآية (1).

ميمون بن مهران (117 هـ)

قال: حكيم في أمره، خبير بخلقه. (¬1) - وفيها: عن سعيد بن أبي عروبة أن رجلا جاء إلى قتادة فقال: يا أبا الخطاب. ما تقول في القدر؟ فقال: رأي العرب أعجب إليك أم رأي العجم؟ قال: رأي العرب، قال: إن العرب لم تزل في جاهليتها وإسلامها تثبت القدر، ثم أنشده بيتا من شعر. (¬2) - وفيها: عن معمر عن قتادة قال: {يعلم السر وأخفى} (¬3)؛ قال: أخفى من السر ما حدثت به نفسك، وما لم تحدث به نفسك أيضا مما هو كائن. (¬4) ميمون بن مِهْرَان (¬5) (117 هـ) ميمون بن مِهْرَان الإمام الحجة عالم الجزيرة ومفتيها أبو أيوب الجزري. روى عن أبي هريرة وعائشة وابن عباس وابن عمر وغيرهم. روى عنه ابنه عمرو وجعفر بن إياس وحميد الطويل وسليمان الأعمش وغيرهم. كان ثقة كثير الحديث، عن سليمان بن موسى قال: هؤلاء الأربعة علماء الناس في ¬

(¬1) الإبانة (2/ 10/219/ 1791). (¬2) الإبانة (2/ 10/219/ 1792). (¬3) طه الآية (7). (¬4) الإبانة (2/ 10/225/ 1813). (¬5) طبقات ابن سعد (6/ 477 - 479) والجرح والتعديل (8/ 233 - 234) والسير (5/ 71 - 78) وحلية الأولياء (4/ 82 - 97) وتهذيب الكمال (29/ 210 - 227) والبداية والنهاية (9/ 326 - 332) وتذكرة الحفاظ (1/ 98 - 99) ومشاهير علماء الأمصار (117) وشذرات الذهب (1/ 154).

موقفه من المبتدعة:

زمن هشام بن عبد الملك مكحول والحسن والزهري وميمون بن مهران. كان ميمون عند عمر بن عبد العزيز فلما قام قال عمر: إذا ذهب هذا وضرباؤه صار الناس بعده رجراجة. قال أبو المليح: ما رأيت رجلا أفضل من ميمون ابن مهران. قال له رجل: يا أبا أيوب ما يزال الناس بخير ما أبقاك الله لهم، قال: أقبل على شأنك ما يزال الناس بخير ما اتقوا ربهم. من أقواله: قال لجعفر بن برقان: قل لي في وجهي ما أكره فإن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره. ثلاثة تؤدى إلى البر والفاجر: الأمانة، والعهد، وصلة الرحم. وقال: من أحب أن يعلم ما له عند الله، فليعلم مالله عنده، فإنه قادم على ما قدم لا محالة. توفي رحمه الله سنة سبع عشرة ومائة. موقفه من المبتدعة: - عن ميمون بن مهران قال: ثلاث لا تبلون نفسك بهن: لا تدخل على السلطان، وإن قلت: آمره بطاعة الله، ولا تصغين بسمعك إلى هوى، فإنك لا تدري ما يعلق بقلبك منه، ولا تدخل على امرأة، ولو قلت: أعلمها كتاب الله. (¬1) - عن جعفر بن برقان قال: سمعت ميمون بن مهران يقول: إياكم وكل هوى يسمى بغير الإسلام. (¬2) - عن جعفر بن برقان عن ميمون قال: إن هذا القرآن قد أخلق في ¬

(¬1) السير (5/ 77). (¬2) الإبانة (1/ 2/354/ 235).

موقفه من المشركين:

صدور كثير من الناس والتمسوا ما سواه من الأحاديث، وإن ممن يتبع هذا العلم من يتخذه بضاعة يريد به الدنيا ومنهم من يريد أن يشار إليه ومنهم من يماري به وخيرهم الذي يتعلمه ليطيع الله. (¬1) " التعليق: قال أبو عمر: معنى قوله: إن هذا القرآن قد أخلق، والله أعلم أي أخلق علم تأويله من تلاوته إلا بالأحاديث عن السلف العالمين به، فبالأحاديث الصحاح عنهم يوقف على ذلك، لا بما سولته النفوس، وتنازعته الآراء كما صنعته أهل الأهواء. (¬2) - وجاء في ذم الكلام عن ميمون بن مهران في قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} (¬3) قال: إلى كتاب الله والرد إلى رسول الله إذا قبض إلى سنته. (¬4) - قال ميمون بن مهران: لو أن رجلا نشر فيكم من السلف ما عرف فيكم غير هذه القبلة. (¬5) موقفه من المشركين: روى أبو المليح الرقي عن ميمون بن مهران قال: لا تجالسوا أهل القدر ¬

(¬1) ذم الكلام (ص.61) والحلية (4/ 84) والجامع لابن عبد البر (2/ 1203). (¬2) جامع بيان العلم وفضله (2/ 1203). (¬3) النساء الآية (59). (¬4) ذم الكلام (ص.76) والإبانة (1/ 1/217/ 58) وأصول الاعتقاد (1/ 80/76). (¬5) ما جاء في البدع لابن وضاح (ص.141) وانظر السير (5/ 76) والاعتصام (1/ 34).

موقفه من الرافضة:

ولا تسبوا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا تعلموا النجوم. (¬1) موقفه من الرافضة: - عن أبي المليح الرقي قال: كان ميمون بن مهران يقول: إن أقواما يقولون: لا يسعنا أن نستغفر لعثمان وعلي، وأنا أقول غفر الله لعثمان وعلي وطلحة والزبير. (¬2) - عن ميمون بن مهران قال: ثلاثة أرفضوهن: مجادلة أصحاب الأهواء، وشتم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والنظر في النجوم. (¬3) موقفه من المرجئة: - عن أبي مليح قال: سئل ميمون عن كلام المرجئة، فقال: أنا أكبر من ذلك. (¬4) - قال معقل: فجلست إلى ميمون بن مهران فقلت: يا أبا أيوب لو قرأت لنا سورة ففسرتها قال: فقرأ أو قرئت: {إذا الشمس كورت} حتى إذا بلغ {مطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} (¬5) قال: ذلكم جبريل، والخيبة لمن يقول: إن إيمانه كإيمان جبريل. (¬6) ¬

(¬1) السير (5/ 73. جامع بيان العلم وفضله (2/ 794). (¬2) الشريعة (3/ 22/1289). (¬3) رياض الجنة بتخريج أصول السنة لابن أبي زمنين (ص.267) والسير (5/ 73). (¬4) الإبانة (2/ 7/890/ 1236). (¬5) التكوير الآيات (1 - 21). (¬6) أصول الاعتقاد (5/ 1024 - 1025/ 1732) والسنة لعبد الله (117 - 119) والسنة للخلال (4/ 29 - 32/ 1105) والإبانة (2/ 808 - 811/ 1101).

موقفه من القدرية:

- وعن نصر بن المثنى الأشجعي قال: كنت مع ميمون بن مهران فمر بجويرية وهي تضرب بدف وهي تقول: وهل علي من قول قلته من كنود فقال ميمون: أترون إيمان هذه كإيمان مريم بنت عمران. قال: والخيبة لمن يقول إيمانه كإيمان جبريل. (¬1) موقفه من القدرية: جاء في الإبانة: عن ميمون بن مهران: ثلاث أرفضوهن: ما شجر بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والنجوم، والنظر في القدر. (¬2) عبد الله بن أبي مليكة (¬3) (117 هـ) عبد الله بن عبيد الله بن أبي مُلَيْكَة زهير بن عبد الله بن جدعان الإمام الحجة الحافظ أبو بكر وأبو محمد القرشي المؤذن. روى عن عائشة وأختها أسماء وأبى محذورة وابن عباس وغيرهم. روى عنه عطاء بن أبي رباح وعمرو ابن دينار وأيوب السختياني وغيرهم. قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكان عالما مفتيا صاحب حديث وإتقان وكان قاضيا لابن الزبير ومؤذنا له. توفي سنة سبع عشرة ومائة. ¬

(¬1) الإبانة (2/ 900 - 901/ 1258) وانظر الإيمان لأبي عبيد (19). (¬2) الإبانة (1/ 8/243/ 1281) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 794) وبنحوه في السير (5/ 73). (¬3) طبقات ابن سعد (5/ 473) والجرح والتعديل (5/ 99 - 100) وسير أعلام النبلاء (5/ 88 - 90) وتهذيب الكمال (15/ 256) وتذكرة الحفاظ (1/ 101 - 102) والعقد الثمين (5/ 204 - 205) والوافي بالوفيات (17/ 304) وشذرات الذهب (1/ 153).

موقفه من المرجئة:

موقفه من المرجئة: - جاء في الإبانة: عن نافع بن عمر بن جميل القرشي قال: كنت عند عبد الله ابن أبي مليكة فقال له بعض جلسائه: يا أبا محمد إن ناسا يجالسونك يزعمون أن إيمانهم كإيمان جبريل، قال: فغضب ابن أبي مليكة فقال: والله ما رضي الله لجبريل حين فضله بالثناء على محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} (¬1) يعني محمدا - صلى الله عليه وسلم -، أفأجعل إيمان جبريل وميكائيل كإيمان فهدان لا والله ولا كرامة. قال نافع: وقد رأيت فهدان رجلا لا يصحى من الشراب. (¬2) - وفيها: قال ابن أبي مليكة: إن فهدان يزعم أنه يشرب الخمر ويزعمون أن إيمانه على إيمان جبريل وميكائيل. (¬3) - وعن الصلت بن دينار عن ابن أبي مليكة قال: لقد أتى علي برهة من الدهر وما أراني أدرك قوما يقول أحدهم: إني مؤمن مستكمل الإيمان ثم ما رضي حتى قال: إن إيماني على إيمان جبريل وميكاييل ثم مازال بهم الشيطان حتى قال أحدهم: إنه مؤمن وإن نكح أمه وأخته وابنته ولقد أدركت كذا وكذا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ما مات رجل منهم إلا وهو ¬

(¬1) التكوير الآيات (19 - 22). (¬2) الإبانة (2/ 7/900/ 1256) والشريعة (1/ 312 - 313/ 345). (¬3) الإبانة (2/ 7/900/ 1257) والسنة لعبد الله (109).

أنس بن سيرين (118 هـ)

يخشى على نفسه النفاق. (¬1) أنس بن سيرين (¬2) (118 هـ) أنس بن سيرين ويكنى أبا حمزة قال: لما ولدت انطلق بي إلى أنس بن مالك فسماني باسمه وكناني بكنيته. ولد لسنة بقيت من خلافة عثمان بن عفان ودخل على زيد بن ثابت. روى عن أنس وابن عباس وابن عمر وغيرهم. روى عنه ابن عون وخالد وشعبة والحمادان وغيرهم. عن قتادة قال: استعمل ابن الزبير أنس بن مالك على البصرة فأرسل إلى مولاه أنس بن سيرين، فاستعمله على الأبلّة. توفي رحمه الله سنة ثماني عشرة ومائة، وقيل سنة عشرين. موقفه من القدرية: جاء في أصول الاعتقاد: قال أنس بن سيرين: لا تقاعدن قدريا ولا تسمع كلامه. (¬3) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (5/ 1026/1733) والإبانة (2/ 6/755/ 1053) والفقرة الأخيرة علقها البخاري في صحيحه كتاب الإيمان باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر بلفظ: قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل. ووصله الخلال في السنة (3/ 607 - 608/ 1081)، وقال الحافظ في الفتح (1/ 148): "هذا التعليق وصله ابن أبي خيثمة في تاريخه لكن أبهم العدد وكذا أخرجه محمد بن نصر المروزي مطولا في كتاب الإيمان له وعينه أبو زرعة الدمشقي في تاريخه من وجه آخر مختصرا عما هنا". (¬2) طبقات ابن سعد (7/ 207) والجرح والتعديل (2/ 287 - 288) ومشاهير علماء الأمصار (91) والسير (4/ 622 - 623) وتهذيب الكمال (3/ 346) والوافي بالوفيات (9/ 416 - 417). (¬3) أصول الاعتقاد (4/ 705/1144).

عبادة بن نسي (118 هـ)

عبادة بن نسي (¬1) (118 هـ) عُبَادة بن نُسَيّ الكِنْدي أبو عمر الشامي قاضي طبريّة. روى عن شداد ابن أوس ومعاوية وأبي سعيد الخدري وغيرهم. روى عنه برد بن سنان وعلي ابن أبي حملة وهشام بن الغاز وعبد الله بن عثمان وخلق، وكان سيدا شريفا وافر الجلالة ذا فضل وصلاح وعلم. سأل هشام بن عبد الملك: من سيد أهل الأردن؟ قالوا: عبادة بن نسي. ولاه عبد الملك على الأردن فلما استخلف عمر بن عبد العزيز ولاه جند الأردن. مات سنة ثماني عشرة ومائة. موقفه من القدرية: جاء في أصول الاعتقاد بالسند إلى إبراهيم بن أبي عبلة قال: كنت عند عبادة بن نسي فأتاه آت فقال: إن أمير المؤمنين -يعني هشاما- قد قطع يد غيلان ورجليه وصلبه قال: ما تقول؟ قال: قد فعل. قال عبادة: أصاب والله فيه القضية والسنة ولأكتبن إليه فلأحسنن رأيه. (¬2) " التعليق: وأنا أيضا أقول: جزاه الله خيرا، لقد سن لمن جاء بعده السنن في المبتدعة كغيلان وأمثاله، إن جزاءهم هو الصلب والقتل، وهذا العالم السلفي الفاضل عبادة يبارك له في هذا الفعل، وكذلك يفعل العلماء الصادقون في كل عصر. ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (7/ 456) والجرح والتعديل (6/ 96) ومشاهير علماء الأمصار (180) والسير (5/ 323 - 324) وتهذيب الكمال (14/ 194) والمعرفة والتاريخ (2/ 329) وتهذيب التهذيب (5/ 113 - 114). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 793/1328) والإبانة (2/ 10/239 - 240/ 1851) والشريعة (1/ 439 - 440/ 558).

علي بن عبد الله بن عباس (118 هـ)

علي بن عبد الله بن عباس (¬1) (118 هـ) علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي أبو محمد، ولد ليلة قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، في شهر رمضان سنة أربعين، فسمي باسمه وكني بكنيته أبي الحسن. فقال له عبد الملك بن مروان: لا والله لا أحتمل لك الاسم والكنية جميعا فغير أحدهما، فغير كنيته فصيرها أبا محمد. سمع من أبيه ابن عباس وأبي هريرة وابن عمر وجماعة وسمع منه بنوه: عيسى، وداود وسليمان وآخرون. كان رحمه الله من خيار الناس في غاية العبادة والزهادة والعلم والعمل وحسن الشكل وتمام القامة والعدالة والثقة. وقد أثنى عليه غير واحد من الأئمة ووثقوه. مات رحمه الله سنة ثماني عشرة ومائة وبه جزم الأكثرون. موقفه من الرافضة: عن عمر بن بزيع قال: سمعني علي بن عبد الله بن عباس وأنا أريد أن أسب معاوية رحمه الله فقال: مهلا لا تسبه، فإنه صهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) عبد الرحمن بن عبد الله بن سابط (¬3) (118 هـ) عبد الرحمن بن عبد الله بن سابط بن أبي حُمَيْضَة بن عمرو بن أُهَيْب ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (5/ 312 - 314) وتهذيب الكمال (21/ 35 - 40) والسير (5/ 252 - 253،284 - 285) والبداية والنهاية (9/ 332) وتهذيب التهذيب (7/ 357 - 358) وشذرات الذهب (1/ 148 - 149). (¬2) الشريعة (3/ 506/1989) والسنة للخلال (1/ 433). (¬3) طبقات ابن سعد (5/ 472) وتهذيب الكمال (17/ 123 - 127) وتهذيب التهذيب (6/ 180 - 181) والإصابة (5/ 228 - 231) وشذرات الذهب (1/ 156).

موقفه من الجهمية:

ابن حُذَافَة بن جُمَح القرشي الجمحي المكي. روى عن أبيه وله صحبة وجابر وأبي أمامة وابن عباس وغيرهم. وروى عنه من القدماء: فطر بن خليفة، ويزيد بن أبي زياد وابن جريج، وليث بن أبي سليم وآخرون. وثقه ابن معين والعجلي وأبو زرعة والنسائي وآخرون. أرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. كان فقيها من أصحاب ابن عباس كثير الحديث. له في صحيح مسلم حديث واحد في الفتن. أجمعوا على أنه توفي بمكة سنة ثماني عشرة ومائة. موقفه من الجهمية: جاء في السنة لعبد الله عن عبد الرحمن بن سابط الجمحي {إلى ربها نَاظِرَةٌ} (¬1) قال: إلى وجه ربها ناظرة. (¬2) موقفه من القدرية: أخرج ابن بطة بسنده: عن ابن سابط في قوله: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دون ذلك هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} (¬3)؛ قال: لا بد أن يعملوها. (¬4) ¬

(¬1) القيامة الآية (23). (¬2) السنة لعبد الله (61) ونحوه في أصول الاعتقاد (3/ 512/795). (¬3) المؤمنون الآية (63). (¬4) الإبانة (2/ 10/224/ 1809).

حبيب بن أبي ثابت (119 هـ)

حبيب بن أبي ثابت (¬1) (119 هـ) حبيب بن أبي ثابت بن قيس أبو يحيى الإمام الحافظ، فقيه الكوفة. روى عن ابن عمر وابن عباس وأنس بن مالك وغيرهم. وروى عنه: عطاء بن أبي رباح وحصين ومنصور والأعمش وغيرهم. قال أبو بكر بن عياش: كان بالكوفة ثلاثة ليس لهم رابع حبيب بن أبي ثابت، والحكم، وحماد كانوا من أصحاب الفتيا ولم يكن أحد بالكوفة إلا يذل لحبيب. قال أبو يحيى القتات: قدمت الطائف مع حبيب ابن أبي ثابت فكأنما قدم عليهم نبي. قال أبو بكر ابن عياش: رأيت حبيبا ساجدا فلو رأيته قلت ميت يعني من طول السجود. عن أبي سنان قال حبيب: من وضع جبينه لله فقد برئ من الكبر. مات سنة تسع عشرة ومائة. موقفه من المبتدعة والرافضة: عن أبي بكر بن عياش قال: كان عندنا فتى يقاتل ويشرب، وذكر أشياء من الفسق ثم إنه تقرأ فدخل في التشيع، فسمعت حبيب بن أبي ثابت وهو يقول له: لأنت يوم كنت تقاتل وتفعل ما تفعل خير منك اليوم. (¬2) ¬

(¬1) السير (5/ 288 - 291) وتهذيب الكمال (5/ 358 - 363) وتهذيب التهذيب (2/ 178 - 180) وطبقات ابن سعد (6/ 320) والوافي بالوفيات (11/ 290 - 291) وشذرات الذهب (1/ 156). (¬2) ابن وضاح (ص.81 - 82/ 86).

الضحاك بن شرحبيل المشرقي (بعد 111 هـ إلى 120 هـ)

الضَّحَّاك بن شُرَحْبِيل المِشْرَقِي (¬1) (بعد 111 هـ إلى 120 هـ) الضحاك بن شُرَاحِيل ويقال: ابن شُرَحبيل الهمداني المشرقي، أبو سعيد الكوفي. روى عن أبي سعيد الخدري، ومالك بن أوس بن الحدثان. وروى عنه: حبيب بن أبي ثابت، وسلمة بن كهيل، وسليمان الأعمش. ذكره ابن حبان في الثقات. قال الذهبي: حجة مقل، وذكره في أعيان الطبقة الثانية عشر من تاريخه المؤرخة بين 111 و120هـ. موقفه من المرجئة: عن سلمة بن كهيل قال: اجتمعنا في الجماجم؛ أبو البختري الطائي، وميسرة أبو صالح، وضحاك المشرقي، وبكير الطائي، فأجمعوا على أن الإرجاء بدعة، والولاية بدعة، والبراءة بدعة، والشهادة بدعة. (¬2) خالد بن اللَّجْلاَج (¬3) (بعد 111 هـ إلى 120 هـ) خالد بن اللجلاج العامريّ مولى بني زهرة، أبو إبراهيم الشامي الحمصي. سمع أباه -وله صحبة- وعبد الرحمن بن عايش، وقبيصة بن ذؤيب، ¬

(¬1) تهذيب الكمال (13/ 263 - 267) وميزان الاعتدال (2/ 324) والسير (4/ 604) وتاريخ الإسلام (حوادث101 - 120/ص.185) وتهذيب التهذيب (4/ 444 - 445). (¬2) الإبانة (2/ 905/1270) والسنة لعبد الله (89 - 90) وأصول الاعتقاد (5/ 1050/1784) والإيمان لأبي عبيد (22 بنحوه). (¬3) تهذيب الكمال (8/ 160 - 161) وتهذيب التهذيب (3/ 115) وتاريخ دمشق (16/ 181 - 185) وتاريخ الإسلام (حوادث 101 - 120/ص.354) والتاريخ الكبير (3/ 170/578) والجرح والتعديل (3/ 349/1576) والإصابة (2/ 376) والاستيعاب (2/ 436) ومشاهير علماء الأمصار (116).

موقفه من القدرية:

وأرسل عن عمر. وعنه زرعة بن إبراهيم، وزيد بن واقد، وأبو قلابة عبد الله ابن زيد، ومكحول، وغيرهم. فعن مكحول قال: كان ذا سن وصلاح، جريء اللسان على الملوك في الغلظة عليهم. وقال ابن حبان: كان من أفاضل أهل زمانه. وقال أبو مسهر: كان يفتي مع مكحول. وقال ابن حجر: صدوق فقيه، من الثانية. وذكره الذهبي في الطبقة الثانية عشرة من تاريخ الإسلام المؤرخة بين 111و120هـ. موقفه من القدرية: - جاء في أصول الاعتقاد بسنده إلى المنذر بن نافع: سمعت خالد بن اللجلاج يقول لغيلان: ويحك يا غيلان، ألم يأخذك في شبيبتك ترامي النساء في شهر رمضان بالتفاح، ثم صرت حارثيا تحجب امرأة وتزعم أنها أم المؤمنين، ثم تحولت من ذلك فصرت قدريا زنديقا؟! (¬1) وفي لفظ الإبانة: عن المنذر بن رافع أن خالد بن اللجلاج دعا غيلان؛ قال: فجاء فقال: اجلس؛ فجلس فقال: ألم تك قبطيا فدخلت في الإسلام؟ قال: بلى، قال: ثم أخذتك ترمي بالتفاح في المسجد قد أدخلت رأسك في كم قميصك؟ قال: بلى، قال أبو مسهر: أشك في هذه الكلمة، ثم كنت جهميا تسمى امرأتك أم المؤمنين؟ قال: بلى، ثم صرت قدريا شقيا؛ قم فعل الله بك وفعل. (¬2) " التعليق: قال جامعه: هكذا تجد هؤلاء المبتدعة والعياذ بالله مبتلين ببلايا يتبرأ ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 793/1329). (¬2) الإبانة (2/ 11/299 - 300/ 1958).

محمد بن كعب القرظي (120 هـ)

منها -ولله الحمد- علماء السلف. محمد بن كعب القُرَظِي (¬1) (120 هـ) محمد بن كعب بن سُلَيْم: وقيل: محمد بن كعب بن حيان بن سليم. الإمام العلامة الصادق أبو حمزة وقيل أبو عبد الله المدني القُرَظِي. روى عن جماعة منهم: جابر بن عبد الله وابن عباس وأنس بن مالك والمغيرة بن شعبة. وعنه جماعة منهم: الحكم بن عتيبة وزياد بن محمد الأنصاري وزيد بن أسلم. قال ابن سعد: كان ثقة، عالما، كثير الحديث، ورعا. قال العجلي: مدني تابعي، ثقة، رجل صالح، عالم بالقرآن. قال ابن عون: ما رأيت أحدا أعلم بتأويل القرآن من القرظي. قال القرظي: إذا أراد الله بعبد خيرا زهده في الدنيا، وفقهه في الدين وبصره عيوبه، ومن أوتيهن أوتي خير الدنيا والآخرة. قال ابن حبان: كان من أفاضل أهل المدينة علما وفقها وكان يقص في المسجد، فسقط عليه وعلى أصحابه سقف، فمات هو وجماعة تحت الهدم. توفي سنة عشرين ومائة. موقفه من الجهمية: - في الشريعة عنه قال في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى ¬

(¬1) تهذيب الكمال (26/ 340 - 348) والسير (5/ 65 - 68) والمعرفة والتاريخ (1/ 563 - 564) والجرح والتعديل (8/ 67) وحلية الأولياء (3/ 212 - 221) والبداية والنهاية (9/ 268 - 270) ومشاهير علماء الأمصار (65) وتاريخ خليفة (348) وشذرات الذهب (1/ 136).

موقفه من القدرية:

ربها نَاظِرَةٌ} (¬1) قال: نضر الله تلك الوجوه وحسنها للنظر إليه. (¬2) - وفيها: عن محمد بن إسحاق قال: سمعت محمد بن كعب يحدث: إن الله عز وجل لم يمس بيده شيئا إلا ثلاثة: آدم عليه السلام. والتوراة فإنه كتبها لموسى بيده، وطوبى شجرة في الجنة، غرسها الله بيده، ليس في الجنة غرفة إلا فيها منها فنن وهي التي قال الله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} (¬3).اهـ (¬4) موقفه من القدرية: - جاء عنه: أنه قال في قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بقدر} (¬5) نزلت تعييرا لأهل القدر. (¬6) - وعن محمد بن كعب قال: نزلت هذه الآية {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (¬7) في أهل ¬

(¬1) القيامة الآيتان (22و23). (¬2) الشريعة (2/ 11/623) والسنة لعبد الله (61). (¬3) الرعد الآية (29). (¬4) الشريعة (2/ 131/803). (¬5) القمر الآية (49). (¬6) السنة لعبد الله (144) وأصول الاعتقاد (4/ 757/1260) والإبانة (2/ 7/114/ 1535) والشريعة (1/ 332/356). (¬7) القمر الآيتان (48و49).

القدر. (¬1) - وروى اللالكائي بسنده: عن خصيف قال: سأل مجاهد محمد بن كعب القرظي وأنا معه {إِنَّ كِتَابَ الفجار لفي سجين} (¬2) قال: فقال محمد: رقم الله عز وجل كتاب الفجار في أسفل الأرض فهم عاملون بما قد رقم عليهم في ذلك الكتاب. (¬3) - عن محمد بن كعب القرظي أن الفضل الرقاشي قعد إليه فذاكره شيئا من القدر فقال له محمد بن كعب القرظي تشهد؟ فلما بلغ من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له رفع محمد عصا معه فضرب بها رأسه وقال قم فلما قام فذهب قال لا يرجع هذا عن رأيه أبدا. (¬4) - وجاء في الإبانة: عن عمر مولى عفرة: سمعت محمد بن كعب يقول: والله لوددت أن المكذبين بالقدر جمعوا إلي، فإن لم أفلح عليهم ضربت رقبتي، والله إن قولهم للكفر البواح. (¬5) - وفيها عن أبي داود أن محمد بن كعب قال لهم: لا تجالسوهم -يعني القدرية، والذي نفسي بيده؛ لا يجالسهم رجل لم يجعل الله عز وجل له فقها في دينه وعلما في كتابه إلا أمرضوه، والذي نفسي بيده؛ لوددت أن يميني هذه تقطع على كبر سني وأنهم أتموا آية من كتاب الله، ولكنهم يأخذون ¬

(¬1) السنة لعبد الله (140). (¬2) المطففين الآية (7). (¬3) أصول الاعتقاد (3/ 614/985). (¬4) السنة لعبد الله (148). (¬5) الإبانة (2/ 10/209/ 1758).

بأولها ويتركون آخرها، ويأخذون بآخرها ويتركون أولها، والذي نفسي بيده؛ لإبليس أعلم بالله منهم، يعلم من أغواه وهم يزعمون أنهم يغوون أنفسهم ويرشدونها. (¬1) - وفيها عن محمد بن كعب القرظي قال: لو أن الله عز وجل مانع أحدا لمنع إبليس مسألته حين عصاه، ودحره من جنته وآيسه من رحمته وجعله داعيا إلى الغي، فيسأله النظرة أن ينظره إلى يوم يبعثون؛ فأنظره، ولو كان الله مشفعا أحدا في شيء ليس في أم الكتاب لشفع إبراهيم في أبيه حين اتخذه خليلا وشفع محمدا - صلى الله عليه وسلم - في عمه. (¬2) - وفيها عن محمد بن كعب قال: كان القدر قبل البلاء، وخلقت الأقدار قبل الأقوات، ثم قرأ: {فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} (¬3). (¬4) - وفيها عن محمد بن كعب القرظي قال: لقد سمى الله عز وجل المكذبين بالقدر باسم، نسبهم إليه في القرآن؛ فقال عز وجل: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (¬5)؛ قال: فهم ¬

(¬1) الإبانة (2/ 10/211/ 1765) والشريعة (1/ 429 - 430/ 528). (¬2) الإبانة (2/ 10/211 - 212/ 1766) والشريعة (1/ 430/529). (¬3) القمر الآية (12). (¬4) الإبانة (2/ 10/212/ 1767). (¬5) القمر الآيات (47 - 49).

بلال بن سعد (120 هـ)

المجرمون. (¬1) - وقال محمد بن كعب القرظي: العباد أذل من أن يكون لأحد منهم في ملك الله تعالى شيء هو كاره أن يكون. (¬2) بلال بن سعد (¬3) (120 هـ) بلال بن سعد بن تَمِيم السَّكُوني الإمام الرباني الواعظ أبو عمرو الدمشقي شيخ أهل دمشق، كان لأبيه سعد صحبة. روى عن أبيه سعد بن تميم وجابر ومعاوية وأبي سكينة. وعنه الأوزاعي وعبد الله بن العلاء بن زبر، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر. قال ابن المبارك: كان محل بلال بن سعد بالشام ومصر؛ كمحل الحسن بن أبي الحسن بالبصرة. قال أبو زرعة الدمشقي: بلال بن سعد، أحد العلماء في خلافة هشام، وكان قاصا حسن القصص. وقال ابن حجر: ثقة عابد فاضل. قال الأوزاعي: سمعت بلال بن سعد يقول: كفى به ذنبا أن يكون الله تبارك وتعالى قد زهدنا في الدنيا، ونحن نرغب فيها، فزاهدكم راغب، وعالمكم جاهل، وعابدكم مقصر. وقال الأوزاعي: سمعت بلال بن سعد يقول: لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر من عصيت. وعنه قال: سمعت بلال بن سعد يقول: أخ لك كلما لقيك ¬

(¬1) الإبانة (2/ 10/212/ 1768) والشريعة (1/ 429/526). (¬2) تأويل مختلف الحديث (83). (¬3) طبقات ابن سعد (7/ 461) والجرح والتعديل (2/ 398) وحلية الأولياء (5/ 221 - 234) وتهذيب الكمال (4/ 291 - 296) وسير أعلام النبلاء (5/ 90 - 93) والبداية والنهاية (9/ 362 - 364) ومشاهير علماء الأمصار (115) والكاشف (1/ 277) والتقريب (1/ 140).

موقفه من القدرية:

ذكرك بحظك من الله، خير لك من أخ كلما لقيك وضع في كفك دينارا. قال: وسمعت بلال بن سعد يقول: لا تكن وليا لله في العلانية، وعدوه في السر. توفي في خلافة هشام بن عبد الملك في حدود العشرين ومائة. موقفه من القدرية: جاء في الإبانة: عن سعيد بن عبد العزيز؛ أن بلال بن سعد أصبح يوما، فتكلم في قصصه، فقال: رب مسرور مغبون، ويل لمن له الويل ولا يشعر؛ يأكل، ويشرب، ويضحك، وقد حق عليه في قضاء الله أنه من أصحاب النار. (¬1) عطية بن قيس (¬2) (121 هـ) الإمام المقرئ عطية بن قيس أبو يحيى الكلبي الدمشقي، عرض على أم الدرداء، التي أخذت عن زوجها أبي الدرداء. حدث عن عمرو بن عبسة، وعبد الله بن عمرو، والنعمان بن بشير. وروى عنه: ابنه سعد، وأبو بكر بن أبي مريم، وعبد الله بن العلاء. قال سعيد بن عبد العزيز: لم نكن نطمع أن يفتح ذكر الدنيا في مجلس عطية. وقال عبد الواحد بن قيس: كانوا يصلحون مصاحفهم على قراءة عطية بن قيس. وغزا في زمن معاوية، وكان هو وإسماعيل بن عبيد الله قارئ الجند. توفي سنة إحدى وعشرين ومائة. ¬

(¬1) الإبانة (2/ 10/226/ 1816). (¬2) السير (5/ 324) والثقات (5/ 260) وتهذيب التهذيب (7/ 228) وتهذيب الكمال (20/ 153).

موقفه من الرافضة:

موقفه من الرافضة: عن عطية بن قيس قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان يخطبنا يقول: إن في بيت مالكم فضلا بعد أعطياتكم، وإني قاسمه بينكم، فإن كان يأتينا فضل عاما قابلا قسمناه عليكم، وإلا فلا عتبة علي، فإنه ليس بمالي، وإنما هو مال الله الذي أفاء عليكم. (¬1) سلمة بن كُهَيْل (¬2) (121 هـ) سلمة بن كُهَيْل بن حصين الإمام، الثبت، الحافظ: أبو يحيى الحضرمي. حدث عن: أبيه، وجندب بن عبد الله، وأبي جحيفة، وأبي الطفيل وغيرهم. وروى عنه منصور، والأعمش، وشعبة، والثوري وغيرهم. كان من علماء الكوفة الأثبات على تشيع كان فيه. توفي سنة إحدى وعشرين ومائة. موقفه من المرجئة: عن سفيان عن سلمة بن كهيل قال: اجتمعنا في الجماجم أبو البختري الطائي وميسرة أبو صالح وضحاك المِشْرَقِيّ وبكير الطائي فأجمعوا على أن الإرجاء بدعة والولاية بدعة والبراءة بدعة والشهادة بدعة. (¬3) ¬

(¬1) المنهاج (6/ 234). (¬2) المعرفة والتاريخ (2/ 648) وطبقات ابن سعد (6/ 316) وتهذيب الكمال (11/ 313 - 317) والسير (5/ 298 - 300) والوافي بالوفيات (15/ 322 - 323) وشذرات الذهب (1/ 159). (¬3) الإبانة (2/ 905/1270) والسنة لعبد الله (ص.89 - 90) وأصول الاعتقاد (5/ 1050/1784) والإيمان لأبي عبيد (22 بنحوه).

إياس بن معاوية (122 هـ)

إياس بن معاوية (¬1) (122 هـ) إياس بن معاوية بن قرة المزني، أبو واثلة البصري، قاضيها، ولجده صحبة. روى عن أنس بن مالك وعن أبيه معاوية بن قرة، وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب. وعنه جماعة منهم: أيوب السختياني وحماد بن زيد وحماد ابن سلمة، وشعبة بن الحجاج. كان يضرب به المثل في الذكاء والدهاء والسؤدد والعقل. قال عبد الله بن إدريس عن أبيه عن ابن شبرمة: قال لي إياس بن معاوية: إياك وما يستشنع الناس من الكلام، وعليك بما يعرف الناس من القضاء. عن ربيعة ابن أبي عبد الرحمن قال: قال لي إياس بن معاوية: يا ربيعة كل ما بني على غير أساس فهو هباء، وكل ديانة أسست على غير ورع فهي هباء. عن الأصمعي قال: قال إياس بن معاوية: امتحنت خصال الرجال، فوجدت أشرفها صدق اللسان، ومَنْ عُدِمَ فضيلة الصدق، فقد فجع بأكرم أخلاقه. عن سفيان بن حسين: كنت عند إياس بن معاوية، وعنده رجل، تخوفت إن قمت من عنده أن يقع في. قال: فجلست حتى قام، فلما قام ذكرته لإياس، قال: فجعل ينظر في وجهي، ولا يقول لي شيئا حتى فرغت، فقال لي: أغزوت الديلم؟ قلت: لا، قال: فغزوت السند؟ قلت: لا، قال: فغزوت الهند؟ قلت: لا. قال: فغزوت الروم قلت: لا، قال: يسلم منك الديلم، والسند والهند، والروم، وليس يسلم منك أخوك هذا؟ قال: فلم يعد ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (7/ 234 - 235) ومشاهير علماء الأمصار (153) والسير (5/ 155) ووفيات الأعيان (1/ 247 - 250) والبداية والنهاية (9/ 347 - 352) والمعرفة والتاريخ (2/ 93 - 95) وتهذيب الكمال (3/ 407 - 440) وتاريخ خليفة (354) وشذرات الذهب (1/ 160).

موقفه من القدرية:

سفيان إلى ذاك. قال حماد بن سلمة: قال إياس: لا تنظر إلى ما يصنع العالم، فإن العالم قد يصنع الشيء يكرهه، ولكن سله حتى يخبرك بالحق. توفي سنة اثنتين وعشرين ومائة. موقفه من القدرية: - روى عبد الله في السنة بالسند إليه قال: أعلم الناس بالقدر ضعفاؤهم يقول: إن كل من لم يدخل في خصومة القدر كان من قوله إذا تكلم: كان من قدر الله كذا وكذا. (¬1) - وروى أيضا عنه قال: ما كلمت أحدا من أهل الأهواء بعقلي كله إلا القدرية فإني قلت لهم: ما الظلم فيكم؟ فقالوا أن يأخذ الإنسان ما ليس له. فقلت لهم: فإن الله على كل شيء قدير. (¬2) - وجاء في تهذيب الكمال: قال الأصمعي عن عدي بن الفصيل البصري: اجتمع إياس بن معاوية وغيلان، عند عمر بن عبد العزيز، فقال عمر: أنتما مختلفان وقد اجتمعتما فتناظرا تتفقا، فقال إياس: يا أمير المؤمنين إن غيلان صاحب كلام، وأنا صاحب اختصار. فإما أن يسألني ويختصر، أو أسأله وأختصر، فقال غيلان: سل، فقال إياس: أخبرني: ما أفضل شيء خلقه الله عز وجل؟ قال: العقل. قال: فأخبرني عن العقل مقسوم أو مقتسم؟ فأمسك غيلان، فقال له: أجب. فقال: لا جواب عندي، فقال إياس: قد ¬

(¬1) السنة لعبد الله (133). (¬2) السنة لعبد الله (145) وأصول الاعتقاد (4/ 765/1280) ونحوه في الإبانة (2/ 11/274 - 275/ 1899) والشريعة (1/ 426 - 427/ 519) والبداية والنهاية (9/ 349) وتهذيب الكمال (3/ 416) والمنهاج لابن تيمية (2/ 304 - 305) ومجموع الفتاوى له (18/ 139).

تبين لك يا أمير المؤمنين أن الله تبارك وتعالى يهب العقول لمن يشاء، فمن قسم له منها شيئا ذاده به عن المعصية، ومن تركه تهور. - قال الأصمعي: وحدثني غيره أن غيلان وإياسا التقيا فتساءلا، فقال إياس: أسألك أم تسألني؟ فقال له غيلان: سل. فقال له إياس: أي شيء خلق الله أفضل؟ قال: العقل. قال إياس: فمن شاء استكثر منه، ومن شاء استقل، فسكت غيلان مليا ثم قال: سل عن غير هذا؟ فقال له إياس: أخبرني عن العلم قبل أو العمل؟ فقال غيلان: والله لا أجيبك فيها. فقال إياس: فدعها، وأخبرني عن الخلق، خلقهم الله مختلفين أو مؤتلفين؟ فنهض غيلان وهو يقول: والله لا جمعني وإياك مجلس أبدا. (¬1) - وجاء في البداية والنهاية: قال بعضهم: اكترى إياس بن معاوية من الشام قاصدا الحج، فركب معه في المحارة غيلان القدري، ولا يعرف أحدهما صاحبه، فمكثا ثلاثا لا يكلم أحدهما الآخر، فلما كان بعد ثلاث تحادثا فتعارفا وتعجب كل واحد منهما من اجتماعه مع صاحبه، لمباينة ما بينهما في الاعتقاد في القدر، فقال له إياس: هؤلاء أهل الجنة يقولون حين يدخلون الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} (¬2) ويقول أهل النار: {ربنا غلبت علينا شِقْوَتُنَا} (¬3) وتقول الملائكة: ¬

(¬1) تهذيب الكمال (3/ 416 - 417). (¬2) الأعراف الآية (43). (¬3) المؤمنون الآية (106).

زيد بن علي (122 هـ)

{سبحانك لا عِلْمَ لَنَا إِلًّا مَا عَلَّمْتَنَا} (¬1) ثم ذكر له من أشعار العرب وأمثال العجم ما فيه إثبات القدر ثم اجتمع مرة أخرى إياس وغيلان عند عمر بن العزيز فناظر بينهما فقهره إياس، وما زال يحصره في الكلام حتى اعترف غيلان بالعجز وأظهر التوبة، فدعا عليه عمر بن عبد العزيز إن كان كاذبا، فاستجاب الله منه فأمكن من غيلان فقتل وصلب بعد ذلك ولله الحمد والمنة. (¬2) - وفي الإبانة: عن حبيب بن الشهيد؛ قال: جاؤوا برجل إلى إياس بن معاوية فقالوا: هذا يتكلم في القدر؛ فقال إياس: ما تقول؟ قال: أقول: إن الله عز وجل قد أمر العباد ونهاهم، وأن الله لا يظلم العباد شيئا، فقال له إياس: خبرني عن الظلم تعرفه أو لا تعرفه؟ قال: بلى أعرفه، قال: فما الظلم عندك؟ قال: أن يأخذ الرجل ما ليس له، قال: فمن أخذ ما له ظلم؟ قال: لا، قال: الآن عرفت الظلم. (¬3) زيد بن علي (¬4) (122 هـ) زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو الحسين الهاشمي ¬

(¬1) البقرة الآية (32). (¬2) البداية (9/ 349). (¬3) الإبانة (2/ 11/275/ 1900) والشريعة (1/ 427/520). (¬4) طبقات ابن سعد (5/ 325 - 326) ووفيات الأعيان (5/ 122 - 123) وتهذيب الكمال (10/ 95 - 98) والسير (5/ 389 - 391) وفوات الوفيات (2/ 35 - 38) وتهذيب التهذيب (3/ 419 - 420).

موقفه من الرافضة:

العلوي المدني، أخو أبي جعفر الباقر، وعبد الله، وعمر، وعلي، وحسين روى عن: أبيه زين العابدين، وأخيه الباقر، وعروة بن الزبير. وروى عنه: ابن أخيه جعفر بن محمد، وشعبة، وفضيل بن مرزوق وغيرهم. قال عنه جعفر الصادق: كان والله أقرأنا لكتاب الله وأفقهنا في دين الله، وأوصلنا للرحم، والله ما تركنا وفينا مثله. وسأله يوما بعض أصحابه عن قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} (¬1)، قال: أبو بكر وعمر، ثم قال: لا أنالني الله شفاعة جدي إن لم أوالهما. قال الذهبي رحمه الله تعالى: كان ذا علم وجلالة وصلاح، هفا، وخرج، فاستشهد. عاش نيفا وأربعين سنة، وقتل يوم ثاني صفر سنة اثنتين وعشرين ومائة رحمه الله. موقفه من الرافضة: - جاء في السير: قال عيسى بن يونس: جاءت الرافضة زيدا، فقالوا: تبرأ من أبي بكر وعمر حتى ننصرك، قال: بل أتولاهما. قالوا: إذا نرفضك، فمن ثم قيل لهم: الرافضة. وأما الزيدية: فقالوا بقوله، وحاربوا معه. (¬2) - وفيها: وروى هشام بن البريد عن زيد بن علي قال: كان أبو بكر رضي الله عنه إمام الشاكرين، ثم تلا {وسيجزي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (¬3) ثم قال: البراءة من أبي بكر هي البراءة من علي. (¬4) ¬

(¬1) الواقعة الآية (10). (¬2) السير (5/ 390). (¬3) آل عمران الآية (144). (¬4) السير (5/ 390).

موقفه من القدرية:

- عن هشام بن الزبير عن زيد بن علي قال: البراءة من أبي بكر وعمر البراءة من علي عليه السلام. (¬1) - عن كثير أبي إسماعيل النواء قال سألت زيد بن علي عن أبي بكر وعمر فقال: تولهما، قال قلت كيف تقول فيمن تبرأ منهما؟ قال تبرأ منه حتى يتوب. (¬2) موقفه من القدرية: جاء رجل إلى زيد بن علي فقال: يا زيد أنت الذي تزعم أن الله أراد أن يعصى؟ فقال له زيد: أيعصى عنوة؟ قال: فأقبل يحظر (¬3). (¬4) سيَّار أبو الحكم (¬5) (122 هـ) سَيَّار بن وردان الإمام الحجة القدوة الرباني أبو الحكم الواسطي. حدث عن طارق بن شهاب وأبي وائل شقيق وعامر الشعبي وأكثر عنه. وحدث عنه: شعبة ومسعر وسفيان الثوري وآخرون. قال عنه الإمام أحمد رحمه الله: صدوق ثقة ثبت في كل المشايخ. وقال عنه صاحب الحلية: المتعبد الصبار أبو الحكم سيار. توفي رحمه الله سنة اثنتين وعشرين ومائة. ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (7/ 1381/2469) والشريعة (3/ 459 - 460/ 1920). (¬2) السنة لعبد الله (226). (¬3) يحظر: يعدو. (¬4) أصول الاعتقاد (4/ 759 - 760/ 1264). (¬5) الحلية (8/ 313 - 317) وتهذيب الكمال (12/ 313 - 315) والسير (5/ 391 - 392) والوافي بالوفيات (16/ 62) وتهذيب التهذيب (4/ 291 - 292).

موقفه من القدرية:

موقفه من القدرية: - كان سيار أبو الحكم يقول: لا يصلى خلف القدرية فإذا صلى خلف أحد منهم أعاد الصلاة. (¬1) - وجاء في الشريعة: عن المعتمر بن سليمان: سمعت أبا مخزوم يحدث عن سيار وأبي هاشم الرماني أنهما كانا يقولان: التكذيب بالقدر شرك. (¬2) ثابت بن أسلم البناني (¬3) (123 هـ) ثابت بن أَسْلَم أبو محمد البُنَانِي -بضم الباء الموحدة وبعدها نون وبعد الألف نون أخرى- مولاهم البصري أحد أئمة التابعين. ولد في خلافة معاوية. روى عن ابن عمر وعبد الله بن مغفل وابن الزبير وطائفة. وروى عنه: عطاء بن أبي رباح وقتادة وحميد الطويل وشعبة وخلق كثير. كان رأسا في العلم والعمل ثقة ثبتا رفيعا. قال أنس: إن للخير أهلا، وإن ثابتا هذا من مفاتيح الخير. قال بكر بن عبد الله: من أراد أن ينظر إلى أعبد أهل زمانه فلينظر إلى ثابت البناني. وقال: كابدت الصلاة عشرين سنة وتنعمت بها عشرين سنة. ومناقبه كثيرة. توفي رحمه الله سنة ثلاث وعشرين ومائة. ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 807/1349). (¬2) الشريعة (1/ 434/541). (¬3) الحلية (2/ 318 - 323) وطبقات ابن سعد (7/ 232 - 233) وتهذيب الكمال (4/ 349 - 351) وتذكرة الحفاظ (1/ 125) والسير (5/ 220 - 225) والوافي بالوفيات (10/ 461) وتهذيب التهذيب (2/ 2 - 4).

موقفه من القدرية:

موقفه من القدرية: عن وزير بن عبد الله قال: سمعت ثابتا البناني يقول في قول الله عز وجل: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (¬1)؛ قال: بإثباتهم القدر. (¬2) محمد بن شِهَاب الزُّهْرِي (¬3) (124 هـ) محمد بن مسلم بن عبيد الله، الإمام العلم، حافظ زمانه، أبو بكر القرشي الزهري المدني. روى عن ابن عمر، وجابر بن عبد الله شيئا قليلا، ويحتمل أن يكون سمع منهما، وأنس بن مالك. حدث عنه عطاء بن أبي رباح وهو أكبر منه، وعمر بن عبد العزيز، وعمرو بن دينار وغيرهم. عن يحيى بن سعيد قال: ما بقي عند أحد من العلم ما بقي عند ابن شهاب. قال أبو بكر ابن منجويه: رأى عشرة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان من أحفظ أهل زمانه وأحسنهم سياقا لمتون الأخبار، وكان فقيها فاضلا. وقال مكحول: ما بقي على ظهرها أحد أعلم بسنة ماضية من الزهري. قال مالك: حدث الزهري ¬

(¬1) الأحزاب الآية (33). (¬2) الإبانة (2/ 11/323/ 2012). (¬3) المعرفة والتاريخ (1/ 620 - 643) والجرح والتعديل (8/ 71 - 74) وحلية الأولياء (3/ 360 - 381) والسير (5/ 326 - 350) وتهذيب الكمال (26/ 419) وتذكرة الحفاظ (1/ 108 - 113) وميزان الاعتدال (4/ 40) ووفيات الأعيان (4/ 177 - 179) والوافي بالوفيات (5/ 24 - 26) ومشاهير علماء الأمصار (66) والبداية والنهاية (9/ 354 - 362).

موقفه من المبتدعة:

يوما بحديث، فلما قام قمت فأخذت بعنان دابته، فاستفهمته فقال: تستفهمني؟ ما استفهمت عالما قط، ولا رددت شيئا على عالم قط. وكان الزهري يوصف بالعبادة. قال رحمه الله إنما يذهب العلم النسيان وترك المذاكرة. قال الذهبي رحمه الله: بعض من لا يعتد به لم يأخذ عن الزهري لكونه كان مداخلا للخلفاء، ولئن فعل ذلك فهو الثبت الحجة وأين مثل الزهري رحمه الله. قال الزهري: لا يرضى الناس قول عالم لا يعمل، ولا عمل عامل لا يعلم. مات رحمه الله سنة أربع وعشرين ومائة. وقيل سنة خمس وعشرين. موقفه من المبتدعة: - روى الدارمي بالسند إليه رحمه الله قال: كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة، والعلم يقبض قبضا سريعا، فنعش العلم ثبات الدين والدنيا، وفي ذهاب العلم ذهاب ذلك كله. (¬1) " التعليق: هذا الإمام الزهري يحكي عن علماء أهل بلده الذين هم أهل المدينة -الصحابة والتابعون- أن الاعتصام بالكتاب والسنة نجاة في الدنيا والآخرة، والابتداع هلاك في الدنيا والآخرة وهذا إجماع من علماء أهل الحق كلهم جزاهم الله خيرا. ¬

(¬1) سنن الدارمي (1/ 45) والإبانة (1/ 2/319 - 320/ 159) وأبو نعيم في الحلية (3/ 369) وأصول الاعتقاد (1/ 106/136) والشريعة (2/ 104/764) وذم الكلام (ص.206) والطرف الأول منه في السير (5/ 337) وانظر مجموع الفتاوى (4/ 57).

- وجاء في ذم الكلام بالسند إليه قال: تعلم السنة أفضل من عبادة مائتي سنة. (¬1) " التعليق: لا تعلم الأشعار الصوفية، والمتون الغريبة البعيدة عن الدليل، والعقائد الباطلة الموروثة عن ضلال اليونان، وغير ذلك مما ضرره واضح على العقيدة السلفية الخالصة من شوائب الشرك والبدع، والله المستعان. - عن مالك بن أنس قال: سمعت ابن شهاب يقول: سلموا للسنة ولا تعارضوها. (¬2) - عن الزهري قال: لا يحب الحديث من الرجال إلا ذكرانها ولا يكرهه إلا إناثها. (¬3) - جاء في فتح الباري عن محمد بن علي قال: دخل ابن شهاب على الوليد بن عبد الملك فسأله عن حديث "إن الله إذا استرعى عبدا الخلافة كتب له الحسنات ولم يكتب له السيآت" (¬4) فقال له: هذا كذب، ثم تلا {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (¬5) ¬

(¬1) ذم الكلام (ص.204) ووعقيدة الصابوني (ص.318). (¬2) الفقيه والمتفقه (1/ 385) وبنحوه في إعلام الموقعين (1/ 74). (¬3) ذم الكلام (ص.78) وبنحوه في حلية الأولياء (3/ 365) وشرف أصحاب الحديث (ص.70). (¬4) لم أقف عليه. (¬5) ص الآية (26).

موقفه من الرافضة:

فقال الوليد: إن الناس ليغروننا عن ديننا. (¬1) - عن الزهري قال: إياكم وأصحاب الرأي، أعيتهم الأحاديث أن يعوها. (¬2) موقفه من الرافضة: - عن ابن أبي ذئب عن الزهري قال: ما رأيت قوما أشبه بالنصارى من السبائية. قال أحمد بن يونس: هم الرافضة. (¬3) - عن الزهري قال: عمل معاوية بسيرة عمر بن الخطاب سنين لا يخرم منها شيئا. (¬4) موقفه من الجهمية: - جاء في السير: عن الأوزاعي سمعت الزهري لما حدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" (¬5) قلت له: فما هو؟ قال: من الله القول، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم، أمروا حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما جاء بلا كيف. (¬6) - وفي الإبانة: عن الأوزاعي قال: سمعت الزهري ومكحولا يقولان: ¬

(¬1) الفتح (13/ 113). (¬2) جامع بيان العلم وفضله (2/ 1052). (¬3) الشريعة (3/ 567/2083) وجامع بيان العلم (2/ 1098). (¬4) السنة للخلال (1/ 444). (¬5) تقدم تخريجه في مواقف محمد بن الحنفية سنة (81هـ). (¬6) السير (5/ 346).

موقفه من الخوارج:

القرآن كلام الله غير مخلوق. (¬1) - وعنه قال: ليس الجعدي من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) موقفه من الخوارج: جاء في مجموع الفتاوى: عن الأوزاعي قال: وقد قلت للزهري حين ذكر هذا الحديث "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" (¬3) فإنهم يقولون: فإن لم يكن مؤمنا فما هو؟ قال: فأنكر ذلك. وكره مسألتي عنه. (¬4) موقفه من المرجئة: - عن الزهري قال: ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على أهله من هذه، يعني الإرجاء. (¬5) - وقال معمر عن الزهري: كنا نقول الإسلام بالإقرار، والإيمان بالعمل، والإيمان: قول وعمل قرينان، لا ينفع أحدهما إلا بالآخر، وما من أحد إلا يوزن قوله وعمله فإن كان عمله، أوزن من قوله: صعد إلى الله؛ وإن كان كلامه أوزن من عمله لم يصعد إلى الله. (¬6) - عن معمر قال: قال الزهري: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أسلمنا} (¬7) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 12/8/ 185). (¬2) درء التعارض (5/ 302). (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) مجموع الفتاوى (7/ 32). (¬5) الإبانة (2/ 885/1222) والشريعة (1/ 307/329) والإيمان لأبي عبيد (23). (¬6) مجموع الفتاوى (7/ 295) وعزاه لأبي عمرو الطلمنكي. (¬7) الحجرات الآية (14).

موقفه من القدرية:

قال: نرى الإسلام الكلمة والإيمان العمل. (¬1) - قال معقل: فلقيت الزهري فأخبرته بقولهم (¬2) فقال: سبحان الله أو قد أخذ الناس في هذه الخصومات قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الشارب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" (¬3). (¬4) موقفه من القدرية: - روى اللالكائي بالسند إلى الزهري قال: القدر رياض الزندقة فمن دخل فيه هملج (¬5). (¬6) - وروى ابن بطة بسنده عنه قال: القدر نظام التوحيد، فمن وحد ولم يؤمن بالقدر؛ كان كفره بالقدر نقضا للتوحيد، ومن وحد وآمن بالقدر؛ كانت عروة لا انفصام لها. (¬7) إبراهيم بن هشام (¬8) (125 هـ) إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي. ولاه هشام بن عبد الملك إمارة ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (5/ 62/4684). (¬2) أي المرجئة. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) أصول الاعتقاد (5/ 1024 - 1025/ 1732) والسنة لعبد الله (117 - 119) والسنة للخلال (4/ 29 - 32/ 1105) والإبانة (2/ 808 - 811/ 1101). (¬5) هملج: أسرع. (¬6) أصول الاعتقاد (4/ 784/1314). (¬7) الإبانة (2/ 10/221/ 1800) والسير (5/ 343 مختصرا). (¬8) تاريخ الطبري (7/ 226 - 227) والكامل في التاريخ (5/ 273 - 274) وتاريخ خليفة (361 - 362).

موقفه من القدرية:

الحجاز (مكة والمدينة والطائف) منذ سنة ست ومائة إلى أربع عشرة ومائة للهجرة. وفي سنة خمس وعشرين ومائة كتب الوليد بن يزيد إلى يوسف بن عمر، فقدم عليه، فدفع إليه خالد بن عبد الله القسري ومحمدا وإبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزوميين، وأمره بقتلهم. موقفه من القدرية: جاء في أصول الاعتقاد عن حميد بن حبيب: أنه رأى محمد بن إسحاق مجلودا في القدر، جلده إبراهيم بن هشام خال هشام بن عبد الملك. (¬1) " التعليق: ما أعظمهما من رجلين يتتبعان رؤوس البدع ليطهرا الأرض منهم. أين من يدعون أنهم حماة الإسلام الآن؟ لقد عششت وفرخت البدع والخرافات والعقائد الباطلة من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، وصار المبتدعة أصدقاءهم الأعزاء، ولقوا عندهم كل تقدير واحترام، أما دعاة عقيدة السلف فلقوا كل تشريد وطرد وإبعاد وإن ربك لبالمرصاد، والله المستعان. مطر بن طهمان (¬2) (125 هـ) الإمام الزاهد الصادق، أبو رجاء مَطَر بن طَهْمَان الخراساني، الوراق ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 800/1335). (¬2) الجرح والتعديل (8/ 287 - 288) وتهذيب الكمال (28/ 51 - 55) وحلية الأولياء (3/ 75 - 78) والسير (5/ 452 - 453) ومشاهير علماء الأمصار (95) وتاريخ خليفة (389).

موقفه من المبتدعة:

نزيل البصرة. روى عن الحسن البصري، ومحمد بن سيرين وقتادة بن دعامة وعامر الشعبي وآخرين. وعنه جملة منهم: شعبة، وإبراهيم بن طهمان، وحماد ابن سلمة وحماد بن زيد. قال الخليل ابن عمر بن إبراهيم: سمعت عمي أبا عيسى يقول: ما رأيت مثل مطر في فقهه وزهده. من درر أقواله أنه قال في قوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (¬1) قال: هل من طالب علم يعان عليه. وقال: لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه بميزان التربص لم يوجد أحدهما يزيد على صاحبه شيئا. مات سنة خمس وعشرين ومائة. موقفه من المبتدعة: - عن مطر الوراق قال: عمل قليل في سنة خير من عمل كثير في بدعة، من عمل في سنة قبل الله منه ومن عمل في بدعة رد الله عليه بدعته. (¬2) - عن مطر الوراق قال: ترك أصحاب الرأي الآثار والله. (¬3) موقفه من الجهمية: جاء عنه في السنة قال: لقيني عمرو بن عبيد فقال: والله إني وإياك لعلى أمر واحد قال: وكذب والله إنما عنى على الأرض قال: وقال مطر: والله ما أصدقه في شيء. (¬4) ¬

(¬1) القمر الآية (17). (¬2) الإبانة (1/ 2/358 - 359/ 248). (¬3) الفقيه والمتفقه (1/ 463). (¬4) السنة لعبد الله (149) والإبانة (2/ 11/304/ 1973).

هشام بن عبد الملك (125 هـ)

هشام بن عبد الملك (¬1) (125 هـ) هشام بن عبد الملك بن مروان الخليفة أبو الوليد القرشي الأموي الدمشقي. ولد سنة اثنتين وسبعين. أمه عائشة بنت هشام بن إسماعيل المخزومي. كان هشام حريصا جماعا للمال، ذكيا عاقلا حازما، له بصر بالأمور جليلها وحقيرها، وكان فيه حلم وأناة وظلم مع عدل، يكره سفك الدماء. استخلف بعد وفاة أخيه يزيد، وبعهد منه، لأربع بقين من شعبان عام خمس ومائة للهجرة، وعمره آنذاك أربعة وثلاثون عاما. قيل: وتفقد هشام بعض ولده فلم يحضر الجمعة، فقال: ما منعك من الصلاة؟ قال: نفقت دابتي، قال: أفعجزت عن المشي؟ فمنعه الدابة سنة. قال العيشي: قال هشام: ما بقي علي شيء من لذات الدنيا إلا وقد نلته إلا شيئا واحدا، أخ أرفع مؤنة التحفظ منه. توفي سنة خمس وعشرين ومائة. موقفه من الجهمية: - جاء في أصول الاعتقاد عن صالح بن أبي عبيد الله قال: قرأت في دواوين هشام بن عبد الملك إلى عامله بخراسان نصر بن سيار: أما بعد: فقد نجم قبلك رجل من الدهرية من الزنادقة يقال له جهم بن صفوان، فإن أنت ظفرت به فاقتله وإلا فادسس إليه من الرجال غيلة ليقتلوه. (¬2) ¬

(¬1) تاريخ خليفة (356 - 357) والبداية والنهاية (9/ 365 - 369) وتاريخ الطبري (7/ 200 - 208) وفوات الوفيات (4/ 238 - 239) والكامل في التاريخ (5/ 261 - 264) والسير (5/ 351) وشذرات الذهب (1/ 163 - 165). (¬2) أصول الاعتقاد (3/ 424/637).

موقفه من القدرية:

- وفي الإبانة: عن أبي الوليد قال: القرآن كلام الله وليس بمخلوق، ومن لم يعقد عليه قلبه أنه ليس بمخلوق؛ فهو كافر. (¬1) - عن إسماعيل بن أبي الحارث قال: سمعت هارون بن معروف يقول: كتب هشام بن عبد الملك -أو بعض ملوك بني أمية- إلى سلم بن أحوز أن يقتل جهما حيث ما لقيه فقتله سلم بن أحوز وكان والي مرو. (¬2) موقفه من القدرية: تقدم في مواقف عمر بن عبد العزيز مناظرته لغيلان، حتى قال له: وإني أعاهد الله أن لا أتكلم في شيء مما كنت أتكلم به أبدا. قال: اذهب فلما ولى قال: اللهم إن كان كاذبا فيما قال: فأذقه حر السلاح، قال: فلم يتكلم زمن عمر فلما كان زمن يزيد بن عبد الملك وكان رجلا لا يهتم لهذا، ولا ينظر فيه، قال: فتكلم غيلان فلما ولي هشام أرسل إليه فقال: أليس قد عاهدت الله لعمر أن لا تكلم في شيء من هذا الأمر أبدا قال: أقلني فوالله لا أعود، قال: لا أقالني الله إن أقلتك، هل تقرأ فاتحة الكتاب قال: نعم. قال: اقرأها فقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (¬3). قال: قف، علام استعنته؟ قال: على أمر بيده لا تستطيعه إلا به أو على أمر في يدك أو ¬

(¬1) الإبانة (2/ 12/55/ 252). (¬2) أصول الاعتقاد (3/ 424/636). (¬3) الفاتحة الآيات (2 - 5).

سعد بن إبراهيم (125 هـ)

بيدك؟ اذهبا به فاقطعا يديه ورجليه واضربا عنقه واصلباه. (¬1) سعد بن إبراهيم (¬2) (125 هـ) الإمام الحجة سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قاضي المدينة أبو إسحاق ويقال أبو إبراهيم الزهري المدني، وأمه أم كلثوم بنت سعد بن أبي وقاص. روى عن أبيه وخاليه إبراهيم وعامر ابني سعد، وأنس بن مالك وأبي أمامة بن سهل وعبد الله بن شداد بن الهاد وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وخلق سواهم. وعنه ابنه إبراهيم بن سعد ومسعر والسفيانان وأبو عوانة وابن عجلان، وطائفة. قال أحمد بن حنبل: كان ثقة فاضلا، ولي قضاء المدينة. وعن حجاج بن محمد: كان شعبة إذا ذكر سعد بن إبراهيم قال: حدثني حبيبي سعد بن إبراهيم. قال ابن حجر: كان ثقة فاضلا عابدا. مات رحمه الله تعالى سنة خمس وعشرين ومائة، وقيل بعدها، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة. موقفه من المبتدعة: قال الشافعي: أخبرني من لا أتهم من أهل المدينة عن ابن أبي ذئب، قال: قضى سعد بن إبراهيم على رجل بقضية برأي ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فأخبرته عن النبي بخلاف ما قضى به، فقال سعد لربيعة: هذا ابن أبي ذئب، وهو عندي ثقة يخبرني عن النبي بخلاف ما قضيت به، فقال له ربيعة: قد ¬

(¬1) السنة لعبد الله (146) وأصول الاعتقاد (4/ 789 - 791/ 1325). (¬2) تهذيب الكمال (10/ 240 - 247) والسير (5/ 418) وتاريخ الإسلام (حوادث 121 - 140/ص.111 - 113) والوافي بالوفيات (15/ 148) وتهذيب التهذيب (3/ 463) والتقريب (1/ 342) وشذرات الذهب (1/ 173).

عمرو بن دينار (126 هـ)

اجتهدت ومضى حكمك، فقال سعد: واعجبا أنفذ قضاء سعد بن أم سعد، وأرد قضاء رسول الله؟ بل أرد قضاء سعد بن أم سعد، وأنفذ قضاء رسول الله، فدعا سعد بكتاب القضية فشقه وقضى للمقضي عليه. (¬1) عمرو بن دينار (¬2) (126 هـ) عمرو بن دينار، الإمام الكبير أبو محمد الجمحي مولاهم المكي الأثرم أحد الأعلام وشيخ الحرم في زمانه. ولد في إمرة معاوية سنة خمس أو ست وأربعين. روى عن جملة منهم: أنس بن مالك وابن عباس وجابر بن عبد الله وابن عمر، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وطاووس. وعنه ابن أبي مليكة وقتادة والزهري وأيوب السختياني، والثوري وابن عيينة وآخرون. قال عبد الله بن أبي نجيح: ما رأيت أحدا أفقه من عمرو بن دينار، لا عطاء ولا مجاهدا ولا طاووسا. قال أحمد بن حنبل: كان شعبة لا يقدم على عمرو بن دينار أحدا لا الحكم ولا غيره في الثبت قال: كان عمرو مولى هؤلاء، ولكن الله شرفه بالعلم. قال شعبة: ما رأيت في الحديث أثبت من عمرو بن دينار. قال يحيى بن معين: أهل المدينة لا يرضون عمرا يرمونه بالتشيع، والتحامل على ابن الزبير، ولا بأس به، وهو بريء مما يقولون. ¬

(¬1) الرسالة (1233)، الفقيه والمتفقه (1/ 506 - 507) والسير (5/ 419 - 420). (¬2) طبقات ابن سعد (5/ 479 - 480) وتاريخ خليفة (368) والسير (5/ 300 - 307) والمعرفة والتاريخ (2/ 18 - 22و207) والجرح والتعديل (6/ 231) وتهذيب الكمال (22/ 5 - 13) والعقد الثمين (5/ 382) ومشاهير علماء الأمصار (84) وشذرات الذهب (1/ 171).

موقفه من الجهمية:

توفي رحمه الله سنة ست وعشرين ومائة. موقفه من الجهمية: - جاء في أصول الاعتقاد عنه قال: أدركت مشايخنا والناس منذ سبعين سنة يقولون القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود. (¬1) - وفيه عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: سمعت مشيختنا منذ سبعين سنة يقولون القرآن كلام الله غير مخلوق. - وقال محمد بن عمار: ومَن مشيخته إلا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ابن عباس وجابر وذكر جماعة. (¬2) - وفيه عنه قال: أدركت تسعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون: من قال القرآن مخلوق فهو كافر. (¬3) موقفه من القدرية: جاء في الميزان والسير عنه قال: دخلت على وهب بن منبه داره بصنعاء، فأطعمني من جوزة في داره، فقلت: وددت أنك لم تكن كتبت في القدر كتابا. قال: وأنا والله لوددت ذلك. (¬4) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 260/381) والإبانة (2/ 12/6 - 7/ 183) والمنهاج (2/ 253). (¬2) أصول الاعتقاد (2/ 260 - 261/ 383). (¬3) أصول الاعتقاد (2/ 259/380) والتلبيس (109). (¬4) الميزان (4/ 353) السير (4/ 548).

دراج أبو السمح (126 هـ)

درَّاج أبو السَّمح (¬1) (126 هـ) دراج بن سَمْعَان، يقال: اسمه عبد الرحمن ودراج لقب، أبو السَّمْح القرشي السهمي المصري القاص. روى عن: عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي، وأبي الهيثم وأبي قبيل المعافري وعبد الرحمن بن حجيرة. وروى عنه: حيوة بن شريح وسعيد بن يزيد القتباني وعمرو بن الحارث. يقال: كان مجاب الدعوة من الخاشعين. توفي سنة ست وعشرين ومائة. موقفه من المبتدعة: عن دراج أبي السمح قال: يأتي على الناس زمان، يسمن الرجل راحلته حتى تعقد شحما، ثم يسير عليها في الأمصار حتى تعود نقضا، يلتمس من يفتيه بسنة قد عمل بها فلا يجد إلا من يفتيه بالظن. (¬2) خالد القسري (¬3) (126 هـ) الأمير الكبير أبو الهيثم خالد بن عبد الله بن يزيد القسري، كان جوادا ممدوحا معظما عالي الرتبة، من نبلاء الرجال، لكنه فيه نصب معروف. روى عن أبيه. وروى عنه حميد الطويل وإسماعيل بن أبي خالد وسيار وغيرهم. قيل ¬

(¬1) تهذيب الكمال (8/ 477 - 480) وميزان الاعتدال (2/ 24 - 25) تاريخ الإسلام (حوادث 121 - 140/ص.90 - 91) والوافي بالوفيات (14/ 6 - 7) وتهذيب التهذيب (3/ 208 - 209) وشذرات الذهب (1/ 171). (¬2) ابن وضاح (ص.174 - 261) وجامع بيان العلم وفضله (1/ 603) وأورده الشاطبي في الاعتصام (1/ 136). (¬3) الجرح والتعديل (3/ 340) والسير (5/ 124و276 - 280) ووفيات الأعيان (2/ 226 - 231) وتهذيب الكمال (8/ 107 - 118) والبداية والنهاية (10/ 19 - 23) وتاريخ الطبري (7/ 254 - 260) وشذرات الذهب (1/ 169 - 171).

موقفه من المشركين:

لسيار: تروي عن خالد؟ قال: إنه كان أشرف من أن يكذب. كان واليا على مكة من سنة تسع وثمانين إلى سنة عشرين بعد المائة. كان قائما في إطفاء الضلال والبدع كقتله للجعد بن درهم وغيره من أهل الإلحاد. كان كريما كثير الجود فقد كان يطعم في اليوم ستة وثلاثين ألفا من الأعراب من تمر وسويق. من أقواله: لا يحتجب الوالي إلا لثلاث خصال: إما رجل عيي فهو يكره أن يطلع الناس على عيه، وإما رجل يشتمل على سوءة فهو يكره أن يعرف الناس ذلك، وإما رجل بخيل يكره أن يسأل. ومن أقواله أيضا: إن أكرم الناس من أعطى من لا يرجوه، وأعظم الناس عفوا من عفا عن قدرة، وأوصل الناس من وصل عن قطيعة. توفي سنة ست وعشرين بعد المائة الأولى للهجرة. موقفه من المشركين: - جاء في سير أعلام النبلاء وميزان الاعتدال: عن أبي بكر بن عياش قال: رأيت خالدا القسري حين أتي بالمغيرة بن سعيد وأصحابه، وكان يريهم أنه يحيى الموتى، فقتل خالد واحدا منهم ثم قال للمغيرة: أحيه فقال: والله ما أحيي الموتى، قال: لتحيينه أو لأضربن عنقك، ثم أمر بطن من قصب فأضرموه وقال: اعتنقه، فأبى فعدا رجل من أتباعه فاعتنقه. قال أبو بكر: فرأيت النار تأكله وهو يشير بالسبابة فقال خالد: هذا والله أحق بالرئاسة منك. ثم قتله وقتل أصحابه.

قال الذهبي: كان رافضيا (¬1) خبيثا كذابا ساحرا، ادعى النبوة، وفضل عليا على الأنبياء وكان مجسما، سقت أخباره في ميزان الاعتدال. (¬2) قال المدائني: أتي خالد بن عبد الله برجل تنبأ بالكوفة فقيل له ما علامة نبوتك؟ قال: قد نزل علي قرآن، قال: إنا أعطيناك الكماهر، فصل لربك ولا تجاهر. ولا تطع كل كافر وفاجر. فأمر به فصلب [وكان يقول] (¬3) وهو يصلب: إنا أعطيناك العمود، فصل لربك على عود، فأنا ضامن لك ألا تعود. (¬4) - وجاء في البداية والنهاية في حوادث سنة ثماني عشرة ومائة: وفيها قصد شخص يقال له: عمار بن يزيد، ثم سمي بخداش، إلى بلاد خراسان ودعا الناس إلى خلافة محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، فاستجاب له خلق كثير، فلما التفوا عليه دعاهم إلى مذهب الخرمية الزنادقة، وأباح لهم نساء بعضهم بعضا، وزعم لهم أن محمد بن علي يقول ذلك، وقد كذب عليه فأظهر الله عليه الدولة فأخذ فجيء به إلى خالد بن عبد الله القسري أمير العراق وخراسان، فأمر به فقطعت يده وسل لسانه ثم صلب بعد ذلك. (¬5) - وجاء في ميزان الاعتدال في ترجمة بيان الزنديق: قال ابن نمير: قتله خالد بن عبد الله القسري وأحرقه بالنار. ¬

(¬1) يعني المغيرة. (¬2) السير (5/ 426) وميزان الاعتدال (4/ 162) والبداية والنهاية (10/ 21). (¬3) زيادة يقتضيها السياق. (¬4) البداية والنهاية (10/ 21). (¬5) البداية والنهاية (9/ 333).

موقفه من الجهمية:

قال الذهبي: هذا بيان بن سمعان النهدي من بني تميم، ظهر بالعراق بعد المائة، وقال بإلهية علي؛ وأن فيه جزءا إلهيا متحدا بناسوته ثم من بعده في ابنه محمد بن الحنفية، ثم في أبي هاشم ولد بن الحنفية، ثم من بعده في بيان هذا؛ وكتب بيان كتابا إلى أبي جعفر الباقر، يدعوه إلى نفسه، وأنه نبي. (¬1) موقفه من الجهمية: جاء في السير عن قتيبة بن سعيد وغيره قالا: حدثنا القاسم بن محمد عن عبد الرحمن بن محمد بن حبيب عن أبيه عن جده قال: شهدت خالدا القسري في يوم أضحى يقول: ضحوا تقبل الله منكم فإني مضح بالجعد بن درهم، زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا ثم نزل فذبحه. (¬2) " التعليق: أصبح هذا الموقف خالدا لخالد خلده الله في جنات الخلد هو وأمثاله ممن أراحوا المسلمين من رؤوس البدع والضلالة في كل زمان ومكان. موقفه من الخوارج: جاء في البداية والنهاية: وفي هذه السنة (أي تسع عشرة ومائة) خرج رجل يقال له بهلول بن بشر ويلقب بكثارة، واتبعه جماعات من الخوارج دون المائة، وقصدوا قتل خالد القسري، فبعث إليهم البعوث فكسروا الجيوش واستفحل أمرهم جدا لشجاعتهم وجلدهم، وقلة نصح من يقاتلهم ¬

(¬1) الميزان (1/ 357). (¬2) السير (5/ 432) والفتاوى (10/ 66 - 67).

عبد الكريم بن مالك الجزري (127 هـ)

من الجيوش، فردوا العساكر من الألوف المؤلفة، ذوات الأسلحة والخيل المسومة، هذا وهم لم يبلغوا المائة، ثم إنهم راموا قدوم الشام لقتل الخليفة هشام، فقصدوا نحوها، فاعترضهم جيش بأرض الجزيرة فاقتتلوا معهم قتالا عظيما، فقتلوا عامة أصحاب بهلول الخارجي. ثم إن رجلا من جديلة يكنى أبا الموت ضرب بهلولا ضربة فصرعه وتفرقت عنه بقية أصحابه، وكانوا جميعهم سبعين رجلا، وقد رثاهم بعض أصحابهم فقال: بُدِّلت بعد أبي بشر وصحبته ... قوما علي مع الأحزاب أعوانا بانوا كأن لم يكونوا من صحابتنا ... ولم يكونوا لنا بالأمس خلانا يا عين أذري دموعا منك تهنانا ... وأبكي لنا صحبة بانوا وجيرانا خلوا لنا ظاهر الدنيا وباطنها ... وأصبحوا في جنان الخلد جيرانا ثم تجمع طائفة منهم أخرى على بعض أمرائهم فقاتلوا وقتلوا وقتلوا، وجهزت إليهم العساكر من عند خالد القسري، ولم يزل حتى أباد خضراءهم ولم يبق لهم باقية. (¬1) عبد الكريم بن مالك الجزري (¬2) (127 هـ) عبد الكريم بن مالك، أبو سعيد الجزري الحراني، مولى بني أمية، الحافظ الإمام، عالم الجزيرة، رأى أنس بن مالك رضي الله عنه. روى عن سعيد بن ¬

(¬1) البداية والنهاية (9/ 336 - 337). (¬2) تهذيب الكمال (18/ 252 - 258) وتذكرة الحفاظ (1/ 140) وسير أعلام النبلاء (6/ 80) وتهذيب التهذيب (6/ 373 - 375) وشذرات الذهب (1/ 173) وتاريخ الإسلام (حوادث 121 - 140،ص.167).

موقفه من المبتدعة:

جبير وسعيد بن المسيب وعبد الرحمن بن أبي ليلى وطاووس وعطاء ومجاهد وغيرهم. وروى عنه: شعبة وأيوب وسفيان بن عيينة ومسعر بن كدام ومعمر بن راشد، وعدة. قال سفيان: ما رأيت عربيا أثبت من عبد الكريم. وقال أبو طالب عن أحمد بن حنبل: ثقة، ثبت، وهو أثبت من خصيف في الحديث، وهو صاحب سنة. وقال الحميدي عن سفيان: كان حافظا، وكان من الثقات، لا يقول إلا سمعت وحدثنا ورأيت. توفي رحمه الله سنة سبع وعشرين ومائة. موقفه من المبتدعة: - عن مروان بن شجاع قال: سمعت عبد الكريم الجزري يقول: ما خاصمت قط. (¬1) - وعنه أيضا قال: سمعت عبد الكريم يقول: ما خاصم ورع قط في الدين. (¬2) موقفه من المرجئة: - عن معقل بن عبيد الله العبسي قال: قدم علينا سالم الأفطس بالإرجاء فنفر منه أصحابنا نفارا شديدا فيهم ميمون بن مهران وعبد الكريم ابن مالك فأما عبد الكريم بن مالك فإنه عاهد الله أن لا يأويَه وإياه سقف بيت إلا ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/525/ 633). (¬2) الشريعة (1/ 191/129) والإبانة (2/ 3/525/ 634).

أبو إسحاق السبيعي (127 هـ)

المسجد. (¬1) - وعن موسى بن أعين الجزري سمعت عبد الكريم بن مالك الجزري وخصيف بن عبد الرحمن يقولان: الإيمان يزيد وينقص. (¬2) أبو إسحاق السَّبِيعِي (¬3) (127 هـ) عمرو بن عبد الله، أبو إسحاق السبيعي الهمداني الكوفي، الحافظ أحد الأعلام. ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، ورأى عليا رضي الله عنه يخطب. وغزا الروم في خلافة معاوية، روى عن: معاوية بن أبي سفيان، وابن عباس، والبراء بن عازب، وجابر بن سمرة، وعمرو بن الحارث الخزاعي، وجماعة من الصحابة وعن خلائق من كبار التابعين. وروى عنه: ابن سيرين، والزهري، وأبان بن تغلب، وقتادة، ومالك بن مغول وخلق سواهم. عن ابن فضيل، عن أبيه قال: كان أبو إسحاق يقرأ القرآن في كل ثلاث. وقال علي ابن المديني: حفظ العلم على الأمة ستة: فلأهل الكوفة أبو إسحاق والأعمش، ولأهل البصرة: قتادة ويحيى بن أبي كثير ولأهل المدينة: الزهري، ولأهل مكة: عمرو بن دينار. وقيل لشعبة: أسمع أبو إسحاق من مجاهد؟ قال: وما كان يصنع به، هو أحسن حديثا من مجاهد ومن الحسن وابن سيرين. ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (5/ 1024/1732) والسنة لعبد الله (117) والسنة للخلال (4/ 29 - 32/ 1105) والإبانة (2/ 6/808 - 809/ 1101). (¬2) السنة لعبد الله (95). (¬3) طبقات ابن سعد (6/ 313 - 315) وتهذيب الكمال (22/ 102 - 113) وميزان الاعتدال (3/ 270) وسير أعلام النبلاء (5/ 392) وتهذيب التهذيب (8/ 63) وشذرات الذهب (1/ 174).

موقفه من المبتدعة:

وقال ابن حجر: ثقة مكثر عابد، اختلط بأخرة. توفي سنة سبع وعشرين ومائة، وقيل تسع وعشرين، والله أعلم. موقفه من المبتدعة: قال الإمام الآجري: وأنبأنا الفريابي قال: حدثنا إسماعيل بن سيف قال: حدثنا حسان بن إبراهيم الكرماني قال: سمعت أبا إسحاق الهمداني يقول: من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام. (¬1) موقفه من الرافضة: - جاء في أصول الاعتقاد: قال أبو إسحاق الهمداني: شتم أبي بكر وعمر من الكبائر التي قال الله عز وجل: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} (¬2). (¬3) - وفيه عن حمزة الزيات قال: سألت أبا إسحاق السبيعي: فما ترى في الصلاة خلف من يسب أبا بكر وعمر؟ قال: ألست تجد غيرهم؟ قلت: بلى. قال: لا تصلي خلفهم. (¬4) - وجاء في السنة للخلال: عنه قال: ما رأيت بعده مثله يعني معاوية. (¬5) - وفيها: عنه أنه ذكر معاوية فقال: لو أدركتموه أو أدركتم زمانه ¬

(¬1) الشريعة (3/ 577/2097). (¬2) النساء الآية (31). (¬3) أصول الاعتقاد (7/ 1341 - 1342/ 2388). (¬4) أصول الاعتقاد (8/ 1545 - 1546/ 2814). (¬5) السنة للخلال (1/ 438).

موقفه من الجهمية:

كان المهدي. (¬1) موقفه من الجهمية: جاء في أصول الاعتقاد عن أبي إسحاق قال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وزيادة} (¬2) قال: النظر إلى وجه الرحمن. (¬3) عَبْدَة بن أبي لُبَابَة (¬4) (127 هـ) عَبْدَة بن أبي لُبَابَة، أبو القاسم الأسدي ثم الغاضري مولاهم الكوفي ويقال: مولى قريش، أحد الأئمة، نزيل دمشق، وهو خال الحسن بن الحر. روى عن ابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومجاهد بن جبر، وعمر بن الخطاب مرسل، وآخرين. روى عنه شعبة بن الحجاج والأوزاعي وسفيان بن عيينة وغيرهم. قال أبو أسامة عن الأوزاعي: لم يقدم علينا من العراق أحد أفضل من عبدة بن أبي لبابة والحسن بن الحر، وكانا شريكين جميعا. روى الأوزاعي عنه قال: أقرب الناس إلى الرياء آمنهم منه. قال رجاء بن أبي سلمة: سمعت عبدة يقول: لوددت أن حظي من أهل الزمان أنهم لا يسألوني عن شيء، ولا أسألهم، إنهم يتكاثرون بالمسائل كما يتكاثر أهل الدراهم ¬

(¬1) السنة للخلال (1/ 439) وهو في منهاج السنة (6/ 233 - 234). (¬2) يونس الآية (26). (¬3) أصول الاعتقاد (3/ 511 - 512/ 794). (¬4) طبقات ابن سعد (6/ 328) والجرح والتعديل (6/ 89) والسير (5/ 229 - 230) وتهذيب الكمال (18/ 541) وتهذيب التهذيب (6/ 461 - 462).

موقفه من المبتدعة:

بالدراهم. قال الأوزاعي: كان عبدة بن أبي لبابة إذا كان في المسجد لم يذكر شيئا من أمر الدنيا. قال الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة: إذا رأيت الرجل لجوجا مماريا معجبا برأيه فقد تمت خسارته. مات في حدود سنة سبع وعشرين ومائة. موقفه من المبتدعة: روى الدارمي بسنده إليه قال: قد رضيت من أهل زماني هؤلاء أن لا يسألوني ولا أسألهم إنما يقول أحدهم أرأيت أرأيت. (¬1) موقفه من القدرية: عن عبدة بن أبي لبابة قال: علم الله ما هو خالق وما الخلق عاملون، ثم كتبه ثم قال لنبيه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (¬2). (¬3) يزيد بن أبي حبيب (¬4) (128 هـ) الإمام الفقيه يزيد بن أبي حبيب، أبو رجاء المصري مولى شريك بن الطفيل الأزدي. ولد تقريبا سنة ثلاث وخمسين، روى عن إبراهيم بن عبد الله ¬

(¬1) سنن الدارمي (1/ 67). (¬2) الحج الآية (70). (¬3) الإبانة (2/ 10/316/ 1996) والشريعة (1/ 453/582). (¬4) طبقات ابن سعد (7/ 513) وتهذيب الكمال (32/ 102 - 107) والسير (6/ 31) وتاريخ الإسلام (حوادث 121 - 140/ص.304 - 306) وتهذيب التهذيب (11/ 318) وشذرات الذهب (1/ 175).

موقفه من المبتدعة:

ابن حنين وعلي بن رباح وأبي الطفيل وسعيد بن أبي هند، وروى عنه سعيد ابن أبي أيوب وحيوة بن شريح ويحيى بن أيوب والليث بن سعد وابن لهيعة. قال أبو سعيد بن يونس: كان مفتي أهل مصر وكان حليما عاقلا وهو أول من أظهر العلم والمسائل والحلال والحرام بمصر. وقال الليث بن سعد: هو عالمنا وسيدنا. وثقه أبو زرعة الرازي والعجلي وغيرهما. وقال الحافظ ابن حجر: ثقة فقيه، وكان يرسل. مات رحمه الله سنة ثمان وعشرين ومائة. موقفه من المبتدعة: أخرج ابن بطة: عن يزيد بن أبي حبيب قال: إذا كثر مراء القارئ فقد أحكم الخسارة. (¬1) موقف السلف من الجهم بن صفوان (128 هـ) - جاء في السير: الجهم بن صفوان أبو محرز الراسبي مولاهم السمرقندي الكاتب المتكلم أس الضلالة ورأس الجهمية، كان صاحب ذكاء وجدال كتب للأمير حارث بن سريج التميمي وكان ينكر الصفات وينزه الباري عنها بزعمه ويقول بخلق القرآن ويقول: إن الله في الأمكنة كلها. قال ابن حزم: كان يخالف مقاتلا في التجسيم وكان يقول: الإيمان عقد بالقلب وإن تلفظ بالكفر، قيل إن سلم بن أحوز قتل الجهم لإنكاره أن الله كلم موسى. (¬2) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/511/ 592). (¬2) السير (6/ 26 - 27).

أبو كثير السحيمي اليمامي (129 هـ)

- جاء في الفتاوى الكبرى عن ابن شوذب: ترك جهم الصلاة أربعين يوما وكان فيمن خرج مع الحارث بن سريج. وعن مروان بن معاوية الفزاري وذكر جهما فقال: قبح الله جهما حدثني ابن عم لي أنه شك في الله أربعين صباحا. (¬1) - وفيها: عن يحيى بن أيوب قال: كنا يوما عند مروان بن معاوية الفزاري فسأله رجل عن حديث الرؤية فلم يحدثه به، قال: إن لم تحدثني به فأنت جهمي، فقال مروان: أتقول لي جهمي وجهم مكث أربعين ليلة لا يعرف ربه؟! (¬2) - وفيها: قال عبد العزيز بن أبي سلمة: كلام جهم صفة بلا معنى وبناء بلا أساس، ولم يُعَد قط من أهل العلم. (¬3) - وفي المنهاج قال شيخ الإسلام: وإنما أنكر ذلك الجهم بن صفوان فزعم أن الجنة والنار يفنيان. (¬4) أبو كثير السحيمي اليمامي (¬5) (129 هـ) أبو كثير السُّحَيْمِي الغُبَرِي اليَمَامِي، الأعمى، قيل اسمه: يزيد بن عبد الرحمن بن أذينة، وقيل: يزيد بن عبد الله بن أذينة، وقيل: ابن غفيلة. روى ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى (5/ 41). (¬2) الفتاوى الكبرى (5/ 41). (¬3) الفتاوى الكبرى (5/ 41). (¬4) المنهاج (1/ 146 - 147). (¬5) تاريخ الثقات للعجلي (479) الثقات لابن حبان (5/ 539) وتهذيب الكمال (34/ 221) وتهذيب التهذيب (12/ 211) وتاريخ الإسلام (حوادث 121 - 140، ص.325).

موقفه من القدرية:

عن أبيه وأبي ذر وأبي هريرة. وروى عنه: ابنه زفر وأيوب ابن عتبة وعكرمة ويحيى بن أبي كثير وغيرهم. وثقه أبو حاتم وأبو داود والنسائي والعجلي، وذكره ابن حبان في الثقات. توفي رحمه الله سنة تسع وعشرين ومائة. موقفه من القدرية: جاء في الإبانة عنه أنه ذكر عنده القدرية؛ فقال: لا تجادلوهم ولا تجالسوهم؛ فإنهم شعبة من المنانية قد كان كسرى يصلب فيها. (¬1) يحيى بن أبي كثير (¬2) (129 هـ) يحيى بن أبي كثير أبو نصر الطائي مولاهم اليمامي، واسم أبيه صالح بن المتوكل وقيل يسار وقيل: نشيط، وكان مولى لطيء، كان أحد العلماء الأعلام الأثبات. حدث عن خلق كثير منهم: أنس بن مالك، وأبو أمامة الباهلي مرسلا وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعبد الله بن أبي قتادة. روى عنه جم غفير منهم: معمر بن راشد والأوزاعي وأبان بن يزيد المعلم، وحسين المعلم، وابنه عبد الله بن يحيى. قال أبو حاتم الرازي: هو إمام لا يروي إلا عن ثقة، وقد نالته محنة وضرب لكلامه في ولاة الجور. قال أيوب السختياني: ما أعلم أحدا بالمدينة بعد الزهري أعلم من يحيى بن أبي كثير. مات سنة تسع وعشرين ومائة. ¬

(¬1) الإبانة (2/ 10/221/ 1798). (¬2) طبقات ابن سعد (5/ 555) وتهذيب الكمال (31/ 504) والسير (6/ 27 - 31) وميزان الاعتدال 4/ 402 - 403) وشذرات الذهب (1/ 176) وتاريخ الإسلام (حوادث 121 - 140، ص.297 - 299).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: - جاء في الشريعة: قال يحيى بن أبي كثير: إذا لقيت صاحب بدعة في طريق فخذ في غيره. (¬1) " التعليق: لأنه شيطان يتحايل عليك بخيله ورجله وحباله وأعوانه وأكاذيبه، فمن لا يعرف المبتدعة وأكاذيبهم ربما ينخدع بهم، ولا سيما في زمننا هذا. - جاء في ذم الكلام عنه قال: ثلاثة لا غيبة فيهم: إمام جائر وصاحب بدعة وفاسق. (¬2) " التعليق: لأنه من باب النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، والساكت غاش وخائن وجبان. - قال الأوزاعي: وكان يحيى يقول: السنة قاضية على القرآن وليس القرآن بقاض على السنة. (¬3) ¬

(¬1) الشريعة (1/ 199/142) وأصول الاعتقاد (1/ 155/259) والإبانة (2/ 3/474/ 490) وذم الكلام (ص.203) وما جاء في البدع (ص.106) والحلية (3/ 67) وبنحوه في السير (6/ 29) والاعتصام (1/ 113 - 114). (¬2) ذم الكلام (ص.177). (¬3) الإبانة (1/ 1/254/ 89) وذم الكلام (ص.74) والدارمي (1/ 145) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 1194).

موقفه من المرجئة:

موقفه من المرجئة: عن الأوزاعي قال: كان يحيى بن أبي كثير وقتادة يقولان: ليس من الأهواء شيء أخوف عندهم على هذه الأمة من الإرجاء. (¬1) موقفه من القدرية: - جاء في السنة لعبد الله عنه قال في القدرية: هم الذين يقولون إن الله لم يقدر الشر. (¬2) - وجاء في أصول الاعتقاد عن عكرمة بن عمار قال: سألت يحيى بن أبي كثير: من القدرية؟ فقال: الذين يقولون: إن الله لم يقدر المعاصي. (¬3) سلم بن أحوز (¬4) (130 هـ) سلم بن أحوز، أمير الشرط لنصر بن سيار، قتل الجهم بن صفوان -رأس الجهمية- على المشهور سنة ثمان وعشرين ومائة، ثم كانت وقعة هائلة بين جيش أبي مسلم الخراساني وجيش نصر بن سيار، فانهزم جيش نصر، وظفر أبو مسلم بسلم بن أحوز فحبسه، ثم أقدمه، فقتله هو وآخرين، وذلك في حدود الثلاثين ومائة. ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (5/ 1064/1816) والسنة لعبد الله (86) والإبانة (2/ 885 - 886/ 1223) والشريعة (1/ 309/337). (¬2) السنة (123). (¬3) أصول الاعتقاد (4/ 774 - 775/ 1298). (¬4) تاريخ الطبري (4/ 321) والكامل في التاريخ (5/ 382) وتاريخ الإسلام (حوادث 121 - 140، ص.27و67).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: - عن بكير بن معروف قال: رأيت سلم بن الأحوز ضرب عنق الجهم فاسود وجهه. (¬1) - وأخرج ابن أبي حاتم من طريق محمد بن صالح مولى بني هاشم قال: قال سلم حين أخذه، يا جهم إني لست أقتلك لأنك قاتلتني، أنت عندي أحقر من ذلك، ولكني سمعتك تتكلم بكلام أعطيت الله عهدا أن لا أملكك إلا قتلتك فقتله. (¬2) " التعليق: انظر كيف يفعل مع المبتدعة الذين صاروا فيما بعد أئمة يدعون إلى النار، فكم جر هذا الخبيث هو وسلفه وأفراخه من بلايا على العقيدة السلفية. وكم وقعت من الفتن بسبب ذلك وكم مسلم مات على غير عقيدة السلف والله المستعان. مالك بن دينار (¬3) (130 هـ) مالك بن دينار السامي الناجي، أبو يحيى البصري الزاهد، معدود في ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (3/ 424/638). (¬2) الفتح (13/ 429). (¬3) طبقات ابن سعد (7/ 243) وحلية الأولياء (2/ 357) وتهذيب الكمال (27/ 135) وتاريخ الإسلام (حوادث 121 - 140/ص.214 - 217) وسير أعلام النبلاء (5/ 362) وشذرات الذهب (1/ 173).

موقفه من المبتدعة:

ثقات التابعين، ومن أعيان كتبة المصاحف. روى عن أنس بن مالك والأحنف بن قيس وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح والحسن وجماعة. وعنه: سعيد بن أبي عروبة وهمام بن يحيى وابن شوذب وجماعة. قال ابن حبان: كان يكتب المصاحف بالأجرة ويتقوت بأجرته. وكان يجانب الإباحات جهده ولا يأكل شيئا من الطيبات، وكان من المتعبدة الصبر والمتقشفة الخشن. قال مالك بن دينار: أتينا أنس بن مالك أنا وثابت ويزيد الرقاشي وزياد النميري، فنظر إلينا فقال: ما أشبهكم بأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - وإني لأدعو لكم بالأسحار. وقال مالك بن دينار: إذا تعلم العبد ليعمل به كسره علمه، وإذا تعلم العلم لغير العمل زاده فخرا. وروى الأصمعي عن أبيه قال: مر المهلب بن أبي صفرة على مالك بن دينار وهو يتبختر في مشيته، فقال مالك: أما علمت أن هذه المشية تكره إلا بين الصفين؟ فقال له المهلب: أما تعرفني؟ قال: أعرفك أولك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة وأنت بينهما تحمل العذرة، فقال المهلب: الآن عرفتني حق المعرفة. قال خليفة وابن المديني وغيرهما: مات سنة ثلاثين ومائة. موقفه من المبتدعة: - عن سيار بن جعفر قال: سمعت مالك بن دينار يقول: الناس أجناس كأجناس الطير، الحمام مع الحمام، والغراب مع الغراب، والبط مع البط، والصعو مع الصعو، وكل إنسان مع شكله. (¬1) - قال: وسمعت مالك بن دينار يقول: من خلط خلط له ومن ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/480/ 512).

موقفه من المرجئة:

صفى صفي له وأقسم بالله لئن صفيتم ليصفين لكم. (¬1) موقفه من المرجئة: قال مالك بن دينار: الإيمان يبدو في القلب ضعيفا ضئيلا كالبقلة، فإن صاحبه تعاهده فسقاه بالعلوم النافعة والأعمال الصالحة، وأماط عنه الدغل وما يضعفه ويوهنه، أوشك أن ينمو أو يزداد، ويصير له أصل وفروع، وثمرة وظل إلى ما لا يتناهى حتى يصير أمثال الجبال. وَإِنْ صاحبه أهمله ولم يتعاهده جاءه عنز فنتفتها، أوصبي فذهب بها، وأكثر عليها الدغل فأضعفها أو أهلكها أو أيبسها، كذلك الإيمان. (¬2) أبو الزِّنَاد عبد الله بن ذَكْوَان (¬3) (130 هـ) الإمام الحافظ عبد الله بن ذكوان القرشي، أبو عبد الرحمن المدني المعروف بأبي الزناد، مولى رملة بنت شيبة بن ربيعة، امرأة عثمان بن عفان، وقيل مولى عائشة بنت شيبة بن ربيعة وقيل مولى آل عثمان، وقيل مولى عائشة بنت عثمان بن عفان. مولده في نحو سنة خمس وستين في حياة ابن عباس. روى عن أنس بن مالك وأبي أمامة بن سهل وابن المسيب والقاسم بن ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/480/ 513). (¬2) مجموع الفتاوى (7/ 225). (¬3) طبقات خليفة (259) وتاريخ دمشق (44/ 63) والسير (5/ 445) وتهذيب الكمال (14/ 476 - 483) وتهذيب التهذيب (5/ 203 - 205) وشذرات الذهب (1/ 182).

موقفه من المبتدعة:

محمد وعروة وغيرهم، وروى عنه ابنه عبد الرحمن وابن أبي مليكة ومالك والليث والسفيانان والأعمش وآخرون. قال حرب بن إسماعيل عن أحمد بن حنبل: كان سفيان يسمي أبا الزناد أمير المؤمنين في الحديث. وقال أبو حاتم: ثقة فقيه، صالح الحديث، صاحب سنة. وقال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث، فصيحا، بصيرا بالعربية، عالما، عاقلا. قال البخاري: أصح أسانيد أبي هريرة: أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. توفي رحمه الله سنة ثلاثين ومائة وهو ابن ست وستين سنة. موقفه من المبتدعة: - جاء في الفقيه والمتفقه: عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال: إن السنن لا تخاصم، ولا ينبغي لها أن تتبع بالرأي والتفكير، ولو فعل الناس ذلك لم يمض يوم إلا انتقلوا من دين إلى دين، ولكنه ينبغي للسنن أن تلزم ويتمسك بها على ما وافق الرأي أو خالفه. (¬1) ولعمري إن السنن ووجوه الحق لتأتي كثيرا على خلاف الرأي، ومجانبته خلافا بعيدا، فما يجد المسلمون بدا من اتباعها والانقياد لها، ولمثل ذلك ورع أهل العلم والدين فكفهم عن الرأي، ودلهم على غوره وغورته، إنه يأتي الحق على خلافه في وجوه غير واحدة، من ذلك: أن قطع أصابع اليد، مثل قطع اليد من المنكب، أي ذلك أصيب ففيه ستة ألف. ¬

(¬1) الفقيه والمتفقه (1/ 392 - 393).

ومن ذلك: أن قطع الرجل في قلة ضررها مثل قطع الرجل من الورك، أي ذلك أصيب ففيه ستة ألف. ومن ذلك: أن في العينين إذا فقئتا، مثل ما في قطع أشراف الأذنين في قلة ضررهما، أي ذلك أصيب ففيه اثنا عشر ألفا. ومن ذلك: أن في شجتين موضحتين صغيرتين مائة دينار، وما بينهما صحيح فإن جرح ما بينهما حتى تقام إحداهما إلى الأخرى، كان أعظم للجرح بكثير، ولم يكن فيها حينئذ إلا خمسون دينارا. ومن ذلك أن المرأة الحائض تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة. ومن ذلك رجلان قطعت أذنا أحدهما جميعا، يكون له اثنا عشر ألفا، وقتل الآخر فذهبت أذناه وعيناه ويداه ورجلاه، وذهبت نفسه ليس له إلا اثنا عشر ألفا، مثل الذي لم يصب إلا أشراف أذنيه، في أشباه هذا غير واحدة. فهل وجد المسلمون بدا من لزوم هذا؟! وأي هذه الوجوه يستقيم على الرأي أو يخرج في التفكير؟ ولكن السنن من الإسلام، بحيث جعلها الله، هي ملاك الدين وقيامه الذي بني عليه الإسلام، وأي قول أجسم وأعظم خطرا مما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع حين خطب الناس فقال: "وقد تركت فيكم أيها الناس، ما إن اعتصمتم به، فلن تضلوا أبدا، أمرا بينا: كتاب الله، وسنة نبيه" (¬1)، فقرن ¬

(¬1) أخرجه الحاكم (1/ 93) والبيهقي (10/ 114) من طريق ثور بن زيد الديلي عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس في حجة الوداع فذكره. وقال الحاكم: "قد احتج البخاري بأحاديث عكرمة واحتج مسلم بأبي أويس وسائر رواته متفق عليهم وهذا الحديث لخطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - متفق على إخراجه في الصحيح يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وأنتم مسئولون عني فما أنتم قائلون". وذكر الاعتصام بالسنة في هذه الخطبة غريب ويحتاج إليها. ووافقه الذهبي وقال: "وله أصل في الصحيح". وللحديث شواهد كثيرة، انظر الصحيحة للشيخ الألباني رحمه الله (1761).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما. (¬1) وايم الله إن كنا لنلتقط السنن من أهل الفقه والثقة، ونتعلمها شبيها بتعليمنا آي القرآن، وما برح من أدركنا من أهل الفضل والفقه من خيار الناس يعيبون أهل الجدل والتنقيب ومن أخذ بالرأي أشد العيب، وينهوننا عن لقائهم ومجالستهم، ويحذروننا مقاربتهم أشد التحذير، ويخبروننا أنهم أهل ضلال وتحريف، بتأويل كتاب الله وسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى كره المسائل وناحية التنقيب والبحث عن الأمور، وزجر عن ذلك وحذره المسلمين في غير موطن حتى كان من قوله - صلى الله عليه وسلم - كراهية ذلك أن قال: "ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك الذين من قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم" (¬2). (¬3) فأي أمر أكف لمن يعقل عن التنقيب من هذا؟ ولم يبلغ الناس يوم قيل لهم هذا القول من الكشف عن الأمور جزءا من مائة جزء مما بلغوا اليوم، وهل هلك أهل الأهواء وخالفوا الحق إلا بأخذهم بالجدل، والتفكير في دينهم، فهم كل يوم على دين ضلال وشبهة جديدة لا يقيمون على دين، وإن أعجبهم إلا نقلهم الجدل والتفكير إلى دين سواه، ولو لزموا السنن وأمر ¬

(¬1) الفقيه والمتفقه (1/ 393 - 394). (¬2) أخرجه أحمد (2/ 247) والبخاري (13/ 312/7288) ومسلم (2/ 975/1337) والترمذي (5/ 45 - 46/ 2679) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (5/ 116 - 117/ 2618) وابن ماجه (1/ 3/2) كلهم من طرق عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بألفاظ متقاربة. (¬3) هذا الجزء من كلام أبي الزناد قد أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 949 - 950)، وانظر الاعتصام (2/ 847).

المسلمين وتركوا الجدل لقطعوا عنهم الشك، وأخذوا بالأمر الذي حضهم عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضيه لهم، ولكنهم تكلفوا ما قد كفوا مؤنته وحملوا على عقولهم من النظر في أمر الله ما قصرت عنه عقولهم، وحق لها أن تقصر عنه وتحسر دونه، فهنالك تورطوا وأين ما أعطى الله العباد من العلم في قلته وزهادته مما تناولوا، قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (¬1)، وقد قص الله تعالى ما عير -أو غير هذه الكلمة- به موسى عليه السلام، من أمر الرجل الذي لقيه فقال: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} (¬2)، فكان منه في خرقه السفينة، وقتله الغلام، وبنائه الجدار، ما قد قال الله تعالى في كتابه، فأنكر موسى ذلك عليه، وجاءه ذلك في ظاهر الأمر منكرا لا تعرفه القلوب، ولا يهتدي له التفكير، حتى كشف الله ذلك لموسى فعرفه، وكذلك ما جاء من سنن الإسلام وشرائع الدين التي لا توافق الرأي، ولا تهتدي لها العقول، ولو كشف للناس عن أصولها لجاءت للناس واضحة بينة غير مشكلة على مثل ما جاء عليه أمر السفينة وأمر الغلام وأمر الجدار، فإن ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - كالذي جاء به موسى يعتبر بعضه ببعض، ويشبه بعضه بعضا، ومن أجهل وأضل وأقل معرفة بحق الله وحق رسوله وبنور الإسلام وبرهانه ممن قال لا أقبل سنة ولا أمرا مضى من أمر المسلمين ¬

(¬1) الإسراء الآية (85). (¬2) الكهف الآية (65) ..

حتى يكشف لي غيبه وأعرف أصوله؟ أو لم يقل ذلك بلسانه، فكان عليه رأيه وفعله، ويقول الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬1). (¬2) - وقال مسلم في مقدمة صحيحه: حدثنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا الأصمعي عن ابن أبي الزناد عن أبيه قال: أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون ما يؤخذ عنهم الحديث، يقال: ليس من أهله. (¬3) " التعليق: هكذا كان منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم لا يكتفون بمظاهر العبادة والزهد ولكن يضيفون إلى ذلك دقة العلم والمعلومات، فإن كان من أهل العلم وعرف بالرواية والحديث وكان مأمونا في الحديث أخذوا عنه، وإلا لم يلتفتوا إلى ما عنده. وأما أهل هذا الزمان الذين فقدوا الموازين، فيأخذون عن كل أحد تظاهر لهم بالإسلام والصلاح وادعى لهم أنه وصل إلى كذا وكذا، أو رأى في منامه كذا وكذا، أو كشفت له الحجب، أو ظهرت له كرامات، كل ذلك من أدلته التي أقامها وتبعه الناس عليها ولو كان على ضلالة حتى ادعى المهدويَة كثيرٌ من الدجاجلة، وادعى عيسى كثير ¬

(¬1) النساء الآية (65). (¬2) الفقيه والمتفقه (1/ 395 - 396). (¬3) أخرجه مسلم في المقدمة (1/ 15) والرامهرمزي في المحدث الفاصل (ص.407) والخطيب في الكفاية (ص.159) وكذا في (ص.162).

حسان بن عطية (بين 120 هـ إلى 130 هـ)

من المفترين، وادعى القطبية التي هي زور وبهتان كثير من المتحايلين، وادعى المشيخة المزعومة والإذن كثير من المهرجين، وادعى الصلاح والإصلاح كثير من المخرفين. والناس إذا لم يتعلموا السنة ساقهم كل راع، والأمثلة في وقتنا الحاضر كثيرة في الشرق وفي الغرب يعرفها من له تتبع لأحوال العالم الإسلامي. حسان بن عطية (¬1) (بين 120 هـ إلى 130 هـ) الإمام الحجة أبو بكر المحاربي مولاهم الدمشقي. حدث عن أبي أمامة الباهلي وسعيد بن المسيب وأبي كبشة السلولي وطائفة. وحدث عنه: الأوزاعي وأبو معيد حفص بن غيلان وأبو غسان محمد بن مطرف وغيرهم. قال الأوزاعي: ما رأيت أحدا أكثر عملا في الخير من حسان بن عطية. وقال أيضا: كان حسان بن عطية إذا صلى العصر يذكر الله تعالى في المسجد حتى تغيب الشمس. قال يحيى بن معين: كان قدريا. قال الذهبي معقبا: لعله رجع وتاب. مات من العشرين إلى الثلاثين ومائة. موقفه من المبتدعة: - جاء في سنن الدارمي بالسند إليه قال: ما ابتدع قوم بدعة في دينهم ¬

(¬1) حلية الأولياء (6/ 70 - 79) وتاريخ الإسلام (حوادث 121 - 140/ص.74 - 76) والسير (5/ 466 - 468) وتهذيب التهذيب (2/ 251) وتهذيب الكمال (6/ 34 - 40).

موقفه من المرجئة:

إلا نزع الله من سنتهم مثلها ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة. (¬1) - عن الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: خمس كان عليها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والتابعون بإحسان: اتباع السنة، ولزوم الجماعة، وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله. - قال أبو عبد الله المروزي: وأظن قال: وعمارة المساجد. (¬2) - عن حسان بن عطية قال: إذا أراد الله بقوم شرا ألقى بينهم الجدل وخزن العلم. (¬3) موقفه من المرجئة: جاء في الإبانة: عن الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: إن الإيمان في كتاب الله صار إلى العمل فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} ثم صيرهم إلى العمل فقال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (¬4). " التعليق: قال ابن بطة: فاحذروا، رحمكم الله، من يقول أنا مؤمن عند الله وأنا ¬

(¬1) سنن الدارمي (1/ 45) وأصول الاعتقاد (1/ 104/129) والإبانة (1/ 2/351/ 228) وابن وضاح (ص.85) والحوادث والبدع (ص.146). (¬2) تعظيم قدر الصلاة للمروزي (2/ 679). (¬3) الفقيه والمتفقه (1/ 554). (¬4) الأنفال الآيات (2 - 4).

طلحة بن عبيد الله بن كريز (ما بين 121 هـ و130 هـ)

مؤمن كامل الإيمان ومن يقول إيماني كإيمان جبريل وميكائيل. فإن هؤلاء مرجئة أهل ضلال وزيغ وعدول عن الملة. (¬1) طلحة بن عبيد الله بن كَرِيز (¬2) (ما بين 121 هـ و130 هـ) طلحة بن عبيد الله بن كَرِيز أبو المُطَرِّف الكوفي الخُزَاِعي. روى عن الحسن بن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وعائشة. روى عنه: إبراهيم بن أبي عبلة، وحماد بن سلمة، وحميد الطويل. قال عنه أحمد بن حنبل والنسائي: ثقة. قال ابن عساكر: كان شريفا فاضلا. وقال ابن حجر: ثقة، من الطبقة الثالثة. وذكره الذهبي في تاريخ الإسلام ضمن الطبقة الثالثة عشرة المؤرخة بين 121هـ و130هـ. موقفه من المبتدعة: - خرج ابن وضاح عن أبان بن أبي عياش قال: لقيت طلحة بن عبيد الله بن كريز الخزاعي فقلت له: قوم من إخوانك من أهل السنة والجماعة لا يطعنون على أحد من المسلمين، يجتمعون في بيت هذا يوما وفي بيت هذا يوما، ويجتمعون يوم النيروز والمهرجان ويصومونهما. قال طلحة: بدعة من أشد البدع، والله لهم أشد تعظيما للنيروز والمهرجان من غيرهم. ثم استيقظ أنس بن مالك رضي الله عنه فرقيت إليه وسألته عما سألت طلحة، فرد علي ¬

(¬1) الإبانة (2/ 898 - 899/ 1253). (¬2) تهذيب الكمال (13/ 424) وتهذيب التهذيب (5/ 22) وتقريب التهذيب (1/ 451) وتاريخ الإسلام (حوادث 121 - 140/ص.137) وطبقات ابن سعد (7/ 228) وتاريخ دمشق (25/ 125).

عامر بن سعد البجلي (من طبقة الذي قبله)

مثل قول طلحة كأنهما كانا على ميعاد. (¬1) " التعليق: قال الشاطبي: فجعل صوم تلك الأيام من تعظيم ما تعظمه النصارى، وذاك القصد لو كان أفسد العبادة فكذلك ما كان نحوه. (¬2) عامر بن سعد البجلي (¬3) (من طبقة الذي قبله) عامر بن سعد البَجَلِي الكوفي. روى عن البراء بن عازب، وجرير بن عبد الله البجلي، وأبي مسعود الأنصاري، وأبي هريرة وغيرهم. وروى عنه: إبراهيم بن عامر الجمحي، والعيزار بن حريث، وأبو إسحاق السبيعي. قال ابن حجر: مقبول من الثالثة. موقفه من الجهمية: جاء في السنة لعبد الله: عن عامر بن سعد في هذه الآية {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وزيادة} (¬4) قال الزيادة النظر إلى وجه الرحمن. (¬5) ¬

(¬1) ما جاء في البدع (ص.49) وذكره الشاطبي في الاعتصام (1/ 507). (¬2) الاعتصام (1/ 507). (¬3) تهذيب الكمال (14/ 23 - 25) وتهذيب التهذيب (5/ 64 - 65) والجرح والتعديل (6/ 321) والتاريخ الكبير (6/ 450) ثقات ابن حبان (5/ 189) وتقريب التهذيب (1/ 461). (¬4) يونس الآية (26). (¬5) السنة لعبد الله (60) وأصول الاعتقاد (3/ 511/793).

أبو سهل كثير بن زياد (ما بين 121 هـ و130 هـ)

أبو سهل كثير بن زياد (¬1) (ما بين 121 هـ و130 هـ) كَثِير بن زِياد أبو سهل البُرْسَانِي الأزدي العتكي البصري. روى عن الحسن البصري وعمرو بن عثمان بن يعلى بن مرة وأبي سمية وأبي العالية. وروى عنه حماد بن زيد وسلام بن مسكين وجعفر بن سليمان وعبد الله بن شوذب. سكن بلخ، وثقه ابن معين وأبو حاتم والنسائي وغيرهم. له وصايا نافعة منها: قوله لمن قال له أوصنا: أوصيكم أن تبيعوا دنياكم بآخرتكم، تربحونهما والله جميعا. ولا تبيعوا آخرتكم بدنياكم، فتخسرونهما والله جميعا. قال ابن حجر: ثقة من السادسة. وذكره الذهبي في أعيان الطبقة الثالثة عشرة من تاريخه المؤرخة ما بين 121هـ و130هـ. موقفه من المبتدعة: - عن ضمرة عن ابن شوذب: عن كثير -أبي سهل- قال: يقال أهل الأهواء لا حرمة لهم. (¬2) - وعنه أيضا: عن ابن شوذب قال: قلت لكثير بن زياد أبي سهل: ما أحسن سمت فلان، قال: إن ذاك الذي ترى قل ما كان إلا في ذي هوى. (¬3) ¬

(¬1) تهذيب الكمال (24/ 112 - 113) وميزان الاعتدال (3/ 404) وتاريخ الإسلام (حوادث 121 - 140/ص.207 - 208) وتهذيب التهذيب (8/ 413) والتقريب (2/ 38). (¬2) أصول الاعتقاد (1/ 159/281). (¬3) أصول الاعتقاد (1/ 154 - 155/ 258).

القاسم بن عبيد الله (في حدود 130 هـ)

القاسم بن عبيد الله (¬1) (في حدود 130 هـ) أبو محمد المدني القاسم بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأم القاسم هي أم عبد الله بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عن الجميع، فأبو بكر جده الأعلى لأمه وعمر جده الأعلى لأبيه. روى عن عمه سالم بن عبد الله بن عمر وأبيه عبيد الله. وروى عنه عاصم بن محمد وأخوه عمر بن محمد بن زيد. ذكره ابن حبان في الثقات. روى له البخاري في الأدب المفرد ومسلم والنسائي. قال ابن سعد: توفي في خلافة مروان بن محمد سنة اثنتين وثلاثين بعد المائة الأولى. وقال ابن حجر: مات في حدود الثلاثين بعد المائة للهجرة. موقفه من المبتدعة: قال مسلم في مقدمة صحيحه: حدثني أبو بكر بن النضر بن أبي النضر قال: حدثني أبو النضر هاشم بن القاسم حدثنا أبو عقيل صاحب بهية قال: كنت جالسا عند القاسم بن عبيد الله ويحيى بن سعيد فقال يحيى للقاسم: يا أبا محمد إنه قبيح على مثلك، عظيم أن تسأل عن شيء من أمر هذا الدين فلا يوجد عندك منه علم، ولا فرج أو علم ولا مخرج. فقال له القاسم: وعَمَّ ذاك؟ قال: لأنك ابن إمامي هدى ابن أبي بكر وعمر، قال: يقول له القاسم: أَقْبَحُ مِن ذاك عند مَنْ عَقل عن الله أن أقول بغير علم أو آخذ عن غير ثقة، قال: فسكت فيما أجابه. (¬2) ¬

(¬1) طبقات خليفة (ص.262) وتهذيب الكمال (23/ 396 - 399) والتقريب (ص.793). (¬2) أخرجه مسلم في المقدمة (1/ 16).

علي بن زيد بن جدعان (131 هـ)

" التعليق: أقول: هكذا كان منهاج السلف الصالح رضي الله عنهم، لا يقولون بغير علم ولا يروون عن غير ثقة، وأما المبتدعة فكل ما أحدثوه من بدع وفتنوا به أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأضلوها به فهو عن غير علم وغير ثقة، فلو أخذت أسانيد المبتدعة إلى رؤوس بدعهم لَوَجَدتهم جميعا مِمَّن اتهموا في دينهم وقتل بعضهم على الزندقة، وعرف بعضهم بمكره وحيله، فنسأل الله السلامة والعافية، فلا أسانيد صحيحة ولا حجج علمية صريحة فكل علمهم مركب من جهل وضلال. علي بن زيد بن جُدْعَان (¬1) (131 هـ) علي بن زيد بن عبد الله بن زهير أبي مليكة بن جُدْعَان، أبو الحسن القرشي التيمي البصري الأعمى، أحد علماء التابعين. روى عن أنس بن مالك، وسالم بن عبد الله بن عمر وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير وخلق وروى عنه: شعبة وإسماعيل بن علية والسفيانان والحمادان وغيرهم. قال منصور بن زاذان: لما مات الحسن، قلنا لعلي بن زيد: اجلس مكانه. وقال الجريري: أصبح فقهاء البصرة عميانا: قتادة وابن جدعان، وأشعث الحداني. وقال سفيان بن عيينة: كان ابن جدعان مكفوفا، قال: ما أعرف أحمر ولا أبيض. وكان حافظا للقرآن، يعد كل ما في القرآن يا أيها الذين آمنوا، ويعد ¬

(¬1) الجرح والتعديل (6/ 186) وتهذيب الكمال (20/ 434) وسير أعلام النبلاء (5/ 206) وميزان الاعتدال (3/ 127 - 129) وتذكرة الحفاظ (1/ 140 - 141) وتهذيب التهذيب (7/ 322) وشذرات الذهب (1/ 176).

موقفه من القدرية:

كل ما في القرآن لا إله إلا الله. قال الذهبي رحمه الله: كان من أوعية العلم على تشيع قليل فيه وسوء حفظ يغضه من درجة الإتقان. توفي رحمه الله سنة إحدى وثلاثين ومائة، وقيل سنة تسع وعشرين، والله أعلم. موقفه من القدرية: - جاء في الإبانة عنه قال: والله يا ابن آدم؛ لتطيعن الله أو ليعذبنك الله ووالله لا تطيعه حتى يكون هو يمن عليك بطاعته. (¬1) - وفيها عنه قال: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ} (¬2)، فنادى بأعلى صوته: انقطع والله ههنا كلام القدرية. (¬3) إبراهيم بن ميمون (¬4) (131 هـ) إبراهيم بن ميمون الصَّائِغ أبو إسحاق المروزي. روى عن حماد بن أبي سليمان وعبد الله بن عبيد بن عمير ونافع مولى ابن عمر وغيرهم. روى عنه: إبراهيم بن أدهم وحسان بن إبراهيم الكرماني وعون بن معمر وغيرهم. وكان فقيها فاضلا من الآمرين بالمعروف والمواظبين على الورع. قال ابن معين: كان إذا رفع المطرقة فسمع النداء لم يردها. قتله أبو مسلم الخراساني ¬

(¬1) الإبانة (2/ 10/227/ 1818). (¬2) الأنعام الآية (149). (¬3) الإبانة (2/ 10/229/ 1827). (¬4) تهذيب الكمال (2/ 223 - 224) وميزان الاعتدال (1/ 69) وثقات ابن حبان (6/ 19) وتهذيب التهذيب (1/ 172 - 173) وشذرات الذهب (1/ 181).

موقفه من الجهمية:

ظلما سنة إحدى وثلاثين ومائة. موقفه من الجهمية: قال إبراهيم الصايغ: ما يسرني أن لي نصف الجنة بالرؤية ثم تلا: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} (¬1) قال: بالرؤية. (¬2) أيوب السختياني (¬3) (131 هـ) أيوب بن أبي تَمِيمة كَيْسَان السَّخْتِيَاني أبو بكر البصري الإمام الحافظ أحد الأعلام، سيد العلماء العنزي مولاهم الأدمي ويقال: ولاؤه لطهية، وقيل لجهينة، ومواليه حلفاء بني الحريش، وكان منزله في بني الحريش بالبصرة، عداده في صغار التابعين. رأى أنس بن مالك. وسمع عمرو بن سلمة الجرمي وسعيد بن جبير ومحمد بن سيرين ونافع مولى ابن عمر وسالم بن عبد الله بن عمر وعدة. روى عنه شعبة ومعمر بن راشد والحمادان والسفيانان، وابن علية والأعمش ومالك بن أنس ويحيى بن أبي كثير، وخلق كثير. قال فيه حماد بن زيد: هو أفضل من جالسته وأشدهم اتباعا للسنة. قال أيوب: لا ¬

(¬1) المطففين الآيات (15 - 17). (¬2) أصول الاعتقاد (3/ 517 - 518/ 807). (¬3) طبقات ابن سعد (7/ 246 - 251) وحلية الأولياء (3/ 3 - 14) وتهذيب الكمال (3/ 457 - 463) وتذكرة الحفاظ (1/ 130 - 132) والسير (6/ 15 - 26) ومشاهير علماء الأمصار (150) وتاريخ خليفة (398) وشذرات الذهب (1/ 181).

موقفه من المبتدعة:

يستوي العبد -أو لا يسود العبد- حتى يكون فيه خصلتان اليأس مما في أيدي الناس، والتغافل عما يكون منهم. عن حماد بن زيد قال: سئل أيوب عن شيء فقال: لم يبلغني فيه شيء فقال: قل فيه برأيك، فقال: لم يبلغه رأيي. مات في الطاعون سنة إحدى وثلاثين ومائة. موقفه من المبتدعة: - جاء في سير أعلام النبلاء: عن حماد بن زيد قال: سمعت أيوب وقيل له: ما لك لا تنظر في هذا -يعني الرأي-؟ فقال: قيل للحمار ألا تجتر؟ فقال أكره مضغ الباطل. (¬1) - وجاء في الإبانة قال: لا أعلم اليوم أحدا من أهل الأهواء يخاصم إلا بالمتشابه. (¬2) - وفي السير عن حماد بن زيد قال: أيوب عندي أفضل من جالسته وأشد اتباعا للسنة. قال سعيد بن عامر الضبعي عن سلام بن أبي مطيع قال: رأى أيوب رجلا من أصحاب الأهواء، فقال: إني لأعرف الذلة في وجهه ثم تلا: {سينالهم غضبٌ من ربهم وذلة} (¬3)، ثم قال: هذه لكل مفتر، وكان يسمي أصحاب الأهواء خوارج، ويقول إن الخوارج اختلفوا في الاسم ¬

(¬1) السير (6/ 17) وتذكرة الحفاظ (1/ 131) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 1073) والفقيه والمتفقه (1/ 459 - 460) وانظر إعلام الموقعين (1/ 75). (¬2) الإبانة (2/ 3/501/ 560) والفقيه والمتفقه (1/ 205) بنحوه. (¬3) الأعراف الآية (152).

واجتمعوا على السيف. (¬1) - جاء في أصول الاعتقاد: قال سلام: وقال رجل من أصحاب الأهواء لأيوب: أسألك عن كلمة، فولى أيوب وهو يقول: ولا نصف كلمة مرتين يشير بإصبعه. (¬2) - وكان أيوب السختياني يقول: ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إلا ازداد من الله عز وجل بعدا. (¬3) - وجاء في أصول الاعتقاد عنه قال: إن من سعادة الحدث والأعجمي أن يوفقهما الله لعالم من أهل السنة. (¬4) " التعليق: وما أكثر صدق هذا القول على هذا الزمن، فإن دعاة الإسلام مع الأسف يبذلون جهودا جبارة في دعوة الكافرين إلى الإسلام، وبالفعل، أسلم الكثير منهم، ولكن قلما تجد من هؤلاء الذين أسلموا على منهج سلفي سني، فأكثره على طريقة المتصوفة، وحتى التقليد المذهبي الممقوت، نقلوه إلى هؤلاء المساكين، وكان الواجب على الدعاة إلى الإسلام أن يلقنوهم النهج السلفي الصحيح، ولكن فاقد الشيء لا يعطيه، ومن شك في ما ذكرت فليتجول في ¬

(¬1) السير (6/ 21) وأخرجه الهروي في ذم الكلام (ص.227) واللالكائي في أصول الاعتقاد (1/ 162/289و290) وذكره الشاطبي في الاعتصام (1/ 113). (¬2) أصول الاعتقاد (1/ 162/291) والإبانة (2/ 3/447/ 402) والشريعة (1/ 190/126) والسنة (ص.24) وشرح السنة (1/ 227) والدارمي (1/ 109) وانظر تلبيس إبليس (ص.22) والسير (6/ 21). (¬3) ابن وضاح (ص.67 - 68) وتلبيس إبليس (ص.22) وأورده الشاطبي في الاعتصام (1/ 113). (¬4) أصول الاعتقاد (1/ 66/30) والتلبيس (ص.17).

إسبانيا وألمانيا وأمريكا وغيرها يجد الدرقاوية والقادرية والتجانية والتبليغية وغيرها. وهؤلاء معذورون لأنهم ما لقنوهم غير هذا، واللوم يرجع إلى السلفيين الذين عندهم من الخير ما يستطيعون به تغطية بعض هذا، ولكنهم قصروا، وإن كنت لا أقول إنه ليس هناك أي جهد للسلفيين، بل هناك مجهودات مشكورة، ولكن أرى أن تكون التغطية الكبيرة للعقيدة السلفية. أرجو الله أن يوفقهم وأن يكثر من مددهم، وأن يهدي إخواننا الدعاة لتعلم العقيدة السلفية حتى تكون الدعوة موحدة ومثمرة وموافقة لما دعا إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة بعده والتابعون لهم بإحسان. - جاء في أصول الاعتقاد: قال حماد بن زيد: حضرت أيوب السختياني وهو يغسل شعيب بن الحبحاب وهو يقول: إن الذين يتمنون موت أهل السنة يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون. (¬1) - قال أيوب: إني أخبر بموت الرجل من أهل السنة فكأني أفقد بعض أعضائي. (¬2) - كان أيوب يبلغه موت الفتى من أصحاب الحديث فيرى ذلك فيه ويبلغه موت الرجل يذكر بعبادة فما يرى ذلك فيه. (¬3) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (1/ 67 - 68/ 35). (¬2) أصول الاعتقاد (1/ 66/29) والحلية (3/ 9) وتلبيس إبليس (ص.17). (¬3) أصول الاعتقاد (1/ 67/34) وشرف أصحاب الحديث (ص.61) والحلية (3/ 9).

موقفه من المشركين:

- عن عمارة بن زاذان قال: قال لي أيوب: يا عمارة إذا كان الرجل صاحب سنة وجماعة فلا تسأل عن أي حال كان فيه. (¬1) - عن أيوب أنه قال: لست براد عليهم بشيء أشد من السكوت. (¬2) - وعنه أنه دعي إلى غسل ميت فخرج مع القوم فلما كشف عن وجه الميت عرفه فقال: أقبلوا قبل صاحبكم فلست أغسله رأيته يماشي صاحب بدعة. (¬3) - وعنه أيضا أنه قال: إذا حدثت الرجل بالسنة فقال دعنا من هذا، وحدثنا من القرآن فاعلم أنه ضال مضل. (¬4) موقفه من المشركين: جاء في السير: عن حماد قال: رأيت أيوب وضع يده على رأسه وقال: الحمد لله الذي عافاني من الشرك، ليس بيني وبينه إلا أبو تميمة. (¬5) موقفه من الرافضة: - جاء في مجموع الفتاوى: قال أيوب السختياني: من قدم عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، قاله لما بلغه ذلك عن بعض أئمة الكوفيين. (¬6) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (1/ 67/33). (¬2) الإبانة (2/ 3/471/ 479) والشريعة (1/ 196/138). (¬3) الإبانة (2/ 3/476/ 498). (¬4) الكفاية (ص.16) وذم الكلام (ص.74). (¬5) السير (6/ 18). (¬6) مجموع الفتاوى (3/ 357) والمنهاج (1/ 533 - 534).

موقفه من الجهمية:

- وفي السنة للخلال عنه قال: دخلت المدينة والناس متوافرون القاسم ابن محمد وسليمان وغيرهما فما رأيت أحدا يختلف في تقديم أبي بكر وعمر وعثمان. (¬1) - وفي أصول السنة لابن أبي زمنين عنه قال: من أحب أبا بكر فقد أقام الدين ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل، ومن أحب عثمان استنار بنور الله عز وجل، ومن أحب عليا فقد أخذ بالعروة الوثقى، ومن أحسن الثناء على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد برئ من النفاق ومن ينتقص أحدا منهم أو بغضه لشيء كان منه فهو مبتدع مخالف للسنة والسلف الصالح، والخوف عليه أن لا يرفع له عمل إلى السماء حتى يحبهم جميعا ويكون قلبه لهم سليما. (¬2) - وفي الفقيه والمتفقه للبغدادي عنه قال: إذا بلغك اختلاف عن النبي فوجدت في ذلك الاختلاف أبا بكر وعمر، فشد يدك به، فإنه الحق، وهو السنة. (¬3) موقفه من الجهمية: جاء عنه في السنة لعبد الله بن الإمام أحمد أقوال وأفعال تدل على كراهيته لمذهب المعتزلة ورؤوسهم الضالة. - منها: قال حماد بن زيد: كنت مع أيوب ويونس وابن عون وغيرهم، فمر عمرو بن عبيد فسلم عليهم، ووقف وقفة، فما ردوا عليه ¬

(¬1) السنة للخلال (1/ 403). (¬2) رياض الجنة بتخريج أصول السنة لأبي زمنين (ص.268) مطولا، وأصول الاعتقاد (7/ 1316/2333) والشريعة (3/ 23/1291) مختصرا. (¬3) الفقيه والمتفقه (1/ 438)

السلام، ثم جاز فما ذكروه. (¬1) - ومنها: عن حماد بن زيد قال: قيل لأيوب: إن عَمْراً روى عن الحسن أنه قال لا يجلد السكران من النبيذ. قال: كذب، أنا سمعت الحسن يقول يجلد السكران من النبيذ. (¬2) - ومنها عن سلام بن أبي مطيع قال: قال سعيد لأيوب: يا أبا بكر إن عمرو بن عبيد قد رجع عن قوله، قال سلام: وكان الناس قد قالوا ذلك تلك الأيام إنه قد رجع قال أيوب: إنه لم يرجع قال: بلى إنه قد رجع قال: إنه لم يرجع، قالها غير مرة ثم قال أيوب: أما سمعت إلى قوله يعني في الحديث "يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ولا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه" (¬3) إنه لا يرجع أبدا. (¬4) - وجاء في السنة عن سلام بن أبي مطيع قال: كنت أمشي مع أيوب في جنازة وبين أيدينا ثلاثة رهط قد كانوا مع عمرو بن عبيد في الاعتزال، ثم تركوا رأيه ذلك وفارقوه قال: فقال لي أيوب من غير أن أسأله: لا ترجع قلوبهم إلى ما كانت عليه. (¬5) - جاء في السير: حماد بن زيد سمع أيوب وذكر المعتزلة، وقال: إنما ¬

(¬1) السنة لعبد الله (149) والإبانة (2/ 11/301/ 1964). (¬2) السنة لعبد الله (151) وأصول الاعتقاد (4/ 815/1373). (¬3) أخرجه من حديث ابن مسعود: أحمد (1/ 404) والترمذي (4/ 417 - 418/ 2188) وقال: "هذا حديث حسن صحيح" وابن ماجة (1/ 59/168). وأخرجه من حديث أبي ذر: أحمد (5/ 31) ومسلم (2/ 750/1067) وابن ماجه (1/ 60/170). (¬4) السنة لعبد الله (151) وأصول الاعتقاد (1/ 160/286). (¬5) السنة لعبد الله (151).

موقفه من المرجئة:

مدار القوم على أن يقولوا: ليس في السماء شيء. (¬1) - حدثني أحمد حدثنا أبو داود حدثنا عبد الله بن بكر بن عبد الله المزني وكان عندنا من خيار الناس قال: ما أحد أحب إلي من عمرو وكان يحب أن يتشبه به في حياة الحسن قال فإني لأذكر أول يوم تكلم فيه قال فتفرقنا عنه فما كنت أحب أن أكلمه قال فلقيني يوما في زقاق فلم أقدر أن أتوارى منه قال فقمت فلما نظر إلي قال لا تخف ليس هاهنا أيوب ولا يونس. (¬2) - عن حماد بن زيد قال: سمعت أيوب يقول: من كذب الشفاعة فلا ينالها. (¬3) موقفه من المرجئة: - جاء في السنة لعبد الله عن خالد بن عبد الرحمن بن بكر السلمي قال: كنت عند محمد وعنده أيوب فقلت له: يا أبا بكر، الرجل يقول لي مؤمن أنت؟ أقول مؤمن، فانتهرني أيوب فقال محمد: وما عليك أن تقول آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله. (¬4) - وعن سلام بن أبي مطيع قال: شهدت أيوب وعنده رجل من المرجئة فجعل يقول: إنما هو الكفر والإيمان، قال: وأيوب ساكت، قال: فأقبل عليه أيوب، فقال: {وآخرون مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا ِ ¬

(¬1) السير (6/ 24). (¬2) السنة لعبد الله (152). (¬3) أصول الاعتقاد (6/ 1183/2089). (¬4) السنة لعبد الله (87).

موقفه من القدرية:

إما يعذبهم أو يتوب عليهم} (¬1) أمؤمنون أم كفار؟ فسكت الرجل، قال: فقال له أيوب: اذهب فاقرأ القرآن فكل آية فيها ذكر النفاق فإني أخافها على نفسي. (¬2) - وعن سلام عن أيوب قال: أنا أكبر من دين المرجئة، إن أول من تكلم في الإرجاء رجل من أهل المدينة من بني هاشم يقال له الحسن. (¬3) موقفه من القدرية: - جاء في أصول الاعتقاد عنه قال: لا يصلى خلف القدرية فإذا صلى خلف أحد منهم أعاد. (¬4) - وفيه عن صدقة بن يزيد قال: مررت مع أيوب وهو آخذ بيدي إلى المسجد لنصلي فيه فمررنا بمسجد قد أقيمت الصلاة فيه فذهبت لأدخل فنتر يده من يدي نترة فقال: أما علمت أن إمامهم قدري؟ (¬5) - وفيه عنه قال: أدركت الناس هاهنا وكلامهم وإن قضي وإن قدر وإن قضي وإن قدر. (¬6) - وروى مسلم في مقدمة صحيحه بسنده إلى سلام بن أبي مطيع ¬

(¬1) التوبة الآية (106). (¬2) الإبانة (2/ 754/1052) وانظر تذكرة الحفاظ (2/ 501). (¬3) الإبانة (2/ 903/1266) وأصول الاعتقاد (5/ 1075/1844) قال الحافظ ابن حجر: "المراد بالإرجاء الذي تكلم الحسن بن محمد فيه غير الإرجاء الذي يعيبه أهل السنة المتعلق بالإيمان ... " انظر بقيته عنه موقف زادان الضرير سنة (82هـ). (¬4) أصول الاعتقاد (4/ 806/1345). (¬5) أصول الاعتقاد (4/ 807 - 808/ 1350). (¬6) أصول الاعتقاد (4/ 824/1389) والإبانة (2/ 9/86/ 1493).

إسماعيل بن عبيد الله (131 هـ)

يقول: بلغ أيوب أني آتي عمرا. فأقبل علي يوما فقال: أرأيت رجلا لا تأمنه على دينه، كيف تأمنه على الحديث؟ (¬1) - وروى ابن بطة بسنده عن حماد قال: سمعت أيوب يقول: كذب على الحسن ضربان من الناس: قوم القدر رأيهم فهم يريدون أن ينفقوا بذلك رأيهم، وقوم في قلوبهم شنآن وبغض، يقولون ليس من قوله كذا وكذا وليس من قوله كذا وكذا. (¬2) - وعن حماد بن زيد قال: سمعت أيوب يقول: ما عددت عمرو بن عبيد عاقلا قط. (¬3) إسماعيل بن عبيد الله (¬4) (131 هـ) إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر الإمام الكبير أبو عبد الحميد الدمشقي القرشي مولى بني مخزوم ومفقه أولاد عبد الملك الخليفة، من الثقات العلماء، استعمله عمر بن عبد العزيز على افريقية. حدث عن أنس بن مالك والسائب بن يزيد وعبد الرحمن بن غنم وأم الدرداء الصغرى، وجماعة. روى عنه الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر وابناه عبد العزيز ويحيى وطائفة. عن الهيثم بن عمران سمعت إسماعيل بن عبيد الله ¬

(¬1) مسلم (1/ 23). (¬2) الإبانة (2/ 10/185 - 186/ 1682) وهو في سنن أبي داود (4622). (¬3) الإبانة (2/ 11/301/ 1965). (¬4) الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (1/ 96 و101 - 103) ومشاهير علماء الأمصار (179) وتاريخ خليفة (323) والجرح والتعديل (2/ 182 - 183) والتاريخ الكبير (1/ 366) والسير (5/ 213) وتهذيب الكمال (3/ 143 - 151).

موقفه من المبتدعة:

يقول: ينبغي لنا أن نحفظ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما نحفظ القرآن لأن الله تعالى يقول: {وَمَا آَتَاكُمُ الرسول فخذوه} الآية (¬1). عن إسماعيل بن عبيد الله قال: كلمت رجاء بن حيوة وعدي بن عدي في شيء فكأنهما وجدا في أنفسهما، فقلت لهما: إنه ليس يحسن من رأيكما أن تنزلا رأيكما بمنزلة من لا ينبغي أن يرد عليه منه شيء، فقال رجاء بن حيوة: يا أبا عبد الحميد من عدمنا ذلك منه، فلا نعدمه منك. كان مولده سنة إحدى وستين، وتوفي سنة إحدى وثلاثين ومائة. موقفه من المبتدعة: جاء في الإبانة عنه قال: لا تجالس ذا بدعة فيمرض قلبك، ولا تجالس مفتونا فإنه ملقن حجته. (¬2) إسحاق بن سويد بن هبيرة (¬3) (131 هـ) إسحاق بن سويد بن هبيرة العدوي التميمي البصري عم أبي نعامة العدوي. روى عن ابن عمر وابن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر وغيرهم، وعنه شعبة والحمادان وابن علية وجماعة. وثقه أحمد وابن معين والنسائي. ¬

(¬1) الحشر الآية (7). (¬2) الإبانة (2/ 3/443/ 391). (¬3) التاريخ الكبير للبخاري (1/ 389) وتهذيب الكمال (2/ 432 - 434) وتهذيب التهذيب (1/ 236) وتاريخ الإسلام (حوادث سنة121 - 140هـ/ص.371) والتقريب (ص.129) والوافي بالوفيات (8/ 414) والسير (6/ 47).

موقفه من الرافضة والخوارج:

قال الحافظ: صدوق تكلم فيه للنصب. روى له البخاري مقرونا بغيره ومسلم وأبو داود والنسائي. توفي في الطاعون في أول خلافة أبي العباس سنة إحدى وثلاثين بعد المائة الأولى. موقفه من الرافضة والخوارج: جاء في تاريخ ابن معين عن إسحاق أنه قال: برئت من الخوارج، لست منهم ... من الغزال منهم، وابن باب إذا اعتزلوا عن الإسلام جهلا ... حيارى محدثين من الشباب ومن قوم إذا ذكروا عليا ... يردون السلام على السحاب وممن دان دين أبي بلال ... عصائب يفترون على الكتاب فكل لست منه، وليس مني ... سيفصل بيننا يوم الحساب ولكني أحب بكل قلبي ... -وأعلم أن ذاك من الصواب- رسول الله والصديق حقا ... به (¬1) أرجو غدا حسن الثواب وحب الطيب الفاروق عندي ... كحب أخي الظما برد الشراب وعثمان بن عفان شهيد ... نقي لم يكن دنس الثياب (¬2) ¬

(¬1) أي بحبي إياهم وهو من الأعمال الصالحة التي يجوز التوسل بها. (¬2) تاريخ ابن معين (2/ 141) وأصول الاعتقاد (7/ 1307/2316).

إبراهيم بن ميسرة (132 هـ)

إبراهيم بن مَيْسَرَة (¬1) (132 هـ) إبراهيم بن ميسرة الطائفي الفقيه نزيل مكة من الموالي حدث عن أنس ابن مالك وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وطاووس بن كيسان، وعمرو ابن الشريد ومجاهد بن جبر، وجماعة. روى عنه أيوب السختياني وشعبة والسفيانان وابن جريج ومعمر وطائفة. عن سفيان بن عيينة قال: حدثنا إبراهيم بن ميسرة وكان من أصدق الناس وأوثقهم. مات قريبا من سنة ثنتين وثلاثين ومائة. موقفه من المبتدعة: جاء في أصول الاعتقاد عنه قال: من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام. (¬2) منصور بن المُعْتَمِر (¬3) (132 هـ) منصور بن المعتمر بن عبد الله بن ربيعة أبو عَتَّاب السلمي الكوفي الحافظ الثبت القدوة، أحد الأعلام. روى عن ربعي بن حراش وأبي وائل وإبراهيم النخعي وأبي حازم الأشجعي وسعيد بن جبير والحكم ابن عتيبة وآخرين. روى عنه شعبة بن الحجاج وحصين بن عبد الرحمن والسفيانان ¬

(¬1) الثقات لابن حبان (4/ 14) والجرح والتعديل (2/ 133 - 134) وتهذيب الكمال (2/ 221 - 223) والعقد الثمين (3/ 266 - 267) ومشاهير علماء الأمصار (87) وشذرات الذهب (1/ 189) والسير (6/ 123). (¬2) أصول الاعتقاد (1/ 157/273). (¬3) تهذيب الكمال (28/ 546 - 555) وحلية الأولياء (5/ 40 - 46) والجرح والتعديل (8/ 177 - 179) ومشاهير علماء الأمصار (166) وشذرات الذهب (1/ 189) والسير (5/ 402 - 412).

موقفه من المشركين:

والأعمش ومعمر وأيوب السختياني وطائفة. أكره على قضاء الكوفة فقضى شهرين، وكان صواما قواما. قال سفيان بمكة: ما خلفت بعدي بالكوفة آمن على الحديث من منصور. مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة. موقفه من المشركين: جاء في ذم الكلام عن الحجاج عن منصور بن المعتمر قال: ما هلك دين قط حتى تخلف فيهم المنانية قلت للحجاج: وما المنانية قال: الزنادقة (¬1). موقفه من الرافضة: عن مفضل بن مهلهل السعدي قال: قلت لمنصور بن المعتمر: أتناول السلطان وأنا صائم قال: لا قلت: أتناول هؤلاء الذين يتناولون أبا بكر وعمر قال: نعم. (¬2) موقفه من المرجئة: - جاء في السنة عنه: قال منصور بن المعتمر في شيء: لا أقول كما قالت المرجئة الضالة المبتدعة. (¬3) - وعن مفضل بن مهلهل عن منصور بن المعتمر قال: هم أعداء الله المرجئة والرافضة. (¬4) - وقال جرير بن عبد الحميد: وكان الأعمش ومنصور ومغيرة وليث ¬

(¬1) ذم الكلام (35)، والرد على الجهمية للدارمي (ص.9). (¬2) أصول الاعتقاد (7/ 1342/2390). (¬3) السنة لعبد الله (83) وهو في السنة للخلال (4/ 41/1125) والشريعة (1/ 309 - 310/ 338) وأصول الاعتقاد (5/ 1064/1818). (¬4) أصول الاعتقاد (5/ 1064/1817).

يونس بن ميسرة بن حلبس (132 هـ)

وعطاء بن السائب وإسماعيل بن أبي خالد وعمارة بن القعقاع والعلاء بن المسيب وابن شبرمة وسفيان الثوري وأبو يحيى صاحب الحسن وحمزة الزيات يقولون: نحن مؤمنون إن شاء الله ويعيبون على من لا يستثني. (¬1) يونس بن مَيْسَرَة بن حَلْبَس (¬2) (132 هـ) أبو عبيد وأبو حلبس الجَبْلاَنِي الأعمى عالم دمشق أخو أيوب ويزيد، طال عمره. حدث عن معاوية وابن عمرو وابن عمر وواثلة بن الأسقع وأبي مسلم الخولاني، والصنابحي وعدة. روى عنه: عمرو بن واقد، ومروان بن جناح والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وآخرون. قال أبو عبيد وأبو حسان الزيادي: بلغ مائة وعشرين سنة وكان يقرئ القرآن في الجامع، وله كلام نافع في الزهد والمعرفة. قال أبو حاتم: كان من خيار الناس وكان يقرئ في مسجد دمشق وكف بصره. قال رحمه الله: الزهد أن يكون حالك في المصيبة وحالك إذا لم تصب سواء، وأن يكون مادحك وذامك في الحق سواء. وقال: إذا تكلفت ما لا يعنيك لقيت ما يُعَنِّيك. عن الهيثم بن عمران: كنت جالسا عند يونس بن حلبس وكان عند غياب الشمس يدعو بدعوات فيها اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك. فكنت أقول في نفسي: من أين يرزق هذا الشهادة وهو أعمى؟ فلما دخلت المسودة دمشق قتل فبلغني أن اللذين ¬

(¬1) السنة لعبد الله (94) والإبانة (2/ 874/1194) والشريعة (1/ 300/313). (¬2) التاريخ الكبير (8/ 402) وتهذيب الكمال (32/ 544 - 548) وتهذيب التهذيب (11/ 448) والسير (5/ 230) وتاريخ الإسلام (حوادث 121 - 140، ص.576 - 577).

موقفه من القدرية:

قتلاه بكيا لما أخبرا بصلاحه، وذلك في سنة اثنتين وثلاثين ومائة. موقفه من القدرية: روى ابن بطة بسنده عن يونس بن ميسرة بن حلبس قال: اللهم إني أشهدك وكفى بك شهيدا، أشهدك شهادة توقفني عليها ثم تسألني عنها: أن النصارى أشركت المسيح، وأن اليهود أشركت عزيرا، وأن القدرية أشركت أنفسها والشيطان، ولو كان دماؤها في كأس؛ لطفأتها. (¬1) عبد الله بن طَاوُوس (¬2) (132 هـ) الإمام المحدث، الثقة، أبو محمد اليماني. سمع من أبيه وأكثر عنه، ومن عكرمة وعمرو بن شعيب وعكرمة بن خالد المخزومي وجماعة. ولم يأخذ عن أحد من الصحابة ويسوغ أن يعد في صغار التابعين لتقدم وفاته، كان من خيار عباد الله فضلا ونسكا ودينا. حدث عنه: ابن جريج، ومعمر، والثوري، وروح ابن القاسم، وسفيان بن عيينة وآخرون. قال معمر: كان من أعلم الناس بالعربية، وأحسنهم خلقا، ما رأينا ابن فقيه مثله. قال عبد الرزاق: عن معمر: قال لي أيوب: إن كنت راحلا إلى أحد فعليك بابن طاووس فهذا رحلتي وفي رواية: فهذه رحلتي إليه. مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة. ¬

(¬1) الإبانة (2/ 10/220/ 1795). (¬2) التاريخ الكبير (5/ 132) وتهذيب الكمال (15/ 130 - 133) وتهذيب التهذيب (5/ 267 - 268) والسير (6/ 103 - 104) والوافي بالوفيات (17/ 224) وشذرات الذهب (1/ 188).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: وقال ابن طاوس لابن له وتكلم رجل من أهل البدع: يا بني ادخل أصبعيك في أذنيك حتى لا تسمع ما يقول ثم قال اشدد اشدد. (¬1) موقفه من الجهمية: جاء في الإبانة عن معمر: كان ابن طاوس جالسا فجاء رجل من المعتزلة فجعل يتكلم، قال: فأدخل ابن طاوس أصبعيه في أذنيه، قال: وقال لابنه: أي بني، أدخل أصبعيك في أذنيك واشدد ولا تسمع من كلامه شيئا. قال معمر: يعني أن القلب ضعيف. (¬2) " التعليق: انظر رحمك الله فعل هؤلاء السلف مع المبتدعة، لا يتحملون سماع كلامهم فضلا عن محادثتهم، فضلا عن مودتهم، فضلا عن مساعدتهم، فضلا عن إيوائهم، فقد أدوا رحمهم الله ما عليهم. وأما نحن فالله يعلم حالنا والله المستعان. موقفه من الخوارج: عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال: سئل ابن عباس عن قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يحكم بما أنزل اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (¬3) قال: هي به ¬

(¬1) السنة لعبد الله (ص.24) وذم الكلام (ص.190). (¬2) الإبانة (2/ 3/446/ 400) وأصول الاعتقاد (1/ 152/248) وعبد الرزاق (20099). (¬3) المائدة الآية (44).

موقفه من القدرية:

كفر، قال ابن طاوس: ليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله. (¬1) موقفه من القدرية: روى ابن بطة بسنده عن معمر؛ قال: كنت عند ابن طاوس في غدير له؛ إذ أتاه رجل يقال له صالح يتكلم في القدر فتكلم بشيء منه، فأدخل ابن طاوس أصبعيه في أذنيه وقال لابنه: أدخل أصبعيك في أذنيك واشدد حتى لا تسمع من قوله شيئا؛ فإن القلب ضعيف. (¬2) عطاء الخراساني (¬3) (135 هـ) عطاء بن أبي مسلم عبد الله الخراساني المحدث الواعظ من كبار العلماء أبو أيوب ويقال أبو عثمان، وأبو محمد، وأبو صالح، وهو من أهل سمرقند وقيل من أهل بلخ، وولاؤه للمهلب بن أبي صفرة الأزدي. أرسل عن مجموعة من الصحابة منهم أنس بن مالك وأبو الدرداء وابن عباس والمغيرة بن شعبة وأبو هريرة. روى عن سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعطاء بن أبي رباح وطائفة. روى عنه سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج ومالك بن أنس وعدد كثير. قال عطاء: إن أوثق عملي في نفسي نشري العلم. وقال عبد الرحمن بن يزيد: كنا نغزو مع عطاء الخراساني فكان ¬

(¬1) الإبانة (2/ 6/736/ 1009). (¬2) الإبانة (2/ 10/215/ 1778). (¬3) طبقات ابن سعد (7/ 369) وتاريخ خليفة (410) والجرح والتعديل (6/ 334 - 335) والسير (6/ 140 - 143) وتهذيب الكمال (20/ 106 - 117) وميزان الاعتدال (3/ 73 - 75) وشذرات الذهب (1/ 192 - 193).

موقفه من المبتدعة:

يحيي الليل صلاة إلا نومة السحر وكان يعظنا ويحضنا على التهجد. قال ابنه عثمان: مات أبي سنة خمس وثلاثين ومائة. موقفه من المبتدعة: جاء في أصول الاعتقاد عن الأوزاعي عن عطاء الخرساني قال: ما يكاد الله أن يأذن لصاحب بدعة بتوبة. (¬1) موقفه من الخوارج والقدرية: جاء في تهذيب الكمال عن الأوزاعي قال: حدثنا عطاء الخراساني، قال: ثلاثة لم تكن منهن واحدة في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لم يحلف أحد منهم على قسامه، ولم يكن فيهم حروري، ولم يكن فيهم مكذب بقدر. (¬2) ربيعة بن أبي عبد الرحمن "ربيعة الرأي" (¬3) (136 هـ) ربيعة بن أبي عبد الرحمن فَرُّوخ الإمام مفتي المدينة وعالم الوقت القرشي التيمي مولى آل المنكدر، المشهور بربيعة الرأي، أبو عثمان ويقال أبو عبد الرحمن المدني. سمع أنس بن مالك والسائب بن يزيد وسعيد بن المسيب وطائفة. روى عنه: السفيانان وشعبة وحماد بن سلمة وسليمان بن بلال ومالك بن أنس ومسعر والليث بن سعد وخلق سواهم. عن عبد العزيز بن أبي ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (1/ 159/283) وذم الكلام (ص.194) والحلية (5/ 198). (¬2) تهذيب الكمال (20/ 113). (¬3) تاريخ بغداد (8/ 420 - 427) وتهذيب الكمال (9/ 123 - 130) وتذكرة الحفاظ (1/ 157 - 158) والسير (6/ 89 - 96) ووفيات الأعيان (2/ 288 - 290) وميزان الاعتدال (2/ 44) ومشاهير علماء الأمصار (81) وشذرات الذهب (1/ 194) والوافي بالوفيات (14/ 94 - 95).

موقفه من المبتدعة:

سلمة قال: لما جئت العراق جاءني أهل العراق فقالوا: حدثنا عن ربيعة الرأي، قال: فقلت: يا أهل العراق، تقولون ربيعة الرأي والله ما رأيت أحدا أحفظ لسنة منه. قال مالك بن أنس: ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة بن أبي عبد الرحمن. عن ابن عيينة قال: بكى ربيعة يوما فقيل: ما يبكيك؟ قال: رياء حاضر وشهوة خفية والناس عند علمائهم كصبيان في حجور أمهاتهم، إن أمروهم ائتمروا، وإن نهوهم انتهوا. وقال: العلم وسيلة كل فضيلة. توفي سنة ست وثلاثين ومائة. موقفه من المبتدعة: عن ابن وهب قال: حدثني مالك، قال: أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة فقال: ما يبكيك؟ وارتاع لبكائه، فقال له: أدخلت عليك مصيبة؟ فقال: لا، ولكن استفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم. (¬1) " التعليق: قال أبو بكر الخطيب: ينبغي لإمام المسلمين أن يتصفح أحوال المفتين، فمن كان يصلح للفتوى أقره عليها، ومن لم يكن من أهلها منعه منها، وتقدم إليه بأن لا يتعرض لها وأوعده بالعقوبة، إن لم ينته عنها. وقد كان الخلفاء من بني أمية ينصبون للفتوى بمكة في أيام الموسم قوما يعينونهم، ويأمرون بأن لا يستفتى غيرهم. ¬

(¬1) الفقيه والمتفقه (2/ 324) والمعرفة والتاريخ (1/ 670) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 1225/2410).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: عن سفيان بن عيينة قال: سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله: {الرَّحْمَنُ على الْعَرْشِ استوى} (¬1) قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق. (¬2) موقفه من القدرية: جاء في سير أعلام النبلاء قال أبو ضمرة: وقف ربيعة على قوم يتذاكرون القدر فقال ما معناه: إن كنتم صادقين فلما في أيديكم أعظم مما في يدي ربكم إن كان الخير والشر بأيديكم. (¬3) - وجاء في أصول الاعتقاد: قال غيلان لربيعة: يا أبا عثمان أيرضى الله عز وجل أن يعصى؟ قال له ربيعة: أفيعصى قسرا؟ (¬4) قال شيخ الإسلام معلقا عليه: فكأنما ألقَمَهُ حجرا؛ فإن قوله: يحب أن يعصى لفظ فيه إجمال، وقد لا يتأتى في المناظرة تفسير المجملات خوفا من لدد الخصم فيؤتى بالواضحات، فقال: أفتراه يعصى قسرا؟ فإن هذا إلزام له بالعجز الذي هو لازم للقدرية، ولمن هو شر منهم من الدهرية الفلاسفة ¬

(¬1) طه الآية (5). (¬2) أصول الاعتقاد (3/ 441 - 442/ 665) وتاريخ الثقات للعجلي (158) والسير (6/ 90) ودرء التعارض (6/ 264). (¬3) السير (6/ 90) والإبانة (2/ 10/259/ 1871). (¬4) أصول الاعتقاد (4/ 760/1265) والإبانة (2/ 10/259 - 260/ 1872) وفتح البر (2/ 279).

زيد بن أسلم (136 هـ)

وغيرهم. (¬1) - وفيه عنه رضي الله عنه قال: إنما أخشى على هذه الأمة ثلاثا: العصبية والقدرية والرواية فإني أراها تزيد. (¬2) - قال الحافظ ابن عبد البر: وقد روي أن غيلان القدري، وقف بربيعة ابن أبي عبد الرحمن فقال له: يا أبا عثمان، أرأيت الذي منعني الهدى، ومنحني الردى، أأحسن إلي أم أساء؟ فقال ربيعة: إن كان منعك شيئا هو لك، فقد ظلمك، وإن كان فضله يؤتيه من يشاء، فما ظلمك شيئا. (¬3) زيد بن أسلم (¬4) (136 هـ) زيد بن أَسْلَم الإمام الحجة القدوة أبو أسامة العَدَوِي العمري المدني الفقيه مولى عمر بن الخطاب ويقال: أبو عبد الله. حدث عن عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وسلمة بن الأكوع وأنس بن مالك وأبيه أسلم وطائفة. روى عنه السفيانان ومالك بن أنس وسليمان بن بلال وعبد الملك ابن جريج وخلق كثير. قال يعقوب بن شيبة: ثقة من أهل الفقه والعلم، وكان عالما بتفسير القرآن. وقال محمد بن عجلان: ما هبت أحدا قط هيبتي زيد ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (18/ 140). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 760/1266) وبنحوه في الكفاية (33). (¬3) فتح البر (2/ 278). (¬4) الوافي بالوفيات (15/ 23 - 24) والجرح والتعديل (3/ 555) وحلية الأولياء (3/ 221 - 229) وتهذيب الكمال (10/ 12 - 18) والسير (5/ 316 - 317) وتذكرة الحفاظ (1/ 132 - 133) والمعرفة والتاريخ (1/ 675) ومشاهير علماء الأمصار (80) وشذرات الذهب (1/ 194).

موقفه من المبتدعة:

بن أسلم. وكانت له حلقة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. من أقواله: انظر من كان رضاه عنك في إحسانك إلى نفسك وكان سخطه عليك في إساءتك إلى نفسك، فكيف تكون مكافأتك إياه. وقال: استعن بالله يغنك الله عما سواه، ولا يكونن أحد أغنى بالله منك ولا يكونن أحد أفقر إلى الله منك. توفي سنة ست وثلاثين ومائة. موقفه من المبتدعة: قيل لزيد بن أسلم عمن يا أبا أسامة؟ قال ما كنا نجالس السفهاء ولا نتحمل عنهم. (¬1) موقفه من المرجئة: وجاء في الإيمان لابن أبي شيبة عنه قال: لا بد لأهل هذا الدين من أربع: دخول في دعوة الإسلام، ولا بد من الإيمان وتصديق بالله وبالمرسلين أولهم وآخرهم وبالجنة وبالنار، وبالبعث بعد الموت ولا بد من أن تعمل عملا تصدق به إيمانك. (¬2) موقفه من القدرية: - جاء في أصول الاعتقاد عنه قال: والله ما قالت القدرية كما قال الله عز وجل ولا كما قال أهل الجنة ولا كما قال أهل النار ولا كما قال أخوهم إبليس. ¬

(¬1) الكفاية (ص.116). (¬2) الإيمان لابن أبي شيبة (136) والمصنف (6/ 172/30445).

قال الله عز وجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬1). وقالت الملائكة: {لا عِلْمَ لَنَا إِلًّا مَا عَلَّمْتَنَا} (¬2). وقال شعيب: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} (¬3). وقال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} (¬4). وقال أهل النار: {غَلَبَتْ علينا شِقْوَتُنَا} (¬5) وقال أخوهم إبليس: {رب بما أغويتني} (¬6). (¬7) - وروى ابن بطة بسنده عن أبي غسان: سمعت زيد بن أسلم يقول: ما أعلم قوما أبعد من الله عز وجل من قوم يخرجونه من مشيئته، ويبرئونه من قدرته، وينكفونه عما لم ينكف عنه نفسه. (¬8) - وفي الإبانة عنه أيضا قال: القدر قدرة الله، فمن كذب بالقدر؛ فقد جحد قدرة الله عز وجل. (¬9) ¬

(¬1) التكوير الآية (29). (¬2) البقرة الآية (32). (¬3) الأعراف الآية (89). (¬4) الأعراف الآية (43). (¬5) المؤمنون الآية (106). (¬6) الحجر الآية (39). (¬7) أصول الاعتقاد (3/ 628 - 629/ 1012) والإبانة (1/ 8/281 - 282/ 1303) والشريعة (1/ 428 - 429/ 525). (¬8) الإبانة (2/ 10/222/ 1804) والشريعة (1/ 428/524). (¬9) الإبانة (2/ 10/222/ 1805) والشريعة (1/ 428/523).

مغيرة بن مقسم (136 هـ)

مغيرة بن مقسم (¬1) (136 هـ) الإمام العلامة الثقة، مغيرة بن مِقْسَم أبو هشام الضبي مولاهم، الكوفي الأعمى، الفقيه، يلحق بصغار التابعين. حدث عن أبي وائل، ومجاهد والنخعي والشعبي، ومعبد بن خالد، وسماك بن حرب وعدة. روى عنه: سليمان التيمي أحد التابعين وشعبة والثوري وزائدة وأبو عوانة، وجريج بن عبد الحميد وابن عياش، وخلق. قال أحمد بن حنبل: مغيرة صاحب سنة ذكي حافظ. قال أبو بكر بن عياش: كان مغيرة من أفقههم، ما رأيت أحدا أفقه منه، فلزمته. قال عن نفسه: ما وقع في مسامعي شيء فنسيته. مات سنة ست وثلاثين ومائة. موقفه من الرافضة: عن مغيرة قال: كان يقال: شتم أبي بكر وعمر من الكبائر. (¬2) موقفه من المرجئة: - جاء في الإبانة: عن أبي بكر بن عياش قال: قال مغيرة: قال محمد بن السائب: قوموا بنا إلى المرجئة نسمع كلامهم، قال: فما رجع حتى علقه. (¬3) - وقال جرير: وكان المغيرة يقول: نا حماد قبل أن يصير مرجئا وربما ¬

(¬1) التاريخ الكبير (4/ 322) وتهذيب الكمال (28/ 397 - 403) وتذكرة الحفاظ (1/ 143) وتهذيب التهذيب (10/ 269) والسير (6/ 10 - 13) وشذرات الذهب (1/ 191). (¬2) أصول الاعتقاد (7/ 1341/2387). (¬3) الإبانة (2/ 3/462/ 449).

عطاء بن السائب (136 هـ)

قال: حدثنا حماد من قبل أن يفسد. (¬1) - وعن جرير عن مغيرة قال: لم يزل في الناس بقية حتى دخل عمرو ابن مرة في الإرجاء فتهافت الناس فيه. (¬2) عطاء بن السائب (¬3) (136 هـ) عطاء بن السَّائِب، الإمام الحافظ محدث الكوفة أبو السائب، وقيل أبو زيد وقيل أبو يزيد وأبو محمد الكوفي. حدث عن أبيه وعن عبد الله بن أبي أوفى، وعبد الرحمن بن أبي ليلى وجماعة. وعنه إسماعيل بن أبي خالد والثوري وابن جريج وأبو عوانة وشعبة وجماعة. وكان من كبار العلماء لكنه ساء حفظه قليلا في آخر عمره. قال النسائي: ثقة في حديثه القديم إلا أنه تغير، ورواية حماد بن زيد وشعبة عنه جيدة. توفي سنة ست وثلاثين ومائة. موقفه من المرجئة: تقدم معنا في مواقف منصور بن المعتمر (سنة 132هـ) أن عطاء بن السائب كان من جملة أهل العلم الذين يقولون بالاستثناء ويعيبون على من لا يستثني. ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (5/ 1074/1842). (¬2) أصول الاعتقاد (5/ 1074 - 1075/ 1843). (¬3) السير (6/ 110 - 114) وتهذيب الكمال (20/ 86 - 94) وشذرات الذهب (1/ 194) وتاريخ الإسلام (حوادث 121 - 140/ص.487 - 489).

سعيد بن جمهان (136 هـ)

سعيد بن جمهان (¬1) (136 هـ) سعيد بن جمهان الأسلمي أبو حفص البصري، روى عن سفينة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعبد الله بن أبي أوفى وعبد الرحمن بن أبي بكرة وآخرين. وروى عنه حماد بن سلمة وسليمان الأعمش والعوام بن حوشب. وثقه أحمد وابن معين وأبو داود. قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. روى له الأربعة. مات بالبصرة سنة ست وثلاثين بعد المائة الأولى للهجرة. موقفه من الخوارج: حدثني سعيد بن جمهان قال: كنا نقاتل الخوارج، وفينا عبد الله بن أبي أوفى وقد لحق غلام له بالخوارج، وهم من ذلك الشط ونحن من ذا الشط، فناديناه: أبا فيروز أبا فيروز، ويحك هذا مولاك عبد الله بن أبي أوفى. قال: نعم الرجل هو لو هاجر. قال: ما يقول عدو الله؟ قال: قلنا: يقول: نعم الرجل هو لو هاجر. قال: فقال: أهجرة بعد هجرتي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: طوبى لمن قتلهم وقتلوه. (¬2) خُصَيْف بن عبد الرحمن (¬3) (137 هـ) الإمام الفقيه خُصَيْف بن عبد الرحمن أبو عون، الخضرمي الأموي، ¬

(¬1) التاريخ الكبير للبخاري (3/ 462) وتاريخ الإسلام (حوادث سنة 121 - 140هـ/ص.437 - 438) وتهذيب الكمال (10/ 376 - 381) وتهذيب التهذيب (4/ 14) وميزان الاعتدال (2/ 131). (¬2) المسند (4/ 357) والسنة لابن أبي عاصم (906) واللالكائي (7/ 1305/2312). (¬3) طبقات ابن سعد (7/ 180) والتاريخ الكبير (3/ 228) وتهذيب الكمال (8/ 257 - 261) وتهذيب التهذيب (3/ 143 - 144) والسير (6/ 145 - 146) وشذرات الذهب (1/ 206).

موقفه من الجهمية:

مولاهم الجزري الحراني. رأى أنس بن مالك وسمع مجاهدا وسعيد بن جبير وعكرمة وطبقتهم. روى عنه السفيانان وشريك ومحمد بن سلمة ومعمر بن سليمان وآخرون. قال أبو فروة: ولي خصيف بيت المال. قال أبو زرعة: هو ثقة. قال ابن أبي نجيح: كان من صالحي الناس. وقال الإمام أحمد: ليس بالقوي، تكلم في الإرجاء. وقال الذهبي: حديثه يرتقي إلى الحسن. مات سنة سبع وثلاثين ومائة كما قال البخاري. موقفه من الجهمية: جاء في السنة لعبد الله: عن علي بن مضاء قال: سألت عتاب بن بشير عن القرآن فقال: سألت خصيفا عن القرآن فقال: القرآن كلام الله وليس بمخلوق قلت: وأي شيء تقول أنت؟ قال: أقول كما قال يعني عتابا. (¬1) يزيد بن صهيب الفقير (¬2) (في حدود 140 هـ) أبو عثمان يزيد بن صهيب الكوفي ثم المكي الفقير. قيل له الفقير لأنه أصيب في فقار ظهره فكان يألم منه حتى ينحني له. ثقة مقل. حدث عن ابن عمر وجابر وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم. روى عنه عبد الكريم الجزري ومسعر وآخرون. وفد على عمر بن عبد العزيز. وهو شيخ الإمام أبي حنيفة. روى له الستة إلا الترمذي. وثقه ابن معين وأبو زرعة والنسائي. من ¬

(¬1) السنة لعبد الله (67). (¬2) التاريخ الكبير (8/ 342) وتهذيب الكمال (32/ 163 - 165) وتهذيب التهذيب (11/ 338) والتقريب (ص.1076).

موقفه من الخوارج:

الطبقة الرابعة كما في التقريب. موقفه من الخوارج: عن يزيد الفقير قال: كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج. فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج، ثم نخرج على الناس. قال: فمررنا على المدينة، فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم -جالس إلى سارية- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فإذا هو قد ذكر الجهنميين قال: فقلت له: يا صاحب رسول الله، ما هذا الذي تحدثون؟ والله يقول: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} (¬1) و {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} (¬2) فما هذا الذي تقولون؟ قال فقال: أتقرأ القرآن؟ قلت نعم، قال: فهل سمعت بمقام محمد عليه السلام (يعني الذي يبعثه الله فيه)؟ قلت: نعم، قال فإنه مقام محمد - صلى الله عليه وسلم - المحمود الذي يخرج الله به من يخرج. قال: ثم نعت وضع الصراط ومر الناس عليه. قال: وأخاف أن لا أكون أحفظ ذاك. قال: غير أنه قد زعم أن قوما يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها. قال: يعني فيخرجون كأنهم عيدان السماسم. قال: فيدخلون نهرا من أنهار الجنة فيغتسلون فيه فيخرجون كأنهم القراطيس. فرجعنا، قلنا: ويحكم! أترون الشيخ يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فرجعنا، فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد أو كما قال. (¬3) قال القاضي عياض: وقوله بعد (فرجعنا، فوالله ما خرج منا غير رجل ¬

(¬1) آل عمران الآية (192). (¬2) السجدة الآية (20). (¬3) صحيح مسلم (1/ 179/191).

داود بن أبي هند (140 هـ)

واحد) أو كما قال: يعني: أن الله نفعهم بما حدثهم به جابر، وصرفهم عن الخروج مع الخوارج، لما كان خامرهم من محبة رأيهم. (¬1) داود بن أبي هند (¬2) (140 هـ) الإمام الحافظ الثقة أبو محمد داود بن أبي هند، واسم أبي هند دينار بن عُذَافِر الخراساني ثم البصري من موالي بني قُشَيْر. حدث عن: سعيد بن المسيب، وأبي عثمان النهدي، وعامر الشعبي، وأبي منيب الجرشي ومحمد بن سيرين وأبي نضرة ومكحول وعدة ورأى أنس بن مالك. حدث عنه سفيان وشعبة والحمادان وهشيم وابن علية والقطان ويزيد بن هارون وخلق كثير. قال النسائي ويحيى بن معين وغيرهما: ثقة، وقال حماد بن زيد: ما رأيت أحدا أفقه من داود. وقال ابن عيينة: عجبا لأهل البصرة يسألون عثمان البتي وعندهم داود بن أبي هند. قال ابن جريج: ما رأيت مثل داود بن أبي هند إن كان ليقرع العلم قرعا. قال محمد بن أبي عدي: أقبل علينا داود فقال: يا فتيان أخبركم لعل بعضكم أن ينتفع به، كنت وأنا غلام أختلف إلى السوق، فإذا انقلبت إلى البيت، جعلت على نفسي أن أذكر الله إلى مكان كذا وكذا، فإذا بلغت إلى ذلك المكان، جعلت على نفسي أن أذكر الله كذا وكذا حتى آتي المنزل. ومناقبه كثيرة. توفي رحمه الله سنة أربعين ومائة. ¬

(¬1) إكمال المعلم (1/ 571). (¬2) تاريخ خليفة (418) والتاريخ الكبير (3/ 231) وتهذيب الكمال (8/ 461 - 466) وتذكرة الحفاظ (1/ 146 - 148) وتهذيب التهذيب (3/ 204 - 205) والسير (6/ 376 - 379) وشذرات الذهب (1/ 208).

موقفه من القدرية:

موقفه من القدرية: - جاء في الإبانة عن داود بن أبي هند قال: اشتق قول القدرية من الزندقة وهم أسرع الناس ردة. (¬1) - وفيها عن داود بن أبي هند قال: ما فشت القدرية بالبصرة حتى فشا من أسلم من النصارى. (¬2) أبو حازم سلمة بن دينار الأعرج (¬3) (140 هـ) الإمام القدوة الواعظ شيخ المدينة النبوية أبو حازم سلمة بن دينار المدني المخزومي مولاهم الأعرج، التمار، القاص الزاهد. ولد في أيام ابن الزبير وابن عمر. روى عن سهل بن سعد وأبي أمامة بن سهل وابن المسيب وابن أبي قتادة وأم الدرداء، وابن المنكدر وعدة. روى عنه: ابن شهاب والحمادان والسفيانان ومالك والدراوردي وعبد العزيز بن أبي حازم وخلق سواهم. وثقه ابن معين وأحمد وأبو حاتم وقال ابن خزيمة: ثقة لم يكن في زمانه مثله. قال رحمه الله: ليس للملوك صديق ولا للحسود راحة، والنظر في العواقب تلقيح العقول. وقال أيضا: لا تكون عالما حتى يكون فيك ثلاث خصال: لا تبغ على من فوقك ولا تحقر من دونك ولا تأخذ على علمك دنيا. قال ¬

(¬1) الإبانة (2/ 11/294/ 1948). (¬2) الإبانة (2/ 11/300/ 1959). (¬3) التاريخ الكبير (2/ 78) وتهذيب الكمال (11/ 272 - 279) وتذكرة الحفاظ (1/ 133) وتهذيب التهذيب (4/ 143) والسير (6/ 96 - 103) وشذرات الذهب (1/ 208).

موقفه من المبتدعة:

عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ما رأيت أحدا الحكمة أقرب إلى فيه من أبي حازم. وأرسل إليه بعض الأمراء، فأتاه وعنده الزهري والإفريقي، وغيرهما، فقال: تكلم يا أبا حازم فقال أبو حازم: إن خير الأمراء من أحب العلماء، وإن شر العلماء من أحب الأمراء. مات في خلافة أبي جعفر سنة أربعين ومائة. موقفه من المبتدعة: عن زكريا بن منظور قال: سمعت أبا حازم يقول: أدركت القراء وهم القراء، وليس هم اليوم بالقراء ولكنهم الخراء. (¬1) موقفه من القدرية: - جاء في الإبانة عن أبي حازم: إن الله عز وجل علم قبل أن يكتب وكتب قبل أن يخلق؛ فمضى الخلق على علمه وكتابه. (¬2) - وفيها أيضا عنه قال في قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فجورها وَتَقْوَاهَا} (¬3) قال: الفاجرة ألهمها الفجور، والتقية ألهمها التقوى. (¬4) ¬

(¬1) ابن وضاح (ص.133/ 181) والحلية (3/ 246). (¬2) الإبانة (2/ 10/229 - 230/ 1828). (¬3) الشمس الآية (8). (¬4) الإبانة (1/ 8/278/ 1296) والشريعة (1/ 434/543) والسنة لعبد الله (134).

يونس بن عبيد (140 هـ)

يونس بن عبيد (¬1) (140 هـ) يونس بن عبيد بن دينار أبو عبد الله العبدي مولاهم البصري مولى عبد القيس، من صغار التابعين وفضلائهم. رأى أنس بن مالك وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي، وحدث عن الحسن البصري ومحمد بن سيرين وحميد بن هلال وثابت البناني وعكرمة مولى ابن عباس وطائفة. روى عنه سفيان الثوري وشعبة والحمادان وإسماعيل بن علية ويزيد بن زريع وابنه عبد الله وخلق كثير. كان ثقة ثبتا حافظا، قال هشيم: كان أيوب إذا رأى يونس بن عبيد قال: هذا سيدنا. وكان يحدث ثم يقول: أستغفر الله، أستغفر الله. من أقواله: خصلتان إذا صلحتا من العبد صلح ما سواهما من أمره: صلاته ولسانه. وقال: ليس شيء أعز من شيئين: درهم طيب ورجل يعمل على سنة. مات سنة أربعين ومائة. موقفه من المبتدعة: - جاء في سير أعلام النبلاء عن حماد بن زيد قال: قال يونس بن عبيد: ثلاثة احفظوهن عني: لا يدخل أحدكم على سلطان يقرأ عليه القرآن، ولا يخلون أحدكم مع امرأة يقرأ عليها القرآن، ولا يمكن أحدكم سمعه من أصحاب الأهواء. (¬2) ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (7/ 260) وتاريخ خليفة (261و418) والجرح والتعديل (9/ 242) ومشاهير علماء الأمصار (150) والسير (6/ 288 - 296) وحلية الأولياء (3/ 15 - 27) وتهذيب الكمال (32/ 517 - 534) وتذكرة الحفاظ (1/ 145 - 146) وشذرات الذهب (1/ 207). (¬2) السير (6/ 293) والإبانة (2/ 3/442/ 386) والحلية (3/ 21).

موقفه من الجهمية:

- جاء في أصول الاعتقاد عنه قال: لا تجالس سلطانا ولا صاحب بدعة. (¬1) - وجاء في الحلية لأبي نعيم عنه قال: أصبح من إذا عرف السنة عرفها غريبا وأغرب منه الذي يعرفها. (¬2) - عن حماد بن زيد قال: سمعت يونس بن عبيد يقول: يوشك لعينك أن ترى ما لم تر، ويوشك لأذنك أن تسمع ما لم يسمع، ولا تخرج من طبقة إلا دخلت فيما هو دونها حتى يكون آخر ذلك الجواز على الصراط. (¬3) - ورأى يونس بن عبيد ابنه -وقد خرج من عند صاحب هوى- فقال: يا بني، من أين خرجت؟ قال: من عند عمرو بن عبيد. قال: يا بني، لأن أراك خرجت من بيت هيتي أحب إلي من أن أراك خرجت من بيت فلان وفلان، ولأن تلقى الله زانيا سارقا فاسقا خائنا أحب إلي من أن تلقاه بقول أهل الأهواء. (¬4) موقفه من الجهمية: - جاء في السنة لعبد الله بن أحمد بالسند إلى عدي بن الفضل قال: كلمت يونس بن عبيد في عبد الوارث فقال: رأيته على باب عمرو بن عبيد جالسا لا تذكره لي. (¬5) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (1/ 153/253) والإبانة (2/ 3/442/ 388). (¬2) الحلية (3/ 21) وأصول الاعتقاد (1/ 64/21) والإبانة (1/ 1/185/ 20) والشريعة (3/ 581 - 582/ 2113). (¬3) الإبانة (1/ 1/182 - 183/ 17). (¬4) طبقات الحنابلة (2/ 38) وشرح السنة للبربهاري (ص.124 - 125). (¬5) السنة لعبد الله (152).

موقفه من القدرية:

- وجاء في الفتاوى الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية: قال الطبراني في كتاب السنة: حدثنا الحسن بن علي المعمري حدثنا محمد بن بكار العبسي حدثنا عبد العزيز الرقاشي سمعت يونس بن عبيد يقول: فتنة المعتزلة على هذه الأمة أشد من فتنة الأزارقة، لأنهم يزعمون أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضلوا وأنهم لا تجوز شهادتهم بما أحدثوا، ويكذبون بالشفاعة والحوض وينكرون عذاب القبر، أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم. (¬1) - وزاد أبو نعيم في الحلية: ويجب على الإمام أن يستتيبهم، فإن تابوا وإلا نفاهم من ديار المسلمين. (¬2) وقال أبو نعيم في الحلية: حدثنا أبو محمد بن حيان قال: ثنا أحمد بن نصر قال ثنا أحمد الدورقى قال ثنا خالد بن خداش قال ثنا خويل بن واقد الصفار قال: سمعت رجلا سأل يونس بن عبيد فقال: جار لي معتزلي أعوده؟ قال: أما لحسبة فلا. قلت: مات، أصلي على جنازته؟ قال أما لحسبة فلا. (¬3) موقفه من القدرية: - جاء في أصول الاعتقاد قال: أدركت البصرة وما بها قدري إلا سنسويه ومعبد الجهني وآخر ملعون في بني عوافة. (¬4) - وجاء في السير: قال سعيد بن عامر: حدثنا جسر أبو جعفر قلت ليونس: مررت بقوم يختصمون في القدر. فقال: لو همتهم ذنوبهم ما ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى (5/ 208 - 209). (¬2) الحلية (3/ 21). (¬3) الحلية (3/ 21). (¬4) أصول الاعتقاد (4/ 826/1397).

ثابت بن عجلان (ما بين 131 هـ و140 هـ)

اختصموا في القدر. (¬1) - وجاء في أصول الاعتقاد بالسند عن خويل -ختن شعبة- قال: كنت عند يونس بن عبيد فجاء رجل فقال: يا أبا عبد الله تنهانا عن مجالسة عمرو وقد دخل عليه ابنك؟ قال: ابني؟ قال: نعم. فتغيظ الشيخ قال: فلم أبرح حتى جاء ابنه فقال: يا بني قد عرفت رأيي في عمرو ثم تدخل عليه؟ قال: كان معي فلان قال فجعل يعتذر. فقال يونس: أنهاك عن الزنا والسرقة وشرب الخمر. ولأن تلقى الله عز وجل بهن أحب إلي من أن تلقاه برأي عمرو وأصحاب عمرو. - زاد الخطيب في تاريخه: قال: فقال عمرو: ليت القيامة قامت بي وبك الساعة. فقال يونس بن عبيد {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا} (¬2).اهـ (¬3) ثابت بن عجلان (¬4) (ما بين 131 هـ و140 هـ) الشيخ الإمام ثابت بن عَجْلاَن الأنصاري السلمي، أبو عبد الله الشامي، الحمصي، وقيل إنه من أهل أرمينية. روى عن إبراهيم النخعي وأنس بن ¬

(¬1) السير (6/ 293). (¬2) الشورى الآية (18). (¬3) أصول الاعتقاد (4/ 817 - 818/ 1378) والإبانة (2/ 3/466 - 467/ 464) والشريعة (3/ 582 - 583/ 2115) والسير (6/ 294) ونحوه في تاريخ بغداد (12/ 173). (¬4) تاريخ دمشق (11/ 132 - 136) وتهذيب الكمال (4/ 363 - 366) وميزان الاعتدال (1/ 364 - 365) وتهذيب التهذيب (2/ 10) والتقريب (1/ 146) وتاريخ الإسلام (حوادث 121 - 140هـ/ص.390).

موقفه من المبتدعة:

مالك وأيوب السختياني والحسن البصري وسعيد بن جبير ومجاهد، وروى عنه إسماعيل بن عياش وبقية بن الوليد ومحمد بن مهاجر ومسكين بن بكير وليث بن أبي سليم وغيرهم. وثقه ابن معين، وقال النسائي وأبو حاتم: لا بأس به. قال ابن حجر: صدوق من الخامسة. وذكره الذهبي في الطبقة الرابعة عشرة المؤرخة ما بين 131هـ و140هـ من تاريخ الإسلام. موقفه من المبتدعة: عن بقية قال: حدثنا ثابت بن العجلان قال: أدركت أنس بن مالك وابن المسيب والحسن البصري وسعيد بن جبير والشعبي وإبراهيم النخعي وعطاء ابن أبي رباح وطاووس (¬1) ومجاهد وعبد الله ابن أبي مليكة والزهري ومكحول والقاسم أبا عبد الرحمن وعطاء الخراساني وثابت البناني والحكم بن عتبة وأيوب السختياني وحماد ومحمد بن سيرين وأبا عامر -وكان قد أدرك أبا بكر الصديق- ويزيد الرقاشي وسليمان بن موسى: كلهم يأمروني في الجماعة وينهوني عن أصحاب الأهواء، قال بقية: ثم بكى وقال: أي ابن أخي ما من عمل أرجأ ولا أوثق من مشي إلى هذا المسجد يعني مسجد الباب. (¬2) ¬

(¬1) كذا في الأصل بالرفع والصواب فيها النصب، ومثله: مجاهد ومكحول وثابت وحماد. (¬2) أصول الاعتقاد (1/ 149 - 150/ 239).

عمارة بن القعقاع (ما بين 131 هـ و140 هـ)

عمارة بن القعقاع (¬1) (ما بين 131 هـ و140 هـ) عُمَارَة بن القَعْقَاع بن شُبْرُمَة الكوفي. روى عن أبي زرعة بن عمرو البجلي، وأخنس بن خليفة. وحدث عنه: السفيانان، وشريك، وجرير. قال الذهبي: كان أسن من عمه عبد الله بن شبرمة وكان يفضل عليه. وذكره في تاريخه ضمن الطبقة الرابعة عشرة المؤرخة ما بين 131هـ و140هـ. موقفه من المرجئة: تقدم معنا في مواقف منصور بن المعتمر (ت 132هـ) أن عمارة بن القعقاع كان من جملة أهل العلم الذين يقولون بالاستثناء ويعيبون على من لا يستثني. شمر بن عطية (¬2) (ما بين 131 هـ و140 هـ) شِمْر بن عَطِية الأسدي الكاهلي الكوفي. روى عن أبي وائل شقيق بن سلمة وسعيد بن جبير والمغيرة بن سعد بن الأخرم وهلال بن يساف. وروى عنه أشعث بن إسحاق القمي وبدر بن الخليل الأسدي وعاصم بن بهدلة وفطر بن خليفة وغيرهم. وثقه النسائي وابن معين والدارقطني وغيرهم. قال ابن حبان: مات في ولاية خالد بن عبد الله على العراق. وقال ابن حجر: صدوق من السادسة. وذكره الذهبي في تاريخه ضمن الطبقة الرابعة عشرة ¬

(¬1) السير (6/ 140) وتهذيب الكمال (21/ 262) وتهذيب التهذيب (7/ 423) وطبقات ابن سعد (6/ 351) وتاريخ الإسلام (حوادث 121 - 140/ص.502 - 503). (¬2) الثقات لابن حبان (6/ 450) وطبقات ابن سعد (6/ 310) وتاريخ الإسلام (حوادث 101 - 120/ص.380) وتهذيب الكمال (12/ 560 - 561) وتهذيب التهذيب (4/ 364 - 365) والتقريب (1/ 422).

موقفه من المبتدعة:

المؤرخة ما بين 131هـ و140هـ. موقفه من المبتدعة: عن جعفر بن أبي المغيرة: عن شمر بن عطية في قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (¬1) قال: لمن تاب من الشرك وآمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأدى الفرائض ثم اهتدى قال: للسنة. (¬2) أبو عون الأنصاري (¬3) (من الخامسة) عبد الله بن أبي عبد الله أبو عون الأنصاري الشامي. روى عن أبي إدريس الخولاني، وسعيد بن المسيب. روى عنه: ثور بن يزيد وأرطأة بن المنذر والزبيدي وأبو بكر بن حزم. ذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن حجر: مقبول، من الخامسة. موقفه من القدرية: عن أرطأة بن المنذر: ذكرت لأبي عون شيئا من قول أهل التكذيب بالقدر؛ فقال: أما تقرؤون كتاب الله {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا ¬

(¬1) طه الآية (82). (¬2) أصول الاعتقاد (1/ 79/73). (¬3) ثقات ابن حبان (7/ 662) وتهذيب الكمال (34/ 154 - 155) وتهذيب التهذيب (12/ 191) والتاريخ الكبير (8/ 62 كنى) وتقريب التهذيب (2/ 445).

نافع بن مالك (بعد 140 هـ)

يُشْرِكُونَ} (¬1). اهـ (¬2) نافع بن مالك (¬3) (بعد 140 هـ) نافع بن مالك بن أبي عامر الأصبحي الإمام الفقيه أبو سهيل المدني حليف بني تيم، عم مالك بن أنس، وأخو أويس بن مالك والربيع بن مالك. روى عن أنس بن مالك وسهل بن سعد وابن عمر وسعيد بن المسيب وعمر ابن عبد العزيز وأبيه مالك بن أبي عامر الأصبحي وطائفة. روى عنه ابن أخيه مالك بن أنس والزهري وإسماعيل بن جعفر وسليمان بن بلال وعبد العزيز الدراوردي وآخرون. وثقه أحمد وغيره. وقال ابن حجر: ثقة من الرابعة. مات بعد الأربعين ومائة. موقفه من القدرية: - جاء في أصول الاعتقاد عنه قال: لا تبدأ القدرية بالسلام، فإن سلموا عليك فقل وعليك. (¬4) - وعن نافع بن مالك أبي سهيل (¬5) أن عمر بن عبد العزيز قال له: ما ترى في الذين يقولون لا قدر؟ قال أرى أن يستتابوا وإلا ضربت أعناقهم قال عمر وذلك ¬

(¬1) القصص الآية (68). (¬2) الإبانة (2/ 10/222/ 1803) والشريعة (1/ 434/544). (¬3) الجرح والتعديل (8/ 453) والسير (5/ 283) وتهذيب الكمال (29/ 290 - 291) وتقريب التهذيب (2/ 296). (¬4) أصول الاعتقاد (4/ 705/1146). (¬5) في المصدر: أبو إسماعيل وهو خطأ بين، كما سبق أن نبهنا عليه في مواقف عمر بن عبد العزيز سنة (101هـ).

عاصم الأحول (142 هـ)

الرأي فيهم لو لم يكن إلا هذه الآية الواحدة كفى بها {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} (¬1).اهـ (¬2) عاصم الأحول (¬3) (142 هـ) الإمام الحافظ، محدث البصرة أبو عبد الرحمن البصري الأحول عاصم ابن سليمان، محتسب المدائن. روى عن ابن سرجس، وأنس وعبد الله بن شقيق وأبي العالية والشعبي، وحفصة بنت سيرين ومعاذة العدوية وخلق سواهم. روى عنه: قتادة وشعبة وشريك ومعمر، وحماد بن زيد والسفيانان ويزيد بن هارون وخلق كثير. قال ابن المديني: له نحو مائة وخمسين حديثا. قال الثوري: حفاظ البصرة ثلاثة: سليمان التيمي وعاصم الأحول، وداود بن أبي هند. قال ابن مهدي: كان عاصم الأحول من حفاظ أصحابه. قال أحمد ابن حنبل وابن معين وأبو زرعة وطائفة: ثقة. ووثقه ابن المديني وقال مرة: ثبت. وقال محمد بن سعد: كان ثقة وكان من أهل البصرة، وكان يتولى الولايات، وكان بالكوفة على الحسبة في المكاييل والأوزان وكان قاضيا بالمدائن لأبي جعفر. مات سنة اثنتين وأربعين ومائة، وقيل غير ذلك. ¬

(¬1) الصافات الآيات (161 - 163). (¬2) السنة لعبد الله (147). (¬3) تهذيب الكمال (13/ 485 - 491) وتهذيب التهذيب (5/ 42) وتذكرة الحفاظ (1/ 149) والسير (6/ 13 - 14) وشذرات الذهب (1/ 210).

موقفه من الرافضة:

موقفه من الرافضة: قال عاصم يعني الأحول: أتيت برجل قد سب عثمان قال: فضربته عشرة أسواط. قال: ثم عاد لما قال: فضربته عشرة أخرى قال: فلم يزل يسبه حتى ضربه سبعين سوطا. (¬1) حميد الطويل (¬2) (143 هـ) حُمَيْد بن أبي حُمَيْد الطويل أبو عُبَيْدَة الإمام الحافظ البصري. روى عن أنس بن مالك وثابت البناني والحسن البصري وغيرهم. روى عنه: شعبة وعاصم بن بهدلة والسفيانان والحمادان وغيرهم. عن حماد بن سلمة قال: لم يدع حميد لثابت البناني علما إلا وعاه وسمعه منه. وحميد خال حماد هذا. قال معاذ بن معاذ: كان حميد مصلح أهل البصرة. وقال معاذ: كان حميد الطويل قائما يصلي فمات فذكروه لابن عون وجعلوا يذكرون من فضله فقال ابن عون: احتاج إلى ما قدم. وعن يونس قال: أكثر الله فينا مثل حميد. وقال ابنه إبراهيم بن حميد: مات أبي سنة ثلاث وأربعين ومائة. موقفه من الجهمية: عن حماد بن سلمة قال: كان حميد من أكفهم عنه -يعني عمرو بن عبيد-، قال: فجاء ذات يوم إلى حميد؛ فحدثنا حميد بحديث، فقال عمرو: ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (7/ 1340 - 1341/ 2384). (¬2) تهذيب الكمال (7/ 355 - 365) والسير (6/ 163 - 169) وطبقات ابن سعد (7/ 252) وتذكرة الحفاظ (1/ 152 - 153) وتهذيب التهذيب (3/ 34 - 36) وشذرات الذهب (1/ 211 - 212).

سليمان بن طرخان التيمي (143 هـ)

كان الحسن يقوله؛ قال: فقال لي حميد: لا تأخذ عن هذا شيئا؛ فإنه يكذب على الحسن، كان الحسن يأتي بعد ما أسن فيقول: يا أبا سعيد. أليس تقول كذا وكذا للشيء الذي ليس هو من قوله؟ قال: فيقول الشيخ برأسه هكذا. (¬1) سليمان بن طرخان التيمي (¬2) (143 هـ) سليمان بن طَرْخَان أبو المعتمر التَّيْمِي البصري الإمام شيخ الإسلام نزل في بني تيم فقيل التيمي. روى عن أنس بن مالك وبكر بن عبد الله المزني وثابت البناني والحسن البصري وقتادة وأبي عثمان النهدي وطائفة. روى عنه ابنه معتمر بن سليمان ويزيد بن زريع ويحيى القطان والسفيانان وحماد بن سلمة وشعبة وابن علية وآخرون. قال شعبة: ما رأيت أحدا أصدق من سليمان التيمي رحمه الله، كان إذا حدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تغير لونه. قال سليمان التيمي: لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله. وعن معتمر بن سليمان قال: قال لي أبي عند موته: يا معتمر حدثني بالرخص لعلي ألقى الله وأنا حسن الظن به. توفي سنة ثلاث وأربعين ومائة. موقفه من المبتدعة: عن أبي موسى قال: سمعت المعتمر بن سليمان قال: سمعت أبي يقول: ¬

(¬1) الإبانة (2/ 11/304/ 1974) والسنة لعبد الله (149). (¬2) طبقات ابن سعد (7/ 252 - 253) وتاريخ خليفة (420) والجرح والتعديل (4/ 124 - 125) ومشاهير علماء الأمصار (93) وتهذيب الكمال (12/ 5 - 12) والسير (6/ 195 - 202) وتذكرة الحفاظ (1/ 150 - 152) وميزان الاعتدال (2/ 212) وشذرات الذهب (1/ 212).

موقفه من الجهمية:

أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - عندنا كالتنزيل. قال أبو موسى: يعني في الاستعمال؛ يستعمل سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يستعمل كلام الله عز وجل. (¬1) موقفه من الجهمية: عن المعتمر بن سليمان عن أبيه قال: ليس قوم أشد بغضا للإسلام من الجهمية والقدرية، فأما الجهمية فقد بارزوا الله وأما القدرية فإنهم قالوا في الله. (¬2) قال معاذ بن معاذ: كان سليمان التيمي لا يزيد كل واحد منا على خمسة أحاديث وكان معنا رجل، فجعل يكرر عليه، فقال: نشدتك بالله أجهمي أنت؟ فقال: ما أفطنك، من أين تعرفني؟ (¬3) موقفه من القدرية: - جاء في تلبيس إبليس بالسند إلى سعيد الكريزي قال: مرض سليمان التيمي، فبكى في مرضه بكاء شديدا فقيل له ما يبكيك؟ أتجزع من الموت؟ قال: لا، ولكني مررت على قدري فسلمت عليه فأخاف أن يحاسبني ربي عليه. (¬4) " التعليق: انظر رعاك الله إلى أين وصل سلفنا مع المبتدعة، يخاف أن يحاسب على ¬

(¬1) ذم الكلام (ص.77). (¬2) السنة لعبد الله (10) والسنة للخلال (5/ 90) والإبانة (2/ 13/100 - 101/ 340). (¬3) السير (6/ 200 - 201). (¬4) التلبيس (23) والسير (6/ 200) والتذكرة (1/ 151 - 152).

يحيى بن سعيد (143 هـ)

السلام عليه، أما نحن الآن فنؤاكلهم ونشاربهم ونضاحكهم ونوادهم ونقيم لهم الضيافة الفخمة ونأويهم خير الإيواء والله المستعان. - وجاء في سير أعلام النبلاء عن مهدي بن هلال قال: أتيت سليمان فوجدت عنده حماد بن زيد ويزيد ابن زريع وبشر بن المفضل وأصحابنا البصريين، فكان لا يحدث أحدا حتى يمتحنه فيقول له: الزنا بقدر؟ فإن قال: نعم، استحلفه إن هذا دينك الذي تدين الله به؟ فإن حلف حدثه خمسة أحاديث. (¬1) - وفيها أيضا: قال معتمر بن سليمان: قال أبي: أما والله لو كشف الغطاء لعلمت القدرية أن الله ليس بظلام للعبيد. (¬2) يحيى بن سعيد (¬3) (143 هـ) يحيى بن سعيد بن قيس بن عمرو وقيل يحيى بن سعيد بن قيس بن قهد، الإمام العلامة المجود، عالم المدينة في زمانه، وشيخ عالم المدينة وتلميذ الفقهاء السبعة، أبو سعيد الأنصاري الخزرجي النجاري المدني القاضي مولده قبل السبعين زمن ابن الزبير. سمع من أنس بن مالك والسائب بن يزيد وأبي أمامة ¬

(¬1) السير (6/ 200). (¬2) السير (6/ 201) والتذكرة (1/ 152). (¬3) تاريخ بغداد (14/ 101 - 106) والسير (5/ 468 - 481) وتاريخ الإسلام (حوادث 141 - 160/ص.331 - 334)، وتهذيب الكمال (31/ 346 - 358) وشذرات الذهب (1/ 212) وطبقات الحفاظ (57).

موقفه من الرافضة:

ابن سهل وسعيد بن المسيب وغيرهم. روى عنه الزهري مع تقدمه، وابن أبي ذئب وشعبة ومالك وسفيان الثوري والأوزاعي وغيرهم. عن علي بن مسهر: سمعت سفيان يقول: أدركت من الحفاظ ثلاثة: إسماعيل بن أبي خالد، وعبد الملك بن أبي سليمان، ويحيى بن سعيد الأنصاري، قلت: فالأعمش؟ فأبى أن يجعله معهم. قال سفيان بن سعيد: يحيى بن سعيد الأنصاري أجل عند أهل المدينة من الزهري. عن يعقوب بن كاسب قال: حدثنا بعض أهل العلم قال: سمعت صائحا يصيح في المسجد الحرام أيام مروان: لا يفتي الحاجَّ في المسجد إلا يحيى بن سعيد وعبيد الله بن عمر ومالك ابن أنس. مات سنة ثلاث وأربعين ومائة. موقفه من الرافضة: جاء في السير: الترمذي: حدثنا قتيبة حدثنا جرير سألت يحيى بن سعيد فقلت: أرأيت من أدركت من الأئمة؟ ما كان قولهم في أبي بكر وعمر وعلي؟ فقال: سبحان الله ما رأيت أحدا يشك في تفضيل أبي بكر وعمر على علي، إنما كان الاختلاف في علي وعثمان. (¬1) ¬

(¬1) السير (5/ 472 - 473).

عبد الله بن شبرمة (144 هـ)

عبد الله بن شبرمة (¬1) (144 هـ) عبد الله بن شُبْرُمَة بن الطفيل بن حسان، الإمام العلامة فقيه العراق أبو شُبْرُمَة قاضي الكوفة عداده في التابعين وهو عم عمارة بن القعقاع بن شبرمة. روى عن أنس بن مالك وإبراهيم بن يزيد التيمي وشقيق ونافع وأبي زرعة بن عمرو بن جرير والشعبي وطائفة. وعنه حماد بن زيد والسفيانان والحسن بن صالح بن حي وشريك بن عبد الله وشعبة ومعمر وآخرون. قال سفيان الثوري: وكان ابن شبرمة عفيفا صارما عاقلا فقيها يشبه النساك ثقة في الحديث شاعرا حسن الخلق جوادا. من أقواله: من بالغ في الخصومة أثم ومن قصر فيها خصم، ولا يطيق الحق من بالى على من دار الأمر. وقال: عجبت للناس يحتمون من الطعام مخافة الداء ولا يحتمون من الذنوب مخافة النار. مات سنة أربع وأربعين ومائة. موقفه من المبتدعة: - روى الدارمي بسنده إلى إبراهيم بن أدهم قال: سألت ابن شبرمة عن شيء وكانت عندي مسألة شديدة فقلت: رحمك الله، انظر فيها، قال: إذا وضح لي الطريق ووجدت الأثر لم أحبس. (¬2) ¬

(¬1) تاريخ خليفة (361و421) والسير (6/ 347 - 349) وتهذيب الكمال (15/ 76) والجرح والتعديل (5/ 82) ومشاهير علماء الأمصار (168) والوافي بالوفيات (17/ 207) وميزان الاعتدال (2/ 438) وشذرات الذهب (1/ 215 - 216). (¬2) سنن الدارمي (1/ 72).

موقفه من المرجئة:

- قال ابن شبرمة: من المسائل مسائل لا يجوز للسائل أن يسأل عنها ولا للمسؤول أن يجيب عنها. (¬1) - وجاء في أصول الاعتقاد عنه قال: إذا قلت جدوا في العبادة واصبروا ... أصروا وقالوا: لا: الخصومة أفضل خلافا لأصحاب النبي وبدعة ... وهم لسبيل الحق أعمى وأجهل (¬2) - وروى البغدادي بالسند إليه قال: ما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس. (¬3) موقفه من المرجئة: تقدم معنا في مواقف منصور بن المعتمر (سنة 132هـ) أن عبد الله ابن شبرمة كان من جملة أهل العلم الذين يقولون بالاستثناء ويعيبون على من لا يستثني. مجالد بن سعيد (¬4) (144 هـ) مُجَالِد بن سعيد بن عمير بن بسطام الهمداني، أبو عمرو، ويقال أبو عمير ويقال أبو سعيد الكوفي. روى عن زياد بن علاقة والشعبي وقيس بن أبي حازم ومرة الهمداني، وروى عنه إسماعيل بن أبي خالد وابنه إسماعيل بن ¬

(¬1) الإبانة (1/ 2/418/ 335). (¬2) أصول الاعتقاد (1/ 168 - 169/ 310). (¬3) الفقيه والمتفقه (1/ 466) وهو في إعلام الموقعين (1/ 257). (¬4) طبقات ابن سعد (6/ 349) والكامل لابن الأثير (5/ 512) وتهذيب الكمال (27/ 219 - 225) وميزان الاعتدال (3/ 438 - 439) وتهذيب التهذيب (10/ 39 - 41) وشذرات الذهب (1/ 216).

موقفه من المبتدعة:

مجالد وحماد بن زيد والثوري وابن عيينة وعبد الله بن المبارك وغيرهم. تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه، وقال الدوري عن يحيى بن معين: ثقة، وقال: مجالد وليث وحجاج سواء، وعبد الرحمن بن حرملة أحب إلي منهم. وقال البخاري: صدوق. توفي رحمه الله في ذي الحجة سنة أربع وأربعين ومائة. موقفه من المبتدعة: عن سعيد بن أبي عروبة: أن مجالد بن سعيد سمع قوما يعجون في دعائهم، فمشى إليهم فقال: أيها القوم، إن كنتم أصبتم فضلا على من كان قبلكم لقد ضللتم قال: فجعلوا يتسللون رجلا رجلا، حتى تركوا بغيتهم التي كانوا فيها. (¬1) موقف السلف من عمرو بن عبيد (144 هـ) جاء في الإبانة: عن ابن شوذب قال: قال لي عقيل بن طلحة، وكانت لطلحة صحبة: هل لقيت عمرو بن عبيد، فقلت: لا، قال: فلا تلقه لست آمنه عليك وكان عمرو بن عبيد يرى رأي الاعتزال. (¬2) وفيها: قال أيوب: ما عددت عمرو بن عبيد عاقلا قط. (¬3) ¬

(¬1) الاقتضاء (2/ 639). (¬2) الإبانة (2/ 3/448 - 449/ 409). (¬3) الإبانة (2/ 3/467/ 465) والسنة لعبد الله (150).

وفيها: عن إسماعيل بن إبراهيم؛ قال: جاءني عبد العزيز الدباغ؛ فقال: إني قد أنكرت وجه ابن عون؛ فلا أدري ما شأنه؛ قال: فذهبت معه إلى ابن عون فقلت: يا أبا عون. ما شأن عبد العزيز؟ قال: أخبرني قتيبة صاحب الحرير أنه رآه مع عمرو بن عبيد يمشي في السوق؛ فقال له عبد العزيز: إنما سألته عن شيء، والله ما أحب رأيه، فقال: ونسأله أيضا؟ (¬1) وفيها: قال ابن عيينة: قدم أيوب سنة وعمرو بن عبيد فطافا بالبيت من أول الليل حتى أصبحا، ثم قدما بعد ذلك فطاف أيوب حتى أصبح وخاصم عمرو حتى أصبح. (¬2) وجاء في أصول الاعتقاد عن أحمد بن موسى قال: مر عمرو بن عبيد على أبي عمرو بن العلاء فقال له عمرو: كيف تقرأ: {وَإِنْ يستعتبوا} (¬3)؟ فقال أبو عمرو: وإن يستعتبوا -بفتح الياء- فما هم من المعتبين -بفتح التاء- فقال له عمرو: ولكني أقرأ: وإن يستعتبوا -بضم الياء- فما هم من المعتبين -بكسر التاء- فقال أبو عمرو: ومن هنالك أبغض المعتزلة لأنهم يقولون برأيهم. (¬4) وفيه عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يخرج قوم من النار بعد ما امتحشوا فيدخلون الجنة" (¬5). وقال عمرو بن ¬

(¬1) الإبانة (2/ 11/303/ 1970). (¬2) الإبانة (2/ 11/304/ 1975). (¬3) فصلت الآية (24). (¬4) أصول الاعتقاد (4/ 816/1375). (¬5) أحمد (3/ 391) ومسلم (1/ 179/191 (320)) والترمذي (4/ 615/2597) وقال: "حديث حسن صحيح".

دينار، قال عبيد بن عمير: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يخرج قوم من النار فيدخلون الجنة" قال: فقال رجل: يا أبا عاصم ما هذا الحديث الذي تحدث به؟ قال: فقال عبيد بن عمير: إليك عني يا علج فلولا سمعه من يتبين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما حدثته قال: قال سفيان: فقدم علينا عمرو بن عبيد ومعه رجل تابع له على هواه، قال: فدخل عمرو بن عبيد الحجر فصلى فيه وخرج صاحبه وقام على عمرو بن دينار وهو يحدث هذا عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرجع إلى عمرو بن عبيد فقال يا ضال أما كنت تخبر أنه لا يخرج أحد من النار قال: بلى قال فهو ذا عمرو بن دينار يزعم أنه سمع جابر ابن عبد الله يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يخرج قوم من النار فيدخلون الجنة" قال: فقال عمرو بن عبيد: لهذا معنى لا تعرفه، قال: فقال الرجل: وأي معنى يكون لهذا قال: وفك ثوبه من يديه وفارقه. (¬1) وجاء في السنة بالسند إلى حرب بن ميمون صاحب الأغمية قال: رأيت عمرو بن عبيد يصلي بقوم وهو معهم في الصف، فسألت ابن فضاء فقال: هذا رجل صاحب بدعة. (¬2) وفيها عن سفيان بن عيينة قال: قال لي سفيان الثوري: اذهب بي إلى عمرو بن عبيد وذلك قبل أن يعرفه فذهبت به إليه فكلمه أو جعل يسأله فكأن عمرا اتقاه فلما كان بعد، قال لي من ذلك الذي جئتني به؟ قلت: سفيان الثوري، قال: لو علمته لأخذته إنما ظننت أنه من أهل المدينة الذين ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (6/ 1163 - 1164/ 2048). (¬2) السنة لعبد الله (150).

يأخذون الناس من فوق. (¬1) وفيها عن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال: قال أبي: يا بني لا تسمع من عمرو بن عبيد واسمع من عمرو قهرمان آل الزبير. (¬2) جاء في السنة بالسند إلى أبي بحر البكراوي قال: قال رجل لعمرو -يعني ابن عبيد- وقرأ عنده هذه الآية: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} (¬3) فقال له: أخبرني عن: {تَبَّتْ يدا أبي لَهَبٍ} (¬4) كانت في اللوح المحفوظ، قال: ليست هكذا كانت قال: وكيف كانت: {تَبَّتْ يدا} من عمل بمثل ما عمل أبو لهب؟ فقال له الرجل: هكذا ينبغي لنا أن نقرأ إذا قمنا إلى الصلاة، فغضب عمرو فتركه حتى سكن ثم قال له: يا أبا عثمان أخبرني عن {تَبَّتْ يدا أبي لَهَبٍ} كانت في اللوح المحفوظ؟ فقال: ليس هكذا كانت، قال: فكيف كانت؟ قال: {تَبَّتْ يدا} من عمل بمثل عمل أبي لهب، قال: فرددت عليه، قال عمرو: إن علم الله ليس بسلطان إن علم الله لا يضر ولا ينفع. (¬5) وجاء في أصول الاعتقاد عن معاذ بن معاذ قال: كنت عند عمرو بن ¬

(¬1) السنة لعبد الله (152). (¬2) السنة لعبد الله (153). (¬3) البروج الآيتان (21و22). (¬4) المسد الآية (1). (¬5) السنة لعبد الله (150 - 151).

عبيد فأتاه رجل يقال له عثمان بن خاش وهو أخو الشمزي فقال: يا أبا عثمان سمعت والله الكفر اليوم. قال: لا تعجل بالكفر وما سمعت؟ قال: سمعت هاشم الأوقصي يقول: {تَبَّتْ يدا أبي لَهَبٍ} (¬1) و {ذرني وَمَنْ خَلَقْتُ وحيدًا} (¬2) لسن في أم الكتاب والله يقول: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (¬3) فسكت عمرو هنيهة ثم أقبل علينا وقال: فوالله لئن كان القول كما يقول فما على أبي لهب ولا الوحيد (¬4) من لوم. قال: عثمان: هذا والله الدين يا أبا عثمان. قال معاذ: فدخل بالإسلام وخرج بالكفر. (¬5) وجاء في سير أعلام النبلاء: قال معاذ بن معاذ: سمعت عَمْرا يقول إن كانت {تَبَّتْ يدا أبي لَهَبٍ} (¬6) في اللوح المحفوظ فما لله على ابن آدم حجة، وسمعته ذكر حديث الصادق المصدوق (¬7) فقال: لو سمعت الأعمش يقوله ¬

(¬1) المسد الآية (1). (¬2) المدثر الآية (11). (¬3) الزخرف الآيات (1 - 4). (¬4) يعني الوليد بن المغيرة في قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)} [المدثر: 11]. (¬5) أصول الاعتقاد (4/ 813 - 814/ 1370) وتاريخ بغداد (12/ 171) والزيادة الأخيرة منه. (¬6) المسد الآية (1). (¬7) أحمد (1/ 382 و430) والبخاري (6/ 373/3208) ومسلم (4/ 2036/2643) وأبو داود (5/ 82 - 83/ 4708) والترمذي (4/ 388 - 389/ 2137) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وابن ماجه (1/ 29/76).

لكذبته، إلى أن قال ولو سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوله لرددته. (¬1) وجاء بالسند إلى عثمان بن عثمان قال: كنا عند معاذ بن معاذ فذكر عمرو بن عبيد، قال: ذكر حديث أبي بكر الصديق عند عمرو بن عبيد، فقال: لو سمعته من أبي بكر ما صدقته ولو سمعته من النبي ما اجتنبته، وإذا لقيت الله قلت على ذا فطرتنا. (¬2) " التعليق: انظر إلى البدع وما جرت على أصحابها من الكفر والضلالة والوقاحة على الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، نسأل الله السلامة والعافية. وجاء في أصول الاعتقاد عن عاصم الأحول قال: جلست إلى قتادة فذكر عمرو بن عبيد فوقع فيه فقلت: يا أبا الخطاب ألا أرى العلماء يقع بعضهم في بعض؟ قال: يا أحول ولا تدري أن الرجل إذا ابتدع بدعة فينبغي لها أن تذكر حتى تعلم؟ فجئت من عند قتادة وأنا مغتم لقوله في عمرو بن عبيد وما رأيت من نسك عمرو بن عبيد وهديه فوضعت رأسي بنصف النهار فإذا أنا بعمرو بن عبيد في النوم والمصحف في حجره وهو يحك آية من كتاب الله. قلت: سبحان الله تحك آية من كتاب الله؟ قال: إني سأعيدها. فتركته حتى حكها فقلت له أعدها. فقال: إني لا أستطيع. (¬3) ¬

(¬1) السير (6/ 104 - 105). (¬2) السنة لعبد الله (153). (¬3) أصول الاعتقاد (4/ 814 - 815/ 1372).

وفي السنة لعبد الله عن عباد بن منصور قال: سمعت أنا وعمرو بن عبيد من الحسن تفسير هود والرعد، فلما كان بعد ذلك فإذا هو قد أخرجها أكثر مما سمعنا، فقلت له: يا أبا عثمان، سمعت أنا وأنت من الحسن، فما هذه الزيادة؟ قال هذا كلام زدته أرقق به قلوبهم. (¬1) وقال اللالكائي في أصول الاعتقاد: روي أن أعرابيا جاء عمرو بن عبيد فقال له: إن ناقتي سرقت فادع الله أن يردها علي. فقال: اللهم إن ناقة هذا الفقير سرقت ولم ترد سرقتها اللهم ارددها عليه. فقال الأعرابي: يا شيخ الآن ذهبت ناقتي وأيست منها. قال: كيف؟ قال: لأنه إذا أراد أن لا تسرق فسرقت لم آمن أن يريد رجوعها فلا ترجع ونهض من عنده منصرفا. (¬2) وعن خويل -ختن شعبة- قال: كنت عند يونس بن عبيد فجاء رجل فقال: يا أبا عبد الله تنهانا عن مجالسة عمرو وقد دخل عليه ابنك؟ قال: ابني؟ قال: نعم. فتغيظ الشيخ قال: فلم أبرح حتى جاء ابنه فقال: يا بني قد عرفت رأيي في عمرو ثم تدخل عليه؟ قال: كان معي فلان قال: فجعل يعتذر. فقال يونس: أنهاك عن الزنا والسرقة وشرب الخمر. ولأن تلقى الله عز وجل بهن أحب إلي من أن تلقاه برأي عمرو وأصحاب عمرو. (¬3) وعن الحسين بن يحيى قال: سمعت الفضيل بن مروان يقول: كان المعتصم يختلف إلى علي ابن عاصم المحدث وكنت أمضي معه إليه فقال يوما حدثنا ¬

(¬1) السنة لعبد الله (152). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 816 - 817/ 1376) والإبانة (2/ 11/280/ 1914). (¬3) أصول الاعتقاد (4/ 817 - 818/ 1378) والإبانة (2/ 3/466 - 467/ 464).

عمرو بن عبيد -وكان قدريا- فقال المعتصم: أما تدري أن القدرية مجوس هذه الأمة؟ فلم ترو عنه؟ قال: لأنه ثقة في الحديث صدوق. قال: فإن كان المجوسي ثقة فيما يقول أتروي عنه؟ فقال له علي: أنت شغاب يا أبا إسحاق. (¬1) وفيه عن حزم قال: سمعت حوشب يقول لعمرو بن عبيد في حبوة الحبس -ما هذا الذي أحدثت؟ قد نبت قلوب إخوانك عنك، هذا الحسن: انطلق حتى نسأله عن هذا الأمر. قال: كسرها الله إذن- يعني رجليه. (¬2) وفيه: سئل ابن عون عن (عمرو بن عبيد) فقال: حدثنا مسلم البطين قال: قال ابن مسعود: لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنه لن يهدوكم وقد ضلوا. (¬3) وعن عبد الملك الأصمعي: كنا عند أبي عمرو بن العلاء قال: فجاء عمرو بن عبيد، فقال: يا أبا عمرو! يخلف الله وعده؟ قال: لا. قال: أرأيت من وعده الله على عمل عقابا؛ أليس هو منجزه له؟ فقال له أبو عمرو: يا أبا عثمان! من العجمة أوتيت، لا يعد عارا ولا خلفا، أن تعد شرا ثم لا تفي به؛ بل تعده فضلا وكرما، إنما العار أن تعد خيرا ثم لا تفي به. قال: ومعروف ذلك في كلام العرب؟ قال: نعم. قال: أين هو؟ قال أبو عمرو: قال الشاعر (¬4): لا يرهب ابن العُمْرِ ما عشت صولة ... ولا أختفي من صولة المتهدد وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي (¬5) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 819 - 820/ 1383). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 825/1394). (¬3) أصول الاعتقاد (4/ 820/1384). (¬4) البيتان لعامر بن الطفيل. انظر المعجم المفصل لشواهد اللغة العربية (2/ 414). (¬5) الإبانة (2/ 11/301 - 302/ 1966).

عبد الله بن حسن بن حسن بن علي (145 هـ)

" التعليق: قال كاتبه: ومواقف السلف من عمرو بن عبيد أخزاه الله تترى وكثيرة وما ذكرناه منها فهو قُلٌّ من جُلّ. عبد الله بن حسن بن حسن بن علي (¬1) (145 هـ) عبد الله بن حسن بن حسن بن علي، أبو محمد المدني، وأمه فاطمة بنت الحسين بن علي. روى عن الأعرج وعكرمة مولى ابن عباس، وعمه إبراهيم ابن محمد بن طلحة. حدث عنه سفيان الثوري، ومالك بن أنس، وإسماعيل ابن عبد الرحمن السدي. قال عنه محمد بن عمر: كان من العباد، وكان له شرف، وعارضة، وهيبة، ولسان شديد. وقال محمد بن سلام الجمحي عنه: كان ذا منزلة من عمر بن عبد العزيز في خلافته. توفي سنة خمس وأربعين ومائة. موقفه من المبتدعة: - عن عبد الله بن إسحاق الجعفري قال: وكان عبد الله بن الحسن يعني: ابن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم يكثر الجلوس إلى ربيعة، فتذاكروا يوما، فقال رجل كان في المجلس: ليس العمل على هذا. فقال عبد الله: أرأيت إن كثر الجهال حتى يكونوا هم الحكام، أفهم الحجة على السنة؟ فقال ربيعة: أشهد أن هذا كلام أبناء الأنبياء. (¬2) ¬

(¬1) تهذيب الكمال (14/ 414) وتهذيب التهذيب (5/ 186) والجرح والتعديل (5/ 33) وثقات ابن حبان (7/ 1). (¬2) الفقيه والمتفقه (1/ 380 - 384) والاعتصام (1/ 460 - 461) والباعث (ص.50).

موقفه من المشركين:

- عن الأصمعي قال: حدثنا سفيان قال: قال عبد الله بن الحسن: المراء يفسد الصداقة القديمة ويحل العقدة الوثيقة وأقل ما فيه أن تكون المغالبة، والمغالبة أمتن أسباب القطيعة. (¬1) - عن سفيان قال: قيل لعبد الله بن حسن: ما لك لا تماري إذا جلست؟ فقال: ما تصنع بأمر إن بالغت فيه أثمت وإن قصرت فيه خصمت. (¬2) موقفه من المشركين: روى سعيد بن منصور في سننه أن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي ابن أبي طالب رأى رجلا يكثر الاختلاف إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: يا هذا إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني (¬3) فما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء. (¬4) موقفه من الرافضة: - جاء في أصول الاعتقاد: عن أبي خالد -يعني الأحمر- قال: سئل عبد الله بن الحسن عن أبي بكر وعمر فقال: صلى الله عليهما ولا صلى على من لا يصلي عليهما. (¬5) - وفيه: عن السدي قال: قال لي عبد الله بن حسن يا سدي أخبرنا عن شيعتنا قبلكم بالكوفة قال: قلت إن قوما ينتحلون حبكم يزعمون أن ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/530 - 531/ 655). (¬2) الإبانة (2/ 3/531/ 656). (¬3) تقدم تخريجه ضمن مواقف علي بن الحسين سنة (93هـ) من حديث علي بن أبي طالب. (¬4) نقلا عن مجموع الفتاوى (1/ 238). (¬5) أصول الاعتقاد (7/ 1381/2470).

عمر بن محمد بن عبد الله العمري (145 هـ)

الأرواح تتناسخ فقال لي: يا سدي كذب هؤلاء ليس هؤلاء منا ولا نحن منهم قال: قلت إن عندنا قوما ينتحلونكم يزعمون أن العلم يكتب في قلوبكم. فقال: يا سدي ليس هؤلاء منا ولا نحن منهم يا سدي من أتى منا الفقهاء وجالسهم كان عالما ومن لم يأتهم منهم كان جاهلا. (¬1) - وفي الميزان: عن سليمان بن قرم قال: قلت لعبد الله بن الحسن: أفي أهل قبلتنا كفار؟ قال: نعم، الرافضة. (¬2) عمر بن محمد بن عبد الله العمري (¬3) (145 هـ) عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي المدني، نزيل عسقلان. روى عن إسماعيل بن رافع المدني وحفص بن عاصم ابن عمر بن الخطاب وزيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب، وروى عنه سفيان الثوري وشعبة ويزيد بن زريع وغيرهم. قال سفيان الثوري: لم يكن في آل ابن عمر أفضل من عمر بن محمد ابن زيد العسقلاني. وقال يحيى بن حكيم المقوم عن أبي عاصم النبيل: كان من أفضل أهل زمانه، كان أكثر مقامه بالشام، قدم بغداد، فانجفل الناس إليه، وقالوا: ابن عمر بن الخطاب، ثم قدم الكوفة فأخذوا عنه وكان له قدر وجلالة. قال الذهبي: مات سنة خمسين ومائة، وقال ابن حجر: بل قتل في ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (8/ 1484 - 1485/ 2693). (¬2) الميزان (2/ 219). (¬3) الجمع بين رجال الصحيحين لابن القيسراني (1/ 342) وتاريخ الإسلام (حوادث 141 - 160/ص.229 - 230) وميزان الاعتدال (3/ 220 - 221) وتهذيب الكمال (21/ 499 - 503) وتهذيب التهذيب (7/ 495 - 496).

موقفه من القدرية:

السنة التي خرج فيها (أي سنة خمس وأربعين ومائة للهجرة). موقفه من القدرية: عن يزيد بن زريع قال: قلت لعمر بن محمد العمري: رجل يثبت القدر ويعلم من قلبه أنه مؤمن ولا يتكلم فيه أحب أو رجل مؤمن يتكلم فيه؟ قال: لا والله حتى يبين لهم ضلالتهم. (¬1) محمد بن عبد الله (¬2) (145 هـ) محمد بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي الهاشمي الأمير المدني. حدث عن نافع وأبي الزناد. وعنه عبد الله بن جعفر المخرمي وعبد العزيز الدراوردي وعبد الله بن نافع الصائغ. قال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وهو الذي خرج على أبي جعفر المنصور فبعث إليه عيسى بن موسى فقتله، في النصف من شهر رمضان سنة خمس وأربعين ومائة وهو ابن ثلاث وخمسين سنة بالمدينة. موقفه من الرافضة: عن حبيب الأسدي عن محمد عن عبد الله بن الحسن قال: أتاه قوم من الكوفة والجزيرة فسألوه عن أبي بكر وعمر فالتفت إلي فقال: انظر إلى هؤلاء ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 764/1265). (¬2) تهذيب الكمال (25/ 465 - 471) والسير (6/ 210 - 218) وتهذيب التهذيب (9/ 252) وميزان الاعتدال (3/ 591) والوافي بالوفيات (3/ 297 - 300) وشذرات الذهب (1/ 213 - 215).

محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان (145 هـ)

يسئلوني عن أبي بكر وعمر، لهما عندي أفضل من علي. (¬1) محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان (¬2) (145 هـ) أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عمرو ابن أمير المؤمنين عثمان، العثماني المدني الملقب بالديباج لحسنه. وهو سبط الحسين رضي الله عنه. روى عن أبيه وأمه فاطمة بنت الحسين بن علي، وأبي الزناد، ونافع مولى ابن عمر، وخارجة بن زيد بن ثابت، وغيرهم. وروى عنه: أبو بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم، وعبد الله بن سعيد بن أبي هند، وعبد الرحمن بن أبي الزناد، وأسامة ابن زيد الليثي، والدراوردي، ويوسف ابن الماجشون، وطائفة. قال الزبير بن بكار: حدثني عبد الملك بن عبد العزيز عن أبي السائب، قال: احتجت إلى لقحة، فكتبت إلى محمد بن عبد الله بن عمرو أسأله. فبعث إلي تسعة عشرة لقحة مع عبد، وكتب معها: هي بدن وهو حر إن رجع بشيء من ذلك في مالي أبدا. قال: فبِعْتُ منهن بثلاث مائة دينار سوى ما احتبست لحاجتي. قال أخوه لأمه عبد الله بن الحسن بن الحسن: لما ولد محمد أبغضته بغضا ما أبغضته أحدا قط، فلما كبر وبرني أحببته حبا ما أحببته أحدا قط. وكان جوادا سخيا ذا مروءة وسؤدد وحشمة. قتله المنصور سنة خمس وأربعين ومائة ليلة جاءه خروج محمد بن عبد الله بن حسن. ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (8/ 1454/2627). (¬2) التاريخ الكبير (1/ 138 - 139) وتاريخ بغداد (5/ 385 - 388) وتهذيب الكمال (25/ 516 - 523) وتهذيب التهذيب (9/ 268 - 269) والسير (6/ 224 - 225) وميزان الاعتدال (3/ 593).

موقفه من المرجئة:

موقفه من المرجئة: - قال محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان: لا يصلح قول إلا بعمل. (¬1) - عن يحيى بن سليم قال: سألت سفيان الثوري عن الإيمان؟ فقال: قول وعمل وسألت ابن جريج، فقال: قول وعمل وسألت محمد بن عبد الله ابن عمرو بن عثمان، فقال: قول وعمل وسألت نافع بن عمر الجمحي، فقال: قول وعمل وسألت مالك بن أنس فقال: قول وعمل وسألت فضيل ابن عياض فقال: قول وعمل وسألت سفيان بن عيينة، فقال: قول وعمل. (¬2) الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي (¬3) (145 هـ) الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي المدني، أخو عبد الله وإبراهيم. أمهم فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب. روى عن أبيه حسن بن حسن وأمه فاطمة. وروى عنه فضيل بن مرزوق وعمر بن شبيب المسلي وعبيد بن الوسيم الجمال. ذكره ابن حبان في الثقات. توفي رحمه الله بالهاشمية سنة خمس وأربعين ومائة، في حبس أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور. ¬

(¬1) السنة لعبد الله (96). (¬2) الشريعة (1/ 288/282) وأصول الاعتقاد (4/ 930/1584) والمعرفة والتاريخ للفسوي (3/ 498). (¬3) تهذيب الكمال (6/ 84 - 89) وتاريخ الإسلام (حوادث 141 - 160/ص.107) وتهذيب التهذيب (2/ 262 - 263) والوافي بالوفيات (11/ 418 - 419).

موقفه من الرافضة:

موقفه من الرافضة: - جاء في الشريعة: عن فضيل بن مرزوق قال: سمعت حسن بن حسن رضي الله عنهما يقول لرجل من الرافضة: والله لئن أمكن الله منكم لتقطعن أيديكم وأرجلكم ولا يقبل منكم توبة. وقال: وسمعته يقول: مرقت علينا الرافضة كما مرقت الحرورية على علي رضي الله عنه. (¬1) - وفي تهذيب الكمال عن شبابة بن سوار: حدثنا الفضيل بن مرزوق قال: سمعت الحسن بن الحسن أخا عبد الله بن الحسن وهو يقول لرجل ممن يغلو فيهم: ويحكم أحبونا لله، فإن أطعنا الله فأحبونا، وإن عصينا الله فأبغضونا. قال: فقال له الرجل: إنكم ذو قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأهل بيته، فقال: ويحكم لو كان الله نافعا بقرابة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بغير عمل بطاعته لنفع بذلك من هو أقرب إليه منا، أباه وأمه، والله إني لأخاف أن يضاعف للعاصي منا العذاب ضعفين. والله إني لأرجو أن يؤتى المحسن منا أجره مرتين. قال: ثم قال: لقد أساء بنا آباؤنا وأمهاتنا إن كان ما يقولون (¬2) من دين الله ثم لم يخبرونا به. ولم يطلعونا عليه، ولم يرغبونا فيه، فنحن والله كنا أقرب منهم قرابة منكم، وأوجب عليهم حقا، وأحق بأن يرغبونا فيه منكم، ولو كان الأمر كما تقولون: إن الله ورسوله اختار عليا لهذا الأمر، وللقيام على الناس بعده، إن كان علي لأعظم الناس في ذلك خطيئة وجرما إذ ترك أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أن يقوم فيه كما أمره، أو تعذر فيه إلى الناس، قال: فقال له ¬

(¬1) الشريعة (3/ 462/1923). (¬2) في الطبقات: ما تقولون.

الرافضي: ألم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي: "من كنت مولاه فعلي مولاه؟ " (¬1) قال: أما والله، أن لو يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك الإمرة والسلطان والقيام على الناس لأفصح لهم بذلك، كما أفصح لهم بالصلاة والزكاة وصيام رمضان وحج البيت، ولقال لهم: أيها الناس إن هذا ولي أمركم من بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا، فما كان من وراء هذا شيء، فإن أنصح الناس كان للمسلمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) - جاء في السير: وروى فضيل بن مرزوق قال: سمعت الحسن يقول: دخل علي المغيرة بن سعيد يعني الذي أحرق في الزندقة، فذكر من قرابتي وشبهي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكنت أشبه وأنا شاب برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم لعن أبا بكر وعمر، فقلت يا عدو الله أعندي؟ ثم خنقته -والله- حتى دلع لسانه. (¬3) - وفيها: وقيل: كانت شيعة العراق يمنون الحسن الإمارة مع أنه كان يبغضهم ديانة. (¬4) - وقال فضيل بن مرزوق: سمعت الحسن بن الحسن يقول لرجل من الرافضة: والله إن قتلك لقربة إلى الله، وما أمتنع من ذلك إلا بالجواز، وفي رواية قال: رحمك الله، قذفت، إنما تقول هذا تمزح، قال: لا، والله ما هو ¬

(¬1) أحمد (1/ 118) والترمذي (5/ 591/3713) والنسائي في الكبرى (5/ 134/8478) وصححه ابن حبان (15/ 375 - 376/ 6931). (¬2) تهذيب الكمال (6/ 86 - 87) وطبقات ابن سعد (5/ 319 - 320) وأصول الاعتقاد (8/ 1483 - 1484/ 2690 مختصرا) .. (¬3) السير (4/ 486). (¬4) السير (4/ 487).

فضيل بن غزوان (بضع وأربعون ومائة)

بالمزاح ولكنه الجد، قال: وسمعته يقول: لئن أمكننا الله منكم لنقطعن أيديكم وأرجلكم. (¬1) فُضَيْل بن غَزْوَان (¬2) (بضع وأربعون ومائة) ابن جرير الإمام المحدث الثقة، أبو محمد الضبي الكوفي. حدث عن أبي حازم الأشجعي وأبي زرعة البجلي وعكرمة وسالم بن عبد الله وجماعة. وحدث عنه ابنه محمد بن فضيل وجرير بن عبد الحميد وعبد الله بن المبارك وإسحاق الأزرق وعدة. وثقه أحمد بن حنبل وغيره. توفي رحمه الله سنة بضع وأربعين ومائة. موقفه من الرافضة: قال يحيى الحماني: سمعت فضيلا أو حدثت عنه، قال: ضربت ابني البارحة إلى الصباح أن يترحم على عثمان رضي الله عنه، فأبى علي. (¬3) عمرو بن قيس الملائي (¬4) (146 هـ) عمرو بن قيس المُلاَّئِي أبو عبد الله الكوفي البزاز الحافظ من أولياء ¬

(¬1) الصارم (572) والسير (4/ 486) وأصول الاعتقاد (8/ 1543/2804). (¬2) السير (6/ 203) وتهذيب الكمال (23/ 301 - 303) وتاريخ الإسلام (حوادث 141 - 160/ ص.252) وتهذيب التهذيب (8/ 297 - 298). (¬3) السير (9/ 174). (¬4) الجرح والتعديل (6/ 254 - 255) ومشاهير علماء الأمصار (157) وحلية الأولياء (5/ 100 - 108) والسير (6/ 250 - 251) وتهذيب الكمال (22/ 200 - 203) وميزان الاعتدال (3/ 284) والتقريب (1/ 744).

موقفه من المبتدعة:

الله. حدث عن الحكم بن عتيبة والمنهال بن عمرو وأبي إسحاق السبيعي والأعمش وعكرمة وآخرين. وعنه الثوري وأسباط بن محمد القرشي وأبو خالد الأحمر وعمر بن شبيب ومصعب بن سلام وطائفة. قال ابن عدي: كان من ثقات أهل العلم وأفاضلهم. وقال ابن حجر: ثقة متقن عابد. من أقواله رحمه الله: إذا شغلت بنفسك ذهلت عن الناس وإذا شغلت بالناس ذهلت عن ذات نفسك. ومنها ثلاث من رؤوس التواضع: أن تبدأ بالسلام على من لقيت، وأن ترضى بالمجلس الدون من الشرف، وأن لا تحب الرياء والسمعة والمدحة في عمل الله. توفي رحمه الله سنة ست وأربعين ومائة. موقفه من المبتدعة: - جاء في الإبانة بالسند إليه قال: كان يقال: لا تجالس صاحب زيغ فيزيغ قلبك. (¬1) - وفيها عنه: إذا رأيت الشاب أول ما ينشأ مع أهل السنة والجماعة فارجه، فإذا رأيته مع أهل البدع فايئس منه، فإن الشاب على أول نشوئه. (¬2) - وفيها أيضا عنه قال: إن الشاب لينشأ فإن آثر أن يجالس أهل العلم كاد أن يسلم وإن مال إلى غيرهم كاد يعطب. (¬3) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/436/ 366). (¬2) الإبانة (1/ 1/205 - 206/ 44). (¬3) الإبانة (1/ 1/206/ 45).

إسماعيل بن أبي خالد (146 هـ)

" التعليق: قال ابن بطة رحمه الله: فانظروا رحمكم الله من تصحبون وإلى من تجلسون، واعرفوا كل إنسان بخدنه وكل أحد بصاحبه، أعاذنا الله وإياكم من صحبة المفتونين ولا جعلنا وإياكم من إخوان العابثين ولا من أقران الشياطين، وأستوهب الله لي ولكم عصمة من الضلال وعافية من قبيح الفعال. - وفيها عنه أنه قال: لا تجالسوا أصحاب الأهواء فإنهم يمرضون القلوب. (¬1) إسماعيل بن أبي خالد (¬2) (146 هـ) الحافظ، الإمام الكبير، أبو عبد الله البجلي. حدث عن عبد الله بن أبي أوفى، وأبي جحيفة وهب السوائي، وعمرو بن حريث المخزومي ولهم صحبة. وروى عنه الحكم بن عتيبة، والثوري، ووكيع. وقال أبو إسحاق عن الشعبي: إسماعيل بن أبي خالد يحسو العلم حسوا. وقال عنه محمد بن عبد الله ابن عمار الموصلي: حجة، إذا لم يكن إسماعيل حجة، فمن يكون حجة؟ قال الذهبي عنه: أجمعوا على إتقانه، والاحتجاج به، ولم ينبز بتشيع ولا بدعة ولله الحمد. وقال القطان: كان سفيان به معجبا. ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/438/ 372). (¬2) السير (6/ 176) وتهذيب الكمال (3/ 69) وطبقات ابن سعد (6/ 344) وتهذيب التهذيب (1/ 291).

موقفه من المرجئة:

توفي رحمه الله سنة ست وأربعين ومائة. موقفه من المرجئة: تقدم معنا في مواقف منصور بن المعتمر (ت 132هـ) أن إسماعيل بن أبي خالد كان من جملة أهل العلم الذين يقولون بالاستثناء ويعيبون على من لا يستثني. عوف بن أبي جميلة (¬1) (146 هـ) عوف بن أبي جميلة العبدي أبو سهل الأعرابي، لم يكن أعرابيا وإنما شهر به، عداده في صغار التابعين، وما عنده شيء عن أحد له صحبة. روى عن أبي العالية والعطاردي وزرارة بن أبي أوفى وابن سيرين وخلق. وحدث عنه شعبة وابن المبارك وغندر وروح والنضر بن شميل وطائفة آخرهم عثمان ابن الهيثم. كان يدعى عوفا الصدوق، وثقه غير واحد، فهو ثقة مكثر. قلت: تكلم فيه غير واحد من أئمة السلف لتلبسه ببدعتي القدر والرفض. توفي سنة ست وأربعين بعد المائة الأولى للهجرة. موقفه من الجهمية: عن معاذ بن معاذ قال: قلت لعوف بن أبي جميلة: إن عمرو بن عبيد ¬

(¬1) الطبقات (7/ 258) وتهذيب الكمال (22/ 437 - 441) والسير (6/ 383 - 384) وشذرات الذهب (1/ 217).

العوام بن حوشب (148 هـ)

حدثنا عن الحسن، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من حمل علينا السلاح فليس منا (¬1) قال: كذب والله عمرو. ولكنه أراد أن يحوزها إلى قوله الخبيث. (¬2) قال النووي: وقوله: أراد أن يحوزها إلى قوله الخبيث، معناه كذب بهذه الرواية ليعضد بها مذهبه الباطل الرديء، وهو الاعتزال، فإنهم يزعمون أن ارتكاب المعاصي يخرج صاحبه عن الإيمان ويخلده في النار، ولا يسمونه كافرا بل فاسقا مخلدا في النار. (¬3) العَوَّام بن حَوْشَب (¬4) (148 هـ) المحدث أبو عيسى الربعي الواسطي. حدث عن إبراهيم النخعي، ومجاهد، وعمرو بن مرة. وروى عنه شعبة، وهشيم، ويزيد بن هارون. ذكره أحمد وقال: ثقة ثقة. وقال يزيد بن هارون: كان صاحب أمر بالمعروف ونهي عن المنكر. وقال أحمد بن عبد الله العجلي: ثقة صاحب سنة، ثبت، صالح. توفي سنة ثمان وأربعين ومائة. ¬

(¬1) أخرجه من حديث ابن عمر: أحمد (2/ 3،53،142) والبخاري (13/ 29/7070) ومسلم (1/ 98/98) والنسائي (7/ 134/4111) وابن ماجه (2/ 860/2576). وله شاهد من حديث أبي موسى أخرجه: البخاري (13/ 29/7071) ومسلم (1/ 98/100) والترمذي (4/ 49/1459) وابن ماجه (2/ 860/2577)، وفي الباب عن أبي هريرة وسلمة بن الأكوع وغيرهما. (¬2) مقدمة مسلم (1/ 22). (¬3) شرح النووي على مسلم (1/ 99). (¬4) السير (6/ 354) وتهذيب الكمال (22/ 427) وتهذيب التهذيب (8/ 164) والجرح والتعديل (7/ 22).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: - عن العوام بن حوشب: أنه كان يقول لابنه: يا عيسى، أصلح الله قلبك، وأقل مالك. - وكان يقول: والله، لأن أرى عيسى يجالس أصحاب البرابط والأشربة والباطل أحب إلي من أن أراه يجالس أصحاب الخصومات. قال ابن وضاح: يعني أهل البدع. (¬1) موقفه من الرافضة: عن العوام بن حوشب قال: اذكروا محاسن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - تأتلف عليه قلوبكم ولا تذكروا غيره فتحرشوا الناس عليهم. (¬2) ليث بن أبي سليم (¬3) (148 هـ) ليث بن أبي سُلَيْم بن زُنَيْم، محدث الكوفة وأحد علمائها الأعيان. حدث عن: عطاء ومجاهد، ونافع مولى ابن عمر، وروى عنه الثوري، والفضيل بن عياض، وأبو عوانة. قال الفضيل بن عياض: كان ليث بن أبي سليم أعلم أهل الكوفة بالمناسك. قال عنه الدارقطني: صاحب سنة يخرج حديثه. وقال عنه الذهبي: حديثه لا يبلغ مرتبة الحسن. ¬

(¬1) ابن وضاح (ص.107/ 133) وهو في الاعتصام (1/ 114). (¬2) الشريعة (3/ 540/2035) والسنة للخلال (3/ 512 - 513). (¬3) السير (6/ 179) وطبقات ابن سعد (6/ 349) وتهذيب الكمال (24/ 279) وتهذيب التهذيب (8/ 465 - 468).

موقفه من الرافضة:

توفي سنة ثمان وأربعين ومائة. موقفه من الرافضة: روى اللالكائي بسنده إلى ليث بن أبي سليم قال: أدركت الشيعة الأولى ما يفضلون على أبي بكر وعمر أحدا. (¬1) محمد بن أبي ليلى (¬2) (148 هـ) محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى أبو عبد الرحمن العلامة الإمام مفتي الكوفة وقاضيها. روى عن أخيه عيسى وعن الشعبي ونافع العمري والمنهال ابن عمرو وغيرهم. روى عنه: شعبة وسفيان بن عيينة والثوري وآخرون. كان فيما يحفظ كتاب الله، تلا على أخيه عيسى. وعرض على الشعبي عن تلاوته على علقمة. وكان نظيرا للإمام أبي حنيفة في الفقه. قال الإمام أحمد: وكان فقهه أحب إلينا من حديثه. ذكر زائدةُ ابنَ أبي ليلى فقال: كان أفقه أهل الدنيا. قال العجلي: كان فقيها صاحب سنة صدوقا جائز الحديث، وكان قارئا للقرآن عالما به قرأ عليه حمزة الزيات فكان يقول: إنا تعلمنا جودة القراءة عند ابن أبي ليلى، وكان من أحسب الناس ومن أنقط الناس للمصحف وأخطه بقلم وكان جميلا نبيلا. قال ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (7/ 1381/2471) والسير (6/ 182) والمنهاج (6/ 136). (¬2) السير (6/ 310 - 316) وطبقات ابن سعد (6/ 358) ووفيات الأعيان (4/ 179 - 181) وتهذيب الكمال (25/ 622 - 627) والوافي بالوفيات (3/ 221 - 223) وتهذيب التهذيب (9/ 301 - 303) وميزان الاعتدال (3/ 613 - 616) وشذرات الذهب (1/ 224).

موقفه من الجهمية:

القاضي أبو يوسف: ما ولي القضاء أحد أفقه في دين الله ولا أقرأ لكتاب الله ولا أقول حقا بالله ولا أعف عن الأموال من ابن أبي ليلى. قال الثوري: فقهاؤنا ابن أبي ليلى وابن شبرمة. مات سنة ثمان وأربعين ومائة. موقفه من الجهمية: - روى اللالكائي في أصول الاعتقاد بسنده إلى محمد بن عمران بن محمد بن أبي ليلى قال: حدثني أبي قال: لما قدم ذلك الرجل إلى محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى شهد عليه ابن أبي سليمان وغيره أنه قال: القرآن مخلوق. وشهد عليه قوم مثل قول حماد بن أبي سليمان. فحدثني خالد بن نافع قال: كتب ابن أبي ليلى إلى جعفر -وهو بالمدينة- بما قاله ذلك الرجل وشهادته عليه وإقراره. فكتب إليه أبو جعفر: إن هو رجع وإلا فاضرب رقبته وأحرقه بالنار، فتاب ورجع عن قوله في القرآن. (¬1) - وله أيضا: عن محمد بن عمران بن أبي ليلى قال: حدثني وكيع قال: لما كان من أمر الرجل ما كان قال له ابن أبي ليلى: من خلقك؟ قال الله. قال: فمن خلق منطقك؟ قال: الله. قال: خصمت. قال: صدقت، فإيش تقول؟ فإني أتوب إلى الله. قال: فبعث معه ابن أبي ليلى أمينين فيوقفاه إلى حلقة من حلق المسجد يقولان لهم: إنه قال: إن القرآن مخلوق، فقد تاب ورجع فإن سمعتموه يقول شيئا فارفعوا ذلك إلي. قال: وأمر موسى بن عيسى حرسيا فقال: لا تدعنه يفتي في المسجد. قال: فكان إذا صلى قال الحرسي: ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 272 - 273/ 408).

سليمان بن مهران الأعمش (148 هـ)

قم إلى منزلك فيقول له: دعني أسبح. فيقول: ولا كلمة. قال: فلا يتركه حتى يقيمه. فلما قدم محمد بن سليمان جمع جماعة فكلمه فأذن له وجلس في المسجد. (¬1) سليمان بن مهران الأعمش (¬2) (148 هـ) سليمان بن مِهْرَان الإمام شيخ الإسلام، شيخ المقرئين والمحدثين أبو محمد الأسدي الكاهلي مولاهم الكوفي الحافظ. رأى أنس بن مالك وحكى عنه وروى عنه. روى عن أبان بن أبي عياش وإبراهيم النخعي وأبي صالح السمان وطائفة. روى عنه السفيانان وجرير بن عبد الحميد وحفص بن غياث وشعبة ومحمد بن فضيل وأبو معاوية الضرير وعبد الله بن نمير وآخرون. قال ابن عيينة: كان الأعمش أقرأهم لكتاب الله وأحفظهم للحديث وأعلمهم بالفرائض. وكان يحيى القطان إذا ذكر الأعمش قال: كان من النساك، وكان محافظا على الصلاة في جماعة، وعلى الصف الأول. قال يحيى: وهو علامة الإسلام. وقال أبو حفص الفلاس: كان يسمى المصحف من صدقه. وقال الخريبي: ما خلف الأعمش أعبد منه، وكان رضي الله عنه صاحب سنة. ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 273/409). (¬2) طبقات ابن سعد (6/ 342 - 344) وتاريخ خليفة (232و424) والجرح والتعديل (4/ 146 - 147) ومشاهير علماء الأمصار (111) وحلية الأولياء (5/ 46 - 60) والسير (6/ 226 - 248) وتاريخ بغداد (9/ 3 - 13) وتهذيب الكمال (12/ 76 - 91) ووفيات الأعيان (2/ 400 - 403) وتذكرة الحفاظ (1/ 154) وميزان الاعتدال (2/ 224).

موقفه من المبتدعة:

توفي في ربيع الأول سنة ثمان وأربعين ومائة. موقفه من المبتدعة: - روى الخطيب في شرف أصحاب الحديث عن الأعمش أنه قال: إذا رأيت الشيخ لم يقرأ القرآن ولم يكتب الحديث فاصفع له، فإنه من شيوخ القمر. قال أبو صالح: قلت لأبي جعفر: ما شيوخ القمر؟ قال شيوخ دهريون يجتمعون في ليالي القمر يتذاكرون أيام الناس ولا يحسن أحدهم أن يتوضأ للصلاة. (¬1) " التعليق: وهذا شأن المبتدعة يجتمعون على مناقب شيوخهم وترهاتهم، أو يستغرقون العمر في حفظ أشياء ودراستها لا علاقة لها بالكتاب والسنة. - قال الأعمش: إنما مثل أصحاب هذا الرأي مثل رجل خرج بليل فرأى سوادا فظن أنها تمرة فإن أخطأه يكون عقربا أو يكون جرو كلب. (¬2) " التعليق: قال ابن بطة عقبه: الله الله إخواني يا أهل القرآن ويا حملة الحديث لا تنظروا فيما لا سبيل لعقولكم إليه، ولا تسألوا عما لم يتقدمكم السلف الصالح من علمائكم إليه، ولا تكلفوا أنفسكم ما لا قوة بأبدانكم الضعيفة ولا تنقروا ولا تبحثوا عن مصون الغيب ومكنون العلوم، فإن الله جعل ¬

(¬1) شرف أصحاب الحديث (ص.67 - 68) والمحدث الفاصل (ص.306). (¬2) الإبانة (1/ 2/423/ 350).

للعقول غاية تنتهي إليها، ونهاية تقصر عندها، فما نطق به الكتاب وجاء به الأثر فقولوه، وما أشكل عليكم فكلوه إلى عالمه، ولا تحيطوا الأمور بحيط العشوا حنادس الظلماء بلا دليل هاد ولا ناقد بصير، أتراكم أرجح أحلاما وأوفر عقولا من الملائكة المقربين حين قالوا: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (¬1). إخواني: فمن كان بالله مؤمنا فليردد إلى الله العلم بغيوبه، وليجعل الحكم إليه في أمره، فيسلك العافية ويأخذ بالمندوحة الواسعة، ويلزم المحجة الواضحة والجادة السابلة والطريق الآنسة، فمن خالف ذلك وتجاوزه إلى الغمط بما أمر به، والمخالفة إلى ما نهي عنه، يقع والله في بحور المنازعة وأمواج المجادلة، ويفتح على نفسه أبواب الكفر بربه والمخالفة لأمره والتعدي لحدوده، والعجب لمن خلق من نطفة من ماء مهين فإذا هو خصيم مبين كيف لا يفكر في عجزه عن معرفة خلقه أما تعلمون أن الله قد أخذ عليكم ميثاق الكتاب أن لا تقولوا على الله إلا الحق فسبحان الله أنى تؤفكون. - عن الأعمش قال: كانوا لا يسألون عن الرجل بعد ثلاث: ممشاه ومدخله وإلفه من الناس. (¬2) ¬

(¬1) البقرة الآية (32). (¬2) الإبانة (2/ 3/452/ 419).

موقفه من المشركين:

موقفه من المشركين: - عن أبي معاوية قال: سمعت الأعمش يقول: أدركت الناس وما يسمونهم إلا الكذابين، يعنى أصحاب المغيرة بن سعيد. - قال الأعمش: ولا عليكم ألا تذكروا هذا، فإني لا آمنهم أن يقولوا: إنا أصبنا الأعمش مع امرأة. (¬1) موقفه من الرافضة: - روى الآجري بسنده إلى الأعمش قال: بلغني أن رجلا أحدث على قبر الحسين بن علي رضي الله عنهما، فسلط الله تبارك وتعالى على أهل ذلك البيت الجنون، والجذام، والبرص، وكل داء وبلاء، قال أبو معمر: وأهل ذلك كانوا. قال محمد بن الحسين الآجري -رحمه الله-: على من قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما لعنة الله، ولعنة اللاعنين، وعلى من أعان على قتله، وعلى من سب علي بن أبي طالب، وسب الحسن والحسين، أو آذى فاطمة في ولدها، أو آذى أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعليه لعنة الله وغضبه، لا أقام الله الكريم له وزنا، ولا نالته شفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) - وروى الخلال في السنة بسنده إلى أبي هريرة المكتب حباب قال: كنا عند الأعمش فذكروا عمر بن عبد العزيز وعدله، فقال الأعمش: فكيف لو أدركتم معاوية؟ قالوا: يا أبا محمد يعني في حلمه؟ قال: لا والله، ألا بل في ¬

(¬1) المنهاج (1/ 60 - 61). (¬2) الشريعة (3/ 326 - 327/ 1735).

موقفه من الجهمية:

عدله. (¬1) موقفه من الجهمية: روى اللالكائي بسنده إلى محمد بن أحمد بن عمرو بن عيسى قال سمعت أبي يقول: ما رأيت مجلسا يجتمع فيه من المشايخ أنبل من مشايخ اجتمعوا في مسجد جامع الكوفة في وقت الامتحان فقرئ عليهم الكتاب الذي فيه المحنة فقال أبو نعيم: أدركت ثمانمائة شيخ ونيفا وسبعين شيخا -منهم الأعمش فمن دونه- فما رأيت خلقا يقول بهذه المقالة -يعني بخلق القرآن- ولا تكلم أحد بهذه المقالة إلا رمي بالزندقة، فقام أحمد بن يونس فقبل رأس أبي نعيم وقال: جزاك الله عن الإسلام خيرا. (¬2) موقفه من الخوارج: قال رحمه الله: جالست إياس بن معاوية فحدثني بحديث، قلت: من يذكر هذا؟ فضرب لي مثل رجل من الحرورية، فقلت: إلي تضرب هذا المثل؟ تريد أن أكنس الطريق بثوبي، فلا أدع بعرة ولا خنفساءة إلا حملتها. (¬3) موقفه من المرجئة: تقدم معنا في مواقف منصور بن المعتمر (ت 132هـ) أن سليمان الأعمش كان من جملة أهل العلم الذين يقولون بالاستثناء ويعيبون على من لا يستثني. ¬

(¬1) السنة للخلال (1/ 437) وفي المنهاج (6/ 233). (¬2) أصول الاعتقاد (2/ 305/481). (¬3) المحدث الفاصل (209) والكفاية (103).

الزبيدي (148 هـ)

الزُّبَيْدِي (¬1) (148 هـ) محمد بن الوليد بن عامر الإمام الحافظ الحجة القاضي أبو الهذيل الزبيدي الحمصي. روى عن الزهري ونافع وسعيد المقبري ومكحول الشامي وهشام بن عروة ويزيد بن شريح الحضرمي وعبد الرحمن بن جبير وطائفة. روى عنه محمد بن حرب الخولاني ويحيى بن حمزة الحضرمي والأوزاعي وإسماعيل بن عياش وبقية بن الوليد وآخرون. قال ابن سعد: كان الزبيدي أعلم أهل الشام بالفتوى والحديث، وكان ثقة إن شاء الله. وقال ابن حبان: كان من الحفاظ المتقنين، أقام مع الزهري عشر سنين حتى احتوى على أكثر علمه. توفي سنة ثمان وأربعين ومائة. موقفه من القدرية: جاء في أصول الاعتقاد بالسند إلى بقية قال: سألت الأوزاعي والزبيدي عن الجبر فقال الزبيدي: أمر الله أعظم وقدرته أعظم من أن يجبر أو يقهر، ولكن يقضي ويقدر ويخلق ويجبل عبده على ما أحب. (¬2) ¬

(¬1) الجرح والتعديل (8/ 111 - 112) والسير (6/ 281 - 284) ومشاهير علماء الأمصار (182) وتهذيب الكمال (26/ 586 - 591) وتذكرة الحفاظ (1/ 162 - 163) والوافي بالوفيات (5/ 174) وشذرات الذهب (1/ 224). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 775/1300) ومجموع الفتاوى (3/ 323).

جعفر الصادق (148 هـ)

جعفر الصادق (¬1) (148 هـ) جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الإمام الصادق شيخ بني هاشم أبو عبد الله القرشي الهاشمي العلوي المدني أحد الأعلام. وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، ولذلك كان يقول: ولدني أبو بكر مرتين. روى عن جده لأمه القاسم بن محمد وأبيه أبي جعفر محمد بن علي والزهري ومحمد بن المنكدر وعروة بن الزبير وعطاء بن أبي رباح وآخرين. روى عنه السفيانان وشعبة والدراوردي ومالك بن أنس وحفص بن غياث وطائفة. عن أبي حنيفة قال: ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد. وقال ابن معين: جعفر بن محمد ثقة مأمون. من أقواله: الفقهاء أمناء الرسل فإذا رأيتم الفقهاء قد ركنوا إلى السلاطين، فاتهموهم. وأيضا: الصلاة قربان كل تقي والحج جهاد كل ضعيف وزكاة البدن الصيام والداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر، واستنزلوا الرزق بالصدقة وحصنوا أموالكم بالزكاة وما عال من اقتصد، والتقدير نصف الرزق وقلة العيال أحد اليسارين، ومن أحزن والديه فقد عقهما، ومن ضرب بيده على فخذه عند مصيبة فقد حبط أجره، والصنيعة لا يكون ¬

(¬1) السير (6/ 255 - 270) وتاريخ خليفة (424) والجرح والتعديل (2/ 487) ومشاهير علماء الأمصار (127) وحلية الأولياء (3/ 192 - 206) ووفيات الأعيان (1/ 327 - 328) وتهذيب الكمال (5/ 74 - 97) وتذكرة الحفاظ (1/ 166 - 167) وميزان الاعتدال (1/ 414 - 415) وشذرات الذهب (1/ 220).

موقفه من المبتدعة:

صنيعة إلا عند ذي حسب أو دين، والله ينزل الصبر على قدر المصيبة وينزل الرزق على قدر المؤنة، ومن قدر معيشته رزقه الله، ومن بذر معيشته حرمه الله. توفي سنة ثمان وأربعين ومائة. موقفه من المبتدعة: - جاء في أصول الاعتقاد بالسند إليه قال: إياكم والخصومات في الدين، فإنها تشغل القلب وتورث النفاق. (¬1) - وجاء في الإبانة بالسند إليه قال: اتقوا جدال كل مفتون، فإن المفتون يلقن حجته. (¬2) - قال ابن شبرمة: دخلت أنا وأبو حنيفة على جعفر بن محمد بن علي وسلمت عليه، وكنت له صديقا، ثم أقبلت على جعفر، وقلت: أمتع الله بك، هذا رجل من أهل العراق له فقه وعقل، فقال لي جعفر: لعله الذي يقيس الدين برأيه، ثم أقبل علي فقال: أهو النعمان؟ قال محمد بن يحيى الربعي: ولم أعرف اسمه إلا ذلك اليوم، فقال له أبو حنيفة: نعم أصلحك الله، فقال له جعفر: اتق الله، ولا تقس الدين برأيك، فإن أول من قاس إبليس، إذ أمره الله بالسجود لآدم، فقال: {أَنَا خيرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} ثم قال له جعفر: هل تحسن أن تقيس رأسك من ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (1/ 145/219) والإبانة (2/ 3/525 - 526/ 635) والسير (6/ 264). (¬2) الإبانة (2/ 3/526 - 527/ 639).

جسدك؟ فقال له: لا، وفي حديث ابن رزقويه: نعم، فقال له: أخبرني عن الملوحة في العينين، وعن المرارة في الأذنين، وعن الماء في المنخرين، وعن العذوبة في الشفتين، لأي شيء جعل ذلك؟، قال: لا أدري، قال له جعفر: إن الله تعالى، خلق العينين فجعلهما شحمتين، وجعل الملوحة فيهما مَنّاً منه على ابن آدم، ولولا ذلك لذابتا فذهبتا، وجعل المرارة في الأذنين منا منه عليه، ولولا ذلك لهجمت الدواب فأكلت دماغه، وجعل الماء في المنخرين ليصعد منه النفس، وينزل، وتجد من الريح الطيبة ومن الريح الرديئة، وجعل العذوبة في الشفتين ليعلم ابن آدم مطعمه ومشربه، ثم قال لأبي حنيفة: أخبرني عن كلمة أولها شرك وآخرها إيمان؟ قال: لا أدري، فقال جعفر: لا إله إلا الله، فلو قال: لا إله ثم أمسك كان مشركا، فهذه كلمة أولها شرك وآخرها إيمان، ثم قال له: ويحك، أيها أعظم عند الله: قتل النفس التي حرم الله أو الزنا؟ قال: لا، بل قتل النفس، قال له جعفر: إن الله قد رضي في قتل النفس بشاهدين، ولم يقبل في الزنا إلا أربعة، فكيف يقوم لك قياس؟ ثم قال: أيهما أعظم عند الله الصوم أم الصلاة؟ قال: لا، بل الصلاة قال: فما بال المرأة إذا حاضت تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ اتق الله يا عبد الله ولا تقس، فإنا نقف غدا نحن وأنت ومن خالفنا بين يدي الله تبارك وتعالى: فنقول: قال الله عز وجل، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقول أنت وأصحابك سمعنا ورأينا، فيفعل الله تعالى بنا وبكم ما يشاء. (¬1) ¬

(¬1) الفقيه والمتفقه (1/ 464 - 466) وشرف أصحاب الحديث (ص.76) مختصرا. وانظر إعلام الموقعين (1/ 255 - 256).

موقفه من الرافضة:

موقفه من الرافضة: - جاء في سير أعلام النبلاء في ترجمة جعفر قال الذهبي: وكان يغضب من الرافضة ويمقتهم إذا علم أنهم يتعرضون لجده أبي بكر ظاهرا وباطنا. هذا لا ريب فيه ولكن الرافضة قوم جهلة قد هوى بهم الهوى في الهاوية فبعدا لهم. (¬1) " التعليق: هذا من أعلام أهل البيت، يكن الحب لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويغضب إذا سبوا، فما بال الروافض يخالفون أهل البيت في حب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن هناك أغراض أخرى ليست الغيرة على أهل البيت، ولكن تحطيم الإسلام من أصله. - وجاء في السير: علي بن الجعد عن زهير بن معاوية قال: قال أبي لجعفر بن محمد: إن لي جارا يزعم أنك تبرأ من أبي بكر وعمر. فقال جعفر: برئ الله من جارك. والله إني لأرجو أن ينفعني الله بقرابتي من أبي بكر. ولقد اشتكيت شكاية فأوصيت إلى خالي عبد الرحمن بن القاسم. (¬2) - وفيها وفي الشريعة عن سالم بن أبي حفصة قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي، وجعفر بن محمد رضي الله عنهم، عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؟ فقالا: يا سالم تولهما، وابرأ من عدوهما، فإنهما كانا إمامي هدى. ¬

(¬1) السير (6/ 255). (¬2) السير (6/ 258) والشريعة (3/ 353 - 354/ 1766).

قال ابن الفضيل: قال سالم: قال لي جعفر بن محمد: يا سالم أيسب الرجل جده؟ أبو بكر رضي الله عنه جدي، لا تنالني شفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - إن لم أكن أتولاهما، وأبرأ من عدوهما. (¬1) - وفيها قال حفص بن غياث: سمعت جعفر بن محمد يقول: ما أرجو من شفاعة علي شيئا إلا وأنا أرجو من شفاعة أبي بكر مثله. لقد ولدني مرتين. (¬2) - وفيها: عن عبد الجبار بن العباس الهمداني، أن جعفر بن محمد أتاهم وهم يريدون أن يرتحلوا من المدينة، فقال: إنكم إن شاء الله من صالحي أهل مصركم، فأبلغوهم عني: من زعم أني إمام معصوم مفترض الطاعة، فأنا منه بريء، ومن زعم أني أبرأ من أبي بكر وعمر، فأنا منه بريء. (¬3) - وفيها: عنه أنه سئل عن أبي بكر وعمر، فقال: إنك تسألني عن رجلين قد أكلا من ثمار الجنة. (¬4) - وفيها عن ابن السماك قال: خرجت إلى مكة، فلقيني زرارة بن أعين بالقادسية، فقال لي: إن لي إليك حاجة، وأرجو أن أبلغها بك، وعظمها، فقلت: ما هي؟ فقال: إذا لقيت جعفر بن محمد، فأقرئه مني السلام، وسله أن يخبرني من أهل الجنة أنا أم من أهل النار؟ فأنكرت عليه. فقال لي: إنه يعلم ذلك. فلم يزل بي حتى أجبته. فلما لقيت جعفر بن محمد، أخبرته بالذي كان ¬

(¬1) الشريعة (3/ 354/1767) وأصول الاعتقاد (7/ 1326/2358) والسنة لعبد الله (227) والسير (6/ 258 - 259). (¬2) السير (6/ 259). (¬3) السير (6/ 259). (¬4) السير (6/ 259).

موقفه من الجهمية:

منه. فقال: هو من أهل النار، فوقع في نفسي شيء مما قال. فقلت: ومن أين علمت ذلك؟ فقال: من ادعى علي أني أعلم هذا، فهو من أهل النار. فلما رجعت، لقيني زرارة، فأعلمته بقوله. فقال: كال لك يا أبا عبد الله من جراب النورة، قلت: وما جراب النورة؟ قال: عمل معك بالتقية. (¬1) موقفه من الجهمية: - جاء في السنة لعبد الله بن أحمد بالسند إلى معاوية بن عمار الدهني قال: قلت لجعفر يعني ابن محمد: إنهم يسألوننا عن القرآن مخلوق هو؟ قال: ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله. (¬2) - وجاء في الإبانة: قال جعفر بن محمد: من قال: القرآن مخلوق، قتل ولم يستتب. (¬3) موقفه من القدرية: - جاء في جامع بيان العلم وفضله بالسند إلى جعفر بن محمد قال: الناظر في القدر كالناظر في عين الشمس كلما ازداد نظرا ازداد حيرة. (¬4) - وجاء في الإبانة: عن مسلمة بن سعيد عن أبيه؛ قال: قلت لجعفر بن محمد: يا ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. إن لنا إماما قدريا صليت خلفه خمسين سنة؛ ¬

(¬1) السير (15/ 238 - 239) الميزان (2/ 69 - 70). (¬2) السنة لعبد الله (29) والإبانة (1/ 12/285 - 286/ 52) وأصول الاعتقاد (2/ 268/399) والشريعة (1/ 217/170) والسير (6/ 260) والمنهاج (2/ 245). (¬3) الإبانة (2/ 12/47/ 240). (¬4) جامع بيان العلم وفضله (2/ 945).

هشام بن حسان (148 هـ)

قال: اذهب فأعد صلاة خمسين سنة. (¬1) - وفيها عن العطافي عن رجاله من الشيعة؛ قال: قلنا لجعفر بن محمد رحمه الله: إن المعتزلة تنافرنا نفارا شديدا؛ فقل لنا شيئا حتى نقاتلهم به، فقال: اكتبوا: إن الله عز وجل لا يطاع قهرا ولا يعصى قسرا، فإذا أراد الطاعة كانت، وإذا أراد المعصية كانت، فإذا عذب فبحق، وإن عفى فبفضل، قال أبو عمر: وسمعت أبا العباس ثعلبا يقول: قول الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلًّا ليعبدون} (¬2) هو خصوص وليس هو عموما، ولو كان عموما لما كفر به أحد. (¬3) هشام بن حسان (¬4) (148 هـ) هِشَام بن حَسَّان الإمام العالم الحافظ محدث البصرة أبو عبد الله الأزدي القردوسي. نزل في القراديس، وقيل هو من مواليهم، رأى أنس بن مالك ولم يرو عنه. حدث عن الحسن ومحمد بن سيرين وحفصة بنت سيرين وعكرمة وعطاء بن أبي رباح وهشام بن عروة وحميد بن هلال وآخرين. حدث عنه عبد الأعلى بن عبد الأعلى والسفيانان والحمادان وشعبة وعيسى بن يونس ¬

(¬1) الإبانة (2/ 10/260/ 1873). (¬2) الذاريات الآية (56). (¬3) الإبانة (2/ 11/321 - 322/ 2008). (¬4) الجرح والتعديل (9/ 54 - 56) والسير (6/ 355 - 366) وتاريخ الإسلام (حوادث 141 - 160، ص.318 - 320) وتهذيب الكمال (30/ 181 - 193) وتذكرة الحفاظ (1/ 163 - 164) ومشاهير علماء الأمصار (151) وميزان الاعتدال (4/ 295 - 298) وشذرات الذهب (1/ 219 - 220).

موقفه من المبتدعة:

وحفص بن غياث وعبد الله بن المبارك وخلق كثير. قال سفيان بن عيينة: كان أعلم الناس بحديث الحسن، وكان حماد بن سلمة لا يختار عليه أحدا في حديث ابن سيرين. وقال ابن حبان: وكان من العباد الخشن والبكائين بالليل. قال الذهبي: هشام قد قفز القنطرة واستقر توثيقه، واحتج به أصحاب الصحاح وله أوهام مغمورة في سعة ما روى. مات سنة ثمان وأربعين ومائة. موقفه من المبتدعة: جاء في الاعتصام أن هشام بن حسان قال: لا يقبل الله من صاحب بدعة صياما ولا صلاة، ولا حجا ولا جهادا ولا عمرة، ولا صدقة ولا عتقا، ولا صرفا ولا عدلا. (¬1) عبد الله بن يزيد بن هرمز (¬2) (148 هـ) عبد الله بن يزيد بن هُرْمُز الأصم أبو بكر فقيه المدينة، أحد الأعلام، عداده في التابعين، وقلما روى، كان يتعبد ويتزهد، ولاؤه لبني ليث. روى عنه مالك وجالسه كثيرا. قال مالك: جلست إلى ابن هرمز ثلاث عشرة سنة. وقال مالك: لم يكن أحد بالمدينة له شرف إلا إذا حز به أمر رجع إلى ابن هرمز. قال ابن هرمز: إني لأحب للرجل أن لا يحوط رأي نفسه كما ¬

(¬1) ابن وضاح (ص.68) وهو في الاعتصام (1/ 113). (¬2) السير (6/ 379 - 380) والوافي بالوفيات (17/ 679) والجرح والتعديل (5/ 199) ومشاهير علماء الأمصار (137).

موقفه من المبتدعة:

يحوط السنة. توفي سنة ثمان وأربعين ومائة. موقفه من المبتدعة: - جاء في سير أعلام النبلاء: قال مالك: كنت أحب أن أقتدي به وكان قليل الفتيا، شديد التحفظ كثيرا ما يفتى الرجل ثم يبعث من يرده ثم يخبره بغير ما أفتاه. وكان بصيرا بالكلام يرد على أهل الأهواء، كان من أعلم الناس بذلك. بين مسألة لابن عجلان، فلما فهمها قام إليه ابن عجلان فقبل رأسه. (¬1) - ذكر محمد بن حارث في أخبار سحنون بن سعيد عنه قال: كان مالك وعبد العزيز بن أبي سلمة ومحمد بن إبراهيم بن دينار وغيرهم يختلفون إلى ابن هرمز، فكان إذا سأله مالك وعبد العزيز أجابهما، وإذا سأله ابن دينار وذووه لا يجيبهم، فتعرض له ابن دينار يوما فقال: يا أبا بكر لم تستحل مني ما لا يحل لك؟ فقال له: يا ابن أخي وما ذلك؟ قال: يسألك مالك وعبد العزيز فتجيبهما، وأسألك أنا وذوي فلا تجيبنا؟ فقال: أوقع ذلك يا ابن أخي في قلبك؟ قال: نعم، قال: إني قد كبرت سني ودق عظمي، وأنا أخاف أن يكون خالطني في عقلي مثل الذي خالطني في بدني، ومالك وعبد العزيز عالمان فقيهان، إذا سمعا مني حقا قبلاه، وإن سمعا خطأ تركاه، وأنت وذووك ما أجبتكم به قبلتموه. قال ابن حارث: هذا والله الدين الكامل، والعقل الراجح، لا كمن يأتي ¬

(¬1) السير (6/ 379) والفقيه والمتفقه (2/ 423).

بالهذيان ويريد أن ينزل قوله من القلوب منزلة القرآن. (¬1) " التعليق: قلت: انظر رحمك الله إلى فقه السلف وورعهم وخوفهم من الله تبارك وتعالى، فهذا زمن أتباع التابعين الذين ما يزال العلم والحكمة بضاعتهم الرائجة، فيتحرى هذا الإمام ويميز الناس في علمهم وعقلهم، فيجيب هذا ويمتنع عن هذا مخافة أن يخطئ في جواب، فيؤخذ الخطأ صوابا ويحفظ ويسجل ويكتب، ويعتقد ويتعبد الله به، وتستحل به الدماء والفروج والأعراض. وأما أهل هذا الزمان، فلا علم ولا عقل ولا ميزان، ولا ابن هرمز ولا مالك ولا ابن الماجشون ولا ابن دينار، كل هذا قد اختفى وغاب مع زمانه، ولكن عندنا من الدجاجلة ومن الدِّعِّيين في العلم والمعرفة ما هو واضح لكل من استعمل مقارنة بين زماننا وبين ذلك الزمان الذي كان منهاجه الكتاب والسنة. والناظر إلى ما يكتب للمسلمين يجده لا يتقيد بكتاب ولا بسنة وإنما هو رأي فلان، وفكر فلان، ومنامة فلان، وخضر فلان، وكل دجل وكذب يروج على هذه الأمة. وأما الخطب وما ينشر في كثير من الأشرطة المسموعة والمرئية فلا تسأل عن الكذب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعن الضلال العقدي الموجود فيها. وأما المناظرات والأحاديث في التجمعات الخاصة والعامة فلا تسأل عن ¬

(¬1) إعلام الموقعين (2/ 196 - 198).

موقفه من القدرية:

مستواها في الضعف والانحطاط. وأما المروجون للباطل من شرك وخرافات وترهات فلا تسأل عن خفتهم وسفههم وسرعة ترويجهم لباطلهم، والله المستعان. موقفه من القدرية: روى الآجري بسنده عن أنس بن عياض قال: أرسل إلي عبد الله بن يزيد ابن هرمز. فقال: لقد أدركت وما بالمدينة أحد يتهم بالقدر إلا رجل من جهينة. يقال له: معبد الجهني، فعليكم بدين العواتق اللائي لا يعرفن إلا الله تعالى. (¬1) أبو حنيفة (¬2) (150 هـ) النعمان بن ثابت بن زَوْطى أبو حنيفة التيمي الكوفي مولى بني تيم الله ابن ثعلبة، الفقيه عالم العراق إمام أصحاب الرأي، أحد الأئمة المجتهدين، رأى أنس بن مالك. روى عن عطاء بن أبي رباح وعامر الشعبي وحماد بن أبي سليمان والزهري والحكم بن عتيبة وقتادة وسلمة بن كهيل وطائفة. روى عنه ابنه حماد وحمزة الزيات وعلي بن مسهر ويزيد بن زريع، ويونس بن بكير وعبد الرزاق بن همام ومحمد بن الحسن الشيباني ووكيع بن الجراح ¬

(¬1) الشريعة (1/ 459/597) وأصول الاعتقاد (3/ 592/940) والإبانة (2/ 11/300/ 1960). (¬2) الجرح والتعديل (8/ 449 - 450) وتاريخ بغداد (13/ 323و454) ووفيات الأعيان (5/ 405 - 415) وتهذيب الكمال (29/ 417 - 444) وتذكرة الحفاظ (1/ 168 - 169) وميزان الاعتدال (4/ 265) والسير (6/ 390 - 403) والبداية والنهاية (10/ 110 - 111) وشذرات الذهب (1/ 227 - 229).

موقفه من المبتدعة:

وآخرون. قال يزيد بن هارون: أدركت الناس فما رأيت أحدا أعقل ولا أفضل ولا أورع من أبي حنيفة. وقال ابن المبارك: أبو حنيفة أفقه الناس، وقال الفضيل بن عياض: كان أبو حنيفة رجلا فقيها معروفا بالفقه مشهورا بالورع واسع المال، معروفا بالإفضال على كل من يطيف به، صبورا على تعليم العلم بالليل والنهار، حسن الليل، كثير الصمت قليل الكلام حتى ترد مسألة في حلال أو حرام فكان يُحسن أن يدل على الحق، هاربا من مال السلطان. يروى أنه ضرب غير مرة على أن يلي القضاء فلم يفعل ومناقبه كثيرة. توفي رحمه الله في السجن وقيل مسموما سنة خمسين ومائة. موقفه من المبتدعة: - روى الخطيب عن أبي زرعة، قال حدثني يزيد بن عبد ربه، قال سمعت وكيع بن الجراح يقول ليحيى بن صالح الوحاظي: يا أبا زكريا احذر الرأي، فإني سمعت أبا حنيفة يقول: البول في المسجد أحسن من بعض قياسهم. (¬1) - عن سعيد بن سلام البصري قال: سمعت أبا حنيفة يقول: لقيت عطاء بن أبي رباح بمكة، فسألته عن شيء؟ فقال: من أين أنت؟ قلت: من أهل الكوفة. قال: أنت من أهل القرية الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا؟ قلت: نعم. قال: من أي الأصناف أنت؟ قلت: ممن لا يسب السلف، ويؤمن ¬

(¬1) الفقيه والمتفقه (1/ 509 - 510) وانظر إعلام الموقعين (1/ 256).

موقفه من الرافضة:

بالقدر، ولا يكفر أحدا بذنب. فقال لي عطاء: عرفت فالزم. (¬1) موقفه من الرافضة: - قال شيخ الإسلام: وفي كتاب الفقه الأكبر المشهور عند أصحاب أبي حنيفة، الذي رووه بالإسناد عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي قال: سألت أبا حنيفة عن الفقه الأكبر فقال: ... ولا تتبرأ من أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا توالي أحدا دون أحد، وأن ترد أمر عثمان وعلي إلى الله عز وجل. (¬2) - جاء في الكفاية: سأل أبو عصمة أبا حنيفة ممن تأمرني أن أسمع الآثار؟ قال من كل عدل في هواه إلا الشيعة، فإن أصل عقدهم تضليل أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومن أتى السلطان طائعا، أما إني لا أقول إنهم يكذبونهم أو يأمرونهم بما لا ينبغي ولكن وطأوا لهم حتى انقادت العامة بهم، فهذان لا ينبغي أن يكونا من أئمة المسلمين. (¬3) - وجاء في الوصية مع شرحها: قال أبو حنيفة في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ويحبهم كل مؤمن تقي ويبغضهم كل منافق شقي". (¬4) - وجاء في الانتقاء لابن عبد البر قال أبو حنيفة: الجماعة أن تفضل أبا بكر وعمر وعليا وعثمان، ولا تنتقص أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... (¬5) ¬

(¬1) الحلية (3/ 314) وانظر الاعتصام (1/ 80). (¬2) مجموع الفتاوى (5/ 46). (¬3) الكفاية (126). (¬4) الوصية مع شرحها (ص.14). (¬5) الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء (ص.163 - 164).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: - قال الهروي في ذم الكلام بالسند إلى نوح الجامع قال: قلت لأبي حنيفة: ما تقول فيما أحدث الناس من الكلام في الأعراض والأجسام؟ فقال: مقالات الفلاسفة، عليك بالأثر وطريقة السلف وإياك وكل محدثة فإنها بدعة. (¬1) " التعليق: هذا النص من أعظم النصوص وضوحا في تحريم الكلام والفلسفة عن إمام عظيم، مذهبه أكثر المذاهب انتشارا في العالم الإسلامي، ومع ذلك تجد أكثر أتباعه -إن لم يكونوا كلهم- ماتريدية في عقائدهم وصوفية في سلوكهم ومقلدة في عبادتهم، لا للرسول اتبعوا ولا لسلفهم سمعوا، ولكن الإلف والتقليد يبعد الإنسان عن الحق والله المستعان. - جاء في ذم الكلام بالسند إلى محمد بن الحسن -صاحب أبي حنيفة- يقول: قال أبو حنيفة لعن الله عمرو بن عبيد، فإنه فتح للناس الطريق إلى الكلام فيما لا يعنيهم من الكلام. وكان أبو حنيفة يحثنا على الفقه، وينهانا عن الكلام. (¬2) - وفي أصول الاعتقاد: عن ابن منصور قال: سمعت ابن المبارك يقول: ¬

(¬1) ذم الكلام (231) والفتاوى الكبرى (5/ 245) وصون المنطق (32). (¬2) ذم الكلام (233).

والله ما مات أبو حنيفة وهو يقول بخلق القرآن ولا يدين الله به. (¬1) - وفيه: عن محمد بن مقاتل قال: سمعت ابن المبارك يقول: ذُكر جهم في مجلس أبي حنيفة فقال: ما يقول؟ قالوا: يقول القرآن مخلوق. فقال: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} (¬2). اهـ (¬3) قال شيخ الإسلام: عن أبي عصمة قال: سألت أبا حنيفة: من أهل الجماعة؟ قال: من فضل أبا بكر وعمر، وأحب عليا وعثمان، ولم يحرم نبيذ الجر، ولم يكفر أحدا بذنب، ورأى المسح على الخفين، وآمن بالقدر خيره وشره من الله، ولم ينطق في الله بشيء. وروى خالد بن صبيح، عن أبي حنيفة قال: الجماعة سبعة أشياء: أن يفضل أبا بكر وعمر، وأن يحب عثمان وعليا، وأن يصلي على من مات من أهل القبلة بذنب، وأن لا ينطق في الله شيئا. قلت: قوله في هاتين الروايتين لا ينطق في الله شيئا قد بينه في رواية أبي يوسف، وهو أن لا ينطق في الله بشيء من رأيه ولكنه يصفه بما وصف به نفسه. (¬4) - قال الذهبي في الميزان: قال أبو حنيفة: أفرط جهم في نفي التشبيه، حتى قال: إنه تعالى ليس بشيء وأفرط مقاتل -يعني في الإثبات- حتى جعله ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 298/471). (¬2) الكهف الآية (5). (¬3) أصول الاعتقاد (2/ 298/472). (¬4) مجموع الفتاوى (16/ 474).

موقفه من الخوارج:

مثل خلقه. (¬1) - وقال شيخ الإسلام: وقال أبو حنيفة في كتاب الفقه الأكبر المعروف المشهور عند أصحابه، الذي رووه بالإسناد عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي: قال: قال أبو حنيفة عمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض فقال: قد كفر لأن الله يقول {الرَّحْمَنُ على الْعَرْشِ استوى} (¬2)، وعرشه فوق سبع سماوات. قال أبو مطيع: قلت: فإن قال: إنه على العرش ولكنه يقول: لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر، لأنه أنكر أن يكون في السماء، لأنه تعالى في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل. (¬3) موقفه من الخوارج: - جاء في مناقب أبي حنيفة للمكي مناظرات لأبي حنيفة رحمه الله مع الخوارج منها: أن الخوارج لما ظهروا على الكوفة أخذوا أبا حنيفة فقالوا: تب يا شيخ من الكفر، فقال أنا تائب إلى الله من كل كفر فخلوا عنه، فلما ولى قيل لهم: إنه تاب من الكفر، وإنما يعني به ما أنتم عليه فاسترجعوه. فقال رأسهم: يا شيخ إنما تبت من الكفر، وتعني به ما نحن عليه؟ فقال أبو حنيفة: أبظن تقول هذا أم بعلم؟ فقال: بل بظن. فقال أبو حنيفة: إن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ ¬

(¬1) الميزان (4/ 173) (¬2) طه الآية (5). (¬3) درء التعارض (6/ 263) ومجموع الفتاوى (5/ 47 - 48).

إِثْمٌ} (¬1) وهذه خطيئة منك، وكل خطيئة عندك كفر، فتب أنت أولا من الكفر. فقال: صدقت يا شيخ أنا تائب من الكفر. (¬2) - ومنها أنهم جاءوه ليناظروه لما علموا أنه لا يكفر أحدا من أهل القبلة بذنب فقالوا: هاتان جنازتان على باب المسجد أما إحداهما فلرجل شرب الخمر حتى كظته وحشرج بها فمات غرقا في الخمر، والأخرى امرأة زنت حتى إذا أيقنت بالحمل قتلت نفسها فقال لهم أبو حنيفة: من أي الملل كانا؟ أمن اليهود؟ قالوا: لا، أفمن النصارى؟ قالوا: لا، قال: أفمن المجوس؟ قالوا: لا، قال: من أي الملل كانا؟ قالوا: من الملة التي تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، قال: فأخبروني عن الشهادة كم هي من الإيمان؟ ثلث أم ربع أم خمس؟ قالوا: إن الإيمان لا يكون ثلثا ولا ربعا ولا خمسا، قال: فكم هي من الإيمان؟ قالوا: الإيمان كله، قال: فما سؤالكم إياي عن قوم زعمتم وأقررتم أنهما كانا مؤمنين. قالوا: دعنا عنك، أمن أهل الجنة هما أم من أهل النار؟ قال: أما إذا أبيتم، فإني أقول فيهما ما قال نبي الله إبراهيم في قوم كانوا أعظم جرما منهم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬3). وأقول فيهما ما قال نبي الله عيسى في ¬

(¬1) الحجرات الآية (12). (¬2) مناقب أبي حنيفة للمكي (151 - 152). (¬3) إبراهيم الآية (36).

قوم كانوا أعظم جرما منهما {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬1) وأقول فيهما ما قال نبي الله نوح: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} (¬2). وأقول فيهما ما قال نبي الله نوح عليه السلام وعليهم أجمعين وعلى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}. (¬3) قال: فألقوا السلاح وقالوا: تبرأنا من كل دين كنا عليه، وندين الله بدينك فقد آتاك الله فضلا وحكمة وعلما. (¬4) - وقال شيخ الإسلام في المجموع: وفي كتاب الفقه الأكبر المشهور عند أصحاب أبي حنيفة، الذي رووه بالإسناد عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي قال: سألت أبا حنيفة عن الفقه الأكبر ... قلت: فما تقول فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فيتبعه على ذلك أناس فيخرج على الجماعة، هل ¬

(¬1) المائدة الآية (118). (¬2) الشعراء الآيات (111 - 113). (¬3) هود الآية (31). (¬4) مناقب أبي حنيفة للمكي (108 - 109).

مقاتل بن حيان (150 هـ)

ترى ذلك؟ قال: لا. قلت: ولم، وقد أمر الله ورسوله بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهو فريضة واجبة؟ قال هو كذلك، لكن ما يفسدون أكثر مما يصلحون من سفك الدماء واستحلال الحرام. قال: وذكر الكلام في قتل الخوارج والبغاة. (¬1) مقاتل بن حيان (¬2) (150 هـ) مُقَاتِل بن حَيَّان بن دَوَال دُوز -ومعناه بالفارسية الخراز- أبو بسطام البلخي مولى بكر بن وائل، الإمام العالم المحدث الثقة. روى عن مجاهد بن جبر ومحمد بن زيد قاضي مرو والشعبي والحسن البصري وعطاء بن أبي رباح وعكرمة، وعمرة وطائفة، وعنه إبراهيم بن أدهم وعبد الله بن المبارك وعلقمة ابن مرثد ومسلمة بن علي الخشني وخالد بن زياد الترمذي وآخرون. قال الذهبي: وكان خيّرا ناسكا كبير القدر، صاحب سنة. كان ذا منزلة عند قتيبة ابن مسلم الأمير، هرب مقاتل إلى كابل فأسلم به خلق. توفي في حدود الخمسين ومائة. موقفه من المبتدعة: جاء في الاعتصام عن مقاتل بن حيان قال: أهل هذه الأهواء آفة أمة ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (5/ 46 - 47). (¬2) الجرح والتعديل (8/ 353 - 354) ومشاهير علماء الأمصار (195) وتذكرة الحفاظ (1/ 174) وسير أعلام النبلاء (6/ 340 - 341) وتهذيب الكمال (28/ 430 - 434) وميزان الاعتدال (4/ 171 - 172) وتاريخ الإسلام (حوادث 141 - 160/ص.296 - 297).

موقفه من الجهمية:

محمد - صلى الله عليه وسلم -، إنهم يذكرون النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته، فيتصيدون بهذا الذكر الحسن عند الجهال من الناس، فيقذفون بهم في المهالك، فما أشبههم بمن يسقي الصبر باسم العسل، ومن يسقي السم القاتل باسم الترياق، فأبصرهم، فإنك إن لا تكن أصبحت في بحر الماء، فقد أصبحت في بحر الأهواء الذي هو أعمق غورا، وأشد اضطرابا، وأكثر صواعق، وأبعد مذهبا من البحر وما فيه، فتلك مطيتك التي تقطع بها سفر الضلال: اتباع السنة. (¬1) موقفه من الجهمية: عن مقاتل: بلغنا والله أعلم في قوله -عز وجل-: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} (¬2) الأول قبل كل شيء، والآخر بعد كل شيء، والظاهر فوق كل شيء، والباطن أقرب من كل شيء، وإنما يعني القرب بعلمه وقدرته وهو فوق عرشه وهو بكل شيء عليم، وبهذا الإسناد عنه في قوله تعالى: {إِلًّا هُوَ مَعَهُمْ} (¬3) يقول بعلمه وذلك قوله: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬4) فيعلم نجواهم، ويسمع كلامهم ثم ينبئهم يوم القيامة بكل شيء، وهو فوق عرشه وعلمه معهم. (¬5) ¬

(¬1) الاعتصام (1/ 115). (¬2) الحديد الآية (3). (¬3) المجادلة الآية (7). (¬4) المجادلة الآية (7). (¬5) اجتماع الجيوش الإسلامية (119 - 120) وأصول الاعتقاد (3/ 444/670) بلفظ مختصر.

ابن جريج (150 هـ)

ابن جريج (¬1) (150 هـ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُرَيْج الإمام العلامة الحافظ شيخ الحرم، أبو خالد المكي القرشي الأموي صاحب التصانيف مولى أمية بن خالد. روى عن عطاء بن أبي رباح والزهري وأبي الزبير ونافع وابن أبي مليكة وآخرين. حدث عنه عبد الله بن وهب وعبد الرزاق بن همام والضحاك بن مخلد وحجاج ابن محمد المصيصي والسفيانان والحمادان وطائفة. عن مخلد بن الحسين قال: ما رأيت خلقا من خلق الله أصدق لهجة من ابن جريج. وقال عبد الرزاق: ما رأيت أحدا أحسن صلاة من ابن جريج. وقال عطاء: سيد شباب أهل الحجاز ابن جريج. وقال يحيى بن سعيد: كنا نسمي كتب ابن جريج كتب الأمانة. توفي سنة خمسين ومائة. موقفه من المرجئة: جاء في الإبانة بالسند إلى عبد الرزاق قال: سمعت معمرا وسفيان الثوري ومالك بن أنس وابن جريج وسفيان بن عيينة يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. (¬2) ¬

(¬1) الجرح والتعديل (5/ 356 - 358) ومشاهير علماء الأمصار (145) وتاريخ بغداد (10/ 400 - 407) ووفيات الأعيان (3/ 163 - 164) والسير (6/ 325) وتهذيب الكمال (18/ 338 - 354) وتذكرة الحفاظ (1/ 169 - 171) والعقد الثمين (5/ 508 - 510). (¬2) الإبانة (2/ 813/1114) وأصول الاعتقاد (5/ 1028 - 1029/ 1735) وبنحوه في السنة لعبد الله (97) والشريعة (1/ 272/267).

موقف السلف من ثور بن يزيد القدري (150 هـ)

موقف السلف من ثور بن يزيد القدري (150 هـ) جاء في أصول الاعتقاد: عن عبد الله بن سالم قال: أدركت أهل حمص وقد أخرجوا ثور بن يزيد وأحرقوا داره لكلامه في القدر. (¬1) وعن أحمد بن حنبل قال: كان ثور بن يزيد الكلاعي يرى القدر وكان من أهل حمص. أخرجوه ونفوه لأنه كان يرى القدر. قال: وبلغني أنه أتى المدينة فقيل لمالك قد قدم ثور فقال لا تأتوه فقال: لا يجتمع عند رجل مبتدع في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) وجاء في السير: قال أبو توبة الحلبي: حدثنا أصحابنا أن ثورا لقي الأوزاعي، فمد يده إليه، فأبى الأوزاعي أن يمد يده إليه وقال: يا ثور، لو كانت الدنيا، لكانت المقاربة، ولكنه الدين. وقال أحمد: كان ثور يرى القدر، وليس به بأس. قال عبيد الله بن موسى: قال سفيان: اتقوا ثورا، لا ينطحنكم بقرنه. قال الذهبي: كان ثور عابدا، ورعا، والظاهر أنه رجع، فقد روى أبو زرعة عن منبه بن عثمان، أن رجلا قال لثور: يا قدري. قال: لئن كنت كما قلت إني لرجل سوء، وإن كنت على خلاف ما قلت إنك لفي حل. قال إسماعيل بن عياش: نفى أسد بن وداعة ثورا. وقال عبد الله بن سالم: أخرجوه ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 801/1338). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 801/1337) والإبانة (2/ 3/475 - 476/ 496).

موقف السلف من محمد بن إسحاق لتلبسه ببدعة القدر (150 هـ)

وأحرقوا داره لكلامه في القدر. (¬1) موقف السلف من محمد بن إسحاق لتلبسه ببدعة القدر (150 هـ) جاء في أصول الاعتقاد بالسند إلى عبد العزيز الدراوردي قال: كنا في مجلس محمد بن إسحاق نتعلم فأغفى إغفاءة فقال: إني رأيت في المنام الساعة كأن إنسانا دخل المسجد ومعه حبل في عنق حمار فأخرجه. فما لبثنا أن دخل المسجد رجل ومعه حبل حتى وضعه في عنق ابن إسحاق فأخرجه فذهب إلى السلطان فجلده. قال ابن أبي زنبر: من أجل القدر. (¬2) وفيه: عن حميد بن حبيب أنه رأى محمد بن إسحاق مجلودا في القدر جلده إبراهيم بن هشام خال هشام بن عبد الملك. (¬3) مقاتل بن سليمان المشبه وموقفه من الجهم بن صفوان (150 هـ) جاء في الإبانة: عن مقاتل بن سليمان؛ قال: وكان مما علمنا من أمر عدو الله جهم أنه كان من أهل خراسان من أهل الترمذ، وكان صاحب خصومات وكلام، وكان أكثر كلامه في الله، وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ¬

(¬1) السير (6/ 344 - 345). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 800/1334) وتاريخ بغداد (1/ 225). (¬3) أصول الاعتقاد (4/ 800/1335).

"تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله عز وجل" (¬1). فلقي جهم ناسا يقال لهم السمنية، فعرفوا جهما؛ فقالوا له: نكلمك، فإن ظهرت حجتنا عليك: دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا؛ دخلنا في دينك؛ فكان مما كلموا به جهما أن قالوا له: ألست تزعم أن لك إلها؟ قال جهم: نعم. فقالوا: هل رأيت إلهك؟ قال: لا. قالوا: أسمعت كلامه؟ قال: لا. قالوا: فسمعت له حسا؟ قال: لا: قالوا: فما يدريك أنه إله؟ قال: فتحير جهم؛ فلم يصل أربعين يوما، ثم استدرك حجته مثل حجة زنادقة النصارى وذلك أن زنادقة النصارى تزعم أن الروح التي في عيسى عليه السلام هي روح الله من ذاته، كما يقال: إن هذه الخرقة من هذا الثوب، فدخل في جسد عيسى، فتكلم على لسان عيسى، وهو روح غائب عن الأبصار، فاستدرك جهم من هذه الحجة؛ فقال للسمنية: ألستم تزعمون أن في أجسادكم أرواحا؟ قالوا: نعم. قال: هل رأيتم أرواحكم؟ قالوا: لا. قال: افسمعتم كلامها؟ قالوا: لا. قال: أفشممتم لها رائحة؟ قالوا: لا. قال جهم: فكذلك الله عز وجل لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة، وهو في كل مكان، لا يكون في مكان دون مكان، ووجدنا ثلاث آيات في كتاب الله عز وجل، قوله: {ليس كَمِثْلِهِ ¬

(¬1) أخرجه من حديث ابن عمر مرفوعا: اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (3/ 580/927) والبيهقي في الشعب (1/ 136/120) والطبراني في الأوسط (7/ 171 - 172/ 6315)، قال الهيثمي في المجمع (1/ 81): "رواه الطبراني في الأوسط وفيه الوازع بن نافع وهو متروك". وله شواهد من حديث أبي هريرة وأبي ذر وابن عباس خرجها الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (رقم1788) ثم قال: "وبالجملة فالحديث بمجموع طرقه حسن عندي". والله أعلم".

شيءٌ} (¬1) وقوله: {وَهُوَ اللَّهُ في السَّمَاوَاتِ والأرض} (¬2) وقوله: {لا تدركه الْأَبْصَارُ} (¬3) فبنى أصل كلامه على هذه الثلاث الآيات، ووضع دين الجهمية وكذب بأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتأول كتاب الله على تأويله؛ فاتبعه من أهل البصرة من أصحاب عمرو بن عبيد وأناس من أصحاب أبي حنيفة فأضل بكلامه خلقا كثيرا. (¬4) عن يحيى بن شبل قال: كنت جالسا مع مقاتل بن سليمان وعباد بن كثير، إذ جاء شاب فقال: ما تقول في قوله عز وجل: {كل شَيْءٍ هَالِكٌ إِلًّا وَجْهَهُ} (¬5)، فقال مقاتل: هذا جهمي ثم قال: ويحك إن جهما والله ما حج البيت ولا جالس العلماء، وإنما كان رجلا أعطي لسانا. (¬6) " التعليق: وقف مقاتل موقف الحازم من الجهم بن صفوان لما رأى فيه من غلو وإفراط في التنزيه حتى بلغ به الحال إلى التعطيل المحض، إلا أن مقاتلا نفسه قد جانب الحق وحاد عنه لغلوه في الإثبات حتى شبه الله تعالى بخلقه، والحق وسط دائما بين ضلالتين فهو إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل، وعلى هذا ¬

(¬1) الشورى الآية (11). (¬2) الأنعام الآية (3). (¬3) الأنعام الآية (103). (¬4) الإبانة (2/ 13/86 - 89/ 317). (¬5) القصص الآية (88). (¬6) الإبانة (2/ 13/90 - 91/ 319) والسنة للخلال (5/ 84 - 85).

عبد الله بن عون (151 هـ)

درج السلف رضي الله عنهم. عبد الله بن عون (¬1) (151 هـ) عبد الله بن عَوْن بن أَرْطَبَان الإمام القدوة عالم البصرة أبو عون المزني مولاهم البصري الحافظ. رأى أنس بن مالك ولم يثبت له منه سماع. روى عن نافع مولى ابن عمر ومحمد بن سيرين والحسن البصري وسعيد بن جبير وأبي وائل والشعبي والقاسم بن محمد، وطائفة. وعنه سفيان الثوري وشعبة وابن المبارك ومعاذ بن معاذ ويزيد بن هارون ووكيع بن الجراح وحماد بن زيد وآخرون. قال ابن المبارك: ما رأيت أحدا ذكر لي قبل أن ألقاه ثم لقيته، إلا وهو على دون ما ذكر لي إلا حيوة وابن عون وسفيان، فأما ابن عون: فلوددت أني لزمته حتى أموت أو يموت. وقال ابن حبان: من سادات أهل زمانه عبادة وفضلا وورعا ونسكا وصلابة في السنة وشدة على أهل البدع. عن ابن المبارك قال: قيل لابن عون: ألا تتكلم فتؤجر؟ فقال: أما يرضى المتكلم بالكفاف؟ وروى مسعر عن ابن عون قال: ذكر الناس داء وذكر الله دواء. عن عبد الرحمن ابن مهدي قال: ما كان بالعراق أحد أعلم بالسنة من ابن عون. مات سنة إحدى وخمسين ومائة. ¬

(¬1) ثقات ابن حبان (7/ 3) وتهذيب الكمال (15/ 394 - 402) والسير (6/ 364 - 375) وطبقات ابن سعد (7/ 261 - 268) والجرح والتعديل (5/ 130 - 131) وحلية الأولياء (3/ 37 - 44) وتذكرة الحفاظ (1/ 156 - 157) وشذرات الذهب (1/ 230).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: - جاء في الإبانة: قال: لا يمكن أحد منكم أذنيه من هوى أبدا. (¬1) - عن ابن عون قال: ثلاث أحبهن لنفسي ولإخواني، هذه السنة أن يتعلموها ويسألوا عنها، والقرآن أن يتفهموه ويسألوا الناس عنه، ويدعوا الناس إلا من خير. (¬2) - عن ابن علية قال: كان ابن عون يقول لنا: رحم الله رجلا لزم هذا الأثر ورضي به وإن استثقله واستبطأه. (¬3) - قال ابن عون: من يجالس أهل البدع أشد علينا من أهل البدع. (¬4) - وكان ابن عون يقول عند الموت: السنة السنة. وإياكم والبدع، حتى مات. (¬5) موقفه من الجهمية: - جاء في السنة لعبد الله عن معاذ بن مكرم قال: رآني ابن عون مع عمرو بن عبيد في السوق فأعرض عني، قال: فاعتذرت إليه قال: أما إني قد رأيتك فما زادني. (¬6) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/461/ 446). (¬2) البخاري معلقا: كتاب الاعتصام (13/ 248 فتح) وأصول الاعتقاد (1/ 68/36) وقال الحافظ: "وصله محمد بن نصر المروزي في كتاب السنة (ص.33) والجوزقي من طريقه". وشرح السنة للبغوي (1/ 208 - 209). (¬3) الإبانة (1/ 2/365/ 291). (¬4) الإبانة (2/ 3/473/ 486). (¬5) طبقات الحنابلة (2/ 42). (¬6) السنة لعبد الله (149).

موقفه من القدرية:

- وفي الإبانة: عن ضمرة عن رجاء بن أبي سلمة سمعناه عن عبد الله بن عون، قال: جاء واصل الغزال وكان صاحبا لعمرو بن عبيد، فقال: يا أبا بكر، أقرأ عليك؟ قال: لا حاجة لي في ذلك. (¬1) موقفه من القدرية: - جاء في السير: قال محمد بن عبد الله الأنصاري: حدثني صاحب لي عن ابن عون أنه سأله رجل فقال: أرى قوما يتكلمون في القدر أفأسمع منهم؟ فقال: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (¬2).اهـ (¬3) - وجاء في الإبانة بالسند إلى حماد بن زيد عن ابن عون قال: أدركت الناس وما يتكلمون إلا في علي وعثمان رضي الله عنهما حتى نشأ ههنا هني حقير يقال له سيسويه البقال فكان أول من تكلم في القدر. قال حماد: فما ظنكم برجل يقول له ابن عون: هني حقير. (¬4) - وفيها عن حميد بن الأسود عن ابن عون: أمران أدركتهما وليس بهذا المصر منهما شيء: الكلام في القدر، إن أول من تكلم فيه رجل من الأساورة يقال له سيسويه، وكان دحيقا، وما سمعته قال لأحد دحيقا غيره؛ ¬

(¬1) الإبانة (2/ 11/305/ 1978). (¬2) الأنعام الآية (68). (¬3) السير (6/ 367). (¬4) الإبانة (2/ 11/298/ 1953) وأصول الاعتقاد (4/ 826/1396).

قال: فإذا ليس له عليه تبع إلا الملاحون، ثم تكلم فيه بعده رجل كانت له مجالسة يقال له معبد الجهني، فإذا له عليه تبع، ثم قال: وهؤلاء الذين يدعون المعتزلة. (¬1) - وفيها عن ابن عون: أدركت البصرة وما بها أحد يقول هذا القول إلا رجلان مالهما ثالث: معبد الجهني، وسيسويه، قال ابن عون: وكان محقورا ذليلا، وهذه القدرية والمعتزلة كذبوا على الحسن ونحلوه ما لم يكن من قوله، قد قاعدنا الحسن وسمعنا مقالته، ولو علمنا أن أمرهم يصير إلى هذا لواثبناهم عند الحسن رحمه الله، وليكونن لأمرهم هذا غب، وإني لأظن عامة من أهل البصرة إنما يصرف عنهم النصر لما فيهم من القدرية. (¬2) - وعن إسماعيل بن سعيد البصري عن رجل أخبره قال: كنت أمشي مع عمرو بن عبيد فرآني ابن عون فأعرض عني شهرين. (¬3) - وجاء في السنة أيضا بالسند إلى بكير بن حمران قال: كنا عند ابن عون فقال له رجل: ما تقول في كذا وكذا؟ قال: لا أدري، قال: كان عمرو يقول عن الحسن كذا وكذا، قال: ما لنا ولعمرو، وعمرو يكذب على الحسن. (¬4) - وقال ابن وضاح: حدثنا أسد قال: حدثنا مؤمل عن رجل أخبره قال: دخل عمرو بن عبيد على ابن عون فسكت ابن عون لما رآه، وسكت ¬

(¬1) الإبانة (2/ 11/297 - 298/ 1952). (¬2) الإبانة (2/ 11/299/ 1957). (¬3) ما جاء في البدع (112) والاعتصام (2/ 791). (¬4) السنة لعبد الله (153).

عميرة بن أبي ناجية (153 هـ)

عمرو عنه فلم يسأله عن شيء فمكث هنية ثم قام فخرج، فقال ابن عون: بم استحل أن دخل داري بغير إذني؟ -مرارا يرددها- أما أنه لو تكلم، أما أنه لو تكلم. (¬1) عميرة بن أبي ناجية (¬2) (153 هـ) عَمِيرَة بن أبي نَاجِيَة، واسمه حُرَيْث الرُّعَيْنِي أبو يحيى المصري مولى حُجْر ابن رُعين ثم لبني بدر. روى عن بكر بن سوادة ويحيى بن سعيد الأنصاري ورزيق بن حكيم الأيلي ويزيد بن أبي حبيب وعبد الله بن أبي سلمة الماجشون. وعنه عبد الله بن وهب والليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة وحيوة ابن شريح. عن ابن وهب قال: كان عميرة بن أبي ناجية من العباد وكان بمنزلة النائحة إذا قرأ يبكي وإذا سجد يبكي وإذا سكت عن القراءة وفرغ من الصلاة جلس يبكي، وكان يزيد بن حاتم الأمير يسأل عنه ويقول: ما فعلت الثكلى؟ توفي سنة ثلاث وخمسين ومائة. موقفه من المبتدعة: جاء في الاعتصام للشاطبي قال: وقد روي عن عميرة بن أبي ناجية ¬

(¬1) ما جاء في البدع (112). (¬2) تهذيب الكمال (22/ 399 - 401) ومشاهير علماء الأمصار (190) وتقريب التهذيب (2/ 87) وتهذيب التهذيب (8/ 152).

معمر بن راشد (153 هـ)

المصري أنه رآى قوما يتمارون في المسجد، وقد علت أصواتهم فقال: هؤلاء قوم قد ملوا العبادة وأقبلوا على الكلام، اللهم أمت عميرة، فمات من عامه ذلك في الحج. فرأى رجل في النوم قائلا يقول: مات في هذه الليلة نصف الناس فعرفت تلك الليلة، فجاء فيها موت عميرة هذا. (¬1) معمر بن راشد (¬2) (153 هـ) مَعْمَر بن رَاشِد الأَزْدِي الحُدَّانِي، أبو عروة بن أبي عمرو البصري، الإمام الحافظ، سكن اليمن، وكان شهد جنازة الحسن البصري. روى عن إسماعيل بن أمية وثابت البناني وأيوب السختياني وبهز بن حكيم وخلق كثير. وروى عنه أبان بن يزيد العطار وإسماعيل بن علية وسفيان الثوري وابن عيينة وعدة. قال أحمد بن حنبل: لا تضم أحدا إلى معمر إلا وجدته يتقدمه في الطلب، كان من أطلب أهل زمانه للعلم. وقال ابن حبان: كان فقيها متقنا، حافظا ورعا. وقال ابن جريج: عليكم بمعمر فإنه لم يبق في زمانه أعلم منه. توفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وخمسين ومائة. موقفه من المبتدعة: عن عبد الرزاق قال: أكل معمر من عند أهله فاكهة، ثم سأل، فقيل: ¬

(¬1) الاعتصام (2/ 589 - 590) وتهذيب الكمال (22/ 400 - 401). (¬2) طبقات ابن سعد (5/ 546) وتهذيب الكمال (28/ 303) وسير أعلام النبلاء (7/ 5) وميزان الاعتدال (4/ 154) وتهذيب التهذيب (10/ 243) وشذرات الذهب (1/ 235).

موقفه من الرافضة:

هدية من فلانة النواحة. فقام فتقيأ. (¬1) موقفه من الرافضة: أخرج الخلال في السنة بسنده إلى عبد الرزاق قال: سمعت معمرا يقول: أصحاب محمد عليه السلام أصابتهم نفحة من النبوة. (¬2) موقفه من المرجئة: عن عبد الرزاق قال: سمعت معمرا وسفيان الثوري ومالك بن أنس وابن جريج وسفيان بن عيينة يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. (¬3) موقف السلف من فطر بن خليفة الخشبي الشيعي (153 هـ) قال أبو بكر بن عياش قال: ما تركت الرواية عن فطر إلا بسوء مذهبه. وقال أحمد بن يونس: تركته عمدا، وكان يتشيع وكنت أمر به بالكناسة في أصحاب الطعام، وكان أعرج، فأمر وأدعه مثل الكلب. (¬4) ¬

(¬1) السير (7/ 11). (¬2) السنة للخلال (1/ 480). (¬3) الإبانة (2/ 813/1114). (¬4) السير (7/ 31).

أبو عمرو بن العلاء (154 هـ)

السنة الثالثة والخمسون بعد المائة من فضائح الخوارج: جاء في البداية والنهاية: وفيها خرجت الخوارج من الصفرية وغيرهم ببلاد إفريقية فاجتمع منهم ثلاثمائة ألف وخمسون ألفا ما بين فارس وراجل، وعليهم أبو حاتم الأنماطي وأبو عباد، وانضم إليهم أبو قرة الصفري في أربعين الفا، فقاتلوا نائب إفريقية، فهزموا جيشه وقتلوه، وهو عمر بن عثمان ابن أبي صفرة الذي كان نائب السند كما تقدم، قتله هؤلاء الخوارج رحمه الله، وأكثرت الخوارج الفساد في البلاد وقتلوا الحريم والأولاد. (¬1) " التعليق: وهكذا طبيعة الخوارج في كل زمان ومكان، يَعيثون في الأرض فسادا بالقتل والسفك والنهب والفكر الشاذ المتطرف، ولهم أوصاف ومبادئ ذكرتها في كتابنا 'أهل الأهواء والبدع والفتن والاختلاف'. أبو عمرو بن العلاء (¬2) (154 هـ) أبو عمرو بن العلاء بن عَمَّار بن العُرْيَان التَّمِيمِي ثم المازني البصري شيخ القراء والعربية. اختلف في اسمه على أقوال، أصحها: زبان. قرأ القرآن على سعيد ¬

(¬1) البداية والنهاية (10/ 113). (¬2) تهذيب الكمال (34/ 120 - 130) ووفيات الأعيان (3/ 466 - 470) والسير (6/ 407 - 410) وفوات الوفيات (2/ 28 - 29) ومشاهير علماء الأمصار (153 - 154) وشذرات الذهب (1/ 237) ومعجم الأدباء (11/ 156 - 160) وتهذيب التهذيب (12/ 178 - 180) والبداية والنهاية (10/ 115).

موقفه من القدرية:

ابن جبير ومجاهد بن جبر وعبد الله بن كثير وحميد بن قيس الأعرج وعكرمة مولى ابن عباس ويحيى ابن يعمر وعطاء. قرأ عليه خلق كثير منهم: عبد الله بن المبارك ويحيى بن المبارك والأصمعي وشجاع البلخي وعبد الوارث التنوري. روى عن أنس بن مالك والحسن البصري وداود بن أبي هند والزهري وطائفة. وعنه الأصمعي وشريك النخعي ووكيع بن الجراح ومعتمر بن سليمان وآخرون. قال إبراهيم الحربي: كان أبو عمرو من أهل السنة. قال أبو بكر بن مجاهد: كان أبو عمرو مقدما في عصره عالما بالقراءة ووجوهها، قدوة في العلم باللغة، إمام الناس في العربية وكان مع علمه باللغة وفقهه في العربية متمسكا بالآثار لا يكاد يخالف في اختياره ما جاء عن الأئمة قبله، متواضعا في علمه. قرأ على أهل الحجاز وسلك في القراءة طريقهم ولم تزل العلماء في زمانه تعرف له تقدمه وتقر له بفضله، وتأتم في القراءة بمذاهبه، وكان حسن الاختيار، سهل القراءة غير متكلف يؤثر التخفيف ما وجد إليه سبيلا. وعن عمه قال: قال لي أبو عمرو بن العلاء: يا عبد الملك كن من الكريم على حذر إذا أهنته، ومن اللئيم إذا أكرمته، ومن العاقل إذا أحرجته ومن الأحمق إذا مازحته، ومن الفاجر إذا عاشرته، وليس من الأدب أن تجيب من لا يسألك أو تسأل من لا يجيبك أو تحدث من لا ينصت لك. توفي سنة أربع وخمسين ومائة. موقفه من القدرية: - جاء في الإبانة: عن حماد بن زيد قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن القدر؛ فقال: ثلاث آيات في القرآن: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يستقيم (28)

وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ أن يشاء الله رب العالمين} (¬1)، {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (¬2)، {كَلَّا إِنَّهَا تذكرة فَمَنْ شَاءَ ذكره} (¬3). اهـ (¬4) - وجاء في أصول الاعتقاد عن أحمد بن موسى قال: مر عمرو بن عبيد على أبي عمرو بن العلاء فقال له عمرو: كيف تقرأ: {وَإِنْ يستعتبوا} (¬5)؟ فقال أبو عمرو: وإن يستعتبوا -بفتح الياء- فما هم من المعتبين -بفتح التاء فقال له عمرو: ولكني أقرأ: وإن يستعتبوا -بضم الياء- فما هم من المعتبين -بكسر التاء- فقال أبو عمرو: ومن هنالك أبغض المعتزلة لأنهم يقولون برأيهم. (¬6) - وعن عبد الملك الأصمعي: كنا عند أبي عمرو بن العلاء قال: فجاء عمرو بن عبيد، فقال: يا أبا عمرو. يخلف الله وعده؟ قال: لا. قال: أرأيت من وعده الله على عمل عقابا؛ أليس هو منجزه له؟ فقال له أبو عمرو: يا أبا عثمان. من العجمة أوتيت لا يعد عارا ولا خلفا، أن تعد شرا ثم لا تفي به بل تعده فضلا وكرما، إنما العار أن تعد خيرا ثم لا تفي به، قال: ومعروف ذلك ¬

(¬1) التكوير الآيتان (28و29). (¬2) الإنسان الآيتان (29و30). (¬3) عبس الآيتان (11و12). (¬4) الإبانة (2/ 11/294 - 295/ 1950). (¬5) فصلت الآية (24). (¬6) أصول الاعتقاد (4/ 816/1375).

مسعر بن كدام (155 هـ)

في كلام العرب؟ قال: نعم، قال: أين هو؟ قال أبو عمرو: قال الشاعر (¬1): لا يرهب ابن العُمْرِ ما عشت صولة ... ولا أختفي من صولة المتهدد وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي (¬2) مسعر بن كدام (¬3) (155 هـ) مِسْعَر بن كِدَام بن ظُهَيْر بن عُبَيْدَة الهلالي العامري، الإمام الثبت شيخ العراق أبو سلمة الكوفي الأحول الحافظ. روى عن ثابت بن عبيد الأنصاري، وعدي بن ثابت، وسعد بن إبراهيم، وقتادة، وطائفة. وعنه السفيانان، والفضل ابن دكين، ويحيى القطان، ووكيع بن الجراح، ومحمد بن بشر العبدي، وآخرون. قال سفيان: كان مسعر من معادن الصدق، وقال يحيى بن عبيد: كان مسعر قد جمع العلم والورع. وقال ابن حجر: ثقة ثبت فاضل. قال مسعر رحمه الله: نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم، والردى لك لازم وتتعب فيما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم وقال أيضا: ومشيد دارا ليسكن داره ... سكن القبور وداره لم تسكن ¬

(¬1) البيتان لعامر بن الطفيل. انظر المعجم المفصل لشواهد اللغة العربية (2/ 414). (¬2) الإبانة (2/ 11/301 - 302/ 1966). (¬3) طبقات ابن سعد (6/ 364 - 365) وتاريخ خليفة (426) والسير (7/ 163 - 173) وحلية الأولياء (7/ 209 - 270) والجرح والتعديل (8/ 368 - 369) ومشاهير علماء الأمصار (169) وتذكرة الحفاظ (1/ 188 - 190) وتهذيب الكمال (27/ 461 - 469) وميزان الاعتدال (4/ 99) وشذرات الذهب (1/ 238 - 239).

موقفه من الرافضة:

وقال: العلم شرف الأحساب يرفع الخسيس في نسبه، ومن قعد به حسبه نهض به أدبه. توفي سنة خمس وخمسين ومائة. موقفه من الرافضة: جاء في أصول الاعتقاد: عن مالك أبي هشام قال: كنت أسير مع مسعر فلقيه رجل من الرافضة -قال: فكلمه- بشيء لا أحفظه فقال له مسعر: تنح عني فإنك شيطان. (¬1) موقفه من القدرية: جاء في السير: روى معتمر بن سليمان، عن أبي مخزوم، ذكره عن مسعر بن كدام قال: التكذيب بالقدر أبو جاد الزندقة. (¬2) حمزة الزَّيَّات (¬3) (156 هـ) حمزة بن حبيب بن عمارة الزيات، الإمام القدوة، شيخ القراءة، أبو عُمَارَة التيمي، مولاهم الكوفي. ولد سنة ثمانين، وحدث عن حبيب بن أبي ثابت والحكم بن عتيبة وأبي إسحاق السبيعي وعدة. وحدث عنه الثوري وشريك وجرير وابن فضيل وعبد الله بن المبارك، وعدة. ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (8/ 1544/2809). (¬2) السير (7/ 168). (¬3) طبقات ابن سعد (6/ 385) وسير أعلام النبلاء (7/ 90) معرفة القراء الكبار للذهبي (1/ 111 - 118) وميزان الاعتدال (1/ 605 - 606) وتهذيب الكمال (7/ 314) وتهذيب التهذيب (3/ 27) وشذرات الذهب (1/ 240).

موقفه من المرجئة:

قال أبو بكر بن منجويه: كان من علماء زمانه بالقراءات، وكان من خيار عباد الله عبادة، وفضلا، وورعا، ونسكا، وكان يجلب الزيت من الكوفة إلى حلوان، ويجلب الجبن والجوز من حلوان إلى الكوفة. وقال ابن سعد: كان حمزة رجلا صالحا، وكانت عنده أحاديث، وكان صدوقا صاحب سنة. وقال أسود بن سالم: سألت الكسائي عن الهمز والإدغام، ألكم فيه إمام؟ قال: نعم، هذا حمزة يهمز ويكسر، وهو إمام من أئمة المسلمين، وسيد القراء والزهاد، لو رأيته لقرت عينك به من نسكه. توفي رحمه الله سنة ست وخمسين ومائة. موقفه من المرجئة: تقدم معنا في مواقف منصور بن المعتمر (ت 132هـ) أن حمزة الزيات كان من جملة أهل العلم الذين يقولون بالاستثناء ويعيبون على من لا يستثني. سعيد بن أبي عروبة (¬1) (156 هـ) الإمام الحافظ، عالم أهل البصرة، سعيد بن أبي عَرُوبَة، أبو النضر بن مهران العدوي. حدث عن ابن سيرين والحسن وقتادة وأبي رجاء العطاردي وخلق سواهم. وحدث عنه شعبة والثوري ويحيى بن سعيد القطان ويزيد بن هارون وخلق سواهم. ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (6/ 413) وميزان الاعتدال (2/ 151) وتهذيب الكمال (11/ 5) وتذكرة الحفاظ (1/ 177) وتهذيب التهذيب (4/ 63).

موقفه من الرافضة:

قال أحمد بن حنبل: كان يحفظ، لم يكن له كتاب. وروى وهيب عن أيوب قال: لا يفقه رجل لا يدخل حجرة سعيد بن أبي عروبة. قال أحمد بن حنبل: كان قتادة وسعيد يقولان بالقدر ويكتمان، وقال ابن قانع: كان أعرج يرمى بالقدر، وقال العجلي: كان لا يدعو إليه. وقال الذهبي رحمه الله متعقبا: لعلهما تابا ورجعا عنه -يعني سعيد وقتادة- كما تاب شيخهما. (¬1) مات سنة ست وخمسين ومائة. موقفه من الرافضة: جاء في الميزان عن ابن أبي عروبة، قال: من سب عثمان افتقر. (¬2) عبد الله بن شوذب (¬3) (156 هـ) عبد الله بن شَوْذَب البلخي ثم البصري أبو عبد الرحمن نزيل بيت المقدس، الإمام العالم. روى عن الحسن البصري وابن سيرين ومكحول وجماعة. وروى عنه ابن المبارك وضمرة بن ربيعة والوليد بن مزيد وأيوب بن سويد وغيرهم. كان كثير العلم جليل القدر. قال كثير بن الوليد: كنت إذا رأيت ابن شوذب ذكرت الملائكة. وقال الثوري: كان ابن شوذب عندنا، ونحن نعده من مشايخنا. وقال يحيى بن ¬

(¬1) يعني الشيخ الحسن البصري رحمه الله. (¬2) الميزان (2/ 153). (¬3) السير (7/ 92 - 93) وتهذيب الكمال (15/ 94 - 97) وتهذيب التهذيب (5/ 255 - 256) وميزان الاعتدال (2/ 440) وشذرات الذهب (1/ 240).

موقفه من المبتدعة:

معين: كان ثقة. توفي ابن شوذب سنة ست وخمسين ومائة. موقفه من المبتدعة: عن ضمرة: عن ابن شوذب قال: إن من نعمة الله على الشاب إذا نسك أن يواخي صاحب سنة يحمله عليها. (¬1) موقفه من الجهمية: جاء في أصول الاعتقاد والإبانة عن ابن شوذب قال: ترك الصلاة -يعني جهما- أربعين يوما على وجه الشك. خالفه بعض السمنية فشك فقام أربعين يوما لا يصلي- وقد رآه ابن شوذب. (¬2) الأوزاعي (¬3) (157 هـ) عبد الرحمن بن عمرو بن يُحْمِد الشامي شيخ الإسلام وإمام أهل الشام في زمانه في الحديث والفقه، أبو عمرو الأوزاعي، كان يسكن دمشق خارج باب الفراديس بمحلة الأوزاع ثم تحول إلى بيروت فسكنها مرابطا إلى أن مات بها. روى عن الزهري والأعمش وقتادة وعطاء بن أبي رباح ونافع ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (1/ 66 - 67/ 31) وهو في الإبانة (1/ 1/204 - 205/ 43) والتلبيس (ص.17). (¬2) أصول الاعتقاد (3/ 421/630) والإبانة (2/ 13/89 - 90/ 318) والفتاوى الكبرى (5/ 41). (¬3) طبقات ابن سعد (7/ 488) وتاريخ خليفة (428) والجرح والتعديل (1/ 184 - 187و5/ 266 - 267) والسير (7/ 107 - 134) والفهرست لابن النديم (318) ووفيات الأعيان (3/ 127 - 128) وحلية الأولياء (6/ 135 - 149) وتهذيب الكمال (17/ 307 - 316) وتذكرة الحفاظ (1/ 178 - 183) والبداية والنهاية (10/ 118 - 123) ومشاهير علماء الأمصار (18) وشذرات الذهب (1/ 241 - 242).

موقفه من المبتدعة:

مولى ابن عمر ويحيى بن أبي كثير وطائفة. روى عنه الوليد بن مسلم وعبد الله ابن المبارك ومحمد بن يوسف الفريابي وسفيان الثوري وآخرون. قال ابن سعد: كان ثقة مأمونا فاضلا خيرا كثير العلم والحديث والفقه، حجة. وكان إسماعيل بن عياش يقول: سمعت الناس يقولون في سنة أربعين ومائة: الأوزاعي هو عالم الأمة. كان الأوزاعي رحمه الله يقول: كان هذا العلم كريما يتلاقاه الرجال بينهم فلما دخل الكُتُبَ دخل فيه غير أهله. سئل الأوزاعي عن الخشوع في الصلاة فقال: غض البصر وخفض الجناح ولين القلب وهو الحزن والخوف. وسئل عن الأبله فقال: هو العمي عن الشر، البصير بالخير. وقال رحمه الله: من أكثر ذكر الموت كفاه اليسير ومن عرف أن منطقه من عمله، قل كلامه. وقال أيضا: من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام. وقال: إن المؤمن يقول قليلا ويعمل كثيرا، وإن المنافق يتكلم كثيرا ويعمل قليلا. توفي رحمه الله سنة سبع وخمسين ومائة. موقفه من المبتدعة: - جاء في السير عنه قال: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول فإن الأمر ينجلي وأنت على طريق مستقيم. (¬1) - وفيها عنه قال: ما ابتدع رجل بدعة إلا سلب الورع. (¬2) ¬

(¬1) السير (7/ 120) وذم الكلام (ص.96) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 1071) والشريعة (1/ 193/133) وشرف أصحاب الحديث (ص.7) وانظر تذكرة الحفاظ (1/ 180) وطبقات الحنابلة (1/ 236). (¬2) السير (7/ 125).

- وجاء في الاعتصام: عن الأوزاعي أنه قال: كان بعض أهل العلم يقول: لا يقبل الله من ذي بدعة صلاة ولا صياما ولا صدقة ولا جهادا ولا حجا ولا عمرة ولا صرفا ولا عدلا. (¬1) " التعليق: قائل هذا هم التابعون أو من فوقهم وقد ورد مرفوعا: "من أحدث فيها أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا". (¬2) وكيف يتقبل الله ممن تنكب عن شرعه وزهد في سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -؟! وكيف يسوى بين من تلبس بالمحدثات والبدع وبين من التزم السنة واقتفى آثارها واتبع؟! ألم يقل الله تعالى: {إِنَّمَا يتقبل اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}؟! - وجاء في الإبانة: قيل للأوزاعي إن رجلا يقول: أنا أجالس أهل السنة وأجالس أهل البدع فقال الأوزاعي: هذا رجل يريد أن يساوي بين الحق والباطل. (¬3) " التعليق: ماذا تقول بعض الجماعات الإسلامية التي تهتم بالجمع والعد، ولا ¬

(¬1) الاعتصام (1/ 142) وابن وضاح (ص.34). (¬2) تقدم تخريجه مطولا من حديث علي بن أبي طالب ضمن مواقفه رضي الله عنه سنة (40هـ). (¬3) الإبانة (2/ 3/456/ 430).

يهمها أن يجتمع مبتدع وسني، بل وشيعي رافضي، كلهم عندها سواء، والمهم الطاعة الكاملة للجماعة وأميرها وامتثال أوامرها مهما بلغت من الخطأ ومن مخالفة الكتاب والسنة، فأمر الأمير عندهم مطاع، بل من منهجهم وضع بيعة في أعناق أتباعهم، تلزمهم بالامتثال، وهكذا من يحمل فكرهم يقول: كل من قال لا إله إلا الله فينبغي التعاون معه مهما كانت عقيدته: صوفيا أشعريا معتزليا شيعيا وما أشبه ذلك. فلعلهم أفقه من الأوزاعي الذي يعتبر أحد الأئمة مثل مالك والشافعي وأحمد، والله المستعان. - وجاء في الإبانة وأصول الاعتقاد بالسند إليه قال: من ستر عنا بدعته لم تخف علينا ألفته. (¬1) - وجاء في شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي عنه قال: إذا ظهرت البدع فلم ينكرها أهل العلم صارت سنة. (¬2) - وجاء في السير عنه قال: إذا أراد الله بقوم شرا فتح عليهم الجدل ومنعهم العمل. (¬3) - وجاء في أصول الاعتقاد عنه قال: ندور مع السنة حيث دارت. (¬4) - وجاء في ذم الكلام بالسند إليه قال: وما رأي امرئ عن أمر بلغه ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/452/ 420 وأصول الاعتقاد (1/ 154/257). (¬2) شرف أصحاب الحديث (ص.17). (¬3) السير (7/ 121) وأصول الاعتقاد (1/ 164/196) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 933). (¬4) أصول الاعتقاد (1/ 71/47).

عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا اتباعه، ولو لم يكن فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال فيه أصحابه من بعده، كانوا أولى فيه بالحق منا، لأن الله تعالى أثنى على من بعدهم باتباعهم إياهم فقال: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} (¬1) وقلتم أنتم: لا بل نعرضها على رأينا في الكتاب؛ فما وافقه منها صدقناه وما خالفه تركناه. وتلك غاية كل مُحدِث في الإسلام رد ما خالف رأيه من السنة. (¬2) - وجاء فيه عنه: قال: إنكم لا ترجعون عن بدعة إلا تعلقتم بأخرى هي أضر عليكم منها. (¬3) - وجاء فيه عنه قال: ما نقمنا على أبي حنيفة أنه يرى، كلنا يرى ولكن نقمنا عليه أنه يجيئه الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيخالفه إلى غيره. (¬4) - وجاء في أصول الاعتقاد بالسند إليه قال: كان يقال خمس كان عليها أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - والتابعون بإحسان: لزوم الجماعة واتباع السنة وعمارة المساجد وتلاوة القرآن والجهاد في سبيل الله. (¬5) - وجاء في تذكرة الحفاظ: قال عامر بن يساف: سمعت الأوزاعي يقول إذا بلغك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث فإياك أن تقول بغيره فإنه كان مبلغا عن الله. (¬6) ¬

(¬1) التوبة الآية (100). (¬2) ذم الكلام (ص.216 - 217). (¬3) ذم الكلام (ص.217). (¬4) ذم الكلام (ص.105) وتأويل مختلف الحديث لابن قتيبة (ص.52). (¬5) أصول الاعتقاد (1/ 71/48)، الحلية (6/ 142) وتذكرة الحفاظ (1/ 180) وشرح السنة للبغوي (1/ 209). (¬6) تذكرة الحفاظ (1/ 180) وبنحوه في أصول الاعتقاد (3/ 478/734) والفقيه والمتفقه (1/ 387).

- عن أبي إسحاق قال: سألت الأوزاعي فقال: اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا وكف عما كفوا، واسلك سبيل سلفك الصالح فإنه يسعك ما وسعهم. وقد كان أهل الشام في غفلة من هذه البدعة حتى قذفها إليهم بعض أهل العراق ممن دخل في تلك البدعة بعدما ردها عليهم فقهاؤهم وعلماؤهم، فأشربها قلوب طوائف من أهل الشام واستحلتها ألسنتهم وأصابهم ما أصاب غيرهم من الاختلاف فيه. ولست بآيس أن يرفع الله شر هذه البدعة إلى أن يصيروا إخوانا بعد تواد إلى تفرق في دينهم وتباغض. ولو كان هذا خيرا ما خصصتم به دون أسلافكم، فإنه لم يدخر عنهم خير خبئ لكم دونهم لفضل عندكم وهم أصحاب نبيه - صلى الله عليه وسلم - الذين اختارهم وبعثه فيهم ووصفهم بما وصفهم به فقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} (¬1). اهـ (¬2) - عن بقية قال: قال لي الأوزاعي: يا أبا محمد ما تقول في قوم يبغضون حديث نبيهم؟ قال قلت: قوم سوء. قال: ليس من صاحب بدعة تحدثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخلاف بدعته إلا أبغض الحديث. (¬3) - عن أبي مسهر قال: قال الأوزاعي: يعرف الرجل في ثلاثة مواطن: ¬

(¬1) الفتح الآية (29). (¬2) أصول الاعتقاد (1/ 174/315) وذم الكلام (ص.216) والحلية (8/ 254 - 255) وطرفه الأول في التلبيس (ص.16). (¬3) أصول الاعتقاد (3/ 477/732) وشرف أصحاب الحديث (ص.73).

موقفه من الرافضة:

بألفته ويعرف في مجلسه ويعرف في منطقه. (¬1) - عن الأوزاعي قال: ويل للمتفقهين لغير العبادة، والمستحلين الحرمات بالشبهات. (¬2) - عن الأوزاعي قال: بلغني أن من ابتدع بدعة خلاه الشيطان والعبادة، أو ألقى عليه الخشوع والبكاء، كي يصطاد به. (¬3) - عن الأوزاعي قال: لا تمكنوا صاحب بدعة من جدال، فيورث قلوبكم من فتنته ارتيابا. (¬4) - عن الأوزاعي قال: قال إبليس لأوليائه من أي شيء تأتون بني آدم؟ فقالوا: من كل شيء. قال: فهل تأتونهم من قبل الاستغفار؟ فقالوا: هيهات ذاك شيء قرن بالتوحيد. قال: لأبثن فيهم شيئا لا يستغفرون الله منه. قال: فبث فيهم الأهواء. (¬5) - عن الأوزاعي قال: من وقر صاحب بدعة فقد أعان على مفارقة الإسلام، ومن وقر صاحب بدعة فقد عارض الإسلام برد. (¬6) موقفه من الرافضة: - قال بقية بن الوليد: قال لي الأوزاعي: يا بقية، لا تذكر أحدا من ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/480/ 514). (¬2) الفقيه والمتفقه (2/ 176) وانظر السير (7/ 126). (¬3) الحوادث والبدع (ص.297) والاعتصام (1/ 216 طبعة مشهور). (¬4) البدع لابن وضاح (ص.116) وذكره الشاطبي في الاعتصام (2/ 792). (¬5) الدارمي (1/ 92) وأصول الاعتقاد (1/ 148 - 149/ 236). (¬6) ذم الكلام (ص.218).

أصحاب نبيك إلا بخير، يا بقية، العلم ما جاء عن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، وما لم يجئ عنهم فليس بعلم. (¬1) - وفيها عنه قال: لا يجتمع حب علي وعثمان رضي الله عنهما إلا في قلب مؤمن. (¬2) - وفي التذكرة: عن الفريابي قال: اجتمع سفيان والأوزاعي وعباد بن كثير بمكة فقال سفيان: يا أبا عمرو حدثنا حديثك مع عبد الله بن علي -يعني عم السفاح- فقال: لما قدم الشام وقتل بني أمية جلس يوما على سريره وعبى أصحابه أربعة أصناف، صنف بالسيوف المسللة وصنف معهم الجرزة، وصنف معهم الأعمدة وصنف معهم الكافركوب، ثم بعث إلي، فلما صرت إلى الباب أنزلوني عن دابتي، وأخذ اثنان بعضدي وأدخلوني بين الصفوف حتى أقاموني بحيث يسمع كلامي، فقال لي: أنت عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي؟ قلت نعم، أصلح الله الأمير. قال: ما تقول في دماء بني أمية؟ قلت: قد كان بينك وبينهم عهود، وكان ينبغي أن تفوا بها، قال: ويحك، اجعلني وإياهم لا عهد بيننا؟ فأجهشت نفسي وكرهت القتل، فذكرت مقامي بين يدي الله فلفظتها فقلت: دماؤهم عليك حرام، فغضب وانتفخت أوداجه واحمرت عيناه، فقال لي ويحك ولم؟ قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يحل دم ¬

(¬1) السير (7/ 120) وفتح الباري (13/ 291). (¬2) السير (7/ 120).

موقفه من الصوفية:

امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، ثيب زان، ونفس بنفس وتارك لدينه" (¬1) قال: ويحك أو ليس الأمر لنا ديانة؟ قلت: كيف ذاك؟ قال: أليس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصى لعلي؟ قلت: لو أوصى إليه لما حكم الحكمين، فسكت، وقد اجتمع غضبا، فجعلت أتوقع رأسي يسقط بين يدي، فقال بيده هكذا أومى أن أخرجوه، فخرجت، فما أبعدت حتى لحقني فارس، فنزلت وقلت: قد بعث ليأخذ رأسي، أصلي ركعتين، فكبرت، فجاء وأنا أصلي فسلم وقال: إن الأمير، بعث إليك هذه الدنانير، قال ففرقتها قبل أن أدخل بيتي. (¬2) " التعليق: انظر كيف كان السلف أمام الحكام، يصدعون بالحق مهما كلفهم ذلك، وانظر أيضا إلى الحكام مهما كان أمرهم كانوا يقفون عند الحدود الشرعية إذا ذكروا. موقفه من الصوفية: وجاء في السير: قال الوليد بن مسلم: رأيت الأوزاعي يثبت في مصلاه يذكر الله حتى تطلع الشمس، ويخبرنا عن السلف أن ذلك كان هديهم فإذا طلعت الشمس قام بعضهم إلى بعض، فأفاضوا في ذكر الله والتفقه في دينه. (¬3) ¬

(¬1) أحمد (1/ 382،428،444) والبخاري (12/ 247/6878) ومسلم (3/ 1302/1673) وأبو داود (4/ 522/4352) والترمذي (4/ 12 - 13/ 1402) وقال: "حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح". والنسائي (7/ 90 - 91/ 4027) وابن ماجه (2/ 847/2534). (¬2) تذكرة الحفاظ (1/ 180 - 181). (¬3) السير (7/ 114).

موقفه من الجهمية:

" التعليق: هكذا كان هدي السلف في الذكر، يذكر كل واحد منهم على حدة بأذكار واردة صحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما أكثرها -ولله الحمد- وما زاد على ذلك من ذكر جماعي بلسان واحد وبأذكار وضعها شيوخ الصوفية وفي أوقات معينة فسموها طريقة، كل ذلك من بدعهم نسأل الله العافية. موقفه من الجهمية: - جاء في السير: قال محمد بن كثير المصيصي: سمعت الأوزاعي يقول: كنا -والتابعون متوافرون- نقول: إن الله تعالى فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته. (¬1) - وفي أصول الاعتقاد عن الأوزاعي: إني لأرجو أن يحجب الله عز وجل جهما وأصحابه أفضل ثوابه الذي وعده أولياءه حين يقول: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (¬2) فجحد جهم وأصحابه أفضل ثوابه الذي وعد أولياءه. (¬3) - وفيه: عن الوليد بن مسلم قال: سألت الأوزاعي وسفيان الثوري ومالك بن أنس عن هذه الأحاديث التي فيها ذكر الرؤية؟ فقالوا: أمروها ¬

(¬1) السير (7/ 120 - 121) ودرء التعارض (6/ 262) وتذكرة الحفاظ (1/ 180و182) واجتماع الجيوش 120). (¬2) القيامة الآيتان (22و23). (¬3) أصول الاعتقاد (3/ 557/874).

موقفه من الخوارج:

كما جاءت بلا كيف. (¬1) موقفه من الخوارج: - جاء في المعرفة والتاريخ: عن الأوزاعي أنه كتب إلى عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان: أما بعد فقد كنت بحال أبيك لي وخاصة منزلتي منه، فرأيت أن صلتي إياه تعاهدي إياك بالنصيحة في أول ما بلغني عنك من تخلفك عن الجمعة والصلوات فجددت ولججت. ثم بررتك فوعظتك وأجبتني بما ليس لك فيه حجة ولا عذر، وقد أحببت أن أقرن بنصيحتي إياك عهدا عسى الله أن يحدث خيرا، وقد بلغنا أن خمسا كان عليها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعون لهم بإحسان: اتباع السنة وتلاوة القرآن، ولزوم الجماعة وعمارة المساجد والجهاد في سبيل الله. وحدثني سفيان الثوري أن حذيفة بن اليمان كان يقول: من أحب أن يعلم أصابته الفتنة أو لا فلينظر، فإن رأى حلالا كان يراه حراما، أو يرى حراما كان يراه حلالا، فليعلم أن قد أصابته. وقد كنت قبل وفاة أبيك رحمه الله ترى ترك الجمعة والصلوات في الجماعة حراما فأصبحت تراه حلالا، وكنت ترى عمارة المساجد من شرف الأعمال فأصبحت لها هاجرا، وكنت ترى أن ترك عصابتك من الحرس في سبيل الله حرجا فأصبحت تراه جميلا. وحدثني سفيان منقطعا عن ابن عباس أنه قال: من ترك الجمعة أربعا ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (3/ 582/930) ومقدمة شرح السنة للبغوي (1/ 171) والفتاوى (5/ 39) والشريعة (2/ 104 - 105/ 765) والسير (7/ 274).

متواليات من غير عذر فقد نبذ الإسلام من وراء ظهره. (¬1) وحدثني الزهري عن أبي هريرة أنه من ترك الجمعة ثلاثا من غير عذر طبع الله على قلبه. (¬2) وقد خاطرت بنفسك من هذين الحديثين عظيما فاتهم رأيك فإنه شر ما أخذت به، وارض بأسلافك إيمانا. وقد كنت في ثلاث سنوات مررن -والمساجد والديار تحرق والدماء تسفك والأموال تنتهب- مع أبيك لا تخالفه في ترك جمعة ولا حضور صلاة مسجد، ولا ترغب عنه حتى مضى لسبيله، وأنت ترى أنك بوجه هذا الحديث: "كن حلس بيتك" (¬3) ومثله من الأحاديث أعلم بها من أبيك وممن أدرك من أهل العلم، فأعيذك بالله وأنشدك به أن تعتصم برأيك شاذا به دون أبيك وأهل العلم قبله، وأن تكون لأصحاب الأهواء قوة وللسفهاء في تركهم الجمعة فتنة يحتجون بك ¬

(¬1) أخرجه مرفوعا ابن الحمامي الصوفي في منتخب من مسموعاته، كما في الضعيفة (2/ 112/657) وإسناده ضعيف. فيه شريك القاضي ضعفوه لسوء حفظه. وأخرجه موقوفا بهذا اللفظ ابن عبد البر في التمهيد (فتح البر 5/ 208) وأخرجه: عبد الرزاق في مصنفه (3/ 166/5169)، أبو يعلى في مسنده (5/ 102/2712) موقوفا بلفظ: من ترك الجمعة ثلاث جمع متواليات، فقد نبذ ... الخ. ذكره الهيثمي في المجمع (2/ 193) وقال: رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح وصحح إسناده الحافظ المنذري في الترغيب (1/ 453/733). (¬2) لم أجده بهذا اللفظ، وأخرجه مرفوعا بلفظ: "ألا هل عسى أحدكم أن يتخذ الصبة من الغنم ... ثم تجيء الجمعة فلا يجيء ولا يشهدها، وتجيء الجمعة فلا يشهدها، وتجيء الجمعة فلا يشهدها حتى يطبع على قلبه". أخرجه: ابن ماجه (1/ 357/1127) وابن خزيمة (3/ 177/1859) والحاكم (1/ 292) وقال: "صحيح على شرط مسلم وسكت عنه الذهبي". قال البوصيري في الزوائد: "إسناد ضعيف لضعف معدي بن سليمان". وحسن إسناده الحافظ المنذري في الترغيب. انظر صحيح الترغيب والترهيب (1/ 452/731). (¬3) أحمد (4/ 408) وأبو داود (4/ 459 - 460/ 4262) والترمذي (4/ 425/2204) بلفظ: "والزموا فيها أجواف بيوتكم" وقال: "هذا حديث حسن غريب صحيح". والحاكم (4/ 440) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد وسكت عنه الذهبي". كلهم من حديث أبي موسى.

موقفه من المرجئة:

إذا عويروا على تركها. أسأل الله أن لا يجعل مصيبتك في دينك، ولا يغلب عليك شقاء ولا اتباع هوى بغير هدى منه، والسلام عليك. (¬1) قلت: عبد الرحمن بن ثوبان هذا شيخ عالم زاهد محدث، لكن كان فيه خارجية قاله الذهبي في السير. - وقال أبو إسحاق: وسألت الأوزاعي قلت: هل ندع الصلاة على أحد من أهل القبلة وإن عمل بكل عمل؟ قال: لا، قال: وإنما كانوا يحدثون بالأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعظيما لحرمات الله ولا يعدون الذنب كفرا ولا شركا، وكان يقال: المؤمن حديد عند حرمات الله. (¬2) موقفه من المرجئة: - قال ابن بطة: حدثنا معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق قال: قال الأوزاعي: لا يستقيم الإيمان إلا بالقول، ولا يستقيم الإيمان والقول إلا بالعمل، ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلا بنية موافقة للسنة، وكان من مضى من سلفنا لا يفرقون بين الإيمان والعمل، والعمل من الإيمان والإيمان من العمل، وإنما الإيمان اسم يجمع [كما يجمع] (¬3) هذه الأديان اسمها ويصدقه العمل، فمن آمن بلسانه وعرف بقلبه وصدق بعمله فتلك العروة الوثقى التي لا انفصام لها، ومن قال بلسانه ولم يعرف بقلبه ولم يصدقه بعمله لم يقبل منه ¬

(¬1) المعرفة والتاريخ (2/ 391 - 392) وهو في تاريخ الإسلام (حوادث ووفيات 161 - 170 ص.317) والسير (7/ 314 مختصرا). (¬2) أصول الاعتقاد (6/ 1150/2023). (¬3) زيادة من أصول الاعتقاد.

وكان في الآخرة من الخاسرين. (¬1) - وجاء في أصول الاعتقاد عن الوليد بن مسلم قال: سمعت الأوزاعي ومالك بن أنس وسعيد بن عبد العزيز ينكرون قول من يقول: إن الإيمان قول بلا عمل ويقولون لا إيمان إلا بعمل ولا عمل إلا بإيمان. (¬2) - وجاء في السنة لعبد الله: عن الوليد بن مسلم قال: سمعت أبا عمرو يعني الأوزاعي ومالكا وسعيد بن عبد العزيز يقولون: ليس للإيمان منتهى هو في زيادة أبدا وينكرون على من يقول إنه مستكمل الإيمان، وإن إيمانه كإيمان جبريل عليه السلام. (¬3) - وفيها: عن ابن مسلم قال: سمعت أبا عمرو يعني الأوزاعي ومالك ابن أنس وسعيد بن عبد العزيز ينكرون أن يقول: أنا مؤمن. ويأذنون في الاستثناء أن أقول: أنا مؤمن إن شاء الله. (¬4) - وفي الشريعة عن فديك يعني ابن سليمان - قال: سمعت الأوزاعي يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فمن زعم أن الإيمان يزيد ولا ينقص فاحذروه، فإنه مبتدع. (¬5) - عن أبي إسحاق قال: وقال الأوزاعي: وذكر أصحاب نبيه - صلى الله عليه وسلم - الذين اختارهم له وبعثه فيهم ووصفهم بما وصفهم به فقال: {محمد رسول الله ¬

(¬1) الإبانة (2/ 807/1097) وأصول الاعتقاد (5/ 956). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 930 - 931/ 1586). (¬3) السنة لعبد الله (92 - 93). (¬4) السنة لعبد الله (100). (¬5) الشريعة (1/ 272/269).

وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} (¬1) ويقولون (¬2): إن فرائض الله عز وجل على عباده ليست من الإيمان وأن الإيمان قد يطلب بلا عمل، وقال: وأن الناس لا يتفاضلون في إيمانهم وأن برهم وفاجرهم في الإيمان سواء، وما هكذا جاء الحديث عن رسول - صلى الله عليه وسلم - بلغنا أنه قال: "الإيمان بضع وسبعون أو قال بضعة وستون جزءا أولها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" (¬3) وقال الله عز وجل: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} (¬4). الدين هو التصديق وهو الإيمان والعمل. فوصف الله عز وجل الدين قولا وعملا قال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (¬5). والتوبة من الشرك وهو من الإيمان والصلاة والزكاة عمل. (¬6) ¬

(¬1) الفتح الآية (29). (¬2) المرجئة. (¬3) سيأتي تخريجه ضمن مواقف إبراهيم بن محمد الفزاري سنة (186هـ). (¬4) الشورى الآية (13). (¬5) التوبة الآية (11). (¬6) السنة للخلال (3/ 585 - 586/ 1025).

موقفه من القدرية:

موقفه من القدرية: - جاء في أصول الاعتقاد بالسند إلى بقية قال: سألت الأوزاعي والزبيدي عن الجبر، فقال الزبيدي: أمر الله أعظم، وقدرته أعظم من أن يجبر أو يقهر، ولكن يقضي ويقدر ويخلق ويجبل عبده على ما أحب. وقال الأوزاعي: ما أعرف للجبر أصلا من القرآن والسنة، فأهاب أن أقول ذلك، ولكن القضاء والقدر والخلق والجبل، فهذا يعرف في القرآن والحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إنما وصفت هذا مخافة أن يرتاب رجل من أهل الجماعة والتصديق. (¬1) - وفيه بالسند إلى الوليد بن هشام عن أبيه قال: بلغ هشام بن عبد الملك أن رجلا قد ظهر يقول بالقدر، وقد أغوى خلقا كثيرا فبعث إليه هشام فأحضره فقال: ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: وما هو؟ قال: تقول إن الله لم يقدر على خلق الشر؟ قال: بذلك أقول، فأحضر من شئت يحاجني فيه؛ فإن غلبته بالحجة والبيان علمت أني على الحق، وإن هو غلبني بالحجة فاضرب عنقي؟ قال: فبعث هشام إلى الأوزاعي فأحضره لمناظرته، فقال له الأوزاعي: إن شئت سألتك عن واحدة وإن شئت عن ثلاث وإن شئت عن أربع؟ فقال: سل عما بدا لك، قال الأوزاعي: أخبرني عن الله عز وجل، هل تعلم أنه قضى على ما نهى؟ قال: ليس عندي في هذا شيء، فقلت: يا أمير المؤمنين هذه واحدة، ثم قلت له: أخبرني هل تعلم أن الله حال دون ما أمر؟ قال: هذه أشد من الأولى، فقلت: يا أمير المؤمنين هذه اثنتان، ثم قلت له: ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 775/1300).

هل تعلم أن الله أعان على ما حرم؟ قال: هذه أشد من الأولى والثانية، قلت: يا أمير المؤمنين هذه ثلاث، قد حل بها ضرب عنقه فأمر به هشام فضربت عنقه. ثم قال للأوزاعي: يا أبا عمرو، فسر لنا هذه المسائل؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، سألته هل يعلم أن الله قضى على ما نهى، نهى آدم عن أكل الشجرة ثم قضى عليه بأكلها، وسألته هل يعلم أن الله حال دون ما أمر؟ أمر إبليس بالسجود لآدم ثم حال بينه وبين السجود، وسألته هل يعلم أن الله أعان على ما حرم؟ حرم الميتة والدم ثم أعاننا على أكله في وقت الاضطرار إليه. قال هشام: والرابعة ما هي يا أبا عمرو؟ قال: كنت أقول: مشيئتك مع الله أم دون الله؟ فإن قال مع الله فقد اتخذ مع الله شريكا، أو قال دون الله فقد انفرد بالربوبية، فأيهما أجابني فقد حل ضرب عنقه بها، قال هشام: حياة الخلق وقوام الدين بالعلماء. (¬1) " التعليق: لله درك يا أبا عمرو! يا إمام أهل الشام خصوصا والمسلمين عموما، ورثت فقه الكتاب والسنة، فجعل لك نورا تستضيء به، حجتك على لسانك، وعلمك في صدرك، صواعقك تحرق أوهام المبتدعة، فيقفون أمامك حيارى!! لا يجدون جوابا لأسئلتك. ورحمك الله يا هشام! حيث كنت تهتدي بمثل هؤلاء النجوم، وتأخذ الحكم منهم في رؤوس الضلال، حتى يهلك من هلك عن بينة، ولا يكون مظلوما. ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 794 - 795/ 1330).

- جاء في السير: قال أبو توبة الحلبي: حدثنا أصحابنا: أن ثورا لقي الأوزاعي فمد يده إليه، فأبى الأوزاعي أن يمد يده إليه وقال: يا ثور لو كانت الدنيا لكانت المقاربة، ولكنه الدين. (¬1) - وجاء في الإبانة عنه: أنه سئل عن القدرية قال: لا تجالسوهم. (¬2) - وجاء في ذم الكلام عن إسحاق بن إبراهيم القاضي قال: بلغني أن الأوزاعي اجتمع وثور بن يزيد على الجسر فقال: يا ثور لولا أن الهجر من الدين لسلمنا عليك، قال: وكان قدريا. (¬3) - وجاء في الإبانة عن أبي إسحاق قال: قلت للأوزاعي: أرأيت من قال: قدر الله علي وكتب علي وقضى علي، وعلم الله أني عامل كذا، قال: هذا كله سواء واحد، قلت: فمن؟ قال: علم الله أني عامل كذا ولم يقل قدره علي، قال: هذا من باب يجر إلى الهمل وهو الكفر؛ لأنهم يقولون قد علم الله أن العبد عامل كذا وكذا، وقد جعل الله له الاستطاعة إلى أن لا يعمل ذلك الشيء الذي قد علم الله عز وجل أن العبد عامله؛ فما منزلة ما قد علم الله أن العبد عامله إذا لم يعمله، ويقولون: إنما علمه، إنما هو بمنزلة الحائط، قلت: فمن؟ قال: قد علم الله أني عامل كذا وكذا، وقد جعل الاستطاعة إلي أن لا أعمله ولا بد لي من أن أعمله، قال: هذا قول من قول أهل القدر، وهو الهمل ويخرجهم إلى الكفر. (¬4) ¬

(¬1) السير (6/ 344 - 345). (¬2) الإبانة (2/ 11/319/ 2004). (¬3) ذم الكلام (218). (¬4) الإبانة (2/ 10/253 - 254/ 1854).

- وفيها أيضا: عن عبد الله بن صالح: كتب الأوزاعي إلى صالح بن بكر: أما بعد: فقد بلغني كتابك تذكر فيه أن الكتب قد كثرت في الناس، ورد الأقاويل في القدر بعضهم على بعض، حتى يخيل إليكم أنكم قد شككت فيه، وتسألني أن أكتب إليك بالذي استقر عليه رأيي وأقتصر في المنطق، ونعوذ بالله من التحير من ديننا، واشتباه الحق والباطل علينا، وأنا أوصيك بواحدة؛ فإنها تجلو الشك عنك وتصيب بالاعتصام بها سبيل الرشد إن شاء الله تعالى: تنظر إلى ما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا الأمر، فإن كانوا اختلفوا فيه؛ فخذ بما وافقك من أقاويلهم، فإنك حينئذ منه في سعة، وإن كانوا اجتمعوا منه على أمر واحد لم يشذذ عنه منهم أحد؛ فأين المذهب عنهم، فإن الهلكة في خلافهم، وإنهم لم يجتمعوا على شيء قط؛ فكان الهدى في غيره وقد أثنى الله عز وجل على أهل القدوة بهم؛ فقال: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} (¬1). واحذر كل متأول للقرآن على خلاف ما كانوا عليه منه ومن غيره، فإن من الحجة البالغة أنهم لا يقتدون برجل واحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أدرك هذا الجدل فجاء معهم عليه وقد أدركه منهم رجال كثير؛ فتفرقوا عنه، واشتدت ألسنتهم عليه فيه، وأنت تعلم أن فريقا منهم قد خرجوا على أئمتهم، فلو كان هدى؛ لم يخرجوا ولم يجتمع من بقي منهم، ألفه فيه واحدة ¬

(¬1) التوبة الآية (100).

أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور (158 هـ)

دون جماعة أمتهم فإن الولاية في الإسلام دون الجماعة فرقة؛ فأقر بالقدر، فإن علم الله عز وجل الذي لا يجاوزه شيء، ثم لا تنقضه بالاستطاعة؛ فتهمل فإنه لن يخرج رجل في الإسلام إلى فرط أعظم من الهمل، وذلك أن المؤمن لا يضيف إلى نفسه شيئا من قدر الله عز وجل في خير يسوقه إليها ولا شر يصرفه عنها، وإنما ذلك بيد الله ولا يملكه أحد غير الله، فمن أراد الله به خيرا؛ وفقه لما يحب وشرح صدره، ومن أراد به شرا؛ وكله إلى نفسه، واتخذ الحجة عليه ثم عذبه غير ظالم له، أسأل الله لنا ولكم العصمة من كل هلكة ومزلة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (¬1) - وفيها: عن بقية بن الوليد: سمعت الأوزاعي يقول: القدرية خصماء الله عز وجل في الأرض. (¬2) - وفيها: عن محمد بن شعيب قال: سمعت الأوزاعي يقول: أول من نطق في القدر رجل من أهل العراق يقال له سوسن، كان نصرانيا فأسلم ثم تنصر، فأخذ عنه معبد الجهني وأخذ غيلان عن معبد. (¬3) أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور (¬4) (158 هـ) عبد الله بن محمد بن علي الخليفة أبو جعفر المنصور الهاشمي العباسي ¬

(¬1) الإبانة (2/ 10/254 - 255/ 1855). (¬2) الإبانة (2/ 10/255/ 1856). (¬3) الإبانة (2/ 11/298/ 1954) والشريعة (1/ 459/596). (¬4) تاريخ بغداد (10/ 53 - 61) والبداية والنهاية (10/ 124 - 131) والسير (7/ 83 - 89) وفوات الوفيات (2/ 216 - 217) والكامل في التاريخ (5/ 461 - 462) والعقد الثمين (5/ 248 - 260).

موقفه من المشركين:

وأمه سلامة البربرية. ضرب الآفاق ورأى البلاد وطلب العلم. كان فحل بني العباس هيبة وشجاعة ورأيا وحزما ودهاء وجبروتا. وكان جماعا للمال حريصا تاركا للهو واللعب، كامل العقل بعيد الغور حسن المشاركة في الفقه والأدب والعلم. أباد جماعة كبارا حتى توطد له الملك ودانت له الأمم على ظلم فيه وقوة نفس، ولكنه يرجع إلى صحة إسلام وتدين في الجملة، وتصون وصلاة، وخير مع فصاحة، وبلاغة وجلالة. من أقواله: الخليفة لا يصلحه إلا التقوى، والسلطان لا يصلحه إلا الطاعة، والرعية لا يصلحها إلا العدل، وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه. ولما احتضر قال: اللهم إني قد ارتكبت عظائم جرأة مني عليك وقد أطعتك في أحب الأشياء إليك شهادة أن لا إله إلا الله منا منك لا منا عليك. ثم مات. توفي سنة ثمان وخمسين ومائة. موقفه من المشركين: - قال الحافظ في الفتح عند الكلام على الزندقة وتاريخها: واشتهر في صدر الإسلام الجعد بن درهم فذبحه خالد القسري في يوم عيد الأضحى، ثم كثروا في دولة المنصور، وأظهر له بعضهم معتقده فأبادهم بالقتل ثم ابنه المهدي فأكثر من تتبعهم وقتلهم. (¬1) - قال الذهبي: وقد كان بعض الزنادقة والطغام من التناسخية، اعتقدوا ¬

(¬1) فتح الباري (12/ 271).

موقفه من الجهمية:

أن الباري سبحانه وتعالى حل في أبي مسلم الخراساني المقتول (من طرف المنصور) عندما رأوا من تجبره واستيلائه على الممالك وسفكه للدماء، فأخبار هذا الطاغية يطول شرحها. (¬1) موقفه من الجهمية: - جاء في أصول الاعتقاد بالسند إلى محمد بن عمران بن أبي ليلى قال: حدثني أبي قال: لما قدم ذلك الرجل إلى محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى شهد عليه ابن أبي سليمان وغيره أنه قال: القرآن مخلوق، وشهد عليه قوم مثل قول حماد بن أبي سليمان. فحدثني خالد بن نافع قال: كتب ابن أبي ليلى إلى أبي جعفر وهو بالمدينة بما قاله ذلك الرجل وشهادته عليه وإقراره. فكتب إليه أبو جعفر: إن هو رجع وإلا فاضرب رقبته وأحرقه بالنار. فتاب ورجع عن قوله في القرآن. (¬2) - وفيه: كتب اليون ملك الروم إلى أبي حعفر -يعني المنصور- يسأله عن أشياء ويسأله عن لا إله إلا الله أمخلوقة أم خالقة؟ فكتب إليه أبو جعفر: كتبت إلي تسألني عن لا إله إلا الله أخالقة أم مخلوقة؟ وليست خالقة ولا مخلوقة ولكنها كلام الله عز وجل. (¬3) ¬

(¬1) السير (6/ 67). (¬2) أصول الاعتقاد (2/ 272/408). (¬3) أصول الاعتقاد (2/ 271 - 272/ 407).

موقفه من الخوارج:

موقفه من الخوارج: جاء في البداية والنهاية: وخرج في هذه السنة (أي سنة سبع وثلاثين ومائة) أيضا رجل يقال له ملبد بن حرملة الشيباني في ألف من الخوارج بالجزيرة، فجهز إليه المنصور جيوشا متعددة كثيفة كلها تنفر منه وتنكسر، ثم قاتله حميد بن قحطبة نائب الجزيرة، فهزمه ملبد وتحصن منه حميد في بعض الحصون ثم صالحه حميد بن قحطبة على مائة ألف فدفعها إليه وقبلها ملبد وتقلع عنه. (¬1) زفر بن الهذيل (¬2) (158 هـ) زُفَر بن الهُذَيْل بن قيس بن سلم الفقيه المجتهد الرباني العلامة أبو الهذيل العنبري البصري صاحب الرأي. حدث عن الأعمش وإسماعيل بن أبي خالد وأبي حنيفة ومحمد بن إسحاق. وحدث عنه حسان بن إبراهيم وأكثم بن محمد وعبد الرحمن بن زياد وأبو نعيم الملائي وآخرون. قال الذهبي: هو من بحور الفقه وأذكياء الوقت تفقه بأبي حنيفة وهو أكبر تلامذته. عن عبد الواحد بن زياد لقيت زفر رحمه الله، فقلت له: صرتم حديثا في الناس وضحكة، قال: وما ذاك؟ قلت: تقولون: ادرؤوا الحدود ¬

(¬1) البداية والنهاية (10/ 75). (¬2) طبقات ابن سعد (6/ 387 - 388) والجرح والتعديل (3/ 608 - 609) ومشاهير علماء الأمصار (170) والسير (8/ 38 - 41) ووفيات الأعيان (2/ 317 - 319) والفهرست لابن النديم (285) وتاريخ ابن معين (2/ 172) وشذرات الذهب (1/ 243).

موقفه من المبتدعة:

بالشبهات (¬1) ثم جئتم إلى أعظم الحدود، فقلتم: تقام بالشبهات، قال: وماهو؟ قلت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يقتل مسلم بكافر (¬2) فقلتم: يقتل به -يعني بالذمي- قال: فإني أشهدك الساعة أني قد رجعت عنه. مات سنة ثمان وخمسين ومائة. موقفه من المبتدعة: عن زفر بن الهذيل قال: إنما نأخذ بالرأي ما لم يجيء الأثر، فإذا جاء الأثر تركنا الرأي، وأخذنا بالأثر. (¬3) موقفه من الجهمية: جاء في جامع بيان العلم وفضله قال: وذكر ابن أبي خيثمة قال: حدثنا محمد بن شجاع البلخي قال سمعت الحسن بن زياد اللؤلؤي وقال له رجل في زفر بن الهذيل: أكان ينظر في الكلام؟ فقال: سبحان الله ما أحمقك ما أدركت مشيختنا زفر وأبا يوسف وأبا حنيفة ومن جالسنا وأخذنا عنهم يهمهم غير الفقه والاقتداء بمن تقدمهم. (¬4) ¬

(¬1) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (68/ 189 - 191) وأبو سعد بن السمعاني في الذيل كما في المقاصد الحسنة (رقم 46) عن عمر بن عبد العزيز مرسلا. ورواه البيهقي (8/ 238) عن علي بن أبي طالب، وقال: "في هذا الإسناد ضعف". ورواه الحارثي في مسند أبي حنيفة وابن عدي عن ابن عباس مرفوعا، ذكره السخاوي في المقاصد (رقم 46) وقال الشيخ الألباني في الإرواء (2316): "وهو ضعيف". وقد روي من حديث عائشة مرفوعا بلفظ: "ادرؤوا الحدود ما استطعتم ... " أخرجه الترمذي (4/ 25/1424) والبيهقي (8/ 238) والدارقطني (3/ 84) والحاكم (4/ 384) وصححه، ورده الذهبي بقوله: قال النسائي: يزيد بن زياد شامي متروك. (¬2) أخرجه أحمد (1/ 79) والبخاري (12/ 303/6903) والترمذي (4/ 17/1412) والنسائي (8/ 392/4758) وابن ماجة (2/ 887/2658) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (¬3) الفقيه والمتفقه (1/ 510). (¬4) جامع بيان العلم (2/ 942/1798).

ابن أبي ذئب (159 هـ)

ابن أَبِي ذِئْب (¬1) (159 هـ) محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب الإمام شيخ الإسلام، أبو الحارث القرشي العامري المدني الفقيه. سمع الزهري ونافع مولى ابن عمر ومحمد بن المنكدر وسعيد بن أبي سعيد وخلقا سواهم. وعنه عبد الله بن المبارك وعبد الله بن وهب وعبد الله بن مسلمة القعنبي وعبد الله بن نمير وطائفة. رمي بالقدر وما كان قدريا. قال أحمد الأبار: سألت مصعبا عن ابن أبي ذئب فقال: معاذ الله أن يكون قدريا، إنما كان زمن المهدي قد أخذوا أهل القدر وضربوهم ونفوهم، فنجا منهم قوم فجلسوا إليه واعتصموا به من الضرب فقيل هو قدري لذلك. قال الإمام أحمد: كان ابن أبي ذئب رجلا صالحا قوالا بالحق يشبه بسعيد بن المسيب، وكان قليل الحديث. توفي سنة تسع وخمسين ومائة. موقفه من المبتدعة: - روى الهروي في ذم الكلام بسنده إلى الشافعي قال: أخبرني أبو حنيفة بن سماك بن الفضل الشهابي حدثني ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي ¬

(¬1) تاريخ خليفة (429) وتاريخ بغداد (2/ 296 - 305) ووفيات الأعيان (4/ 183) وتهذيب الكمال (25/ 630 - 644) والوافي بالوفيات (3/ 223 - 224) وتذكرة الحفاظ (1/ 191 - 193) والسير (7/ 139 - 149) ومشاهير علماء الأمصار (140) والفهرست لابن النديم (315) وشذرات الذهب (1/ 245).

شريح الكعبي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال عام الفتح: "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إن أحب أخذ العقل وإن أحب فله القود" (¬1) قال الشافعي: قال أبو حنيفة: قلت لابن أبي ذئب تأخذ به يا أبا الحارث؟ قال: فضرب صدري وصاح بي صياحا كثيرا ونال مني فقال: أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول تأخذ به؟ نعم آخذ، وذلك الفرض علي وعلى من سمعه؛ إن الله اختار محمدا - صلى الله عليه وسلم - من الناس فهداهم به وعلى يديه، واختار له وعلى لسانه (¬2)، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين وداخرين لا مخرج لهم من ذلك. قال: وما سكت حتى أحببت أن يسكت. (¬3) - وعن أحمد بن حنبل: قيل لابن أبي ذئب: مالك بن أنس يقول: "ليس البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" (¬4) فقال: يستتاب مالك فإن تاب وإلا ¬

(¬1) أحمد (4/ 31 - 32) و (6/ 385) والترمذي (4/ 14/1406) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وأبو داود (4/ 643 - 644/ 4504) كلهم من طرق عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فذكره بطوله وفيه: فمن قتل له قتيل بعد اليوم فأهله بين خيرتين إما أن يقتلوا أو يأخذوا العقل. وهو في الصحيحين من طريق الليث بن سعد عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي شريح به بطوله دون ذكر موطن الشاهد. وللحديث شاهد من حديث أبي هريرة، أخرجه: البخاري (1/ 273 - 274/ 112) ومسلم (2/ 988/1355) وأبو داود (4/ 645/4505) والترمذي (4/ 14/1405) والنسائي (8/ 407/4799 - 4800) وابن ماجه (2/ 876/2624). (¬2) في الكنى والحجة والفقيه والمتفقه: 'واختار لهم ما اختار له على لسانه'. (¬3) ذم الكلام (4/ 133 - 134 طبعة الأنصاري) والكنى للدولابي (1/ 145) والحجة للأصبهاني (1/ 244 - 245) والفقيه والمتفقه (1/ 287 - 288) وذكره الذهبي في السير (7/ 142). (¬4) حديث "البيعان بالخيار" أخرجه: أحمد (3/ 403) والبخاري (4/ 412/2110) ومسلم (3/ 1164/1532) وأبو داود (3/ 737 - 738/ 3459) والترمذي (3/ 548 - 549/ 1246) وقال: "هذا حديث صحيح". والنسائي (7/ 280 - 281/ 4469) كلهم من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه. وورد من حديث غيره من الصحابة رضي الله عنهم.

موقفه من المرجئة:

ضربت عنقه. (¬1) " التعليق: لو نطق الواحد منا بأقل من هذا لعده الناس من الزنادقة الخارجين عن ملة الإسلام مع أن هذا هو الواجب، وأن هذه هي عقيدة السلف قديما وحديثا. من استبانت له سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيجب عليه المصير إليها ولا يجوز له العدول عنها مهما كان شأن المخالف لها، وسيمر بنا -إن شاء الله تعالى- من هذا النوع كثير. وقد بين الإمام ابن عبد البر وجه رد الإمام مالك لهذا الخبر ومن شاء الوقوف على كلامه فليرجع إلى فتح البر، (¬2) وبالله التوفيق. موقفه من المرجئة: جاء في أصول الاعتقاد عن حنبل قال: سمعت أبا عبد الله -يعني أحمد ابن حنبل- وسئل عن الإيمان والإسلام قال: قال ابن أبي ذئب: الإسلام القول والإيمان العمل. فقيل: ما تقول أنت؟ قال: الإيمان غير الإسلام. (¬3) موقفه من القدرية: جاء في السير: وكان من أورع الناس وأودعهم، ورمي بالقدر، وما كان قدريا، لقد كان يتقي قولهم ويعيبه. ولكنه كان رجلا كريما، يجلس إليه كل أحد ويغشاه فلا يطرده، ولا يقول له شيئا، وإن مرض عاده، فكانوا ¬

(¬1) ذم الكلام (ص.212) والسير (7/ 142) وتاريخ بغداد (2/ 302). (¬2) (12/ 278). (¬3) أصول الاعتقاد (4/ 895/1500).

عكرمة (159 هـ)

يتهمونه بالقدر، لهذا وشبهه. قال الذهبي: كان حقه أن يكفهر في وجوههم، ولعله كان حسن الظن بالناس. (¬1) عكرمة (¬2) (159 هـ) عِكْرِمَة بن عمّار، أبو عمّار العجلي، البصري ثم اليمامي، الحافظ الإمام. حدث عن عطاء بن أبي رباح والقاسم بن محمد وطاووس ويحيى بن أبي كثير. وحدث عنه شعبة والثوري وابن المبارك ووكيع وابن مهدي وغيرهم. قال محمد بن عبد الله بن عمار: عكرمة بن عمار ثقة عندهم، روى عنه ابن مهدي: ما سمعت فيه إلا خيرا. وقال عاصم بن علي: كان مستجاب الدعوة. توفي رحمه الله سنة تسع وخمسين ومائة. موقفه من المرجئة: جاء في أصول الاعتقاد: عن أبي عاصم قال: جاء عكرمة بن عمار إلى ابن أبي رواد فدق عليه الباب وقال: أين هذا الضال يعني بالإرجاء. (¬3) موقفه من القدرية: - جاء في السير: قال عباس بن عبد العظيم: سمعت سليمان بن حرب ¬

(¬1) السير (7/ 140 - 141). (¬2) تاريخ بغداد (12/ 257) وسير أعلام النبلاء (7/ 134) وميزان الاعتدال (3/ 90 - 93) وتهذيب الكمال (20/ 256 - 264) وتهذيب التهذيب (7/ 261 - 262) وشذرات الذهب (1/ 246). (¬3) أصول الاعتقاد (5/ 1064/1819) وهو في السير (7/ 187).

مالك بن مغول (159 هـ)

يقول: قدم علينا عكرمة بن عمار من اليمامة، فرأيته فوق سطح يخاصم أهل القدر. - قال معاذ بن معاذ: سمعت عكرمة بن عمار يقول للناس: أحرج على رجل يرى القدر إلا قام فخرج عني، فإني لا أحدثه. (¬1) مالك بن مغول (¬2) (159 هـ) مالك بن مِغْوَل بن عاصم بن غَزِيَّة بن خَرَشَة، الإمام الثقة المحدث، أبو عبد الله البجلي الكوفي. حدث عن الشعبي، وعبد الله بن بريدة، وعطاء بن أبي رباح ونافع العمري، وعبد الرحمن بن الأسود، وخلق. وعنه أبو إسحاق شيخه، وشعبة والثوري، وابن عيينة، وابن المبارك ووكيع وابن مهدي وخلق سواهم. قال الإمام أحمد: ثقة ثبت. وقال أيضا: سمعت ابن عيينة يقول: قال رجل لمالك بن مغول: اتق الله، فوضع خده بالأرض. قال أبو نعيم وأبو بكر ابن أبي شيبة: توفي سنة تسع وخمسين ومائة. موقفه من الرافضة: - قال شعيب بن حرب: قلت لمالك بن مغول: أوصني قال: أوصيك بحب الشيخين أبي بكر وعمر. قلت أوصني، قال: أوصيك بحب الشيخين أبي ¬

(¬1) السير (7/ 138). (¬2) طبقات ابن سعد (6/ 365) والتاريخ الكبير (7/ 314) والجرح والتعديل (8/ 215 - 216) وتهذيب الكمال (27/ 158 - 162) وتهذيب التهذيب (4/ 19) وتاريخ الإسلام (حوادث 141 - 160/ص.582 - 583) والسير (7/ 174 - 176) والشذرات (1/ 247).

موقفه من المرجئة:

بكر وعمر. قلت: إن الله أعطى من ذلك خيرا كثيرا قال: أي لكع والله إني لأرجو لك على حبهما ما أرجو لك على التوحيد. (¬1) - جاء في تاريخ الإسلام للذهبي قال ابن إدريس: ما رأيت مالك بن مغول يسب دابة قط إلا أنه ذكرت عنده الرافضة فبزق في الأرض. وقال ابن عيينة: قال مالك بن مغول: لئن شئتم لأحلفن لكم أن مكانهما في الآخرة مثل مكانهما في الدنيا، يعني: أبا بكر وعمر. (¬2) موقفه من المرجئة: عن أحمد بن يونس قال: كان سفيان الثوري وأبو بكر بن عياش وزهير بن معاوية وزائدة ومالك بن مغول ومفضل بن مهلهل وفضيل بن عياض وأبو شهاب عبد ربه بن نافع وأبو زبيد عبثر بن القاسم يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص. (¬3) يونس بن أبي إسحاق (¬4) (159 هـ) يونس بن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي، أبو إسرائيل الكوفي، والد إسرائيل بن يونس وعيسى بن يونس. روى عن أبيه وأنس بن مالك وأبي بردة بن أبي موسى الأشعري وأخيه أبي بكر بن أبي موسى ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (7/ 1318/2338). (¬2) تاريخ الإسلام (حوادث 141 - 161هـ/ ص.583). (¬3) أصول الاعتقاد (5/ 1031 - 1032/ 1744). (¬4) ميزان الاعتدال (4/ 482) وسير أعلام النبلاء (7/ 26 - 27) وتهذيب الكمال (32/ 488 - 493) وتهذيب التهذيب (11/ 433 - 434) وشذرات الذهب (1/ 247).

موقفه من الرافضة:

الأشعري ومجاهد والحسن البصري وجماعة. وروى عنه ابنه عيسى وإسماعيل ابن عياش وسفيان الثوري وعبد الله بن المبارك وعبد الرحمن بن مهدي وأبو نعيم وغيرهم. كان يونس من علماء الكوفة، وهو من بيت علم وحديث. قال عثمان الدارمي ليحيى بن معين: يونس أحب إليك أو إسرائيل؟ قال: كل ثقة. توفي سنة تسع وخمسين ومائة، رحمه الله تعالى. موقفه من الرافضة: - قال شبابة بن سوار: قلت ليونس بن أبي إسحاق: ثوير لأي شيء تركته؟ قال: لأنه رافضي، قلت: إن أباك روى عنه، قال: هو أعلم. وقيل ليونس بن أبي إسحاق: لِمَ لَمْ تحمل عن ثوير بن أبي فاختة؟ قال: كان رافضيا. (¬1) موقف السلف من عبد العزيز بن أبي رواد المرجئي (159 هـ) جاء في أصول الاعتقاد عن الحسن بن وهب الجمحي قال: قدم علينا عبد العزيز بن أبي رواد وهو شاب يومئذ ابن نيف وعشرين سنة فمكث فينا أربعين أو خمسين سنة لا يعرف بشيء من الإرجاء حتى نشأ ابنه عبد المجيد فأدخله في الإرجاء، فكان أشأم مولود ولد في الإسلام على أبيه. (¬2) وفيه عن محمد بن علي قال: سمعت مالك بن أنس -وذكر عبد المجيد- ¬

(¬1) الكفاية (123). (¬2) أصول الاعتقاد (5/ 1076/1848).

عمران بن مسلم القصير الصوفي (قبل 160 هـ)

فقال: ذاك الذي أدخل أباه في الإرجاء. (¬1) وقد تقدم موقف عكرمة بن عمار منه لإرجائه (159هـ). وفي السير عن مؤمل بن إسماعيل قال: مات عبد العزيز فجيء بجنازته، فوضعت عند باب الصفا، وجاء سفيان الثوري، فقال الناس: جاء سفيان، جاء سفيان. فجاء حتى خرق الصفوف، وجاوز الجنازة، ولم يصل عليها، لأنه كان يرى الإرجاء. فقيل لسفيان، فقال: والله إني لأرى الصلاة على من هو دونه عندي، ولكن أردت أن أري الناس أنه مات على بدعة. (¬2) وله موقف طيب من ثور بن يزيد القدري، جاء في أصول الاعتقاد عنه قال: قد جاءكم ثور اتقوا لا ينطحنكم بقرنيه -يعني ثور بن يزيد-. (¬3) عمران بن مسلم القصير الصوفي (قبل 160 هـ) موقفه من المبتدعة: جاء في الإبانة عن حماد بن مسعدة قال: كان عمران القصير يقول: إياكم والمنازعة والخصومة وإياكم وهؤلاء الذين يقولون أرأيت أرأيت. (¬4) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (5/ 1076/1849). (¬2) السير (7/ 186). (¬3) أصول الاعتقاد (4/ 705 - 706/ 1147 وميزان الاعتدال (1/ 374). (¬4) الإبانة (2/ 3/526/ 637 والشريعة (1/ 190/125).

زائدة بن قدامة (160 هـ)

زائدة بن قدامة (¬1) (160 هـ) زَائِدَة بن قُدَامَة الإمام الثبت الحافظ أبو الصّلت الثقفي الكوفي. حدث عن الأعمش وسليمان التيمي وسماك بن حرب وهشام بن عروة وطائفة. وعنه عبد الله بن المبارك وعبد الرحمن بن مهدي وسفيان بن عيينة وحسين ابن علي الجعفي وآخرون. قال أبو أسامة: حدثنا زائدة، وكان من أصدق الناس وأبرهم. وقال أبو زرعة: صدوق من أهل العلم. قال أبو حاتم وأحمد العجلي: ثقة، صاحب سنة. وقال أحمد بن حنبل: المتثبتون في الحديث أربعة: سفيان وشعبة وزهير وزائدة. توفي بأرض الروم عام غزا الحسن بن قحطبة الصائفة سنة ستين ومائة. موقفه من المبتدعة: جاء في السير: قال أحمد العجلي: ثقة، صاحب سنة، لا يحدث أحدا حتى يسأل عنه، فإن كان صاحب سنة حدثه، وإلا لم يحدثه، وكان قد عرض حديثه على سفيان، وروى عنه سفيان. (¬2) موقفه من الرافضة: - جاء في سير أعلام النبلاء: قال أحمد بن يونس: رأيت زهير بن ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (6/ 378) والجرح والتعديل (3/ 613) والفهرست لابن النديم (316) ومشاهير علماء الأمصار (171) وتذكرة الحفاظ (1/ 215 - 216) والسير (7/ 375 - 378) وتهذيب الكمال (9/ 273 - 277) والكامل في التاريخ (6/ 56) وشذرات الذهب (1/ 251). (¬2) السير (7/ 377).

موقفه من القدرية:

معاوية جاء إلى زائدة فكلمه في رجل يحدثه فقال: أمن أهل السنة هو؟ قال: ما أعرفه ببدعة فقال: من أهل السنة هو؟ فقال زهير: متى كان الناس هكذا؟ فقال زائدة: متى كان الناس يشتمون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما. (¬1) - قال زائدة: جابر الجعفي رافضي يشتم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) - قال أحمد بن يونس: سمعت زائدة يقول: لو كان رافضي ما صليت خلفه ... (¬3) موقفه من القدرية: جاء في السير: قال أبو داود: حدثنا زائدة، وكان لا يحدث قدريا ولا صاحب بدعة يعرفه. (¬4) شعبة بن الحجاج (¬5) (160 هـ) الإمام الحافظ المحدث شُعْبَة بن الحَجَّاج بن الوَرْد العَتَكِي الأزدي، أبو بِسْطَام الواسطي، عالم أهل البصرة وشيخها. حدث عن أنس بن سيرين وإسماعيل بن رجاء وإسماعيل بن علية وقتادة وطلحة بن مصرف والحكم بن عتيبة وغيرهم كثير، وحدث عنه أيوب السختياني والحمادان ويحيى بن سعيد ¬

(¬1) السير (7/ 377). (¬2) الميزان (1/ 383). (¬3) أصول الاعتقاد (8/ 1546/2815). (¬4) السير (7/ 376) والتذكرة (1/ 215). (¬5) طبقات ابن سعد (7/ 280) وحلية الأولياء (7/ 144 - 209) وتهذيب الكمال (12/ 479 - 495) والسير (7/ 202 - 228) وتهذيب التهذيب (4/ 338 - 346) وشذرات الذهب (1/ 247) وتقريب التهذيب (1/ 418).

موقفه من المبتدعة:

القطان وعبد الرحمن بن مهدي ووكيع وأبو داود الطيالسي وعبد الله بن المبارك وأمم سواهم. قال يحيى بن معين: شعبة إمام المتقين. وقال أبو زيد الأنصاري: هل العلماء إلا شُعْبَةٌ من شعبةَ. وقال الإمام أحمد: كان شعبة أمة وحده في هذا الشأن. قال الذهبي: وكان أبو بسطام إماما ثبتا حجة، جهبذا، صالحا، زاهدا، قانعا بالقوت، رأسا في العلم والعمل، منقطع القرين، وهو أول من جرح وعدل، وقال ابن حجر: ثقة حافظ متقن، كان الثوري يقول: هو أمير المؤمنين في الحديث، وهو أول من فتش بالعراق عن الرجال، وذب عن السنة، وكان عابدا. قال ابن المبارك: كنت عند سفيان، إذ جاءه موت شعبة، فقال: مات الحديث. توفي رحمه الله بالبصرة سنة ستين ومائة. موقفه من المبتدعة: - قال أبو زرعة: سمعت مقاتلا -هو ابن محمد- يقول: سمعت وكيعا يقول: إني لأرجو أن يرفع الله لشعبة درجات في الجنة بذبه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) - قال سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، قال: جاءني أبان بن أبي عياش، فقال: أحب أن تكلم شعبة، أن يكف عني. فكلمته، فكف عنه أياما، وأتاني في الليل، فقال: إنه لا يحل الكف عن أبان، فإنه يكذب على رسول ¬

(¬1) السير (7/ 219).

موقفه من الرافضة والجهمية:

الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) موقفه من الرافضة والجهمية: عن محمود بن غيلان: عن أبي النضر، عن شعبة، قال لي: لا تكتب عن محمد بن راشد، فإنه معتزلي رافضي. (¬2) موقفه من القدرية: - جاء في السير: عبد الله بن أحمد: حدثني أبي، قال: قال أبو النضر: كنت أوصي شعبة بالرصافة، فدخل محمد بن راشد، فقال لي شعبة: أما كتبت عنه، أما إنه صدوق، ولكنه شيعي قدري. - وفيها قال سليمان بن حرب: حدثنا شعبة يوما بحديث الصادق المصدوق (¬3)، وأحاديث نحوه، فقال رجل من القدرية: يا أبا بسطام، ألا تحدثنا نحن أيضا بشيء، فذكر حديث أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كل مولود يولد على الفطرة ... " (¬4). الحديث. (¬5) ¬

(¬1) السير (7/ 461). (¬2) السير (7/ 344). (¬3) تقدم في مواقف السلف من عمرو بن عبيد سنة (144هـ). (¬4) أحمد (2/ 393) والبخاري (3/ 281/1358) ومسلم (4/ 2047/2658) وأبو داود (5/ 86/4714) والترمذي (4/ 389 - 390/ 2138) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". (¬5) السير (7/ 210).

الخليل بن أحمد الفراهيدي (160 هـ)

الخليل بن أحمد الفراهيدي (¬1) (160 هـ) الخليل بن أحمد بن عمر بن تميم أبو عبد الرحمن الفَرَاهِيدِي الإمام صاحب العربية ومنشئ علم العروض، البصري أحد الأعلام وصاحب كتاب العين في اللغة. روى عن أيوب السختياني وعاصم الأحول وعثمان بن حاضر والعوام بن حوشب وغالب القطان. روى عنه سيبويه والأصمعي وهارون ابن موسى النحوي والنضر بن شميل ووهب بن جرير وطائفة. صنف كتاب الجمل وكتاب الشواهد وكتاب العروض وكتاب العين وكتاب الإيقاع وكتاب النقط والشكل وغير ذلك. قال ابن حبان: كان من خيار عباد الله المتقشفين في العبادة. وقال إبراهيم الحربي: كان أهل البصرة -يعني أهل العربية منهم- أصحاب الأهواء إلا أربعة فإنهم كانوا أصحاب سنة: أبو عمرو بن العلاء والخليل بن أحمد ويونس بن حبيب والأصمعي. من أقواله: وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخرا يكون كصالح الأعمال قال أيوب بن المتوكل: كان الخليل إذا أفاد إنسانا شيئا لم يره بأنه أفاده، وإن استفاد من أحد شيئا أراه بأنه استفاده منه. توفي سنة ستين ومائة. موقفه من المبتدعة: - قال: ما كان جدل إلا أتى بعده جدل يبطله. (¬2) ¬

(¬1) الجرح والتعديل (3/ 380 - 381) والفهرست لابن النديم (63 - 65) ومعجم الأدباء (11/ 72 - 77) والسير (7/ 429 - 431) ووفيات الأعيان (2/ 244 - 248) وتهذيب الكمال (8/ 326 - 333) والكامل في التاريخ (6/ 50) وشذرات الذهب (1/ 275 - 277). (¬2) أصول الاعتقاد (1/ 145/217) والفقيه والمتفقه (1/ 554).

موقفه من القدرية:

- قال الخليل بن أحمد: إن لم يكن أهل القرآن والحديث أولياء الله، فليس لله في الأرض ولي. (¬1) موقفه من القدرية: - جاء في الإبانة: عن يحيى بن أبي بكر الكرماني قال: حدثني أبي قال: جاء رجل إلى الخليل بن أحمد؛ فقال له: قد وقع في نفسي شيء من أمر القدر، فقال له الخليل: أتبصر من مخارج الكلام شيئا؟ قال: نعم، قال: فأين مخرج الحاء؟ قال: من أصل اللسان، قال: فأين مخرج الثاء؟ قال: من طرف اللسان، [قال:] فاجعل هذا مكان هذا وهذا مكان هذا، قال: لا أستطيع، قال: فأنت مدبر. (¬2) - وعن أبي بكر قال: حدثني أبي قال: كتب الخليل بن أحمد إلى سليمان بن علي: أبلغ سليمان أني عنه في سعة ... وفي غنى غير أني لست ذا مال سحى بنفسي أني لا أرى أحدا ... يموت هزلا ولا يبقى على حال فالرزق عن قدر لا العجز ينقصه ... ولا يزيدك فيه حول محتال (¬3) ¬

(¬1) شرف أصحاب الحديث (ص.50). (¬2) الإبانة (2/ 11/275/ 1901). (¬3) الإبانة (2/ 11/289/ 1937).

عمار بن سيف الضبي (بعد سنة 160 هـ)

عمار بن سيف الضبي (¬1) (بعد سنة 160 هـ) عَمَّار بن سَيْف الضَّبِّي، أبو عبد الرحمن الكوفي، وصي الثوري. روى عن سفيان الثوري وسليمان الأعمش وهشام بن عروة وعاصم الأحول. وروى عنه عبد الله بن المبارك، وأبو نعيم وإسحاق بن بشر وإسحاق بن منصور السلولي وعبد الرحمن بن محمد المحاربي. قال أحمد العجلي: ثقة ثبت، متعبد، وكان صاحب سنة، وكان يقال: إنه لم يكن بالكوفة أحد أفضل منه، يعني في الدين. وقال محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة: أخبرني أبي عن عبد الله ابن المبارك عن عمار بن سيف، وأثنى عليه خيرا. قال ابن حجر: مات بعد الستين ومائة. موقفه من الرافضة: روى اللالكائي بسنده إلى عمير أبي الحباب عن عمار بن سيف الضبي قال: خرجنا في غزاة في البحر وعلينا موسى بن كعب فكان معنا في المركب رجل يكنى أبا حمان، فأقبل يشتم أبا بكر وعمر فنهيناه فلم ينته، وزجرناه فلم ينزجر، فأتينا على جزيرة في البحر، فأرفينا إليها ثم خرجنا وتفرقنا نريد الوضوء لصلاة الظهر فأخبرنا أن الدبر يعني الزنابير وقعت على أبي حمان فأتت على نفسه، قال: فدفعت إليه وهو ميت. (¬2) ¬

(¬1) تهذيب الكمال (21/ 194) وميزان الاعتدال (3/ 165) تاريخ الإسلام (حوادث 161 - 170/ص.370) وتهذيب التهذيب (7/ 402 - 403) والتقريب (1/ 707). (¬2) أصول الاعتقاد (7/ 1329 - 1330/ 2365).

سفيان الثوري (161 هـ)

سفيان الثوري (¬1) (161 هـ) سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، شيخ الإسلام إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه، أبو عبد الله الكوفي المجتهد، مصنف كتاب الجامع. لقب بالثوري لأن نسبه ينتهي إلى ثور بن عبد مناة بن أد بن طابخة، طلب العلم وهو حدث باعتناء والده المحدث سعيد بن مسروق الثوري. حدث عن أبيه والأعمش وحبيب بن أبي ثابت وعبد الله بن دينار وأبي الزناد وعدة. وعنه عبد الرحمن بن مهدي وسفيان بن عيينة ومحمد بن يوسف الفريابي ومسعر بن كدام وخلق كثير. قال فيه وكيع: كان سفيان بحرا، وقال المروذي عن أحمد بن حنبل قال: أتدري من الإمام؟ الإمام سفيان الثوري، لا يتقدمه أحد في قلبي، وقال شعبة: ساد سفيان الناس بالورع والعلم. من أقواله: ليس الزهد بأكل الغليظ ولُبس الخشن، ولكنه قصر الأمل وارتقاب الموت، ومنها: المال داء هذه الأمة والعالم طبيب هذه الأمة، فإذا جر العالم الداء إلى نفسه، فمتى يبرئ الناس؟ ومنها: زينوا العلم والحديث بأنفسكم ولا تتزينوا به. توفي سنة إحدى وستين ومائة. ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (6/ 371 - 374) وحلية الأولياء (6/ 356 - 393) ومشاهير علماء الأمصار (169 - 170) والسير (7/ 229 - 279) والجرح والتعديل (1/ 55 - 62و4/ 222 - 225) وتاريخ بغداد (9/ 151 - 174) ووفيات الأعيان (2/ 386 - 391) وتهذيب الكمال (11/ 154 - 169) وتذكرة الحفاظ (1/ 203 - 207) وشذرات الذهب (1/ 250 - 251).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: - جاء في تلبيس إبليس عنه قال: من سمع من مبتدع لم ينفعه الله بما سمع، ومن صافحه فقد نقض الإسلام عروة عروة. (¬1) " التعليق: هذا رد على بعض الناس الذين يدعون إلى التعلم من المبتدعة ويقولون: ما علينا من بدعهم، نأخذ علمهم ونترك بدعتهم. والذي ينبغي أن يقال: إن العلوم الشرعية مهما كان نوعها لا ينبغي أن تؤخذ عن مبتدع، أما العلوم الدنيوية فلا بأس ما لم يستغلها المبتدع في نشر بدعته فيجب الحذر منه على كل حال، هذا إن لم يكن غيره من طلبة العلم السلفيين -كثرهم الله- ولا يخلو منهم زمان ولا مكان إن شاء الله. أما إن كان من السلفيين من هو متمكن في أي علم من العلوم فلا ينبغي العدول عنه إلى غيره. - عن سفيان الثوري: من جالس صاحب بدعة، لم يسلم من إحدى ثلاث: إما أن يكون فتنة لغيره، وإما أن يقع بقلبه شيء يزل به فيدخله النار، وإما أن يقول: والله لا أبالي ما تكلموا به، وإني واثق بنفسي، فمن أمن الله طرفة عين على دينه، سلبه إياه. (¬2) - جاء في الإبانة عنه قال: من أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة خرج ¬

(¬1) التلبيس (ص.23). (¬2) البدع لابن وضاح (ص.104) وانظر الاعتصام (1/ 172).

من عصمة الله ووكل إلى نفسه. (¬1) " التعليق: نسأل الله المعافاة في الدين والدنيا. اللهم لا تسلط علينا من يخرجنا من عصمتك ويكلنا إلى أنفسنا. رحمك الله يا أمير المؤمنين في الحديث وأنت من أنت علما وتقوى، فبمثلك يقتدى وعلى نهجك يحتذى. ومن كلامك ينبغي أن تكون الحكمة وهذه منها وقد وضعت للمسلمين سدا أمام المبتدعة لو كانوا يعقلون، ولَكنِ المسلمون عامة وشبابهم وقراؤهم خاصة لا يقرأون مثل هذه الحكم والنصوص الصادرة عن تجربة وعن علم بالله وبرسوله وبسلف هذه الأمة ولكنهم يشغلون أوقاتهم بما لا فائدة فيه، فكيف يستفيدون من مثل هذا؟ والله المستعان. - وجاء في أصول الاعتقاد عنه قال: استوصوا بأهل السنة خيرا فإنهم غرباء. (¬2) - جاء في صيانة الإنسان عنه قال: المراد بالسواد الأعظم هم من كان من أهل السنة والجماعة ولو واحدا. (¬3) - عن يوسف بن أسباط قال: سمعت سفيان الثوري يقول: إذا بلغك عن رجل بالمشرق صاحب سنة وآخر بالمغرب فابعث إليهما بالسلام وادع ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/461/ 444)، انظر طبقات الحنابلة (2/ 42) والسير (7/ 261). (¬2) أصول الاعتقاد (1/ 71/49) والتلبيس (18) وصيانة الإنسان (ص.316). (¬3) صيانة الإنسان (ص.308).

لهما، ما أقل أهل السنة والجماعة. (¬1) - عن سفيان قال: اسلكوا سبيل الحق، ولا تستوحشوا من قلة أهله. (¬2) - وجاء في ذم الكلام عنه قال: لو لم يأتوني لأتيتهم في بيوتهم -يعني أصحاب الحديث. (¬3) " التعليق: لأن مجالستهم رحمة، ومدارستهم نور، وصحبتهم ضياء، إذ إنهم ورثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحملة الخير والعقيدة السلفية الصحيحة، والذابون عن شريعته، والنافون عن طريقته كل تحريف وكذب وبدعة، فكثر الله سوادهم. - وجاء في الإبانة عنه قال: ما من ضلالة إلا ولها زينة، فلا تعرض دينك إلى من يبغضه إليك. (¬4) - وجاء في شرف أصحاب الحديث عنه قال: إنما الدين بالآثار ليس بالرأي، إنما الدين بالآثار ليس بالرأي، إنما الدين بالآثار ليس بالرأي. (¬5) - جاء في الإبانة عن فضيل: كان سفيان إذا رأى إنسانا يجادل ويماري يقول أبو حنيفة ورب الكعبة. (¬6) - وجاء في ذم الكلام بالسند إلى أحمد بن يونس قال: قال رجل ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (1/ 71 - 72/ 50) الحلية (7/ 34) والتلبيس (ص.17). (¬2) الاعتصام (1/ 46). (¬3) ذم الكلام (ص.215) وشرف أصحاب الحديث (ص.234) وجامع بيان العلم وفضله (1/ 475). (¬4) الإبانة (2/ 3/461 - 462/ 447). (¬5) شرف أصحاب الحديث (ص.6) جامع بيان العلم وفضله بنحوه (1/ 782). (¬6) الإبانة (2/ 3/511/ 593).

لسفيان: أوصني وأنا أسمع قال: إياك والأهواء، إياك والخصومات، إياك والسلطان. (¬1) - وجاء في تلبيس إبليس عنه قال: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها. (¬2) - وجاء في ذم الكلام عنه قال: ينبغي للرجل ألا يحك رأسه إلا بأثر. (¬3) - وجاء في السير عنه: من سمع ببدعة فلا يحكها لجلسائه، لا يلقها في قلوبهم. (¬4) " التعليق: قال الإمام الذهبي عقبه: أكثر أئمة السلف على هذا التحذير، يرون أن القلوب ضعيفة، والشبه خطافة. - وفيها: قال زكريا الساجي، عن أحمد بن محمد البغدادي: قال المزي شيخنا -أظنه أبا بكر الأثرم-: سمعت أبا نعيم يقول: دخل الثوري يوم الجمعة من الباب القبلي، فإذا الحسن بن صالح يصلي، فقال: نعوذ بالله من خشوع النفاق، وأخذ نعليه، فتحول إلى سارية أخرى. - وقال العلاء بن عمرو الحنفي، عن زافر بن سليمان: أردت الحج، فقال لي الحسن بن صالح: إن لقيت أبا عبد الله سفيان الثوري بمكة، فأقره مني ¬

(¬1) ذم الكلام (ص.214) وأصول الاعتقاد (1/ 154/254) والحلية (7/ 28). (¬2) التلبيس (ص.22 - 23) وذم الكلام (ص.217) وأصول الاعتقاد (1/ 149/238) وشرح السنة للبغوي (1/ 216) وانظر مجموع الفتاوى (10/ 9). (¬3) ذم الكلام (ص.98). (¬4) السير (7/ 261) وشرح السنة للبغوي (1/ 227) والحلية (7/ 34).

السلام، وقل: أنا على الأمر الأول. فلقيت سفيان في الطواف، فقلت: إن أخاك الحسن بن صالح يقرأ عليك السلام، ويقول: أنا على الأمر الأول. قال: فما بال الجمعة؟. قال الذهبي: كان يترك الجمعة، ولا يراها خلف أئمة الجور، بزعمه. (¬1) - جاء في التلبيس عن أبي همام السكوني قال: حدثني أبي قال سمعت سفيان يقول: لا يقبل قول إلا بعمل ولا يستقيم قول وعمل إلا بنية، ولا يستقيم قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة. (¬2) - قال سفيان: وجدت الأمر الاتباع. (¬3) - عن مؤمل بن إسماعيل قال: سمعت سفيان يقول: المسلمون كلهم عندنا على حالة حسنة إلا رجلين: صاحب بدعة أو صاحب سلطان. (¬4) - قال سفيان: ليس شيء أبلغ في فساد رجل وصلاحه من صاحب. (¬5) - عن شعبة قال: كان سفيان الثوري يبغض أهل الأهواء وينهى عن مجالستهم أشد النهي وكان يقول: عليكم بالأثر وإياكم والكلام في ذات الله. (¬6) - وجاء في الإبانة عن الفريابي قال: كان سفيان الثوري ينهاني عن ¬

(¬1) السير (7/ 363). (¬2) التلبيس (ص.17) وهو في ميزان الاعتدال (1/ 90) عن ابن مسعود مرفوعا وقال الذهبي عقبه: "وهذا إنما هو من قول الثوري"، وقد أخرجه أبو نعيم في الحلية (7/ 32). (¬3) أصول الاعتقاد (1/ 98/113) وذم الكلام (ص.126). (¬4) أصول الاعتقاد (1/ 154/255). (¬5) الإبانة (2/ 3/478/ 504). (¬6) ذم الكلام (ص.221).

موقفه من الرافضة:

مجالسة فلان يعني رجلا من أهل البدع. (¬1) - وفيها عن عثمان بن زائدة قال: أوصاني سفيان قال: لا تخالط صاحب بدعة. (¬2) - وكان يجلس إلى سفيان الثوري فتى كثير التفكر، طويل الإطراق، فأراد سفيان أن يحركه؛ ليسمع كلامه، فقال: يا فتى إن من كان قبلنا مروا على خيل عتاق، وبقينا على حمر دبرة. فقال: يا أبا عبد الله إن كنا على الطريق؛ فما أسرع لحوقنا بهم. (¬3) قال ابن وضاح: وسمعتهم يذكرون أن سفيان الثوري دخل مسجد بيت المقدس فصلى فيه ولم يتبع تلك الآثار ولا الصلاة فيها. (¬4) موقفه من الرافضة: - جاء في السير: قال أبو بكر بن عياش: كان سفيان ينكر على من يقول: العبادات ليست من الإيمان، وعلى من يقدم على أبي بكر وعمر أحدا من الصحابة. (¬5) - وفيها عنه أنه قال: إن قوما يقولون: لا نقول لأبي بكر وعمر إلا خيرا، ولكن علي أولى بالخلافة منهما. فمن قال ذلك، فقد خطأ أبا بكر وعمر وعليا، والمهاجرين والأنصار، ولا أدري ترتفع مع هذا أعمالهم إلى ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/463/ 454). (¬2) الإبانة (2/ 3/463/ 453). (¬3) الحوادث والبدع (ص.150) وهو في ذم الكلام (ص.216). (¬4) ما جاء في البدع (92). (¬5) السير (7/ 252).

السماء؟. (¬1) - وفيها: قال عطاء بن مسلم: قال لي الثوري: إذا كنت بالشام، فاذكر مناقب علي، وإذا كنت بالكوفة، فاذكر مناقب أبي بكر وعمر. (¬2) - وفيها عنه أنه قال: تركتني الروافض، وأنا أبغض أن أذكر فضائل علي. (¬3) - وفيها عنه: امسح عليهما ما تعلقتا بالقدم، وإن تخرقا. قال: وكذلك كانت خفاف المهاجرين والأنصار مخرقة مشققة. (¬4) - وفيها عن الفريابي سمعت سفيان ورجل يسأله عن من يشتم أبا بكر؟ فقال: كافر بالله العظيم. قال: نصلي عليه؟ قال: لا، ولا كرامة. قال: فزاحمه الناس حتى حالوا بيني وبينه، فقلت للذي قريبا منه: ما قال؟ قلنا: هو يقول: لا إله إلا الله، ما نصنع به؟ قال: لا تمسوه بأيديكم، ارفعوه بالخشب حتى تواروه في قبره. (¬5) - وقال سفيان الثوري رحمه الله: لا يجتمع حب عثمان وعلي رضي الله عنهما إلا في قلوب نبلاء الرجال. (¬6) - جاء في أصول الاعتقاد عن شعيب بن حرب قال: قلت يا أبا عبد الله ¬

(¬1) السير (7/ 253) وانظر سنن أبي داود (4630) وشرح السنة للبغوي (1/ 229). (¬2) السير (7/ 260). (¬3) السير (7/ 253). (¬4) السير (7/ 254). (¬5) السير (7/ 253). (¬6) الشريعة (3/ 413) والحلية (7/ 32) والتذكرة (3/ 840) والسير (7/ 273).

موقفه من الصوفية:

-يعني لسفيان الثوري- ما موافقة السنة؟ قال: تقدمة الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، يا شعيب بن حرب لا ينفعك ما كتبت حتى تقدم عثمانا وعليا على من بعدهما. (¬1) - وفيه عن إبراهيم بن المغيرة -وكان شيخا حجاجا- قال: سألت الثوري: يصلى خلف من يسب أبا بكر وعمر؟ قال: لا. (¬2) - وجاء في السنة للخلال: عن عبد العزيز بن أبان القرشي قال: سمعت سفيان الثوري يقول: من قدم على أبي بكر وعمر أحدا فقد أزرى على اثني عشر ألفا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض. (¬3) - وفيها عن يوسف بن أسباط قال: قال رجل لسفيان الثوري: بلغنا أنك تبغض عثمان؟ ففزع فقال: لا والله ولا معاوية رحمهما الله. (¬4) - وقال حفص بن غياث: قلت لسفيان: يا أبا عبد الله، إن الناس قد أكثروا في المهدي، فما تقول فيه؟ قال: إن مر على بابك، فلا تكن فيه في شيء حتى يجتمع الناس عليه. (¬5) موقفه من الصوفية: - جاء في السير: عن سفيان قال: ليس الزهد بأكل الغليظ، ولُبس ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (8/ 1452 - 1453/ 2623). (¬2) أصول الاعتقاد (8/ 1545/2813). (¬3) السنة للخلال (1/ 375) والسير (7/ 254) وأصول الاعتقاد (7/ 1366/2441). (¬4) السنة للخلال (1/ 446). (¬5) السير (7/ 253).

موقفه من الجهمية:

الخشن، ولكنه قصر الأمل، وارتقاب الموت. (¬1) - وفيها: قال سفيان: الزهد زهدان: زهد فريضة، وزهد نافلة. فالفرض: أن تدع الفخر والكبر والعلو، والرياء والسمعة، والتزين للناس، وأما زهد النافلة: فأن تدع ما أعطاك الله من الحلال، فإذا تركت شيئا من ذلك، صار فريضة عليك ألا تتركه إلا لله. (¬2) - وقال سفيان الثوري لرجل عليه صوف: لباسك هذا بدعة. (¬3) موقفه من الجهمية: - جاء في الإبانة عن ابن المبارك، سمع سفيان يقول: من زعم أن {قُلْ {هُوَ اللَّهُ أحد} (¬4) مخلوق، فقد كفر بالله. (¬5) - وفيها عن سفيان بن وكيع قال سمعت أبي يقول: سمعت سفيان الثوري يقول: الإيمان قول وعمل، والقرآن كلام الله غير مخلوق. (¬6) - جاء في مجموع الفتاوى: قال سفيان الثوري: من قال القرآن مخلوق فهو كافر. (¬7) - جاء في أصول الاعتقاد عنه قال: من قال القرآن مخلوق فهو ¬

(¬1) السير (7/ 243). (¬2) السير (7/ 244). (¬3) التلبيس (ص.243). (¬4) الإخلاص الآية (1). (¬5) الإبانة (2/ 12/62 - 63/ 271) والسير (7/ 273). (¬6) الإبانة (2/ 12/14 - 15/ 197). (¬7) الفتاوى (12/ 508).

موقفه من الخوارج:

زنديق. (¬1) - وفيه عن معدان قال: سألت سفيان الثوري عن قوله: وَهُوَ {مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (¬2) قال: علمه. (¬3) - وفيه عن الوليد بن مسلم قال: سألت الأوزاعي وسفيان الثوري ومالك بن أنس عن هذه الأحاديث التي فيها ذكر الرؤية؟ فقالوا أمروها كما جاءت بلا كيف. (¬4) - وجاء في ذم الكلام بالسند إلى عبد الله بن داود الخريبي: سألت سفيان الثوري عن الكلام فقال: دع الباطل، أين أنت عن الحق، اتبع السنة ودع الباطل. (¬5) موقفه من الخوارج: - عن أبي أسامة قال رجل لسفيان: أتشهد على الحجاج وأبي مسلم أنهما في النار؟ قال: لا إذا أقرا بالتوحيد. (¬6) - وعن طاوس قال: قال ابن عباس: ليس بالكفر الذي تذهبون إليه، قال سفيان: أي ليس كفرا ينقل عن الملة: {وَمَنْ لَمْ يحكم بما أنزل اللَّهُ ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 277/415) والسنة لعبد الله (11). (¬2) الحديد الآية (4). (¬3) أصول الاعتقاد (3/ 445/672) والشريعة (2/ 68/697) والسنة لعبد الله (81) والسير (7/ 274). (¬4) أصول الاعتقاد (3/ 582/930) ومقدمة شرح السنة للبغوي (1/ 171) والفتاوى (5/ 39) والشريعة (2/ 104 - 105/ 765) والسير (7/ 274). (¬5) ذم الكلام (214) وشرح السنة (1/ 217). (¬6) أصول الاعتقاد (6/ 1150/2021).

موقفه من المرجئة:

فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (¬1). (¬2) موقفه من المرجئة: - عن عبد الرزاق سمعت معمرا وسفيان وابن جريج ومالكا وابن عيينة كلهم يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. (¬3) - وجاء في السنة قال عبد الله حدثني أبي حدثنا عبد الله بن نمير سمعت سفيان وذكر المرجئة فقال: رأي محدث أدركنا الناس على غيره. (¬4) - وجاء في الإبانة عنه قال: كان الفقهاء يقولون: لا يستقيم قول إلا بعمل ولا يستقيم قول وعمل إلا بنية ولا يستقيم قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة. (¬5) - وجاء في السير بالسند إليه قال: خلاف ما بيننا وبين المرجئة ثلاث: يقولون: الإيمان قول ولا عمل ونقول: قول وعمل، ونقول: إنه يزيد وينقص، وهم يقولون: لا يزيد ولا ينقص، ونحن نقول: النفاق وهم يقولون: لا نفاق. (¬6) - وعن محمد بن يوسف قال: دخلت على سفيان الثوري وفي حجره ¬

(¬1) المائدة الآية (44). (¬2) الإبانة (2/ 6/736/ 1010). (¬3) الإبانة (2/ 6/813/ 1114) وأصول الاعتقاد (5/ 1028 - 1029/ 1735) وبنحوه في السنة لعبد الله (97). (¬4) السنة لعبد الله (83) والإبانة (2/ 903/1265) وأصول الاعتقاد (5/ 1075 - 1076/ 1847) والشريعة (1/ 309/336) والسنة للخلال (3/ 563/952). (¬5) الإبانة (2/ 807/1098). (¬6) السير (11/ 162) وتذكرة الحفاظ (2/ 473 - 474) وشرح السنة (1/ 41).

المصحف وهو يقلب الورق فقال: ما أحد أبعد منه من المرجئة. (¬1) - عن عبد الصمد بن حسان قال: قال سفيان الثوري: أهل السنة يقولون: الإيمان قول وعمل مخافة أن يزكوا أنفسهم، لا يجوز عمل إلا بإيمان ولا إيمان إلا بعمل، فإن قال: من إمامك في هذا؟ فقل سفيان الثوري. (¬2) - وفيه عن إبراهيم بن المغيرة وكان شيخا حجاجيا. قال: سألت سفيان الثوري أصلي خلف من يقول: الإيمان قول بلا عمل؟ قال: لا ولا كرامة. (¬3) - وفي السير عن مؤمل بن إسماعيل قال: مات عبد العزيز فجيء بجنازته، فوضعت عند باب الصفا، وجاء سفيان الثوري، فقال الناس: جاء سفيان، جاء سفيان. فجاء حتى خرق الصفوف، وجاوز الجنازة، ولم يصل عليها، لأنه كان يرى الإرجاء. فقيل لسفيان، فقال: والله إني لأرى الصلاة على من هو دونه عندي، ولكن أردت أن أري الناس أنه مات على بدعة. (¬4) - وجاء في السير: عن محمد بن عمار الرازي قال: سمعت أبا نعيم، سمعت الثوري يقول: الإيمان يزيد وينقص. قلت: ما تقول أنت يا أبا نعيم؟ فزورني وقال: أقول بقول سفيان. ولقد مات مسعر وكان من خيارهم، وسفيان وشريك شاهدان، فما حضرا جنازته. (¬5) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (5/ 1067/1829). (¬2) أصول الاعتقاد (5/ 1052/1792). (¬3) أصول الاعتقاد (5/ 1066/1825). (¬4) السير (7/ 186). (¬5) السير (7/ 173).

- وعن أبي نعيم قال: مرت بنا جنازة مسعر بن كدام منذ خمسين سنة ليس فيها سفيان ولا شريك. (¬1) تنبيه: تقدم معنا موقف مسعر بن كدام من المرجئة وأنه يقول الإيمان قول وعمل، ولم يكن مرجئيا، وإنما ترك الاستثناء، فمن أجل ذلك وقف منه سفيان وشريك هذا الموقف فلم يحضرا جنازته. وحمل أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه الإيمان (¬2) ترك مسعر للاستثناء على الدخول في الإيمان لا على الاستكمال. - وقال فضيل سمعت سفيان الثوري يقول: من صلى إلى هذه القبلة فهو عندنا مؤمن والناس عندنا مؤمنون بالإقرار والمواريث والمناكحة والحدود والذبائح والنسك، ولهم ذنوب وخطايا الله حسبهم، إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم لا ندري ما لهم عند الله. (¬3) - وعن عبد الصمد بن حسان قال: قال سفيان الثوري: اتقوا هذه الأهواء المضلة، قيل له: بين لنا رحمك الله، قال سفيان: أما المرجئة فيقولون: الإيمان كلام بلا عمل، من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فهو مؤمن مستكمل إيمانه على إيمان جبريل والملائكة، وإن قتل كذا وكذا مؤمنا وإن ترك الغسل من الجنابة وإن ترك الصلاة، وهم يرون السيف على أهل القبلة. (¬4) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (5/ 1066 - 1067/ 1826). (¬2) (ص.69 - 70). (¬3) السنة لعبد الله (114) والسنة للخلال (3/ 567/959) مختصرا. (¬4) الشريعة (3/ 583 - 584/ 2116) واللالكائي (5/ 1071/1834).

موقفه من القدرية:

موقفه من القدرية: - جاء في أصول الاعتقاد: عن حكام بن سلم قال: سألت سفيان الثوري -يعني عن هذا الحديث: "صنفان ليس لهما في الإسلام نصيب" (¬1) - قال: هم الذين يقولون الإيمان قول، وقوم يزعمون أن لا قدر. (¬2) - وفيه: عن سفيان الثوري قال سمعت أعرابيا وهو مستلقىً بعرفة وهو يقول: اللهم من أولى بالزلل والتقصير مني وقد خلقتني ضعيفا؟ ومن أولى بالعفو عني منك؟ علمك فيّ سابق، وأمرك بيّ محيط، أطعتك بإذنك والمنة لك، وعصيتك بعلمك والحجة لك، فأسألك بوجوب رحمتك وانقطاع حجتي وبفقري إليك وغناك عني، أن تغفر لي وترحمني. اللهم لم أحسن حتى أعطيتني ولم أسئ حتى قضيت علي. اللهم إنا أطعناك وبنعمتك في أحب الأشياء إليك: شهادة أن لا إله إلا الله، ولم نعصك بنعمتك في أبغض الأشياء إليك: الشرك، فاغفر ما بينهما. اللهم إنك أنس المؤمنين لأوليائك وأقربهم بالكفاية من المتوكلين عليك، تشاهدهم في ضمائرهم وتطلع على سرائرهم، وسري لك اللهم مكشوف، وأنا لك ملهوف، إذا أوحشتني الغربة آنسني ذكرك، وإذا أغمت علي الهموم لجأت إليك استجارة بك، علما بأن أزمة الأمور بيدك وأن مصدرها عن قضائك. (¬3) - وفيه: عن شعيب بن حرب قال: قلت لسفيان الثوري: تسبب لي ¬

(¬1) الترمذي (4/ 395/2149) وقال: "وهذا حديث غريب حسن صحيح". وابن ماجه (1/ 24/62) من حديث ابن عباس. وضعفه ابن القطان في الوهم والإيهام (3/ 611 - 612). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 715/1171). (¬3) أصول الاعتقاد (4/ 723 - 724/ 1188).

قدري أزوجه؟ قال: لا ولا كرامة. (¬1) - وفي الإبانة عن عثمان بن شبيب قال: حدثني أبي؛ قال: كنا عند سفيان الثوري؛ فجاءه رجل، فقال: ما تقول في رجل قال: الخير بقدر والشر ليس بقدر؟ فقال له سفيان: هذه مقالة المجوس. (¬2) - وفيها عن عبد الرحمن بن مهدي قال: سمعت سفيان قال له رجل: يا أبا عبد الله: أجبر الله العباد على المعاصي؟ قال: ما أجبر. قد علمت أن ما عمل العباد لم يكن لهم بد من أن يعملوا. (¬3) - وفيها: عن عبد الله بن نمير قال: كتب أبو داود الديلي إلى سفيان الثوري: أما بعد؛ فما تقول في رب قدر علي هداي وعصمتي وإرشادي فخذلني وأضلني، وحرمني الصواب وأوجب علي العقاب، وأنزلني دار العذاب؛ أعدل علي هذا الرب أم جار؟ قال: فكتب إليه سفيان: أما بعد؛ فإن كنت تزعم أن العصمة والتوفيق والإرشاد وجب لك على الله فمنعك ذلك؛ فقد ظلمك ومحال أن يظلم الله عز وجل أحدا، وإن كنت تزعم أن ذلك من فضل الله؛ فإن فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم. (¬4) - وفيها عن يحيى بن سعيد القطان: لما قدم سفيان الثوري البصرة: جعل ينظر إلى أمر الربيع -يعني ابن صبيح- وقدره عند الناس، سأل أي شيء مذهبه؟ قالوا: ما مذهبه إلا السنة، قال: من بطانته؟ قالوا: أهل القدر، ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 811 - 812/ 1365) والإبانة (2/ 10/260/ 1875). (¬2) الإبانة (2/ 10/257/ 1863). (¬3) الإبانة (2/ 10/257/ 1864). (¬4) الإبانة (2/ 11/279/ 1912).

الإفريقي (161 هـ)

قال: هو قدري. " التعليق: قال ابن بطة: رحمة الله على سفيان الثوري، لقد نطق بالحكمة فصدق، وقال بعلم فوافق الكتاب والسنة وما توجبه الحكمة ويدركه العيان، ويعرفه أهل البصيرة والبيان، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} (¬1). (¬2) الإفريقي (¬3) (161 هـ) عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي أبو أيوب، القدوة الإمام، قاضي إفريقية وعالمها ومحدثها على سوء في حفظه. أول مولود ولد في الإسلام بعد فتح أفريقية بإفريقية. روى عن أبيه وبكر بن سوادة وأبي عبد الرحمن الحبلي وعبد الرحمن بن رافع التنوخي صاحب لعبد الله بن عمرو وأبي عثمان المصري صاحب لأبي هريرة وعدة من التابعين. وروى عنه ابن وهب وجعفر ابن عون ويعلى بن عبيد وأبو عبد الرحمن المقرئ وخلق كثير. وفد على المنصور بالكوفة فوعظه وصدعه بالحق. كان الثوري يعظمه جدا. توفي سنة إحدى وستين بعد المائة للهجرة. ¬

(¬1) آل عمران الآية (118). (¬2) الإبانة (2/ 3/452 - 453/ 421). (¬3) تهذيب الكمال (17/ 102 - 110) والسير (6/ 411 - 412) وميزان الاعتدال (2/ 561 - 564) والكامل في التاريخ (5/ 311 وما بعدها).

موقفه من المشركين:

موقفه من المشركين: قيل: أسرته الروم، فقدم ليقتل بعد قتل طائفة، قال: فحركت شفتي وقلت: الله الله ربي، لا أشرك به شيئا ولا أتخذ من دونه وليا. فأبصر الطاغية فعلي فقال: قدموا شماس العرب. لعلك قلت: الله الله ربي لا أشرك به شيئا؟ قلت: نعم. قال: ومن أين علمته؟ قلت: نبينا أمرنا به. فقال لي: وعيسى أمرنا به في الإنجيل. فأطلقني ومن معي. (¬1) إبراهيم بن أدهم (¬2) (162 هـ) إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد بن جابر، القدوة الإمام، سيد الزهاد، أبو إسحاق العجلي نزيل الشام، ولد في حدود المائة. حدث عن أبيه ومحمد بن زياد الجمعي وأبي إسحاق السبيعي ومالك بن دينار وسليمان الأعمش ومقاتل بن حيان وغيرهم. وروى عنه رفيقه سفيان الثوري وشقيق البلخي وضمرة بن ربيعة وخلف بن تميم وعتبة بن السكن وغيرهم. حج أبوه بأمه فولدت له إبراهيم بمكة. كان إبراهيم من الأشراف وكان أبوه كثير المال والخدم، فترك ذلك وأقبل على إصلاح دينه فكان رجلا فاضلا، كان يرتجز: اتَّخِذِ اللهَ صاحبا ... ودعِ الناسَ جانبا ¬

(¬1) السير (6/ 412). (¬2) تهذيب الكمال (2/ 27 - 39) والسير (7/ 387 - 396) والمنتظم (8/ 240 - 242) والوافي بالوفيات (5/ 318 - 319) والبداية والنهاية (10/ 138 - 149) وشذرات الذهب (1/ 255 - 256).

موقفه من المبتدعة:

توفي سنة اثنتين وستين بعد المائة للهجرة. موقفه من المبتدعة: - وقيل لإبراهيم بن أدهم: إن الله يقول في كتابه: {ادعوني أستجب لَكُمْ} (¬1)، ونحن ندعوه منذ دهر فلا يستجيب لنا، فقال: ماتت قلوبكم في عشرة أشياء: أولها: عرفتم الله ولم تؤدوا حقه، والثاني: قرأتم كتاب الله ولم تعملوا به، والثالث: ادعيتم حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتركتم سنته، والرابع: ادعيتم عداوة الشيطان ووافقتموه، والخامس: قلتم: نحب الجنة وما تعملون لها .. إلى آخر الحكاية. (¬2) - عن سالم الخواص قال: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: أصحاب الحديث بهم يدفع البلوى عن الناس أو قال الآفات. (¬3) - عن أبي محمد إسماعيل بن عبد الجبار العسقلاني قال: سمعت إبراهيم ابن أدهم يقول: من صافح صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام. (¬4) - عن إبراهيم بن أدهم قال: يأتي على الناس زمان يكون أعز الأشياء ثلاثة، أخ يستأنس إليه، أو درهم من حلال، أو سنة يعمل بها. (¬5) ¬

(¬1) غافر الآية (60). (¬2) الحلية لأبي نعيم (8/ 15 - 16) وانظر الاعتصام (1/ 121). (¬3) ذم الكلام (ص.204) وبنحوه عند الخطيب في الشرف (ص.121). (¬4) ذم الكلام (ص.220). (¬5) ذم الكلام (ص.224).

أرطأة بن المنذر الألهاني (163 هـ)

أرطأة بن المنذر الألهاني (¬1) (163 هـ) أَرْطَأَة بن المُنْذِر بن الأسود بن ثابت الأَلْهَانِي السَّكُوني، أبو عَدي الشّامي الحِمْصي، أدرك ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبا أمامة الباهلي وعبد الله بن بسر المازني. روى عن أبي عامر عبد الله بن عامر الألهاني ومجاهد وسعيد بن المسيب وعطاء وغيرهم. وروى عنه عبد الله بن المبارك، وشريح بن يزيد، وإسماعيل ابن عياش وغيرهم. قال ابن حبان: ثقة، حافظ، فقيه. وقال أبو اليمان: كنت أشبه أحمد ابن حنبل بأرطأة بن المنذر أبي عدي. قال محمد بن كثير: ما رأيت أحدا أعبد ولا أزهد ولا الخوف عليه أبين منه على أرطأة بن المنذر. قال يعقوب بن سفيان: مات سنة ثلاث وستين ومائة. موقفه من القدرية: جاء في الإبانة: عن بقية بن الوليد قال: سألت أرطأة بن المنذر قال: قلت: أرأيت من كذب بالقدر؟ قال: هذا لم يؤمن بالقرآن، قلت: أرأيت من فسره على الجذام والبرص والطويل والقصير وأشباه هذا؟ قال: هذا لم يؤمن بالقرآن، قلت: فشهادته؟ قال: إذا استيقن أنه كذلك؛ لم تجز شهادته لأنه عدو، ولا تجوز شهادة عدو. (¬2) ¬

(¬1) تاريخ دمشق (8/ 8 - 16) وتهذيب الكمال (2/ 311 - 314) وتهذيب التهذيب (1/ 198) والوافي بالوفيات (8/ 347) والعبر (1/ 124). (¬2) الإبانة (2/ 10/229/ 1825) والشريعة (1/ 435/545).

عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون (164 هـ)

عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة المَاجِشُون (¬1) (164 هـ) عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الإمام المفتي الكبير أبو عبد الله ويقال أبو الأصبغ التيمي مولاهم المدني الفقيه، والد المفتي عبد الملك بن المَاجِشُون صاحب مالك. روى عن عبد الله بن دينار وعبيد الله بن عمر ومحمد بن المنكدر والزهري وطائفة. روى عنه ابنه عبد الملك وحجاج بن المنهال وحجين بن المثنى وموسى بن إسماعيل ووكيع بن الجراح وخلق سواهم. قال عنه الذهبي: لم يكن بالمكثر من الحديث، لكنه فقيه النفس فصيح كبير الشأن توفي سنة أربع وستين ومائة. موقفه من المبتدعة: - روى ابن بطة في الإبانة بالسند إلى أبي صالح كاتب الليث قال: أملى علي عبد العزيز بن الماجشون قال: احذروا الجدل فإنه يقربكم إلى كل موبقة ولا يسلمكم إلى ثقة، ليس له أجل ينتهي إليه وهو يدخل في كل شيء فاتخذوا الكف عنه طريقا فإنه القصد والهدى، وأن الجدل والتعمق هو جور السبيل وصراط الخطأ، فلا تحسبن التعمق في الدين رسخا، فإن الراسخين في العلم هم الذين وقفوا حيث تناهى علمهم، واحذرهم أن يجادلوك بتأويل القرآن واختلاف الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتجادلهم فتزل كما زلوا وتضل كما ضلوا، فقد كفتك السيرة -يعني سيرة السلف- مؤونتها وأقامت ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (7/ 323) والجرح والتعديل (5/ 386) ومشاهير علماء الأمصار (140 - 141) وتهذيب الكمال (18/ 152 - 158) والسير (7/ 309 - 312) وتاريخ بغداد (10/ 436 - 439) وتذكرة الحفاظ (1/ 222 - 223) وشذرات الذهب (1/ 259).

لك منها ما لم تكن لتعدله برأيك ولا تتكلفن صفة الدين لمن يطعن في الدين ولا تمكنهم من نفسك إنما يريدون أن يفتنوك أو يأتون بشبهة فيضلوك، ولا تقعد معهم قال الله عز وجل: {فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (¬1) ولعمري إن صفة الدين لبينة وإن سبله لواضحة وإن مأخذه لقريب لمن أراد الله هداه، ولم تكن الخصومة والجدل هواه، ولولا أن تأخذ الأمر من غير مأخذه أو تتبع فيه غير سبيل ... (¬2) عوراتهم لمكشوفة وان حجتهم لداحضة ... (¬3) دانوا الله بغير دين واحد بأديان شتى يمسون على دين ويصبحون به كافرين. (¬4) - قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وما أحسن ما جاء عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة أنه قال: عليك بلزوم السنة فإنها لك بإذن الله عصمة، فإن السنة إنما جعلت ليستن بها ويقتصر عليها، وإنما سنها من قد علم ما في خلافها من الزلل والخطإ والحمق والتعمق، فارض لنفسك بما رضوا به لأنفسهم، فإنهم عن علم وقفوا وببصر نافذ كفوا، ولهم كانوا على كشفها أقوى وبتفصيلها لو كان فيها أحرى، وإنهم لهم السابقون وقد بلغهم عن نبيهم ما يجري من الاختلاف بعد القرون الثلاثة، فلئن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم حدثٌ حدثَ بعدهم فما أحدثه إلا من ¬

(¬1) الأنعام الآية (68). (¬2) بياض بالأصل. (¬3) بياض بالأصل. (¬4) الإبانة (2/ 3/533 - 534/ 659).

موقفه من الجهمية:

اتبع غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم، واختار ما نحته فكره على ما تلقوه عن نبيهم وتلقاه عنهم من تبعهم بإحسان، ولقد وصفوا منه ما يكفي، وتكلموا منه بما يشفى، فمن دونهم مقصر، ومن فوقهم مفرط، لقد قصر دونهم أناس فجفوا، وطمح آخرون فغلوا، وإنهم في ما بين ذلك لعلى هدى مستقيم. (¬1) " التعليق: لقد وضع هذا الإمام في هذه الكلمة الطيبة التي تستحق أن تكتب بماء الذهب، قواعد سلفية تسد الباب أمام كل مبتدع يتبجح ببدعته، فمن كان يعترف بهدي هؤلاء السلف فهذا هديهم، وهذا كلامهم، وهذه عقيدتهم التي عاشوا عليها وماتوا عليها فجزاهم الله خيرا. موقفه من الجهمية: - جاء في الفتاوى الكبرى: والمقصود قوله من وصف شيئا من ذات الله فجعل الموصوف من ذات الله وغالب كلام السلف على هذا، كقول عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون نظير مالك في كلامه المشهور في الصفات. وقد رواه بالإسناد أبو بكر الأثرم وأبو عمرو الطلمنكي وأبو عبد الله بن بطة في كتبهم وغيرهم قال: أما بعد فقد فهمت ما سئلت فيما تتابعت الجهمية ومن خلفها في صفة الرب العظيم الذي فاقت عظمته الوصف والتقدير، وكلت الألسن عن تفسير صفته وانحسرت العقول دون معرفة قدره، ردت عظمته العقول فلم تجد مساغا فرجعت خاسئة وإنما أمروا ¬

(¬1) نقض المنطق (ص.6 - 7) وهو في الفقيه والمتفقه (1/ 555 - 556) والإبانة (2/ 10/247 - 252/ 1853) مطولا.

بالنظر والتفكر فيما خلق بالتقدير، وإنما يقال كيف لمن لم يكن مرة ثم كان، فأما الذي لا يحول ولا يزول ولم يزل وليس له مثل فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو، وكيف يعرف قدر من لم يبدأ ومن لا يموت ولا يبلى؟ وكيف يكون لصفة شيء منه حد أو منتهى يعرفه عارف أو يحد قدرته واصف، على أنه الحق المبين لا حق أحق منه ولا شيء أبين منه. الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته عجزها عن تحقيق صفة أصغر مخلوقاته، لا تكاد تراه صغيرا يحول ويزول ولا يرى له سمع ولا بصر لما يتقلب به ويحتال من عقله أعضل بك وأخفى عليك مما ظهر من سمعه وبصره، فتبارك الله أحسن الخالقين، وخالقهم وسيد السادة وربهم ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، اعرف رحمك الله تعالى وغناك عن تكلف صفة ما لم يصف الرب من نفسه بعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها إذا لم تعرف قدر ما وصف، فما كلفك علم ما لم يصف، هل يستدل بذلك على شيء من طاعته أو ينزجر به عن معصيته. فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقا وتكلفا قد استهوته الشياطين في الأرض حيران، فصار يستدل بزعمه على جحد ما وصف الرب وسمى من نفسه بأن قال لا بد إن كان له كذا من أن يكون له كذا، فعمى عن البين بالخفي فجحد ما سمى الرب من نفسه لصمت الرب عما لم يسم منها، فلم يزل يملي له الشيطان حتى جحد قول الله عز وجل: {وُجُوهٌ

يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (¬1) فقال: لا يراه أحد يوم القيامة فجحد والله أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة من النظر إلى وجهه ونضرته إياهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فهم بالنظر إليه ينضرون إلى أن قال: وإنما جحد رؤيته يوم القيامة إقامة للحجة الضالة المضلة لأنه قد عرف إذا تجلى لهم يوم القيامة رأوا منه ما كانوا به قبل ذلك هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب قالوا: لا. قال مؤمنين، وكان له جاحدا. وقال المسلمون: يا رسول الله: هل نرى ربنا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب، قالوا: لا. قال: فإنكم ترون ربكم يومئذ كذلك (¬2). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تمتلئ النار حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول قط قط وينزوي بعضها إلى بعض (¬3)، وقال لثابت ابن قيس: لقد ضحك الله مما فعلت بضيفك البارحة (¬4) وقال فيما بلغنا أن الله ليضحك من أزلكم وقنوطكم وسرعة إجابتكم فقال له رجل من العرب: إن ¬

(¬1) القيامة الآيتان (22و23). (¬2) أخرجه مسلم (4/ 2279/2968) مطولا، وأبو داود (5/ 98 - 99/ 4730) عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) أخرجه من حديث أنس: أحمد (3/ 134و229 - 230) والبخاري (11/ 668/6661) ومسلم (4/ 2187/2848) والترمذي (5/ 364/3272) والنسائي في الكبرى (4/ 409/7719). (¬4) عزاه السيوطي في الدر (6/ 289) لمسدد في مسنده وابن أبى الدنيا في كتاب قرى الضيف وابن المنذر عن أبي المتوكل الناجي - رضي الله عنه - أن رجلا من المسلمين مكث صائما ثلاثة أيام فذكره .. والحديث أصله في الصحيحين، البخاري (7/ 150/3798) ومسلم (3/ 1624/2054).

ربنا ليضحك قال: نعم قال: لا نعدم من رب يضحك خيرا (¬1) في أشباه لهذا مما لم يخصه. وقال الله تعالى: {وَهُوَ السميع البصير} (¬2) وقال: {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا} (¬3) وقال: {وَلِتُصْنَعَ على عيني} (¬4) وقال: {مَا مَنَعَكَ أَن تسجد لِمَا خَلَقْتُ بيدي} (¬5) وقال: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬6) فوالله ما دلهم على عظم ما وصف من نفسه وما تحيط به قبضته الأصغر (¬7) نظيرها منهم عندهم، أن ذلك الذي ألقى في روعهم وخلق على معرفة قلوبهم، فما وصف الله من نفسه فسماه على لسان رسوله ¬

(¬1) ذكره أبو عبيد القاسم بن سلام في غريب الحديث (2/ 269) من رواية عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون عن محمد بن عمرو يرفعه وابن الأثير في النهاية في غريب الحديث (1/ 61) وأورده البغوي في تفسيره (4/ 24) كلهم بلفظ (عجب ربكم من إلكم وقنوطكم). وقال الزيلعي في تخريج الكشاف (3/ 175): "غريب". وأخرجه: أحمد (4/ 11) وابن ماجه (1/ 64/181) والطبراني في الكبير (19/ 207 - 208/ 469) وابن أبي عاصم في السنة (1/ 244/554)، كلهم من حديث أبي رزين قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره. قال: قلت: يا رسول الله، أويضحك الرب؟ قال: نعم، قلت: لن نعدم من رب يضحك خيرا". قال الشيخ الألباني: "إسناده ضعيف". وأخرجه: الخطيب في التاريخ (13/ 44) وابن عدي في الكامل (3/ 54) من حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ: "إن الله ليضحك من إياسة العباد وقنوطهم وقرب الرحمة منهم .. " الحديث. وفيه خارجه بن مصعب متروك كما في التقريب. (¬2) الشورى الآية (11). (¬3) الطور الآية (48). (¬4) طه الآية (39). (¬5) ص الآية (75). (¬6) الزمر الآية (67) .. (¬7) كذا بالأصل، ولعل الصواب إلا صغر.

سميناه كما سماه ولم نتكلف منه صفة ما سواه، لا هذا ولا هذا، لا نجحد ما وصف ولا نتكلف معرفة ما لم يصف. اعلم رحمك الله أن العصمة في الدين أن تنتهي حيث انتهى بك ولا تجاوز ما قد حد لك فإن من قوام الدين معرفة المعروف وإنكار المنكر فما بسطت عليه المعرفة وسكنت إليه الأفئدة وذكر أصله في الكتاب والسنة وتوارث علمه الأمة، فلا تخافن في ذكره وصفته من ربك ما وصف من نفسه عينا ولا تكلفن بما وصف من ذلك قدرا، وما أنكرته نفسك ولم تجد ذكره في كتاب ربك ولا في الحديث عن نبيك من ذكر ربك، فلا تتكلفن علمه بعقلك ولا تصفه بلسانك واصمت عنه كما صمت الرب عنه من نفسه، فإن تكلفك معرفة ما لم يصف به نفسه مثل إنكارك ما وصف منها، فكما أعظمت ما جحد الجاحدون مما وصف من نفسه فكذلك أعظم تكلف ما وصف الواصفون، مما لم يصف منها، فقد والله عز المسلمون الذين يعرفون المعروف وبمعرفتهم يعرف وينكرون المنكر وبإنكارهم ينكر، يسمعون ما وصف الله به نفسه من هذا في كتابه وما يبلغهم مثله عن نبيه، فما مرض من ذكر هذا وتسميته من الرب قلب مسلم، ولا تكلف صفة قدره ولا تسمية غيره من الرب مؤمن. وما ذكر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سماه من صفة ربه فهو بمنزلة ما سمى ووصف الرب تعالى من نفسه، والراسخون في العلم الواقفون حيث انتهى علمهم الواصفون لربهم بما وصف من نفسه، التاركون لما ترك من ذكرها لا ينكرون صفة ما سمى منها جحدا، ولا يتكلفون وصفه بما لم يسم تعمقا، لأن الحق ترك ما ترك وسمى ما سمى فمن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت

موقفه من المرجئة:

مصيرا، وهب الله لنا ولكم حكما وألحقنا بالصالحين. (¬1) قال الذهبي: وقيل: إنه نظر مرة في شيء من سلب الصفات لبعضهم، فقال: هذا الكلام بلا بناء وصفة بلا معنى. (¬2) - وفي الإبانة: عن بقية بن الوليد عن عبد العزيز الماجشون قال: جهم وشيعته الجاحدون. (¬3) " التعليق: فانظر رحمك الله في قول هذا الإمام فإنه قاعدة عظيمة يهدم بها كل ما كتبه الأشاعرة والماتوريدية في عقائدهم، فإنها من هذا الباب، فما فيها إلا السلب الذي وصفه هذا الإمام بأنه هدم بلا بناء وصفة بلا معنى. أين الذين يقولون إن ابن تيمية هو الذي وضع هذه القواعد للأسماء والصفات، وقبله لم يكن أحد يعرف هذا؟ فبالله عليك اقرأ عقيدة هذا الإمام واقرأ ما كتبه ابن تيمية هل تجد أن ابن تيمية زاد شيئا على ما قرره هذا الإمام وغيره من الأئمة، إلا أنه رحمه الله أحيى عقائدهم السلفية وقررها كما قرروها ولم يزد عليهم فجزاه الله خيرا. موقفه من المرجئة: عن أبي سلمة الخزاعي قال: قال مالك بن أنس وشريك وأبو بكر بن ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى (5/ 94 - 97) والسير (7/ 311 - 312) مختصرا، وذكر بعضه اللالكائي في أصول الاعتقاد (3/ 556 - 557/ 873). (¬2) السير (7/ 312). (¬3) الإبانة (2/ 13/97/ 331) والسنة للخلال (5/ 87).

موقفه من القدرية:

عياش وعبد العزيز بن أبي سلمة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد: الإيمان المعرفة والإقرار والعمل. (¬1) موقفه من القدرية: جاء في الإبانة: عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون قال: أما بعد فإنك سألتني أن أفرق لك في أمر القدر، ولعمري لقد فرق الله تعالى فيه: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَو ألقى السمع وهو شهيد} (¬2)؛ فأعلمنا أن له الملك والقدرة، وأن له العذر والحجة، ووص ف القدر تملكا والحجة إنذارا، ووصف الإنسان في ذلك محسنا ومسيئا ومقدورا عليه ومعذورا عليه؛ فرزقه الحسنة وحمده عليها، وقدر عليه الخطيئة ولامه فيها؛ فحسبت حين حمده ولامه أنه مملك، ونسيت انتحاله القدر لأنه مملك؛ فلم يخرجه بالمحمدة واللائمة من ملكه، ولا يعذره بالقدر في خطيئته، خلقه على الطلب بالحيلة؛ فهو يعرفها ويلوم نفسه حين ينكرها، وعرفه القدرة؛ فهو يؤمن بها ولا يجد معولا إلا عليها؛ فرغب إلى الله عز وجل في التوفيق لعمله بملكه، موقن بأن ذلك في يده فيخطئه ما طلب، فيرجع في ذلك على لائمة نفسه مفزعه في التقصير ندامته على ما ترك من الأخذ بالحيلة، قد عرف أن بذلك يكون لله عليه به الحجة معوله في طلب الخير، ثقته بالله وإيمانه بالقدر حين يقول يطلب الخير: لا حول ولا قوة إلا بالله، يقول حين يقع في الشر: لا عذر لي في معصية الله، مستسلم حين يطلب، ضعيف في نفسه، قوي حين يقع في الشر، ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 931/1587) والسنة للخلال (3/ 580/1006). (¬2) ق الآية (37).

لائما لأمره، ليس القدر بأحق عنده بأنه ظالم حين يعصي ربه، إن رأى أن أحدهما أحق من صاحبه؛ سفه الحق وجهل دينه، لا يجد عن الإقرار بالقدر مناصا ولا عن الاعتراف بالخطيئة محيصا، فمن ضاق ذرعا بهذا {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} (¬1) فوالله؛ لا يجد بدا من أن يضرع إلى الله ضرع من يعلم أن الأمر ليس إليه، ويعتذر من الخطيئة اعتذار من كأنها لم تقدر عليه؛ فلا تملكوا أنفسكم جحد القدرة، ولا تعذروها بالقدر فرارا من حجته، ضعوا أمر الله كما وضعه، ألا تفرقوا بينه بعدما جمعه؛ فإنه قد خلط بعضه ببعض وجعل بعضه من بعض، فخلط الحيلة بالقدر ثم لام وعذر وقد كتب بعد ذلك، فلا تملكوا أنفسكم فتجحدوا نعمته في الهدى، ولا تغلوا في صفة القدر؛ فتعذروا أنفسكم بالخطأ، فإنكم إذا نحلتم أنفسكم باللائمة وأقررتم لربكم بالحكومة؛ سددتم عنكم باب الخصومة، فتركتم الغلو ويئس منكم العدو؛ فاتخذوا الكف طريقا فإنه القصد والهدى، وأن الجدل والتعمق هو جور السبيل وصراط الخطأ، ولا تحسبن التعمق في الدين رسوخا؛ فإن الراسخين في العلم هم الذين وقفوا حيث تناهى علمهم وقالوا: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (¬2). وإن أحببت أن تعلم أن الحيلة بالقدر كما وصفت لك؛ فانظر في أمر ¬

(¬1) الحج الآية (15) .. (¬2) آل عمران الآية (7).

القتال، وما ذكر الله عز وجل منه في كتابه تسمع شيئا عجبا؛ من ذكر ملك ولا يغلب، ودولة تنقلب، ونصر محتوم، والعبد بين ذلك محمود وملوم، ينصر أولياءه وينتصر بهم، ويعذب أعداءه ويديلهم، يقول تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} (¬1)، {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (¬2)، {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (¬3)؛ قال: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} (¬4)، فافهم ظنهم أي الفريقين أولى بهم؛ المضيف إلى ربه المؤمن بقدره، أم الذي يزعم أنه قد ملكه؟ فإلى نفسه وكله، فإن ظنهم ذلك إنما هو قولهم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}، ولكنا عصينا، ولو أطعنا؛ ما قتلنا ها هنا؛ فلعمري لئن كانوا صدقوا لقد صدقت، ولئن كانوا كذبوا لقد ¬

(¬1) التوبة الآية (15). (¬2) آل عمران الآية (126). (¬3) آل عمران الآية (160). (¬4) آل عمران الآية (154) ..

كذبت؛ فقال الملك تعالى: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لله}، وقال عز وجل: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ}، {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} (¬1) فيديل الله أعداءه على أوليائه، فيستشهدهم بأيديهم ثم يكتب ذلك خطيئة عليهم، ثم يعذبهم بها ويسألهم عنها وهو أدالهم بها، وينصر أولياءه على أعدائه ثم يقول: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رميت إذ رميت وَلَكِنَّ اللَّهَ رمى} (¬2)، ثم يكتب ذلك حسنة لهم يحمدهم عليها ويثني عليهم بها، وهو تولى نصرهم فيها، يقول: الأمر كله لي، لا يغلب واحد من الفريقين إلا بي، وعدهم ببدر إحدى الطائفتين أنها لهم وعدا لا يخلف، ونقمة لا تصرف، ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم؛ فينقلبوا خائبين يقول لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {ليس لك مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} (¬3)، تمم ذاك الوعد بمثل الحيلة وأعد لهم العدد والمكيدة، وإنما هو تسبب لقدرة خفية، وأنزل من السماء الملائكة لقتال ألف من قريش، ثم أوحى إليهم أني معكم يثبتهم بذلك؛ فثبتوا الذين آمنوا، حتى كأنه عند من ينكر القدر أمر يكابر وعدو يخاف منه أن يظفر، ¬

(¬1) آل عمران الآية (140). (¬2) الأنفال الآية (17). (¬3) آل عمران الآية (128) ..

وإبليس مع الكفار قد زين لهم أعمالهم {وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} (¬1)، فبينما الأمر هكذا كأنه أمر الناس الذين يخشون الغلبة ويجتهدون في المكيدة ولا يتركون في عدة؛ إذ قذف الرعب في قلوبهم فولوا مدبرين، وقال للملائكة: {فاضربوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (¬2)؛ فجاءهم أمر لا حيلة لهم فيه ولا صبر لوليهم عليه، وإنما وعدهم عليه إبليس، فلما رأى الملائكة نكص على عقبيه وقال: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬3)، لا يجنبني وإياكم من بأسه جنة ولا يدفعه عني ولا عنكم عدة ولا قوة، لا ترون من يقاتلكم، لا تستطيعون دفع الرعب عن قلوبكم ولا أستطيع دفعه عن نفسي؛ فكيف أستطيع دفعه عنكم، وهم الذين كانوا حذروا وخيف منهم أن يظهروا، ورأوا منهم كثرة العدد حين قال: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} (¬4) ¬

(¬1) الأنفال الآية (48). (¬2) الأنفال الآية (12). (¬3) الأنفال الآية (48). (¬4) الأنفال الآيتان (43و44) ..

لمه؟ قال: {ليقضي اللَّهُ أَمْرًا كان مَفْعُولًا} (¬1)، فيخبرهم أنه قد فرغ وقضى، وأنه لا يريد أن يكون الأمر إلا هكذا، ويحسب القدري إنما ذلك من الله احتيال واحتفال وإعداد للقتال، وينسى أنه الغالب على أمره بغير مغالبة والقاهر لعدوه، إذا شاء بغير مكاثرة أهلك عادا بالريح العقيم، وأخمد ثمودا بالصيحة، وخسف بقارون وبداره الأرض، وأرسل على قوم لوط حجارة من السماء ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء قعصا لا مكر فيه ولا استدراج، ويستدرج ويمكر بمن لا يعجزه، ويأتي من حيث لا يحتسب من لا يمتنع منه مواجهة ومن ليست له على النجاة منه قدرة، وكلا الأمرين في قدره وقضائه سواء؛ فهو ينفذهما في خلقه على من يشاء، لم يهلك هؤلاء قعصا ولا قهرا؛ اغتناما لغرتهم، ولم يستدرج هؤلاء ويمكر بهم؛ شفقة أن يعجزوا مما أراد بهم لقدره وقضائه مخرجان، أحدهما ظاهر قاهر والآخر قوي خفي، لا يمتنع منه شيء ولا يوجد له مس، ولا يسمع له حس، ولا يرى له عين ولا أثر حتى يبرم أمره، فيظهر يباعد به القريب ويصرف به القلوب ويقرب به البعيد ويذل به كل جبار عنيد حتى يفعل ما يريد به، حفظ موسى عليه السلام في التابوت واليم منفوسا ونزه يقربه من عدوه إليه للذي سبب أمره عليه وقد قدر وقضى أن نجاته فيه. قال لأمه: {فإذا خفت عليه} (¬2) أن يأخذه فرعون {فاقذفيه في اليم ¬

(¬1) الأنفال الآيتان (44). (¬2) القصص الآية (7).

فليلقه اليم بِالسَّاحِلِ} (¬1) يأخذه فرعون هنالك لا يريد أن يأخذه إلا كذلك، فاختلجه من كنه ومن ثدي أمه إلى هول البحر وأمواجه، وأدخل قلب أمه اليقين أنه راده إليها وجاعله من المرسلين؛ فأمنت عليه الغرق، فألقته في اليم ولم تفرق، وأمر اليم يلقيه بالساحل؛ فسمع وأطاع، وحفظه ما استطاع حتى أداه إلى فرعون بأمره، وقد قدر وقضى على قلب فرعون وبصره حفظه وحسن ولايته بما قضى من ذلك فألقى عليه محبة منه ليصنعه على عينه، قد أمن عليه سطوته ورضي له تربيته، لم يكن ذلك منه على التغرير والشفقة، ولكن على اليقين والثقة بالغلبة، يصطفي له الأطعمة والأشربة والخدم والحضان، يلتمس له المراضع شفقا أن يميته، وهو يقتل أبناء بني إسرائيل عن يمين وشمال، يخشى أن يفوته وهو في يديه وبين حجره ونحره، يتبناه ويترشفه، يراه ولا يراه وقد أغفل قلبه عنه وزينه في عينه وحببه إلى نفسه؛ لمه؟ قال: {ليكون لهم عدوًا وحزنًا} (¬2)، فمنه يفرق على وده لو عليه يقدر وهو في يديه وهو لا يشعر حتى رده بقدرته إلى أمه، وجعله بها من المرسلين، وفرعون خلال ذلك يزعم أنه رب العالمين وهو يجري في كيد الله المتين حتى أتاه من ربه اليقين مذعنا مستوسقا في كل مقال وقتال يرفعه طبقا عن طبق حتى إذا أدركه الغرق؛ قال: {آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلًّا الذي ¬

(¬1) طه الآية (39). (¬2) القصص الآية (8).

آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إسرائيل وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (¬1)،فنسأل الله تمام النعمة في الهدى في الآخرة والدنيا، فإن ذلك ليس بأيدينا، نبرأ إليه من الحول والقوة، ونبوء على أنفسنا بالظلم والخطيئة، الحجة علينا بغير انتحالنا القدرة على أخذ مادعانا إليه إلا بمنه وفضله صراحا، لا نقول كيف رزقنا الحسنة وحمدنا عليها ولا كيف قدر الخطيئة ولامنا فيها، ولكن؛ نلوم أنفسنا كما لامها، ونقر له بالقدرة كما انتحلها، لا نقول لما قاله لم قاله، ولكن نقول كما قاله، وله ما قال وله ما فعل: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (¬2) {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬3). (¬4) - وفيها عنه أنه قال: أما بعد؛ فإني موصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وترك ما أحدث المحدثون في دينهم مما قد كفوا مؤنته وجرت فيهم سنته، ثم اعلم أنه لم تكن بدعة قط إلا وقد مضى قبلها ما هو عبرة فيها ودليل عليها؛ فعليك بلزوم السنة فإنها لك بإذن الله عصمة، وأن السنة إنما جعلت سنة ليستن بها ويقتصر عليها وإنما سنها من قد علم ما في خلافها من الزلل والخطأ والحمق والتعمق؛ فارض لنفسك بما رضوا به لأنفسهم، فإنهم عن علم وقفوا، وببصر ناقد كفوا ولهم عن كشفها كانوا أقوى وبفضل لو كان فيها أحرى وأنهم لهم السابقون، فلئن كان ¬

(¬1) يونس الآية (90) .. (¬2) الأنبياء الآية (23). (¬3) الأعراف الآية (54). (¬4) الإبانة (2/ 10/240 - 247/ 1852).

الهدى ما أنتم فيه؛ لقد سبقتموهم إليه، ولئن قلت حدث حدث بعدهم ما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم، ولقد وصفوا منه ما يكفي، وتكلموا منه بما يشفي؛ فما دونهم مقصر ولا فوقهم محسر، لقد قصر أناس دونهم؛ فجفوا، وطمح آخرون عنهم؛ فغلوا، وأنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم، سألتني عن القدر، وما جحد منه من جحد؛ فعلى الخبير إن شاء الله سقطت، وذلك أرى الذي أردت فما أعلم أمرا مما أحدث الناس فيه محدثة أو ابتدعوا فيه بدعة أبين أثرا ولا أثبت أصلا ولا أكثر -والحمد لله- أهلا من القدر، لقد كان ذكره في الجاهلية الجهلاء، ما أنكروا من الأشياء يذكرونه في شعرهم وكلامهم ويعزون به أنفسهم فيما فاتهم ثم ما زاده الإسلام إلا شدة، لقد كلم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غير موطن، ولا اثنين، ولا ثلاثة، ولا أكثر من ذلك، وسمعه المسلمون منه، وتكلموا به في حياته وبعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -؛ يقينا، وتسليما، وتضعيفا لأنفسهم، وتعظيما لربهم أن يكون شيء لم يحط به علمه، ولم يحصه كتابه، ولم يمض به قدره، إن ذلك مع ذلك لفي محكم كتابه، لمنه اقتبسوه، ولبه علموه، فلئن قلتم: أين آية كذا؟ وأين آية كذا؟ ولم قال الله عز وجل كذا؟ لقد قرؤوا منه ما قرأتم، وعلموا من تأويله ما جهلتم، ثم آمنوا بعد ذلك به كله، بالذي جحدتم، فقالوا: قدر وكتب، وكل شيء بكتاب وقدر، ومن كتبت عليه الشقوة، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا نملك لأنفسنا ضرا ولا نفعا؛ إلا ماشاء الله، ثم رغبوا مع قولهم هذا، ورهبوا، وأمروا، ونهوا، وحمدوا ربهم على الحسنة، ولاموا أنفسهم على الخطيئة، ولم يعذروا أنفسهم بالقدر، ولم

يملكوها فعل الخير والشر، فعظموا الله بقدره، ولم يعذروا أنفسهم به، وحمدوا الله على منه، ولم ينحلوه أنفسهم دونه، وقال الله تعالى: {وذلك جزاء الْمُحْسِنِينَ} (¬1)، وقال: {بِمَا كَانُوا يفسقون} (¬2)؛ فكما كان الخير منه، وقد نحلهم عمله؛ فكذلك كان الشر منه، وقد مضى به قدره. وإن الذين أمرتك باتباعهم في القدر لأهل التنزيل، الذين تلوه حق تلاوته، فعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وكانوا بذلك من العلم في الراسخين، ثم ورثوا علم ما علموا من القدر وغيره من بعدهم، فما أعلم أمرا شك فيه أحد من العالمين، -لا يكون أعظم الدين- أعلى ولا أفشى ولا أكثر ولا أظهر من الإقرار بالقدر؛ لقد آمن به الأعرابي الجافي، والقروي القاري، والنساء في ستورهن، والغلمان في حداثتهم، ومن بين ذلك من قوي المسلمين وضعيفهم، فما سمعه سامع قط فأنكره، ولا عرض لمتكلم قط إلا ذكره، لقد بسط الله عليه المعرفة، وجمع عليه الكلمة، وجعل على كلام من جحده النكرة؛ فما من جحده ولا أنكره فيمن آمن به وعرفه من الناس إلا كأكلة رأس. فالله الله، فلو كان القدر ضلالة؛ ما تكلم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو كانت بدعة؛ فعلم المسلمون متى كانت؛ فقد علم المسلمون متى أحدثت المحدثات والبدع والمضلات. وإن أصل القدر لثابت في كتاب الله تعالى، ¬

(¬1) المائدة الآية (85). (¬2) البقرة الآية (59) والأعراف الآيتان (163و165) والعنكبوت الآية (34).

يعزي به المسلمين في مصائبهم بما سبق منها في الكتاب عليهم، يريد بذلك تسليتهم، ويثبت به على الغيب يقينهم، فسلموا لأمره، وآمنوا بقدره، وقد علموا أنهم مبتلون، وأنهم مملوكون غير مملكين ولا موكلين، قلوبهم بيد ربهم، لا يأخذون إلا ما أعطى، ولا يدفعون عن أنفسهم ما قضى، قد علموا أنهم إن وكلهم إلى أنفسهم؛ ضاعوا، وإن عصمهم من شرها؛ أطاعوا، هم بذلك من نعمته عارفون، كما قال نبيه وعبده الصديق: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (¬1)، {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬2)،فتبرأ إلى ربه من الحول والقوة، وباء مع ذلك على نفسه بالخطيئة، فكانت لهم فيه أسوة، وكانوا له شيعة، لم يجعل الله تعالى القدر والبلاء مختلفا في صدورهم، ومنع الشيطان أن يدخل الوسوسة عليهم، فلم يقولوا: كيف يستقيم هذا؟ قد علموا أن الله هو ابتلاهم، وأن قدره نافذ فيهم، ليس هذا عندهم بأشد من هذا، ولا يوهن هذا عندهم هذا، يحتالون لأنفسهم كحيلة من زعم أن الأمر بيده، ويؤمنون بالقدر إيمان من علم أنه مغلوب على أمره؛ فلم يبطيهم الإيمان بالقدر عن عبادته، ولم يلقوا بأيديهم إلى التهلكة من أجله، ولم يخرجهم الله عز وجل بالبلاء من ملكه؛ فهم يطلبون ويهربون، وهم على ذلك بالقدر يوقنون، لا يأخذون إلا ما أعطاهم، ولا ينكرون أنه ¬

(¬1) يوسف الآية (33). (¬2) يوسف الآية (53) ..

ابتلاهم، كذلك خلقهم، وبذلك أمرهم. يضعفون إليه في القوة ويقرون له بالقدرة والحجة، لا يحملهم تضعيفهم أنفسهم أن يجحدوا حجته عليهم، ولا يحملهم علمهم بعذره إليهم أن يجحدوا أن قدره نافذ فيهم، هذا عندهم سواء وهم به عن غيره أغنياء، وقد عصمهم الله تعالى من فتنة ذلك؛ فلم يفتحها عليهم وفتحها على قوم آخرين، لبسوا أنفسهم عليهم ما يلبسون فهم هنالك في غمرتهم يعمهون، لا يجدون حلاوة الحسنة فيما قدر عليهم من المصيبة حين زعموا أنهم في ذلك مملوكون أن يقدموها قبل أجلها ويزعمون أنهم قادرون عليها؛ فسبحان الله ثم سبحان الله؛ فهلم يا عباد الله إلى سبيل المسلمين التي كنتم معهم عليها، فانبحستم (¬1) بأنفسكم دونها، فتفرقت بكم السبيل عنها، فارجعوا إلى معالم الهدى من قريب قبل التحسر والتناوش من مكان بعيد؛ فقولوا كما قالوا، واعملوا كما عملوا، ولا تفرقوا بين ما جمعوا ولا تجمعوا بين ما فرقوا، فإنهم قد جعلوا لكم أئمة وقادة، وحملوا إليكم من كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما هم عليه أمناء، وعليكم فيما جحدتم منه شهداء، فلا تجحدوا ما أقروا به من القدر؛ فتبتدعوا، ولا تشدوه بغيره؛ فتكلفوا؛ فإني لا أعلم أحدا أصح قلبا في القدر ممن لم يدر أن أحدا قال فيه شيئا؛ فهو يتكلم به غضا جديدا لم تدنسه الوساوس ولم يوهنه الجدل ولا التباس، وبذلك فيما مضى صح في صدر الناس؛ فاحذروا هذا الجدل، فإنه يقربكم إلى كل موبقة ولا يسلمكم إلى ثقة ليس له أجل ينتهي إليه، وهو يدخل في كل شيء؛ ¬

(¬1) كذا في الأصل ولعل الصواب: فانحبستم.

سلام بن أبي مطيع (164 هـ)

فالمعرفة به نعمة، والجهالة به غرة، وعلامات الهدى لنا دونه من ركبه أراده وترك الهدى وراءه بين أثره وقريب ما أخذه، لا يكلف أهله العويص والتشقيق. ثم اعلم أنه ليس للقرآن موئل مثل السنة؛ فلا يسقطن ذلك عنك فتحير في دينك وتتيه في طريقك {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬1). (¬2) سلام بن أبي مطيع (¬3) (164 هـ) سَلاَّم بن أبي مُطِيع واسمه سعد، الخزاعي الإمام الثقة القدوة أبو سعيد مولاهم البصري. روى عن قتادة وهشام بن عروة ومعمر بن راشد ومنصور ابن معتمر وأيوب السختياني وأبي عمران الجوني وطائفة. روى عنه عبد الله ابن المبارك وموسى بن إسماعيل وعبد الرحمن بن مهدي ومسدد وخلق كثير. قال الإمام أحمد: ثقة، صاحب سنة. من أقواله: كن لنعمة الله عليك في دينك أشكر منك لنعمة الله عليك ¬

(¬1) الأنعام الآية (71). (¬2) الإبانة (2/ 10/247 - 252/ 1853). (¬3) تاريخ خليفة (449) والجرح والتعديل (4/ 258 - 259) والسير (7/ 428 - 429) والكامل لابن عدي (3/ 1153 - 1155) وحلية الأولياء (6/ 188 - 192) وتهذيب الكمال (12/ 298 - 301) وميزان الاعتدال (2/ 181 - 182) وشذرات الذهب (1/ 382).

موقفه من المبتدعة:

في دنياك، ومنها: الزاهد على ثلاثة وجوه: واحد أن تخلص العمل لله والقول، ولا يراد بشيء منه الدنيا، والثاني ترك مالا يصلح والعمل بما يصلح، والثالث الحلال وهو أن يزهد فيه وهو تطوع وهو أدناه. توفي سنة أربع وستين ومائة. موقفه من المبتدعة: جاء في ذم الكلام عنه قال: ما أعلم يحل لرجل أن يزوج صاحب بدعة ولا صاحب شراب، فأما ص (4) بدعة فيدخل ولده النار وأما صاحب الشراب فذكر منه أشياء يعددها. (¬1) موقفه من الرافضة: عبد الله بن أحمد قال: سمعت أبي يقول: سلام بن أبي مطيع من الثقات من أصحاب أيوب، وكان رجلا صالحا حدثنا عنه عبد الرحمن بن مهدي ثم قال أبي: كان أبو عوانة وضع كتابا فيه معايب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه بلايا فجاء إليه سلام بن أبي مطيع، فقال: يا أبا عوانة أعطني ذلك الكتاب فأعطاه فأخذه سلام فأحرقه. (¬2) موقفه من الجهمية: - جاء في السير: قال زهير البابي: سمعت سلام بن أبي مطيع يقول: ¬

(¬1) ذم الكلام (ص.236). (¬2) السنة للخلال (1/ 510).

موقفه من القدرية:

الجهمية كفار، لا يصلى خلفهم. (¬1) - وقد أخرج ابن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية، بسند صحيح عن سلام بن أبي مطيع وهو شيخ شيوخ البخاري أنه ذكر المبتدعة فقال: ويلهم ماذا ينكرون من هذه الأحاديث، والله ما في الحديث شيء إلا وفي القرآن مثله، يقول الله تعالى: {إن الله سميع بصير} (¬2) {ويحذركم اللَّهُ نَفْسَهُ} (¬3) {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (¬4) {مَا مَنَعَكَ أَن تسجد لمَا خَلَقْتُ بيدي} (¬5) {وَكَلَّمَ اللَّهُ موسى تكليمًا} (¬6) {الرحمن على العرش استوى} (¬7) ونحو ذلك فلم يزل -أي سلام بن أبي مطيع- يذكر الآيات من العصر إلى غروب الشمس. (¬8) موقفه من القدرية: جاء في سير أعلام النبلاء: قال أبو داود السجزي: هو القائل: لأن ¬

(¬1) السير (7/ 429) والسنة لعبد الله (11) وأصول الاعتقاد (2/ 355/517) والإبانة (2/ 13/99/ 336) والسنة للخلال (5/ 92). (¬2) الحج الآية (75). (¬3) آل عمران الآية (28). (¬4) الزمر الآية (67). (¬5) ص الآية (75). (¬6) النساء الآية (164). (¬7) طه الآية (5). (¬8) الفتح (13/ 359).

معقل بن عبيد الله (166 هـ)

ألقى الله بصحيفة الحجاج، أحب إلي من أن ألقى الله بصحيفة عمرو بن عبيد. (¬1) معقل بن عبيد الله (¬2) (166 هـ) مَعْقِل بن عبيد الله الجزري أبو عبد الله المحدث الإمام مولى بني عَبْس من كبار علماء الجزيرة. روى عن عطاء بن أبي رباح وعمرو بن شعيب وميمون ابن مهران وغيرهم. روى عنه أبو نعيم والفريابي والحسن بن محمد ابن أعين وأبو جعفر النفيلي وآخرون. قال أحمد بن حنبل: صالح الحديث. وقال النسائي: ليس به بأس. قال الذهبي: وما عرفت له شيئا منكرا فأذكره، وحديثه لا ينزل عن رتبة الحسن. توفي سنة ست وستين ومائة. موقفه من المرجئة: عن معقل بن عبيد الله العبسي قال: قدم علينا سالم الأفطس بالإرجاء فنفر منه أصحابنا نفارا شديدا فيهم ميمون بن مهران وعبد الكريم بن مالك فأما عبد الكريم بن مالك فإنه عاهد الله أن لا يأويه وإياه سقف بيت إلا المسجد، قال معقل: فحججت فدخلت على عطاء بن أبي رباح في نفر من أصحابي وإذا هو يقرأ سورة يوسف قال: فسمعته يقرأ هذا الحرف: {حَتَّى ¬

(¬1) السير (7/ 428). (¬2) السير (7/ 318 - 319) وتهذيب الكمال (28/ 274 - 277) وميزان الاعتدال (4/ 146 - 147) وشذرات الذهب (1/ 261) وتهذيب التهذيب (10/ 234).

{إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} (¬1) مخففة، قال: قلت له: إن لنا حاجة فأدخلنا ففعل، فأخبرته أن قوما قبلنا قد أحدثوا وتكلموا وقالوا: إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين، فقال: أوليس الله عز وجل يقول: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} (¬2) قال: وقلت: إنهم يقولون: ليس في الإيمان زيادة قال: أو ليس قد قال الله فيما أنزل: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} (¬3) هذا الإيمان الذي زادهم، قال فقلت: إنهم انتحلوك وبلغني أن ابن درهم دخل عليك في أصحابه فعرضوا عليك قولهم، فقبلته فقلت هذا الأمر، فقال: لا والله الذي لا إله إلا هو مرتين أو ثلاثا قال: ثم قال: قدمت المدينة فجلست إلى نافع فقلت له: يا أبا عبد الله إن لي إليك حاجة قال: سرا أم علانية فقلت: لا بل سر قال: دعني من السر، سر لا خير فيه. فقلت: ليس من ذاك، فلما صلينا العصر قام وأخذ بيدي وخرج من الخوخة ولم ينتظر القاص وقال: حاجتك قال: قلت: اخلني هذا، فقال: تنح قال: فذكرت له قولهم فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أضربهم بالسيف حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوا لا ¬

(¬1) يوسف الآية (110). (¬2) البينة الآية (5). (¬3) الفتح الآية (4).

إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" (¬1) قال: قلت: إنهم يقولون: نحن نقر بالصلاة فريضة ولا نصلي، وإن الخمر حرام ونحن نشربها، وإن نكاح الأمهات حرام ونحن نريده، فنتر يده من يدي وقال: من فعل هذا فهو كافر قال معقل: فلقيت الزهري، فأخبرته بقولهم فقال: سبحان الله أو قد أخذ الناس في هذه الخصومات، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الشارب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" (¬2) قال معقل: فلقيت الحكم بن عتيبة فقلت له: إن عبد الكريم، وميمون بلغهما أنه دخل عليك ناس من المرجئة فعرضوا عليك قولهم، فقبلت قولهم، قال: فَقَبِلَ ذَلِكَ عَلَيَّ ميمون وعبد الكريم؟ فقلت: لا، قال: دخل علي اثنا عشر رجلا وأنا مريض فقالوا: يا أبا محمد أبلغك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه رجل بأمة سوداء أو حبشية فقال: يا رسول الله إن علي رقبة مؤمنة أفترى هذه مؤمنة فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتشهدين أن محمدا رسول الله؟ قالت: نعم، قال: وتشهدين أن الله يبعث من بعد الموت؟ قالت: نعم قال: فأعتقها (¬3) قال فخرجوا وهم ينتحلوني. قال معقل: فجلست إلى ميمون بن مهران ¬

(¬1) البخاري (13/ 311/7284و7285) ومسلم (1/ 51 - 52/ 20) وأبو داود (2/ 198/1556) والترمذي (5/ 5 - 6/ 2607) والنسائي (7/ 88/3980). (¬2) تقدم تخريجه ضمن مواقف الحسن البصري سنة (110هـ). (¬3) رواه مالك في الموطأ (2/ 777) وعبد الرزاق (9/ 175/16814) وأحمد (3/ 451 - 452) والبيهقي (10/ 57) وقال: "هذا مرسل". عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن رجل من الأنصار .. قال الهيثمي في المجمع (2/ 244): "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح". وروى نحوه مسلم في صحيحه (537) من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه.

سعيد بن عبد العزيز (167 هـ)

فقلت: يا أبا أيوب لو قرأت لنا سورة ففسرتها قال: فقرأ أو قرئت: {إذا الشَّمْسُ كورت} حتى إذا بلغ {مطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} (¬1) قال: ذلكم جبريل، والخيبة لمن يقول: إن إيمانه كإيمان جبريل. (¬2) سعيد بن عبد العزيز (¬3) (167 هـ) سعيد بن عبد العزيز بن أبي يحيى أبو محمد التَّنُوخِي، الإمام القدوة، مفتي دمشق. ويقال: أبو عبد العزيز. ولد سنة تسعين في حياة سهل بن سعد وأنس ابن مالك رضي الله عنهما، وقرأ القرآن على ابن عامر ويزيد بن أبي مالك. روى عن مكحول والزهري ونافع مولى ابن عمر وغيرهم. روى عنه الوليد ابن مسلم والحسن بن يحيى الخشني وأبو مسهر وآخرون. قال أبو مسهر: حدثني سعيد قال: كنت أجلس بالغدوات إلى ابن أبي مالك وأجالس بعد الظهر إسماعيل بن عبيد الله وبعد العصر مكحولا. وقال أبو زرعة النصري: قلت لابن معين: أمحمد بن إسحاق حجة؟ فقال: كان ثقة إنما الحجة عبيد الله ابن عمر ومالك والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز. وقال الحاكم: سعيد لأهل الشام كمالك لأهل المدينة في التقدم والفقه والأمانة. قال محمد بن المبارك ¬

(¬1) التكوير الآيات (1 - 21). (¬2) أصول الاعتقاد (5/ 1024 - 1025/ 1732) والسنة لعبد الله (ص.117 - 119) والسنة للخلال (4/ 29 - 32/ 1105) والإبانة (2/ 808 - 811/ 1101) (¬3) السير (8/ 32 - 38) وتهذيب الكمال (10/ 539 - 545) وتهذيب التهذيب (4/ 59 - 61) وشذرات الذهب (1/ 263) وميزان الاعتدال (2/ 149) وتذكرة الحفاظ (1/ 219 - 220).

موقفه من المرجئة:

الصوري: كان سعيد إذا فاتته صلاة الجماعة بكى. كان الأوزاعي إذا سئل عن مسألة وسعيد حاضر قال: سلوا أبا محمد. من أقواله: لا خير في الحياة إلا لأحد رجلين: صموت واع وناطق عارف. سئل عن الكفاف من الرزق ما هو؟ قال: شبع يوم وجوع يوم. مات سنة سبع وستين ومائة. موقفه من المرجئة: - عن الوليد بن مسلم، قال: سمعت أبا عمرو ومالكا وسعيد بن عبد العزيز يقولون: ليس للإيمان منتهى هو في زيادة أبدا ويقولون على من يقول إنه مستكمل الإيمان وأن إيمانه كإيمان جبريل، قال: قال الوليد: قال سعيد بن عبد العزيز: هو أن يكون إذا أقدم على هذه المقالة إيمانه كإيمان إبليس، لأنه أقر بالربوبية وكفر بالعمل، فهو أقرب إلى ذلك من أن يكون إيمانه كإيمان جبريل عليه السلام. (¬1) - وعن الوليد بن مسلم قال: سمعت الأوزاعي ومالك بن أنس وسعيد ابن عبد العزيز ينكرون قول من يقول: إن الإيمان قول بلا عمل ويقولون لا إيمان إلا بعمل ولا عمل إلا بإيمان. (¬2) - وعنه قال: سمعت أبا عمرو يعني الأوزاعي ومالك بن أنس وسعيد ابن عبد العزيز ينكرون أن يقول: أنا مؤمن. ويأذنون في الاستثناء أن أقول: أنا مؤمن إن شاء الله. (¬3) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 7/901/ 1259) والسنة لعبد الله (99 مختصرا). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 930 - 931/ 1586). (¬3) السنة لعبد الله (100).

موقفه من القدرية:

موقفه من القدرية: جاء في الإبانة: عن سعيد بن عبد العزيز: لما نزلت {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يستقيم} (¬1)؛ قال أبو جهل لعنه الله: الأمر إلينا، إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم. فنزلت: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬2). (¬3) حماد بن سلمة (¬4) (167 هـ) حَمَّاد بن سَلَمَة بن دينار الإمام القدوة شيخ الإسلام أبو سلمة البصري النحوي البزاز الخراقي البطائني مولى آل ربيعة بن مالك وابن أخت حميد الطويل. حدث عن خاله حميد الطويل وهشام بن عروة وعبد العزيز بن صهيب وثابت البناني وأيوب السختياني وطائفة. حدث عنه حجاج بن منهال وسفيان الثوري وسليمان بن حرب وشعبة وعبد الله بن المبارك وخلق سواهم. عن حماد بن سلمة قال: من طلب الحديث لغير الله مكر به. قال ابن حبان: ... ولم يكن من أقران حماد بن سلمة بالبصرة مثله في الفضل والدين ¬

(¬1) التكوير الآية (28). (¬2) التكوير الآية (29). (¬3) الإبانة (2/ 10/225/ 1811). (¬4) طبقات ابن سعد (7/ 282) وتاريخ خليفة (439) والسير (7/ 444 - 456) والجرح والتعديل (3/ 140 - 142) وحلية الأولياء (6/ 249 - 257) والفهرست لابن النديم (317) وتهذيب الكمال (7/ 253 - 269) وتذكرة الحفاظ (1/ 202 - 203) ومشاهير علماء الأمصار (157) وميزان الاعتدال (1/ 590 - 595) وشذرات الذهب (1/ 262).

موقفه من المبتدعة:

والنسك والعلم والكتبة والجمع والصلابة في السنة والقمع لأهل البدع، ولم يكن يثلبه في أيامه إلا معتزلي قدري أو مبتدع جهمي لما كان يظهر من السنن الصحيحة التي ينكرها المعتزلة. وقال غيره: كان إماما راسيا في العربية، فقيها، فصيحا، بليغا، كبير القدر، شديدا على المبتدعة، صاحب أثر وسنة. مات سنة سبع وستين ومائة. موقفه من المبتدعة: قال شيخ الإسلام -الهروي- في 'الفاروق' له: قال أحمد بن حنبل: إذا رأيت الرجل يغمز حماد بن سلمة، فاتهمه على الإسلام، فإنه كان شديدا على المبتدعة. (¬1) موقفه من الجهمية: - قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (قلت): وهكذا رأيت الجاحظ فقد شنع على حماد بن سلمة ومعاذ بن معاذ قاضى البصرة، بما لم يشنع به على غيرهما، لأن حمادا كان معتنيا بجمع أحاديث الصفات وإظهارها، (¬2) ومعاذ لما تولى القضاء رد شهادة الجهمية والقدرية فلم يقبل شهادة المعتزلة، ورفعوا عليه إلى الرشيد، فلما اجتمع به حمده على ذلك وعظمه، فلأجل معاداتهم لمثل هؤلاء الذين هم أئمة في السنة يشنعون عليهم بما إذا حقق لم يوجد مقتضيا لذم. (¬3) ¬

(¬1) السير (7/ 450). (¬2) وقد جمعها في مصنف، انظر الفتاوى الكبرى (5/ 15). (¬3) الفتاوى الكبرى (5/ 81).

موقفه من القدرية:

- جاء في السير: وروى عبد العزيز بن المغيرة، عن حماد بن سلمة: أنه حدثهم بحديث نزول الرب عز وجل (¬1)، فقال: من رأيتموه ينكر هذا، فاتهموه. (¬2) موقفه من القدرية: جاء في الإبانة: عن حجاج بن منهال: سمعت حمادا -يعني: ابن سلمة- يقول لرجل يقال له محمد الأغبش صاحب البصري: اتق الله؛ فإنه يقال: إنهم مجوس هذه الأمة يعني القدرية. أخبرني محمد بن الحسين؛ قال: أخبرنا الفريابي؛ قال: سمعت عمرو بن علي يقول: سمعت أبا محمد الغنوي يقول: سألت حماد بن سلمة وحماد بن زيد ويزيد بن زريع وبشر بن المفضل والمُعْتَمِرَ بن سليمان عن رجل زعم أنه يستطيع أن يشاء في ملك الله ما لا يشاء الله؛ فكلهم قال: كافر مشرك، حلال الدم؛ إلا معتمرا، فإنه قال: الأحسن بالسلطان استتابته. (¬3) مفضل بن مهلهل (¬4) (167 هـ) مُفَضَّل بن مُهَلْهَل الإمام الكبير أبو عبد الرحمن السعدي الكوفي. حدث ¬

(¬1) أخرجه من حديث أبي هريرة: أحمد (2/ 258) والبخاري (3/ 36/1145) ومسلم (1/ 521/758) وأبو داود (2/ 77/1315) والترمذي (2/ 307/446) والنسائي في الكبرى (6/ 123/10311) وابن ماجه (1/ 435/1366). (¬2) السير 7/ 451). (¬3) الإبانة (2/ 10/259/ 1870) والشريعة (1/ 435/547). (¬4) الجرح والتعديل (8/ 316) وتهذيب الكمال (28/ 422 - 425) والسير (7/ 400) وميزان الاعتدال (4/ 171) وطبقات ابن سعد (6/ 381) وشذرات الذهب (1/ 263).

موقفه من المبتدعة:

عن منصور بن المعتمر وسفيان الثوري وسليمان الأعمش والحسن بن عبيد الله وبيان بن بشر وعطاء بن السائب. حدث عنه يحيى بن آدم ومحمد ابن صبيح ومحمد بن عيسى الراسبي والحسن بن الربيع البجلي وحسين بن علي الجعفي. قال العجلي: كان ثقة ثبتا صاحب سنة وفضل وفقه، لما مات الثوري مضى أصحابه إلى المفضل فقالوا: تجلس لنا مكان أبي عبد الله؟ فقال: ما رأيت صاحبكم يحمد مجلسه. من أقواله: اعمل بقليل الحديث يزهدك في كثيره. مات سنة سبع وستين ومائة. موقفه من المبتدعة: جاء في الإبانة عنه قال: لو كان صاحب البدعة إذا جلست إليه يحدثك ببدعته، حذرته وفررت منه، ولكنه يحدثك بأحاديث السنة في بدو مجلسه ثم يدخل عليك بدعته، فلعلها تلزم قلبك فمتى تخرج من قلبك؟ (¬1) " التعليق: الله أكبر، ما أكثر هذا، اليوم. فانظر إلى جميع المدارس التي نصبت نفسها وتطوعت مأجورة من إبليس وأعوانه من البشر لمحاربة العقيدة السلفية، لا تدخل إلا من هذا الباب. فهذا علوي مالكي وبقية الرافضة في شمال المغرب، وهذا الكوثري وتلامذته وغيرهم من رؤوس المبتدعة في المشرق والمغرب، كل يحارب بما يستطيع إما بتحقيق بعض كتب الحديث أو المصطلح أو إلقاء دروس في كتب الحديث المشهورة، حتى يغتر الناس بهم أنهم ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/444/ 394).

عبد الرحمن بن شريح (167 هـ)

من أهل الحديث، فإذا اطمأنوا إليهم ألقوهم في حمأة البدعة وزينوها لهم، وأن هذا الأمر له أصل، وليس كل الناس على بصيرة في أمور عقائدهم، فيطبعون البدعة في قلوبهم ويصيرون حماة لهم، ولا تسأل عن أبهاتهم وتسابق أتباعهم لتقبيل أيديهم، والتبرك بهم، وهذا أمر يزينه الشيطان لهم فيدافعون عنه: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}. (¬1) عبد الرحمن بن شريح (¬2) (167 هـ) الإمام الثقة عبد الرحمن بن شُرَيْح بن عبيد الله، أبو شُرَيْح المَعَافِرِي الإسكندارني. حدث عن موسى بن وردان ويزيد بن أبي حبيب وحميد بن هانئ الخولاني وسليمان بن حميد المزني وجماعة. وحدث عنه عبد الله بن المبارك وعبد الله بن وهب وزيد بن الحباب وعبد الله بن صالح وآخرون. وثقه ابن معين والنسائي. وقال يعقوب بن سفيان: كان كخير الرجال. وقال ابن حجر: ثقة فاضل، لم يصب ابن سعد في تضعيفه. وقال أبو سعيد بن يونس: توفي بالإسكندرية سنة سبع وستين ومائة، وكانت له عبادة وفضل. موقفه من المبتدعة: قال هانئ بن المتوكل: حدثني محمد بن عبادة المعافري قال: كنا عند أبي شريح -رحمه الله- فكثرت المسائل، فقال: قد درنت قلوبكم، فقوموا إلى ¬

(¬1) الحج الآية (46). (¬2) المعرفة والتاريخ (2/ 445) وطبقات ابن سعد (7/ 516) وتهذيب الكمال (17/ 167 - 169) وسير أعلام النبلاء (7/ 182 - 184) وتهذيب التهذيب (6/ 193 - 194) والتقريب (1/ 573) وشذرات الذهب (1/ 246).

أبو حمزة السكري (167 هـ)

خالد بن حميد المهري استقلوا قلوبكم، وتعلموا هذه الرغائب والرقائق، فإنها تجدد العبادة، وتورث الزهادة، وتجر الصداقة، وأقلوا المسائل، فإنها في غير ما نزل تقسي القلب، وتورث العداوة. " التعليق: قال الذهبي: صدق والله، فما الظن إذا كانت مسائل الأصول، ولوازم الكلام في معارضة النص، فكيف إذا كانت من تشكيكات المنطق، وقواعد الحكمة، ودين الأوائل؟ فكيف إذا كانت من حقائق الاتحادية، وزندقة السبعينية، ومرق الباطنية؟ فواغربتاه، ويا قلة ناصراه. آمنت بالله، ولا قوة إلا بالله. (¬1) أبو حمزة السُّكَّرِي (¬2) (167 هـ) الإمام الحافظ محمد بن ميمون المروزي، أبو حمزة السكري. روى عن إبراهيم بن ميمون الصائغ وعاصم الأحول وعاصم بن بهدلة وجابر الجعفي والأعمش وجماعة. وروى عنه ابن المبارك ونعيم بن حماد الخزاعي وعتاب بن زياد وأحمد بن أيوب الضبي وسلام بن واقد المروزي. قال عباس الدوري: كان أبو حمزة من الثقات، وكان إذا مرض عنده من قد رحل إليه، ينظر إلى ما يحتاج إليه من الكفاية، فيأمر بالقيام به، ولم ¬

(¬1) السير (7/ 182 - 183). (¬2) طبقات ابن سعد (7/ 373) وتاريخ بغداد (3/ 266 - 269) وتهذيب الكمال (26/ 544 - 549) وسير أعلام النبلاء (7/ 385 - 387) وتهذيب التهذيب (9/ 486 - 487) وشذرات الذهب (1/ 264) والتقريب (2/ 139).

موقفه من المبتدعة:

يكن يبيع السكر، وإنما سمي السكري لحلاوة كلامه. قال يحيى بن أكثم: بلغني عن عبد الله بن المبارك أنه سئل عن الاتباع، فقال: الاتباع ما كان عليه الحسين بن واقد وأبو حمزة السكري. وروى إبراهيم الحربي عن محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، قال: أراد جار لأبي حمزة السكري أن يبيع داره، فقيل له: بكم؟ قال: بألفين ثمن الدار، وبألفين جوار أبي حمزة. فبلغ ذلك أبا حمزة، فوجه إليه بأربعة آلاف، وقال: لاتبع دارك. قال ابن حجر: ثقة فاضل. توفي رحمه الله سنة سبع وستين ومائة، وقيل التي بعدها. موقفه من المبتدعة: قال أبو حمزة: تدرون ما الأثر؟ الأثر: أفتي بالشيء، فيقال لي يوم القيامة: بما أفتيت كذا وكذا؟ فأقول: أخبرني الأعمش، فيؤتى بالأعمش، فيقال: حدثته بهذا؟ فيحيل على إبراهيم، ويحيل إبراهيم علىعلقمة، حتى ينتهي إلى منتهاه. (¬1) إبراهيم بن طهمان (¬2) (168 هـ) إبراهيم بن طَهْمَان بن شُعبة الخراساني أبو سعيد الهروي نزيل نيسابور ¬

(¬1) الفقيه والمتفقه (1/ 382/389). (¬2) تهذيب الكمال (2/ 108 - 115) ومشاهير علماء الأمصار (199) والسير (7/ 378 - 385) وتاريخ بغداد (6/ 105 - 111) والفهرست لابن النديم (319) وتذكرة الحفاظ (1/ 213) والوافي بالوفيات (6/ 23 - 24) وميزان الاعتدال (1/ 38) والعقد الثمين (3/ 215 - 216) وشذرات الذهب (1/ 257).

موقفه من الجهمية:

ثم حرم الله تعالى. سمع الأعمش وسليمان التيمي وحسين بن ذكوان المعلم وحميد الطويل وطائفة. سمع منه عبد الله بن المبارك وصفوان بن سليم وحفص ابن عبد الله السلمي وعبد الملك بن عمرو العقدي ومعن بن عيسى وعبد الرحمن بن مهدي ووكيع بن الجراح وآخرون. تُكلم فيه للإرجاء، وكان من ثقات الأئمة وكان شديدا على الجهمية. قال يحيى بن أكثم: كان إبراهيم من أنبل الناس بخراسان والعراق والحجاز، وأوثقهم وأوسعهم علما. مات سنة ثمان وستين ومائة. موقفه من الجهمية: - روى الخطيب في تاريخه بالسند إلى عبد الله بن أبي داود السجستاني قال: سمعت أبي يقول إبراهيم بن طهمان ثقة، وكان من أهل سرخس، فخرج يريد الحج فقدم نيسابور فوجدهم على قول جهم، فقال الإقامة على هؤلاء أفضل من الحج، فأقام فنقلهم من قول جهم إلى الإرجاء. (¬1) قلت: وليس الإرجاء المذكور هنا هو الإرجاء المعروف الذي أجمع السلف على أنه بدعة، ولكنه إرجاء من نوع آخر ومعناه كما جاء تفسيره عن أبي الصلت، كما ذكر الخطيب في تاريخه: لم يكن إرجاؤهم هذا المذهب الخبيث، أن الإيمان قول بلا عمل، وأن ترك العمل لا يضر بالإيمان، بل كان إرجاؤهم أنهم كانوا يرجون لأهل الكبائر الغفران، ردا على الخوارج وغيرهم الذين يكفرون الناس بالذنوب، فكانوا يرجون ولا يكفرون بالذنوب -ونحن ¬

(¬1) تاريخ بغداد (6/ 107) والسير (7/ 380).

خارجة بن مصعب (168 هـ)

كذلك- سمعت وكيع بن الجراح يقول سمعت سفيان الثوري في آخر أمره يقول: نحن نرجو لجميع أهل الذنوب والكبائر الذين يدينون ديننا ويصلون صلاتنا، وإن عملوا أي عمل. (¬1) - وجاء في السير عن حماد بن قيراط: سمعت إبراهيم بن طهمان يقول: الجهمية والقدرية كفار. (¬2) - وجاء في تاريخ الخطيب: وكان شديدا على الجهمية. (¬3) - وفي الإبانة: عن حفص بن عبد الله قال: قال إبراهيم بن طهمان: حدثنا من لا يتهم غير واحد أن جهما رجع عن قوله ونزع عنه وتاب إلى الله منه، فما ذكرته ولا ذكر عندي، إلا دعوت الله عليه، ما أعظم ما أورث أهل القبلة من منطقه هذا العظيم. (¬4) خارجة بن مصعب (¬5) (168 هـ) خَارِجَة بن مُصْعَب بن خارجة الإمام شيخ خراسان أبو الحجاج الضُّبَعِي السَّرْخَسِي. روى عن السختياني وبكير بن عبد الله بن الأشج ويحيى ابن سعيد ويونس بن عبيد وعاصم الأحول وسليمان الأعمش ومسعر بن ¬

(¬1) تاريخ بغداد (6/ 109). (¬2) السير (7/ 381) والسنة لعبد الله (10) وأصول الاعتقاد (4/ 715/1172) والإبانة (2/ 13/100/ 339). (¬3) تاريخ بغداد (6/ 109) والسير (7/ 381). (¬4) الإبانة (2/ 13/91/ 320) والسنة للخلال (5/ 85) والفتاوى الكبرى (5/ 42). (¬5) طبقات ابن سعد (7/ 371) والجرح والتعديل (3/ 375 - 376) والكامل لابن عدي (3/ 922 - 927) وتهذيب الكمال (8/ 16 - 22) وميزان الاعتدال (1/ 625 - 626) والسير (7/ 326 - 328) وشذرات الذهب (1/ 265).

موقفه من الجهمية:

كدام وأبي حنيفة ومالك بن أنس وطائفة. روى عنه عبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن المبارك ووكيع بن الجراح ونعيم بن حماد الخزاعي ويحيى بن يحيى النيسابوري وسفيان الثوري وآخرون. تكلم فيه أهل العلم، فترك حديثه. توفي سنة ثمان وستين ومائة. موقفه من الجهمية: - قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثني محمد بن إسحاق حدثنا علي بن الحسن بن شقيق سمعت خارجة يقول: كفرت الجهمية في غير موضع من كتاب الله قولهم: إن الجنة تفنى وقال الله: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} (¬1) فمن قال إنها تنفد فقد كفر وقال: {أُكُلُهَا دائمٌ وَظِلُّهَا} (¬2) فمن قال: لا يدوم فقد كفر، وقال: {لا مَقْطُوعَةٍ ولا مَمْنُوعَةٍ} (¬3) فمن قال إنها تنقطع فقد كفر. وقال: {عَطَاءً غير مجذوذ) (¬4) فمن قال إنه منقطع فقد كفر. (¬5) - وجاء في السنة بالسند إلى أحمد بن سعيد أبي جعفر الدارمي، سمعت أبي سمعت خارجة يقول: الجهمية كفار بَلِّغوا نساءهم أنهن طوالق، وأنهن لا ¬

(¬1) ص الآية (54). (¬2) الرعد الآية (35). (¬3) الواقعة الآية (33). (¬4) هود الآية (108). (¬5) السنة لعبد الله (20) والإبانة (2/ 13/96 - 97/ 330) والسنة للخلال (5/ 86).

يحللن لأزواجهن، لا تعودوا مرضاهم، ولا تشهدوا جنائزهم ثم تلا: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} إلى قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (¬1). (¬2) - جاء في الإبانة: عن عبد الصمد بن حسان قال: قال خارجة بن مصعب: إذا صليت خلف الإمام وبجنبك جهمي، فأعد الصلاة. (¬3) قال ابن بطة عقبه: معنى قول خارجة رحمه الله في الجهمي يصلي بجنب الرجل يعيد، يريد بذلك أن من صلى خلف إمام وحده وإلى جانبه جهمي، أو صلى خلف الصفوف وحده وإلى جانبه جهمي أنه يعيد، وذلك أن مذهب جماعة من الفقهاء أن من صلى خلف الصف وحده أو قام خلف إمام وحده، أعاد الصلاة، فكأن خارجة أراد أنه من صلى خلف الصف هو وجهمي، فكأنما صلى خلف الصف وحده، لأن الجهمي ليس هو مسلما ولا في صلاة، فالقائم إلى جنبه كالقائم وحده، فأما الجهمي إذا قام في صف فيه جماعة هو كأحدهم، فصلاة الجماعة جائزة. ¬

(¬1) طه الآيات (1 - 5). (¬2) السنة لعبد الله (11) والإبانة (2/ 13/98/ 335) واجتماع الجيوش الإسلامية (213). (¬3) الإبانة (2/ 13/121 - 122/ 388).

عبيد الله بن الحسن العنبري (168 هـ)

عبيد الله بن الحسن العَنْبَرِي (¬1) (168 هـ) عبيد الله بن الحسن بن الحصين العنبري التميمي قاضي البصرة. يروي عن حميد الطويل وداود بن أبي هند وخالد الحذاء وغيرهم. روى عنه عبد الرحمن بن مهدي وأهل بلده، ومعاذ بن معاذ القاضي وخالد بن الحارث الهجيمي وغيرهم. قدم بغداد أيام المهدي، ولي قضاء البصرة بعد سوار بن عبد الله وكان محمودا ثقة عاقلا من الرجال. قال الوثيق بن يوسف: ما رأيت رجلا قط أعقل من عبيد الله بن الحسن، سئل عن مسألة وهو في حضور جنازة فأخطأ فيها فقيل له: الحكم فيها كذا وكذا فأطرق ساعة ثم قال: إذا أرجع وأنا صاغر. لأن أكون ذنبا في الحق أحب إلي من أن أكون رأسا في الباطل. مات في ذي القعدة سنة ثمان وستين ومائة. موقفه من القدرية: جاء في أصول الاعتقاد عن إدريس القصير عن أبيه قال: شهدت عبيد الله بن الحسن العنبري واختصم إليه رجلان فقال أحدهما: اشتريت منه عبدا على أنه ليس به داء ولا علة ولا غليلة، بيع المسلم للمسلم، وإنه قدري. فقال عبيد الله بن الحسن له: إنما اشتريت مسلما ولم تشتر كافرا فرد عليه. (¬2) ¬

(¬1) الأنساب (4/ 247) وتاريخ بغداد (10/ 306 - 310) والبداية والنهاية (10/ 155) وتهذيب الكمال (19/ 23 - 28) طبقات ابن سعد (7/ 285) وتهذيب التهذيب (7/ 7 - 8). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 810 - 811/ 1362).

موقف السلف من فليح بن سليمان لوقوعه في الصحابة (168 هـ)

موقف السلف من فليح بن سليمان لوقوعه في الصحابة (168 هـ) جاء في السير: وقال الساجي: أصعب ما رمي به يعني فليح، ما ذكر عن ابن معين، عن أبي كامل، قال: كنا نتهمه، لأنه كان يتناول من الصحابة. (¬1) نافع بن عمر (¬2) (169 هـ) نافع بن عمر بن عبد الله بن جميل الحافظ الإمام الثبت الجمحي. روى عن ابن أبي مليكة وأمية بن صفوان وبشر بن عاصم الثقفي وغيرهم. روى عنه ابن المبارك ويحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي وآخرون. تكاثروا عليه لإتقانه وعلو سنده. قال ابن مهدي: كان من أثبت الناس. قال أحمد بن حنبل: ثبت ثبت، صحيح الحديث. مات بمكة سنة تسع وستين ومائة. موقفه من المرجئة: عن يحيى بن سليم أنه سأل نافع بن عمر الجمحي عن الإيمان، فقال: قول وعمل. (¬3) ¬

(¬1) السير (7/ 354). (¬2) السير (7/ 433 - 434) وطبقات ابن سعد (5/ 494) وتهذيب الكمال (29/ 287 - 290) وميزان الاعتدال (4/ 241) وتهذيب التهذيب (10/ 409) وشذرات الذهب (1/ 270). (¬3) الشريعة (1/ 288/282) وأصول الاعتقاد (4/ 930/1584).

أمير المؤمنين المهدي العباسي (169 هـ)

أمير المؤمنين المهدي العباسي (¬1) (169 هـ) محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الخليفة أبو عبد الله الهاشمي العباسي. كان أسمر مليحا مضطرب الخلق على عينه بياض جعد الشعر قيل: أنه أثني عليه بالشجاعة فقال: لم لا أكون شجاعا؟ وما خفت أحدا إلا الله تعالى. قال الذهبي: كان جوادا ممداحا، معطاء، محببا إلى الرعية، قصابا في الزنادقة باحثا عنهم، مليح الشكل. وكان غارقا كنحوه من الملوك في بحر اللذات، واللهو والصيد ولكنه خائف من الله، معاد لأولي الضلالة حنق عليهم. تملك عشر سنين وشهرا ونصفا وعاش ثلاثا وأربعين سنة توفي سنة تسع وستين ومائة. موقفه من المبتدعة: - ذكر ابن أبي الدنيا أن المهدي كتب إلى الأمصار يزجر أن يتكلم أحد من أهل الأهواء في شيء منها. (¬2) - وعن يوسف الصائغ قال: رفع أهل البدع رؤوسهم، وأخذوا في الجدل، فأمر بمنع الناس من الكلام، وأن لا يخاض فيه. (¬3) موقفه من المشركين: - قال الذهبي: كان جوادا ممداحا معطاء، محببا إلى الرعية، قصابا في ¬

(¬1) تاريخ بغداد (5/ 391 - 401) والوافي بالوفيات (3/ 300 - 302) والسير (7/ 400 - 403) والبداية والنهاية (10/ 155 - 161) وفوات الوفيات (3/ 400 - 402) وشذرات الذهب (1/ 266 - 269). (¬2) السير (7/ 402). (¬3) السير (7/ 402).

الزنادقة، باحثا عنهم، مليح الشكل. (¬1) - جاء في البداية والنهاية في حوادث سنة ثلاث وستين ومائة: وفيها حصر المقنع الزنديق الذي كان قد نبغ بخراسان وقال بالتناسخ واتبعه على جهالته وضلالته خلق من الطغام وسفهاء الأنام والسفلة من العوام، فلما كان في هذا العام لجأ إلى قلعة كش، فحاصره سعيد الحريثى فألح عليه في الحصار، فلما أحس بالغلبة تحسى سما وسم نساءه، فماتوا جميعا عليهم لعائن الله، ودخل الجيش الإسلامي قلعته، فاحتزوا رأسه وبعثوا به إلى المهدى، وكان المهدي بحلب. قال ابن خلكان: كان اسم المقنع عطاء وقيل حكيم والأول أشهر وكان أولا قصارا ثم ادعى الربوبية مع أنه كان أعور قبيح المنظر، وكان يتخذ له وجها من ذهب، وتابعه على جهالته خلق كثير، وكان يري الناس قمرا يرى من مسيرة شهرين ثم يغيب، فعظم اعتقادهم له ومنعوه بالسلاح، وكان يزعم -لعنه الله وتعالى عما يقولون علوا كبيرا- أن الله ظهر في صورة آدم ولهذا سجدت له الملائكة ثم في نوح ثم في الأنبياء واحدا واحدا ثم تحول إلى أبي مسلم الخراساني ثم تحول إليه ولما حاصره المسلمون في قلعته التي كان جددها بناحية كش مما وراء النهر ويقال لها سنام تحسى هو ونساؤه سما فماتوا، واستحوذ المسلمون على حواصله وأمواله. (¬2) - وفيها في حوادث سنة سبع وستين ومائة: تتبع المهدي جماعة من الزنادقة في سائر الآفاق، فاستحضرهم وقتلهم صبرا بين يديه، وكان المتولي ¬

(¬1) السير (7/ 401). (¬2) البداية والنهاية (10/ 149).

أمر الزنادقة عمر الكلواذي. (¬1) - وجاء في السير: وكان ابن المقفع يتهم بالزندقة وهو الذي عرب كليلة ودمنة. وروي عن المهدي قال: ما وجدت كتاب زندقة إلا وأصله ابن المقفع. (¬2) - جاء في تاريخ الإسلام في ترجمة صالح بن عبد القدوس: قتله المهدي على الزندقة، فيروى عن قريش الختلي: أن المهدي دعاني يوما فذكر أنه أمره بالمسير على البريد إلى الشام، وكتب له عهدا أنه أمين على كل بلد يدخله، حتى يخرج منه، وأمره إذا دخل دمشق أن يأتي إلى حانوت عطار أو حانوت قطان، فيلقى رجلا يكثر الجلوس هناك، وهو شيخ فاضل ناصل الخضاب، يقال له صالح بن عبد القدوس، فسار وفعل ودخل الحانوت، فإذا بصالح فيه، فأخذه وقيده، فحمله علىالبريد إلى العراق. فقال المهدي: أنت فلان؟ قال: نعم، أنا صالح. قال: فزنديق؟ قال: لا، ولكن شاعر أفسق في شعري، قال: اقرأه، فالتقوى سكينة، قال: ثم قرأ كتاب الزندقة فقال: أتوب إلى الله فاستبقني، وأنشده لنفسه: ما يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يوارى في ثرى رمسه فقال المهدي: يا قريش، امض به إلى المطبق، قال: ففعلت، فلما قربت من الخروج أمرني فرددته، فقال له: ألست القائل: والشيخ لا يترك أخلاقه؟ ¬

(¬1) البداية والنهاية (10/ 153). (¬2) السير (6/ 209).

موقفه من الرافضة:

قال: بلى، قال: لا تدع أخلاقك حتى تموت، خذوه. فضربوه بأسيافهم، ثم وثب المهدي فضربه نصفين. (¬1) " التعليق: عرف المهدي بهذه المنقبة العظيمة وجعلها سنة لمن بعده، وذكرى خالدة لمن ذكر وقرأ سيرته. لقد أدرك خليفة المسلمين خطر الزندقة فأعطاها همته، ووضع لها ديوانا وأوصى لابنه عند وفاته بهذه المهمة فنصب موسى ابنه الهادي أعوادا وجذوعا خاصة لصلب الزنادقة فجزى الله الجميع خيرا عن الإسلام والمسلمين. موقفه من الرافضة: قال المهدي: ما فتشت رافضيا إلا وجدته زنديقا. (¬2) موقفه من القدرية: جاء في أصول الاعتقاد قال: سمعت الحسين الأخباري يقول: قرأت في أخبار إبراهيم بن المهدي أنه حدث عن ذبية المدني وكان استصحبه لما ولي دمشق أنه كان سبب وروده العراق: أن المهدي أشخص من المدينة ثلاثين شيخا ممن تكلم في القدر واشتهر به. قال: فكنت فيهم فلما مثلنا بين يديه ضربهم بالسياط أجمعين وأخرني. فلما قدمت قال: أراك صبيا، ألم يكن بالمدينة من هو أسن منك تتم به العدة؟ قلت: جماعة يا أمير المؤمنين. فقال: إذن إنما قربت إليهم لأنك تدين بدينهم، ثم دعا بالسياط فلما ضربت سوطا ¬

(¬1) تاريخ الإسلام (حوادث 161 - 170 ص 269 - 270) وتاريخ بغداد (9/ 303). (¬2) أصول الاعتقاد (7/ 1343/2395).

فقلت: يا أمير المؤمنين نشدتك الله إلا أدنيتني إليك، أكلمك ولك رأيك. فقدمني فقلت: أنا رجل من أهل المدينة قطن أبي فيها وهو من وادي القرى، وكان تاجرا ذا مال فعلمني القرآن ثم أمرني أن أغدو إلى حلقة ابن أبي ذئب وأروح إلى ربيعة الرأي، فعن لي شيخ لم أكن رأيته قط. فقال لي يا بني: قد بلغت من العلم وما أراك استبصرت في دينك فقلت: وما ذاك يا عم؟ فقال: هل رأيت مقعدا قط؟ قلت: نعم، قال: فلو رأيت رجلا كلفه صعود نخلة ما كنت تقول؟ قلت: جاهل. قال: فلو ضربه على قصوره عن صعودها؟ قلت: ظالم. فقال يا بني هذا حكمك على إنسان فكيف بالله سبحانه في عدله، أتقول إنه يكلف عباده ما ليس في وسعهم ثم يعاقبهم عليه مع قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬1)؟ فتعدني يا أمير المؤمنين بالمقعد؟ قال ذبية: فضحك المهدي أمير المؤمنين ثم أمر فطرح ثيابي علي، فلما لبست أدناني ثم قال: أجبني وأنت آمن. لو أنك في سفر فرأيت عليلا في برية فاستطعم رجلا فلم يطعمه وتركه ومضى ما كنت قائلا؟ قلت: ظالم، قال: فهل علمت أن أحدا من خلق الله كان في برية عليلا عادما للطعام والشراب؟ قلت: كثيرا، قال: فإن دعا ربه أن ينجيه هل كان الله سبحانه قادرا على أن يطعمه ويسقيه؟ قلت: اللهم نعم، قال: فهل تقول إن دعا ربه أن يطعمه ويرويه فلم يجب دعاءه ومات إن الله ظلمه؟ قلت: لا. قال: فكيف تقول لمن أقعدك مثل هذا؟ قال: لأن الأشياء كلها لله تعالى لا عليه ¬

(¬1) البقرة الآية (286).

والتجوير يجب على من الأشياء عليه لا له، يا ذبية إن الإيمان إذا سكن القلب قبل الاحتجاج لم يخرجه الاحتجاج، وإذا سكن الحجاج قبل الإيمان كان متنقلا متى حاجه من هو أحج منه. فقلت يا أمير المؤمنين: قد والله ثلج بحجاجك صدري وأنا تائب. فأمر لي بجائزة وكسوة وخلى سبيلي. (¬1) " التعليق: هذا الذي فعله أمير المؤمنين المهدي مع هذا الصبي في بيانه لحقيقة القدر، ينفي مزاعم كثير من الكتاب الذين يتبجحون بأن هؤلاء الأمراء كانوا يقتلون على أمور سياسية لا صلة لها بالأمور العقائدية، وقد نبهنا على هذا فيما مضى، والحمد لله رب العالمين. - وجاء في أصول الاعتقاد بالسند إلى أحمد بن علي الأبار قال: سألت مصعبا الزبيري عن ابن أبي ذئب وقلت له: حدثونا عن أبي عاصم أنه قال: كان ابن أبي ذئب قدريا. قال: معاذ الله إنما كان زمن المهدي أخذوا القدرية وضربوهم ونفوهم فجاء قوم من أهل القدر فجلسوا إليه واعتصموا به من الضرب. فقال قوم: إنما جلسوا إليه لأنه كان يرى القدر، فقد حدثني من أثق به أنه ما تكلم فيه قط. (¬2) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 796 - 799/ 1332). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 800 - 801/ 1336).

موقف السلف من الحسن بن صالح بن حي (169 هـ)

موقف السلف من الحسن بن صالح بن حي (169 هـ) قال الذهبي: هو من أئمة الإسلام، لولا تلبسه ببدعة. (¬1) قال أبو صالح الفراء: حكيت ليوسف بن أسباط عن وكيع شيئا من أمر الفتن، فقال: ذاك يشبه أستاذه -يعني الحسن بن حي- فقلت ليوسف: أما تخاف أن تكون هذه غيبة؟ فقال: لم يا أحمق؟ أنا خير لهؤلاء من آبائهم وأمهاتهم، أنا أنهى الناس أن يعملوا بما أحدثوا فتتبعهم أوزارهم، ومن أطراهم، كان أضر عليهم. (¬2) جاء في السير: قال يحيى القطان: كان سفيان الثوري سيء الرأي في الحسن بن حي. وقال زكريا الساجي، عن أحمد بن محمد البغدادي: قال المزي شيخنا -أظنه أبا بكر الأثرم-: سمعت أبا نعيم يقول: دخل الثوري يوم الجمعة من الباب القبلي، فإذا الحسن بن صالح يصلي، فقال: نعوذ بالله من خشوع النفاق. وأخذ نعليه، فتحول إلى سارية أخرى. وقال العلاء بن عمرو الحنفي، عن زافر بن سليمان: أردت الحج، فقال لي الحسن بن صالح: إن لقيت أبا عبد الله سفيان الثوري بمكة، فأقره مني السلام، وقل: أنا على الأمر الأول. فلقيت سفيان في الطواف، فقلت: إن أخاك الحسن بن صالح يقرأ عليك السلام، ويقول: أنا على الأمر الأول. قال: فما بال الجمعة؟ ¬

(¬1) السير (7/ 361). (¬2) السير (7/ 364).

قال الذهبي: كان يترك الجمعة ولا يراها خلف أئمة الجور بزعمه. (¬1) وفيها عن أبي عبيدة حدثنا عبد الله بن محمد بن سالم، سمعت رشيدا الخباز -وكان عبدا صالحا- وقد رآه أبو عبيدة، قال: خرجت مع مولاي إلى مكة، فجاورنا، فلما كان ذات يوم، جاء إنسان فقال لسفيان: يا أبا عبد الله، قدم اليوم حسن وعلي ابنا صالح. قال: وأين هما؟ قال: في الطواف. قال: إذا مرا، فأرنيهما. فمر أحدهما، فقلت: هذا علي، ومر الآخر فقلت: هذا حسن. فقال: أما الأول، فصاحب آخرة، وأما الآخر، فصاحب سيف، لا يملأ جوفه شيء. قال: فيقوم إليه رجل ممن كان معنا، فأخبر عليا، ثم مضى مولاي إلى علي يسلم عليه، وجاء سفيان يسلم عليه، فقال له علي: يا أبا عبد الله، ما حملك على أن ذكرت أخي أمس بما ذكرته؟ ما يؤمنك أن تبلغ هذه الكلمة ابن أبي جعفر، فيبعث إليه، فيقتله؟ قال: فنظرت إلى سفيان وهو يقول: أستغفر الله. وجادتا عيناه. (¬2) وفيها: عن أبي سعيد الأشج: سمعت ابن إدريس، وذكر له صعق الحسن ابن صالح، فقال: تبسم سفيان أحب إلينا من صعق الحسن. (¬3) وفيها: وقال الخريبي: شهدت حسن بن صالح وأخاه وشريك معهم، فاجتمعوا إليه إلى الصباح في السيف. بشر بن الحارث، وذكر له أبو بكر عبد الرحمن بن عفان الصوفي، فقال: ¬

(¬1) السير (7/ 362 - 363). (¬2) السير (7/ 366). (¬3) سير أعلام النبلاء (7/ 364).

سمعت حفص بن غياث يقول: هؤلاء يرون السيف، أحسبه عنى ابن حي وأصحابه. ثم قال بشر: هات من لم ير السيف من أهل زمانك كلهم إلا قليل، ولا يرون الصلاة أيضا. ثم قال: كان زائدة يجلس في المسجد يحذر الناس من ابن حي وأصحابه. قال: وكانوا يرون السيف. (¬1) وفيها: قال أبو أسامة: أتيت حسن بن صالح، فجعل أصحابه يقولون: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله ... ، فقلت: مالي، كفرت؟ قال: لا، ولكن ينقمون عليك صحبة مالك بن مغول، وزائدة. قلت: وأنت تقول هذا؟ لا جلست إليك أبدا. (¬2) وفيها عن أبي سعيد الأشج سمعت ابن إدريس: ما أنا وابن حي؟ لا يرى جمعة ولا جهادا. (¬3) وفيها عن علي بن الجعد قال: كنت مع زائدة في طريق مكة، فقال لنا يوما: أيكم يحفظ عن مغيرة، عن إبراهيم: أنه توضا بكوز الحُب مرتين؟ قال: فلو قلت: حدثنا شريك أو سفيان، كنت قد استرحت، ولكن قلت: حدثنا الحسن بن صالح، عن مغيرة. قال: والحسن بن صالح أيضا؟ لا حدثتك بحديث أبدا. أبو أسامة: سمعت زائدة يقول: ابن حي قد استصلب منذ زمان، وما نجد أحدا يصلبه. ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (7/ 363 - 364). (¬2) سير أعلام النبلاء (7/ 364 - 365). (¬3) السير (7/ 363).

موسى بن محمد (الهادي) (170 هـ)

وقال خلف بن تميم: كان زائدة يستتيب من أتى حسن بن صالح. وقال أحمد بن يونس اليربوعي: لو لم يولد الحسن بن صالح كان خيرا له؛ يترك الجمعة، ويرى السيف، جالسته عشرين سنة، ما رأيته رفع رأسه إلى السماء، ولا ذكر الدنيا. (¬1) عن المروذي قال: وسمعت أبا عبد الله -وذكر الحسن بن حي- فقال: لا نرضى مذهبه، وسفيان أحب إلينا. وقد كان ابن حي قعد عن الجمعة، وكان يرى السيف. وقال: قد فتن الناس بسكوته وورعه. وقال: لقد ذكر رجلا فلطم فم نفسه، وقال: ما أردت أن أذكره. (¬2) موسى بن محمد (الهادي) (¬3) (170 هـ) موسى بن المهدي محمد بن المنصور عبد الله أبو محمد الهاشمي العباسي. ولي عهد أبيه فلما مات أبوه تسلم الخلافة. قال فيه الذهبي: وكان يشرب المسكر وفيه ظلم وشهامة ولعب وربما ركب حمارا فارها وكان شجاعا فصيحا لسنا أديبا مهيبا، عظيم السطوة. كانت خلافته سنة وشهرا. توفي سنة سبعين ومائة. ¬

(¬1) السير (7/ 365). (¬2) طبقات الحنابلة (1/ 58). (¬3) تاريخ بغداد (13/ 21 - 25) والبداية والنهاية (10/ 163 - 164) والكامل في التاريخ (6/ 96 - 106) والسير (7/ 441 - 444) وتاريخ الطبري (8/ 205 - 229) وشذرات الذهب (1/ 271 - 274).

موقفه من المشركين:

موقفه من المشركين: - جاء في السير: وكان كوالده في استئصال الزنادقة وتتبعهم، فقتل عدة، منهم: يعقوب بن الفضل بن عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم. (¬1) - وجاء في الكامل لابن الأثير: وفيها أي سنة تسع وستين ومائة: اشتد طلب المهدي للزنادقة فقتل منهم جماعة منهم علي بن يقطين وقتل أيضا يعقوب بن الفضل بن عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان سبب قتله أنه أتي به إلى المهدي، فأقر بالزندقة وقال: لو كان ما تقول حقا لكنت حقيقا أن تتعصب لمحمد ولولا محمد من كنت؟ أما والله لولا أني جعلت على نفسي أن لا أقتل هاشميا لقتلتك. ثم قال للهادي: أقسمت عليك إن وليت هذا الأمر لتقتلنه ثم حبسه فلما مات المهدي قتله الهادي وكذلك أيضا كان عهد إليه بقتل ولد لداوود بن علي بن عبد الله بن عباس، كان زنديقا فمات في الحبس قبل المهدي. ولما قتل يعقوب أدخل أولاده على الهادي فأقرت ابنته فاطمة أنها حبلى من أبيها فخوفت فماتت من الفزع. (¬2) ¬

(¬1) السير (7/ 443). (¬2) الكامل (6/ 89).

سلام بن سليمان (171 هـ)

سلام بن سليمان (¬1) (171 هـ) سَلاَّم بن سُلَيْمَان المُزَنِي أبو المنذر القارئ النحوي الكوفي يقال: إنه مولى معقل بن يسار المزني وأصله من البصرة. روى عن أيوب السختياني وثابت البناني وداود بن أبي هند وعاصم بن أبي النجود ومطر الوراق ويونس ابن عبيد. روى عنه سفيان بن عيينة وزيد بن الحباب وعفان بن مسلم وداود ابن إبراهيم العقيلي وحفص بن عمر وإبراهيم بن الحسن العلاف. قال زكريا الساجي: سلام أبو المنذر صدوق، كان صاحب سنة، وكان يؤم بجامع البصرة. وقال غيره: صاحب سنة شديد الإنكار. وقال ابن الجزري: ثقة جليل ومقرئ كبير. توفي سنة إحدى وسبعين ومائة. موقفه من الجهمية: عن عفان قال: شهدت سلام أبا المنذر -قارئ أهل البصرة- وقد جاءه رجل والمصحف في حجره، فقال: ما هذا يا أبا المنذر؟ قال: قم يا زنديق، هذا كلام الله غير مخلوق. (¬2) موقفه من القدرية: - جاء في السنة لعبد الله قال: حدثت عن حوثرة بن أشرس قال: سمعت سلاما أبا المنذر غير مرة وهو يقول: سلوهم عن العلم؟ هل علم أو لم يعلم، فإن قالوا: قد علم فليس في أيديهم شيء، وإن قالوا لم يعلم فقد حلت ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (7/ 282) وتهذيب الكمال (12/ 288 - 291) وتقريب التهذيب (1/ 342) وتاريخ بغداد (9/ 197 - 198) وشذرات الذهب (1/ 279) وغاية النهاية (1/ 309) ومعرفة القراء الكبار (1/ 132 - 133). (¬2) الإبانة (2/ 12/55 - 56/ 253).

زهير بن معاوية (173 هـ)

دماؤهم. (¬1) - وجاء في تهذيب الكمال عن أبي داود قال: سلام أبو المنذر أستاذ يعقوب لم يكن أحد أشد على القدرية منه. (¬2) زهير بن معاوية (¬3) (173 هـ) زُهَيْر بن معاوية بن حُدَيْج بن الرُّحَيْل أبو خَيْثَمَة الحافظ، الإمام المجود، محدث الجزيرة. كان من أوعية العلم صاحب حفظ وإتقان. ولد سنة خمس وتسعين. حدث عن أبي إسحاق السبيعي وزبيد بن الحارث اليامي وسماك بن حرب وغيرهم. حدث عنه ابن المبارك وابن مهدي وأبو داود الطيالسي وآخرون. قال معاذ بن معاذ: إذا سمعت الحديث من زهير لا أبالي أن لا أسمعه من سفيان الثوري. قال أحمد: زهير بن معاوية من معادن العلم. وقال أبو حاتم الرازي: زهير أحب إلينا من إسرائيل في كل شيء إلا في حديث جده أبي إسحاق. قيل لأبي حاتم فزائدة وزهير؟ فقال: زهير أتقى وهو صاحب سنة غير أنه تأخر سماعه من أبي إسحاق. كان زهير أحد الحفاظ الأعلام حتى بالغ فيه شعيب بن حرب فقال: كان أحفظ من عشرين شعبة. توفي زهير سنة ثلاث وسبعين ومائة وكان من أبناء الثمانين. ¬

(¬1) السنة (120). (¬2) تهذيب الكمال (12/ 290). (¬3) السير (8/ 181 - 187) وطبقات ابن سعد (6/ 376 - 377) وتهذيب الكمال (9/ 420 - 425) وميزان الاعتدال (2/ 86) وتهذيب التهذيب (3/ 351 - 353) الشذرات (1/ 282).

موقفه من الرافضة:

موقفه من الرافضة: قال زهير بن معاوية: أبو بكر وعمر وعثمان لولا أن نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - لتمنيت أن يحشرني الله مع عمر. (¬1) نوح بن أبي مريم (¬2) (173 هـ) نوح بن أبي مريم، أبو عِصْمَة المروزي، عالم أهل مرو. أخذ الفقه عن أبي حنيفة وابن أبي ليلى، والحديث عن حجاج بن أرطأة، والتفسير عن الكلبي ومقاتل، والمغازي عن ابن إسحاق. روى عنه نعيم بن حماد، وسويد ابن نصر. ولي قضاء مرو في خلافة المنصور. قال الحافظ: كذبوه في الحديث. توفي سنة ثلاث وسبعين ومائة. موقفه من الجهمية: قال أحمد عنه: كان شديدا على الجهمية والرد عليهم. تعلم منه نعيم ابن حماد الرد على الجهمية. (¬3) عبد الرحمن بن أبي الزِّنَاد (¬4) (174 هـ) الإمام، الفقيه، أبو محمد عبد الرحمن بن أبي الزناد، المدني. سمع من أبيه، ¬

(¬1) السنة للخلال (1/ 400 - 401). (¬2) تهذيب الكمال (30/ 56) وميزان الاعتدال (4/ 279) والجرح والتعديل (8/ 484) وتهذيب التهذيب (10/ 486 - 489) وتاريخ الإسلام (حوادث 171 - 180/ص.386 - 388) والتقريب (7236). (¬3) تهذيب الكمال (30/ 59). (¬4) السير (8/ 167) وتهذيب الكمال (17/ 95) وتهذيب التهذيب (6/ 170) وميزان الاعتدال (2/ 575).

موقفه من المبتدعة:

وسهيل بن أبي صالح، وهشام بن عروة. وحدث عنه ابن جريج، وهو من شيوخه، وسعيد بن منصور، وأحمد بن يونس. قال ابن سعد: كان فقيها مفتيا. قال الداني: أخذ القراءة عرضا عن أبي جعفر، وروى الحروف عن نافع. توفي سنة أربع وسبعين ومائة. موقفه من المبتدعة: عن عبد الرحمن بن أبي الزناد قال: أدركنا أهل الفضل والفقه من خيار أولية الناس يعيبون أهل الجدل والتنقيب والأخذ بالرأي أشد العيب، وينهوننا عن لقائهم ومجالستهم، وحذرونا مقاربتهم أشد التحذير، ويخبرونا أنهم على ضلال وتحريف لتأويل كتاب الله وسنن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما توفي رسول الله حتى كره المسائل والتنقيب عن الأمور وزجر عن ذلك، وحذره المسلمين في غير موضع حتى كان من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في كراهية ذلك أن قال: "ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين من قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" (¬1). فأي امرئ أكب على التنقيب لم يعقل من هذا. ولم يبلغ الناس يوم قيل لهم هذا القول من الكشف عن الأمور جزءا من مائة جزء مما بلغوا اليوم، فهل هلك أهل الأهواء وخالفوا الحق إلا بأخذهم بالجدل والتفكير في دينهم؟! فهم كل يوم على دين ضلالة وشبهة جديدة، لا يقيمون على دين -وإن أعجبهم- إلا نقلهم الجدل والتفكير إلى دين سواه، ولو لزموا السنن وأمر المسلمين وتركوا ¬

(¬1) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي الزناد عبد الله بن ذكوان سنة (130هـ).

ابن لهيعة (174 هـ)

الجدل لقطعوا عنهم الشك وأخذوا بالأثر الذي حضهم عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) ابن لهيعة (¬2) (174 هـ) عبد الله بن لَهِيعَة بن عُقْبَة بن فُرْعَان أبو عبد الرحمن القاضي الإمام العلامة، محدث ديار مصر مع الليث، ولد سنة خمس أو ست وتسعين وطلب العلم في صباه ولقي الكبار بمصر والحرمين. سمع من الأعرج صاحب أبي هريرة ومن موسى بن وردان وعطاء بن أبي رباح وغيرهم. وروى عنه حفيده أحمد بن عيسى وعمرو بن الحارث والأوزاعي وشعبة والثوري وماتوا قبله والليث بن سعد ومالك وغيرهم. وكان من بحور العلم على لين فيه. قال روح بن صلاح: لقي ابن لهيعة اثنين وسبعين تابعيا. حدث إسحاق بن عيسى أنه لقيه في سنة أربع وستين وأن كتبه احترقت سنة تسع وستين ومائة. قال عنه أحمد بن حنبل: ما كان محدث مصر إلا ابن لهيعة. وقال أحمد ابن صالح: كان ابن لهيعة صحيح الكتاب طلابا للعلم. قال سفيان الثوري: عند ابن لهيعة الأصول وعندنا الفروع. قال الذهبي: ولكن ابن لهيعة تهاون بالإتقان، وروى مناكير فانحط عن رتبة الاحتجاج به عندهم. ومات بمصر يوم الأحد للنصف من شهر ربيع الأول سنة أربع وسبعين ومائة في خلافة هارون. ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/532/ 658). (¬2) السير (8/ 11 - 31) وطبقات ابن سعد (7/ 516 - 517) وتهذيب الكمال (15/ 487 - 503) وتذكرة الحفاظ (1/ 237 - 239) وشذرات الذهب (1/ 283 - 284) وتهذيب التهذيب (5/ 373 - 379).

موقفه من الرافضة:

موقفه من الرافضة: قال سعيد بن أبي مريم: سمعت ابن لهيعة يقول: عمرو بن جابر كان ضعيف العقل، كان يقول: علي في السحاب. كان يجلس معنا فيبصر سحابة فيقول: هذا علي قد مر في السحاب. (¬1) موقفه من الجهمية: عن يحيى بن خلف قال: لقيت ابن لهيعة فقلت: ما تقول فيمن يقول القرآن مخلوق؟ قال: كافر. (¬2) الليث بن سعد (¬3) (175 هـ) اللَّيث بن سعد بن عبد الرحمن الإمام الحافظ شيخ الإسلام وعالم الديار المصرية أبو الحارث الفهمي مولى خالد بن ثابت بن ظاعن. روى عن جعفر ابن ربيعة وبكير بن عبد الله بن الأشج وسعيد بن أبي سعيد المقبري وأبي الزناد وعبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة وطائفة. وعنه عبد الله بن المبارك والقعنبي وعبد الله بن وهب وقتيبة بن سعيد ويحيى بن عبد الله بن بكير وكاتبه أبو صالح وابنه شعيب وآخرون. قال ابن بكير: كان الليث فقيه البدن، عربي اللسان، ¬

(¬1) الميزان (3/ 250). (¬2) أصول الاعتقاد (2/ 275 - 277/ 412) والإبانة (2/ 12/52 - 54/ 251) والميزان (2/ 478). (¬3) طبقات ابن سعد (7/ 517) وتاريخ ابن معين (2/ 501) وتاريخ خليفة (449) ومشاهير علماء الأمصار (191) وحلية الأولياء (7/ 318 - 327) والسير (8/ 136 - 163) وتاريخ بغداد (13/ 3 - 14) وتهذيب الكمال (24/ 255 - 279) ووفيات الأعيان (4/ 127 - 132) وتذكرة الحفاظ (1/ 224 - 226) وميزان الاعتدال (3/ 423) وشذرات الذهب (1/ 285 - 286).

موقفه من المبتدعة:

يحسن القرآن والنحو، ويحفظ الحديث والشعر، حسن المذاكرة. وقال ابن وهب: لولا مالك والليث لضللنا. وقال الشافعي: الليث أتبع للأثر من مالك. عن الليث قال لي الرشيد: ما صلاح بلدكم؟ قلت: بإجراء النيل وبصلاح أميرها، ومن رأس العين يأتي الكدر، فإن صفت العين صفت السواقي. قال: صدقت. توفي سنة خمس وسبعين ومائة. موقفه من المبتدعة: - جاء في تلبيس إبليس عنه قال: لو رأيت صاحب بدعة يمشي على الماء ما قبلته. فقال الشافعي: إنه ما قصر لو رأيته يمشى على الهواء ما قبلته. (¬1) - جاء في السير عن عبد الله بن أحمد بن شبويه: سمعت سعيد بن أبي مريم سمعت ليث بن سعد يقول: بلغت الثمانين وما نازعت صاحب هوى قط. (¬2) " التعليق: قال الذهبي: كانت الأهواء والبدع خاملة في زمن الليث، ومالك، والأوزاعي، والسنن ظاهرة عزيزة. فأما في زمن أحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبي عبيد، فظهرت البدعة، وامتحن أئمة الأثر، ورفع أهل الأهواء رؤوسهم بدخول الدولة معهم، فاحتاج العلماء إلى مجادلتهم بالكتاب والسنة، ثم كثر ذلك، واحتج عليهم العلماء أيضا بالمعقول، فطال الجدال، واشتد النزاع، ¬

(¬1) التلبيس (ص.24). (¬2) السير (8/ 144) وذم الكلام (ص.223).

موقفه من المشركين:

وتولدت الشبه. نسأل الله العافية. (¬1) موقفه من المشركين: قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن حد من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - القتل، وممن قاله مالك والليث وأحمد وإسحاق، وهو مذهب الشافعي. (¬2) موقفه من الرافضة: جاء في السير عن جعفر بن محمد الرسعني: حدثنا عثمان بن صالح، قال: كان أهل مصر ينتقصون عثمان، حتى نشأ فيهم الليث، فحدثهم بفضائله، فكفوا. وكان أهل حمص ينتقصون عليا حتى نشأ فيهم إسماعيل بن عياش، فحدثهم بفضائل علي، فكفوا عن ذلك. (¬3) موقفه من الجهمية: جاء في الإبانة: عن يحيى بن خلف المقرئ بطرطوس قال: وذكر أنه أتى عليه اثنتان وثمانون سنة، وذكر أنه أتى المدينة سنة ست وستين ومئة، فلقي مالك بن أنس وأتاه رجل، فقال: يا أبا عبد الله ما تقول فيمن يقول: القرآن مخلوق؟ فقال: كافر زنديق، اقتلوه. ثم قدمت البصرة، فلقيت الليث بن سعد قال: فقلت له: ما تقول فيمن يقول: القرآن مخلوق؟ فقال: كافر. (¬4) ¬

(¬1) السير (8/ 144). (¬2) الصارم المسلول (9). (¬3) السير (8/ 148) (¬4) الإبانة (2/ 12/52 - 54/ 251) وأصول الاعتقاد (2/ 275 - 277/ 412).

موقفه من القدرية:

موقفه من القدرية: جاء في الإبانة عن ابن وهب: سمعت الليث بن سعد يقول في المكذب في القدر: ما هو بأهل أن يعاد في مرضه، ولا يرغب في شهود جنازته ولا تجاب دعوته. (¬1) أبو عوانة (¬2) (175 هـ) الوَضَّاح بن عبد الله الإمام الحافظ الثبت محدث البصرة أبو عَوَانَة الواسطي البزاز مولى يزيد بن عطاء اليَشْكُرِي. رأى الحسن وابن سيرين. روى عن الأعمش وسماك بن حرب ومحمد بن المنكدر والحكم بن عتيبة وطائفة. وعنه شعبة وابن مهدي ومسدد ووكيع وأبو داود الطيالسي وآخرون. قال حجاج الأعور: قال لي شعبة: الزم أبا عوانة. وقال عبد الرحمن ابن مهدي: أبو عوانة وهشام الدستوائي كسعيد بن أبي عروبة وهمام. وقال ابن حبان: كان من أهل الفضل والنسك ممن عني بالعلم صغيرا، وانتفع به كبيرا. توفي سنة خمس وسبعين ومائة، وقيل سنة ست. موقفه من الجهمية: جاء في السنة: قال عبد الله: حدثني نصر بن علي حدثنا الأصمعي ¬

(¬1) الإبانة (2/ 10/255 - 256/ 1857) والشريعة (1/ 436/550). (¬2) تهذيب الكمال (30/ 441 - 448) والسير (8/ 217 - 222) والجرح والتعديل (9/ 40 - 41) وتاريخ بغداد (13 - 490 - 495) والتاريخ لابن معين (2/ 629) وميزان الاعتدال (4/ 334) وتذكرة الحفاظ (1/ 236 - 237) وتهذيب التهذيب (11/ 118).

عبد الله بن فروخ (175 هـ)

حدثنا أبو عوانة قال ما رأيت عمرو بن عبيد ولا جالسته قط إلا مرة واحدة قال: فتكلم وطول. ثم قال حين فرغ: لو نزل من السماء ملك ما زادكم على هذا. (¬1) عبد الله بن فروخ (¬2) (175 هـ) عبد الله بن فَرُّوخ أبو محمد الفارسي المغربي فقيه القيروان وزاهدها. روى عن سفيان الثوري وسليمان الأعمش وعبد الله بن عون وعبد الملك بن جريج وهشام بن عروة. روى عنه خلاد بن هلال وسعيد بن أبي مريم وعمرو بن الربيع وهشام بن عبيد الله. قال أبو بكر المالكي: كان رجلا صالحا فاضلا متواضعا، قليل الهيبة للملوك، لا يخاف في الله لومة لائم، مباينا لأهل البدع، حافظا للحديث والفقه، وكان الإمام مالك يعظمه ويكرمه، ويقول عنه: فقيه أهل المغرب. وقال عنه ابن أبي مريم: هو أرضى أهل الأرض عندي. قال ابن يونس: مات بعد انصرافه من الحج سنة خمس وسبعين ومائة. موقفه من المبتدعة: - له كتاب في الرد على المبتدعة سماه: 'الرد على أهل الأهواء والبدع'. (¬3) ¬

(¬1) السنة لعبد الله (149 - 150) والميزان (3/ 277) بنحوه. (¬2) ترتيب المدارك (1/ 194 - 199) والوافي بالوفيات (17/ 399 - 400) وتهذيب الكمال (15/ 428 - 430) وميزان الاعتدال (2/ 471) والكامل لابن عدي (4/ 1515 - 1517) ورياض النفوس (1/ 176 - 179). (¬3) الأعلام للزركلي (4/ 112) ومعجم المؤلفين (6/ 102).

سعيد بن عبد الرحمن الجمحي (176 هـ)

- جاء في الاعتصام: أن أبا العرب التميمي حكى عن ابن فروخ: أنه كتب إلى مالك بن أنس أن بلدنا كثير البدع، وأنه ألف لهم كلاما في الرد عليهم. فكتب إليه مالك يقول له: إن ظننت ذلك بنفسك، خفت أن تزل فتهلك، لا يرد عليهم إلا من كان ضابطا عارفا بما يقول لهم، لا يقدرون أن يعرجوا عليه، فهذا لا بأس به، وأما غير ذلك، فإني أخاف أن يكلمهم فيخطئ فيمضوا على خطئه، أو يظفروا منه بشيء فيطغوا ويزدادوا تماديا على ذلك. (¬1) سعيد بن عبد الرحمن الجمحي (¬2) (176 هـ) سعيد بن عبد الرحمن بن عبد الله القرشي الجُمَحِيّ. روى عن سعد ابن إسحاق بن كعب بن عجرة، وسلمة بن دينار، وسهيل بن أبي صالح وروى عنه إبراهيم بن عبد الله بن حاتم، وأحمد بن إبراهيم الموصلي، وعبد الله ابن وهب. قال الزبير بن بكار: ولي القضاء للرشيد ببغداد، وقال الشاعر يرثيه: ثلمة في الإسلام موت سعيد ... شملت كل مخلص التوحيد ذاك أني رأيته لا يبالي ... في تقى الله لوم أهل الوعيد مات سنة ست وسبعين ومائة. ¬

(¬1) الاعتصام (1/ 44) ورياض النفوس (1/ 177) وترتيب المدارك (1/ 198). (¬2) تهذيب الكمال (10/ 528) وتهذيب التهذيب (4/ 55) وميزان الاعتدال (2/ 528) وتاريخ بغداد (9/ 67) والوافي بالوفيات (15/ 237) وتاريخ الإسلام (حوادث 171 - 180/ص.132 - 134).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: عن إبراهيم بن سعد وسعيد بن عبد الرحمن الجمحي ووهب بن جرير وأبي النضر هاشم بن القاسم وسليمان بن حرب قالوا: القرآن ليس بمخلوق. (¬1) محمد بن مسلم (¬2) (177 هـ) محمد بن مُسْلِم بن سوسن أبو عبد الله الطائفي المكي. روى عن عمرو ابن دينار وابن طاووس وإبراهيم بن ميسرة وجماعة. وعنه أسد السنة (¬3) والقعنبي ويحيى بن يحيى وقتيبة وغيرهم. وقال مُعَرِّفُ بن واصل: رأيت سفيان الثوري بين يدي محمد بن مسلم يكتب. عن عبد الرزاق قال: ما كان أعجب من محمد بن مسلم الطائفي إلى سفيان الثوري. مات سنة سبع وسبعين ومائة. موقفه من المرجئة: عن محمد بن مسلم الطائفي: لا يصلح قول إلا بعمل. (¬4) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 277 - 278/ 416) والسنة لعبد الله (30). (¬2) السير (8/ 176) وتهذيب الكمال (26/ 412 - 415) وميزان الاعتدال (4/ 40) وشذرات الذهب (1/ 288) طبقات ابن سعد (5/ 522) وتهذيب التهذيب (9/ 444 - 445). (¬3) هو أسد بن موسى. (¬4) السنة لعبد الله (94).

شريك بن عبد الله القاضي (177 هـ)

شريك بن عبد الله القاضي (¬1) (177 هـ) شَرِيك بن عبد الله بن أبي شَرِيك العلامة الحافظ القاضي أبو عبد الله النخعي الكوفي أحد الأعلام. أدرك زمان عمر بن عبد العزيز. روى عن جامع ابن شداد وسماك بن حرب وسليمان الأعمش وسلمة بن كهيل وطائفة. روى عنه يحيى القطان وعبد الله بن المبارك وعبد الرحمن بن مهدي وابنه عبد الرحمن وآخرون. عن حمدان بن الأصبهاني قال: كنت عند شريك، فأتاه ابن المهدي، فاستند وسأل عن حديث، فلم يلتفت شريك، فأعاد فعاد، فقال: كأنك تستخف بأولاد الخلفاء؟ قال: لا، ولكن العلم أزين عند أهله من أن يضيعوه. قال: فجثا على ركبتيه فسأل، فقال شريك: هكذا يطلب العلم. وقال شريك: ترى أصحاب الحديث هؤلاء يطلبونه لله. إنما يتظرفون به. وقال: ترك الجواب في موضعه إذاية القلب. توفي سنة سبع وسبعين ومائة. موقفه من المبتدعة: - جاء في ذم الكلام عنه قال: أثر فيه بعض الضعف أحب إلي من رأيهم. (¬2) - عن يحيى بن يسار قال: سمعت شريكا يقول: لأن يكون في كل قبيلة ¬

(¬1) تاريخ بغداد (9/ 279 - 295) والجرح والتعديل (4/ 365 - 367) والسير (8/ 200 - 216) والكامل لابن عدي (4/ 1321 - 1338) وتهذيب الكمال (12/ 462 - 475) وميزان الاعتدال (2/ 270 - 274) وتذكرة الحفاظ (1/ 232) والبداية والنهاية (10/ 177) ووفيات الأعيان (2/ 464 - 468) وشذرات الذهب (1/ 287). (¬2) ذم الكلام (ص.98) والسير (8/ 207).

موقفه من المشركين:

حمار أحب إلي من أن يكون فيها رجل من أصحاب أبي فلان، رجل كان مبتدعا. (¬1) - جاء في أصول الاعتقاد: تقدم حماد بن أبي حنيفة إلى شريك بن عبد الله وهو قاض في شهادة، فقال له شريك: لا أقبل شهادتك قال: لم ترد شهادتي؟ فقال: أما إني لا أطعن عليك في بطن ولا فرج ولكن متى تدع الخصومة في الدين أجزت شهادتك. (¬2) - جاء في ميزان الاعتدال: عن معاوية بن صالح، سألت أحمد عن شريك، فقال: كان عاقلا صدوقا محدثا، وكان شديدا على أهل الريب والبدع. (¬3) موقفه من المشركين: جاء في السير عن نصر بن المجدر قال: كنت شاهدا حين أدخل شريك، ومعه أبو أمية، وكان أبو أمية رفع إلى المهدي أن شريكا حدثه عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن ثوبان، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: استقيموا لقريش ما استقاموا لكم، فإذا زاغوا عن الحق فضعوا سيوفكم على عواتقكم، ثم أبيدوا خضراءهم. قال المهدي: أنت حدثت بهذا؟ قال: لا. فقال أبو أمية: علي المشي إلى بيت الله، وكل مالي صدقة، إن لم يكن حدثني. فقال شريك: وعلي مثل ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/469/ 472). (¬2) أصول الاعتقاد (1/ 146/224). (¬3) ميزان الاعتدال (2/ 273).

موقفه من الرافضة:

الذي عليه إن كنت حدثته. فكأن المهدي رضي. فقال أبو أمية: يا أمير المؤمنين، عندك أدهى العرب، إنما يعني مثل الذي علي من الثياب. قل له يحلف كما حلفت. فقال: احلف. فقال شريك: قد حدثته. فقال المهدي: ويلي على شارب الخمر -يعني الأعمش، وذلك أنه كان يشرب المنصف- لو علمت موضع قبره لأحرقته. قال شريك: لم يكن يهوديا، كان رجلا صالحا، قال: بل زنديق. قال: للزنديق علامات: بتركه الجمعات، وجلوسه مع القيان، وشربه الخمر. فقال: والله لأقتلنك. قال: ابتلاك الله بمهجتي. قال: أخرجوه، فأخرج، وجعل الحرس يشققون ثيابه، وخرقوا قلنسوته، قال نصر: فقلت لهم: أبو عبد الله. فقال المهدي: دعهم. (¬1) موقفه من الرافضة: - جاء في السنة: قال عبد الله: حدثني أبي حدثنا حجاج سمعت شريكا وذكر المرجئة فقال: لهم أخبث قوم وحسبك بالرافضة خبثا ولكن المرجئة يكذبون على الله. (¬2) - جاء في السير: قال ابن عيينة: قيل لشريك: ما تقول فيمن يفضل عليا على أبي بكر؟ قال: إذا يفتضح، يقول: أخطأ المسلمون. (¬3) - وفيها: قال حفص بن غياث، من طريق علي بن خشرم، عنه: سمعت شريكا يقول: قبض النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستخار المسلمون أبا بكر، فلو علموا ¬

(¬1) السير (8/ 215 - 216). (¬2) السنة لعبد الله (83) وأصول الاعتقاد (5/ 1066/1824) والإبانة (2/ 7/886/ 1225) والشريعة (1/ 310/339) ومجموع الفتاوى (/395). (¬3) السير (8/ 204) وهو في السنة للخلال (2/ 376).

أن فيهم أحدا أفضل منه كانوا قد غشونا، ثم استخلف أبو بكر عمر، فقام بما قام به من الحق والعدل، فلما حضرته الوفاة، جعل الأمر شورى بين ستة، فاجتمعوا على عثمان. فلو علموا أن فيهم أفضل منه كانوا قد غشونا. (¬1) - وجاء في الميزان: قال محمد بن سعيد بن الأصبهاني: سمعت شريكا يقول: احمل العلم عن كل من لقيت إلا الرافضة، فإنهم يضعون الحديث ويتخذونه دينا. (¬2) - وجاء في أصول الاعتقاد: قال شريك لقوم من الشيعة: إنا ما علمنا بعلي حين صعد المنبر فقال: إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر، والله ما سألناه عن ذلك يا جاهل، أفترانا حين يقوم فنقول له كذبت. (¬3) - وفيه: عن إبراهيم بن أعين قال: سألت شريك بن عبد الله فقلت: يا أبا عبد الله أرأيت من قال: لا أفضل أحدا على أحد قال: هذا أحمق أليس قد فضل أبو بكر وعمر قال: قلت: فأدركت أحدا يفضل عليهما؟ قال: لا إلا مفتضح. (¬4) - وجاء في السنة للخلال: قال شريك ليس يقدم أحد على أبي بكر وعمر فيه خير. (¬5) - وفيها: قال شريك: من زعم أن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - قدموا عثمان ¬

(¬1) السير (8/ 209). (¬2) الميزان (1/ 28) المنهاج (1/ 60). (¬3) أصول الاعتقاد (8/ 1448/2607) وفي الشريعة (3/ 563/2077) والسنة للخلال (2/ 376). (¬4) أصول الاعتقاد (8/ 1451/2617) وفي الميزان (2/ 271). (¬5) السنة للخلال (1/ 376).

موقفه من الجهمية:

وليس هو أفضلهم في أنفسهم فقد خون أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) - ذكر أبو القاسم البلخى، قال: سأل سائل شريك بن عبد الله بن أبى نمر فقال له: أيهما أفضل أبو بكر أو علي، فقال له: أبو بكر، فقال له السائل: أتقول هذا وأنت من الشيعة؟ فقال: نعم، إنما الشيعي من قال مثل هذا والله لقد رقى علي هذا الأعواد فقال: ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر. أفكنا نرد قوله؟ أكنا نكذبه؟ والله ما كان كذابا. (¬2) موقفه من الجهمية: جاء في السير: عن عباد بن العوام، قال: قدم علينا شريك من نحو خمسين سنة، فقلنا له: إن عندنا قوما من المعتزلة، ينكرون هذه الأحاديث: "إن أهل الجنة يرون ربهم" (¬3) و"إن الله ينزل إلى السماء الدنيا" (¬4)، فحدث شريك بنحو من عشرة أحاديث في هذا، ثم قال: أما نحن، فأخذنا ديننا عن أبناء التابعين عن الصحابة، فهم عمن أخذوا؟. (¬5) موقفه من المرجئة: - عن أحمد بن سنان القطان أبي جعفر الواسطي قال ثنا خالي موسى ابن عمران -وكان قد كتب عن شريك- قال: استأذن شريك على المهدي ¬

(¬1) السنة للخلال (1/ 393). (¬2) المنهاج (1/ 13 - 14). (¬3) انظر تخريجه في مواقف عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون سنة (164هـ). (¬4) انظر تخريجه في مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ). (¬5) السير (8/ 208) والسنة لعبد الله (66 - 67) وأصول الاعتقاد (3/ 559/879) والشريعة (2/ 94/739) والفتاوى (5/ 387).

وعنده أبو يوسف القاضي وامتريا. فقال المهدي: الصلاة من الإيمان. وقال أبو يوسف: الصلاة ليس من الإيمان. واستأذن شريك، فقال المهدي: قد جاء من يفصل بيننا. قال: فلما دخل سلم، قال: فرد عليه فقال: يا أبا عبد الله ما تقول في رجلين امتريا فقال أحدهما: الصلاة من الإيمان وقال الآخر الصلاة من العمل؟ قال: أصاب الذي قال: الصلاة من الإيمان وأخطأ الذي قال الصلاة من العمل. قال فقال أبو يوسف: من أين قلت ذي؟ فقال حدثني أبو إسحاق: عن البراء بن عازب في قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (¬1) قال: صلاتكم نحو بيت المقدس. قال: فألقمه حجرا. (¬2) - عن أبي سلمة الخزاعي قال: قال مالك بن أنس وشريك وأبو بكر ابن عياش وعبد العزيز بن أبي سلمة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد: الإيمان المعرفة والإقرار والعمل. (¬3) - عن أبي نعيم قال: مرت بنا جنازة مسعر بن كدام منذ خمسين سنة ليس فيها سفيان ولا شريك. (¬4) - عن عبد الرحمن بن مهدي قال: بلغني أن شعبة قال لشريك: كيف لا تجيز شهادة المرجئة؟ قال: كيف أجيز شهادة قوم يزعمون أن الصلاة ليست من الإيمان. (¬5) ¬

(¬1) البقرة الآية (143). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 898 - 899/ 1508). (¬3) أصول الاعتقاد (4/ 931/1587) والسنة لعبد الله (83). (¬4) أصول الاعتقاد (5/ 1066 - 1067/ 1826). (¬5) السنة لعبد الله (93).

عتبة الغلام (178 هـ)

- وعن يحيى بن آدم قال: شهد أبو يوسف عند شريك بشهادة، فقال له: قم وأبى أن يجيز شهادته، فقيل ترد شهادته؟ فقال: أجيز شهادة رجل يقول: الصلاة ليست من الإيمان! (¬1) عتبة الغلام (¬2) (178 هـ) عتبة بن أبان البصري الزاهد الخاشع، كان يشبه في حزنه بالحسن البصري، وكان من نساك أهل البصرة، وكان رأس ماله فلسا، يشتري به خوصا، يعمله ويبيعه بثلاثة فلوس، فيتصدق بفلس ويتعشى بفلس، وفلس رأس ماله. وذكرت له أمور في التقشف. من أقواله: من عرف الله أحبه، ومن أحبه أطاعه. وقال أيضا: إنما أبكي على تقصيري. وقال أيضا: لا يعجبني رجل ألا يحترف. موقفه من المبتدعة: جاء في الإبانة: عن جعفر بن سليمان الضبعي قال: سمعت عتبة الغلام يقول: من لم يكن معنا فهو علينا. (¬3) ¬

(¬1) السنة للخلال (3/ 585/1024). (¬2) السير (7/ 62 - 63) والحلية (6/ 226 - 238) ومشاهير علماء الأمصار (ص.240). (¬3) الإبانة (2/ 3/473/ 487).

محمد بن النضر الحارثي (ما بين 171 هـ و180 هـ)

محمد بن النضر الحارثي (¬1) (ما بين 171 هـ و180 هـ) محمد بن النَّضْر الحارثيّ الكوفي أبو عبد الرحمن. روى عن الأوزاعي. وروى عنه ابن مهدي، وخالد بن يزيد، وعبد الله بن المبارك. من أقواله: أول العلم الاستماع والإنصات، ثم حفظه، ثم العمل به، ثم بثه. وقال عنه ابن المبارك: كان محمد بن النضر إذا ذكر الموت، اضطربت مفاصله. وعن أبي الأحوص، قال: آلى محمد بن النضر على نفسه أن لا ينام إلا ما غلبته عينه. ذكر الذهبي أنه من طبقة شريك القاضي المتوفى سنة (177هـ) وأورده في تاريخه ضمن وفيات الطبقة الثامنة عشر المؤرخة بين (171هـ و180هـ). موقفه من المبتدعة: - روى اللالكائي عنه قال: من أصغى سمعه إلى صاحب بدعة وهو يعلم أنه صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووكل إلى نفسه. (¬2) - وروى ابن بطة بسنده إلى عبادة بن كليب، قال: قال محمد بن النضر الحارثي: إن أصحاب الأهواء قد أخذوا في تأسيس الضلالة وطمس الهدى فاحذروهم. (¬3) ¬

(¬1) السير (8/ 175) وتاريخ الإسلام (وفيات 171هـ-180هـ/ ص.353 - 354) والجرح والتعديل (8/ 110). (¬2) أصول الاعتقاد (1/ 153/252) والإبانة (2/ 3/459/ 434) وذم الكلام (ص.220). (¬3) الإبانة (2/ 3/462/ 448).

مالك بن أنس (179 هـ)

مالك بن أنس (¬1) (179 هـ) مالك بن أنس بن مالك شيخ الإسلام وحجة الأمة، إمام دار الهجرة أبو عبد الله الحِمْيَرِي ثم الأَصْبَحِيّ المدني. حدث عن خلق كثير منهم: إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة وحميد الطويل وداود بن الحصين وربيعة الرأي وزيد بن أسلم وغيرهم. حدث عنه عبد الرحمن بن مهدي وشعبة بن الحجاج والقعنبي وعبد الله بن يوسف وعبد الله بن المبارك ويحيى بن سعيد القطان ومعن بن عيسى وآخرون. قال الشافعي: إذا جاءك الأثر من مالك فشد به يدك، وقال: إذا ذكر العلماء فمالك النجم. وعن ابن عيينة قال: مالك عالم أهل الحجاز، وهو حجة زمانه. ومناقبه كثيرة جدا وثناء الأئمة عليه أكثر. قال أبو مصعب: سمعت مالكا يقول: سألني أبو جعفر عن أشياء ثم قال: أنت والله أعقل الناس، وأنت أعلم الناس، قلت: لا والله يا أمير المؤمنين. قال: بلى، ولكنك تكتم. والله لو بقيت لأكتبن قولك كما تكتب المصاحف، ولأبعثن به إلى الآفاق، فأحملهم عليه. من أقواله رحمه الله: العلم ينقص ولا يزيد، ولم يزل العلم ينقص بعد الأنبياء والكتب، ومنها: اعلم أنه فساد عظيم أن يتكلم الإنسان بكل ما يسمع، ومنها: حق على من طلب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية، ¬

(¬1) ترتيب المدارك (1/ 44 - 140) والسير (8/ 48 - 135) والانتقاء من فضائل الأئمة الفقهاء (9/ 37) والحلية (6/ 316 - 355) وتاريخ خليفة (451) ومشاهير علماء الأمصار (140) والفهرست لابن النديم (280 - 281) وتهذيب الكمال (27/ 91 - 120) ووفيات الأعيان (4/ 135 - 139) وتذكرة الحفاظ (1/ 207 - 213) والبداية والنهاية (10/ 180) وتاريخ ابن معين (2/ 543 - 546) والأنساب (1/ 287 - 288) وشذرات الذهب (1/ 289 - 292) والديباج المذهب (1/ 55 - 139).

موقفه من المبتدعة:

والعلم حسن لمن رزق خيره، وهو قسم من الله تعالى، فلا تمكن الناس من نفسك، فإن من سعادة المرء أن يوفق للخير، وإن من شقوة المرء أن لا يزال يخطئ، وذل وإهانة للعلم أن يتكلم الرجل بالعلم عند من لا يطيعه. توفي سنة تسع وسبعين ومائة. موقفه من المبتدعة: - روى الخطيب في شرف أصحاب الحديث: عن عبد الرحمن بن مهدي قال: سمعت مالك بن أنس رضي الله عنه يقول: سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وولاة الأمر بعده سننا فالأخذ بها تصديق لكتاب الله عز وجل، واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله، من عمل بها مهتد ومن استنصر بها منصور ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى. (¬1) - جاء في الاعتصام: وقال مالك: قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد تم هذا الأمر واستكمل، فينبغي أن تتبع آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ولا يتبع الرأي، فإنه متى ما اتبع الرأي جاء رجل آخر أقوى في الرأي منك، فاتبعته، فكلما غلبه رجل اتبعه، أرى أن هذا بعد لم يتم. (¬2) " التعليق: رضي الله عنك يا إمام أهل المدينة، ما أحسن ما قلت لو وجدت أذنا ¬

(¬1) شرف أصحاب الحديث (ص.6 - 7) وانظر السير (8/ 98). وهو من كلام أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز؛ وكان الإمام مالك يردده كثيرا. (¬2) الاعتصام (1/ 140) و (2/ 660) ورواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 1069) وانظر إعلام الموقعين (1/ 78) ودرء تعارض العقل والنقل (1/ 191) بنحوه.

صاغية، إن كثيرا من أهل الأرض يدعون أنهم يتمذهبون بمذهبك في الفروع، ولكنهم في الحقيقة لم يتبعوك لا في الفروع ولا في الأصول، فعقيدتك وعقيدة أصحابك سلفية، ومذهبك اتباع الكتاب والسنة، والمدعون أنهم أتباعك لو بعثت إليهم ورأيت ما هم عليه لجالدتهم بالسيف؛ فإنهم على عقيدة سموها أشعرية، والأشعري تبرأ منها، وصوفية في سلوكهم ولم يروا الحجة في الموطأ والمدونة وغيرهما من الكتب التي تعتمد على الحجة والدليل، ولكن رأوها في خليل وشروحه، وهو مع طوله لم يذكر في كتابه ولا حديثا واحدا للحجة ومع ذلك اهتم من ينسبون أنفسهم لك بحفظه، ودراسته في المساجد والجوامع، وأوقفوا عليه الأوقاف، وأصبح حافظه يشار إليه بالبنان ويقدم في القضاء والفتوى والله المستعان. - وجاء في الاعتصام: قال أبو مصعب قدم علينا ابن مهدي فصلى ووضع رداءه بين يدي الصف فلما سلم الإمام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالكا وكان قد صلى خلف الإمام، فلما سلم، قال: من هاهنا من الحرس؟ فجاءه نفسان فقال: خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه، فحبس فقيل له: إنه ابن مهدي، فوجه إليه وقال له: ما خفت الله واتقيته أن وضعت ثوبك بين يديك في الصف وشغلت المصلين بالنظر إليه وأحدثت في مسجدنا شيئا ما كنا نعرفه؟ وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أحدث في مسجدنا حدثا فعليه لعنة الله

والملائكة والناس أجمعين" (¬1)، فبكى ابن مهدي وآلى على نفسه أن لا يفعل ذلك أبدا في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا في غيره. - وفي رواية عن ابن مهدي قال: فقلت للحرسيين: تذهبان بي إلى أبي عبد الله؟ قالا: إن شئت. فذهبا إليه، فقال: يا عبد الرحمن، تصلي مستلبا؟ فقلت: يا أبا عبد الله، إنه كان يوما حارا -كما رأيت- فثقل ردائي علي. فقال: آلله ما أردت بذلك الطعن على من مضى والخلاف عليه؟ قلت: آلله. قال: خلياه. (¬2) - وجاء في الاعتصام: حكى ابن العربي عن الزبير بن بكار قال: سمعت مالك بن أنس وأتاه رجل فقال يا أبا عبد الله: من أين أحرم؟ قال من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إني أريد أن أحرم من المسجد، فقال: لا تفعل. قال: فإني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر. قال: لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة. فقال: وأي فتنة هذه؟ إنما هي أميال أزيدها، قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ إني سمعت الله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬3). اهـ (¬4) ¬

(¬1) لم أقف عليه بهذا اللفظ ولعله رواية معنى حديث علي، وقد تقدم تخريجه في مواقف علي رضي الله عنه سنة (40هـ). (¬2) الاعتصام (2/ 554 - 555). (¬3) النور الآية (63). (¬4) الاعتصام (1/ 174) وهو في ذم الكلام (ص.123) والإبانة (1/ 1/261 - 262/ 98) وانظر الباعث (ص.90 - 91) ومجموع الفتاوى (20/ 375).

- قال إسحاق بن الضباع: جاء رجل إلى مالك فسأله عن مسألة، فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا. قال: أرأيت إن كان كذا؟ قال مالك: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. (¬1) - وجاء في ذم الكلام عن ابن وهب قال: كنا عند مالك بن أنس فذكرت السنة فقال: السنة سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق. (¬2) - وجاء في ذم الكلام عنه قال: من أراد النجاة فعليه بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) - وعن ابن وضاح قال: ثوَّب المؤذن بالمدينة في زمان مالك فأرسل إليه مالك فجاءه، فقال له مالك: ما هذا الذي تفعل؟ فقال: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر فيقوموا، فقال له مالك: لا تفعل لا تحدث في بلدنا شيئا لم يكن فيه. قد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا البلد عشر سنين وأبو بكر وعمر وعثمان فلم يفعلوا هذا، فلا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه، فكف المؤذن عن ذلك وأقام زمانا، ثم إنه تنحنح في المنارة عند طلوع الفجر، فأرسل إليه مالك فقال له: ما هذا الذي تفعل؟ قال: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر، فقال له: ألم أنهك ألا تحدث عندنا ما لم يكن؟ فقال: إنما نهيتني عن التثويب! ¬

(¬1) الفقيه والمتفقه (1/ 379) وشرح السنة (1/ 191) والحلية (6/ 326). (¬2) ذم الكلام (ص.210) وانظر مجموع الفتاوى (4/ 57). (¬3) ذم الكلام (ص.208).

فقال له: لا تفعل، فكف زمانا، ثم جعل يضرب الأبواب فأرسل إليه مالك فقال: ما هذا الذي تفعل؟ فقال: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر. فقال له مالك: لا تفعل، لا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه. (¬1) - وفيه: قال ابن حبيب: أخبرني ابن الماجشون أنه سمع مالكا يقول: التثويب ضلال، قال مالك: ومن أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خان الدين، لأن الله تعالى يقول: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينكم} (¬2)، فما لم يكن يومئذ دينا لا يكون اليوم دينا. (¬3) " التعليق: من قرأ مثل هذه النصوص ووعاها يجد نفسه يعيش في غربة غريبة. هذه الحقائق التي اعتنى بها هذا الإمام واعتبرها بدعة وأوقف المؤذن من أجلها، لو نطق أحدنا بها أو بما يشبهها لعد من كبار المتنطعين المتشددين، وانقلب الناس عليه كأنه مجرم كبير. أين نحن من الإمام مالك؟! أين من يسمون أنفسهم مالكية؟! ابتدعوا الطامات الكبرى واعتقدوها قربة، شيدوا القبور ونذروا إليها وذبحوا عندها. اخترعوا طرقا سموها صوفية، استحلوا ما حرم الله باسم القوانين الوضعية، عطلوا شرع الله وحسبوه تقدما ومدنية، وتعداد ما عليه الناس الآن لا تفي به هذه الإشارة ولكن دمعة أو دمعتان خير من آبار جافة والله المستعان. ¬

(¬1) ابن وضاح (ص.89) وذكره الشاطبي في الاعتصام (2/ 555). (¬2) المائدة الآية (3). (¬3) الاعتصام (2/ 535).

- عن مالك بن أنس قال: لم يكن شيء من هذه الأهواء على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أبي بكر ولا عمر ولا عثمان. (¬1) - وقال جعفر الفريابي: حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثني الهيثم ابن جميل قال: قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله إن عندنا قوما وضعوا كتبا يقول أحدهم ثنا فلان عن فلان عن عمر بن الخطاب بكذا وكذا وفلان عن إبراهيم بكذا، ويأخذ بقول إبراهيم، قال مالك: وصح عندهم قول عمر؟ قلت: إنما هي رواية كما صح عندهم قول إبراهيم، فقال مالك: هؤلاء يستتابون، والله أعلم. (¬2) " التعليق: قلت: وأهل هذا الزمان، فلا عمر ولا إبراهيم النخعي ولا الأوزاعي ولا مالك ولا أحمد ولا أبا يوسف ولا المزني ولا ابن القاسم ولا أبا حنيفة، وإنما هم جماعة تخرجوا من مدارس تعلموا فيها مناهج لا صلة لها بكتاب الله ولا بسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. والله المستعان. - جاء في الاعتصام: وخرج ابن وضاح وهو في العتبية من سماع ابن القاسم عن مالك رحمه الله أنه سئل عن قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد} (¬3) مرارا في الركعة الواحدة فكره ذلك وقال: هذا من محدثات الأمور التي ¬

(¬1) ذم الكلام (ص.208). (¬2) إعلام الموقعين (2/ 201). (¬3) الإخلاص الآية (1).

أحدثوا. (¬1) - وجاء في الاعتصام قال مالك: أول من جعل مصحفا الحجاج بن يوسف -يريد أنه أول من رتب القراءة في المصحف إثر صلاة الصبح في المسجد- قال ابن رشد: مثل ما يصنع عندنا إلى اليوم. قال الشاطبي: فهذه محدثة -أعني وضعه في المسجد- لأن القراءة في المسجد مشروع في الجملة معمول به، إلا أن تخصيص المسجد بالقراءة على ذلك الوجه هو المحدث ومثله وضع المصاحف في زماننا للقراءة فيها يوم الجمعة وتحبيسها على ذلك القصد. (¬2) - وفيه: قال ابن القاسم في المبسوط: رأيت مالكا يعيب على أصحابه رفع أصواتهم في المسجد. (¬3) - وفيه أيضا: ويشبه هذا ما في سماع ابن القاسم عن مالك في القوم يجتمعون جميعا فيقرأون في السورة الواحدة مثل ما يفعل أهل الأسكندرية، فكره ذلك وأنكر أن يكون من عمل الناس. (¬4) - وفيه سئل ابن القاسم عن نحو ذلك فحكى الكراهية عن مالك ونهى عنها ورآها بدعة. وقال في رواية أخرى عن مالك: وسئل عن القراءة بالمسجد؟ فقال: لم يكن الأمر القديم وإنما هو شيء أحدث، ولم يأت آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها، والقرآن حسن. قال ابن رشد: يريد ¬

(¬1) الاعتصام (1/ 490) وابن وضاح (ص.92). (¬2) الاعتصام (1/ 221 - 222). (¬3) الاعتصام (2/ 588). (¬4) الاعتصام (1/ 508).

التزام القراءة في المسجد بإثر صلاة من الصلوات على وجه ما مخصوص حتى يصير ذلك كله سنة، مثل ما بجامع قرطبة إثر صلاة الصبح. قال: فرأى ذلك بدعة. (¬1) " التعليق: قال جامعه: لو أدرك هؤلاء مساجدنا وما حدث فيها من الضوضاء واللغط والبدع على اختلاف أنواعها، فباعة القرآن والمراؤون به بأصواتهم المختلطة المزعجة المشينة المتلاعبة بكتاب الله. والأسواق التي هي محل اللغط تجدها أهدأ من هذه المساجد. ومبتدعة ما يسمى بدلائل الخيرات، وهو كتاب فتحه صاحبه بالكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووضع فيه صلوات علقها بالشرك، كقوله: اللهم صل على محمد عدد ما نفعت التمائم. وصلوات سمجة كقوله: اللهم صل على صاحب الهراوة. والخلاصة فيه أنه كتاب ملأه صاحبه بما لم يرد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ويكفي المسلمين ما صح عنه - صلى الله عليه وسلم - في البخاري وغيره من كتب السنة، التي اعتنت بهذا الباب وأغنتنا عن هذه الخزعبلات والتلفيقات التي ما أنزل الله بها من سلطان. (¬2) وأما ألغاط الصوفية على اختلاف طرقهم فلا تسأل عن ذلك، فكأنهم حمر مستنفرة. نرجو الله الهداية لجميع إخواننا المسلمين. - وجاء في الاعتصام: حكى عياض عن مالك من رواية ابن نافع عنه ¬

(¬1) الاعتصام (1/ 508) والباعث (ص.243) والحوادث والبدع (ص.95). (¬2) وانظر كتابنا وقفات مع الكتاب المسمى دلائل الخيرات.

قال: لو أن العبد ارتكب الكبائر كلها دون الإشراك بالله شيئا ثم نجا من هذه الأهواء لرجوت أن يكون في أعلى جنات الفردوس، لأن كل كبيرة بين العبد وربه هو منها على رجاء، وكل هوى ليس هو منه على رجاء إنما يهوي بصاحبه في نار جهنم. (¬1) - وجاء في الإبانة عنه قال: القرآن هو الإمام فأما هذا المراء فما أدري ما هو. (¬2) - وفيها عنه: المراء في العلم يقسي القلب ويورث الضغن. (¬3) - وجاء في ذم الكلام: قال مالك لابن وهب: لا تحملن أحدا على ظهرك ولا تمكن الناس من نفسك، أد ما سمعت وحسبك ولا تقلد الناس قلادة سوء. (¬4) - وفيه عنه قال: ما قلت الآثار في قوم إلا ظهرت فيهم الأهواء، ولا قلت العلماء إلا ظهر في الناس الجفاء. (¬5) - وجاء في جامع بيان العلم وفضله: قال الهيثم بن جميل: قلت لمالك ابن أنس: يا أبا عبد الله الرجل يكون عالما بالسنة أيجادل عنها؟ قال: لا ولكن يخبر بالسنة فإن قبلت منه وإلا سكت. (¬6) ¬

(¬1) الاعتصام (1/ 171) وذم الكلام (ص.208). (¬2) الإبانة (2/ 3/510/ 590). (¬3) الإبانة (2/ 3/530/ 653). (¬4) ذم الكلام (ص.208). (¬5) ذم الكلام (ص.209) والفقيه والمتفقه (1/ 383) ومجموع الفتاوى (17/ 308). (¬6) جامع بيان العلم وفضله (2/ 936).

- عن مالك قال: لا يؤخذ العلم عن أربعة، سفيه يعلن السفه وإن كان أروى الناس، وصاحب بدعة يدعو إلى هواه، ومن يكذب في حديث الناس وإن كنت لا أتهمه في الحديث، وصالح عابد فاضل إذا كان لا يحفظ ما يحدث به. (¬1) - وقال معن بن عيسى: سمعت مالكا يقول: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه. (¬2) - وقال: وما تكلمت برأيي إلا في ثلاث مسائل. (¬3) - وقال: الداء العضال التنقل في الدين. (¬4) - عن الوليد بن مسلم قال: سمعت مالك بن أنس، وقال له رجل: يا أبا عبد الله، وما عليك أن أكلمك، قال: فإن كلمتك فرأيت الحق فيما كلمتك؟ قال: تتبعني؟ قال: نعم، قال: فإن خرجت من عندي على الذي فارقتني عليه، فأقمت سنة تقول به، ثم لقيك رجل من أصحابك فكلمته فقال لك: أخطأ مالك، أترجع إلى قوله؟ قال: نعم، قال: فإنك أقمت سنة بقوله تقول، ثم رجعت إلي فقلت لي: لقيت فلانا فيما كلمتك به فقال لي: كيت وكيت، فرأيت أن الحق في قوله فاتبعته، فقلت لك أنا: أخطأ فلان الأمر في كذا وكذا فعرفت أن قولي أحسن من قوله تتبعني؟ قال: نعم، قال: ¬

(¬1) السير (8/ 67) وهو في الكفاية في علم الرواية (ص.116و160) والمحدث الفاصل (ص.403 - 404). (¬2) ترتيب المدارك (1/ 182 - 183) وجامع بيان العلم (1/ 775) ومجموع الفتاوى (20/ 211). (¬3) ترتيب المدارك (1/ 193). (¬4) الإبانة (2/ 3/506/ 576).

فهكذا المسلم مرة كذا ومرة كذا. (¬1) - وقال: مهما تلاعبت به من شيء فلا تلاعبن بأمر دينك. (¬2) - عن إسحاق بن عيسى الطباع، قال: رأيت رجلا من أهل المغرب جاء مالكا، فقال: إن الأهواء كثرت قبلنا، فجعلت على نفسي، إن أنا رأيتك، أن آخذ بما تأمرني، فوصف له مالك شرائع الإسلام: الزكاة والصلاة والصوم والحج، ثم قال: خذ بهذا، ولا تخاصم أحدا في شيء. (¬3) - عن إسماعيل بن أبي أويس قال: سمعت خالي مالكا يقول: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، فقد أدركت سبعين، وأشار بيده إلى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال فلان، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فلم آخذ عنهم شيئا، ولو أن أحدهم ائتمن على بيت مال لكان به أمينا. (¬4) - عن عبد الرحمن بن مهدي: سئل مالك بن أنس عن السنة؟ قال: هي ما لا اسم له غير السنة، وتلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬5). قال بكر بن العلاء: يريد -إن شاء الله- حديث ابن مسعود أن النبي ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/508/ 584). (¬2) أصول الاعتقاد (1/ 163/295). (¬3) الفقيه والمتفقه (1/ 555). (¬4) ذم الكلام (ص.293). (¬5) الأنعام الآية (153).

- صلى الله عليه وسلم - خط له خطا .. وذكر الحديث (¬1). (¬2) - وكان مالك كثيرا ما ينشد: وخير أمور الدين ما كان سنة ... وشر الأمور المحدثات البدائع (¬3) - قال ابن وهب: سمعت مالك بن أنس يقول: إلزم ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع: "أمران تركتهما فيكم لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة نبيه". (¬4) - وقال ابن وهب: قال مالك: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إمام المسلمين وسيد العالمين، يسأل عن الشيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحي من السماء. " التعليق: قال ابن القيم: فإذا كان رسول رب العالمين لا يجيب إلا بالوحي، وإلا لم يجب، فمن الجرأة العظيمة إجابة من أجاب برأيه، أو قياس، أو تقليد من يحسن به الظن، أو عرف، أو عادة، أو سياسة، أو ذوق أو كشف، أو منام، أو استحسان، أو خرص، والله المستعان وعليه التكلان. (¬5) ¬

(¬1) أحمد (1/ 435) والنسائي في الكبرى (6/ 343/11174 - 11175) والدارمي (1/ 67 - 68) وابن حبان الإحسان (1/ 180 - 181/ 6 - 7) وابن أبي عاصم في السنة (1/ 13/17) والحاكم (2/ 318) وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي وحسن الألباني إسناده لأن فيه عاصم بن أبي النجود وهو حسن الحديث. (¬2) الاعتصام (1/ 77 - 78). (¬3) الاعتصام (1/ 115) وترتيب المدارك (2/ 38). (¬4) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي الزناد عبد الله بن ذكوان سنة (130هـ). (¬5) إعلام الموقعين (1/ 256).

- عن مطرف بن عبد الله قال: سمعت مالكا يقول: الدنو من الباطل هلكة، والقول بالباطل بعد عن الحق، ولا خير في شيء وإن كثر من الدنيا بفساد دين المرء ومروءته. (¬1) - وقال مالك: بئس القوم أهل الأهواء، لا نسلم عليهم. (¬2) - قال ابن عبد البر: كره مالك [من بين سائر العلماء] (¬3) أن يصلي أهل العلم والفضل على أهل البدع. (¬4) - قال أبو داود عقيب حديث "كل مولود يولد على الفطرة" (¬5): قرئ على الحارث بن مسكين وأنا أسمع: أخبرك يوسف بن عمرو، أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت مالكا، قيل له: إن أهل الأهواء يحتجون علينا بهذا الحديث، قال مالك: احتج عليهم بآخره، قالوا: أرأيت من يموت وهو صغير، قال: الله أعلم بما كانوا عاملين. (¬6) - قال مالك: ما آية في كتاب الله أشد على أهل الأهواء من هذه الآيات {تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ¬

(¬1) تذكرة الحفاظ (1/ 211). (¬2) شرح السنة للبغوي (1/ 229). (¬3) زيادة ليست في الأصل -الاستذكار- ولعلها من تصرف المحقق. (¬4) الاستذكار (8/ 285/11508). (¬5) سيأتي تخريجه في مواقف محمد بن إسماعيل الصنعاني سنة (1182هـ). (¬6) أبو داود (5/ 89/4715).

{أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} (¬1). قال مالك: فأي كلام أبين من هذا. قال ابن القاسم: قال لي مالك: إن هذه الآية لأهل القبلة. (¬2) - قال العتبي: قال الصمادحي: قال معن: وكتب إلى مالك رجل من العرب يسأل عن قوم يصلون ركعتين ويجحدون السنة، ويقولون: ما نجد إلا صلاة ركعتين. قال مالك: أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا. (¬3) - جاء في مجموع الفتاوى: وقد عرض عليه الرشيد أو غيره أن يحمل الناس على موطئه فامتنع من ذلك، وقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، وإنما جمعت علم أهل بلدي، أو كما قال. (¬4) - عن مالك قال: قدم هارون يريد الحج، ومعه يعقوب أبو يوسف، فأتى مالك أمير المؤمنين، فقربه، وأكرمه، فلما جلس، أقبل إليه أبو يوسف، فسأله عن مسألة فلم يجبه، ثم عاد فسأله فلم يجبه، ثم عاد فسأله. فقال هارون: يا أبا عبد الله، هذا قاضينا يعقوب، يسألك، قال: فأقبل عليه مالك، فقال: يا هذا، إذا رأيتني جلست لأهل الباطل، فتعال أجبك معهم. (¬5) - عن عبد الرزاق قال: سأل سندل مالكا عن مسألة، فأجابه، فقال: ¬

(¬1) آل عمران الآية (106). (¬2) أصول السنة لابن أبي زمنين (ص.305) وفي الاعتصام (1/ 75). (¬3) أصول السنة لابن أبي زمنين (ص.309). (¬4) مجموع الفتاوى (20/ 311). (¬5) السير (8/ 64) وهو في تذكرة الحفاظ (1/ 210).

أنت من الناس، أحيانا تخطئ، وأحيانا لا تصيب، قال: صدقت. هكذا الناس. فقيل لمالك: لم تدر ما قال لك؟ ففطن لها، وقال: عهدت العلماء، ولا يتكلمون بمثل هذا، وإنما أجيبه على جواب الناس. (¬1) - عن ابن وهب: سمعت مالكا يقول: ليس هذا الجدل من الدين بشيء. (¬2) - عن ضمرة: سمعت مالكا يقول: لو أن لي سلطانا على من يفسر القرآن، لضربت رأسه. قال الذهبي: يعني تفسيره برأيه. وكذلك جاء عن مالك من طريق أخرى. (¬3) - وعن مالك قال: الجدال في الدين ينشئ المراء، ويذهب بنور العلم من القلب ويقسي، ويورث الضغن. (¬4) - قال الذهبي: قال محمد بن جرير: كان مالك قد ضرب بالسياط، واختلف في سبب ذلك، فحدثني العباس بن الوليد، حدثنا ابن ذكوان، عن مروان الطاطري، أن أبا جعفر نهى مالكا عن الحديث: ليس على مستكره طلاق (¬5) ثم دس إليه من يسأله، فحدثه به على رؤوس الناس، فضربه بالسياط. وحدثنا العباس، حدثنا إبراهيم بن حماد، أنه كان ينظر إلى مالك إذا أقيم من ¬

(¬1) السير (8/ 67). (¬2) السير (8/ 67). (¬3) السير (8/ 97) والحلية (6/ 322). (¬4) السير (8/ 106). (¬5) موقوف على ابن عباس، علقه البخاري (9/ 485) بصيغة الجزم ورواه ابن أبي شيبة (4/ 82/18027) وعزاه الحافظ أيضا إلى سعيد بن منصور.

مجلسه، حمل يده بالأخرى. ابن سعد: حدثنا الواقدي قال: لما دعي مالك، وشوور، وسمع منه، وقبل قوله، حسد، وبغوه بكل شيء، فلما ولي جعفر بن سليمان المدينة، سعوا به إليه، وكثروا عليه عنده، وقالوا: لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء، وهو يأخذ بحديث رواه عن ثابت بن الأحنف في طلاق المكره: أنه لا يجوز عنده، قال: فغضب جعفر، فدعا بمالك، فاحتج عليه بما رفع إليه عنه، فأمر بتجريده، وضربه بالسياط، وجبذت يده حتى انخلعت من كتفه، وارتكب منه أمر عظيم، فوالله ما زال مالك بعد في رفعة وعلو. (¬1) " التعليق: قلت: انظر رحمك الله إلى ثمرة المحنة في الله كيف عاقبتها، وانظر ثبات الإمام مالك على فتواه المستندة إلى حديث رواه؛ لم يحد عنها ولم ير مخالفتها إرضاء للحكام في أهوائهم ومظالمهم شأن علماء الوقت الذين يستصدرون الفتاوى بحسب الطلب، بل بلا طلب، لتحليل الربا والخمور والسفور والأموال والدماء والفروج ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال الذهبي رحمه الله: هذا ثمرة المحنة المحمودة، أنها ترفع العبد عند المؤمنين، وبكل حال فهي بما كسبت أيدينا، ويعفو الله عن كثير، ومن يرد الله به خيرا يصب منه (¬2) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كل قضاء المؤمن خير له" (¬3) وقال الله ¬

(¬1) السير (8/ 79 - 80). (¬2) أحمد (2/ 237) والبخاري (10/ 128/5645) والنسائي في الكبرى (4/ 351/7478) من حديث أبي هريرة. (¬3) أحمد (3/ 117و184) وابن حبان (2/ 507/728) وأبو يعلى (7/ 220 - 221/ 4217و4218) من حديث أنس قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عجبت للمؤمن لا يقضي الله له شيئا إلا كان خيرا له". وذكره الهيثمي (7/ 209 - 210) وقال: "رواه أحمد وأبو يعلى، ورجال أحمد ثقات، وأحد أسانيد أبي يعلى رجاله رجال الصحيح غير أبي بحر ثعلبة، وهو ثقة". وفي الباب عن صهيب وسعد بن أبي وقاص.

موقفه من المشركين:

تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} (¬1) وأنزل تعالى في وقعة أحد قوله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} (¬2). وقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مصيبة فَبِمَا كَسَبَتْ أيديكم ويعفوا عن كثيرٍ} (¬3). فالمؤمن إذا امتحن صبر واتعظ، واستغفر ولم يتشاغل بذم من انتقم منه، فالله حكم مقسط، ثم يحمد الله على سلامة دينه، ويعلم أن عقوبة الدنيا أهون وخير له. - وعن أبي داود قال: حكى لي بعض أصحاب ابن وهب عنه، أن مالكا لما ضرب، حلق وحمل على بعير، فقيل له: ناد على نفسك. فقال: ألا من عرفني، فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا مالك بن أنس، أقول: طلاق المكره ليس بشيء. فبلغ ذلك جعفر بن سليمان الأمير فقال: أدركوه، أنزلوه. (¬4) موقفه من المشركين: - جاء في السير: مالك: لا يستتاب من سب النبي - صلى الله عليه وسلم -، من الكفار ¬

(¬1) محمد الآية (31). (¬2) آل عمران الآية (165). (¬3) الشورى الآية (30). (¬4) السير (8/ 79 - 81و96).

والمسلمين. (¬1) - وفيها قال أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي: سمعت عبد الله بن عمر بن الرماح، قال: دخلت على مالك، فقلت: يا أبا عبد الله، ما في الصلاة من فريضة؟ وما فيها من سنة؟ أو قال نافلة، فقال مالك: كلام الزنادقة، أخرجوه. (¬2) - قال مالك رحمه الله في كتاب الأقضية تحت حديث: "من غير دينه فاضربوا عنقه" (¬3): 'ومعنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيما نرى والله أعلم، من غير دينه فاضربوا عنقه. أنه من خرج من الإسلام إلى غيره، مثل الزنادقة وأشباههم. فإن أولئك، إذا ظهر عليهم، قتلوا ولم يستتابوا. لأنه لا تعرف توبتهم. وأنهم كانوا يسرون الكفر ويعلنون الإسلام. فلا أرى أن يستتاب هؤلاء، ولا يقبل منهم قولهم. وأما من خرج من الإسلام إلى غيره، وأظهر ذلك، فإنه يستتاب. فإن تاب، وإلا قتل. وذلك لو أن قوما كانوا على ذلك، رأيت أن يدعوا إلى الإسلام ويستتابوا. فإن تابوا قبل ذلك منهم. وإن لم يتوبوا قتلوا. ولم يعن بذلك، فيما نرى والله أعلم، من خرج من اليهودية إلى النصرانية، ولا من النصرانية إلى اليهودية، ولا من يغير دينه من أهل الأديان كلها. إلا الإسلام، فمن خرج من الإسلام إلى غيره، وأظهر ذلك، فذلك الذي عني به. والله أعلم'. (¬4) ¬

(¬1) السير (8/ 103). (¬2) السير (8/ 113 - 114). (¬3) تقدم تخريجه في مواقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه سنة (40هـ). (¬4) الموطأ (2/ 736).

موقفه من بدعة القبورية:

موقفه من بدعة القبورية: - جاء في المدخل لابن الحاج: وقال مالك في المبسوطة: وليس يلزم من دخل المسجد وخرج منه من أهل المدينة الوقوف بالقبر، وإنما ذلك للغرباء. فقيل له: إن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه إلا يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، فيسلمون ويدعون ساعة. فقال: لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره ذلك إلا لمن جاء من سفر أو أراده. قال ابن القاسم: ورأيت أهل المدينة إذا خرجوا منها أو دخلوها أتوا القبر فسلموا. قال: وذلك دأبي. (¬1) - وجاء في الاعتصام: قال ابن وضاح: وكان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما عدا قباء وحده. وقد كان مالك يكره كل بدعة وإن كانت في خير. وجميع هذا ذريعة لئلا يتخذ سنة ما ليس بسنة، أو يعد مشروعا ما ليس معروفا. وقد كان مالك يكره المجيء إلى بيت المقدس خيفة أن يتخذ ذلك سنة، وكان يكره مجيء قبور الشهداء، ويكره مجيء قباء خوفا من ذلك مع ما جاء في الآثار من الترغيب فيه. ولكن لما خاف العلماء عاقبة ذلك تركوه. ¬

(¬1) المدخل (1/ 256).

موقفه من الرافضة:

وقال ابن كنانة وأشهب: سمعنا مالكا يقول: لما أتاه سعد بن أبي وقاص قال: وددت أن رجلي تكسرت وأني لم أفعل. وسئل ابن كنانة عن الآثار التي تركوا بالمدينة فقال: أثبت ما في ذلك عندنا قباء إلا أن مالكا كان يكره مجيئها خوفا من أن يتخذ سنة. (¬1) وجاء في غاية الأماني في الرد على النبهاني: أما مالك فقد قال القاضي عياض: وقال مالك في المبسوطة: لا أرى أن يقف عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو ويسلم ولكن يسلم ويمضي، وهذا الذي نقله القاضي عياض ذكره القاضي إسماعيل بن إسحاق في المبسوطة قال: وقال مالك لا أرى أن يقف الرجل عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو ولكن يسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى أبي بكر وعمر ثم يمضي وقال مالك ذلك لأن هذا المنقول عن ابن عمر أنه كان يقول السلام عليك يا رسول الله. السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبتي أو يا أبتاه ثم ينصرف ولا يقف يدعو فرأى مالك ذلك من البدع. (¬2) موقفه من الرافضة: - جاء في ترتيب المدارك: قال أشهب: كنا عند مالك إذ وقف عليه رجل من العلويين وكانوا يقبلون على مجلسه فناداه، يا أبا عبد الله، فأشرف له مالك ولم يكن إذا ناداه أحد يجيبه أكثر من أن يشرف برأسه. فقال له الطالبي: إني أريد أن أجعلك حجة في ما بيني وبين الله. إذا قدمت عليه وسألني قلت له: مالك قال لي. فقال له: قل؟ فقال: من خير الناس بعد ¬

(¬1) الاعتصام (1/ 449 - 450). (¬2) غاية الأماني (1/ 178 - 179).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال أبو بكر قال العلوي: ثم من؟ قال: مالك ثم عمر. قال العلوي ثم من؟ قال الخليفة المقتول ظلما عثمان. قال العلوي: والله لا أجالسك أبدا. قال له مالك: فالخيار إليك. (¬1) " التعليق: انظر رحمك الله حالة القرون الأولى المفضلة، التي كانت فيها أعلام السنة منشورة، وهي أرضها وسماؤها، ومع ذلك تجد أمثال هؤلاء المشاغبين، الذين ينازعون مثل هذا الإمام، ويتوقحون عليه بهذه الوقاحات الخسيسة، والمهم عندنا خط الإمام الواضح الذي يسوره بالكتاب والسنة، ويلتزم به، رضي زيد أم غضب عمرو، وهكذا ينبغي لكل سلفي قرأ هذه المواقف. - روى الخلال في السنة بسنده إلى أبي عروة الزبيري قال: ذكر عند مالك بن أنس رجلا ينتقص، فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ ¬

(¬1) ترتيب المدارك (1/ 90).

بِهِمُ الكفار} (¬1) فقال مالك: من أصبح وفي قلبه غيظ على أصحاب محمد عليه السلام فقد أصابته الآية. (¬2) - وفي ترتيب المدارك: قال مصعب الزبيري وابن نافع: دخل هارون المسجد فركع ثم أتى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أتى مجلس مالك فقال السلام عليك ورحمة الله وبركاته. فقال مالك وعليك السلام يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، ثم قال لمالك: هل لمن سب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الفيء حق؟ قال: لا، ولا كرامة قال: من أين قلت ذلك؟ قال: قال الله {ليغيظ بِهِمُ الكفار} (¬3) فمن عابهم فهو كافر ولا حق للكافر في الفيء، واحتج مرة أخرى في ذلك بقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الذين ... } (¬4) الآيات، قال فهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين هاجروا معه، وأنصاره الذين جاءوا من بعده يقولون {ربنا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا} (¬5) الآية. في ما عدا هؤلاء فلا حق له فيه. (¬6) " التعليق: انظر وفقك الله، إلى هذه الفتوى الصريحة الصادرة من هذا الإمام، ¬

(¬1) الفتح الآية (29). (¬2) السنة للخلال (1/ 478). (¬3) الفتح الآية (29). (¬4) الحشر الآية (8). (¬5) الحشر الآية (10). (¬6) ترتيب المدارك (1/ 90).

والمستفتي هو أمير المؤمنين في وقته، وعلماء المسلمين يحيطون به في كل الأمصار، فهذه الفتوى تعتبر بمنزلة مرسوم من خليفة المسلمين إلى بقية المسلمين في أنحاء أمصار المسلمين، وهي بالنسبة للمسلمين الذين يأتون بعد هذا العهد حجة ومنهاج، ففهم هؤلاء هو الفهم الصحيح النابع من فقه الكتاب والسنة، فالإمام مالك يلحق الشيعة في هذه الفتوى بالكفار الذين يغتاظون من مناقب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل كما قدمنا غير ما مرة، وهو واقع يعاش، أن تصب كل اللعنات على صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكل من ذكرهم بخير فهو عدو لدود لهذه الشرذمة، قبحهم الله أينما حلوا وارتحلوا. - وجاء في طبقات الحنابلة: قال مالك بن أنس: من لزم السنة وسلم منه أصهار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم مات: كان مع الصديقين والشهداء والصالحين. وإن قصر في العمل. (¬1) - قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى: قال مالك وغيره من أئمة العلم: هؤلاء (يعني الروافض) طعنوا في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما طعنوا في أصحابه ليقول القائل: رجل سوء كان له أصحاب سوء، ولو كان رجلا صالحا لكان أصحابه صالحين. (¬2) - وفي أصول الاعتقاد: قال هارون الرشيد لمالك: كيف كان منزلة أبي ¬

(¬1) طبقات الحنابلة (2/ 41). (¬2) مجموع الفتاوى (4/ 429) وبنحوه في الصارم (ص.582).

موقفه من الصوفية:

بكر وعمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: كقرب قبرهما من قبره بعد وفاته قال: شفيتني يا مالك. (¬1) - وفيه عن مالك بن أنس قال: كان السلف يعلمون أولادهم حب أبي بكر وعمر كما يعلمون السورة من القرآن. (¬2) - وقال مالك: من سب أبا بكر جلد، ومن سب عائشة قتل، قيل له: لم؟ قال: من رماها فقد خالف القرآن، لأن الله تعالى قال: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (¬3). (¬4) - وقال أشهب بن عبد العزيز: سئل مالك عن الرافضة، فقال: لا تكلمهم ولا ترو عنهم فإنهم يكذبون. (¬5) - وقال ابن القاسم: سألت مالكا عن أبي بكر وعمر فقال: ما رأيت أحدا ممن أقتدي به يشك في تقديمهما، يعني على عليّ وعثمان، فحكى إجماع أهل المدينة على تقديمهما. (¬6) موقفه من الصوفية: ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (7/ 1378/2461) والشريعة (3/ 452/1909) وذكره في مجموع الفتاوى (4/ 403) والمنهاج (7/ 506). (¬2) أصول الاعتقاد (7/ 1313/2325). (¬3) النور الآية (17). (¬4) الصارم (ص.568). (¬5) المنهاج (1/ 59 - 60). (¬6) المنهاج (2/ 85).

- جاء في المعيار (¬1): سئل مالك بن أنس عن الغنا الذي يفعل بالمدينة، فقال: إنما يفعله عندنا الفساق. قال الشاطبي معلقا: وهذا محمول على غنا النساء. وأما الرجال فغناؤهم مذموم أيضا، بحيث إذا داوم أحد على فعله أو سماعه سقطت عدالته لما فيه من إسقاط المروءة ومخالفة السلف. - وفيه أيضا (¬2): حكى عياض عن التنيسي أنه قال: كنا عند مالك وأصحابه حوله. فقال رجل من أهل نصيبين: يا أبا عبد الله عندنا قوم يقال لهم الصوفية، يأكلون كثيرا، ثم يأخذون في القصائد ثم يقومون فيرقصون، فقال مالك: أصبيان هم؟ قال: لا. أمجانين هم؟ قال: لا، قوم مشايخ، وغير ذلك عقلاء. فقال مالك: ما سمعت أحدا من أهل السلام (¬3) يفعل هذا. قال الشاطبي معلقا: انظر كيف أنكر مالك وهو إمام السنة أن يكون في أهل الإسلام من يفعل هذا إلا أن يكون مجنونا وصبيا!! فهذا بين أنه ليس من شأن الإسلام ثم يقال: ولو فعلوه على جهة اللعب كما يفعله الصبي لكان أخف عليهم مع ما فيه من إسقاط الحشمة وإذهاب المروءة، وترك هدى أهل الإسلام وأرباب العقول، لكنهم يفعلونه على جهة التقرب إلى الله والتعبد به. وأن فاعله أفضل من تاركه. هذا أدهى وأمر، حيث يعتقدون أن اللهو واللعب عبادة، وذلك من أعظم البدع المحرمات، الموقعة في الضلالة، ¬

(¬1) (11/ 41). (¬2) (11/ 41). (¬3) هكذا في الأصل ولعله: الإسلام.

موقفه من الجهمية:

الموجبة للنار والعياذ بالله. موقفه من الجهمية: - جاء في جامع بيان العلم وفضله: وقال مالك: أرأيت إن جاء من هو أجدل منه أيدع دينه كل يوم لدين جديد. (¬1) - وجاء في شرف أصحاب الحديث للخطيب بالسند إلى إسحاق بن عيسى قال: سمعت مالك بن أنس يعيب الجدال في الدين ويقول: كلما جاءنا رجل أجدل من رجل أردنا أن نرد ما جاء به جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) - روى ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله بالسند إلى مصعب بن عبد الله الزبيري قال: كان مالك بن أنس يقول: الكلام في الدين أكرهه ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه، نحو الكلام في رأي جهم والقدر وكل ما أشبه ذلك، ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل، فأما الكلام في دين الله وفي الله عز وجل، فالسكوت أحب إلي، لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلا فيما تحته عمل. قال أبو عمر: .. والذي قاله مالك عليه جماعة الفقهاء والعلماء قديما وحديثا من أهل الحديث والفتوى، وإنما خالف ذلك أهل البدع -المعتزلة وسائر الفرق-، وأما الجماعة على ما قال مالك إلا أن يضطر أحد إلى الكلام فلا يسعه السكوت إذا طمع برد الباطل وصرف صاحبه عن مذهبه، ¬

(¬1) جامع بيان العلم وفضله (2/ 942) ودرء تعارض العقل (1/ 191). (¬2) الشرف (5) وذم الكلام (207) والإبانة (2/ 3/507/ 582) وأصول الاعتقاد (1/ 163/294).

أو خشي ضلال عامة أو نحو هذا. (¬1) - وفي جامع بيان العلم وفضله بالسند إلى أبي عبد الله محمد بن أحمد بن إسحاق ابن خويزمنداد المصري المالكي: قال في كتاب الإجارات من كتابه في الخلاف: قال مالك: لا تجوز الإجارة في شيء من كتب أهل الأهواء والبدع والتنجيم وذكر كتبا ثم قال: وكتب أهل الأهواء والبدع عند أصحابنا هي كتب أصحاب الكلام من المعتزلة وغيرهم وتفسخ الإجارة في ذلك قال: وكذلك كتب القضاء بالنجوم وعزائم الجن وما أشبه ذلك. (¬2) - جاء في ذم الكلام عنه قال: من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب. (¬3) - وجاء في السير: ثنا ابن وهب سمعت مالكا يقول: ليس هذا الجدل من الدين بشيء وسمعته يقول: قلت لأمير المؤمنين فيمن يتكلم في هذه المسائل المعضلة الكلام فيها يا أمير المؤمنين يورث البغضاء. (¬4) - وجاء في ذم الكلام: أن مالكا سئل عن الكلام والتوحيد فقال مالك: محال أن يظن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه علم أمته الاستنجاء ولم يعلمهم التوحيد. (¬5) " التعليق: هذا النص عن مالك فيه رد على من يتهم ابن تيمية بأنه هو الذي ¬

(¬1) جامع بيان العلم وفضله (2/ 938) والاعتصام (2/ 845 - 846). (¬2) جامع بيان العلم وفضله (2/ 942 - 943). (¬3) ذم الكلام (207). (¬4) السير (8/ 108). (¬5) ذم الكلام (250).

اخترع توحيد الأسماء والصفات، فهذا مالك يقررها بأفصح عبارة وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين التوحيد بيانا شافيا وهذه العبارة نفسها هي التي قررها شيخ الإسلام وعمدة ابن القيم في كثير من بحوثه رحم الله الجميع. - أخرج الهروي من طريق عبد الرحمن بن مهدي قال: دخلت على مالك وعنده رجل يسأله عن القرآن، فقال، لعلك من أصحاب عمرو بن عبيد: لعن الله عمرا، فإنه ابتدع هذه البدع من الكلام، ولو كان الكلام علما لتكلم فيه الصحابة والتابعون كما تكلموا في الأحكام والشرائع ولكنه باطل يدل على باطل. (¬1) - جاء في ذم الكلام بالسند إلى أشهب بن عبد العزيز قال: سمعت مالك بن أنس يقول: إياكم والبدع قيل يا أبا عبد الله وما البدع؟ قال أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان. (¬2) " التعليق: نعم يتكلمون في ذلك ببدع أهل الكلام من الجهمية وفروخهم فيؤولون الصفات وينفون الأسماء. ولا يتبعون المنهج السلفي في إثبات ما أثبته الله لنفسه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فلا شك أن هذا من أعظم البدع والمحدثات فلا ينبغي أن تستغل هذه العبارة فيترك ما سواها مما تقدم عن ¬

(¬1) ذم الكلام (207 - 208) والفتاوى الكبرى (5/ 244 - 245) وشرح السنة (1/ 217). (¬2) ذم الكلام (207) وشرح السنة (1/ 217) والفتاوى الكبرى (5/ 244).

الإمام مالك في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين التوحيد أحسن بيان. - جاء في الفتاوى الكبرى: قال: جمعت هذا -أي الموطأ- خوفا من الجهمية أن يضلوا الناس. (¬1) مواقفه من القائلين بخلق القرآن: - وجاء في الاعتصام: روي عن مالك رضي الله عنه في القائل بالمخلوق أنه يوجع ضربا ويسجن حتى يتوب. (¬2) - وجاء في السير بالسند إلى ابن أبي أويس: سمعت مالكا يقول: القرآن كلام الله وكلام الله منه وليس من الله شيء مخلوق. (¬3) - وجاء في ترتيب المدارك للقاضي عياض: وجاء إلى مالك رجل فقال له: ما تقول فيمن يقول القرآن مخلوق؟ قال: زنديق فاقتلوه. فقال: يا أبا عبد الله ليس هو كلامي إنما هو كلام سمعته. قال: لم أسمعه إلا منك. (¬4) - جاء في أصول الاعتقاد عن مالك بن أنس قال: من قال القرآن مخلوق فيستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه. (¬5) - وفيه عن عبد الله بن نافع الصايغ قال: قلت لمالك بن أنس: إن قوما ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى (5/ 15). (¬2) الاعتصام (1/ 227) والسنة لعبد الله (41) وأصول الاعتقاد (2/ 347/497). (¬3) السير (8/ 101) والفتاوى الكبرى (5/ 75) وترتيب المدارك (2/ 43) وأصول الاعتقاد (2/ 390/478) والإبانة (2/ 12/38/ 230) والشريعة (1/ 220/178). (¬4) الحلية (6/ 325) وترتيب المدارك (2/ 44) وأصول الاعتقاد (2/ 275 - 277/ 412) والإبانة (2/ 12/52 - 54/ 251). (¬5) التلبيس (109) وأصول الاعتقاد (2/ 346/495) والإبانة (2/ 12/70 - 71/ 293) والشريعة (1/ 220/179).

بالعراق يقولون: القرآن مخلوق؟ فنتر يده عن يدي فلم يكلمني الظهر ولا العصر ولا المغرب، فلما كان العشاء الآخرة قال لي: يا عبد الله بن نافع من أين لك هذا الكلام؟ ألقيت في قلبي شيئا هو الكفر، صاحب هذا الكلام يقتل ولا يستتاب. (¬1) - وفيه عن عبد الله بن نافع الصايغ سأله مالك قال: ويلك يا عبد الله من سألك عن هذه المسألة؟ قلت: رجلان ما أعرفهما. قال: اطلبهما فجئني بهما أو بأحدهما حتى أركب إلى الأمير فآمره بقتلهما أو حبسهما أو نفيهما. (¬2) - وفيه عن عبد الله بن نافع قال: كان مالك يقول: كلم الله عز وجل موسى. (¬3) - وجاء في الإبانة: عن عبد الله بن هارون قال: سمعت محمد بن موسى قال: كنت عند مالك بن أنس، إذ جاءه رجل من أهل المغرب، فقال: يا أبا عبد الله اشفني شفاك الله، ما تقول؟ فقال: كلام الله غير مخلوق. (¬4) - وفيها: عن أبي مصعب الزهري قال: سمعت مالك بن أنس يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، فمن زعم أنه مخلوق، فقد كفر بما أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم -، والذي يقف شر من الذي يقول. (¬5) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 346 - 347/ 496). (¬2) أصول الاعتقاد (2/ 347 - 348/ 500). (¬3) أصول الاعتقاد (2/ 383/579) والإبانة (2/ 14/319/ 491). (¬4) الإبانة (2/ 12/13 - 14/ 196). (¬5) الإبانة (2/ 12/47 - 48/ 241).

مواقفه من المؤولين لصفة النظر: - جاء في ترتيب المدارك: قال ابن نافع وأشهب -وأحدهما يزيد على الآخر قلت: يا أبا عبد الله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (¬1) ينظرون إلى الله، قال نعم بأعينهم هاتين، فقلت له: فإن قوما يقولون: لا ينظر إلى الله، إن ناظرة بمعنى منتظرة إلى الثواب. قال: كذبوا بل ينظر إلى الله أما سمعت قول موسى عليه السلام {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} (¬2) أفترى موسى سأل ربه محالا؟ فقال الله لن تراني في الدنيا لأنها دار فناء ولا ينظر ما يبقى بما يفنى فإذا صاروا إلى دار البقاء، نظروا بما يبقى إلى ما يبقى. وقال الله: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (¬3). (¬4) - وجاء في أصول الاعتقاد: وحدثنا أبو موسى الأنصاري أنه قال لمالك: يا أبا عبد الله، فإن قوما يزعمون أن الله لا يرى، قال مالك: السيف، السيف. (¬5) - عن ابن وهب قال: سمعت مالك بن أنس يقول: الناظرون ينظرون إلى الله عز وجل يوم القيامة بأعينهم. (¬6) ¬

(¬1) القيامة الآيتان (22و23). (¬2) الأعراف الآية (143). (¬3) المطففين الآية (15). (¬4) ترتيب المدارك (2/ 42) والسير (8/ 102) وأصول الاعتقاد (3/ 555 - 556/ 877). (¬5) أصول الاعتقاد (3/ 556/872). (¬6) أصول الاعتقاد (3/ 555/870) والشريعة (2/ 8 - 9/ 615) والسير (8/ 99).

موقفه من الخوارج:

- عن الوليد بن مسلم قال: سألت الأوزاعي وسفيان الثوري ومالك ابن أنس عن هذه الأحاديث التي فيها ذكر الرؤية؟ فقالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف. (¬1) مواقفه من المؤولين لصفة العلو: - قال أبو نعيم في الحلية بالسند إلى جعفر بن عبد الله قال: كنا عند مالك بن أنس فجاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله، الرحمن على العرش استوى كيف استوى؟ فما وجد مالك من شيء ما وجد من مسألته فنظر إلى الأرض وجعل ينكث بعود في يده حتى علاه الرحضاء -يعني العرق- ثم رفع رأسه ورمى بالعود، وقال: الكيف منه غير معقول والاستواء منه غير مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، وأظنك صاحب بدعة وأمر به فأخرج. (¬2) - وجاء في السير: وروى عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب الرد على الجهمية عن عبد الله بن نافع قال: قال مالك: الله في السماء وعلمه في كل مكان لا يخلو منه شيء. (¬3) موقفه من الخوارج: - قال ابن القاسم: بلغني أن مالكا قال: الدماء موضوعة عنهم، وأما ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (3/ 582/930) والشريعة (2/ 104 - 105/ 765) وشرح السنة للبغوي (1/ 171). (¬2) الحلية (6/ 325 - 326) شرح السنة (1/ 171) وأصول الاعتقاد (3/ 441/664) والاعتصام (1/ 173) ومجموع الفتاوى (3/ 25) والسير (8/ 100). (¬3) السير (8/ 101) والسنة لعبد الله (41) والشريعة (2/ 67 - 68/ 695) والفتاوى الكبرى (5/ 154) وأصول الاعتقاد (3/ 445/673).

الأموال فإن وجد شيء بعينه أخذ، وإلا لم يتبعوا بشيء، قال ذلك في الخوارج، قال ابن القاسم: وفرق بين المحاربين وبين الخوارج، لأن الخوارج خرجوا واستهلكوا ذلك على تأويل يرون أنه صواب، والمحاربون خرجوا فسقا مجونا وخلاعة على غير تأويل، فيوضع عن المحارب إذا تاب قبل أن يقدر عليه حد الحرابة، ولا توضع عنه حقوق الناس - يعني في دم ولا مال. - قال إسماعيل بن إسحاق: رأى مالك قتل الخوارج وأهل القدر من أجل الفساد الداخل في الدين، وهو من باب الفساد في الأرض، وليس إفسادهم بدون فساد قطاع الطريق والمحاربين للمسلمين على أموالهم، فوجب بذلك قتلهم، إلا أنه يرى استتابتهم لعلهم يراجعون الحق، فإن تمادوا قتلوا على إفسادهم لا على كفر. (¬1) - جاء في المدونة: قلت: أرأيت قتال الخوارج ما قول مالك فيهم؟ قال: قال مالك -في الإباضية والحرورية وأهل الأهواء كلهم- أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا. - قال ابن القاسم: وقال مالك في الحرورية وما أشبههم: أنهم يقتلون إذا لم يتوبوا إذا كان الإمام عدلا. فهذا يدلك على أنهم إن خرجوا على إمام عدل وهم يريدون قتاله ويدعون إلى ما هم عليه دعوا إلى الجماعة والسنة فإن أبوا قتلوا. قال: ولقد سألت مالكا عن أهل العصبية الذين كانوا بالشام. قال مالك: أرى للإمام أن يدعوهم إلى الرجوع وإلى مناصفة الحق بينهم، فإن رجعوا وإلا قوتلوا. قلت: أرأيت الخوارج إذا خرجوا فأصابوا الدماء ¬

(¬1) ابن عبد البر (فتح البر 1/ 471 - 472).

موقفه من المرجئة:

والأموال ثم تابوا ورجعوا؟ قال: بلغني أن مالكا قال الدماء موضوعة عنهم، وأما الأموال فإن وجدوا شيئا عندهم بعينه أخذوه وإلا لم يتبعوا بشيء من ذلك وإن كانت لهم الأموال، لأنهم إنما استهلكوها على التأويل، وهذا الذي سمعت. قلت: فما فرق ما بين المحاربين والخوارج في الدماء؟ قال: لأن الخوارج خرجوا على التأويل والمحاربين خرجوا فسقا وخلوعا على غير تأويل، وإنما وضع الله عن المحاربين إذا تابوا حد الحرابة حق الإمام، وإنه لا يوضع عنهم حقوق الناس، وإنما هؤلاء الخوارج قاتلوا في دين يرون أنه صواب. قلت: أرأيت قتلى الخوارج أيصلى عليهم أم لا؟ قال: لا. قال لي مالك في القدرية والإباضية: لا يصلى على موتاهم، ولا تتبع جنائزهم، ولا تعاد مرضاهم، فإذا قتلوا فذلك أحرى أن لا يصلى عليهم. (¬1) موقفه من المرجئة: - عن معن بن عيسى قال: انصرف مالك بن أنس يوما من المسجد وهو متكئ على يدي، قال: فلحقه رجل يقال له أبو الجويرية كان يتهم بالإرجاء، فقال: يا أبا عبد الله اسمع مني شيئا أكلمك به وأحاجك وأخبرك برأيي، قال: فإن غلبتني؟ قال: فإن غلبتك اتبعتني، قال: فإن جاء رجل آخر فكلمنا فغلبنا؟ قال: نتبعه. فقال مالك: يا عبد الله، بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - بدين واحد وأراك تنتقل من دين إلى دين. (¬2) - وعن معن بن عيسى: أن رجلا بالمدينة يقال له أبو الجويرية يرى ¬

(¬1) المدونة (2/ 47 - 48). (¬2) الإبانة (2/ 507 - 508/ 583) والشريعة (1/ 189/123) وانظر السير (8/ 106).

الإرجاء فقال مالك بن أنس: لا تناكحوه. (¬1) - جاء في السير: وقيل: كان سبب نزوح قتيبة من مدينة بلخ، وانقطاعه بقرية بغلان، أنه حضر عنده مالك وجاءه إبراهيم البلخي للسماع فبرز قتيبة وقال: هذا من المرجئة فأخرجه مالك من مجلسه -وكان لإبراهيم صورة كبيرة ببلده- فعادى قتيبة وأخرجه. (¬2) - عن عبد الله بن نافع قال: قال مالك: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. (¬3) - عن أبي إسماعيل يعني الترمذي قال: سمعت إسحاق بن محمد يقول: كنت عند مالك بن أنس فسمعت حماد بن أبي حنيفة يقول لمالك: يا أبا عبد الله إن لنا رأيا نعرضه عليك فإن رأيته حسنا مضينا عليه وإن رأيته غير ذلك كففنا عنه. قال: ما هو؟ قال: يا أبا عبد الله لا نكفر أحدا بذنب، الناس كلهم مسلمون عندنا قال: ما أحسن هذا. ما بهذا بأس، فقام إليه داود بن أبي زنبر وإبراهيم بن حبيب وأصحاب له فقاموا إليه فقالوا: يا أبا عبد الله إن هذا يقول بالإرجاء قال: ديني مثل دين الملائكة المقربين وديني مثل دين جبريل وميكائيل والملائكة المقربين. قال: لا والله: الإيمان يزيد وينقص {ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم} (¬4) وقال إبراهيم: {أرني كيف تحيي ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (5/ 1067/1827). (¬2) (11/ 20). (¬3) أصول الاعتقاد (5/ 1030 - 1031/ 1742) والشريعة (1/ 272 - 273/ 271) وبنحوه في الإبانة (2/ 6/812/ 1111). (¬4) الفتح الآية (4).

موقفه من القدرية:

الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (¬1) فطمأنينة قلبه زيادة في إيمانه. (¬2) - وعن أبي سلمة الخزاعي قال: قال مالك وشريك وأبو بكر بن عياش وعبد العزيز بن أبي سلمة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد: الإيمان المعرفة والإقرار والعمل. (¬3) - وعن الوليد بن مسلم قال سمعت أبا عمرو يعني الأوزاعي ومالكا وسعيد بن عبد العزيز يقولون: ليس للإيمان منتهى هو في زيادة أبدا وينكرون على من يقول إنه مستكمل الإيمان وإن إيمانه كإيمان جبريل. (¬4) - وعن الوليد قال: سمعت أبا عمرو -يعني الأوزاعي- ومالك بن أنس وسعيد بن عبد العزيز لا ينكرون أن يقولوا أنا مؤمن ويأذنون في الاستثناء أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله. (¬5) موقفه من القدرية: - جاء في الاعتصام قال: ثم حكي أيضا عن مالك أنه قال: لا تجالس القدري ولا تكلمه إلا أن تجلس إليه فتغلظ عليه، لقوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ¬

(¬1) البقرة الآية (260). (¬2) أصول الاعتقاد (5/ 1031/1743). (¬3) السنة لعبد الله (83) وأصول الاعتقاد (4/ 931/1587). (¬4) السنة لعبد الله (92 - 93) والإبانة (2/ 901/1259). (¬5) الإبانة (2/ 873/1192) والسنة لعبد الله (100).

ورسوله} (¬1) فلا توادوهم. (¬2) - وجاء في أصول الاعتقاد: قال عبد الله بن أحمد عن أبيه أحمد بن حنبل أنه قال: كان ثور بن يزيد الكلاعي يرى القدر وكان من أهل حمص، أخرجوه ونفوه لأنه كان يرى القدر. قال: وبلغني أنه أتى المدينة فقيل لمالك: قد قدم ثور فقال: لا تأتوه. فقال: لا يجتمع عند رجل مبتدع في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) - جاء في السير: ولمالك رحمه الله رسالة في القدر كتبها إلى ابن وهب وإسنادها صحيح. (¬4) - وجاء في السنة لابن أبي عاصم قال: حدثنا سلمة حدثنا مروان بن محمد الطاطري قال: سمعت مالك بن أنس يسأل عن تزويج القدري فقرأ: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} (¬5). (¬6) - وجاء في أصول الاعتقاد: قال أبو سهيل قال لي عمر بن عبد العزيز ما تقول في القدرية قال: قلت أرى أن تستتيبهم، فإن تابوا وإلا عرضتهم على السيف، قال عمر: ذلك رأيي قال أبو مسهر: قلت لمالك: يا أبا عبد الله ¬

(¬1) المجادلة الآية (22). (¬2) الاعتصام (1/ 173 - 174). (¬3) أصول الاعتقاد (4/ 801/1337). (¬4) السير (8/ 88) وقد أثنى على هذه الرسالة القاضي عياض انظر ترتيب المدارك (1/ 204). (¬5) البقرة الآية (221). (¬6) السنة لابن أبي عاصم (1/ 88) وأصول الاعتقاد (4/ 808/1352).

وهو رأيك؟ قال نعم. (¬1) - وقال اللالكائي: وجدت بخط أبي أحمد عبيد الله بن محمد الفرضي وقد أجاز لي الرواية عنه- قال: قرأت على أبي بكر الأبهري (كتاب شرح ابن عبد الحكم) عن مالك أنه قال في القدرية يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا. فقلت له: من القدرية عند مالك الذين قال فيهم هذا؟ فقال: روى ابن وهب عنه أنه قال: الذين يقولون إن الله لم يخلق المعاصي. وروى عنه عبد الرزاق أنهم الذين يقولون: إن الله لا يعلم الشيء قبل كونه. (¬2) - وجاء في السير: عن مالك -وسئل عن الصلاة خلف أهل البدع القدرية وغيرهم- فقال: لا أرى أن يصلى خلفهم. قيل: فالجمعة؟ قال: إن الجمعة فريضة، وقد يذكر عن الرجل الشيء، وليس هو عليه. فقيل له: أرأيت إن استيقنت، أو بلغني من أثق به، أليس لا أصلي الجمعة خلفه؟ قال: إن استيقنت. كأنه يقول: إن لم يستيقن ذلك، فهو في سعة من الصلاة خلفه. (¬3) - وقال سحنون: وقال أشهب سئل مالك عن القدرية فقال: قوم سوء فلا تجالسوهم، قيل ولا يصلى خلفهم؟ فقال: نعم. (¬4) - وعنه، قال: القدرية، لا تناكحوهم، ولا تصلوا خلفهم. (¬5) - وفي الإبانة: سئل مالك عن أهل القدر: أيكف عن كلامهم ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 784/1315) والسنة (147) وبنحوه في السير (8/ 100). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 775 - 776/ 1301). (¬3) السير (8/ 68) والإبانة (2/ 10/257/ 1862). (¬4) أصول السنة لابن أبي زمنين (305). (¬5) السير (8/ 103).

وخصومتهم أفضل؟ قال: نعم، إذا كان عارفا بما هو عليه؛ قال: ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، ويخبرهم بخلافهم، ولا يواضعوا القول ولا يصلى خلفهم؛ قال مالك: ولا أرى أن ينكحوا. (¬1) - وروي عن مالك أنه سئل عن القدري الذي يستتاب؟ قال: الذي يقول: إن الله عز وجل لم يعلم ما العباد عاملون حتى يعملوا. (¬2) - وعن مالك بن أنس أنه قال: ما من شيء أبين في الرد على أهل القدر من قول الله عز وجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (¬3) وقال عز وجل: {إن هي إلا فتنتك تصيب بها من تشاء} (¬4). وقال: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (¬5) وقال عز وجل: {لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} (¬6) وقال مالك رحمه الله تعالى: ومثل هذا في القرآن كثير. (¬7) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 10/256 - 257/ 1861). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 808/1353). (¬3) الإنسان الآيتان (30و31). (¬4) الأعراف الآية (155). (¬5) إبراهيم الآية (27). (¬6) الإسراء الآية (4). (¬7) أصول السنة لابن أبي زمنين (206).

حماد بن زيد بن درهم (179 هـ)

- وجاء في السير: عن ابن وهب سمعت مالكا يقول لرجل سأله عن القدر: نعم. قال الله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هداها} (¬1). (¬2) - وقال مالك بن أنس: ما أضل من يكذب القدر، لو لم تكن عليهم حجة إلا قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} (¬3)؛ لكفى به حجة. (¬4) - وقد ساق الإمام مالك رحمه الله في موطئه من الأحاديث ما فيه الكفاية للرد على القدرية بينتها بحمد الله في جزء مستقل سميته عقيدة الإمام مالك وقد طبع والحمد لله. حماد بن زيد بن درهم (¬5) (179 هـ) العلامة، الحافظ الثبت، محدث الوقت حَمَّاد بن زَيْد بن دِرْهَم أبو إسماعيل الأزدي مولى آل جرير بن حازم البصري، الأزرق الضرير، أحد الأعلام أصله من سجستان: سُبي جده درهم منها. سمع من أنس بن سيرين وعمرو بن دينار وأبي عمران الجوني وروى عنه إبراهيم بن أبي عبلة وسفيان، ¬

(¬1) السجدة الآية (12). (¬2) السير (8/ 99). (¬3) التغابن الآية (2). (¬4) الإبانة (2/ 10/256/ 1858) والشريعة (1/ 435 - 436/ 549). (¬5) طبقات ابن سعد (7/ 286 - 287) والجرح والتعديل (1/ 176 - 183) والسير (7/ 456 - 466) وتهذيب الكمال (7/ 239 - 252) والحلية (6/ 257 - 267) ومشاهير علماء الأمصار (157) وتذكرة الحفاظ (1/ 228 - 229) وشذرات الذهب (1/ 292).

وشعبة وهم من شيوخه وعبد الوارث بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن المبارك. قال عبد الرحمن بن مهدي: أئمة الناس في زمانهم أربعة: سفيان الثوري بالكوفة ومالك بالحجاز، والأوزاعي بالشام وحماد بن زيد بالبصرة. وقال يحيى بن معين: ليس أحد أثبت من حماد بن زيد، وقال يحيى ابن يحيى النيسابوري: ما رأيت شيخا أحفظ من حماد بن زيد، وقال أحمد بن حنبل: حماد بن زيد من أئمة المسلمين من أهل الدين، هو أحب إلي من حماد ابن سلمة. وقال عبد الرحمن بن مهدي: لم أر أحدا قط أعلم بالسنة ولا بالحديث الذي يدخل في السنة من حماد بن زيد. وقال عبد الرحمن بن خراش الحافظ: لم يخطئ حماد بن زيد في حديث قط، وفيه يقول ابن المبارك: أيها الطالب علما ... إيت حماد بن زيد تقتبس حلما وعلما ... ثم قيده بقيد ودع البدعة من ... آثار عمرو بن عبيد قال حماد بن زيد في قوله تعالى: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} (¬1) قال: أرى رفع الصوت عليه بعد موته كرفع الصوت عليه في حياته، إذا قرئ حديثه وجب عليك أن تنصت له كما تنصت للقرآن. قال محمد بن وزير الواسطي: سمعت يزيد بن هارون يقول: قلت لحماد بن زيد: هل ذكر الله أصحاب الحديث في القرآن؟ قال: بلى الله تعالى يقول: {فلولا نَفَرَ مِنْ ¬

(¬1) الحجرات الآية (2).

موقفه من المبتدعة:

كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائفةٌ ... } (¬1). توفي حماد بن زيد رحمه الله تعالى في سنة تسع وسبعين ومائة وفاقا في شهر رمضان. موقفه من المبتدعة: - عن حماد قال: كلما ازداد صاحب البدعة اجتهادا ازداد من الله بعدا. (¬2) - وعن مؤمل بن إسماعيل قال: قال بعض أصحابنا لحماد بن زيد: مالك لم ترو عن عبد الكريم (¬3) إلا حديثا واحدا؟ قال: ما أتيته إلا مرة واحدة، لمساقه في هذا الحديث، وما أحب أن أيوب علم بإتياني إليه وأن لي كذا وكذا، وإني لأظنه لو علم، لكانت الفيصل بيني وبينه. (¬4) موقفه من الرافضة: قال حماد بن زيد: لئن قدمت عليا على عثمان لقد قلت إن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قد خانوا. (¬5) موقفه من الجهمية: - جاء في السير: عن سليمان بن حرب قال: سأل بشر بن السري ¬

(¬1) التوبة الآية (122). (¬2) ذم الكلام (ص.124). (¬3) وهو عبد الكريم بن أبي المخارق البصري، ضعفه ابن عيينة وأحمد وابن معين، انظر التهذيب (6/ 376). (¬4) ابن وضاح في البدع (ص.112 - 113) وأورده الشاطبي في الاعتصام (2/ 791 - 792). (¬5) أصول الاعتقاد (7/ 1424/2557).

موقفه من المرجئة:

حماد بن زيد عن حديث "ينزل ربنا" (¬1) أيتحول؟ فسكت، ثم قال: هو في مكانه، يقرب من خلقه كيف شاء. (¬2) - وفيها عن أبي النعمان عارم قال: قال حماد بن زيد: القرآن كلام الله أنزله جبريل من عند رب العالمين. (¬3) - جاء في الإبانة: عن محمد بن يحيى الأزدي قال: حدثني مسدد، قال: كنت عند يحيى بن سعيد القطان، وجاء يحيى بن إسحاق بن توبة العنبري، فقال له يحيى بن سعيد: حدث هذا -يعني: مسددا-: كيف قال حماد بن زيد فيما سألته؟ قال: سألت حماد بن زيد عن من قال: كلام الناس ليس بمخلوق، فقال: هذا كلام أهل الكفر. (¬4) - وفيها عن فطر بن حماد قال: سألت المعتمر وحماد بن زيد عن من قال: القرآن مخلوق، فقالا: كافر. (¬5) - وفيها: عن سليمان بن حرب قال: سمعت حماد بن زيد يقول: إن هؤلاء الجهمية إنما يحاولون يقولون: ليس في السماء شيء. (¬6) موقفه من المرجئة: - عن أبي سلمة الخزاعي قال: قال مالك وشريك وأبو بكر بن عياش ¬

(¬1) انظر تخريجه في مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ). (¬2) السير (9/ 333) ودرء التعارض (2/ 25). (¬3) السير (7/ 461) وأصول الاعتقاد (2/ 384/582) والسنة لعبد الله (31). (¬4) الإبانة (1/ 12/353/ 162). (¬5) الإبانة (2/ 12/58/ 260). (¬6) الإبانة (2/ 13/95/ 329) والسنة لعبد الله (15) والسنة للخلال (5/ 91) والسير (7/ 461) واجتماع الجيوش (126) ومجموع الفتاوى (5/ 52).

موقفه من القدرية:

وعبد العزيز بن أبي سلمة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد: الإيمان المعرفة والإقرار والعمل إلا أن حماد بن زيد كان يفرق بين الإيمان والإسلام ويجعل الإسلام عاما والإيمان خاصا. (¬1) - عن الليث بن خالد البلخي قال: حدثنا حماد بن زيد: وسألنا عن رجل من بلادنا فعرفناه قال: ما كان أجرأه كان يقول: أنا مؤمن حقا البتة ويسمونا شكاكا، والله ما شككنا في ديننا قط ولكن جاءت أشياء، أليس ذكر أن "اليسير من الرياء شرك" (¬2) فأينا لم يراء. (¬3) موقفه من القدرية: جاء في السير: وورد عن حماد بن زيد أنه كان ينهى عن الأخذ عن عبد الوارث لمكان القدر. (¬4) سَلاَّم بن سُلَيْم (¬5) (179 هـ) سلام بن سليم أبو الأحوص الإمام الثقة الحافظ الحنفي الكوفي. روى ¬

(¬1) السنة لعبد الله (83) والإبانة (2/ 806/1096). (¬2) ابن ماجه (2/ 1320 - 1321/ 3989) والحاكم (4/ 328) وقال: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. لكن إسناد الحديث ضعيف، قال البوصيري: "في إسناده عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف". وأيضا فيه عيسى ابن عبد الرحمن الزرقي المدني، وهو ضعيف اتفاقا. والحديث له طرق أخرى لكنها لا تخلو من ضعف. انظر الضعيفة (2975). (¬3) السنة لعبد الله (99). (¬4) السير (8/ 303). (¬5) السير (8/ 281 - 284) وتهذيب الكمال (12/ 282 - 285) وطبقات ابن سعد (6/ 379) وشذرات الذهب (1/ 292) وميزان الاعتدال (2/ 176 - 177).

موقفه من المبتدعة:

عن زياد بن علاقة والأسود بن قيس وآدم بن علي وغيرهم. وعنه عبد الرحمن ابن مهدي ووكيع وأبو بكر بن أبي شيبة وآخرون. وقال عثمان بن سعيد: قلت ليحيى: أبو الأحوص أحب إليك أو أبو بكر بن عياش، قال: ما أقربهما. وقال أحمد العجلي: كان ثقة صاحب سنة واتباع. قرأ القرآن على حمزة. مات أبو الأحوص ومالك وحماد بن زيد سنة تسع وسبعين ومائة. موقفه من المبتدعة: عن بشر بن الحارث قال: كان أبو الأحوص يقول لنفسه: يا سلام نم على سنة خير من أن تقوم على بدعة. (¬1) موقفه من الرافضة: جاء في السير: قال أحمد العجلي: كان ثقة صاحب سنة واتباع، وكان إذا ملئت داره من أصحاب الحديث، قال لابنه أحوص: يا بني قم، فمن رأيته في داري يشتم أحدا من الصحابة فأخرجه، ما يجيء بكم إلينا؟ (¬2) مساور الوراق (¬3) (من السابعة) مُسَاوِر الوَرَّاق الكوفي، يقال: إنه أخو سيار أبي الحكم لأمه، ويقال ¬

(¬1) الإبانة (1/ 2/360/ 251). (¬2) السير (8/ 282) وتذكرة الحفاظ (1/ 250). (¬3) المعرفة والتاريخ (2/ 686) وثقات ابن حبان (7/ 502) وتهذيب الكمال (27/ 425 - 427) وتاريخ الإسلام (حوادث 141 - 160/ص.290) وتهذيب التهذيب (10/ 103) والتقريب (2/ 174).

موقفه من المبتدعة:

اسم أبيه سوار بن عبد الحميد. روى عن سيار أبي الحكم وشعيب بن يسار مولى ابن عباس وجعفر بن عمرو بن حريث وأبي حصين عثمان بن عاصم الأسدي. روى عنه سفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح وحماد بن أسامة. كان يقول الشعر، وثقه ابن معين وابن حبان. قال سفيان بن عيينة: وكان مساور -يعني الوراق- رجلا صالحا لا بأس به إلا أنه كان له رأي في أبي حنيفة. ومن كلامه: إنما تطيب المجالس بخفة الجلساء. وأيضا: ما كنت أقول لرجل إني أحبك في الله ثم أمنعه شيئا من الدنيا. قال ابن حجر: صدوق من السابعة. وذكره أسلم بن سهل الواسطي في تاريخ واسط في أهل القرن الثاني. موقفه من المبتدعة: وجاء في الإبانة عن أبي علي محمد بن سعد بن الحسين عن الأسود البوشجاني قال: قال مساور الوراق: كنا من العلم قبل اليوم في سعة ... حتى ابتلينا بأصحاب المقاييس قوم إذا ناظروا ضجوا كأنهم ... ثعالب صوتت بين النواويس أما العريب فقوم لا عطاء لهم ... وفي الموالي علامات المفاليس قاموا عن السوق إذ قلت مكاسبهم ... وأحدثوا الرأي والاقتار والبؤس قال أبو بكر: العريب تصغير العرب. (¬1) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/549/ 692).

عبد الله بن بكر المزني (من السابعة)

عبد الله بن بكر المزني (¬1) (من السابعة) عبد الله بن بكر بن عبد الله المُزَنِي البصري. روى عن أبيه والحسن البصري ومحمد بن سيرين وحميد بن هلال وعبد الله بن عمر العمري. وعنه مسلم بن إبراهيم وعفان بن مسلم وعبد الرحمن بن مهدي وحسان بن حسان البصري وآخرون. قال الحافظ ابن حجر: صدوق من السابعة. موقفه من الجهمية: جاء في السنة عنه قال: ما أحد أحب إلي من عمرو وكان يحب أن يتشبه به في حياة الحسن قال: فإني لأذكر أول يوم تكلم فيه. قال: فتفرقنا عنه فما كنت أحب أن أكلمه قال: فلقيني يوما في زقاق فلم أقدر أن أتوارى منه، قال: فقمت فلما نظر إلي قال: لا تخف ليس هاهنا أيوب ولا يونس. (¬2) هارون بن سعد العجلي الكوفي (¬3) (من الطبقة السابعة) هارون بن سعد العِجْلِيّ الكوفي. روى عن إبراهيم التيمي، وسليمان الأعمش، وأبي إسحاق السبيعي. وحدث عنه الثوري، وشعبة بن الحجاج، وشريك بن عبد الله. وقال عنه ابن حبان والعقيلي والذهبي: إنه كان يغلو في الرفض. ولعله تاب منه فقد ذكر له ابن قتيبة أبياتا في تأويل مختلف الحديث ¬

(¬1) تهذيب الكمال (14/ 344 - 346) وتهذيب التهذيب (5/ 163) والتقريب (1/ 481) (¬2) السنة لعبد الله (152). (¬3) تهذيب الكمال (30/ 85) وثقات ابن حبان (7/ 579) والمجروحين (3/ 94) والضعفاء للعقيلي (4/ 362) وميزان الاعتدال (4/ 284) وتهذيب التهذيب (11/ 6) والتقريب (2/ 258).

موقفه من الرافضة:

تدل على نزوعه عن الرفض ولذلك قال عنه ابن حجر: صدوق رمي بالرفض، ويقال: رجع عنه والله أعلم. من الطبقة السابعة. موقفه من الرافضة: قال هارون بن سعد العجلي: ألم تر أن الرافضين تفرقوا ... فكلهم في جعفر قال منكرا فطائفة قالوا إمام ومنهم ... طوائف سمته النبي المطهرا ومن عجب لم أقضه جلد جفرهم ... برئت إلى الرحمن ممن تجفرا برئت إلى الرحمن من كل رافض ... بصير بباب الكفر في الدين أعورا إذا كف أهل الحق عن بدعة مضى ... عليها وإن يمضوا على الحق قصرا ولو قال إن الفيل ضب لصدقوا ... ولو قال زنجي تحول أحمرا وأخلف من بول البعير فإنه ... إذا هو للإقبال وجه أدبرا فقبح أقوام رموه بفرية ... كما قال في عيسى الفرى من تنصرا (¬1) شهاب بن خراش بن حوشب (¬2) (قبل 180 هـ) الإمام القدوة العالم شِهَاب بن خِرَاش بن حَوْشَب، أبو الصلت الشيباني ثم الحوشبي الواسطي أخو عبد الله وابن أخي العوام بن حوشب، أصله كوفي تحول إلى الرملة. حدث عن عمر بن مرة وأبان بن عياش، وعبد الملك ¬

(¬1) تأويل مختلف الحديث (71). (¬2) التاريخ لابن معين (2/ 259) والجرح والتعديل (4/ 362) والسير (8/ 284 - 287) وتهذيب الكمال (12/ 568 - 572) وميزان الاعتدال (2/ 281 - 282) تقريب التهذيب (1/ 355).

موقفه من الرافضة:

بن عمير. وروى عنه ابن مهدي وعبد الله بن ميمون القداح، وابن أبي فديك، قال فيه أبو زرعة: ثقة صاحب سنة. قال عبد الرحمن بن مهدي: لم أر أحدا أجمع من عبد الله ابن المبارك، ولم أر أحدا أقدمه على بشر بن منصور، ولم أر أحسن وصفا للسنة من شهاب بن خراش، ولم أر أحدا أعلم بالسنة من حماد بن زيد ولسفيان علمه وزهده. مات رحمه الله قبل سنة ثمانين ومائة. موقفه من الرافضة: جاء في السير: قال شهاب بن خراش: أدركت من أدركت من صدرة هذه الأمة، وهم يقولون: اذكروا مجلس أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تأتلف عليه القلوب، ولا تذكروا الذي شجر بينهم، فتحرشوا عليهم الناس. (¬1) وفي تهذيب الكمال: اذكروا محاسن أصحاب رسول الله ... موقفه من القدرية والمرجئة: جاء في السير بالسند إلى هشام بن عمار قال: سمعت شهاب بن خراش يقول: إن القدرية أرادوا أن يصفوا الله كلمة واحدة يقرب بين حروفها بِعَدْلِهِ فأخرجوه من فضله. (¬2) وجاء في تهذيب الكمال عن هشام بن عمار، حدثنا شهاب بن خراش الحوشبي، لقيته وأنا شاب في سنة أربع وسبعين يعني ومائة، وقال لي: إن لم تكن ¬

(¬1) السير (8/ 285) وتهذيب الكمال (12/ 571). (¬2) السير (8/ 285).

موقف السلف من رابعة العدوية الصوفية (180 هـ)

قدريا ولا مرجئا حدثتك، وإلا لم أحدثك، فقلت: ما فيَّ من هذين شيء. (¬1) موقف السلف من رابعة العدوية الصوفية (180 هـ) من ترهاتها وفضائح الصوفية: جاء في السير: قال أبو معمر المقعد: نظرت رابعة إلى رياح يضم صبيا من أهله ويقبله. فقالت: أتحبه؟ قال: نعم. قالت ما كنت أحسب أن في قلبك موضعا فارغا لمحبة غيره تبارك اسمه. فغشي عليه، ثم أفاق، وقال: رحمة منه تعالى ألقاها في قلوب العباد للأطفال. (¬2) " التعليق: ماذا تقول رابعة فيما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث عائشة قالت: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: تقبلون الصبيان فما نقبلهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة". (¬3) ولكنها تلبيسات إبليس على المتصوفة. ¬

(¬1) (12/ 572). (¬2) السير (8/ 174). (¬3) البخاري (10/ 522/5998) ومسلم (4/ 1808/2317) وابن ماجه (2/ 1209/3665).

عبد الله بن المبارك بن واضح (181 هـ)

عبد الله بن المبارك بن واضح (¬1) (181 هـ) الإمام شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك بن واضح عالم زمانه وأمير الأتقياء في وقته أبو عبد الرحمن الحنظلي مولاهم التركي، ثم المروزي الحافظ، الغازي، أحد الأعلام. سمع من سليمان التيمي، وعاصم الأحول، وحميد الطويل وغيرهم. وحدث عنه معمر والثوري، وأبو إسحاق الفزاري وغيرهم، وحديثه حجة بالإجماع وهو في المسانيد والأصول. قال فيه إسماعيل ابن عياش: ما على وجه الأرض مثل ابن المبارك ولا أعلم أن الله خلق خصلة من خصال الخير إلا وقد جعلها في عبد الله بن المبارك. قال سفيان: إني لأشتهي من عمري كله أن أكون سنة مثل ابن المبارك، فما أقدر أن أكون ولا ثلاثة أيام. اجتمع جماعة مثل الفضيل بن موسى، ومخلد بن الحسين فقالوا: تعالوا نعد خصال ابن المبارك من أبواب الخير فقالوا: العلم والفقه، والأدب، والنحو، واللغة، والزهد، والفصاحة، والشعر، وقيام الليل، والعبادة، والحج، والغزو، والشجاعة، والفروسية، والقوة، وترك الكلام فيما لا يعنيه، والإنصاف، وقلة الخلاف على أصحابه. قال حبيب الجلاب: سألت ابن المبارك: ما خير ما أعطي الإنسان؟ ¬

(¬1) الجرح والتعديل (5/ 179 - 181) والحلية (8/ 162 - 191) والسير (8/ 378 - 421) وتاريخ بغداد (10/ 152 - 169) وتهذيب الكمال (16/ 5 - 25) وتذكرة الحفاظ (1/ 274 - 279) والديباج المذهب (1/ 407 - 409) وشذرات الذهب (1/ 295 - 297).

موقفه من المبتدعة:

قال: غريزة عقل، قلت: فإن لم يكن؟ قال: حسن أدب، قلت: فإن لم يكن؟ قال: أخ شفيق يستشيره، قلت: فإن لم يكن؟ قال: صمت طويل، قلت: فإن لم يكن؟ قال: موت عاجل. قال ابن المبارك: من بخل بالعلم، ابتلي بثلاث: إما موت يذهب علمه، وإما ينسى، وإما يلزم السلطان فيذهب علمه. وقال: إن البصراء لا يأمنون من أربع: ذنب قد مضى لا يدري ما يصنع فيه الرب عز وجل، وعمر قد بقي لا يدري ما فيه من الهلكة، وفضل قد أعطي العبد لعله مكر واستدراج، وضلالة قد زينت يراها هدى، وزيغ قلب ساعة فقد يسلب المرء دينه ولا يشعر. وقال: من استخف بالعلماء ذهبت آخرته ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته. توفي رحمه الله تعالى في شهر رمضان سنة إحدى وثمانين ومائة. موقفه من المبتدعة: - جاء عنه قال: ليكن المعتمد عليه الأثر وخذوا من الرأي ما يفسر لكم الخبر. (¬1) ¬

(¬1) الحلية لأبي نعيم (8/ 165) والمدخل للبيهقي (1/ 218/240) والجامع لابن عبد البر (1/ 781 - 782) وذم الكلام (ص.99).

- وجاء في أصول الاعتقاد في تفسير حديث: "إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر" (¬1) قال موسى: قال ابن المبارك: الأصاغر من أهل البدع. (¬2) - وفيه عن إسماعيل الطوسي قال: قال لي ابن المبارك يكون مجلسك مع المساكين وإياك أن تجالس صاحب بدعة. (¬3) - عن محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، سمعت عبدان يقول: قال عبد الله بن المبارك: الإسناد عندي من الدين، لولا الإسناد، لقال من شاء ما شاء، فإذا قيل له: من حدثك؟ بقي. (¬4) - جاء في الحلية قال عبد الله بن المبارك: أيها الطالب علما ... إيت حماد بن زيد فاطلب العلم بحلم ... ثم قيده بقيد ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في الكبير (22/ 361 - 362/ 908) عن ابن المبارك عن عبد الله بن عقبة عن بكر بن سوادة عن أبي أمية الجمحي به وفي الأوسط (9/ 65 - 66/ 8136) من طريق كامل بن طلحة الجحدري قال: حدثنا ابن لهيعة قال: حدثنا بكر بن سوادة عن أبي أمية الجمحي به. وعبد الله بن عقبة هو ابن لهيعة. قال الطبراني في الأوسط: "لا يروى هذا الحديث عن أبي أمية الجمحي إلا بهذا الإسناد، تفرد به ابن لهيعة". وقال الهيثمي في المجمع (1/ 135): "رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف. لكن رواية ابن المبارك عنه في المعجم الكبير صحيحة. ويشهد له قول ابن مسعود: (لا يزال الناس صالحين متماسكين ما أتاهم العلم من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومن أكابرهم فإذا أتاهم من أصاغرهم هلكوا) ". رواه عبد الرزاق (1/ 246/20446) وابن المبارك في الزهد (2/ 623/764) والطبراني في الكبير (9/ 114/8589 - 8592) وفي الأوسط (8/ 288/7586) وقال الهيثمي (1/ 135): "رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجاله موثقون". (¬2) أصول الاعتقاد (1/ 95/102) وذم الكلام (ص.295) وجامع بيان العلم وفضله (1/ 612) والفقيه والمتفقه (2/ 155). (¬3) أصول الاعتقاد (1/ 155/260) والإبانة (2/ 3/463/ 452) وانظر السير (8/ 399و411). (¬4) ذم الكلام (ص.231) وأورده الذهبي في السير (17/ 224).

لا كثور وكجهم ... وكعمرو بن عبيد (¬1) - وفي البداية: وذر البدعة من ... آثار عمرو بن عبيد (¬2) - وجاء في المنهاج: قال عبد الله بن المبارك: الدين لأهل الحديث والكذب للرافضة والكلام للمعتزلة والحيل لأهل الرأي أصحاب فلان. (¬3) - وجاء في السير: وسمع بعضهم ابن المبارك وهو ينشد على سور طرسوس: ومن البلاء وللبلاء علامة العبد ... أن لا يرى لك عن هواك نزوع عبد النفس في شهواتها ... والحر يشبع مرة ويجوع (¬4) - عن عبد الله بن عمر السرخسي -علم الحزن- قال: أكلت عند صاحب بدعة أكلة فبلغ ذلك ابن المبارك فقال: لا كلمته ثلاثين يوما. (¬5) - قال ابن المبارك: لم أر مالا أمحق من مال صاحب بدعة وقال: اللهم لا تجعل لصاحب بدعة عندي يدا فيحبه قلبي. (¬6) - وقال: صاحب البدعة على وجهه الظلمة وإن ادهن كل يوم ثلاثين ¬

(¬1) الحلية (6/ 258). (¬2) البداية والنهاية (10/ 82). (¬3) المنهاج (7/ 413). (¬4) السير (8/ 417). (¬5) أصول الاعتقاد (1/ 157 - 158/ 274). (¬6) أصول الاعتقاد (1/ 158/275).

مرة. (¬1) - عن محمد بن خاقان قال: شيعنا ابن المبارك في آخر خرجة خرج فقلنا له: أوصنا، فقال: لا تتخذوا الرأي إماما. (¬2) - وعن ابن المبارك قال: اعلم أي أخي أن الموت اليوم كرامة لكل مسلم لقي الله على السنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فإلى الله نشكوا وحشتنا، وذهاب الإخوان، وقلة الأعوان، وظهور البدع، وإلى الله نشكوا عظيم ما حل بهذه الأمة من ذهاب العلماء وأهل السنة وظهور البدع. (¬3) - ذكر ابن المبارك حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من ناوأهم حتى تقوم الساعة (¬4)، قال ابن المبارك: هم عندي أصحاب الحديث. (¬5) - قال ابن المبارك: المعلى بن هلال هو، إلا أنه إذا جاء الحديث يكذب، قال فقال له بعض الصوفية يا أبا عبد الرحمن تغتاب؟ فقال اسكت، إذا لم نبين كيف يعرف الحق من الباطل؟ أو نحو هذا الكلام. (¬6) عن نعيم بن حماد قال: سمعت ابن المبارك يقول وقيل له تركت عمرو ابن عبيد وتحدث عن هشام الدستوائي وسعيد وفلان وهم كانوا في عداده؟ ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (1/ 159/284) وذم الكلام (ص.233). (¬2) الفقيه والمتفقه (1/ 463 - 465) وهو في الإعلام (1/ 258). (¬3) ابن وضاح في البدع (ص.87 - 88) وأورده الشاطبي في الاعتصام (1/ 115 - 116). (¬4) أخرجه أحمد (4/ 244) والبخاري (13/ 542/7459) ومسلم (3/ 1523/1921) من حديث المغيرة بن شعبة. وفي الباب عن ثوبان ومعاوية وجابر بن سمرة وجابر بن عبد الله وعقبة بن عامر وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين. (¬5) الشرف (ص.26). (¬6) الكفاية (ص.45).

موقفه من الرافضة:

قال: إن عمرا كان يدعو. (¬1) - قال مسلم في مقدمة صحيحه: وقال محمد: سمعت علي بن شقيق يقول: سمعت عبد الله بن المبارك يقول على رؤوس الناس: دعوا حديث عمرو ابن ثابت فإنه كان يسب السلف. (¬2) " التعليق: والمبتدعة ذكرهم وتسبيحهم هو في ذم منهاج السلف. وفي هذا الأثر فائدة وهي تسمية ابن المبارك للصحابة ومن كان على منهاجهم باسم السلف، والنسبة إلى السلف سلفي. فليرد المبتدعة على هذا الإمام، وليقولوا له إنه اخترع اسما لم يكن وليردوا عليه وعلى أمثاله من الذين نطقوا بهذا المنهاج ودافعوا عنه. - عن إسحاق بن عيسى: سمعت ابن المبارك يقول: يكتب الحديث إلا عن أربعة: غلاط لا يرجع، وكذاب، وصاحب بدعة وهوى يدعو إلى بدعته ورجل لا يحفظ فيحدث من حفظه. (¬3) موقفه من الرافضة: - جاء في السير: نعيم بن حماد: سمعت ابن المبارك يقول: السيف الذي ¬

(¬1) الكفاية (ص.127). (¬2) انظر مقدمة مسلم (1/ 16). (¬3) الكفاية (ص.143).

وقع بين الصحابة فتنة، ولا أقول لأحد منهم هو مفتون. (¬1) - وروى إسحاق بن سنين لابن المبارك: إني امرؤ ليس في ديني لغامزه ... لين ولست على الإسلام طعانا فلا أسب أبا بكر ولا عمرا ... ولن أسب معاذ الله عثمانا ولا ابن عم رسول الله أشتمه ... حتى ألبس تحت الترب أكفانا ولا الزبير حواري الرسول ولا ... أهدي لطلحة شتما عز أو هانا ولا أقول علي في السحاب إذاً ... د قلت والله ظلما ثم عدوانا (¬2) - جاء في أصول الاعتقاد: عن علي بن الحسن بن شقيق قال: سألت عبد الله بن المبارك عن الجماعة فقال أبو بكر وعمر. (¬3) - وفيه عن الحسن بن عيسى قال: سمعت رجلا يسأل ابن المبارك عمن قال له إنه لا يفضل أبا بكر وعمر هل يضُرُّ به؟ قال ابن المبارك: من لم يفضل أبا بكر وعمر فهو أهل أن يجفى ويقصى قال: وسمعت ابن المبارك يفضل أبا بكر ويسكت عن علي وعثمان. (¬4) - وعن عبد الله بن المبارك أنه قال: نأخذ باجتماع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وندع ما سواه، وقد اجتمعوا على أن عثمان خيرهم، فعثمان خير هذه الأمة بعد أبي بكر وعمر وبعدهم علي، ثم خير هذه الأمة بعد هؤلاء الأربعة ¬

(¬1) السير (8/ 405). (¬2) السير (8/ 413). (¬3) أصول الاعتقاد (7/ 1313/2326). (¬4) أصول الاعتقاد (8/ 1451/2618).

موقفه من الصوفية:

أصحاب الشورى ثم أهل بدر ثم الأول فالأول من سائر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فاعرف حق سابقهم. (¬1) موقفه من الصوفية: جاء في السير: وروى عبد الله بن محمد قاضي نصيبين، حدثنا محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة، قال: أملى علي ابن المبارك سنة سبع وسبعين ومائة، وأنفذها معي إلى الفضيل بن عياض من طرسوس: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ... لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخضب جيده بدموعه ... فنحورنا بدمائنا تتخضب أو كان يتعب خيله في باطل ... فخيولنا يوم الصبيحة تتعب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا ... رهج السنابك والغبار الأطيب ولقد أتانا من مقال نبينا ... قول صحيح صادق لا يكذب لا يستوي وغبار خيل الله في ... أنف امرئ ودخان نار تلهب هذا كتاب الله ينطق بيننا ... ليس الشهيد بميت لا يكذب فلقيت الفضيل بكتابه في الحرم، فقرأه وبكى، ثم قال: صدق أبو عبد الرحمن ونصح. (¬2) موقفه من الجهمية: - جاء في السير بالسند إلى علي بن الحسن بن شقيق: سمعت عبد الله ابن المبارك يقول: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي ¬

(¬1) رياض الجنة بتخريج أصول السنة لابن أبي زمنين (274/ 197). (¬2) السير (8/ 412 - 413).

كلام الجهمية. (¬1) - وجاء في السنة بالسند إلى أبي سهل راهويه قال: كنت أدعو على الجهمية فأكثر فذكرت ذلك لعبد الله بن المبارك ودخل قلبي من ذلك شيء، فقال: لا يدخل قلبك فإنهم يجعلون ربك الذي تعبد لا شيء. (¬2) - جاء في السير: قال العلاء بن الأسود: ذكر جهم عند ابن المبارك، فقال: عجبت لشيطان أتى الناس داعيا ... إلى النار وانشق اسمه من جهنم (¬3) - وفيها قال ابن المبارك: ولا أقول بقول الجهم إن له ... قولا يضارع أهل الشرك أحيانا ولا أقول تخلى من خليقته ما ... رب العباد وولى الأمر شيطانا قال فرعون هذا في تمرده ... فرعون موسى ولا هامان طغيانا (¬4) - جاء في السنة لعبد الله عن الحسن بن عيسى مولى عبد الله بن المبارك قال: كان ابن المبارك يقول: الجهمية كفار. (¬5) - وفيها: قال ابن المبارك: ليس تعبد الجهمية شيئا. (¬6) ¬

(¬1) السير (8/ 401) ودرء التعارض (5/ 308) والسنة لعبد الله (13) والسنة للخلال (5/ 98) والإبانة (2/ 13/97/ 334) والشريعة (2/ 10/620). (¬2) السنة لعبد الله (12) والسير (8/ 403) والإبانة (2/ 23/95/ 328) والفتاوى (5/ 184). (¬3) السير (8/ 411) وأصول الاعتقاد (3/ 424 - 425/ 639). (¬4) السير (8/ 414) والفتح (13/ 345 مختصرا). (¬5) السنة لعبد الله (12) والإبانة (2/ 12/56/ 254). (¬6) السنة لعبد الله (12).

- وفيها: عن أبي عصمة قال: سمعت ابن المبارك يقول: خيبة للأبناء، أما فيهم أحد يفتك ببشر؟ قال يوسف: فسألت عبدان وأصحاب ابن المبارك عن هذا فقالوا: إن أبا عصمة رجل صدوق وقد كان ابن المبارك يتكلم بكلام هذا معناه. (¬1) - وروى اللالكائي بسنده إلى أفلح بن محمد قال: قلت لعبد الله بن المبارك: يا أبا عبد الرحمن إني أكره الصفة عَنَى صفة الرب جل وعز. فقال له عبد الله بن المبارك: أنا أشد الناس كراهة لذلك ولكن إذا نطق الكتاب بشيء وإذا جاءت الآثار بشيء جسرنا عليه -ونحو هذا-. (¬2) - وفي الإبانة: قال نعيم بن حماد: رآني ابن المبارك مع رجل من أهل الأهواء فما كلمني، فلما كان في غد، رآني فأخذ بيدي ثم أنشأ يقول: يا طالب العلم صارم كل بطال ... وكل غاو إلى الأهواء ميال إن القرآن كلام الله تعرفه ... ليس القرآن بمخلوق ولا بال لو أنه كان مخلوقا لغيره ... ريب الزمان إلى موت وإبطال وكيف يبطل ما لا شيء يبطله ... أم كيف يبلى كلام الخالق العالي (¬3) - جاء في الدرء: عن عبد الله بن المبارك قال: أصول الثنتين وسبعين فرقة أربع: الخوارج، والشيعة، والمرجئة، والقدرية. فقيل لابن المبارك: ¬

(¬1) السنة لعبد الله (37). (¬2) أصول الاعتقاد (3/ 478 - 479/ 737) والفتاوى (5/ 51) وتذكرة الحفاظ (3/ 1053). (¬3) الإبانة (2/ 14/290 - 291/ 459).

موقفه من القائلين بخلق القرآن:

فالجهمية؟ فأجاب بأن أولئك ليسوا من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) - وفي الفتاوى عنه قال: من قال لك يا مشبه، فاعلم أنه جهمي. (¬2) موقفه من القائلين بخلق القرآن: - جاء في أصول الاعتقاد عن موسى بن إبراهيم الوراق قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك قال: سمعت الناس منذ تسعة وأربعين عاما يقولون: من قال القرآن مخلوق فامرأته طالق ثلاثا بتة، قلت: ولم ذلك؟ قال: لأن امرأته مسلمة، ومسلمة لا تكون تحت كافر. (¬3) - جاء في السنة بالسند إلى أبي الوزير محمد بن أعين سمعت النضر بن محمد يقول: من قال في هذه الآية: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (¬4) مخلوق فهو كافر. فجئت إلى عبد الله بن المبارك فأخبرته فقال: صدق أبو محمد عافاه الله، ما كان الله يأمر أن نعبد مخلوقا. (¬5) - وفيها عنه قال: من قال القرآن مخلوق فهو زنديق. (¬6) - وفيها عنه قال: القرآن كلام الله ليس بخالق ولا مخلوق. (¬7) ¬

(¬1) درء التعارض (7/ 110) والإبانة (1/ 2/379 - 380/ 278) مطولا. (¬2) الفتاوى (5/ 393). (¬3) أصول الاعتقاد (2/ 270/405) والإبانة (2/ 12/73/ 300). (¬4) طه الآية (14). (¬5) السنة لعبد الله (12) وأصول الاعتقاد (2/ 282/428) وتذكرة الحفاظ (2/ 700). (¬6) السنة لعبد الله (13). (¬7) السنة لعبد الله (31) وأصول الاعتقاد (2/ 281/426).

موقفه من المؤولين لصفة الرؤية:

- وفي أصول الاعتقاد عن الحسين بن شبيب قال: سمعت ابن المبارك وقرأ ثلاثين آية من ((طه)) فقال: من زعم أن هذا مخلوق فهو كافر. (¬1) - وفيه: عن مصعب بن سعيد المصيصي قال: سمعت ابن المبارك وموسى بن أعين يقولان: من قال القرآن مخلوق فهو كافر. أكفر من هرمز. (¬2) - وفي الإبانة: عن علي بن مضا -مولى خالد القسري- قال: سمعت ابن المبارك بالمصيصة، وسأله رجل عن القرآن، فقال: هو كلام الله غير مخلوق. (¬3) - وجاء في الفتاوى: قال عبد الله بن المبارك: من كفر بحرف من القرآن فقد كفر، ومن قال: لا أؤمن بهذه اللام فقد كفر. (¬4) موقفه من المؤولين لصفة الرؤية: - جاء في أصول الاعتقاد: عن صالح المروزي -وكان صاحب قرآن- قال: دس الجهمية إلى ابن المبارك رجلا فقال: يا أبا عبد الرحمن خدا ربان جهان جون ببيند؟ قال: بجشم، يعني كيف نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: بالعين. (¬5) - وفيه عن نعيم بن حماد قال: سمعت ابن المبارك قال: ما حجب الله ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 281 - 282/ 427) والشريعة (1/ 220/177) والسير (8/ 403) بنحوه. وتذكرة الحفاظ (1/ 279). (¬2) أصول الاعتقاد (2/ 282/429) والإبانة (2/ 12/59/ 263) بنحوه. (¬3) الإبانة (2/ 12/12 - 13/ 192). (¬4) الفتاوى (4/ 182). (¬5) أصول الاعتقاد (3/ 559 - 560/ 881).

موقفه من المؤولين لصفة العلو:

عز وجل أحدا عنه إلا عذبه ثم قرأ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} (¬1) قال: بالرؤية. (¬2) - وفيه عن علي بن المديني الغاساني قال: سألت عبد الله بن المبارك عن قوله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يرجوا لقاء ربه فليعمل عَمَلًا صَالِحًا} (¬3) قال عبد الله: من أراد النظر إلى وجه خالقه فليعمل عملا صالحا ولا يخبر به أحدا. (¬4) موقفه من المؤولين لصفة العلو: - وجاء في السير بالسند إلى علي بن الحسن بن شقيق قال: سألت ابن المبارك كيف ينبغي لنا أن نعرف ربنا؟ قال: على السماء السابعة على عرشه ولا نقول كما تقول الجهمية إنه هاهنا في الأرض. (¬5) - قال الذهبي: الجهمية يقولون: إن الباري تعالى في كل مكان، والسلف يقولون: إن علم الباري في كل مكان، ويحتجون بقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (¬6) يعني: بالعلم، ويقولون: إنه على عرشه ¬

(¬1) المطففين الآيات (15 - 17). (¬2) أصول الاعتقاد (3/ 564 - 565/ 894). (¬3) الكهف الآية (110). (¬4) أصول الاعتقاد (3/ 565/895). (¬5) السير (8/ 403) والسنة لعبد الله (13) ومجموع الفتاوى (5/ 51 - 52) واجتماع الجيوش (125). (¬6) الحديد الآية (4).

موقفه من الخوارج:

استوى، كما نطق به القرآن والسنة. (¬1) - وجاء في الدرء: عن عبد الله بن المبارك: أنه سأله سائل عن النزول ليلة النصف من شعبان، فقال عبد الله: يا ضعيف، ليلة النصف؟ ينزل في كل ليلة، فقال الرجل: يا أبا عبد الرحمن، كيف ينزل؟ أليس يخلو ذلك المكان؟ فقال عبد الله بن المبارك: ينزل كيف شاء. (¬2) موقفه من الخوارج: جاء في السير عنه قال: الله يدفع بالسلطان معضلة ... عن ديننا رحمة منه ورضوانا لولا الأئمة لم تأمن لنا سبل ... وكان أضعفنا نهبا لأقوانا فيقال: إن الرشيد أعجبه هذا، فلما أن بلغه موت ابن المبارك بهيت (¬3) قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. يا فضل: إيذن للناس يعزونا في ابن المبارك. وقال: أما هو القائل: الله يدفع بالسلطان معضلة فمن الذي يسمع هذا من ابن المبارك، ولا يعرف حقنا؟ (¬4) موقفه من المرجئة: - جاء في السير، قال الذهبي: واحتج ابن المبارك في مسألة الإرجاء، وأن الإيمان يتفاوت، بما روى عن ابن شوذب، عن سلمة بن كهيل، عن ¬

(¬1) السير (8/ 402). (¬2) درء التعارض (2/ 27). (¬3) مدينة على الفرات. (¬4) السير (8/ 414).

موقفه من القدرية:

هزيل بن شرحبيل، قال: قال عمر: لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض، لرجح. (¬1) - قال الذهبي: مراد عمر رضي الله عنه أهل أرض زمانه. (¬2) - وعن علي بن الحسن بن شقيق قال: قال رجل لعبد الله ابن المبارك: يا معشر المرجئة قال: رميتني بهوى من الأهواء. (¬3) - وأخرج أبو عثمان الصابوني بسنده إلى إسحاق بن إبراهيم قال: قدم ابن المبارك الري، فقام إليه رجل من العباد -الظن به أنه يذهب مذهب الخوارج- فقال له: يا أبا عبد الرحمن ما تقول فيمن يزني ويسرق ويشرب الخمر؟ قال: لا أخرجه من الإيمان. فقال: يا أبا عبد الرحمن على كبر السن صرت مرجئا؟ فقال: لا تقبلني المرجئة. المرجئة تقول: حسناتنا مقبولة، وسيئاتنا مغفورة، ولو علمت أني قبلت مني حسنة لشهدت أني في الجنة. (¬4) - وعن إبراهيم بن الشماس قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: الإيمان قول وعمل والإيمان يتفاضل. (¬5) موقفه من القدرية: - جاء في السير: وقال سفيان بن عبد الملك: سألت ابن المبارك، لم ¬

(¬1) السنة لعبد الله (115). (¬2) السير (8/ 405). (¬3) السنة لعبد الله (94). (¬4) عقيدة السلف (273 - 274). (¬5) الإبانة (2/ 6/812/ 1112) والسنة لعبد الله (85) وأصول الاعتقاد (5/ 1034/1748) والسنة للخلال (3/ 583/1018).

يزيد بن زريع (182 هـ)

تركت حديث إبراهيم بن أبي يحيى؟ قال: كان مجاهرا بالقدر، وكان صاحب تدليس. (¬1) - وفيها: قال ابن المبارك: ما رضي عوف ببدعة حتى كان فيه بدعتان قدري، وشيعي. (¬2) - وجاء في الكفاية، عن علي بن الحسن بن شقيق قال: قلت لعبد الله يعني ابن المبارك سمعت من عمرو بن عبيد؟ فقال بيده هكذا أي كثرة، قلت فلم لا تسميه وأنت تسمي غيره من القدرية؟ قال لأن هذا كان رأسا. (¬3) يزيد بن زريع (¬4) (182 هـ) يزيد بن زُرَيْع بن يزيد أبو معاوية العيشي البصري الحافظ، المجود، محدث البصرة مع حماد بن زيد وعبد الوارث ومعتمر وعبد الواحد بن زياد وجعفر بن سليمان، ووهيب بن خالد وخالد بن الحارث، وبشر بن المفضل، وإسماعيل بن علية فهؤلاء العشرة كانوا في زمانهم أئمة الحديث بالبصرة، روى عن أيوب السختياني ويونس بن عبيد وخالد الحذاء وحسين المعلم وغيرهم. وروى عنه عبد الرحمن بن مهدي، ومسدد، وعلي بن المديني وغيرهم. قال فيه الإمام أحمد بن حنبل: كان ريحانة البصرة، ما أتقنه وما ¬

(¬1) السير (8/ 451). (¬2) السير (6/ 384). (¬3) الكفاية (127). (¬4) طبقات ابن سعد (7/ 189) والجرح والتعديل (9/ 263 - 265) والسير (8/ 296 - 299) وتهذيب الكمال (32/ 124 - 130) وتذكرة الحفاظ (1/ 256 - 257) ومشاهير علماء الأمصار (162).

موقفه من المبتدعة:

أحفظه. وقال بشر الحافي: كان يزيد بن زريع متقنا حافظا ما أعلم أني رأيت مثله ومثل صحة حديثه. توفي رحمه الله تعالى في سنة اثنتين وثمانين ومائة. موقفه من المبتدعة: - جاء في السير: قال الذهبي: وكان صاحب سنة واتباع، كان يقول: من أتى مجلس عبد الوارث، فلا يقربني. (¬1) - جاء في شرف أصحاب الحديث بالسند إلى أحمد بن الحسين قال: سمعت يزيد بن زريع رحمه الله يقول: أصحاب الرأي أعداء السنة. (¬2) موقفه من الجهمية: - جاء في السنة لعبد الله: عن فطر بن حماد بن أبي عمر الصفار، قال سألت يزيد بن زريع فقلت: يا أبا معاوية إمام لقوم يقول القرآن مخلوق أصلي خلفه؟ قال: لا، ولا كرامة. (¬3) - وفي الإبانة: عن فطر بن حماد قال: سألت يزيد بن زريع، قلت: صليت خلف من يقول: القرآن مخلوق؟ فقال: خلف رجل مسلم أحب إلي. (¬4) ¬

(¬1) السير (8/ 297). (¬2) شرف أصحاب الحديث (ص.7). (¬3) السنة لعبد الله (16). (¬4) الإبانة (2/ 12/59/ 261).

أبو يوسف القاضي (182 هـ)

أبو يوسف القاضي (¬1) (182 هـ) يعقوب بن إبراهيم الإمام المجتهد العلامة المحدث أبو يوسف القاضي. حدث عن هشام بن عروة، ويحيى بن سعيد الأنصاري وعطاء بن السائب وغيرهم. وحدث عنه يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وعلي بن الجعد وغيرهم. قال أحمد بن حنبل: أول ما كتبت الحديث اختلفت إلى أبي يوسف وكان أميل إلى المحدثين من أبي حنيفة ومحمد. وقال ابن معين: ما رأيت في أصحاب الرأي أثبت في الحديث ولا أحفظ، ولا أصح رواية من أبي يوسف. وقال فيه أيضا أبو يوسف صاحب حديث، صاحب سنة. وقال: كنت أطلب العلم وأنا مقل فجاء أبي فقال: يا بني لا تمدنَّ رجلك مع أبي حنيفة فأنت محتاج فآثرت طاعة أبي. فأعطاني أبو حنيفة مائة درهم، وقال الزم الحلقة فإذا نفدت هذه فأعلمني، ثم بعد أيام أعطاني مائة، صاحبَ أبا حنيفة سبع عشرة سنة، مات سنة اثنتين وثمانين ومائة. موقفه من المبتدعة: - جاء في السير قال يحيى بن يحيى التميمي سمعت أبا يوسف عند وفاته يقول: كل ما أفتيت به فقد رجعت عنه إلا ما وافق الكتاب والسنة، وفي ¬

(¬1) تذكرة الحفاظ (1/ 292 - 294) والسير (8/ 535 - 539) وتاريخ ابن معين (2/ 680) والفهرست لابن النديم (286) ووفيات الأعيان (6/ 378 - 390) وتاريخ بغداد (1/ 242 - 262) وميزان الاعتدال (4/ 447) وشذرات الذهب (1/ 298 - 301) والانتقاء (172).

لفظ: إلا ما في القرآن واجتمع عليه المسلمون. (¬1) - قال شيخ الإسلام: وذكروا عن أبي يوسف أنه قال: مذهب أهل الجماعة عندنا، وما أدركنا عليه جماعة أهل الفقه ممن لم يأخذ من البدع والأهواء، أن لا يشتم أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يذكر فيهم عيبا، ولا يذكر ما شجر بينهم فيحرف القلوب عنهم، وأن لا يشك بأنهم مؤمنون؛ وأن لا يكفر أحدا من أهل القبلة ممن يقر بالإسلام ويؤمن بالقرآن، ولا يخرجه من الإيمان بمعصية إن كانت فيه؛ ولا يقول بقول أهل القدر، ولا يخاصم في الدين، فإنها من أعظم البدع. فهذا قول أهل السنة والجماعة، ولا ينبغي لأحد أن يقول في هذا كيف ولم؟ ولا ينبغي أن يخبر السائل عن هذا إلا بالنهي له عن المسألة وترك المجالسة والمشي معه إن عاد. ولا ينبغي لأحد من أهل السنة والجماعة أن يخالط أحدا من أهل الأهواء حتى يصاحبه ويكون خاصته، مخافة أن يستزله أو يستزل غيره بصحبة هذا. قال: والخصومة في الدين بدعة، وما ينقض أهل الأهواء بعضهم على بعض بدعة محدثة، لو كانت فضلا لسبق إليها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأتباعهم، فهم كانوا عليها أقوى ولها أبصر. وقال الله تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} (¬2)، ولم يأمره بالجدال، ولو شاء لأنزل حججا وقال له قل كذا وكذا. وقال أبو يوسف: دعوا قول أصحاب ¬

(¬1) السير (8/ 537). (¬2) آل عمران الآية (20).

الخصومات وأهل البدع في الأهواء من المرجئة، والرافضة والزيدية، والمشبهة، والشيعة، والخوارج، والقدرية، والمعتزلة، والجهمية. (¬1) - وفيها: قال مالك لأبي يوسف لما سأله عن الصاع والمد، وأمر أهل المدينة بإحضار صيعانهم، وذكروا له أن إسنادها عن أسلافهم- أترى هؤلاء يا أبا يوسف يكذبون؟ قال: لا والله ما يكذبون، فأنا حررت هذه الصيعان فوجدتها خمسة أرطال وثلثا بأرطالكم يا أهل العراق. فقال: رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت. وسأله عن صدقة الخضراوات فقال: هذه مباقيل أهل المدينة لم يؤخذ منها صدقة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أبي بكر ولا عمر رضي الله عنهما، يعني: وهي تنبت فيها الخضراوات. وسأله عن الأحباس فقال: هذا حبس فلان، وهذا حبس فلان، يذكر لبيان الصحابة، فقال أبو يوسف في كل منهما: قد رجعت يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت. (¬2) - وقال أيضا: ومن المأثور أن الرشيد احتجم فاستفتى مالكا فأفتاه بأنه لا وضوء عليه، فصلى خلفه أبو يوسف، ومذهب أبي حنيفة وأحمد أن خروج النجاسة من غير السبيلين ينقض الوضوء، ومذهب مالك والشافعي أنه لا ينقض الوضوء، فقيل لأبي يوسف: أتصلي خلفه؟. فقال: سبحان الله. أمير المؤمنين. فإن ترك الصلاة خلف الأئمة لمثل ذلك من شعائر أهل البدع ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (16/ 475 - 476). (¬2) الفتاوى (20/ 306 - 307).

موقفه من الرافضة:

كالرافضة والمعتزلة. (¬1) موقفه من الرافضة: روى ابن أبي العوام في فضائل أبي حنيفة أن رجلا سأل أبا يوسف فقال: يا أبا يوسف يذكرون عنك أنك تجيز شهادة من يشتم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - على التأويل فقال: ويحك هذا أحبسه وأضربه حتى يتوب. (¬2) موقفه من الجهمية: - جاء في السنة لعبد الله أخبرت عن بشر بن الوليد قال كنت جالسا عند أبي يوسف القاضي، فدخل عليه بشر المريسي، فقال أبو يوسف: حدثنا إسماعيل عن قيس عن جرير عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكر حديث الرؤيا (¬3). ثم قال أبو يوسف: إني والله أومن بهذا الحديث وأصحابك يكفرون به، وكأني بك قد شغلتك عن الناس خشبة باب الجسر، فاحذر فراستي فإني مؤمن. (¬4) - وفيها قال عبد الله سمعت أبي يقول: كنا نحضر مجلس أبي يوسف وكان بشر المريسي يجيء فيحضر في آخر الناس فيشغب يقول: إيش تقول وإيش قلت يا أبا يوسف، فلا يزال يضج ويصيح، وكنت أسمع أبا يوسف يقول: اصعدوا به إلي اصعدوا به إلي، قال فجاء يوم فصنع مثل هذا، فقال أبو يوسف: اصعدوا به إلي قال، قال أبي: وكنت بالقرب منه فجعل يناظره ¬

(¬1) الفتاوى (20/ 365). (¬2) فضائل أبي حنيفة وأصحابه (180). (¬3) انظر تخريجه في مواقف عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون سنة (164هـ). (¬4) السنة لعبد الله (39).

في مسألة فخفي علي بعض قوله فقلت للذي كان أقرب إليه مني إيش قال له؟ قال: قال له أبو يوسف: لا تنتهي حتى تفسد خشبة. (¬1) - وفي أصول الاعتقاد: عن ابن المبارك قال سمعت غالبا الترمذي -وكان رجلا صالحا- قال: سمعت أبا يوسف غير مرة ولا مرتين ولا أحصي كم سمعته يقول لبشر المريسي: ويحك دع هذا الكلام، فكأني بك مقطوع اليدين والرجلين مصلوبا على هذا الجسر. (¬2) - قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: وأبو يوسف لما بلغه عن المريسي أنه ينكر الصفات الخبرية وأن الله فوق عرشه، أراد ضربه فهرب، فضرب رفيقه ضربا بشعا. (¬3) - جاء في السير عنه قال: لا نصلي خلف من قال القرآن مخلوق ولا يفلح من استحلى شيئا من الكلام. (¬4) - وجاء في ذم الكلام عنه قال: العلم بالخصومة والكلام جهل، والجهل بالخصومة والكلام علم. (¬5) - وجاء في السنة لعبد الله بالسند إليه قال: جيئوني بشاهدين يشهدان على المريسي، والله لأملأن ظهره وبطنه بالسياط يقول في القرآن، يعني ¬

(¬1) السنة لعبد الله (39). (¬2) أصول الاعتقاد (3/ 426 - 427/ 642). (¬3) مجموع الفتاوى (5/ 140). (¬4) السير (8/ 538). (¬5) ذم الكلام (231) والإبانة (1/ 2/419/ 339).

مخلوق. (¬1) - كان أبو يوسف القاضي يقول بخراسان: صنفان ما على وجه الأرض شر منهما: الجهمية والمقاتلية. (¬2) - وجاء في البداية والنهاية: قال بشار الخفاف: سمعت أبا يوسف يقول: من قال القرآن مخلوق فحرام كلامه، وفرض مباينته، ولا يجوز السلام ولا رده عليه. (¬3) - قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث: وكان أبو يوسف يقول: من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غرائب الحديث كذب. (¬4) - قال ابن القيم في اجتماع الجيوش: روى ابن أبي حاتم قال: جاء بشر ابن الوليد إلى أبي يوسف فقال له: تنهاني عن الكلام وبشر المريسي وعلي الأحول وفلان يتكلمون؟ فقال: وما يقولون؟ قال: يقولون: إن الله في كل مكان، فبعث أبو يوسف وقال: علي بهم، فانتهوا إليهم، وقد قام بشر فجيء بعلي الأحول والشيخ الآخر، فنظر أبو يوسف إلى الشيخ وقال: لو أن فيك موضع أدب لأوجعتك وأمر به إلى الحبس، وضرب علي الأحول وطيف به، وقد استتاب أبو يوسف بشر المريسي لما أنكر أن الله فوق عرشه، وهي قصة ¬

(¬1) السنة لعبد الله (17). (¬2) السنة لعبد الله (12). (¬3) البداية والنهاية (10/ 187). (¬4) تأويل مختلف الحديث (61) وذم الكلام (231) وشرف أصحاب الحديث (5) والسير (8/ 537) وجامع بيان العلم (2/ 1033) وأصول الاعتقاد (1/ 166/305) والإبانة (2/ 3/537 - 538/ 671) والمنهاج (2/ 138).

موقفه من القدرية:

مشهورة ذكرها عبد الرحمن بن أبي حاتم وغيره، وأصحاب أبي حنيفة المتقدمون على هذا. (¬1) موقفه من القدرية: - جاء في أصول الاعتقاد، عن أبي يوسف القاضي قال: لا أصلي خلف جهمي أو رافضي ولا قدري. (¬2) - وفيه عنه أنه سئل ما الحكم في القدرية؟ قال: الحكم أنه من جحد العلم أستتيبه، فإن تاب وإلا قتلته. (¬3) - وجاء في الكفاية عن علي بن الجعد قال: سمعت أبا يوسف يقول: أجيز شهادة أهل الأهواء، أهل الصدق منهم، إلا الخطابية والقدرية الذين يقولون: إن الله لا يعلم الشيء حتى يكون. (¬4) هشيم بن بشير (¬5) (183 هـ) هُشَيْم بن بَشير بن أبي خازم الإمام، شيخ الإسلام، محدث بغداد وحافظها، أبو معاوية السلمي. أخذ عن الزهري، وعمرو بن دينار بمكة، ولم ¬

(¬1) اجتماع الجيوش (205 - 206). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 809/1356). (¬3) أصول الاعتقاد (4/ 809/1357). (¬4) الكفاية (126). (¬5) الجرح والتعديل (9/ 115 - 116) والسير (8/ 287 - 294) ومشاهير علماء الأمصار (177) وتاريخ بغداد (14/ 85 - 94) والكامل في التاريخ (6/ 165) وتهذيب الكمال (30/ 272 - 289) وتذكرة الحفاظ (1/ 248) وميزان الاعتدال (4/ 306 - 308).

موقفه من المبتدعة:

يكثر عنهما وهما أكبر شيوخه. وروى عنه منصور بن زاذان، وحصين بن عبد الرحمن، وأبو بشر وغيرهم. وحدث عنه ابن إسحاق وعبد الحميد بن جعفر، وشعبة وسفيان وهم من أشياخه، وحماد بن زيد وابن المبارك وطائفة من أقرانه وغيرهم. قال فيه الذهبي: كان رأسا في الحفظ إلا أنه صاحب تدليس كثير، قد عرف بذلك. قال أحمد بن حنبل: لزمت هشيما أربع سنين، أو خمسا ما سألته عن شيء، إلا مرتين هيبة له، وكان كثير التسبيح بين الحديث يقول بين ذلك: لا إله إلا الله يمد بها صوته. عن عبد الرحمن بن مهدي قال: كان هشيم أحفظ للحديث من سفيان الثوري. قال عبد الله ابن المبارك: من غير الدهر حفظه، فلم يغير حفظ هشيم. قال إبراهيم الحربي: كان والد هشيم صاحب صحناء وكامخ فكان يمنع هشيما من الطلب، فكتب العلم حتى ناظر أبا شيبة القاضي وجالسه في الفقه، قال: فمرض هشيم، فجاء أبو شيبة يعوده، فمضى رجل إلى بشير فقال: الحق ابنك، فقد جاء القاضي يعوده فجاء فوجد القاضي في داره، فقال: متى أملت أنا هذا، قد كنت يا بني أمنعك، أما اليوم فلا بقيت أمنعك. مات سنة ثلاث وثمانين ومائة. موقفه من المبتدعة: قال أبو سفيان: سألت هشيما عن التفسير: كيف صار فيه الاختلاف؟ قال: قالوا برأيهم، فاختلفوا.

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: - جاء في أصول الاعتقاد عن علي بن عاصم قال: تكلم داود الجواربي في التشبيه، فاجتمع فيها أهل واسط، منهم محمد بن يزيد، وخالد الطحان وهشيم وغيرهم فأتوا الأمير وأخبروه بمقالته، فأجمعوا على سفك دمه، فمات في أيامه ولم يُصَل عليه علماء أهل واسط. (¬1) - جاء في السنة لعبد الله أن رجلا قال لهشيم: إن فلانا يقول: القرآن مخلوق، فقال: اذهب إليه فاقرأ عليه أول الحديد وآخر الحشر، فإن زعم أنهما مخلوقان فاضرب عنقه. قال: فذهبت إلى أبي هاشم الغساني فأخبرته بقول الرجل فقال مثل قول هشيم لم يزد ولم ينقص. (¬2) محمد بن السَّمَّاك (¬3) (183 هـ) محمد بن صَبِيح أبو العباس العجلي المعروف بابن السماك. روى عن: هشام بن عروة، والأعمش، ويزيد بن أبي زياد. حدث عنه: يحيى بن يحيى، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن أيوب. وقال: كم من شيء إذا لم ينفع لم يضر، لكن العلم إذا لم ينفع، ضر. توفي ابن السماك سنة ثلاث وثمانين ومائة. موقفه من المبتدعة: جاء في ذم الكلام عنه قال: الأخذ بالأصول وترك الفضول من أفعال ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (3/ 586 - 587/ 933). (¬2) السنة لعبد الله (19). (¬3) السير (8/ 328) والحلية (8/ 203) وميزان الاعتدال (3/ 584).

موقفه من الرافضة:

ذوي العقول. (¬1) موقفه من الرافضة: عن أبي بشر هارون بن حاتم البزار الكوفي قال: سمعت محمد بن صبيح السماك يقول: علمت أن أصحاب موسى وأن النصارى لا يسبون أصحاب عيسى، فما بالك يا جاهل تسب أصحاب محمد؛ قد علمت من أين أتيت؟ لم يشغلك ذنبك، أما لو شغلك ذنبك لخفت ربك. لقد كان في ذنبك شغل عن المسيئين، ويحك فكيف لم يشغلك عن المحسنين؟ أما لو كنت من المحسنين لما تناولت المسيئين ورجوت لهم أرحم الراحمين ولكنك من المسيئين فمن ثم عبت الشهداء والصالحين. أيها العائب لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، لو نمت ليلك وأفطرت نهارك لكان خيرا لك من قيام ليلك وصيام نهارك مع سوء قولك في أصحاب نبيك. ويحك، فلا قيام ليل ولا صيام نهار وأنت تتناول الأخيار وأبشر بما ليس فيه البشرى إن لم تتب مما تسمع وترى. ويحك، هؤلاء تشرفوا في بدر وهؤلاء تشرفوا في أحد إذ أن هؤلاء وهؤلاء جاء عن الله العفو عنهم فقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} (¬2) فما تقول فيمن عفا الله عنه؟ نحن نحتج لإبراهيم خليل الرحمن قال: ¬

(¬1) ذم الكلام (ص.239) (¬2) آل عمران الآية (155).

البهلول بن راشد (183 هـ)

{فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬1) فقد عرض للعاصي بالغفران. ولو قال: فإنك عزيز حكيم أو عذابك عذاب أليم كان قد عرض للانتقام. فبمن تحتج أنت يا جاهل إلا بالجاهلين لبئس الخلف، خلف يشتمون السلف. لواحد من السلف خير من ألف من الخلف. وهؤلاء جاء العفو عنهم فقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ}. فما تقول فيمن عفا الله عنهم؟ فما تقول فيمن عفا الله عنهم؟ (¬2) البُهْلُول بن راشد (¬3) (183 هـ) أبو عمرو الحَجْري الرعيني بالولاء، من العلماء الزهاد من أهل القيروان. ولد سنة ثمان وعشرين ومائة، سمع من مالك والليث والثوري ويونس بن يزيد وغيرهم، وسمع منه سحنون والقعنبي وعون بن يوسف وآخرون. قال القعنبي: هو وتد من أوتاد المغرب. وكان الإمام مالك رحمه الله إذا رآه قال: هذا عابد بلده. وقال سحنون: كان رجلا صالحا، ولم يكن عنده من الفقه ما عند غيره. له كتاب في الفقه على مذهب الإمام مالك وقد يميل إلى أقوال الثوري. وقيل: إن أصحابه دونوا الكتاب عنه. وكان أمير ¬

(¬1) إبراهيم الآية (36). (¬2) أصول الاعتقاد (8/ 1547 - 1548/ 2819) (¬3) الوافي بالوفيات (10/ 309) وميزان الاعتدال (1/ 355) ورياض النفوس (1/ 200 - 214) وترتيب المدارك (1/ 188 - 194) ولسان الميزان (2/ 66 - 67) والديباج المذهب (1/ 315 - 316) والأعلام (2/ 77).

موقفه من المبتدعة:

إفريقية في زمنه محمد بن مقاتل العكي يلاطف الطاغية (ملك الاسبانيول) فطلب الطاغية من الأمير أن يرسل إليه حديدا ونحاسا وسلاحا فعزم على ذلك، وعلم به البهلول، فعارض العكي ووعظه وألح عليه في أن يمتنع فبعث إليه العكي من قيده وجرده وضربه عشرين سوطا وحبسه، ثم أطلقه، فبقي أثر السياط في جسمه، ونغل، فكان ذلك سبب موته. توفي سنة ثلاث وثمانين ومائة. موقفه من المبتدعة: - خرج البهلول بن راشد ذات يوم مع أصحابه، وقد غطى خنصره بكفه، فأقبل على رجل من أصحابه فأسر إليه كلاما دون سائر أهل المجلس، ثم انصرف الرجل، ثم عاد إليه فكلمه فيما بينه وبينه، فأزال البهلول كفه عن خنصره وجعل يقول: الحمد لله الذي لم يجعلني ممن ابتدع بدعة في الإسلام، ثم أقبل على الرجل فقال: حدث القوم بما كان بيني وبينك، فقال الرجل: أرسلني إلى عبد الله بن فروخ أسأله: هل كان أحد من السلف -إذا وصى بحاجة- ربط في خنصره خيطا؟ فتوجهت إلى عبد الله بن فروخ فسألته عن ذلك فقال: نعم، كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يفعله، فقال البهلول عند ذلك: إن أهلي سألوني في قضاء حاجة فربطت في خنصري خيطا لأذكر حاجتهم، ثم خفت أن أكون ابتدعت بدعة في الإسلام. (¬1) - وقال سحنون: إنما اقتديت في ترك السلام على أهل الأهواء ¬

(¬1) المعالم (1/ 246 - 247) وترتيب المدارك (1/ 192).

موقفه من الجهمية:

والصلاة خلفهم بمُعلِّمي البهلول. (¬1) موقفه من الجهمية: جاء في رياض النفوس: أن ابن صخر كان من كبار المعتزلة في ذلك الزمان، فتوفي ابن صخر وحضر وقت وفاته عبد الله بن غانم الرعيني وابن فروخ والبهلول بن راشد، فقال الناس لابن غانم: الجنازة، فقال كل حي يموت، قدموا دابتي ولم يصل عليه، ثم قيل لابن فروخ: الجنازة، فقال: كل حي يموت ولم يصل عليه، ثم قيل للبهلول بن راشد: الجنازة. فقال مثل ذلك. (¬2) النضر بن محمد (¬3) (183 هـ) النَّضْر بن محمد القرشي العامري أبو عبد الله. روى عن: سليمان الأعمش، والعلاء بن المسيب، ومحمد بن المنكدر. وحدث عنه: أحمد بن إسحاق، وإسحاق بن راهويه، وأحمد بن سليمان المروزي. قال محمد بن سعد: كان مقدما عندهم في العلم والفقه والعقل والفضل، وكان صديقا لعبد الله بن المبارك. توفي سنة ثلاث وثمانين ومائة. ¬

(¬1) رياض النفوس (1/ 203). (¬2) رياض النفوس (1/ 186) وترتيب المدارك (3/ 111) بتصرف يسير. (¬3) طبقات ابن سعد (7/ 373) وتهذيب الكمال (29/ 403) وتهذيب التهذيب (10/ 444) وثقات ابن حبان (7/ 535).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: جاء في أصول الاعتقاد عن محمد بن أعين قال: سأل رجل النضر بن محمد عن القرآن فقال النضر: من قال بأن هذه الآية: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فاعبدني} (¬1) مخلوقة فقد كفر. فلقيت عبد الله بن المبارك فأخبرته فقال: صدق أبو محمد عافاه الله، ما كان الله ليأمرنا أن نعبد مخلوقا. (¬2) عبد الله بن مصعب (¬3) (184 هـ) عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير. روى عن: موسى بن عقبة، وأبي حازم، وهشام بن عروة. وحدث عنه: ابنه، وهشام بن يوسف. تولى إمرة اليمن والمدينة في زمن الرشيد. وكان وافر الجلالة، محمود الولاية. توفي سنة أربع وثمانين ومائة. موقفه من المبتدعة: قال عبد الله بن مصعب: ترى المرء يعجبه أن يقولا ... وأسلم للمرء أن لا يقولا فأمسك عليك فضول الكلام ... فإن لكل كلام فضولا ولا تصحبن أخا بدعة ... ولا تسمعن له الدهر قيلا ¬

(¬1) طه الآية (14). (¬2) أصول الاعتقاد (2/ 282/428) والإبانة (2/ 12/37/ 229). (¬3) السير (8/ 517) والبداية والنهاية (10/ 192) وتاريخ بغداد (10/ 173).

موقف السلف من إبراهيم بن أبي يحيى القدري (184 هـ)

فإن مقالتهم كالظلا ... ل يوشك أفياؤها أن تزولا وقد أحكم الله آياته ... وكان الرسول عليها دليلا وأوضح للمسلمين السبيل ... فلا تتبعن سواها سبيلا أناس بهم ريبة في الصدور ... ويخفون في الجوف منها غليلا إذا أحدثوا بدعة في القرآن ... تعادوا عليها فكانوا عدولا فخلهم والتي يهضبون ... وولهم منك صمتا طويلا (¬1) موقف السلف من إبراهيم بن أبي يحيى القدري (184 هـ) جاء في السير: عن يحيى القطان قال: سألت مالكا عن إبراهيم بن أبي يحيى: أثقة في الحديث؟ قال: لا، ولا في دينه. وقال أحمد بن حنبل، عن المعيطي، عن يحيى بن سعيد قال: كنا نتهمه بالكذب، يعني ابن أبي يحيى، ثم قال أحمد: قدري جهمي، كل بلاء فيه، تركوا حديثه، وأبوه ثقة. وروى عباس عن ابن معين قال: هو رافضي قدري. وقال مرة: كذاب. وقال أبو داود نحو ذلك. وقال البخاري: قدري جهمي، تركه ابن المبارك والناس. وقال مؤمل بن إسماعيل: سمعت يحيى القطان يقول: أشهد على إبراهيم ¬

(¬1) تأويل مختلف الحديث (ص.62) وهو في ذم الكلام (ص.270).

إبراهيم بن سعد (185 هـ)

ابن أبي يحيى أنه يكذب. وقال العقيلي: حدثنا محمد بن أحمد بن النضر، حدثنا أبو بكر ابن عفان، قال: خرج علينا ابن عيينة، فقال: ألا فاحذروا ابن أبي رواد المرجئ، لا تجالسوه، واحذروا إبراهيم بن أبي يحيى، لا تجالسوه. (¬1) إبراهيم بن سعد (¬2) (185 هـ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، الإمام، الحافظ، أبو إسحاق القرشي المدني. روى عن: أبيه، وصالح بن كيسان، وابن إسحاق، وصفوان بن سليم. وحدث عنه: شعبة، والليث، وأبو داود الطيالسي، وأحمد بن حنبل. كان ثقة صاحب حديث. توفي سنة خمس وثمانين ومائة. موقفه من الجهمية: - روى عبد الله بن أحمد في السنة بسنده عن إبراهيم بن سعد وسعيد ابن عبد الرحمن الجمحي ووهب ابن جرير وأبي النضر هاشم بن القاسم وسليمان بن حرب قالوا: القرآن كلام الله ليس بمخلوق. (¬3) - وفي الإبانة: قال المروذي: وأخبرنا من سمع يعقوب بن إبراهيم بن ¬

(¬1) السير (8/ 451 - 452). (¬2) السير (8/ 304) وتاريخ بغداد (6/ 81) وتهذيب الكمال (2/ 88) وتهذيب التهذيب (1/ 121) وتاريخ الإسلام (حوادث 181 - 190/ص.50 - 53). (¬3) السنة لعبد الله (30) وأصول الاعتقاد (2/ 277 - 278/ 416).

المعافى بن عمران (185 هـ)

سعد يقول: جاء سعيد بن عبد الرحمن الجمحي فسأل أبي عن رجل يقول: القرآن مخلوق، فقال: هذا كافر بالله، تضرب عنقه من هاهنا، وأشار بيده إلى عنقه. فقلت ليعقوب: أي شيء تقول أنت؟ فقال: أقول: القرآن كلام الله ليس بمخلوق. (¬1) المُعَافَى بن عِمْرَان (¬2) (185 هـ) الإمام، القدوة، شيخ الإسلام، المعافى بن عمران بن نفيل بن جابر، أبو مسعود الأَزْدِي المَوْصِلي. ولد سنة نيف وعشرين ومائة. سمع من الثوري، والأوزاعي، وابن جريج، وروى عنه: عبد الله بن المبارك، وبقية بن الوليد، ووكيع ابن الجراح. قال عنه الثوري: المعافى بن عمران ياقوتة العلماء. وقال عنه أيضا: امتحنوا أهل الموصل بالمعافى. وقال الأوزاعي: لا أقدم على المعافى أحدا. وقال محمد ابن سعد: كان المعافى ثقة خيرا فاضلا صاحب سنة. توفي سنة خمس وثمانين ومائة. موقفه من الرافضة: - روى الخلال في السنة بسنده إلى بشر بن الحارث قال: سئل المعافى وأنا أسمع أو سألته: معاوية أفضل أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال: كان معاوية ¬

(¬1) الإبانة (2/ 12/58/ 259). (¬2) السير (9/ 80) طبقات ابن سعد (7/ 487) وتاريخ بغداد (13/ 226) وتهذيب الكمال (28/ 147) وتاريخ الإسلام (حوادث 181 - 190/ص.402 - 406).

موقفه من الجهمية:

أفضل من ستمائة مثل عمر بن عبد العزيز. (¬1) - وروى اللالكائي بسنده إلى رباح بن الجراح الموصلي قال: سمعت رجلا سأل المعافى بن عمران فقال: يا أبا مسعود أين عمر بن عبد العزيز من معاوية بن أبي سفيان؟ فغضب من ذلك غضبا شديدا وقال: لا يقاس بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد. معاوية صاحبه وصهره وكاتبه وأمينه على وحي الله وقال - صلى الله عليه وسلم -: "دعوا لي أصحابي وأصهاري فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (¬2) ". (¬3) موقفه من الجهمية: جاء في السنة لعبد الله: عن علي بن مضاء قال: حدثنا هشام بن بهرام، سمعت المعافى يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق. (¬4) أبو إسحاق الفزاري (¬5) (186 هـ) الحافظ المجاهد، إبراهيم بن محمد بن الحارث أبو إسحاق الفَزَارِي ¬

(¬1) السنة للخلال (1/ 435). (¬2) الخطيب في تاريخ بغداد (1/ 209) من حديث المعافى بن عمران، وفي إسناده رجل مجهول. ابن عساكر (59/ 104) بلفظ: "دعوا لي أصحابي وأصهاري" من حديث وكيع عن فضيل بن مرزوق عن رجل من الأنصار عن أنس قال المناوي في فيض القدير (3/ 532): "وفضيل إن كان هو الرقاشي فقد قال الذهبي: "ضعفه ابن معين وغيره" وإن كان الكوفي فقد ضعفه النسائي وغيره ... والرجل مجهول". (¬3) أصول الاعتقاد (8/ 1531/2785). (¬4) السنة لعبد الله (67) والسير (9/ 83). (¬5) السير (8/ 539) وتهذيب الكمال (2/ 167) وتهذيب التهذيب (1/ 151) والوافي بالوفيات (6/ 104) وطبقات ابن سعد (7/ 488) وتاريخ الإسلام (حوادث 181 - 190/ص.54 - 59).

موقفه من المبتدعة:

الكوفي. حدث عن: أبي إسحاق السبيعي، وكليب بن وائل، وعطاء بن السائب. روى عنه: الأوزاعي والثوري وابن المبارك. قال أبو حاتم: اتفق العلماء على أن أبا إسحاق الفزاري إمام يقتدى به بلا مدافعة. قال عبد الرحمن بن مهدي: الأوزاعي والفزاري إمامان في السنة. وقال ابن سعد: كان ثقة فاضلا صاحب سنة وغزو. وقال أبو داود الطيالسي: توفي أبو إسحاق وليس على وجه الأرض أحد أفضل منه. وعن سفيان بن عيينة، قال: والله ما رأيت أحدا أقدمه على أبي إسحاق الفزاري. توفي سنة ست وثمانين ومائة. موقفه من المبتدعة: جاء في السير: وقال أحمد العجلي: كان ثقة، صاحب سنة، صالحا، هو الذي أدب أهل الثغر، وعلمهم السنة، وكان يأمر وينهى. وإذا دخل الثغر رجل مبتدع أخرجه، وكان كثير الحديث، وكان له فقه. (¬1) موقفه من الجهمية: عن علي بن مضا قال: سألت عبد الله بن المبارك بالمصيصة وهو في مجلس أبي إسحاق الفزاري ويحيى بن الصامت، وعبد الله يقرأ عليهم كتاب الأشربة، فقلت له: يا أبا عبد الرحمن ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله وليس بمخلوق فقلت لأبي إسحاق الفزاري: يقول مثل قول أبي عبد الرحمن؟ قال: نعم، القرآن كلام الله وليس بمخلوق. (¬2) ¬

(¬1) السير (8/ 540 - 541). (¬2) الإبانة (2/ 12/16/ 202).

موقفه من المرجئة:

موقفه من المرجئة: - قال إبراهيم بن شماس: وسألت أبا إسحاق الفزاري عن الإيمان قول وعمل؟ قال: نعم. (¬1) - وعن معاوية بن عمرو قال: نا أبو إسحاق -يعني الفزاري- قال: يقولون: إن فرائض الله على عباده ليس من الإيمان، وإن الإيمان قد يطلب بلا عمل، وإن الناس لا يتفاضلون في إيمانهم، وإن برهم وفاجرهم في الإيمان سواء. وما هكذا جاء الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه بلغنا أنه قال: "الإيمان بضعة وسبعون -أو بضعة وستون- أولها: شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" (¬2) وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (¬3) والدين: هو: التصديق وهو الإيمان والعمل. فوصف الله عز وجل الدين قولا وعملا فقال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (¬4). (¬5) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 812/1107) والسنة لعبد الله (85). (¬2) أخرجه: أحمد (2/ 445) والبخاري (1/ 71/9) ومسلم (1/ 63/35) وأبو داود (5/ 55 - 56/ 4676) والترمذي (5/ 12/2614) والنسائي (8/ 484/5020) وابن ماجه (1/ 22/57) كلهم من حديث أبي هريرة إلا أنه اختلف في لفظه فمنهم من يرويه بلفظ: بضع وستون ومنهم من يرويه بلفظ: بضع وسبعون ومنهم من يرويه على الشك. (¬3) الشورى الآية (13). (¬4) التوبة الآية (11). (¬5) أصول الاعتقاد (5/ 955 - 956/ 1591).

موقفه من القدرية:

موقفه من القدرية: - جاء في مجموع الفتاوى: وذكر عن أبي إسحاق الفزاري قال: قال الأوزاعي: أتاني رجلان فسألاني عن القدر فأحببت أن آتيك بهما تسمع كلامهما وتجيبهما. قلت: رحمك الله أنت أولى بالجواب. قال: فأتاني الأوزاعي ومعه الرجلان فقال: تكلما، فقالا: قدم علينا ناس من أهل القدر، فنازعونا في القدر ونازعناهم فيه، حتى بلغ بنا وبهم إلى أن قلنا: إن الله جبرنا على ما نهانا عنه، وحال بيننا وبين ما أمرنا به، ورزقنا ما حرم علينا، فقلت: يا هؤلاء إن الذين أتوكم بما أتوكم به قد ابتدعوا بدعة وأحدثوا حدثا، وإني أراكم قد خرجتم من البدعة إلى مثل ما خرجوا إليه فقال: أصبت وأحسنت يا أبا إسحاق. (¬1) - وجاء في السير: قال أبو مسهر: قدم أبو إسحاق الفزاري دمشق، فاجتمع الناس ليسمعوا منه، فقال: اخرج إلى الناس، فقل لهم: من كان يرى القدر، فلا يحضر مجلسنا، ومن كان يرى رأي فلان، فلا يحضر مجلسنا، فخرجت، فأخبرتهم. (¬2) خالد بن الحارث (¬3) (186 هـ) الحافظ الحجة الإمام خالد بن الحارث أبو عثمان الهُجَيْمِي البصري. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (8/ 104). (¬2) السير (8/ 541). (¬3) تهذيب الكمال (8/ 35 - 39) وتاريخ ابن معين (2/ 142 - 143) وطبقات ابن سعد (7/ 291) وتاريخ خليفة (457) والسير (9/ 126 - 128) ومشاهير علماء الأمصار (161) والجرح والتعديل (3/ 325) وتذكرة الحفاظ (1/ 309) وشذرات الذهب (1/ 309).

موقفه من المبتدعة:

روى عن هشام بن عروة، وحميد الطويل وأيوب، وأشعث بن عبد الملك وغيرهم. وحدث عنه: شعبة وهو من شيوخه ومسدد وأحمد بن حنبل وابن المديني، وعمرو بن علي وغيرهم. قال الذهبي: وكان من أوعية العلم، كثير التحري، مليح الإتقان، متين الديانة. قال يحيى القطان: ما رأيت أحدا خيرا من سفيان وخالد بن الحارث. وروى المروذي، عن أحمد قال: كان خالد بن الحارث يجيء بالحديث كما يسمع، وكان ابن مهدي يجيء بالحديث كما يسمع، وكان وكيع يجهد أن يجيء بالحديث كما يسمع، وكان ربما قال في الحرف أو الشيء يعني كذا. توفي رحمه الله تعالى سنة ست وثمانين ومائة، حضر جنازته معتمر وبشر بن المفضل. موقفه من المبتدعة: جاء في ذم الكلام عنه قال: إياكم وأصحاب الجدال والخصومات، فإنهم شرار أهل القبلة. (¬1) موقفه من المرجئة: عن إبراهيم بن دينار الكرخي قال: سمعت خالد بن الحارث يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص. (¬2) ¬

(¬1) ذم الكلام (ص.241). (¬2) السنة لعبد الله (94).

بشر بن المفضل (186 هـ)

بشر بن المفضل (¬1) (186 هـ) بِشْر بن المُفَضَّل بن لاَحِق، الإمام الحافظ المجود أبو إسماعيل الرقاشي مولاهم البصري. روى عن أبيه، وحميد الطويل، ومحمد بن المنكدر، وعبد الله بن محمد بن عقيل وغيرهم. وروى عنه أبو الوليد، ومسدد، ويحيى بن يحيى وبشر ابن معاذ العقدي وغيرهم. قال فيه الإمام أحمد: إلى بشر المنتهى في التثبت بالبصرة. وقال فيه ابن أبي داود: سمعت أبي يقول: ليس من العلماء أحد إلا وقد أخطأ في حديثه إلا بشر بن المفضل، وابن علية. توفي سنة ست وثمانين ومائة. موقفه من الجهمية: جاء في السير: قال محمد بن عبد الرحيم عن علي بن المديني قال: كان بشر يصلي كل يوم أربعمائة ركعة ويصوم يوما ويفطر يوما، وذكر عنده إنسان من الجهمية فقال: لا تذكروا ذاك الكافر. (¬2) عباد بن العوام (186 هـ) موقفه من الجهمية: جاء في السنة قال عبد الله: حدثني زياد بن أيوب دلويه: سمعت يحيى بن إسماعيل الواسطي يقول: سمعت عباد بن العوام يقول: كلمت بشرا المريسي ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (7/ 290) والسير (9/ 36 - 39) وتاريخ ابن معين (2/ 59) والجرح والتعديل (2/ 366) وتهذيب الكمال (4/ 147 - 151) وتذكرة الحفاظ (1/ 309 - 310). (¬2) السير (9/ 37) وأصول الاعتقاد (2/ 285/436) وتذكرة الحفاظ (1/ 310).

عيسى بن يونس (187 هـ)

وأصحاب بشر فرأيت آخر كلامهم ينتهي أن يقولوا: ليس في السماء شيء. (¬1) عيسى بن يونس (¬2) (187 هـ) ابن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله، الإمام القدوة، الحافظ الحجة أبو عمرو وأبو محمد الهمداني السبيعي الكوفي المرابط بثغر الحدث أخو الحافظ إسرائيل. حدث عن أبيه وأخيه وسليمان التيمي، وهشام بن عروة وأبي حيان التيمي والجريري وغيرهم. وحدث عنه: حماد بن سلمة أحد شيوخه، والحكم بن موسى وبشر الحافي وسليمان بن عبد الرحمن الدمشقي وغيرهم. كان واسع العلم كثير الرحلة، وافر الجلالة. قال ابن راهويه: قلت لوكيع: إني أريد أن أذهب إلى عيسى بن يونس قال: تأتي رجلا قد قهر العلم. قال أحمد بن جناب: غزا عيسى بن يونس خمسا وأربعين غزوة وحج كذلك. وقيل إنه زار ابن عيينة فقال: مرحبا بالفقيه ابن الفقيه ابن الفقيه. قال سمعت بشر بن الحارث يقول: كان عيسى بن يونس يعجبه خطي فكان يأخذ القرطاس، فيقرؤه علي، قال: كتبتُ من نسخة قوم شيئا ليس من حديثه، قال: كأنهم لما رأوا إكرامه لي، أدخلوا عليه في حديثه قال: فجعل يقرأ علي، ويضرب على تلك الأحاديث، فغمني ذلك، فقال: لا يغمك، لو كان واوا ¬

(¬1) السنة لعبد الله (19) والسنة للخلال (5/ 113) ومجموع الفتاوى (5/ 52). (¬2) تاريخ بغداد (11/ 152 - 156) ومشاهير علماء الأمصار (186) والسير (8/ 489 - 494) وتهذيب الكمال (23/ 62 - 76) وتذكرة الحفاظ (1/ 279 - 282) وميزان الاعتدال (3/ 328).

موقفه من الجهمية:

ما قدروا أن يدخلوه علي، أو قال لو كان واوا لعرفته. مات سنة سبع وثمانين ومائة. موقفه من الجهمية: - جاء في الإبانة عن أحمد بن جناب قال: سمعت عيسى بن يونس وسأله رجل عن الحور العين فغضب غضبا شديدا وقال: مالكم ومجالسة أصحاب الكلام والخصومات لقد شهدت من رجل -قد سماه- مجلسا، وألجأه قوم إلى الكلام إلى أن قال: ما خلق الله جنة ولا نارا، وددت أني ما شهدته. (¬1) - جاء في السنة عن حجاج أخي أبي الطيب قال: كنا مع عيسى بن يونس فسأله رجل عمن يقول القرآن مخلوق فقال كافر أو كفر، قال: فقيل له: تكفرهم بهذه الكلمة؟ قال: إن هذا من أيسر أو أحسن ما يظهرون. (¬2) - وجاء في ذم الكلام: عنه قال: لا تجالسوا الجهمية، وبينوا للناس أمرهم كي يعرفوهم فيحذروهم. (¬3) " التعليق: وهكذا ينبغي أن يبين كل مبتدع ويحذر منه، وما أهلك أهل زماننا هذا إلا السكوت على المبتدعة، وعدم ذكرهم بأسمائهم، وتحذير الناس منهم باللسان والقلم وجميع الطرق التي تستعمل في البلاغ، أما هم فيستغلون كل ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/521/ 618) وكذا في (1/ 2/403 - 404/ 306). (¬2) السنة لعبد الله (20). (¬3) ذم الكلام (177).

الفضيل بن عياض (187 هـ)

الفرص في نشر بدعهم، وهم قائمون على قدم وساق، وانظر إلى المدينة في أيام المولد النبوي، تشاهد ما تقشعر منه الجلود، فيجتمع أكثر دول العالم الإسلامي لإقامة هذه البدعة المشئومة في مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الفنادق والعمارات والمنازل حتى في البساتين. ويستمر ذلك مدة طويلة ويحضرها رؤوس الضلال كعلوي مالكي والكتاني وغيرهما وتنشد الأشعار ويتغنون كما يحلو لهم ويكفرون السلفيين ويكثرون من شتمهم، واتهامهم ببغض النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويتمنون متى يأتي وقت تعميم هذه البدعة على كل بيت وكل بلد، رد الله كيدهم في نحرهم. - وفي الإبانة: عن علي بن مضا قال: سألت عيسى بن يونس عن القرآن، فقال: القرآن كلام الله وليس بمخلوق. (¬1) الفضيل بن عياض (¬2) (187 هـ) الفُضَيْل بن عياض بن مسعود بن بشر، أبو علي الإمام القدوة الثبت شيخ الإسلام، الزاهد المشهور أحد العلماء الأعلام قال فيه ابن المبارك: ما بقي على ظهر الأرض أفضل من الفضيل بن عياض وكان إماما ربانيا كبير الشأن. وقال شريك: هو حجة لأهل زمانه. حدث عنه جمع من الأئمة مثل: ¬

(¬1) الإبانة (2/ 12/15/ 198). (¬2) حلية الأولياء (8/ 84 - 140) والجرح والتعديل (7/ 73) والسير (8/ 421 - 442) ووفيات الأعيان (4/ 47 - 50) وتهذيب الكمال (23/ 281 - 300) وتذكرة الحفاظ (1/ 245 - 246) وميزان الاعتدال (3/ 362) وشذرات الذهب (1/ 316 - 318) وطبقات ابن سعد (5/ 500).

ابن المبارك، ويحيى القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وابن عيينة، وأسد السنة والشافعي وغيرهم. أورد الذهبي في سيره قصة توبته قال: قال أبو عمار الحسين بن حريث، عن الفضل بن موسى، قال: كان الفضيل بن عياض شاطرا يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس، وكان سبب توبته أنه عشق جارية، فبينا هو يرتقي الجدران إليها، إذ سمع تاليا يتلو: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (¬1) فلما سمعها، قال: بلى يا رب، قد آن، فرجع، فآواه الليل إلى خربة، فإذا فيها سابلة، فقال بعضهم: نرحل، وقال بعضهم: حتى نصبح فإن فضيلا على الطريق يقطع علينا. قال: ففكرت، وقلت: أنا أسعى بالليل في المعاصي، وقوم من المسلمين هاهنا، يخافوني، وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام. قال الذهبي: وبكل حال: فالشرك أعظم من قطع الطريق، وقد تاب من الشرك خلق صاروا أفضل الأمة، فنواصي العباد بيد الله تعالى، وهو يضل من يشاء، ويهدي إليه من أناب. وقال عبد الصمد مردويه الصائغ قال لي ابن المبارك: إن الفضيل بن عياض صدق الله، فأجرى الحكمة على لسانه، فالفضيل ممن نفعه علمه. وقال فيض بن إسحاق: سمعت الفضيل بن عياض، ¬

(¬1) الحديد الآية (16).

موقفه من المبتدعة:

وسأله عبد الله بن مالك: يا أبا علي ما الخلاص مما نحن فيه؟ قال: أخبرني، من أطاع الله هل تضره معصية أحد؟ قال: لا، قال: فمن يعصي الله هل تنفعه طاعة أحد؟ قال: لا، قال: هو الخلاص إن أردت. وكان رضي الله عنه ورحمه يبذل النصح للأمراء. من أقواله رضي الله عنه ورحمه: قال: كفى بالله محبا، وبالقرآن مؤنسا، وبالموت واعظا، وبخشية الله علما، وبالاغترار جهلا. وقال: يا مسكين، أنت مسيء وترى أنك محسن، وأنت جاهل وترى أنك عالم، وتبخل وترى أنك كريم، وأحمق وترى أنك عاقل، أجلك قصير وأملك طويل. قال الذهبي معلقا: إي والله، صدق وأنت ظالم وترى أنك مظلوم، وآكل للحرام وترى أنك متورع، وفاسق وتعتقد أنك عدل، وطالب العلم للدنيا وترى أنك تطلبه لله. مات رحمه الله سنة سبع وثمانين ومائة. موقفه من المبتدعة: - جاء في ذم الكلام عنه قال: الحياة الطيبة الإسلام والسنة. (¬1) - وروى أبو نعيم في الحلية عن عبد الصمد بن يزيد قال سمعت الفضيل يقول: لأن آكل عند اليهودي والنصراني أحب إلي من أن آكل عند صاحب بدعة، فإني إذا أكلت عندهما لا يقتدى بي وإذا أكلت عند صاحب بدعة اقتدى بي الناس. (¬2) ¬

(¬1) ذم الكلام (ص.237). (¬2) الحلية (8/ 103 - 104) وفي أصول الاعتقاد طرف منه (4/ 706/1149).

- وفيها: أحب أن يكون بيني وبين صاحب بدعة حصن من حديد. (¬1) - وفيها: عمل قليل في سنة خير من عمل صاحب بدعة. (¬2) - وفيها: ومن جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة. (¬3) - وفيها: من جلس إلى صاحب بدعة فاحذره. (¬4) - وفيها: صاحب بدعة لا تأمنه على دينك ولا تشاوره في أمرك. ولا تجلس إليه، فمن جلس إليه ورثه الله عز وجل العمى .. (¬5) - وفيها: وإذا علم الله من رجل أنه مبغض لصاحب بدعة رجوت أن يغفر الله له وإن قل عمله، فإني أرجو له؛ لأن صاحب السنة يعرض كل خير، وصاحب البدعة لا يرتفع له إلى الله عمل وإن كثر عمله. (¬6) - وقال: إن لله عز وجل ملائكة يطلبون حلق الذكر فانظر مع من يكون مجلسك، لا يكون مع صاحب بدعة فإن الله تعالى لا ينظر إليهم، وعلامة النفاق أن يقوم الرجل ويقعد مع صاحب بدعة. (¬7) - وفيها: أدركت خيار الناس كلهم أصحاب سنة وهم ينهون عن ¬

(¬1) الحلية (8/ 103) والإبانة (2/ 3/468/ 470) وأصول الاعتقاد (4/ 706/1149). (¬2) الحلية (8/ 103) وأصول الاعتقاد (4/ 706/1149) وطبقات الحنابلة (2/ 42) والإبانة (2/ 3/460/ 439) وأورد الشاطبي بعضه في الاعتصام (1/ 121). (¬3) انظر الإحالة السابقة. (¬4) الحلية (8/ 103) وأصول الاعتقاد (4/ 706/1149). (¬5) الحلية (8/ 103) وأصول الاعتقاد (1/ 156/264) والإبانة (2/ 3/459/ 437). (¬6) الحلية (8/ 103 - 104) وأصول الاعتقاد (1/ 157/272). (¬7) الحلية (8/ 103 - 104) وأصول الاعتقاد (1/ 156/265) والإبانة (2/ 3/460/ 438.).

أصحاب البدعة. (¬1) - قال: إن لله عبادا يحيي بهم العباد والبلاد، وهم أصحاب سنة، من كان يعقل ما يدخل جوفه من حله، كان في حزب الله تعالى. (¬2) - وجاء عنه قال: اتبع طرق الهدى، ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين. (¬3) - وجاء في الإبانة عنه قال: إذا رأيت مبتدعا في طريق فخذ في طريق آخر. (¬4) - وجاء في ذم الكلام عنه قال: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه. (¬5) - وعنه قال: الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف، ولا يمكن أن يكون صاحب سنة يمالئ صاحب بدعة إلا من النفاق. (¬6) " التعليق: ما أحسن هذا وأصدقه على أهل عصرنا هذا!! والله المستعان. ¬

(¬1) الحلية (8/ 103) وأصول الاعتقاد (1/ 156/267). (¬2) الحلية (8/ 104) وأصول الاعتقاد (1/ 72/51). (¬3) الاعتصام (1/ 112). (¬4) الإبانة (2/ 3/475/ 493) وأصول الاعتقاد (1/ 155/259) وتلبيس إبليس (ص.23) وطبقات الحنابلة (2/ 42). (¬5) الإبانة (2/ 3/460/ 440) وذم الكلام (ص.220) وتلبيس إبليس (ص.23) وطبقات الحنابلة (2/ 42). (¬6) أصول الاعتقاد (1/ 156/266) والإبانة (2/ 3/456/ 429). والطرف الأخير منه في طبقات الحنابلة (2/ 43).

- جاء في ذم الكلام عنه قال: لا يشم مبتدع رائحة الجنة أو يتوب. (¬1) - وجاء في الإبانة وذم الكلام عنه قال: لا تجلس مع صاحب هوى فإني أخاف عليك مقت الله. (¬2) - جاء في تلبيس إبليس عنه قال: من أعان صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام، ومن زوج كريمته من مبتدع فقد قطع رحمها. (¬3) - جاء في أصول الاعتقاد عنه قال: من أتاه رجل فشاوره فدله على مبتدع فقد غش الإسلام، واحذروا الدخول على أصحاب البدع فإنه يصد عن الحق. (¬4) - جاء في السير عنه قال: ورأى قوما من أصحاب الحديث يمرحون ويضحكون فناداهم مهلا يا ورثة الأنبياء مهلا ثلاثا إنكم أئمة يقتدى بكم. (¬5) - عن مردويه قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: لا تجادلوا أهل الخصومات فإنهم يخوضون في آيات الله. (¬6) - وعنه قال: سمعت الفضيل يقول: لا تجلس مع صاحب بدعة فإني أخاف أن تنزل عليك اللعنة. (¬7) - وعنه قال: سمعت الفضيل يقول: طوبى لمن مات على الإسلام ¬

(¬1) ذم الكلام (ص.237). (¬2) الإبانة (2/ 3/462/ 451) وذم الكلام (ص.237) وطبقات الحنابلة (2/ 43). (¬3) تلبيس إبليس (ص.23 - 24) وطرفه الأخير في أصول الاعتقاد (4/ 809/1358) وطبقات الحنابلة (2/ 43). (¬4) أصول الاعتقاد (1/ 155/261). (¬5) السير (8/ 435). (¬6) أصول الاعتقاد (1/ 146/223). (¬7) أصول الاعتقاد (1/ 155/262) والإبانة (2/ 3/460/ 441).

والسنة، فإذا كان كذلك فليكثر من قول ما شاء الله. (¬1) - وعنه قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: المؤمن يقف عند الشبهة، ومن دخل على صاحب بدعة فليست له حرمة وإذا أحب الله عبدا وفقه لعمل صالح، فتقربوا إلى الله بحب المساكين. (¬2) - وعنه قال: علامة البلاء أن يكون الرجل صاحب بدعة. (¬3) - جاء في الإبانة: عن إبراهيم بن نصر قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: كيف بك إذا بقيت إلى زمان شاهدت فيه ناسا لا يفرقون بين الحق والباطل، ولا بين المؤمن والكافر، ولا بين الأمين والخائن، ولا بين الجاهل والعالم، ولا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا. (¬4) " التعليق: قال ابن بطة رحمه الله: فإنا لله وإنا إليه راجعون، فإنا قد بلغنا ذلك وسمعناه وعلمنا أكثره وشاهدناه، فلو أن رجلا ممن وهب الله له عقلا صحيحا وبصرا نافذا فأمعن نظره وردد فكره وتأمل أمر الإسلام وأهله وسلك بأهله الطريق الأقصد والسبيل الأرشد، لتبين له أن الأكثر والأعم الأشهر من الناس قد نكصوا على أعقابهم وارتدوا على أدبارهم، فحادوا عن المحجة وانقلبوا عن صحيح الحجة، ولقد أضحى كثير من الناس يستحسنون ما كانوا يستقبحون، ويستحلون ما كانوا يحرمون، ويعرفون ما كانوا ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (1/ 156/268). (¬2) أصول الاعتقاد (1/ 159/282). (¬3) شعب الإيمان (9473). (¬4) الإبانة (1/ 1/188/ 24).

ينكرون، وما هذه رحمكم الله أخلاق المسلمين ولا أفعال من كانوا على بصيرة في هذا الدين ولا من أهل الإيمان به واليقين. - وجاء فيها أيضا: بكى فضيل فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أخاف أن يكون الله منكم بريئا، إني أسمع الله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (¬1). فأخاف أن لا يكون الله منا في شيء، قال أبو هريرة: نزلت هذه الآية في هذه الأمة. (¬2) - قال الفضيل: ليس للمؤمن أن يقعد مع كل من شاء لأن الله عز وجل يقول: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (¬3). اهـ (¬4) - وفي الإبانة عن عبد الصمد بن يزيد الصايغ قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: الزموا في آخر الزمان الصوامع، يعني البيوت، فإنه ليس ينجو من شر ذلك الزمان إلا صفوته من خلقه. قال: وسمعت الفضيل يقول: حتى متى لا نرى عدلا نسر به ... ولا نرى لدعاة الحق أعوانا قال: ثم بكى الفضيل وقال: اللهم أصلح الراعي والرعية. (¬5) ¬

(¬1) الأنعام الآية (159). (¬2) الإبانة (1/ 2/303 - 304/ 141). (¬3) الأنعام الآية (68). (¬4) الإبانة (2/ 3/481/ 516). (¬5) الإبانة (2/ 4/595/ 761).

موقفه من الرافضة:

- وجاء في ذم الكلام عن محمد بن الفضل بن سلمة قال: قلما جلسنا إلى فضيل إلا أتانا بهاتين الكلمتين: إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا ولا يقبله إلا على السنة. (¬1) - وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: وبالجملة فمعنا أصلان عظيمان، أحدهما: أن لا نعبد إلا الله. والثاني: أن لا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بعبادة مبتدعة. وهذان الأصلان هما تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، كما قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (¬2). قال الفضيل بن عياض: أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة. وذلك تحقيق قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (¬3). (¬4) موقفه من الرافضة: - جاء في الشريعة: عن عبد الصمد بن يزيد قال: سمعت الفضيل بن ¬

(¬1) ذم الكلام (ص.125). (¬2) هود الآية (7). (¬3) الكهف الآية (110). (¬4) مجموع الفتاوى (1/ 333).

موقفه من الجهمية:

عياض يقول: حب أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ذخر أدخره. ثم قال: رحم الله من ترحم على أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - وإنما يحسن هذا كله بحب أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال: وسمعت فضيلا يقول: قال ابن المبارك: خصلتان من كانتا فيه؛ الصدق وحب أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أرجو أن ينجو ويسلم. (¬1) - وجاء في السنة للخلال: قال محمد بن زنبور: قال الفضيل: أوثق عملي في نفسي حب أبي بكر وعمر وأبي عبيدة بن الجراح وحبي أصحاب محمد عليه السلام جميعا، وكان يترحم على معاوية ويقول: كان من العلماء من أصحاب محمد عليه السلام. (¬2) موقفه من الجهمية: - جاء في خلق أفعال العباد للبخاري عنه قال: إذا قال لك جهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكانه، فقل: أنا أومن برب يفعل ما يشاء. (¬3) - وروى اللالكائي في أصول الاعتقاد بسنده إلى العطاف بن قيس قال: سألت الفضيل بن عياض عن القرآن؟ فقال: القرآن كلام الله غير مخلوق. (¬4) - وفي الإبانة قال المروذي: حدثنا محمد بن العباس -صاحب الشامة-، قال: حدثني إسحاق بن إسماعيل عن أحمد بن يونس قال: سمعت الفضيل ¬

(¬1) الشريعة (2/ 422/1224). (¬2) السنة للخلال (1/ 438). (¬3) خلق أفعال العباد (17) وأصول الاعتقاد (3/ 501 - 502/ 775) ودرء التعارض (2/ 24). (¬4) أصول الاعتقاد (2/ 265/392).

موقفه من المرجئة:

بن عياض يقول: من قال القرآن مخلوق فهو كافر. (¬1) - وفي مجموع الفتاوى قال الفضيل بن عياض: ليس لنا أن نتوهم في الله كيف هو؟ لأن الله تعالى وصف نفسه فأبلغ فقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (¬2) فلا صفة أبلغ مما وصف به نفسه. (¬3) موقفه من المرجئة: - عن إبراهيم بن شماس: وسئل الفضيل بن عياض وأنا أسمع عن الإيمان فقال: الإيمان عندنا داخله وخارجه الإقرار باللسان والقبول بالقلب والعمل به. (¬4) - وعن إبراهيم بن الأشعث، قال: سمعت الفضيل يقول: الإيمان: المعرفة بالقلب والإقرار باللسان والتفضيل بالعمل قال وسمعت الفضيل يقول: أهل الإرجاء يقولون: الإيمان قول بلا عمل. ويقول الجهمية: الإيمان المعرفة بلا قول ولا عمل، ويقول أهل السنة: الإيمان المعرفة والقول والعمل. (¬5) - وقال فضيل: المرجئة كلما سمعوا حديثا فيه تخويف قالوا: هذا تهديد، وإن المؤمن يخاف تهديد الله وتحذيره وتخويفه ووعيده، ويرجو وعده، ¬

(¬1) الإبانة (2/ 12/59 - 60/ 264). (¬2) سورة الإخلاص. (¬3) الفتاوى (5/ 62). (¬4) السنة لعبد الله (85) وأصول الاعتقاد (5/ 1033/1747). (¬5) السنة لعبد الله (99).

وإن المنافق لا يخاف تهديد الله ولا تحذيره ولا تخويفه ولا وعيده ولا يرجو وعده. وقال فضيل: الأعمال تحبط الأعمال، والأعمال تحول دون الأعمال. (¬1) - وقال عبد الله بن الإمام أحمد: وجدت في كتاب أبي أخبرت أن الفضيل بن عياض قرأ أول الأنفال حتى بلغ {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (¬2) قال حين فرغ: إن هذه الآية تخبرك أن الإيمان قول وعمل وأن المؤمن إذا كان مؤمنا حقا فهو من أهل الجنة. فمن لم يشهد أن المؤمن حقا من أهل الجنة فهو شاك في كتاب الله مكذب أو جاهل لا يعلم. فمن كان على هذه الصفة فهو مؤمن حقا مستكمل الإيمان ولا يستكمل الإيمان إلا بالعمل ولا يستكمل عبد الإيمان ولا يكون مؤمنا حقا حتى يؤثر دينه على شهوته، ولن يهلك عبد حتى يؤثر شهوته على دينه، يا سفيه ما أجهلك لا ترضى أن تقول: أنا مؤمن حتى تقول: أنا مؤمن حقا مستكمل الإيمان، والله لا تكون مؤمنا حقا مستكمل الإيمان حتى تؤدي ما افترض الله عليك، وتجتنب ما حرم الله عليك، وترضى بما قسم الله لك، ثم تخاف مع هذا أن لا يقبل الله منك. ووصف فضيل الإيمان بأنه قول وعمل. وقرأ {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ¬

(¬1) السنة لعبد الله (114). (¬2) الأنفال الآيات (1 - 4).

حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (¬1). فقد سمى الله دينا قيمة بالقول والعمل. فالقول الإقرار بالتوحيد والشهادة للنبي بالبلاغ. والعمل أداء الفرائض واجتناب المحارم. وقرأ ِ {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} (¬2) وقال: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (¬3) فالدين التصديق بالعمل كما وصفه الله وكما أمر أنبياءه ورسله بإقامته، والتفريق فيه ترك العمل والتفريق بين القول والعمل. قال الله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (¬4) فالتوبة من الشرك جعلها الله قولا وعملا بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. وقال أصحاب الرأي: ليس الصلاة ولا الزكاة ولا شيء من الفرائض من الإيمان افتراء على الله وخلافا لكتابه وسنة نبيه. ولو كان القول كما يقولون لم يقاتل أبو بكر أهل الردة. - وقال فضيل: يقول أهل البدع: الإيمان الإقرار بلا عمل، والإيمان ¬

(¬1) البينة الآية (5). (¬2) مريم الآيتان (54و55) .. (¬3) الشورى الآية (13). (¬4) التوبة الآية (11).

واحد، وإنما يتفاضل الناس بالأعمال ولا يتفاضلون بالإيمان. فمن قال ذلك فقد خالف الأثر ورد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" (¬1) وتفسير من يقول: الإيمان لا يتفاضل يقول: إن فرائض الله ليس من الإيمان. فميز أهل البدع العمل من الإيمان. وقالوا: إن فرائض الله ليس من الإيمان، ومن قال ذاك فقد أعظم الفرية، أخاف أن يكون جاحدا للفرائض رَادّاً على الله أمره. ويقول أهل السنة: إن الله قرن العمل بالإيمان وإن فرائض الله من الإيمان قالوا {والذين آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (¬2) فهذا موصول العمل بالإيمان. ويقول أهل الإرجاء: لا، ولكنه مقطوع غير موصول. وقال أهل السنة: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} (¬3) فهذا موصول، وأهل الإرجاء يقولون: بل هو مقطوع. وقال أهل السنة: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} (¬4) فهذا موصول، وكل شيء في القرآن من أشباه هذا فأهل السنة يقولون: هو موصول مجتمع، وأهل الإرجاء يقولون: بل هو مقطوع متفرق. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في مواقف إبراهيم بن محمد الفزاري سنة (186هـ). (¬2) البقرة الآية (82). (¬3) النساء الآية (124). (¬4) الإسراء الآية (19).

ولو كان الأمر كما يقولون لكان من عصى وارتكب المعاصي والمحارم لم يكن عليه سبيل، فكان إقراره يكفيه من العمل، فما أسوأ هذا من قول وأقبحه فإنا لله وإنا إليه راجعون. - وقال فضيل: أصل الإيمان عندنا وفرعه بعد الشهادة والتوحيد والشهادة للنبي بالبلاغ وبعد أداء الفرائض صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وترك الخيانة، ووفاء بالعهد، وصلة الرحم، والنصيحة لجميع المسلمين والرحمة للناس عامة. قيل له -يعني فضيلا- هذا من رأيك تقوله أو سمعته قال: بل سمعناه وتعلمناه ولو لم آخذه من أهل الفقه والفضل لم أتكلم به. - وقال فضيل: يقول أهل الإرجاء الإيمان قول بلا عمل، ويقول الجهمية الإيمان المعرفة بلا قول ولا عمل، ويقول أهل السنة: الإيمان المعرفة والقول والعمل. فمن قال: الإيمان قول وعمل فقد أخذ بالتوثيقة. ومن قال: الإيمان قول بلا عمل فقد خاطر، لأنه لا يدري أيقبل إقراره أو يرد عليه بذنوبه. وقال -يعني فضيلا- قد بينت لك إلا أن تكون أعمى. - وقال فضيل: لو قال رجل مؤمن أنت؟ ما كلمته ما عشت، وقال: إذا قلت آمنت بالله فهو يجزيك من أن تقول أنا مؤمن، وإذا قلت: أنا مؤمن لا يجزيك من أن تقول آمنت بالله، لأن آمنت بالله أمر، قال الله: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ} (¬1) الآية وقولك أنا مؤمن تكلف لا يضرك أن لا تقوله، ولا بأس ¬

(¬1) البقرة الآية (136).

معتمر بن سليمان (187 هـ)

إن قلته على وجه الإقرار، وأكرهه على وجه التزكية. (¬1) معتمر بن سليمان (¬2) (187 هـ) معتمر بن سليمان بن طَرْخَان الإمام الحافظ القدوة، أبو محمد بن الإمام أبي المعتمر التيمي البصري وهو من موالي بني مرة، ونسب إلى تيم لنزوله فيهم هو وأبوه. حدث عن: أبيه، ومنصور بن المعتمر، وأيوب وحميد وغيرهم وحدث عنه ابن المبارك وعبد الرزاق والقعنبي، والأصمعي ويحيى بن يحيى وغيرهم. كان من كبار العلماء. قال معاذ بن معاذ: سمعت قرة بن خالد يقول: ما معتمر عندنا بدون سليمان التيمي. مات سنة سبع وثمانين ومائة بالبصرة. موقفه من الجهمية: - جاء في السنة بالسند إلى فطر بن حماد بن أبي عمر الصفار قال: سألت معتمر بن سليمان، فقلت: يا أبا محمد، إمام لقوم يقول القرآن مخلوق أصلي خلفه؟ قال ينبغي أن تضرب عنقه. (¬3) - وجاء في الإبانة: عن فطر بن حماد قال: سألت المعتمر وحماد بن زيد عن من قال: القرآن مخلوق، فقالا: كافر. (¬4) ¬

(¬1) السنة لعبد الله (111 - 114). (¬2) طبقات ابن سعد (7/ 290) وتاريخ خليفة (458) والجرح والتعديل (8/ 402 - 403) وتهذيب الكمال (28/ 250 - 256) والسير (8/ 477 - 479) وتذكرة الحفاظ (1/ 266 - 267). (¬3) السنة لعبد الله (15 - 16). (¬4) الإبانة (2/ 12/58/ 260).

جرير بن عبد الحميد (188 هـ)

- وفيها: قال يحيى بن إسحاق بن توبة العنبري: سألت معتمر بن سليمان عن من قال: كلام الناس ليس بمخلوق، قال: هذا كفر. (¬1) جرير بن عبد الحميد (¬2) (188 هـ) ابن قُرْط الضَّبِّي، أبو عبد الله الرازي، القاضي ولد بأيَّة قرية من قرى أصبهان، ونشأ بالكوفة، ونزل قرية على باب الري، يقال لها: رين. روى عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، وأسلم المنقري وإسماعيل بن أبي خالد وأشعث بن سوار وغيرهم. وروى عنه إبراهيم بن شماس وإبراهيم بن موسى الفراء وإبراهيم بن هاشم بن مشكان وغيرهم. قال محمد بن سعد: كان ثقة كثير العلم، يرحل إليه. وقال محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي: حجة، كانت كتبه صحاحا وإن لم يكن، كنت إذا نظرت إليه في بزته ما كنت ترى أنه محدث، ولكنه كان إذا حدث ... أي كان يشبه العلماء. وقال محمد بن عمر زنيج: سمعت جريرا قال: رأيت ابن أبي نجيح ولم أكتب عنه شيئا، ورأيت جابرا الجعفي، ولم أكتب عنه شيئا، ورأيت ابن جريج ولم أكتب عنه شيئا فقال رجل: ضيعت يا أبا عبد الله فقال: لا. أما ¬

(¬1) الإبانة (1/ 12/353 - 354/ 163). (¬2) تهذيب الكمال (4/ 540 - 551) وتقريب التهذيب (1/ 127) والوافي بالوفيات (11/ 77) وطبقات ابن سعد (7/ 381) وتاريخ بغداد (7/ 253 - 261) والجرح والتعديل (2/ 505 - 507) وتذكرة الحفاظ (1/ 271 - 272) وميزان الاعتدال (1/ 94 و3/ 396) وشذرات الذهب (1/ 319) وسير أعلام النبلاء (9/ 9 - 18).

موقفه من الجهمية:

جابر، فإنه كان يؤمن بالرجعة، وأما ابن أبي نجيح فكان يرى القدر، وأما ابن جريج فإنه أوصى بنيه بستين امرأة وقال: لا تزوجوا بهن فإنهن أمهاتكم، وكان يرى المتعة. توفي سنة ثمان وثمانين ومائة. موقفه من الجهمية: - جاء في أصول الاعتقاد عن يحيى بن المغيرة قال: كنا عند جرير بن عبد الحميد فذكر له حديث بن سابط: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وزيادة} (¬1) قال: الزيادة النظر إلى وجه الله، قال: فحضره رجل فأنكره، فصاح به وأخرجه من مجلسه. (¬2) - وروى ابن أبي حاتم في الرد على الجهمية عنه قال: كلام الجهمية أوله عسل وآخره سم، وإنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء إله. (¬3) موقفه من المرجئة: - عن إبراهيم بن شماس قال: سمعت جرير بن عبد الحميد يقول: الإيمان قول وعمل والإيمان يزيد وينقص فقيل له: كيف تقول أنت؟ قال: أقول أنا مؤمن إن شاء الله. (¬4) ¬

(¬1) يونس الآية (26). (¬2) أصول الاعتقاد (3/ 559/880). (¬3) اجتماع الجيوش الإسلامية (204) ومجموع الفتاوى (5/ 184). (¬4) الإبانة (2/ 6/811/ 1103) وأصول الاعتقاد (5/ 1032 - 1033/ 1747) والسنة لعبد الله (84 - 85) والسنة للخلال (4/ 57/1163) والشريعة (1/ 289/286 بنحوه).

محمد بن الحسن الشيباني (189 هـ)

- وعن يحيى بن المغيرة قال: قرأت كتاب حماد بن زيد إلى جرير بن عبد الحميد: بلغني أنك تقول في الإيمان بالزيادة، وأهل الكوفة يقولون بغير ذلك، اثبت على رأيك ثبتك الله. (¬1) - عن جرير قال: سمعت منصور بن المعتمر والمغيرة بن مقسم والأعمش وليث بن أبي سليم وعمارة بن القعقاع وابن شبرمة والعلاء بن المسيب وإسماعيل بن أبي خالد وعطاء بن السائب وحمزة بن حبيب الزيات ويزيد بن أبي زياد وسفيان الثوري وابن المبارك ومن أدركت: يستثنون في الإيمان ويعيبون على من لا يستثني. (¬2) - وعن علي بن بحر قال: سمعت جرير بن عبد الحميد يقول: نحن مؤمنون إن شاء الله، ويعيبون على من لا يستثني. (¬3) محمد بن الحسن الشيباني (¬4) (189 هـ) ابن فَرْقَد، العلامة، فقيه العراق، أبو عبد الله الشَّيْبَاني الكوفي، صاحب أبي حنيفة. أخذ عن أبي حنيفة بعض الفقه، وتمم الفقه على القاضي أبي يوسف. وروى عن: أبي حنيفة، ومسعر، ومالك بن مغول، والأوزاعي، ومالك بن أنس. وأخذ عنه الشافعي، فأكثر جدا، وأبو عبيد، وهشام بن ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (5/ 1032/1746). (¬2) أصول الاعتقاد (5/ 1050 - 1051/ 1785) والشريعة (1/ 300/313). (¬3) أصول الاعتقاد (5/ 1051/1786). (¬4) الجرح والتعديل (7/ 227) والسير (9/ 134) وتاريخ بغداد (2/ 176 - 182) ووفيات الأعيان (4/ 184 - 185) وميزان الاعتدال (3/ 513) ولسان الميزان (5/ 121 - 122) وشذرات الذهب (1/ 321 - 324).

موقفه من الجهمية:

عبيد الله وأحمد بن حفص فقيه بخارى، وعمرو بن أبي عمرو الحراني، وعلي ابن مسلم الطوسي وآخرون. كان الشافعي يقول: كتبت عنه وِقر بُخْتِيٍّ وما ناظرت سمينا أذكى منه. ولو أشاء أن أقول: نزل القرآن بلغة محمد بن الحسن لقلت لفصاحته. قال الذهبي: ولي القضاء للرشيد بعد القاضي أبي يوسف وكان مع تبحره في الفقه يضرب بذكائه المثل. قال الشافعي قال محمد بن الحسن: أقمت عند مالك ثلاث سنين وكسرا، وسمعت من لفظه سبع مائة حديث. مات رحمه الله تعالى سنة تسع وثمانين ومائة. موقفه من الجهمية: - وجاء في نقض المنطق: قال شيخ الإسلام: وثبت عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة أنه قال: اتفق الفقهاء كلهم من الشرق والغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صفة الرب عز وجل من غير تفسير ولا وصف ولا تشبيه، فمن فسر شيئا من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفارق الجماعة فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا، ولكن آمنوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا، فمن قال بقول جهم فقد فارق الجماعة. (¬1) قال ابن تيمية: قوله: من غير تفسير: أراد به تفسير الجهمية المعطلة الذين ابتدعوا تفسير الصفات بخلاف ما كان عليه الصحابة والتابعون من ¬

(¬1) نقض المنطق (3 - 4) وأصول الاعتقاد (3/ 480/740) واجتماع الجيوش (206).

عتاب بن بشير (190 هـ)

الإثبات. (¬1) - وجاء في أصول الاعتقاد عنه قال: والله لا أصلي خلف من يقول القرآن مخلوق، ولا أستفتى في ذلك إلا أمرت بالإعادة. (¬2) - وجاء فيه أيضا: قال الحسن بن حماد: سأل رجل محمد بن الحسن عن القرآن مخلوق هو؟ فقال القرآن كلام الله وليس من الله شيء مخلوق. (¬3) عتاب بن بشير (¬4) (190 هـ) عَتَّاب بن بَشِير الجَزَرِي أبو الحسن الحَرَّاني. روى عن: إسحاق بن راشد الجزري، وثابت بن عجلان الأنصاري، وخصيف بن عبد الرحمن الجزري. وروى عنه: إسحاق بن راهويه، وحجاج بن إبراهيم الأزرق، وروح بن عبادة. توفي سنة تسعين ومائة. موقفه من الجهمية: جاء في السنة لعبد الله: عن علي بن مضاء قال: سألت عتاب بن بشير عن القرآن فقال: سألت خصيفا عن القرآن فقال: القرآن كلام الله وليس بمخلوق قلت: وأي شيء تقول أنت؟ قال: أقول كما قال، يعني عتابا. (¬5) ¬

(¬1) الفتاوى (5/ 50). (¬2) أصول الاعتقاد (2/ 356/519). (¬3) أصول الاعتقاد (2/ 298/474). (¬4) تهذيب الكمال (19/ 286 - 289) وميزان الاعتدال (3/ 27) وطبقات ابن سعد (7/ 485) وتهذيب التهذيب (7/ 90) وتاريخ الإسلام (حوادث 181 - 190/ص.289 - 290). (¬5) السنة لعبد الله (67).

موقف السلف من يحيى بن خالد البرمكي المبتدع الباطني الخبيث (190 هـ)

موقف السلف من يحيى بن خالد البرمكي المبتدع الباطني الخبيث (190 هـ) جاء في الاعتصام: قال ابن العربي: أول من اتخذ البخور في المسجد بنوا برمك يحيى بن خالد، ومحمد بن خالد -ملكهما الوالي أمر الدين فكان محمد ابن خالد حاجبا ويحيى وزيرا، ثم ابنه جعفر بن يحيى- قال: وكانوا باطنية يعتقدون آراء الفلاسفة، فأحيوا المجوسية، واتخذوا البخور في المساجد وإنما تطيب بالخلوق، فزادوا التجمير ويعمرونها بالنار. (¬1) " التعليق: هذه الأسرة الخبيثة التي اندست على العباسيين كغيرها من المجوس الذين تسربوا، واندسوا على المسلمين بأسماء مختلفة، وقصد الجميع هو الكيد للإسلام من أصله وكم استغل هذه الأسرة الخبيثة في الترويج لها والإشادة بها أناس لا خلاق لهم، ولا دين، وإن شئت فارجع إلى كتب الأدب والفكر تجد ما يسوء المسلم المخلص، وما هذه الحيلة التي يريدون بها نشر مجوسيتهم بطريق ذكي. يظهرون للناس أنهم يطيبون المساجد، والواقع إحياء المجوسية في أعظم مقدسات المسلمين، ألا وهي المساجد حتى تشبه بمعابدهم المجوسية. وهكذا كل كافر ومبتدع وباطني خبيث يأتي بحيلة يروج بها ضلاله لأنه لو أتى بضلاله الواضح لكشفه الناس. ¬

(¬1) الاعتصام (2/ 599 - 600).

محمد بن يزيد الواسطي (191 هـ)

محمد بن يزيد الواسطي (¬1) (191 هـ) الإمام الزاهد الحافظ المجود، أبو سعيد، وقيل أبو إسحاق الواسطي الخولاني مولاهم. حدث عن أيوب أبي العلاء القصاب، وإسماعيل بن أبي خالد والعوام بن حوشب وغيرهم. وحدث عنه أحمد وإسحاق، ويحيى وسريج بن يونس وغيرهم. قال أحمد بن حنبل: كان ثبتا في الحديث. قال وكيع: إن كان أحد من الأبدال فهو محمد بن يزيد الواسطي. قال عبد الله بن أحمد سمعت أبي يقول: ما كان بمحمد بن يزيد الواسطي بأس. كتبه صحاح، وأصله شامي، ومحمد بن يزيد أثبت من إسحاق الأزرق، الأزرق كثير الخطأ عن سفيان وكان الأزرق حافظا إلا أنه كان يخطئ. توفي سنة إحدى وتسعين ومائة. وقيل غير ذلك. موقفه من الجهمية: جاء في أصول الاعتقاد عنه قال: علمه كلامه وكلامه منه وهو غير مخلوق. (¬2) ¬

(¬1) السير (9/ 302 - 303) وتهذيب الكمال (27/ 30 - 34) وشذرات الذهب (1/ 320) والعلل ومعرفة الرجال (2/ 34 - 35) وتهذيب التهذيب (9/ 527 - 528) وشذرات الذهب (1/ 320). (¬2) أصول الاعتقاد (2/ 288/442) والسنة لعبد الله (33).

عبد الرحمن بن القاسم (191 هـ)

عبد الرحمن بن القاسم (¬1) (191 هـ) عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جُنَادَة، عالم الديار المصرية ومفتيها، أبو عبد الله العُتَقِيّ مولاهم المصري صاحب مالك الإمام. روى عن مالك، وعبد الرحمن بن شريح، ونافع بن أبي نعيم المقرئ وبكر بن مضر، وطائفة قليلة. وعنه أصبغ والحارث بن مسكين وسحنون، وعيسى بن مثرود ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم وآخرون. كان ذا مال ودنيا، فأنفقها في العلم، وقيل: كان يمتنع من جوائز السلطان، وله قدم في الورع والتأله. وعن مالك: أنه ذكر عنده ابن القاسم، فقال: عافاه الله، مثله كمثل جراب مملوء مسكا. قال الحارث بن مسكين: كان ابن القاسم في الورع والزهد شيئا عجيبا، وذكره ابن حبان في كتاب الثقات وقال: كان خيرا فاضلا ممن تفقه على مذهب مالك وفَرَّعَ على أصوله وذب عنها ونصر من انتحلها، قال الخليلي: زاهد متفق عليه، أول من حمل الموطأ إلى مصر وهو إمام. قال عن نفسه: خرجت إلى الحجاز اثنتي عشرة مرة أنفقت في كل مرة ألف دينار. توفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وتسعين ومائة. موقفه من المبتدعة: عن ابن القاسم أنه قال في أهل الأهواء مثل القدرية والإباضية وما ¬

(¬1) السير (9/ 120 - 125) وترتيب المدارك (1/ 250 - 259) وتهذيب الكمال (17/ 345 - 347) وتذكرة الحفاظ (1/ 356 - 357) والديباج المذهب (1/ 465 - 469) ووفيات الأعيان (3/ 129 - 130) وشذرات الذهب (1/ 329).

موقفه من المشركين:

أشبههم من أهل الإسلام ممن هو على غير ما عليه جماعة المسلمين من البدع والتحريف بكتاب الله وتأويله على غير تأويله: فإن أولئك يستتابون أظهروا ذلك أم أسروه فإن تابوا وإلا ضربت رقابهم لتحريفهم كتاب الله، وخلافهم جماعة المسلمين والتابعين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه، وبهذا عملت أئمة الهدى. (¬1) موقفه من المشركين: جاء في أصول السنة لابن أبي زمنين: العتبي عن عيسى عن ابن القاسم قال: ومن سب أحدا من الأنبياء والرسل من المسلمين قتل ولم يستتب وهو بمنزلة الزنديق الذي لا يعرف له توبة، فلذلك لا يستتاب لأنه يتوب بلسانه ويراجع ذلك في سريرته فلا تعرف منه توبة، وهو بمنزلة من سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} (¬2)، وقال: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬3).اهـ (¬4) موقفه من الجهمية: - له رسالة جيدة سماها السنة نقل منها الإمام ابن القيم نموذجا نذكره حتى ¬

(¬1) أصول السنة لابن أبي زمنين (ص.308). (¬2) النساء الآية (152). (¬3) البقرة الآية (137). (¬4) أصول السنة (309).

عبد الله بن إدريس (192 هـ)

يكون كالشاهد، قال رحمه الله: والإيمان بأن الله كلم موسى بن عمران بصوت سمعه موسى من الله تعالى، لا من غيره فمن قال غير هذا أوشَكَّ فقد كفر. (¬1) - وروى ابن أبي زمنين بسنده إلى عيسى بن دينار عن عبد الرحمن بن القاسم أنه قال: لا ينبغي لأحد أن يصف الله إلا بما وصف به نفسه في القرآن، ولا يشبه يديه بشيء ولا وجهه بشيء، ولكن يقول له يدان كما وصف نفسه في القرآن وله وجه كما وصف نفسه، يقف عندما وصف به نفسه في الكتاب، فإنه تبارك وتعالى لا مثل له ولا شبيه، ولكن هو الله لا إله إلا هو كما وصف نفسه، ويداه مبسوطتان كما وصفهما: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (¬2) كما وصف نفسه. (¬3) عبد الله بن إدريس (¬4) (192 هـ) عبد الله بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن الأَوْدِي من مذحج، ويكنى أبا محمد. ولد سنة خمس عشرة ومائة. حدث عن أبيه وحصين بن عبد الرحمن وسهيل بن أبي صالح وخلق. وحدث عنه: مالك وهو من مشايخه ¬

(¬1) مختصر الصواعق (2/ 503). (¬2) الزمر الآية (67). (¬3) رياض الجنة (75). (¬4) طبقات ابن سعد (6/ 389) والثقات لابن حبان (7/ 59 - 60) وتاريخ بغداد (9/ 415 - 421) وتهذيب الكمال (14/ 293 - 300) وتذكرة الحفاظ (1/ 282 - 284) والسير (9/ 42 - 48).

موقفه من الرافضة:

وابن المبارك ويحيى بن آدم بن حنبل وخلق كثير. كان عابدا فاضلا من عباد الله الصالحين ومن الزهاد. قال أبو حاتم الرازي: هو إمام من أئمة المسلمين، حجة. وكان من جِلة المقرئين. وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونا كثير الحديث حجة صاحب سنة وجماعة. وقال ابن حبان: كان صلبا في السنة. أقدمه الرشيد بغداد ليوليه قضاء الكوفة فامتنع. توفي رحمه الله تعالى في ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين ومائة. موقفه من الرافضة: - جاء في السنة للخلال: قال عبد الله بن إدريس: لو أن الروم سبوا من المسلمين من الروم إلى الحيلة ثم ردهم رجل في قلبه شيء على أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ما قبل الله منه ذلك. (¬1) - وجاء في الصارم المسلول: قال عبد الله بن إدريس من أعيان أئمة الكوفة: ليس لرافضي شفعة إلا لمسلم. (¬2) - وفيه قال: ما آمن أن يكونوا قد ضارعوا الكفار يعني الرافضة لأن الله تعالى يقول: {ليغيظ بهم الكفار} (¬3).اهـ (¬4) موقفه من الجهمية: - قال عبد الله بن الإمام أحمد في كتابه السنة: حدثني الفضل بن ¬

(¬1) السنة للخلال (1/ 478). (¬2) الصارم (ص.572). (¬3) الفتح الآية (29). (¬4) الصارم (ص.582).

الصباح السمسار، وسألت أبي عنه فقال: أعرفه، ليس به بأس، قال: كنت عند عبد الله بن إدريس، فسأله بعض أصحاب الحديث ممن كان معنا فقال: ما تقول في الجهمية، يصلى خلفهم؟ قال فضل: ثم اشتغلت أكلم إنسانا بشيء فلم أفهم ما رد عليه ابن إدريس، فقلت للذي سأله: ما قال لك؟ فقال: قال لي: أمسلمون هؤلاء، أمسلمون هؤلاء؟ لا ولا كرامة، لا يصلى خلفهم، قلت لفضل بن الصباح: سمعتَه يقول هذا لابن إدريس وأنت حاضر؟ قال: نعم سمعتُه. (¬1) - جاء في أصول الاعتقاد عن يحيى بن يوسف أبي زكريا قال: قدمنا مكة قال: فقال لي رفيق لي: هل لك في عبد الله بن إدريس تأتيه فتسلم عليه؟ فقلت نعم. فمضينا إليه فقال له رفيقي: يا أبا محمد إن قبلنا أناسا يقولون: القرآن مخلوق. فقال: من اليهود؟ فقال: لا. قال: فمن النصارى؟ فقال: لا. قال: فمن المجوس؟ قال: لا. قال: فمن هم؟ قال: من الموحدين. قال: كذبوا ليس هؤلاء من الموحدين، هؤلاء زنادقة، فمن زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن الله مخلوق ومن زعم أن الله مخلوق فقد كفر، هؤلاء زنادقة. (¬2) - وفيه عن يحيى بن خلف المقري قال: كنت عند مالك بن أنس سنة ثمان وستين فأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله ما تقول فيمن يقول: القرآن مخلوق؟ قال: كافر زنديق اقتلوه. قال: إنما أحكي كلاما سمعته. قال: لم ¬

(¬1) السنة لعبد الله (ص.13). (¬2) أصول الاعتقاد (2/ 283/432) والسنة لعبد الله (14) والشريعة (1/ 218/173) وخلق أفعال العباد (8) والإبانة (2/ 12/69/ 289).

أسمعه من أحد إنما سمعته منك. قال أبو محمد: فغلظ ذلك علي ... فلقيت عبد الله بن إدريس وأبا أسامة وعبدة بن سليمان الكلابي ويحيى بن زكريا ووكيعا فحكيت لهم. فقالوا: كافر. (¬1) - جاء في السنة لعبد الله عن مقاتل: سألت عبد الله بن إدريس عن الصلاة خلف الجهمية فقال: أَوَ مؤمنون هم؟ (¬2) - وفيها: عن الزمي قال وقرأ ابن إدريس بِسْمِ {اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم} فقال: الله مخلوق؟ والرحمن مخلوق؟ والرحيم مخلوق؟ هؤلاء زنادقة. (¬3) - وفيها: عن ابن إدريس قال: القرآن كلام الله ومن الله وما كان من الله فليس بمخلوق. (¬4) - وفيها عن محمد بن عيسى الطباع، سمعت ابن إدريس سئل عن قوم يقولون: القرآن مخلوق، فاستشنع ذلك، وقال: سبحان الله شيء منه مخلوق وأشار بيده إلى فيه. (¬5) - وفي الفتاوى الكبرى: قال البخاري وسئل عبد الله بن إدريس عن الصلاة خلف أهل البدع فقال: لم يزل في الناس إذا كان فيهم مرضي أو ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 275 - 277/ 412). (¬2) السنة لعبد الله (13 - 14). (¬3) السنة لعبد الله (14) والشريعة (1/ 218/173). (¬4) السنة لعبد الله (33). (¬5) السنة لعبد الله (14).

موقفه من المرجئة:

عدل فصل خلفه، فقلت: فالجهمية؟ قال: لا، هذه من المقاتل، هؤلاء لا يصلى خلفهم ولا يناكحون وعليهم التوبة. (¬1) موقفه من المرجئة: عن عثمان بن محمد بن أبي شيبة قال: سألت ابن إدريس وجريرا ووكيعا فقالوا: الإيمان يزيد وينقص. (¬2) إسماعيل بن عُلَيَّة (¬3) (193 هـ) إسماعيل بن إبراهيم بن مِقْسَم، الإمام، العلامة، الحافظ، الثبت أبو بِشْر الأسدي، مولاهم البصري الكوفي الأصل، المشهور بابن عُلَيَّة، وهي أمه. سمع أبا بكر محمد بن المنكدر التيمي، وأبا بكر أيوب بن أبي تميمة، ويونس بن عبيد وغيرهم. وروى عنه ابن جريج، وشعبة وهو من شيوخه وحماد بن زيد وعبد الرحمن بن مهدي وعلي بن المديني وأحمد بن حنبل وغيرهم. وكان فقيها، إماما، مفتيا، من أئمة الحديث. وقال يونس بن بكير: سمعت شعبة يقول: إسماعيل بن علية سيد المحدثين، وقال فيه أيضا: ابن علية ريحانة الفقهاء. وعن عبد الله بن أحمد عن أبيه قال: فاتني مالك فأخلف الله علي سفيان بن عيينة وفاتني حماد بن زيد فأخلف الله علي إسماعيل بن علية، ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى (5/ 80 - 81). (¬2) السنة لعبد الله (94). (¬3) طبقات ابن سعد (7/ 325 - 326) والسير (9/ 107 - 120) ومشاهير علماء الأمصار (161) وتاريخ بغداد (6/ 229 - 240) وتهذيب الكمال (3/ 23 - 33) وتذكرة الحفاظ (1/ 322 - 323) وميزان الاعتدال (1/ 216 - 220) وشذرات الذهب (1/ 333).

موقفه من الجهمية:

كان حماد بن زيد لا يفرق من مخالفة وهيب والثقفي، ويفرق من إسماعيل إذا خالفه. ولي إسماعيل القضاء، وقد نقم عليه بعض المحدثين إجابته في المحنة. قال الإمام الذهبي: إمامة إسماعيل وثيقة لا نزاع فيها، وقد بدت منه هفوة وتاب، فكان ماذا؟ إني أخاف الله، لا يكون ذكرنا له من الغيبة. توفي سنة ثلاث وتسعين ومائة. موقفه من الجهمية: - جاء في السنة عن ابن علية قال: من قال القرآن مخلوق فهو مبتدع. (¬1) - وجاء في أصول الاعتقاد: قال علي فتى هشيم لإسماعيل بن علية: نحب أن نسمع منك ما نؤديه إلى الناس في أمر القرآن فقال: القرآن كلام الله وليس من الله شيء مخلوق، ومن قال إن شيئا من الله مخلوق فقد كفر وأنا أستغفر الله مما كان مني في المجلس. (¬2) - جاء في السير: وقد قال عبد الصمد بن يزيد مردويه: سمعت إسماعيل ابن علية يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق. (¬3) - وفي السنة لعبد الله: عن إسماعيل بن علية قال: أنا أحتج عليهم يعني الجهمية بقوله عز وجل: {فَلَمَّا تجلى ربه لِلْجَبَلِ} (¬4) لا يكون تجل إلا لشيء حدث. (¬5) ¬

(¬1) السنة لعبد الله (20 - 21). (¬2) أصول الاعتقاد (2/ 284 - 285/ 435) والفتاوى الكبرى (5/ 76). (¬3) السير (9/ 118). (¬4) الأعراف الآية (143). (¬5) السنة لعبد الله (67).

هارون الرشيد (193 هـ)

- وفيها عنه أيضا: {لا تدركه الْأَبْصَارُ} (¬1) قال: هذا في الدنيا. (¬2) هارون الرشيد (¬3) (193 هـ) الخليفة أبو جعفر هارون بن المهدي. روى عن أبيه وجده، ومبارك بن فضالة. روى عنه: ابنه المأمون وغيره. كان من أنبل الخلفاء، وأحشم الملوك، ذا حج وجهاد وغزو وشجاعة ورأي. وكان يحب العلم وأهله، ويعظم حرمات الإسلام، ويبغض المراء في الدين، والكلام في معارضة النص. قال عبد الرزاق: كنت مع الفضيل بمكة، فمر هارون، فقال الفضيل: الناس يكرهون هذا، وما في الأرض أعز علي منه، لو مات لرأيت أمورا عظاما. قال فيه بعضهم: فمن يطلب لقاءك أو يرده ... فبالحَرَميْن أو أقصى الثغور ففي أرض العدو على طمر ... وفي أرض الترفه فوق طور وما حاز الثغور سواك خلق ... من المتخلفين على الأمور توفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وتسعين ومائة. وله من العمر خمس وأربعون سنة. ¬

(¬1) الأنعام الآية (103). (¬2) السنة لعبد الله (67). (¬3) تاريخ خليفة (460) والمعرفة والتاريخ (1/ 182) والسير (9/ 286 - 295) والبداية والنهاية (10/ 221 - 232) والكامل في التاريخ (6/ 211 - 221) وتاريخ الطبري (8/ 342 - 364) وتاريخ بغداد (14/ 5 - 13) وشذرات الذهب (1/ 334 - 339).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: - جاء في شرف أصحاب الحديث بالسند إلى أبي عبد الله محمد بن العباس المصري يقول: سمعت هارون الرشيد يقول: طلبت أربعة فوجدتها في أربعة: طلبت الكفر فوجدته في الجهمية، وطلبت الكلام والشغب فوجدته في المعتزلة، وطلبت الكذب فوجدته عند الرافضة، وطلبت الحق فوجدته مع أصحاب الحديث. (¬1) - روى أبو عثمان الصابوني في عقيدة السلف عن عمرو بن محمد أنه قال: كان أبو معاوية الضرير يحدث هارون الرشيد، فحدثه بحديث أبي هريرة رضي الله عنه احتج آدم وموسى (¬2) فقال عيسى بن جعفر: كيف هذا وبين آدم وموسى ما بينهما؟ قال: فوثب به هارون وقال: يحدثك عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتعارضه بكيف؟ قال: فما زال يقول حتى سكن عنه. (¬3) قال أبو عثمان رحمه الله عقبه: هكذا ينبغي للمرء أن يعظم أخبار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويقابلها بالقبول والتسليم والتصديق، وينكر أشد الإنكار على من يسلك فيها غير هذا الطريق الذي سلكه هارون الرشيد رحمه الله مع من اعترض على الخبر الصحيح الذي سمعه بكيف؟ على طريق الإنكار والاستبعاد له، ولم يتلقه بالقبول كما يجب أن يتلقى جميع ما ¬

(¬1) شرف أصحاب الحديث (ص.55). (¬2) أحمد (2/ 287،314) والبخاري (11/ 618/6614) ومسلم (4/ 2042 - 2043/ 2652) وأبو داود (5/ 76 - 77/ 4701) والترمذي (4/ 386 - 387/ 2136) والنسائي في الكبرى (6/ 284 - 285/ 10985 - 10986) وابن ماجه (1/ 31 - 32/ 80). (¬3) عقيدة السلف (319 - 320).

يرد من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. جعلنا الله سبحانه من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ويتمسكون في دنياهم مدة محياهم بالكتاب والسنة، وجنبنا الأهواء المضلة، والآراء المضمحلة، والأسواء المذلة، فضلا منه ومنة. (¬1) - جاء في البداية والنهاية: وقد استدعى إليه أبا معاوية الضرير محمد ابن خازم ليسمع منه الحديث قال أبو معاوية: ما ذكرت عنده حديثا إلا قال صلى الله وسلم على سيدي، وإذا سمع فيه موعظة بكى حتى يبل الثرى، وأكلت عنده يوما ثم قمت لأغسل يدي فصب الماء علي، وأنا لا أراه، ثم قال يا أبا معاوية أتدري من يصب عليك الماء؟ قلت: لا، قال: يصب عليك أمير المؤمنين، قال أبو معاوية: فدعوت له، فقال: إنما أردت تعظيم العلم. وحدثه أبو معاوية يوما عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة بحديث احتجاج آدم وموسى (¬2). فقال عم الرشيد أين التقيا يا أبا معاوية؟ فغضب الرشيد من ذلك غضبا شديدا وقال: أتعترض على الحديث؟ علي بالنطع والسيف، فأحضر ذلك فقام الناس إليه يشفعون فيه فقال الرشيد: هذه زندقة، ثم أمر بسجنه وأقسم أن لا يخرج حتى يخبرني من ألقى إليه هذا. فأقسم عمه بالأيمان المغلظة ما قال هذا له أحد، وإنما كانت هذه الكلمة ¬

(¬1) عقيدة السلف (321). (¬2) أخرجه: أحمد (2/ 287و314) والبخاري (11/ 618/6614) ومسلم (4/ 2042 - 2043/ 2652) وأبو داود (5/ 76 - 78/ 4701) والترمذي (4/ 386 - 387/ 2134) والنسائي في الكبرى (6/ 284 - 285/ 10985 - 10986) وابن ماجه (1/ 31 - 32/ 80).

موقفه من المشركين:

بادرة مني وأنا أستغفر الله وأتوب إليه منها فأطلقه. (¬1) " التعليق: هل فيه أغير من هذا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى عقيدة السلف الصالح، التي من شرطها التصديق بكل ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، سواء فهم المراد منه أو لم يفهم؛ فلا اعتبار للقرابة ولا للعمومة عند انتهاك العقيدة. يا ليت المسلمين يغارون بعضا من هذا على عقيدتهم ودينهم من هذه العظائم التي ترتكب في عصرنا وإلى الله المشتكى؛ فالسنة جعلها من ينسب نفسه إلى الإصلاح قشورا وجزئيات، والاشتغال بذلك يعتبر مضيعة للوقت، ودراسة العقيدة السلفية لا تمكن صاحبها من الوقوف أمام التحديات، يكتب هذا وينشر ويدرس من قوم يدعون أنهم من أكبر الباحثين في السنة، والواقع أن لا علم عندهم، وغاية ما يتجملون به من المعرفة من فتات موائد المستشرقين الحاقدين المتربصين (¬2). والله المستعان. موقفه من المشركين: - جاء في هامش الاعتصام لمعلقه محمد رشيد رضا ما لفظه: قال بعض المؤرخين إن البرامكة زينوا للرشيد وضع المجامر في الكعبة المشرفة ليأنس المسلمون بوضع النار في أعظم معابدهم، والنار معبود المجوس، والظاهر أن ¬

(¬1) البداية والنهاية (10/ 223 - 224) وذم الكلام (ص.244) والسير مختصرا (9/ 288). (¬2) انظر مزيدا من التفصيل في مواقف العلامة الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى سنة (1377هـ) تحت عنوان "التحذير من المستشرقين".

البرامكة كانوا من رؤساء جمعيات المجوس السرية التي تحاول هدم الإسلام وسلطة العرب وإعادة الملك للمجوس وإنما فتك بهم هارون الرشيد لأنه وقف على دخائلهم. (¬1) - جاء في البداية والنهاية: وفيها -أي سنة اثنتين وتسعين ومائة- خرجت الخُرَّمية بالجبل وبلاد أذربيجان، فوجه الرشيد إليهم عبد الله بن مالك ابن الهيثم الخزاعي في عشرة آلاف فارس فقتل منهم خلقا وأسر وسبى ذراريهم وقدم بهم بغداد فأمر له الرشيد بقتل الرجال منهم وبالذرية فبيعوا فيها وكان غزاهم قبل ذلك خزيمة بن خازم. (¬2) - جاء في السير: وفي سنة سبع -أي بعد الثمانين والمائة- قتل الرشيد جعفر بن يحيى البرمكي، وسجن أباه وأقاربه، بعد أن كانوا قد بلغوا رتبة لا مزيد عليها. وفيها انتقض الصلح مع الروم، وملكوا عليهم نقفور، فيقال: إنه من ذرية جفنة الغساني، وبعث يتهدد الرشيد، فاستشاط غضبا، وسار في جيوشه حتى نازله هرقلة، وذلت الروم، وكانت غزوة مشهودة. (¬3) - وجاء فيها أيضا: ويروى أن هارون الرشيد أخذ زنديقا ليقتله، فقال الرجل: أين أنت من ألف حديث وضعتها؟ قال: فأين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري وابن المبارك يتخللانها، فيخرجانها حرفا حرفا. (¬4) ¬

(¬1) الاعتصام (2/ 104). (¬2) البداية والنهاية (10/ 214 - 215). (¬3) السير (9/ 293 - 294). (¬4) السير (8/ 542) وتذكرة الحفاظ (1/ 273).

موقفه من الرافضة:

موقفه من الرافضة: جاء في البداية والنهاية: قال بعض أهل العلم: يا أمير المؤمنين انظر هؤلاء الذين يحبون أبا بكر وعمر ويقدمونهما فأكرمهم بعز سلطانك فقال الرشيد: أو لست كذلك؟ أنا والله كذلك أحبهما وأحب من يحبهما وأعاقب من يبغضهما. (¬1) موقفه من الجهمية: - جاء في أصول الاعتقاد بالسند إلى علي بن المديني قال: سمعت معاذ ابن معاذ حين قدم من عند هارون في القدمة التي كان أجازه فيها هارون، فسمعته يقول: قال لي أمير المؤمنين: إني والله ما بعثت إليك بموجدة وجدتها عليك ولكن لم أزل أحب رؤيتك ومعرفتك. ثم قال: ما قوم رددت شهادتهم؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين قدرية ومعتزلة قال: فقال: أصبت وفقك الله. (¬2) " التعليق: أمير المؤمنين هارون الرشيد له مواقف مشرفة مع المبتدعة على اختلاف أنواعهم وأشكالهم ولم يكن يعرف غير السيف معهم. ولذا أكثر ما يرويه أصحاب كتب الأدب من حَطٍّ على هارون، فهو من اختراع الزنادقة والمبتدعة والشيعة الروافض، فلا يلتفت إليه، فهارون كان ذا علم ودين وعبادة يعرف ذلك من درس سيرته في الكتب المعتمدة. ¬

(¬1) البداية والنهاية (10/ 224). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 810/1361).

- جاء في طبقات الحنابلة: قال عبد الله بن أحمد حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثني محمد بن نوح المضروب عن المسعودي القاضي قال: سمعت هارون أمير المؤمنين يقول بلغني أن بشرا المريسي يزعم أن القرآن مخلوق، لله علي إن أظفرني الله به لأقتلنه قتلة ما قتلها أحد قط. (¬1) - وجاء في البداية والنهاية: وقال بعضهم: دخلت على الرشيد وبين يديه رجل مضروب العنق والسياف يمسح سيفه في قفا الرجل المقتول. فقال الرشيد: قتلته لأنه قال: القرآن مخلوق فقتلته على ذلك قربة إلى الله عز وجل. (¬2) - جاء في السير: وكان يحب العلماء، ويعظم حرمات الدين، ويبغض الجدال والكلام، ويبكي على نفسه ولهوه وذنوبه، لا سيما إذا وعظ. (¬3) - وفي الإبانة: عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي طاهر الأزدي قال: سمعت أبي قال لي حسين الخادم المعروف ب (الكبير): جاءني رسول الرشيد ليلا، فلبست سيفي ودخلت إليه، فإذا به على كرسي مغضبا وإذا شيخ في نطع، فقال لي: يا حسين اضرب عنقه، قال: فسللت سيفي فضربت عنقه. قال: فتغير من ذاك وجهي، لأني لم أعرف قصته، قال: فرفع الرشيد رأسه إلي فقال لي: لا تكره ما فعلت يا حسين، فإن هذا كان يقول: القرآن مخلوق. (¬4) ¬

(¬1) طبقات الحنابلة (1/ 21) والسنة لعبد الله (19) والسنة للخلال (5/ 112 - 113). (¬2) البداية والنهاية (10/ 224). (¬3) السير (9/ 287). (¬4) الإبانة (2/ 13/79 - 80/ 306).

شجاع بن أبي نصر (193 هـ)

شُجَاع بن أبي نَصْر (¬1) (193 هـ) الخراساني البلخي أبو نعيم المقرئ. روى عن أبي الأشهب جعفر بن حيان العطاردي، وسليمان الأعمش وصالح المري وغيرهم. وروى عنه الحسن بن عرفة وأبو عمر حفص بن عمر الدوري المقرئ وسريج بن يونس وغيرهم. قال أبو عبيد: حدثنا شجاع بن أبي نصر وكان صدوقا مأمونا. توفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وتسعين ومائة. موقفه من الجهمية: جاء في السنة: قال: حدثني محمد بن إسحاق الصغاني حدثني يحيى بن أيوب، سمعت أبا نعيم البلخي شجاع بن أبي نصر سمعت رجلا من أصحاب جهم كان يقول بقوله، كان خاصا به، ثم تركه، وجعل يهتف بكفره قال: رأيت جهما يوما افتتح: ((طه)) فلما أتى على هذه الآية: {الرَّحْمَنُ على العرش استوى} (¬2) قال: لو وجدت السبيل إلى حكها لحككتها، ثم قرأ حتى أتى على آية أخرى، فقال: ما كان أظرف محمدا حين قالها، ثم افتتح سورة القصص، فلما أتى على ذكر موسى، جمع يديه ورجليه ثم دفع المصحف ثم قال: أي شيء هذا ذكره هاهنا فلم يتم ذكره، وذكره فلم يتم ذكره. (¬3) ¬

(¬1) تهذيب الكمال (12/ 381 - 382) وتهذيب التهذيب (4/ 313) وتقريب التهذيب (1/ 347) الثقات لابن حبان (8/ 313) الجرح والتعديل (4/ 379 - 380). (¬2) طه الآية (5). (¬3) السنة لعبد الله (37) والإبانة (2/ 13/92/ 322) وخلق أفعال العباد (20/ 55) ومختصر العلو (162 - 163) ورواه ابن بطة أيضا بلفظ أطول (2/ 13/92 - 93/ 323).

عبد الله بن أبي جعفر الرازي (193 هـ)

عبد الله بن أبي جعفر الرازي (¬1) (193 هـ) عبد الله بن أبي جعفر عيسى بن مَاهَان الرَّازي، روى عن أبيه وابن جريج وعكرمة بن عمار وشعبة وأبي سنان سعيد بن سنان الشيباني وأيوب ابن عتبة اليمامي وأبي شيبة وغيرهم وعنه ابنه محمد وعيسى بن سوادة النخعي وهو أكبر منه وأحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد الدستكي وغيرهم. قال عبد العزيز بن سلام سمعت بن مهران يقول سمعت عبد الله بن أبي جعفر يقول: طابق من لحم أحب إلي من فلان. وقال ابن عدي: بعض حديثه مما لا يتابع عليه. قال ابن حجر: صدوق يخطئ، من التاسعة. موقفه من الجهمية: روى عبد الرحمن بن أبي حاتم كما في اجتماع الجيوش الإسلامية بالسند إلى صالح بن الضريس: جعل عبد الله بن أبي جعفر الرازي يضرب قرابة له بالنعل على رأسه، يرى رأي جهم ويقول: لا، حتى يقول الرحمن على العرش استوى بائن من خلقه. (¬2) مروان بن معاوية الفزاري (¬3) (193 هـ) مروان بن معاوية الفَزَارِي أبو عبد الله الكوفي سكن مكة ثم دمشق. ¬

(¬1) الميزان (2/ 404) وتقريب التهذيب (1/ 307) وتهذيب التهذيب (5/ 176) وتهذيب الكمال (14/ 385 - 387) وتاريخ الإسلام (حوادث 181 - 190/ص.205 - 206). (¬2) اجتماع الجيوش (205) ودرء التعارض (6/ 265). (¬3) السير (9/ 51) وتهذيب الكمال (27/ 403) وتهذيب التهذيب (10/ 96) وتاريخ بغداد (13/ 149) وتاريخ الإسلام (حوادث 191 - 200/ص.386 - 388) وشذرات الذهب (1/ 333).

موقفه من الجهمية:

روى عن: إبراهيم بن يزيد الخوزي، وإسماعيل بن أبي خالد، وبهز بن حكيم. وروى عنه: أحمد ابن حنبل، وأحمد بن منيع، وإسحاق بن راهويه. قال عنه أحمد بن حنبل: ثبت حافظ. وكان جوالا في طلب الحديث. توفي سنة ثلاث وتسعين ومائة. موقفه من الجهمية: - جاء في الإبانة: عن يحيى بن أيوب قال: سمعت مروان الفزاري وذكر جهما، فقال: قبح الله جهما، حدثني ابن عم لي أنه شك في الله أربعين صباحا. (¬1) - وعن يحيى بن أيوب قال: كنا يوما عند مروان بن معاوية الفزاري فسأله رجل عن حديث الرؤية فلم يحدثه به، قال: إن لم تحدثني به فأنت جهمي. فقال مروان: أتقول لي جهمي، وجهم مكث أربعين ليلة لا يعرف ربه. (¬2) زياد بن عبد الرحمن شَبَطُون (¬3) (193 هـ) الفقيه الإمام زياد بن عبد الرحمن بن زياد، أبو عبد الله اللخمي الأندلسي، صاحب مالك، والمعروف بشَبَطُون. سمع من معاوية بن صالح ¬

(¬1) الإبانة (2/ 13/93/ 324) والسنة لعبد الله (41) والسنة للخلال (5/ 87) والفتاوى الكبرى (5/ 41). (¬2) الفتاوى الكبرى (5/ 41). (¬3) ترتيب المدارك (1/ 200 - 203) والسير (9/ 311 - 312) وتاريخ الإسلام (حوادث 191 - 200/ص.177 - 178) والوافي بالوفيات (15/ 16 - 17) والديباج المذهب (1/ 370) وشجرة النور الزكية (1/ 63).

موقفه من المبتدعة:

القاضي -وتزوج بابنته- ومن مالك والليث ويحيى بن أيوب وسليمان بن بلال. وتفقه عليه يحيى بن يحيى الليثي. كان أول من أدخل مذهب الإمام مالك إلى الأندلس، وقبل ذلك كانوا يتفقهون للأوزاعي وغيره. وكان أحد النساك الورعين، أراده هشام صاحب الأندلس على القضاء فأبى وهرب. قال الذهبي: وكان إماما، عالما، ناسكا، مهيبا، كبير الشأن. توفي رحمه الله سنة ثلاث وتسعين ومائة. موقفه من المبتدعة: جاء في السير: قال عبد الملك بن حبيب: كنا عند زياد إذ جاءه كتاب من بعض الملوك، فكتب فيه، وختمه، ثم قال لنا زياد: إنه سأل عن كفتي الميزان، أمن ذهب أم من فضة؟ فكتبت إليه: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه (¬1). (¬2) ¬

(¬1) أخرجه: الترمذي (4/ 483/2317) وابن ماجه (2/ 1315 - 1316/ 3976) وابن حبان (1/ 466/229) من طريق قرة بن عبد الرحمن عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة به. قال الترمذي: "حديث غريب لا نعرفه من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من هذا الوجه". وقرة قال الحافظ في التقريب: "صدوق له مناكير". وله شواهد منها ما رواه: أحمد (1/ 201) ومالك (فتح البر2/ 375) والبخاري في التاريخ (4/ 220) والترمذي (4/ 484/2318) عن علي بن حسين مرسلا والطبراني في الكبير (3/ 138/2886) والأوسط (9/ 184/8397) عن علي بن الحسين عن أبيه مرفوعا والصغير (2/ 380/1052) وقال الهيثمي في المجمع (8/ 18): "رواه أحمد والطبراني في الثلاثة ورجال أحمد والكبير ثقات". وقال البخاري: "ولا يصح إلا عن علي بن حسين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ". وقال الترمذي: "وهذا عندنا أصح من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة". وبنحو كلامهما قال أحمد ويحيى بن معين والدارقطني كما ذكر ابن رجب في الجامع (1/ 287 - 288). وأخرجه الطبراني في الصغير (2/ 321/867) عن زيد بن ثابت وقال الهيثمي (8/ 18): "فيه محمد بن كثير بن مروان وهو ضعيف". وعزاه السيوطي في الجامع الصغير للحاكم في الكنى من حديث أبي بكر والشيرازي من حديث أبي ذر والحاكم في تاريخه عن علي بن أبي طالب وابن عساكر عن الحارث بن هشام ورمز للحديث بالصحة وحسنه النووي في الأربعين. ولعل بهذه الشواهد يرتقي الحديث إلى مرتبة الحسن. (¬2) السير (9/ 312).

أبو بكر بن عياش (194 هـ)

أبو بكر بن عَيَّاش (¬1) (194 هـ) ابن سالم الأسدي، مولاهم الكوفي الحَنَّاط المقرئ الفقيه المحدث شيخ الإسلام، وبقية الأعلام مولى واصل، قيل اسمه شعبة وقيل محمد وقيل اسمه كنيته. قرأ القرآن، وجوده ثلاث مرات على عاصم بن أبي النجود وغيره. وحدث عن عاصم، وأبي إسحاق السبيعي، وعبد الملك بن عمير وغيرهم. وحدث عنه ابن المبارك والكسائي، ووكيع وأبو داود وأحمد بن حنبل وغيرهم. قال ابن المبارك: ما رأيت أحدا أسرع إلى السنة من أبي بكر بن عياش. قال يعقوب بن شيبة الحافظ: كان أبو بكر معروفا بالصلاح البارع وكان له فقه وعلم الأخبار، وفي حديثه اضطراب. وقال يزيد بن هارون: كان أبو بكر بن عياش خيرا فاضلا، لم يضع جنبه على الأرض أربعين سنة. قال سفيان بن عيينة: قال لي أبو بكر بن عياش: رأيت الدنيا في النوم عجوزا مشوهة. وعن أبي بكر بن عياش قال: أدنى نفع السكوت السلامة، وكفى بها عافية. وأدنى ضرر المنطق الشهرة وكفى بها بلية. توفي رحمه الله تعالى سنة أربع وتسعين ومائة. موقفه من المبتدعة: - عن زكريا بن يحيى قال: سمعت أبا بكر بن عياش قال له رجل: يا أبا بكر: من السني؟ قال: الذي إذا ذكرت الأهواء لم يتعصب لشيء منها. (¬2) ¬

(¬1) تاريخ ابن معين (2/ 696) وتاريخ خليفة (466) وتهذيب الكمال (33/ 129 - 135) والسير (8/ 495 - 508) وتذكرة الحفاظ (1/ 265 - 266) وميزان الاعتدال (4/ 469) والحلية (8/ 303 - 313) وشذرات الذهب (1/ 334). (¬2) أصول الاعتقاد (1/ 72 - 73/ 53) والشريعة (3/ 581/2112) وانظر الاعتصام (1/ 114) والاستقامة (1/ 255).

- عن ابن المبارك قال: ما رأيت أحدا أشرح للسنة من أبي بكر بن عياش. (¬1) - جاء في مجموع الفتاوى: قيل لأبي بكر بن عياش: إن بالمسجد قوما يجلسون ويجلس إليهم، فقال: من جلس للناس، جلس الناس إليه. ولكن أهل السنة يموتون، ويحيى ذكرهم، وأهل البدعة يموتون ويموت ذكرهم؛ لأن أهل السنة أحيوا ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فكان لهم نصيب من قوله: {ورفعنا لك ذكرك} (¬2)، وأهل البدعة شنؤوا ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فكان لهم نصيب من قوله: {إن شانئك هو الأبتر}. (¬3) " التعليق: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فالحذر الحذر أيها الرجل من أن تكره شيئا مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو ترده لأجل هواك، أو انتصارا لمذهبك، أو لشيخك، أو لأجل اشتغالك بالشهوات، أو بالدنيا، فإن الله لم يوجب على أحد طاعة أحد إلا طاعة رسوله، والأخذ بما جاء به، بحيث لو خالف العبد جميع الخلق، واتبع الرسول ما سأله الله عن مخالفة أحد فإن من يطيع أو يطاع إنما يطاع تبعا للرسول، وإلا لو أمر بخلاف ما أمر به الرسول ما أطيع. فاعلم ذلك واسمع، وأطع واتبع، ولا تبتدع تكن أبتر مردودا عليك عملك، بل لا ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (1/ 73/55). (¬2) الشرح الآية (4). (¬3) الكوثر الآية (3).

موقفه من الرافضة:

خير في عمل أبتر من الاتباع ولا خير في عامله والله أعلم. (¬1) - وجاء في أصول الاعتقاد عنه قال: السنة في الإسلام أعز من الإسلام في سائر الأديان. (¬2) موقفه من الرافضة: - قال رحمه الله: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقر في قلبه. (¬3) - وعن بشر بن الحارث رحمه الله قال: قلت لأبي بكر بن عياش إن قوما يقولون: أبو بكر وعمر وعلي، فقال أبو بكر: لعنة الله على من قال ذا. (¬4) - عن بشر بن الحارث قال: قلت لأبي بكر بن عياش ما تقول فيمن قدم عليا على عثمان قال: من قال هذا فعليه لعنة الله. (¬5) - قال الحسن بن عليل العنزي حدثنا محمد بن إسماعيل القرشي عن أبي بكر بن عياش قال لي الرشيد: كيف استخلف أبو بكر: قلت: يا أمير المؤمنين سكت الله وسكت رسوله وسكت المؤمنون. قال: ما زدتني إلا عمى. قلت: مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانية أيام، فدخل عليه بلال: فقال: "مروا أبا ¬

(¬1) الفتاوى (16/ 528 - 529). (¬2) أصول الاعتقاد (1/ 73/54) وبنحوه ذم الكلام (ص.240). (¬3) المنهاج (6/ 223). (¬4) السنة للخلال (1/ 393). (¬5) أصول الاعتقاد (8/ 1452/2621).

موقفه من الجهمية:

بكر يصلي بالناس" (¬1). فصلى بالناس ثمانية أيام والوحي ينزل، فسكت رسول الله لسكوت الله، وسكت المؤمنون لسكوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فأعجبه ذلك، فقال: بارك الله فيك. (¬2) - جاء في السير: قال أحمد بن يونس: قلت لأبي بكر بن عياش: لي جار رافضي قد مرض قال: عده مثل ما تعود اليهودي والنصراني، لا تنو فيه الأجر. (¬3) - وفيها عن أبي هشام الرفاعي: سمعت أبا بكر بن عياش يقول: أبو بكر الصديق خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نص القرآن، لأن الله تعالى يقول: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (¬4). قال: فمن سماه الله صادقا فليس يكذب، هم قالوا: يا خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬5) موقفه من الجهمية: - جاء في السير: قال أبو داود ثنا حمزة بن سعيد المروزي وكان ثقة ¬

(¬1) يشير إلى الحديث الذي رواه: أحمد (6/ 210،224) والبخاري (2/ 260/713) و (8/ 177/4445) ومسلم (1/ 313 - 314/ 418) 95)) والترمذي (2/ 196/362) مختصرا وقال: "حديث حسن صحيح غريب". والنسائي (2/ 434 - 435/ 832) وابن ماجة (1/ 389/1232). (¬2) الميزان (4/ 501) والسير (8/ 506). (¬3) السير (8/ 504). (¬4) الحشر الآية (8). (¬5) السير (8/ 500 - 501).

موقفه من المرجئة:

قال: سألت أبا بكر بن عياش فقلت: قد بلغك ما كان من أمر ابن علية في القرآن، قال: ويلك من زعم أن القرآن مخلوق فهو عندنا كافر زنديق عدو الله لا نجالسه ولا نكلمه. (¬1) - وفيها عنه أنه سئل عن القرآن، فقال: هو كلام الله غير مخلوق. (¬2) - وفي السنة لعبد الله عنه قال: من زعم أن القرآن مخلوق فقد افترى على الله. (¬3) - وفي السنة للخلال: عن يحيى بن آدم قال: قال لي أبو بكر بن عياش: إنما يحاولون الجهمية أن ليس في السماء شيء. (¬4) موقفه من المرجئة: عن أبي سلمة الخزاعي قال: قال مالك بن أنس وشريك وأبو بكر بن عياش وعبد العزيز بن أبي سلمة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد: الإيمان المعرفة والإقرار والعمل. (¬5) ¬

(¬1) السير (8/ 499) والإبانة (2/ 12/48/ 242) والشريعة (1/ 219 - 220/ 176). (¬2) السير (8/ 504). (¬3) السنة لعبد الله (31). (¬4) السنة للخلال (5/ 123). (¬5) أصول الاعتقاد (4/ 931/1587) والسنة لعبد الله (83).

حفص بن غياث (194 هـ)

حَفْص بن غِياث (¬1) (194 هـ) ابن طَلْق بن معاوية. الإمام الحافظ العلامة القاضي أبو عمر النخعي الكوفي، قاضي الكوفة، ومحدثها، وولي القضاء ببغداد أيضا. سمع من عاصم الأحول، وسليمان التيمي، ويحيى بن سعيد وغيرهم، وروى عنه يحيى بن سعيد القطان رفيقه، وابن مهدي وغيرهما. كان شيخا عفيفا مسلما. قال يحيى: لم أر بالكوفة مثل هؤلاء الثلاثة: حزام، وحفص وابن أبي زائدة، كان هؤلاء أصحاب حديث. قال علي: فلما أخرج حفص كتبه كان كما قال يحيى، إذا فيها أخبار وألفاظ. وقال أبو حاتم عن أحمد بن أبي الحواري: حدثت وكيعا بحديث فعجب، فقال: من جاء به؟ قلت: حفص بن غياث، قال: إذا جاء به أبو عمر فأي شيء نقول نحن. قال يحيى بن معين: جميع ما حدث به حفص بن غياث ببغداد والكوفة إنما هو من حفظه، ولم يخرج كتابا، كتبوا عنه ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف حديث من حفظه. وقال الحسن ابن سفيان، عن أبي بكر بن أبي شيبة: سمعت حفص بن غياث يقول: والله ما وليت القضاء حتى حلت لي الميتة. وقال ابن عمار: وكان عسرا في الحديث جدا، لقد استفهمه إنسان حرفا في الحديث فقال: والله لا سمعتها مني، وأنا أعرفك. توفي سنة أربع وتسعين ومائة. ¬

(¬1) تاريخ ابن معين (2/ 121 - 122) وطبقات ابن سعد (6/ 389) والسير (9/ 22 - 34) ومشاهير علماء الأمصار (172) وتهذيب الكمال (7/ 56 - 70) والجرح والتعديل (3/ 185 - 186) وتذكرة الحفاظ (1/ 297 - 298) وشذرات الذهب (1/ 340).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: جاء في ذم الكلام عن ابنه عمر قال: سمعت أبي وقيل له: ألا تنظر إلى أصحاب الحديث وما هم فيه؟ قال: هم خير أهل الدنيا. (¬1) موقفه من الجهمية: روى ابن بطة في الإبانة بسنده إلى إبراهيم بن حماد، قال: قال رجل لحفص بن غياث: يا أبا عمر إن عندنا قوما يزعمون أن القرآن مخلوق. قال: لا جزاك الله خيرا، أوردت على قلبي شيئا لم أسمعه قط. (¬2) عمر بن هارون (¬3) (194 هـ) الإمام عالم خراسان عمر بن هارون بن يزيد بن جابر بن سلمة أبو حفص الثقفي، مولاهم البلخي. ولد سنة بضع وعشرين ومائة. روى عن ابن جريج وأسامة بن زيد الليثي وشعبة والثوري والأوزاعي وجعفر الصادق، وروى عنه عفان بن مسلم وأحمد بن حنبل وهشام بن عبيد الله الرازي ومحمد بن حميد وعلي بن الحسن الذهلي وخلق كثير. تكلم فيه أهل العلم من قبل حفظه. قال أبو حاتم: كان عمر بن هارون صاحب سنة وفضل وسخاء، وكان أهل بلده يبغضونه لتعصبه في السنة والذب عنها. ¬

(¬1) ذم الكلام (ص.234). (¬2) الإبانة (2/ 12/31 - 32/ 322) والفتاوى الكبرى (5/ 81). (¬3) طبقات ابن سعد (7/ 474) والمجروحين (2/ 91) وتاريخ بغداد (11/ 187 - 191) وسير أعلام النبلاء (9/ 267 - 276) وتهذيب الكمال (21/ 520 - 531) وميزان الاعتدال (3/ 228 - 229) وتهذيب التهذيب (7/ 501 - 505) والتقريب (1/ 727).

موقفه من المبتدعة:

قال الذهبي: كان من أوعية العلم على ضعفه وكثرة مناكيره وما أظنه ممن يتعمد الباطل. وقال ابن حجر: متروك، وكان حافظا. مات رحمه الله ببلخ يوم الجمعة من شهر رمضان سنة أربع وتسعين ومائة. موقفه من المبتدعة: عن قتيبة قال: سمعت يونس بن سليمان عن (¬1) عمر بن هارون قال: نظرت في العلم فإذا القرآن والأثر، ثم نظرت في الأثر فإذا هو عظمة الرب وصفة الجنة والنار والحلال والحرام والأمر والنهي، وصلة الرحم في أنواع الخير، ثم نظرت في الرأي، فإذا هو الخديعة والمكر والخيانة والحيل وقسوة القلب وأشياء كثيرة من الشر، فأخذت الأثر وتركت الرأي. (¬2) موقفه من المرجئة: عن أبي رجاء قال: كان عمر بن هارون شديدا على المرجئة، ويذكر مساوئهم وبلاياهم، فكانت بينهم عداوة لذلك. (¬3) القاسم الجرمي (¬4) (194 هـ) الشيخ الإمام أبو يزيد القاسم بن يزيد الجَرْمي المَوْصِلِي. حدث عن إسرائيل بن يونس وسليمان بن المغيرة وسفيان الثوري وثور بن يزيد وأفلح ¬

(¬1) كذا في طبعة د. سميح دغيم، وفي طبعة أبي جابر الأنصاري 'عند'. (¬2) ذم الكلام (ص.239). (¬3) سير أعلام النبلاء (9/ 270). (¬4) تاريخ بغداد (12/ 426) وتهذيب الكمال (23/ 460 - 465) والسير (9/ 281) وتهذيب التهذيب (8/ 341) وشذرات الذهب (1/ 341) والتقريب (2/ 25).

موقفه من الجهمية:

بن حميد وطائفة. وحدث عنه أحمد بن حرب وأخوه علي بن حرب ومحمد بن عبد الله بن عمار وإبراهيم بن موسى الرازي وهشام بن بهرام. قال حرب بن إسماعيل: سئل أحمد بن حنبل عنه، فقال: ما علمت إلا خيرا. وقال أبو زكريا الأزدي في تأريخ الموصل: وكان فاضلا ورعا، حسنا، من المعدودين في أصحاب سفيان، رحل في طلب العلم إلى الآفاق، وكتب عمن لحق من الحجازيين والبصريين والكوفيين والشاميين والمواصلة، وكان حافظا للحديث، متفقها. وقال أحمد بن أبي رافع حدثنا القاسم بن يزيد الجرمي، وكان خير أهل زمانه. قال ابن حجر: ثقة عابد. مات رحمه الله سنة أربع وتسعين ومائة. موقفه من الجهمية: جاء في السير: قال هشام بن بهرام: سمعت قاسما الجرمي يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق. (¬1) يوسف بن أسباط (¬2) (195 هـ) يوسف بن أَسْبَاط الزاهد، الواعظ. روى عن: محل بن خليفة، والثوري، وزائدة بن قدامة. وحدث عنه: المسيب بن واضح، وعبد الله بن خبيق. رويت له حكم ومواعظ. قال المسيب: سألته عن الزهد، فقال: أن ¬

(¬1) السير (9/ 283). (¬2) السير (9/ 169) وحلية الأولياء (8/ 237) وميزان الاعتدال (4/ 462) ولسان الميزان (6/ 317) ووفيات الأعيان (2/ 471) والمعرفة والتاريخ (1/ 727).

موقفه من المبتدعة:

تزهد في الحلال، فأما الحرام فإن ارتكبته، عذبك. وقال: يجزي قليل الورع من كثير العمل، وقليل التواضع من كثير الاجتهاد. وقال شعيب بن حرب: ما أقدم على يوسف بن أسباط أحدا. قال البخاري: دفن كتبه، فكان حديثه لا يجيء كما ينبغي. توفي سنة خمس وتسعين ومائة. موقفه من المبتدعة: - عن عبد الله بن حسن قال: سمعت يوسف بن أسباط يقول: بطالب الحديث يدفع البلاء عن أهل الأرض. (¬1) - عن يوسف بن أسباط قال: من نعمة الله تعالى على الشاب أن يرافق صاحب سنة يحمله عليها. (¬2) - عن بركة بن محمد الأنصاري، سمعت يوسف بن أسباط يقول: أهل السنة أقل من الكبريت الأحمر. (¬3) - جاء في أصول الاعتقاد: أخبرنا عيسى بن علي أخبرنا عبد الله بن محمد البغوي ثنا محمد بن منقذ ثنا سعيد بن شبيب قال: سمعت يوسف بن أسباط يقول: كان أبي قدريا وأخوالي روافض فأنقذني الله بسفيان. (¬4) - جاء في الإبانة: عن المسيب بن واضح السلمي الحمصي قال: أتيت يوسف بن أسباط فسلمت عليه وانتسبت إليه وقلت له: يا أبا محمد إنك بقية ¬

(¬1) ذم الكلام (ص.204) وفي التلبيس (ص.401). (¬2) ذم الكلام (ص.240). (¬3) ذم الكلام (ص.125). (¬4) أصول الاعتقاد (1/ 67/32) والتلبيس (ص.17 - 18).

أسلاف العلم الماضين وإنك إمام سنة وأنت على من لقيك حجة، ولم آتك لسمع الأحاديث ولكن لأسألك عن تفسيرها، وقد جاء هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين فرقة وأن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة (¬1) فأخبرني من هذه الفرق حتى أتوقاها، فقال لي أصلها أربعة: القدرية، والمرجئة والشيعة وهم الروافض والخوارج، فثماني عشرة فرقة في القدرية وثماني عشرة في المرجئة وثماني عشرة في الخوارج وثماني عشرة في الشيعة، ثم قال: ألا أحدثك بحديث لعل الله أن ينفعك به؟ قلت: بلى يرحمك الله، قال: أسلم رجل على عهد عمرو بن مرة فدخل مسجد الكوفة فجعلت أجلس إلى قوم أصحاب أهواء فكل يدعو إلى هواه (¬2)، وقد اختلفوا علي فما أدري بأيها أتمسك فقال له عمرو بن مرة: اختلفوا عليك في الله عز وجل أنه ربهم؟ قال: لا، قال: اختلفوا عليك في محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه نبيهم؟ قال: لا، قال: فاختلفوا عليكم في الكعبة أنها قبلتهم؟ قال: لا، قال: فاختلفوا عليك في شهر رمضان أنه صومهم؟ قال: لا، قال: فاختلفوا عليك في الصلوات الخمس والزكاة والغسل من الجنابة؟ قال: لا، قال: فانظر هذا الذي اجتمعوا عليه فهو دينك ودينهم فتمسك به وانظر تلك الفرق التي ¬

(¬1) أحمد (2/ 332) وأبو داود (5/ 4/4596) والترمذي (5/ 25/2640) وقال: "حديث حسن صحيح". وابن ماجه (2/ 1321/3991) وابن حبان (14/ 140/6247) و (15/ 125/6731) والحاكم (1/ 128) من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة به وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي وقال الشيخ الألباني في الصحيحة (1/ 403): "فيه نظر، فإن محمد بن عمرو فيه كلام، ولذلك لم يحتج به مسلم وإنما روى له متابعة، وهو حسن الحديث". (¬2) هنا سقط كما أفاده المحقق ..

موقفه من الجهمية:

اختلفوا عليك فيها فاتركهم فليست من دينهم في شيء. (¬1) - وفيها عن أحمد بن يوسف بن أسباط قال: سمعت أبي يقول: ما أبالي سألت صاحب بدعة عن ديني أو زنيت. (¬2) موقفه من الجهمية: قال ابن تيمية في الدرء: وقال يوسف بن أسباط وابن المبارك: أصول البدع أربعة: الشيعة، والخوارج، والمرجئة، والقدرية. قيل: والجهمية؟ فقالا: ليست الجهمية من أمة محمد. (¬3) يحيى بن سليم الطائفي (¬4) (195 هـ) يحيى بن سُلَيْم أبو زكريا القُرشي الطَّائفي، نزيل مكة. حدث عن: عبد الله بن عثمان، وابن جريج، وموسى بن عقبة، وروى عنه: الشافعي وأحمد بن حنبل، وإسحاق. قال ابن سعد: ثقة كثير الحديث. وعن الشافعي قال: كان رجلا فاضلا. توفي سنة خمس وتسعين ومائة. موقفه من الجهمية: روى اللالكائي في أصول الاعتقاد: عن يحيى بن سليم الطائفي: من ¬

(¬1) الإبانة (1/ 2/377 - 379/ 277) وفي الشريعة (1/ 125/20 مختصرا). (¬2) الإبانة (2/ 3/459/ 435). (¬3) درء التعارض (5/ 302). (¬4) السير (9/ 307) وتهذيب الكمال (31/ 365) وتهذيب التهذيب (11/ 226) وطبقات ابن سعد (5/ 500) وتاريخ الإسلام (حوادث 191 - 200/ص.474 - 475) وشذرات الذهب (1/ 344).

موقفه من المرجئة:

وقف في القرآن فهو جهمي. (¬1) موقفه من المرجئة: - عن يحيى بن سليم قال: سألت عشرة من الفقهاء عن الإيمان، فقالوا: قول وعمل. سألت سفيان الثوري، فقال: قول وعمل. وسألت ابن جريج، فقال: قول وعمل. وسألت محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، فقال: قول وعمل. وسألت المثنى بن الصباح، فقال: قول وعمل. وسألت نافع بن عمر ابن جميل، فقال: قول وعمل. وسألت محمد بن مسلم الطايفي، فقال: قول وعمل. وسألت مالك بن أنس، فقال: قول وعمل. وسألت سفيان بن عيينة، فقال: قول وعمل. (¬2) - وعن شريح بن النعمان قال: سمعت يحيى بن سليم الطائفي ونحن خلف المقام: أي شيء تقول المرجئة؟ قال يقولون: ليس الطواف بهذا البيت من الإيمان. (¬3) - وقال إبراهيم بن شماس: سمعت يحيى بن سليم يقول: الإيمان قول وعمل. (¬4) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 360/533). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 930/1584) والشريعة (1/ 298/282). (¬3) الإبانة (2/ 899/1255) والسنة للخلال (3/ 585/1023). (¬4) السنة لعبد الله (85).

موقف السلف من بشر بن السري (195 هـ)

موقف السلف من بشر بن السري (195 هـ) جاء في السير: عن سليمان بن حرب قال: سأل بشر بن السري حماد ابن زيد عن حديث "ينزل ربنا" (¬1) أيتحول؟ فسكت، ثم قال: هو في مكانه، يقرب من خلقه كيف شاء. وقال أحمد بن حنبل: تكلم بشر بشيء بمكة، فوثب عليه إنسان، فذل بمكة حتى جاء، فجلس إلينا مما أصابه من الذل. (¬2) وفيها: وكان الثوري يستثقله، لأنه سأل سفيان عن أطفال المشركين، فقال: ما أنت وذا يا صبي؟ قال الذهبي: هكذا كان السلف يزجرون عن التعمق، ويبدعون أهل الجدال. (¬3) أبو معاوية الضرير محمد بن خازم (195 هـ) موقفه من الجهمية: جاء في السنة لعبد الله: عن إبراهيم بن زياد سبلان قال: سمعت أبا معاوية يعني الضرير محمد بن خازم يقول: الكلام فيه بدعة وضلالة ما تكلم ¬

(¬1) انظر تخريجه في مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ). (¬2) السير (9/ 333). (¬3) السير (9/ 333 - 334).

وكيع بن الجراح (196 هـ)

فيه النبي ولا الصحابة ولا التابعون ولا الصالحون يعني القرآن مخلوق. (¬1) موقف السلف منه لقوله بالإرجاء كان يرى الإرجاء، فيقال: إن وكيعا لم يحضر جنازته لذلك. (¬2) وقال ابن حبان: ... كان مرجئا خبيثا. (¬3) وكيع بن الجَرَّاح (¬4) (196 هـ) ابن مَلِيح الإمام الحافظ، محدث العراق، أبو سفيان الرُّؤَاسي الكوفي، أحد الأعلام. سمع من هشام بن عروة وسليمان الأعمش، وإسماعيل بن أبي خالد وغيرهم. وعنه سفيان الثوري أحد شيوخه وعبد الله بن المبارك، والفضل بن موسى -وهما أكبر منه- وعبد الرحمن بن مهدي والحميدي وغيرهم. وكان من بحور العلم وأئمة الحفظ. قال يحيى بن معين: وكيع في زمانه كالأوزاعي في زمانه. وقال أحمد بن حنبل: ما رأيت أحدا أوعى للعلم ولا أحفظ من وكيع. وقال محمد بن سعد: كان وكيع ثقة مأمونا عاليا رفيعا كثير الحديث حجة. قال ابن ¬

(¬1) السنة لعبد الله (40). (¬2) السير (9/ 76). (¬3) السير (9/ 77) وانظر الثقات (7/ 441 - 442) والذي فيه (مرجئا) فقط. (¬4) التاريخ لابن معين (2/ 630 - 632) وطبقات ابن سعد (6/ 394) وتاريخ خليفة (467) ومشاهير علماء الأمصار (173) والحلية (8/ 368 - 380) وتهذيب الكمال (30/ 462 - 484) وتاريخ بغداد (13/ 496 - 512) وتذكرة الحفاظ (1/ 306 - 309) والجرح والتعديل (1/ 219 - 231) والسير (9/ 140 - 168) وميزان الاعتدال (4/ 335 - 336) وشذرات الذهب (1/ 349 - 350).

موقفه من المبتدعة:

عمار: ما كان بالكوفة في زمان وكيع أفقه ولا أعلم بالحديث من وكيع. قال ابن عدي: حدثت عن نوح بن حبيب، عن عبد الرزاق قال: رأيت الثوري وابن عيينة ومعمرا ومالكا، ورأيت ورأيت فما رأت عيناي قط مثل وكيع. وقال بشر بن موسى: سمعت أحمد بن حنبل يقول ما رأيت قط مثل وكيع في العلم والحفظ والإسناد والأبواب مع خشوع وورع. وقال أحمد العجلي: وكيع كوفي ثقة عابد صالح أديب من حفاظ الحديث، وكان مفتيا. كان وكيع يقول: ما نعيش إلا في سترة، ولو كشف الغطاء لكشف عن أمر عظيم، الصدق النية. قال أحمد بن أبي الحواري عن وكيع: ما أخذت حديثا قط عرضا، فذكرت هذا لابن معين فقال: وكيع عندنا ثبت. مات سنة ست وتسعين ومائة. موقفه من المبتدعة: - جاء في ذم الكلام عنه قال: من طلب الحديث كما جاء فهو صاحب سنة، ومن طلبه ليقوي به رأيه فهو صاحب بدعة. (¬1) " التعليق: وهذا دأب مبتدعة أهل هذا الزمان لا يطلبونه لأنه حديث رسول الله، فيعملون به كما عمل به السلف ولكن للاستعانة به على تأييد بدعهم نسأل الله العافية. ¬

(¬1) ذم الكلام (ص.100) والسير (9/ 144).

- قال أبو عيسى الترمذي: سمعت أبا السائب يقول: كنا عند وكيع، فقال لرجل عنده ممن ينظر في الرأي: أشعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويقول أبو حنيفة هو مثلة؟ قال الرجل: فإنه قد روي عن إبراهيم النخعي، أنه قال: الإشعار مثلة، قال: فرأيت وكيعا غضب غضبا شديدا، وقال: أقول لك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول: قال إبراهيم، ما أحقك بأن تحبس، ثم لا تخرج حتى تنزع عن قولك هذا. (¬1) - عن أبي زرعة، قال حدثني يزيد بن عبد ربه، قال سمعت وكيع بن الجراح يقول ليحيى بن صالح الوحاظي: يا أبا زكريا احذر الرأي، فإني سمعت أبا حنيفة يقول: البول في المسجد أحسن من بعض قياسهم. (¬2) - عن علي بن خشرم، قال: سمعت وكيعا غير مرة يقول: يا فتيان تفهموا فقه الحديث، فإنكم إن تفهمتم فقه الحديث لم يقهركم أهل الرأي. (¬3) - عن علي بن خشرم المروزي قال: سمعت وكيعا يقول لأصحاب الحديث: لو أنكم تفقهتم الحديث وتعلمتموه ما غلبكم أصحاب الرأي، ما قال أبو حنيفة في شيء يحتاج إليه إلا ونحن نروي فيه بابا. (¬4) - وجاء في ذم الكلام عن وكيع قال: إن أهل العلم يكتبون ما لهم وما ¬

(¬1) سنن الترمذي (3/ 250) والفقيه والمتفقه (1/ 386). وقصة الإشعار ثابتة عند أحمد (1/ 216) ومسلم (2/ 912/1243) وأبو داود 2/ 262/1752) والترمذي (3/ 249/906) والنسائي (5/ 191/2790) وابن ماجه (2/ 1034/3097) من طريق قتادة عن أبي حسان الأعرج عن ابن عباس به. (¬2) الفقيه والمتفقه (1/ 510) وإعلام الموقعين (1/ 256). (¬3) الفقيه والمتفقه (2/ 161 - 162). (¬4) الفقيه والمتفقه (2/ 162).

موقفه من الرافضة:

عليهم، وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم. (¬1) موقفه من الرافضة: قال البخاري: قال وكيع: الرافضة شر من القدرية، والحرورية شر منهما، والجهمية شر هذه الأصناف. (¬2) موقفه من الجهمية: - جاء في السنة: قيل لوكيع في ذبائح الجهمية قال: لا تؤكل هم مرتدون. (¬3) - وفيها عن السويدي قال: وسألت وكيعا عن الصلاة خلف الجهمية فقال: لا تصل خلفهم. (¬4) - وفيها عنه قال: أما الجهمي فإني أستتيبه فإن تاب وإلا قتلته. (¬5) - وفيها عنه أيضا قال: القرآن كلام الله أنزله جبريل على محمد. كل صاحب هوى يعرف الله ويعرف من يعبد إلا الجهمية لا يدرون من يعبدون، بشر المريسي وأصحابه. (¬6) - وجاء في الإبانة عنه قال: القدرية يقولون الأمر مستقبل إن الله لم يقدر المصائب والأعمال والمرجئة يقولون القول يجزئ من العمل والجهمية ¬

(¬1) ذم الكلام (ص.100). (¬2) خلق أفعال العباد (ص.22) (¬3) السنة لعبد الله (15). (¬4) السنة لعبد الله (14). (¬5) السنة لعبد الله (14). (¬6) السنة لعبد الله (15).

يقولون المعرفة تجزئ من القول والعمل. قال وكيع: وهو كله كفر. (¬1) - قال البخاري: وقال وكيع: احذروا هؤلاء المرجئة وهؤلاء الجهمية. والجهمية كفار والمريسي جهمي وعلمتم كيف كفروا؟ قالوا تكفيك المعرفة وهذا كفر، والمرجئة يقولون الإيمان قول بلا فعل وهذا بدعة، فمن قال القرآن مخلوق فهو كافر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه قال: وقال وكيع: على المريسي لعنة الله يهودي هو أو نصراني؟ فقال له رجل: كان أبوه أو جده يهوديا أو نصرانيا. قال وكيع: وعلى أصحابه لعنة الله، القرآن كلام الله، وضرب وكيع إحدى يديه على الأخرى فقال: هو ببغداد يقال له المريسي يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه. (¬2) مواقفه من القائلين بخلق القرآن: - جاء في خلق أفعال العباد عنه قال: لا تستخفوا بقولهم: القرآن مخلوق، فإنه من شر قولهم وإنما يذهبون إلى التعطيل. (¬3) - وجاء في السنة قال عبد الله: حدثني أبو بكر بن أبي شيبة قال: بلغني عن وكيع أنه قال: من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أنه محدث ومن زعم أنه محدث فقد كفر. (¬4) - وفيها بالسند إلى أبي خيثمة زهير بن حرب قال: اختصمت أنا ومثنى فقال مثنى: القرآن مخلوق وقلت أنا: كلام الله فقال وكيع وأنا أسمع: ¬

(¬1) الإبانة (2/ 7/903/ 1264) والسنة لعبد الله (45). (¬2) خلق أفعال العباد (15) والفتاوى الكبرى (5/ 80). (¬3) خلق أفعال العباد (19). (¬4) السنة لعبد الله (14) وأصول الاعتقاد (2/ 349 - 350/ 506) والسير (9/ 166) والفتاوى الكبرى (5/ 77).

هذا كفر من قال إن القرآن مخلوق هذا كفر. فقال مثنى: يا أبا سفيان قال الله {ما يأتيهم من ذكرٍ من ربهم محدثٍ} (¬1) فإيش هذا؟ فقال وكيع: من قال القرآن مخلوق هذا كفر. (¬2) - وفيها عنه قال: من قال إن كلامه ليس منه فقد كفر، ومن قال إن منه شيئا مخلوقا فقد كفر. (¬3) - وفيها عنه قال: القرآن من الله منه خرج وإليه يعود. (¬4) - وفيها عنه قال: القرآن كلام الله فمن قال غير هذا فقد خالف الكتاب والسنة. (¬5) - وفيها عنه أنه سئل عن القرآن فقال: القرآن كلام الله. فقيل له إن بشرا المريسي، فذكره وكيع حتى شتمه. (¬6) - جاء في السير: قال يحيى بن يحيى التميمي: سمعت وكيعا يقول: من شك أن القرآن كلام الله -يعني غير مخلوق- فهو كافر. (¬7) - وفي السنة للخلال عن أبي بكر بن خلاد الباهلي قال: سمعت وكيعا يقول: لما كان من أمر بشر المريسي وحضر الموت؛ فجعلنا نحدث وكيعا عن ¬

(¬1) الأنبياء الآية (2). (¬2) السنة لعبد الله (15). (¬3) السنة لعبد الله (15). (¬4) السنة لعبد الله (32) وأصول الاعتقاد (2/ 384/584). (¬5) السنة لعبد الله (32). (¬6) السنة لعبد الله (37). (¬7) السير (9/ 165) وأصول الاعتقاد (2/ 360/534).

بشر وكلامه في القرآن وينفي الرؤية؛ فغضب وكيع فسمعته يقول: أما إني إن سألت عنه أمرتهم أن يستتيبوه، فإن تاب، وإلا أمرتهم أن يضربوا عنقه ويصلبوه. (¬1) - وفي أصول الاعتقاد عن وكيع بن الجراح قال: من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن شيئا من الله مخلوق. فقلت يا أبا سفيان من أين قلت هذا؟ قال: لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} (¬2) ولا يكون من الله شيء مخلوق. (¬3) - وجاء في الإبانة: عن أحمد بن داود الحزامي قال: سمعت وكيعا عند جمرة العقبة يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، فمن زعم أنه مخلوق، فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) مواقفه من المؤولين للصفات: - جاء في السير عن أحمد بن إبراهيم الدورقي: سمعت وكيعا يقول: نسلم هذه الأحاديث كما جاءت، ولا نقول: كيف كذا؟ ولا لم كذا؟ يعني مثل حديث: "يحمل السماوات على إصبع" (¬5). (¬6) ¬

(¬1) السنة للخلال (5/ 110). (¬2) السجدة الآية (13). (¬3) أصول الاعتقاد (2/ 245/359) والفتاوى (12/ 517). (¬4) الإبانة (2/ 12/65/ 276). (¬5) أحمد (1/ 429) والبخاري (8/ 707/4811) ومسلم (4/ 2147/2786) والترمذي (5/ 345 - 346/ 3238) والنسائي في الكبرى (6/ 446/11450) من طرق عن عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (¬6) السير (9/ 165).

- وفيها: قال أبو حاتم الرازي: حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا وكيع بحديث في الكرسي قال: فاقشعر رجل عند وكيع، فغضب، وقال: أدركنا الأعمش، والثوري يحدثون بهذه الأحاديث، ولا ينكرونها. (¬1) - وفي السنة لعبد الله عنه قال: من رد حديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن جرير عن النبي في الرؤية (¬2) فاحسبوه من الجهمية. (¬3) - وفيها: قال أبو الحسن سمعت عبد الله يقول سمعت بعض المشائخ يقول: سألوا وكيعا عن حديث الرؤية فحدث بها ثم قال عموا الجهمية بهذه الأحاديث مرتين. (¬4) - روى اللالكائي في أصول الاعتقاد بسنده إلى وكيع: يراه المؤمنون في الجنة ولا يراه إلا المؤمنون. (¬5) - وفيه: عن هدية بن عبد الوهاب قال: سمعت وكيعا يقول: إذا سئلتم: هل يضحك ربنا؟ فقولوا: كذلك سمعنا. (¬6) - وفيه عنه قال: وصف داود الجواربي -يعني الرب عز وجل- فكفر في صفته فرد عليه المريسي فكفر المريسي في رده عليه إذ قال: هو في كل ¬

(¬1) السير 9/ 165). (¬2) أحمد (4/ 362) والبخاري (2/ 66/573) ومسلم (1/ 439/633 (211)) وأبو داود (5/ 97 - 98/ 4729) والترمذي (4/ 592 - 593/ 2551) والنسائي في الكبرى (4/ 419/7762) وابن ماجه (1/ 63/177). (¬3) السنة لعبد الله (45). (¬4) السنة لعبد الله (59 - 60). (¬5) أصول الاعتقاد (3/ 560/882). (¬6) أصول الاعتقاد (3/ 477/731).

موقفه من المرجئة:

شيء. (¬1) موقفه من المرجئة: - جاء في الإبانة عن عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: سمعت وكيعا يقول: الإيمان يزيد وينقص. (¬2) - عن الحميدي قال: سمعت وكيعا يقول: أهل السنة يقولون: الإيمان قول وعمل، والمرجئة تقول: الإيمان قول بلا عمل، والجهمية يقولون: الإيمان: المعرفة. (¬3) - قال محمد بن عمر الكلابي: وقال وكيع: المرجئة: الذين يقولون: الإقرار يجزئ عن العمل؛ ومن قال هذا فقد هلك؛ ومن قال: النية تجزئ عن العمل، فهو كفر، وهو قول جهم. (¬4) - وعن عثمان بن محمد بن أبي شيبة قال: سألت ابن إدريس وجريرا ووكيعا فقالوا: الإيمان يزيد وينقص. (¬5) - عن محمد بن مقاتل قال: سألت وكيعا قلت: إن عندنا قوما يقولون إن الإيمان لا يزداد، وقال: هؤلاء المرجئة الخبثاء، قال أهل الإيمان: لا يجدي قول إلا بعمل وبعقد وبإصابة السنة لو قد بقيتم لجاءكم شيء آخر. (¬6) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (3/ 587/935). (¬2) الإبانة (2/ 850 - 851/ 1144) والسنة للخلال (3/ 583/1017). (¬3) أصول الاعتقاد (5/ 1071 - 1072/ 1837) والشريعة (1/ 310/342) والإبانة (2/ 803 - 804/ 1091) والإيمان لمحمد بن يحيى العدني (29). (¬4) مجموع الفتاوى (7/ 307). (¬5) السنة لعبد الله (94). (¬6) ذم الكلام (125).

موقفه من القدرية:

- وجاء في السنة: قال عبد الله حدثني أبي قال: كان وكيع يقول: ترى إيمان الحجاج بن يوسف مثل إيمان أبي بكر وعمر؟ (¬1) موقفه من القدرية: - جاء في الإبانة: قال وكيع: القدرية يقولون: الأمر مستقبل وإن الله لم يقدر المصائب، وهذا هو الكفر، قال وكيع: لا يصلى خلف قدري. (¬2) - وفيها: عن أبي حفص عمرو بن علي قال: سمعت معاذ بن معاذ وذكر قصة عمرو بن عبيد إن كانت {تَبَّتْ يدا أبي لَهَبٍ} (¬3) في اللوح المحفوظ فما على أبي لهب من لوم. قال أبو حفص: فذكرته لوكيع بن الجراح فقال: من قال بهذا يستتاب، فإن تاب، وإلا ضربت عنقه. (¬4) معاذ بن معاذ (¬5) (196 هـ) ابن نصر بن حسان التميمي القاضي الإمام الحافظ أبو المثنى العنبري البصري. حدث عن سليمان التيمي وأشعث بن عبد الملك وعوف الأعرابي وغيرهم. وعنه: أحمد وإسحاق ويحيى وغيرهم. قال أحمد بن حنبل: معاذ بن ¬

(¬1) السنة لعبد الله (83) والسنة للخلال (3/ 588/1030). (¬2) الإبانة (2/ 10/261/ 1878). (¬3) المسد الآية (1). (¬4) الإبانة (2/ 11/305/ 1977)) والشريعة (1/ 436/551). (¬5) تاريخ ابن معين (2/ 572) والسير (9/ 54 - 57) وطبقات ابن سعد (7/ 293) والجرح والتعديل (8/ 248 - 249) ومشاهير علماء الأمصار (160) وتاريخ بغداد (13/ 131 - 134) وتهذيب الكمال (28/ 132 - 137) وتذكرة الحفاظ (1/ 324 - 325) وشذرات الذهب (1/ 345).

موقفه من المبتدعة:

معاذ إليه المنتهى في التثبت بالبصرة، وقال: هو قرة عين في الحديث. قال محمد بن عيسى بن الطباع: ما علمت أحدا قدم بغداد إلا وقد تعلق عليه في شيء من الحديث إلا معاذا العنبري، ما قدروا أن يتعلقوا عليه بحديث مع شغله بالقضاء. قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما بالبصرة ولا بالكوفة ولا بالحجاز مثل معاذ بن معاذ وما أبالي إذا تابعني معاذ من خالفني. مات سنة ست وتسعين ومائة. موقفه من المبتدعة: وفي الإبانة: عن محمد بن أبي صفوان الثقفي قال: سمعت معاذ بن معاذ يقول: قلت ليحيى بن سعيد: يا أبا سعيد الرجل وإن كتم رأيه لم يخف ذاك في ابنه ولا صديقه ولا في جليسه. (¬1) موقفه من الجهمية: - قال عبد الله في كتاب السنة: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان سمعت أبي يقول: سمعت معاذ بن معاذ يقول: من قال القرآن مخلوق فهو كافر. (¬2) - وفي أصول الاعتقاد: عن معاذ بن معاذ قال: من قال القرآن مخلوق فهو والله الذي لا إله إلا هو زنديق أو قال: زنديق. (¬3) - قال شيخ الإسلام: وهكذا رأيت الجاحظ قد شنع على حماد بن ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/479/ 509). (¬2) السنة لعبد الله (78) وأصول الاعتقاد (2/ 287/440) والإبانة (2/ 12/49/ 244). (¬3) أصول الاعتقاد (2/ 287/439) وتذكرة الحفاظ (1/ 325).

موقفه من القدرية:

سلمة، ومعاذ بن معاذ قاضي البصرة بما لم يشنع به على غيرهما لأن حمادا كان معتنيا بجمع أحاديث الصفات وإظهارها، ومعاذ لما تولى القضاء رد شهادة الجهمية والقدرية فلم يقبل شهادة المعتزلة، ورفعوا إلى الرشيد فلما اجتمع به حمده على ذلك وعظمه، فلأجل معاداتهم لمثل هؤلاء الذين هم أئمة السنة يشنعون عليهم بما إذا حقق لم يوجد مقتضيا لذم. (¬1) - جاء في الميزان عن نعيم بن حماد قال: سمعت معاذ بن معاذ يصيح في مسجد البصرة يقول ليحيى القطان: أما تتقي الله، تروي عن عمرو بن عبيد، قد سمعته يقول: لو كانت {تَبَّتْ يدا أبي لَهَبٍ} (¬2) في اللوح المحفوظ لم يكن لله على العباد حجة. (¬3) موقفه من القدرية: - جاء في السنة عن معاذ بن معاذ قال: صليت خلف رجل من بني سعد ثم بلغني أنه قدري، فأعدت الصلاة بعد أربعين سنة أو ثلاثين سنة. (¬4) - وجاء في الإبانة: قال معاذ بن معاذ: صليت أنا وعمر بن الهيثم الرقاشي خلف الربيع بن بَرَّة قال معاذ: فأخبرني عمر بن الهيثم أنه حضرته الصلاة مرة أخرى، فصلى خلفه؛ قال: فقعدت أدعو فقال: لعلك ممن يقول: اعصمني، قال معاذ: فأعدت تلك الصلاة بعد عشرين سنة. والربيع بن بَرَّة ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى (5/ 81). (¬2) المسد الآية (1). (¬3) الميزان (3/ 276). (¬4) السنة لعبد الله (120).

بقية بن الوليد (197 هـ)

هذا من كبار مشائيم القدرية بالبصرة، وكان من العباد المجتهدين في هذا الخذلان، عصمنا الله وإياكم منه ومن كل بدعة. (¬1) بقية بن الوليد (¬2) (197 هـ) بقيّة بن الوليد بن صائد أبو يُحمِد الكلاعي الحِمْيَرِي الحافظ العالم، محدث حمص. ولد سنة عشر ومائة. وروى عن: محمد بن زياد الألهاني، وصفوان بن عمرو السكسكي، وبحير بن سعد. وروى عنه: شعبة، وحماد بن زيد، والأوزاعي. وكان من أوعية العلم. توفي سنة سبع وتسعين ومائة. موقفه من المبتدعة: عن بقية قال: قال لي الأوزاعي: يا أبا محمد: ما تقول في قوم يبغضون حديث نبيهم؟ قلت: قوم سوء. قال: ليس من صاحب بدعة تحدثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخلاف بدعته بحديث إلا أبغض الحديث. (¬3) موقفه من الجهمية: قال علي بن مضا: وسألت بقية بن الوليد عن القرآن، فقال: هو كلام الله غير مخلوق. (¬4) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 11/287/ 1931) والشريعة (1/ 460/600). (¬2) السير (8/ 518) وتهذيب الكمال (4/ 192) وتهذيب التهذيب (1/ 473) وتاريخ بغداد (7/ 123) وميزان الاعتدال (1/ 331 - 339) والوافي بالوفيات (10/ 184). (¬3) شرف أصحاب الحديث (ص.73) وأصول الاعتقاد (3/ 477/732). (¬4) الإبانة (2/ 12/13/ 194).

ابن وهب (197 هـ)

ابن وهب (¬1) (197 هـ) عبد الله بن وهب بن مسلم، الإمام شيخ الإسلام أبو محمد الفهري، ولد سنة خمس وعشرين ومائة، طلب العلم وله سبع عشرة سنة. روى عن ابن جريج ويونس بن يزيد وحيوة بن شريح وغيرهم. روى عنه الليث بن سعد شيخه وعبد الرحمن بن مهدي وأصبغ وسحنون وغيرهم. لقي بعض صغار التابعين، وكان من أوعية العلم، ومن كنوز العمل، ما دون العلم أحد تدوينه، قرأ على نافع. قال أحمد بن صالح الحافظ: حدث ابن وهب بمائة ألف حديث، ما رأيت أحدا أكثر حديثا منه، وقع عندنا سبعون ألف حديث عنه. قال الذهبي: كيف لا يكون من بحور العلم وقد ضم إلى علمه علم مالك والليث ويحيى بن أيوب وعمرو بن الحارث وغيرهم. كان يكتب إليه مالك: إلى عبد الله بن وهب مفتي أهل مصر. قال أبو طاهر بن عمرو: جاءنا نعي ابن وهب ونحن في مجلس سفيان بن عيينة فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، أصيب به المسلمون عامة، وأصبت به خاصة. مات في شعبان سنة سبع وتسعين ومائة. موقفه من القدرية: له رسالة في (القدر وما ورد في ذلك من الآثار) بحث فيها الموضوع بحثا وافيا، بين فيه منهج أهل السنة في القضاء والقدر. ¬

(¬1) السير (9/ 223 - 234) وطبقات ابن سعد (7/ 518) والعبر (1/ 162) وتهذيب الكمال (16/ 277 - 287) والنجوم الزاهرة (2/ 55) وشذرات الذهب (1/ 347 - 348).

يحي بن سعيد القطان (198 هـ)

يحي بن سعيد القَطَّان (¬1) (198 هـ) ابن فَرُّوخ الإمام الكبير، أمير المؤمنين في الحديث أبو سعيد التَّمِيمِي مولاهم البصري الأحول الحافظ. سمع سليمان التيمي وهشام بن عروة وعطاء بن السائب وغيرهم، وعني بهذا الشأن أتم عناية، ورحل فيه، وساد الأقران، وانتهى إليه الحفظ، وتكلم في العلل والرجال، وتخرج به الحفاظ، كمسدد وعلي، والفلاس. وروى عنه سفيان، وشعبة، ومعتمر بن سليمان، -وهم من شيوخه- وعبد الرحمن بن مهدي وعفان، ومسدد وغيرهم. وثبت أن أحمد بن حنبل قال: ما رأيت بعيني مثل يحيى بن سعيد القطان. وقال يحيى ابن معين: قال لي عبد الرحمن، لا ترى بعينيك مثل يحيى القطان. قال عبد الرحمن بن مهدي: اختلفوا يوما عند شعبة، فقالوا له اجعل بيننا وبينك حكما، قال: قد رضيت بالأحول -يعني القطان- فجاء فقضى على شعبة، فقال شعبة: ومن يطيق نقدك يا أحول. قال أحمد بن حنبل: ما رأيت أحدا أقل خطأ من يحيى بن سعيد ولقد أخطأ في أحاديث ثم قال ومن يعرى من الخطأ والتصحيف؟ توفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وتسعين ومائة قبل موت ابن مهدي وابن عيينة بأربعة أشهر، رحمهم الله تعالى. موقفه من الجهمية: - جاء في السير: قال أبو قدامة السرخسي: سمعت يحيى بن سعيد ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (7/ 293) ومشاهير علماء الأمصار (161 - 162) والسير (9/ 175 - 188) وتاريخ خليفة (468) والجرح والتعديل (9/ 150 - 151) وتاريخ بغداد (14/ 135 - 144) وتاريخ ابن معين (2/ 245 - 248) وتذكرة الحفاظ (1/ 298 - 300) والحلية (8/ 380 - 391) وشذرات الذهب (1/ 355).

موقفه من المرجئة:

يقول: كل من أدركت من الأئمة كانوا يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ويكفرون الجهمية، ويقدمون أبا بكر وعمر في الفضيلة والخلافة. (¬1) - وفيها: قال شاذ بن يحيى: قال يحيى القطان: من قال: إن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد} (¬2) مخلوق، فهو زنديق، والله الذي لا إله إلا هو. (¬3) - وفي السنة لعبد الله: عن هشام بن عبد الملك قال: قال لي يحيى بن سعيد: كيف يصنعون ب: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد} كيف يصنعون بهذه الآية: {إني أَنَا اللَّهُ} (¬4) يكون مخلوقا. (¬5) - وجاء في الإبانة عن محمد بن يحيى بن القطان قال: كان أبي وعبد الرحمن بن مهدي يقولان: الجهمية تدور أن ليس في السماء شيء. (¬6) موقفه من المرجئة: - جاء في السنة: حدثني أبي سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما أدركنا من أصحابنا ولا بلغني إلا على الاستثناء والإيمان قول وعمل. قال يحيى وكان سفيان الثوري ينكر أن يقول أنا مؤمن، وحسن يحيى الزيادة والنقصان ¬

(¬1) السير (9/ 179) وتذكرة الحفاظ (1/ 299). (¬2) الإخلاص الآية (1). (¬3) السير (9/ 182) وتذكرة الحفاظ (1/ 299). (¬4) القصص الآية (30). (¬5) السنة لعبد الله (32) والفتاوى الكبرى (5/ 53). (¬6) الإبانة (2/ 12/56/ 255).

موقفه من القدرية:

ورآه. (¬1) - وعن الإمام أحمد قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما أدركت أحدا من أصحابنا لا ابن عون ولا غيره إلا وهم يستثنون في الإيمان. (¬2) موقفه من القدرية: - جاء في الإبانة: عن عبد الله بن عمر (¬3) قال: كنا نجالس يحيى بن سعيد فينشر علينا مثل اللؤلؤ، فإذا اطلع ربيعة؛ قطع يحيى الحديث إعظاما لربيعة، فبينا نحن يوما عنده وهو يحدثنا {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (¬4)؛ قال له جميل بن بنانة العراقي وهو جالس معنا: يا أبا محمد! أرأيت السحر من تلك الخزائن. فقال يحيى: سبحان الله! ما هذا من مسائل المسلمين، فقال عبد الله بن أبي حبيبة: إن أبا محمد ليس بصاحب خصومة، ولكن علي فأقبل (¬5)، أما أنا؛ فأقول: إن السحر لا يضر إلا بإذن الله؛ أفتقول أنت غير ذلك؟ فسكت، فكأنما سقط عن جبل. (¬6) " التعليق: رضي الله عنك يا يحيى فما هذا من مسائل المسلمين، ورضي الله عنك ¬

(¬1) السنة لعبد الله (82) وأصول الاعتقاد (5/ 1053/1794) والسنة للخلال (3/ 595/1052) مختصرا. (¬2) السنة للخلال (3/ 595/1053). (¬3) هكذا في الأصل والصواب عبيد الله بن عمر. (¬4) الحجر الآية (21). (¬5) في الشريعة: ولكن على ما قيل. (¬6) الإبانة (2/ 11/320/ 2006) والشريعة (1/ 455/586).

سفيان بن عيينة (198 هـ)

يا عبد الله بن أبي حبيبة بعلم نطقت قال الله عز وجل: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (¬1). - وجاء في مجموع الفتاوى: قال يحيى بن سعيد القطان: ما زلت أسمع أصحابنا يقولون: أفعال العباد مخلوقة. (¬2) سفيان بن عيينة (¬3) (198 هـ) ابن أبي عمران ميمون مولى محمد بن مزاحم، أخي الضحاك بن مزاحم، الإمام الكبير حافظ العصر، شيخ الإسلام أبو محمد الهلالي الكوفي ثم المكي. طلب الحديث وهو حدث، بل غلام، ولقي الكبار، وحمل عنهم علما جما، وأتقن، وجود، وجمع وصنف، وعمر دهرا وازدحم الخلق عليه، وانتهى إليه علو الإسناد، ورحل إليه من البلاد، وألحق الأحفاد بالأجداد. سمع من عمرو بن دينار، وأكثر عنه، ومن زياد بن علاقة، والأسود بن قيس وغيرهم. كان طلبة العلم يحجون وما همهم إلا لقي سفيان، فيزدحمون عليه في الموسم ازدحاما عظيما إلى الغاية لإمامته وعلو إسناده وحفظه. ¬

(¬1) البقرة الآية (102). (¬2) مجموع الفتاوى (7/ 658). (¬3) طبقات ابن سعد (5/ 497 - 498) والجرح والتعديل (1/ 32 - 54) وتاريخ بغداد (9/ 174 - 184) وتهذيب الكمال (11/ 177 - 196) والسير (8/ 454 - 474) وتذكرة الحفاظ (1/ 262 - 265) ووفيات الأعيان (2/ 391 - 393) والفهرست لابن النديم (312) وميزان الاعتدال (2/ 170 - 171) والحلية (7/ 270 - 218) والعقد الثمين (4/ 591 - 592).

موقفه من المبتدعة:

وحدث عنه: الأعمش، وابن جريج وشعبة وهؤلاء من شيوخه، وهمام ابن يحيى والحسن بن حي وغيرهم. قال الإمام الشافعي: لولا مالك وسفيان ابن عيينة لذهب علم الحجاز. قال إبراهيم بن الأشعث: سمعت ابن عيينة يقول: من عمل بما يعلم، كفي ما لم يعلم. قال محمود بن والان: سمعت عبد الرحمن بن بشر، سمعت ابن عيينة يقول: غضب الله الداء الذي لا دواء له، ومن استغنى بالله أحوج الله إليه الناس. توفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وتسعين ومائة. موقفه من المبتدعة: - قال عنه الذهبي: صاحب سنة واتباع. (¬1) - جاء في ذم الكلام عنه قال: من شهد جنازة مبتدع لم يزل في سخط الله حتى يرجع. (¬2) " التعليق: رحم الله سلفنا، ما أكثر فقههم وأغزر علمهم وما أعظم غيرتهم على عقيدتهم. يقاطعون المبتدعة في الحياة والممات. وأما نحن الآن فلو قال أحدنا مثل هذا أو فعله لقامت الدنيا عليه وقعدت، ووصف بكل وصف مشين وعد من المغلقين غير المتفتحين عند المثقفين، اللهم وفق شبابنا لقراءة مثل هذه المواقف المشرفة التي سحقت كل التحديات بعلمها وعملها. ¬

(¬1) السير (8/ 466) (¬2) ذم الكلام (ص.222).

- قال أبو بكر بن أبي شيبة: كنا عند ابن عيينة، فسأله منصور بن عمار عن القرآن فزبره، وأشار إليه بعكازه، فقيل: يا أبا محمد، إنه عابد، فقال: ما أراه إلا شيطانا. (¬1) - قال ابن عبد البر: قرأت على أبي عثمان سعيد بن نصر: أن قاسم بن أصبغ حدثهم قال: حدثنا ابن وضاح قال: سمعت ابن أبي إسرائيل يقول: سمعت سفيان بن عيينة يقول: عند ذكر الصالحين تتنزل الرحمة، قال: وسمعت ابن أبي إسرائيل يقول: سمعت سفيان يقول: اسلكوا سبيل الحق، ولا تستوحشوا من قلة أهله. (¬2) - جاء في أصول الاعتقاد: عن بكر بن الفرج أبي العلا قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: السنة عشرة فمن كن فيه فقد استكمل السنة، ومن ترك منها شيئا فقد ترك السنة: إثبات القدر، وتقديم أبي بكر وعمر، والحوض، والشفاعة، والميزان، والصراط، والإيمان: قول وعمل، والقرآن: كلام الله، وعذاب القبر، والبعث يوم القيامة، ولا تقطعوا بالشهادة على مسلم. (¬3) - عن إسحاق ابن أبي إسرائيل قال: سمعت سفيان بن عيينة، وذكر عنده حماد بن زيد فجعل يعظم من أمره ثم قال: يرحمه الله، إن كان لمتبعا لسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، قال سفيان: ملاك الأمر الاتباع. (¬4) ¬

(¬1) السير (9/ 94). (¬2) فتح البر (1/ 203). (¬3) أصول الاعتقاد (1/ 175/316). (¬4) الفقيه والمتفقه (1/ 387).

- وعنه قال: سمعت سفيان يقول: إذا كان يأتم بمن قبله فهو إمام لمن بعده. (¬1) - عن علي بن خشرم قال: كنا في مجلس سفيان بن عيينة فقال: يا أصحاب الحديث، تعلموا فقه الحديث، لا يقهركم أهل الرأي، ما قال أبو حنيفة شيئا إلا ونحن نروي فيه حديثا أو حديثين. قال: فتركوه، وقالوا: عمرو بن دينار عن من؟ (¬2) - وجاء في ذم الكلام: عن علي بن حرب قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول في قوله {والشهداء وَالصَّالِحِينَ} (¬3). قال الصالحون هم أصحاب الحديث. (¬4) - قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: كان السلف، سفيان بن عيينة وغيره، يقولون: إن من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود. ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى. (¬5) - جاء في مجموع الفتاوى: قيل لسفيان بن عيينة: ما بال أهل الأهواء لهم محبة شديدة بأهوائهم؟. فقال أنسيت قوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا في قُلُوبِهِمُ ¬

(¬1) الفقيه والمتفقه (1/ 436). (¬2) الفقيه والمتفقه (1/ 549 - 550). (¬3) النساء الآية (69). (¬4) ذم الكلام (ص.221) وأورده الذهبي في السير (8/ 469). (¬5) الاقتضاء (1/ 67).

العجل بِكُفْرِهِمْ} (¬1) أو نحو هذا من الكلام؟ قال شيخ الإسلام عقبه: فعباد الأصنام يحبون آلهتهم، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} (¬2) وقال: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} (¬3) وقال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (¬4) ولهذا يميل هؤلاء إلى سماع الشعر والأصوات التي تهيج المحبة المطلقة، التي لا تختص بأهل الإيمان، بل يشترك فيها محب الرحمن، ومحب الأوثان، ومحب الصلبان، ومحب الأوطان، ومحب الإخوان، ومحب المردان، ومحب النسوان، وهؤلاء الذين يتبعون أذواقهم ومواجيدهم من غير اعتبار لذلك بالكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة. (¬5) - وعن سفيان قال: لا تجد مبتدعا إلا وجدته ذليلا، ألم تسمع إلى قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ ¬

(¬1) البقرة الآية (93). (¬2) البقرة الآية (165). (¬3) القصص الآية (50). (¬4) النجم الآية (23). (¬5) الفتاوى (10/ 170).

موقفه من الرافضة:

فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (¬1). (¬2) موقفه من الرافضة: - عن عبد الصمد قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول لرجل: من أين جئت؟ قال: من جنازة فلان. قال سفيان: لا أحدثك بحديث سنة، فاستغفر الله ولا تعد. نظرت إلى رجل يشتم أصحاب محمد فاتبعت جنازته؟ (¬3) - وقال سفيان بن عيينة وغيره: إن الله عاتب الخلق جميعهم في نبيه إلا أبا بكر. وقال: من أنكر صحبة أبي بكر فهو كافر، لأنه كذب القرآن. (¬4) يعني قوله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}. (¬5) - قال الإمام أحمد: سمعت سفيان يقول: كم من كربة قد فرجها السيف عن وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسيف الزبير، بشر قاتله بالنار. (¬6) موقفه من الجهمية: - جاء في السير: قال أبو العباس السراج في تاريخه: حدثنا عباس بن ¬

(¬1) الأعراف الآية (152). (¬2) شعب الإيمان (9522). (¬3) أصول الاعتقاد (8/ 1546/2816). (¬4) المنهاج (8/ 381). (¬5) التوبة الآية (40). (¬6) السنة للخلال (1/ 468).

أبي طالب حدثنا أبو بكر عبد الرحمن بن عفان سمعت ابن عيينة في السنة التي أخذوا فيها بشرا المريسي بمنى فقام سفيان في المجلس مغضبا فقال: لقد تكلموا في القدر والاعتزال، وأمرنا باجتناب القوم، رأينا علماءنا، هذا عمرو بن دينار وهذا محمد بن المنكدر حتى ذكر أيوب بن موسى والأعمش ومسعرا ما يعرفونه إلا كلام الله ولا نعرفه إلا كلام الله، فمن قال غير هذا فعليه لعنة الله مرتين فما أشبه هذا بكلام النصارى فلا تجالسوهم. (¬1) - وفيها: قال الطبراني: حدثنا بشر بن موسى حدثنا الحميدي: قيل لسفيان بن عيينة: إن بشرا المريسي يقول: إن الله لا يرى يوم القيامة. فقال: قاتل الله الدويبة، ألم تسمع إلى قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ ربهم يومئذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (¬2) فإذا احتجب عن الأولياء والأعداء فأي فضل للأولياء على الأعداء؟ (¬3) - وفيها قال محمد بن إسحاق الصاغاني حدثنا لوين قال: قيل لابن عيينة: هذه الأحاديث التي تروى في الرؤية؟ قال: حق على ما سمعناها ممن نثق به ونرضاه. (¬4) - وقال أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثني أحمد بن نصر قال: سألت ابن عيينة وجعلت ألح عليه، فقال: دعني أتنفس، فقلت: كيف حديث ¬

(¬1) السير (8/ 468) والفتاوى الكبرى (5/ 53). (¬2) المطففين الآية (15). (¬3) السير (8/ 468). (¬4) السير (8/ 466) وأصول الاعتقاد (3/ 558/877) والشريعة (2/ 9/617).

موقفه من القائلين بخلق القرآن:

عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يحمل السماوات على إصبع" (¬1) وحديث "إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن" (¬2) وحديث "إن الله يعجب أو يضحك ممن يذكره في الأسواق" (¬3) فقال سفيان: هي كما جاءت نقر بها ونحدث بها بلا كيف. (¬4) - قال البغوي: وقال الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعي، وسفيان بن عيينة، ومالك بن أنس عن هذه الأحاديث في الصفات والرؤية، فقال: أمروها كما جاءت بلا كيف. (¬5) - وعن موسى بن إسحاق الأنصاري قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: كل شيء وصف الله به نفسه في القرآن فقراءته تفسيره لا كيف ولا مثل. (¬6) - قال أبو محمد عوام: أنا كنت صاحب بشر المريسي عند ابن عيينة. قال: وجئنا لنقتله فهرب. (¬7) موقفه من القائلين بخلق القرآن: - جاء في السير: قال الحافظ ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن الفضل بن ¬

(¬1) انظر تخريجه في مواقف وكيع بن الجراح سنة (196هـ). (¬2) أخرجه: أحمد (2/ 168) ومسلم (4/ 2045/2654) والنسائي في الكبرى (4/ 414/7739) من طريق أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. (¬3) لم نقف عليه بهذا اللفظ، وأما إثبات الضحك والعجب لله عز وجل فقد صح في غير حديث كما سيأتي معنا بإذن الله. (¬4) السير (8/ 466 - 467). (¬5) مقدمة شرح السنة للبغوي (1/ 171). (¬6) أصول الاعتقاد (3/ 478/736) والفتح (13/ 407). (¬7) الإبانة (2/ 13/104/ 350).

موسى حدثنا محمد بن منصور الجواز قال: رأيت سفيان بن عيينة سأله رجل: ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله منه خرج وإليه يعود. (¬1) - وفي الإبانة عنه قال: القرآن كلام الله غير مخلوق؛ فمن قال هو مخلوق، فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) - وجاء في أصول الاعتقاد: عن سعيد بن نصير قال: سمعت ابن عيينة يقول: ما يقول هذا الدويبة -يعني بشرا المريسي-؟ قالوا: يا أبا محمد، يزعم أن القرآن مخلوق. قال: فقد كذب. قال الله عز وجل: {ألا له الخلق وَالْأَمْرُ} (¬3) فالخلق خلق الله والأمر القرآن. (¬4) - وفيه عنه قال: أدركت مشايخنا منذ سبعين سنة منهم عمرو بن دينار يقول: القرآن كلام الله ليس بمخلوق. (¬5) - وفيه عن إسحاق بن إسماعيل قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: لا نحسن غير هذا: القرآن كلام الله {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (¬6) {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} (¬7). (¬8) ¬

(¬1) السير (8/ 466). (¬2) الإبانة (2/ 12/59/ 262). (¬3) الأعراف الآية (54). (¬4) أصول الاعتقاد (2/ 244/358) والشريعة (1/ 222/184) والفتح (13/ 532 - 533). (¬5) أصول الاعتقاد (2/ 262 - 263/ 386). (¬6) التوبة الآية (6). (¬7) الفتح الآية (15). (¬8) أصول الاعتقاد (2/ 383 - 384/ 581).

موقفه من المرجئة:

وفيه عنه قال: من لم يقل إن القرآن كلام الله وإن الله يرى في الجنة فهو جهمي. (¬1) موقفه من المرجئة: - عن إسحاق بن بهلول قال: سألت ابن عيينة عن الإيمان، فقال: قول وعمل يزيد وينقص، أما تقرأ {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} (¬2). (¬3) - عن سويد بن سعيد الهروي قال: سألنا سفيان ابن عيينة عن الإرجاء فقال: يقولون: الإيمان قول، ونحن نقول: الإيمان قول وعمل. (¬4) - وعن أبي عبد الله المصيصي قال: كنا عند سفيان بن عيينة فسأله رجل عن الإيمان فقال: قول وعمل قال: يزيد وينقص؟ قال: يزيد ما شاء الله وينقص حتى لا يبقى منه يعني مثل هذه، وأشار سفيان بيده. قال الرجل: كيف نصنع بقوم عندنا يزعمون أن الإيمان قول بلا عمل؟ فقال سفيان: كان القول قولهم قبل أن تنزل أحكام الإيمان وحدوده، إن الله عز وجل بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس كافة، أن يقولوا لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا قالوها حقنوا بها دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله، فلما علم صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالصلاة، فأمرهم ففعلوا، والله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول، فلما علم الله صدق ذلك من قلوبهم أمره أن ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (3/ 558/876). (¬2) الفتح الآية (4). (¬3) السنة للخلال (3/ 591/1042). (¬4) السنة لعبد الله (98).

يأمرهم بالهجرة إلى المدينة فأمرهم ففعلوا، والله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم، فلما علم الله صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالرجوع إلى مكة فيقتلوا آباءهم وأبناءهم حتى يقولوا كقولهم، ويصلوا بصلاتهم، ويهاجروا هجرتهم، فأمرهم ففعلوا، حتى أتى أحدهم برأس أبيه. فقال: يا رسول الله هذا رأس الشيخ الكافر، والله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم ولا مهاجرهم، فلما علم الله تعالى صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالطواف بالبيت تعبدا وأن يحلقوا رؤوسهم تذللا ففعلوا، والله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم ولا مهاجرهم، ولا قتلهم آباءهم، فلما علم الله صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأخذ من أموالهم صدقة تطهرهم، فأمرهم ففعلوا، حتى آتوا قليلها وكثيرها، والله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم ولا مهاجرهم ولا قتلهم آبائهم ولا طوافهم، فلما علم الله تعالى الصدق من قلوبهم فيما تتابع عليهم من شرائع الإيمان وحدوده قال الله تعالى لهم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬1)، فمن ترك خلة من خلال الإيمان جحودا بها كان عندنا كافرا، ومن تركها كسلا ومجونا، أدبناه وكان ناقصا. هكذا السنة أبلغها عني من سألك من الناس. (¬2) - وعن أبي نصر فتح بن المغيرة قال: قيل لسفيان بن عيينة: الإيمان يزيد ¬

(¬1) المائدة الآية (3). (¬2) الإبانة (2/ 5/630 - 631/ 817) والشريعة (1/ 248 - 249/ 221).

وينقص؟ قال: أليس تقرؤون {فزادهم إيمانًا} (¬1) {وزدناهم هدًى} (¬2) في غير موضع؟ قيل فينقص؟ قال: ليس شيء يزيد إلا وهو ينقص. (¬3) - وعن الحميدي قال: سمعت ابن عيينة يقول: الإيمان يزيد وينقص. فقال له أخوه إبراهيم بن عيينة: يا أبا محمد لا تقولن: يزيد وينقص فغضب، وقال: اسكت يا صبي بل ينقص حتى لا يبقى منه شيء. (¬4) - وعن محمد بن سليمان لوين، سمعت ابن عيينة غير مرة يقول: الإيمان قول وعمل. قال ابن عيينة: وأخذناه ممن قبلنا، وأنه لا يكون قول إلا بعمل، قيل لابن عيينة: يزيد وينقص، قال: فأي شيء إذا. (¬5) - وعن أبي عبد الله قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: إذا سئل أمؤمن أنت؟ إن شاء لم يجبه، وقال: سؤالك إياي بدعة ولا أشك في إيماني ولا يعنف من قال: إن الإيمان ينقص أو إن قال: إن شاء الله ليس يكره وليس بداخل في الشك. (¬6) - وعن عبد الرزاق قال: سمعت سفيان الثوري وابن جريج ومالك بن أنس ومعمر بن راشد وسفيان بن عيينة يقولون: إن الإيمان قول وعمل يزيد ¬

(¬1) آل عمران الآية (173). (¬2) الكهف الآية (13). (¬3) الإبانة (2/ 850/1142) والشريعة (1/ 271/264). (¬4) الإبانة (2/ 854 - 855/ 1155) وأصول الاعتقاد (5/ 1032/1745) والشريعة (1/ 272/268) والإيمان لمحمد بن يحيى العدني (28). (¬5) الإبانة (2/ 7/855/ 1157) والشريعة (1/ 271/263) والسنة لعبد الله (99). (¬6) أصول الاعتقاد (5/ 1054/1796) والإبانة (2/ 881/1213) وبنحوه في الشريعة (1/ 303/318) والسنة لعبد الله (83).

موقفه من القدرية:

وينقص. (¬1) - وعن سويد بن سعيد الهروي قال: سألنا سفيان بن عيينة عن الإرجاء فقال: يقولون الإيمان قول، ونحن نقول: الإيمان قول وعمل. والمرجئون أوجبوا الجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله مصرا بقلبه على ترك الفرائض، وسموا ترك الفرائض ذنبا بمنزلة ركوب المحارم، وليس سواه لأن ركوب المحارم من غير استحلال معصية، وترك الفرائض متعمدا من غير جهل ولا عذر هو كفر. وبيان ذلك في أمر آدم وإبليس وعلماء اليهود. أما آدم فنهاه عن أكل الشجرة وحرمها عليه، فأكل منها متعمدا ليكون ملكا أو يكون من الخالدين، فسمي عاصيا من غير كفر، وأما إبليس فإنه فرض عليه سجدة واحدة فجحدها متعمدا فسمي كافرا. وأما علماء اليهود فعرفوا نعت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه نبي رسول كما يعرفون أبناءهم، وأقروا به باللسان، ولم يتبعوا شرائعه، فسماهم الله كفارا. فركوب المحارم مثل ذنب آدم وغيره من الأنبياء. أما ترك الفرائض جحودا فهو كفر مثل كفر إبليس. وتركهم على معرفة من غير جحود فهو مثل كفر علماء اليهود والله أعلم. (¬2) موقفه من القدرية: - وجاء في ذم الكلام عن أبي جعفر الحذاء قال: قلت لسفيان بن عيينة: إن هذا يتكلم في القدر -أعني إبراهيم بن أبي يحيى- فقال: عرفوا ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (5/ 1028 - 1029/ 1735) والسنة لعبد الله (97) والشريعة (1/ 272/267) والإبانة (2/ 813/1114). (¬2) السنة لعبد الله (100).

عبد الرحمن بن مهدي (198 هـ)

الناس بدعته وسلوا ربكم العافية. (¬1) - وفي أصول الاعتقاد عنه قال: لا تصلوا خلف الرافضي ولا خلف الجهمي ولا خلف القدري ولا خلف المرجئ. (¬2) - وجاء في الكفاية عن سويد بن سعيد قال: قيل لسفيان بن عيينة: لم أقللت الرواية عن سعيد بن أبي عروبة؟ قال: وكيف لا أقل الرواية عنه وسمعته يقول: هو رأيي ورأي الحسن ورأي قتادة، يعني القدر. (¬3) - وجاء عنه في الميزان قال: رأيت ابن إسحاق في مسجد الخيف فاستحييت أن يراني معه أحد. اتهموه بالقدر. (¬4) عبد الرحمن بن مَهْدِي (¬5) (198 هـ) ابن حسَّان بن عبد الرحمن، الإمام الناقد المجود، سيد الحفاظ أبو سعيد العنبري، وقيل: الأزدي، مولاهم البصري اللّؤلؤي. طلب هذا الشأن، وهو ابن بضع عشرة سنة. سمع أيمن بن نابل، وعمر بن أبي زائدة ومعاوية بن صالح وأمما سواهم. وحدث عنه: ابن المبارك وابن وهب -وهما من شيوخه- وعلي ويحيى وأحمد وإسحاق وابن أبي شيبة وخلق يتعذر حصرهم. وكان ¬

(¬1) ذم الكلام (177) والتلبيس (22). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 811/1364). (¬3) الكفاية (123 - 124). (¬4) الميزان (3/ 469). (¬5) تاريخ ابن معين (2/ 359 - 360) وطبقات ابن سعد (7/ 297) وتاريخ خليفة (468) والحلية (9/ 3 - 63) وتاريخ بغداد (10/ 240 - 248) وتهذيب الكمال (17/ 430 - 443) وتذكرة الحفاظ (1/ 329 - 332) والسير (9/ 192 - 209) وشذرات الذهب (1/ 355) وتاريخ الإسلام (حوادث 191 - 200/ص.279 - 288).

موقفه من المبتدعة:

إماما حجة، قدوة في العلم والعمل. قال الخليلي: قال الشافعي: لا أعرف له نظيرا في هذا الشأن. قال أيوب بن المتوكل: كنا إذا أردنا أن ننظر إلى الدين والدنيا ذهبنا إلى دار عبد الرحمن بن مهدي. قال محمد بن أبي بكر المقدمي: ما رأيت أحدا أتقن لما سمع ولما لم يسمع ولحديث الناس من عبد الرحمن بن مهدي، إمام ثبت أثبت من يحيى بن سعيد، وأتقن من وكيع، كان عرض حديثه على سفيان. قال علي بن المديني: كان علم عبد الرحمن في الحديث كالسحر، وقال علي بن المديني: لو أخذت فحلفت بين الركن والمقام، لحلفت بالله أني لم أر أحدا قط أعلم بالحديث من عبد الرحمن بن مهدي. وقال عبيد الله بن سعيد: سمعت ابن مهدي يقول: لا يجوز أن يكون الرجل إماما حتى يعلم ما يصح مما لا يصح. وكان يقول: كان يقال: إذا لقي الرجل الرجل فوقه في العلم فهو يوم غنيمة، وإذا لقي من هو مثله دارسه، وتعلم منه، وإذا لقي من هو دونه تواضع له وعلمه، ولا يكون إماما في العلم مَن حدث عن كل أحد، ولا من يحدث بالشاذ، والحفظ للإتقان. توفي ابن مهدي بالبصرة في جمادى الآخرة سنة ثمان وتسعين ومائة. موقفه من المبتدعة: - جاء في الإبانة عن مقاتل بن محمد قال: قال لي عبد الرحمن بن مهدي يا أبا الحسن لا تجالس هؤلاء أصحاب البدع إن هؤلاء يفتون فيما تعجز عنه الملائكة. (¬1) - وجاء في السير قال ابن المديني: قلت ليحيى بن سعيد: إن عبد الرحمن ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/463/ 456).

يقول: اترك من كان رأسا في بدعة يدعو إليها قال: فكيف يصنع بقتادة وابن أبي رواد وعمر بن ذر وذكر قوما ثم قال يحيى: إن ترك هذا الضرب ترك ناسا كثيرا. (¬1) - وروى الخطيب بسنده إلى محمد بن أبان قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: من رأى رأيا ولم يدع إليه احتمل، ومن رأى رأيا ودعا إليه فقد استحق الترك. (¬2) تنبيه: قد ذكر الخطيب في الكفاية فصلا مفصلا في الأخذ عن أهل الأهواء والبدع (¬3)، وهو عمدة من أتى بعده فليرجع إليه. - جاء في الإبانة عن أحمد بن سنان قال: جاء أبو بكر الأصم إلى عبد الرحمن بن مهدي فقال: جئت أناظرك في الدين، فقال: إن شككت في شيء من أمر دينك فقف حتى أخرج إلى الصلاة وإلا فاذهب إلى عملك. فمضى ولم يثبت. (¬4) - وجاء عنه قال: أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم. (¬5) - وجاء في السير عن عبد الرحمن أنه كان يكره الجلوس إلى ذي هوى ¬

(¬1) السير (5/ 278) و (9/ 199). (¬2) الكفاية (ص.126 - 127). (¬3) باب ما جاء في الأخذ عن أهل البدع والأهواء والاحتجاج برواياتهم (ص.120). (¬4) الإبانة (2/ 3/538/ 672). (¬5) اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 72) والمنهاج (7/ 37).

موقفه من الرافضة:

أو ذي رأي. (¬1) - وجاء في أصول الاعتقاد عن حماد بن زاذان قال: سمعت عبد الرحمن ابن مهدي يقول: إذا رأيت بصريا يحب حماد بن زيد فهو صاحب سنة. (¬2) - وفيه عن علي بن المديني قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: ابن عون في البصريين إذا رأيت الرجل يحبه فاطمئن إليه، وفي الكوفيين: مالك بن مغول، وزايدة بن قدامة إذا رأيت كوفيا يحبه فارج خيره، ومن أهل الشام: الأوزاعي وأبو إسحاق الفزاري، ومن أهل الحجاز مالك بن أنس. (¬3) - عن بندار قال: ذكر الآراء عبد الرحمن بن مهدي بالبصرة فأنشأ يقول: دين النبي محمد آثار ... نعم المطية للفتى الأخبار لا تخدعن عن الحديث وأهله ... فالرأي ليل والحديث نهار فلربما غلط الفتى سبل الهدى ... والشمس بازغة لها أنوار (¬4) موقفه من الرافضة: جاء في الشريعة: عن عبد الرحمن بن مهدي قال: لو لم يكن في عثمان رضي الله عنه إلا هاتان الخصلتان كفتاه: جمعه المصحف، وبذله دمه دون دماء المسلمين. (¬5) ¬

(¬1) السير (9/ 207). (¬2) أصول الاعتقاد (1/ 69/38). (¬3) أصول الاعتقاد (1/ 69/41). (¬4) ذم الكلام (ص.101). (¬5) الشريعة (3/ 8/1268).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: - جاء في أصول الاعتقاد بالسند إلى عبد الرحمن بن عمر الأصبهاني قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول لفتى من ولد جعفر بن سليمان: مكانك؟ فقعد حتى تفرق الناس. ثم قال: تعرف ما في هذه الكورة من الأهواء والاختلاف، وكل ذلك يجرى مني على بال رضي إلا أمرك وما بلغني، فإن الأمر لا يزال هينا ما لم يصر إليكم -يعني السلطان- فإذا صار إليكم جل وعظم فقال: يا أبا سعيد وما ذاك؟ قال: بلغني أنك تتكلم في الرب تبارك وتعالى وتصفه وتشبهه. فقال الغلام: نعم فأخذ يتكلم في الصفة. فقال: رويدك يا بني حتى نتكلم أول شيء في المخلوق فإذا عجزنا عن المخلوقات فنحن عن الخالق أعجز وأعجز. أخبرني عن حديث حدثنيه شعبة عن الشيباني قال: سمعت زرا قال: قال عبد الله في قوله: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (¬1) قال: رأى جبريل له ستمائة جناح (¬2)، قال: نعم فعرف الحديث، فقال عبد الرحمن: صف لي خلقا من خلق الله له ستمائة جناح؟ فبقي الغلام ينظر إليه فقال عبد الرحمن: يا بني فإني أهون عليك المسألة وأضع عنك خمسمائة وسبعة وتسعين. صف لي خلقا بثلاثة أجنحة ركب الجناح الثالث منه موضعا غير الموضعين الذين ركبهما الله حتى أعلم؟ فقال: يا أبا سعيد نحن قد عجزنا عن صفة المخلوق ونحن عن صفة الخالق أعجز ¬

(¬1) النجم الآية (18). (¬2) أحمد (3/ 398) والبخاري (8/ 785/4857) ومسلم (1/ 158/174 (282)) واللفظ له. والترمذي (5/ 367/3277) والنسائي في الكبرى (6/ 472/11534).

وأعجز. فأشهدك أني قد رجعت عن ذلك وأستغفر الله. (¬1) - وفيه عنه: ما كنت أعرض أحدا من أهل الأهواء على السيف إلا الجهمية. (¬2) - وفيه عنه قال: القرآن كلام الله ليس بخالق ولا مخلوق. (¬3) - وفيه عن عبد الرحمن بن عمر رسته قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي وسألته عن الصلاة خلف أصحاب الأهواء قال: نعم لا يصلي خلف هؤلاء الصنفين: الجهمية والروافض فإن الجهمية كفار بكتاب الله. (¬4) - وجاء في السنة قال: حدثني عبد الله بن شبويه حدثنا محمد بن عثمان سمعت عبد الرحمن بن مهدي وسأله سهل بن أبي خدويه عن القرآن فقال: يا أبا يحيى مالك وهذه المسائل؟ هذه مسائل أصحاب جهم إنه ليس في أصحاب الأهواء شر من أصحاب جهم يدورون على أن يقولوا ليس في السماء شيء، أرى والله أن لا يناكحوا ولا يوارثوا. (¬5) - وروى الآجري في الشريعة بالسند إلى عبد الرحمن بن مهدي قال: لو كان لي الأمر لقمت على الجسر فلا يمر بي أحد يقول القرآن مخلوق إلا ضربت عنقه وألقيته في الماء. (¬6) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (3/ 585 - 586/ 932) والسير (9/ 196 - 197). (¬2) أصول الاعتقاد (2/ 348 - 349/ 503). (¬3) أصول الاعتقاد (2/ 287/488). (¬4) أصول الاعتقاد (2/ 355 - 356/ 518). (¬5) السنة لعبد الله (31) والإبانة (2/ 13/94 - 95/ 327) والفتاوى (5/ 52 - 53). (¬6) الشريعة (1/ 221/181) وأصول الاعتقاد (2/ 349/504) والإبانة (2/ 12/48 - 49/ 243) والسنة لعبد الله (16) والسير (9/ 195).

- وجاء في ذم الكلام عن محمد بن عيسى الطرسوسي سمعت عبد الرحمن بن عمر رسته من أهل أصبهان يقول: كانت لعبد الرحمن بن مهدي جارية فطلبها منه رجل فكان منه شبه العدة، فلما عاد إليه، قيل لعبد الرحمن: يا أبا سعيد هذا صاحب الخصومات فقال له عبد الرحمن: بلغني أنك تخاصم في الدين فقال: يا أبا سعيد إنا نضع عليهم لنحاجهم بها. فقال له عبد الرحمن: أتدفع الباطل بالباطل، إنما تدفع كلاما بكلام، قم عني والله لا أبيعك جاريتي أبدا. (¬1) - جاء في الإبانة عن سويد قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي وذكر الصوفية فقال: لا تجالسوهم ولا أصحاب الكلام، عليكم بأصحاب القماطر، فإنهم هم بمنزلة المعادن مثل الغواص، هذا يخرج درة وهذا يخرج قطعة ذهب. (¬2) - وفيها عن أبي طالب: سألت أبا عبد الله عن ميراث الجهمي إذا كان له أخ أو ابن يرثه؟ قال: بلغني عن عبد الرحمن أنه قال: لو كنت أنا ماورثته، قلت: ما تقول أنت؟ قال: ما تصنع بقولي؟ قلت: على ذاك. قال: لست أقول شيئا. قلت: فإن ذهب إنسان إلى قول عبد الرحمن؛ تنكر عليه؟ قال: لم أنكر عليه كأنه أعجبه. (¬3) - جاء في السير: ونقل غير واحد عن عبد الرحمن بن مهدي قال: إن ¬

(¬1) ذم الكلام (234). (¬2) الإبانة (2/ 3/472/ 483). (¬3) الإبانة (2/ 13/80/ 307) وأصول الاعتقاد (2/ 353/513).

موقفه من المرجئة:

الجهمية أرادوا أن ينفوا أن يكون الله كلم موسى، وأن يكون استوى على العرش، أرى أن يستتابوا، فإن تابوا، وإلا ضربت أعناقهم. (¬1) وفيها: قال أبو بكر بن أبي الأسود: سمعت ابن مهدي يقول بحضرة يحيى القطان، وذكر الجهمية، فقال: ما كنت لأناكحهم، ولا أصلي خلفهم. - قال عبد الرحمن بن عمر رسته: سمعت عبد الرحمن يقول: الجهمية يريدون أن ينفوا الكلام عن الله، وأن يكون القرآن كلام الله، وأن يكون كلم موسى، وقد وكده الله تعالى فقال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ موسى تكليمًا} (¬2). (¬3) - ويروى عن ابن مهدي قال: من طلب العربية، فآخره مؤدب، ومن طلب الشعر، فآخره شاعر، يهجو أو يمدح بالباطل، ومن طلب الكلام، فآخر أمره الزندقة، ومن طلب الحديث، فإن قام به، كان إماما، وإن فرط، ثم أناب يوما، يرجع إليه، وقد عتقت وجادت. (¬4) موقفه من المرجئة: - قال المروذي: وسمعت بعض مشايخنا يقول: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: إذا ترك الاستثناء فهو أصل الإرجاء. (¬5) - وعن الإمام أحمد قال: بلغني عن عبد الرحمن بن مهدي: أول الإرجاء ¬

(¬1) السير (9/ 199 - 200) والسنة لعبد الله (17) والإبانة (2/ 14/318/ 488) واجتماع الجيوش (200 - 201) وأصول الاعتقاد (2/ 349/505) والشريعة (2/ 85/724) وتذكرة الحفاظ (1/ 331) ودرء التعارض (6/ 261). (¬2) النساء الآية (164). (¬3) السير (9/ 204). (¬4) السير (9/ 199) وذم الكلام (235). (¬5) الإبانة (2/ 7/871/ 1188) والشريعة (1/ 300 - 301).

ترك الاستثناء. (¬1) - وعن يعقوب الدورقي قال: قال عبد الرحمن بن مهدي: أنا أقول الإيمان يتفاضل. (¬2) - وعن محمد بن أبان قال: قلت لعبد الرحمن بن مهدي: الإيمان قول وعمل؟ قال: نعم، قلت: يزيد وينقص؟ قال: يتفاضل، كلمة أحسن من كلمة. (¬3) - وعن إسماعيل بن حرب الكرماني قال: قيل لأحمد ما معنى حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: من غش فليس منا (¬4) فلم يجب فيه. قيل فإن قوما قالوا: من غشنا فليس مثلنا، فأنكره وقال: هذا تفسير مسعر وعبد الكريم بن أمية كلام المرجئة. - وقال أحمد: وبلغ عبد الرحمن بن مهدي فأنكره، وقال: لو أن رجلا عمل بكل حسنة أكان يكون مثل النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬5) - عن مهني قال: سمعت أحمد يقول: وذكر رجل عند الرحمن بن مهدي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب أو دعا دعوى الجاهلية" (¬6) فقال: الرجل إنما هو ليس مثلنا. فقال عبد الرحمن بن ¬

(¬1) السنة للخلال (3/ 598/1061). (¬2) السنة لعبد الله (93). (¬3) السنة للخلال (3/ 580/1005). (¬4) أحمد (2/ 417) ومسلم (1/ 99/101). (¬5) السنة للخلال (3/ 576/994). (¬6) أحمد (1/ 432) والبخاري (3/ 213/1297) ومسلم (1/ 99/103) والنسائي (4/ 139/1861) وابن ماجه (1/ 504 - 505/ 1584) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

موقفه من القدرية:

مهدي منكرا لقول الرجل: أرأيت لو عمل أعمال البر كلها كان يكون مثل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) موقفه من القدرية: - جاء في السير: قال عبد الرحمن بن عمر رسته: رآني ابن مهدي يوم الجمعة جالسا إلى جنب أحمد بن عطاء، وكان يتكلم في القدر، وكان أزهد من رأيت فاعتذرت إلى عبد الرحمن، فقال: لا تجالسه، فإن أهون ما ينزل بك أن تسمع منه شيئا يجب لله عليك أن تقول له: كذبت، ولعلك لا تفعل. (¬2) - وفي الإبانة: عن أحمد بن حنبل قال: سألوا عبد الرحمن بن مهدي عن القدر فقال لهم: الخير والشر بقدر. (¬3) خالد بن سليمان أبو معاذ (¬4) (199 هـ) خالد بن سليمان أبو معاذ البجلي. روى عن الثوري ومالك. حدث بأحاديث من حديثه مستقيمة ومنها ما لا يتابع عليه ومنها ما يرويه عن الضعفاء. توفي رحمه الله سنة تسع وتسعين ومائة. موقفه من الجهمية: قال ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية: روى عبد الرحمن بن أبي ¬

(¬1) السنة للخلال (3/ 576/995). (¬2) السير (9/ 408). (¬3) الإبانة (2/ 10/260 - 261/ 1877). (¬4) الجرح والتعديل (3/ 335) والثقات لابن حبان (8/ 224) وميزان الاعتدال (1/ 631) وتاريخ الإسلام (حوادث 191 - 200/ص.167) ولسان الميزان (2/ 377).

إسحاق بن سليمان الرازي (199 هـ)

حاتم عنه بإسناده قال: كان جهم على معبر ترمذ، وكان فصيح اللسان لم يكن له علم ولا مجالسة أهل العلم، فكلم السمنية فقالوا: صف لنا ربك الذي تعبده، فدخل البيت لا يخرج، ثم خرج إليه بعد أيام، فقال: هو هذا الهواء مع كل شيء، وفي كل شيء ولا يخلو منه شيء. قال أبو معاذ: كذب عدو الله، إن الله في السماء على العرش كما وصف نفسه. وهذا صحيح عنه. (¬1) إسحاق بن سليمان الرازي (¬2) (199 هـ) إسحاق بن سليمان الرازي، أبو يحيى العبدي مولى عبد القيس، كوفي نزل الري. روى عن: مالك بن أنس، وحنظلة بن أبي سفيان الجمحي وسفيان الثوري، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب ومعاوية الصدفي وغيرهم. روى عنه: أحمد بن حنبل، وسعيد بن سليمان الواسطي، وأبو بكر عبد الله بن محمد ابن أبي شيبة وغيرهم. قال عنه إسحاق بن منصور الكوسج: ما كان أهيأه، ما كان أبين خشوعه، يبكي كل ساعة. قال الذهبي: كان سيدا صالحا خاشعا ثقة حجة. قال أبو الأزهر: كان من خيار المسلمين. قال محمد بن سعد: كان ثقة، له فضل في نفسه وورع، وانتقل من الري إلى الكوفة، فأقام بها سنين، ثم رجع إلى الري فمات بها سنة تسع وتسعين ومائة. ¬

(¬1) اجتماع الجيوش (ص.207) ومختصر العلو (163). (¬2) تاريخ بغداد (6/ 324 - 326) وتهذيب الكمال (2/ 429 - 431) وتهذيب التهذيب (1/ 234 - 235) وشذرات الذهب (1/ 356) والوافي بالوفيات (8/ 413) وتاريخ الإسلام (حوادث 191 - 200/ص.95 - 96).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: عن أبي عبد الله السلمي قال: سألت أبا يعقوب (¬1) إسحاق بن سليمان -يعني الرازي- عن القرآن؟ فقال: هو كلام الله عز وجل وهو غير مخلوق. فقال لي: إذا كنا نقول: القرآن كلام الله عز وجل ولا نقول مخلوق ولا غير مخلوق ليس بيننا وبين هؤلاء -يعني الجهمية- خلاف. فذكرت ذلك لأحمد ابن حنبل فقال لي أحمد: جزى الله أبا يعقوب خيرا. (¬2) موقف السلف من سعيد بن سالم القداح المرجئي (نيف وتسعون بعد المائة) وقال الحميدي: حدثنا يحيى بن سليم أن سعيد بن سالم قال لابن عجلان: أرأيت إن أنا لم أرفع الأذى عن الطريق، أكون ناقص الإيمان؟ فقال: هذا مرجئ، من يعرف هذا؟ قال: فلما قمنا، عاتبته، فرد علي القول، فقلت: هل لك أن تقف، فتقول: يا أهل الطواف، إن طوافكم ليس من الإيمان، وأقول أنا: بل هو من الإيمان فننظر ما يصنعون، قال: تريد أن تشهرني؟ قلت: فما تريد إلى قول إذا أظهرته شهرك. (¬3) ¬

(¬1) تقدم في ترجمته أن كنيته أبو يحيى، وهنا أبو يعقوب، فلعل له كنيتان. (¬2) أصول الاعتقاد (2/ 288/443) والسنة للخلال (5/ 136). (¬3) السير (9/ 320).

أنس بن عياض (200 هـ)

أنس بن عياض (¬1) (200 هـ) الإمام المحدث الصدوق المعمر بقية المشايخ، أبو ضَمْرَة أنس بن عِيَاض اللَّيثي المدني. حدث عن صفوان بن سليم، وأبي حازم الأعرج، وسهيل بن أبي صالح، وربيعة الرأي، وشريك بن أبي نمر وغيرهم. وحدث عنه: أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وأحمد بن صالح، وخلق كثير. عمر دهرا، وتفرد في زمانه. وقال يونس بن عبد الأعلى: ما رأيت أحدا أحسن خلقا من أبي ضمرة -رحمه الله- ولا أسمح بعلمه منه. قال لنا: والله لو تهيأ لي أن أحدثكم بكل ما عندي في مجلس لفعلت. عاش ستا وتسعين سنة، توفي سنة مائتين. موقفه من الجهمية: جاء في السنة: قال عبد الله حدثنا إسحاق بن البهلول قلت لأنس بن عياض أبي ضمرة: أصلي خلف الجهمية؟ قال: لا، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬2).اهـ (¬3) ¬

(¬1) الوافي بالوفيات (9/ 417) والسير (9/ 86 - 87) وتاريخ ابن معين (2/ 43) ومشاهير علماء الأمصار (142) والجرح والتعديل (2/ 289) وتهذيب الكمال (3/ 349 - 353) وتذكرة الحفاظ (1/ 323 - 324) وشذرات الذهب (1/ 358). (¬2) آل عمران الآية (85). (¬3) السنة لعبد الله (19) والسنة للخلال (5/ 91 - 92).

يحيى بن سلام (200 هـ)

يحيى بن سَلاَّم (¬1) (200 هـ) ابن أبي ثعلبة، الإمام العلامة أبو زكريا البصري، نزيل المغرب بإفريقية. حدث عن: سعيد بن أبي عروبة، وفطر بن خليفة، وشعبة والمسعودي، والثوري، ومالك. وروى عنه ابن وهب وهو من طبقته، وولده محمد بن يحيى وأحمد بن موسى وغيرهم. قال أبو عمرو الداني: روى الحروف عن أصحاب الحسن وغيره. وله اختيار في القراءة من طريق الآثار، سكن إفريقية دهرا وسمعوا منه تَفْسيرَه -الذي ليس لأحد من المتقدمين مثله- وكتابه الجامع قال: وكان ثقة ثبتا، عالما بالكتاب والسنة، وله معرفة باللغة والعربية ولد سنة أربع وعشرين ومائة. ومات بمصر بعد أن حج في صفر سنة مائتين رحمه الله. موقفه من المرجئة: - جاء في رياض النفوس: قال أبو العرب: سألت أبا يحيى بن محمد بن يحيى بن السلام، خاليا، عن قول جده في الإيمان، فقال لي: كان جدي يقول: الإيمان قول وعمل ونية. وكان يحيى ثقة صدوقا لا يقول عن جده إلا الحق. وعن أبي القاسم السدري، أنه كتب إليه عيسى بن مسكين يقول: حدثنا عون بن يوسف قال: قلت ليحيى بن السلام: إن الناس يرمونك بالإرجاء، قال عون: فأخذ يحيى لحيته بيده وقال: أحرق الله هذه اللحية بالنار إن كنت دنت الله عز وجل قط بالإرجاء، فقيل لعيسى: فما تقول أنت فيه؟ ¬

(¬1) السير (9/ 396 - 397) والجرح والتعديل (9/ 155) والكامل لابن عدي (7/ 2707 - 2708) وميزان الاعتدال (4/ 380 - 381) ولسان الميزان (6/ 259 - 261).

يعقوب بن موسى ابن أخي معروف الكرخي (200 هـ سنة وفاة معروف الكرخي)

فقال: والله إنه لخير منا، وقد برأه الله مما يقولون. وفي موضع آخر: كيف وقد حدثتكم أنه بدعة؟ (¬1) - وفيه: عن عون بن يوسف قال: كنت عند عبد الله بن وهب وهو يقرأ عليه، فمر حديث ليحيى بن السلام فقال: امحه!، فقال عون، فقلت له: لم تمحوه أصلحك الله؟ قال: بلغني أنه يقول بالإرجاء فقلت له: فأنا كشفته عن ذلك، فقال لي: أنت؟ فقلت له: نعم!، فقال لي: فما قال لك؟ قال: قلت له: فقال: معاذ الله أن يكون ذلك رأيي، أو أدين الله به، ولكن أحاديث رويتها عن رجال يقولون: الإيمان قول وآخرين يقولون: الإيمان قول وعمل، فحدثنا بما سمعنا منهم، فقال لي ابن وهب: فرجت عني، فرج الله عنك. قال عون: فلما قدمت القيروان -وكان يحيى باقيا بعد- أتاني فسلم علي وقال لي: يا أبا محمد، قد بلغني محضرك فجزاك الله خيرا. والله ما قلت إلا حقا وما دنت الله به قط. (¬2) يعقوب بن موسى ابن أخي معروف الكرخي (¬3) (200 هـ سنة وفاة معروف الكرخي) أبو يوسف يعقوب بن موسى بن القيرزان ابن أخي معروف الكرخي. حكى عن عمه حكايات، وحكى أيضا عن الإمام أحمد بن حنبل، وسأله عن ¬

(¬1) رياض النفوس (1/ 190). (¬2) رياض النفوس (1/ 191 - 192). (¬3) طبقات الحنابلة (1/ 417) وتاريخ بغداد (14/ 276).

موقفه من الجهمية:

مسائل. روى عنه إسحاق بن سنين الختلي وأحمد بن محمد بن مسروق الطوسي. موقفه من الجهمية: قال يعقوب ابن أخي معروف الكرخي: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال إنه مخلوق؛ فهو كافر. (¬1) موقف السلف من الهجيمي الصوفي القدري (200 هـ) قال فيه الذهبي: شيخ الصوفية العابد القانت أحمد بن عطاء الهجيمي البصري القدري المبتدع، فما أقبح بالزهاد ركوب البدع. (¬2) وقال علي بن المديني: أتيته يوما، فوجدت معه درجا يحدث به، فقلت له: أسمعت هذا؟ قال: لا ولكن اشتريته وفيه أحاديث حسان أحدث بها هؤلاء، فقلت: أما تخاف الله؟ تقرب العباد إلى الله بالكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الذهبي: ما كان الرجل يدري ما الحديث، ولكنه عبد صالح، وقع في القدر، نعوذ بالله من ترهات الصَّوَفَة، فلا خير إلا في الاتباع، ولا يمكن الاتباع إلا بمعرفة السنن. (¬3) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 12/72 - 73/ 299). (¬2) السير (9/ 408). (¬3) السير (9/ 409).

القرن 3

علي بن عاصم الواسطي (¬1) (201 هـ) الإمام العلامة شيخ المحدثين مسند العراق أبو الحسن علي بن عاصم بن صهيب القرشي التيمي مولى قريبة أخت القاسم بن محمد بن أبي بكر، الواسطي. ولد سنة سبع ومائة، فهو من أسنان سفيان بن عيينة. روى عن سهيل بن أبي صالح، وعطاء بن السائب وحصين بن عبد الرحمن وحميد الطويل وخالد الحذاء وخلق سواهم. حدث عنه أحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويزيد بن زريع مع تقدمه وعبد بن حميد ومحمد بن يحيى الذهلي وخلق كثير. قال يعقوب بن شيبة: كان من أهل الدين والصلاح والخير البارع وكان شديد التوقي ومنهم من أنكر عليه كثرة الغلط والخطأ. قال ابن أعين: سمعت علي بن عاصم يقول: دفع إلي أبي مائة ألف درهم، قال: اذهب فلا أرى لك وجها إلا بمائة ألف حديث. قال البيكندي: كان يجتمع عند علي ابن عاصم أكثر من ثلاثين ألفا. مات سنة إحدى ومائتين. قال يعقوب بن شيبة: سمعت عاصم بن علي يقول: أخبرني أبي أنه صام ثمانين شهر رمضان لم يفطر فيها يوما. قال: ومات وهو ابن أربع وتسعين سنة. موقفه من الجهمية: قال ابن القيم: جاء في الرد على الجهمية لابن أبي حاتم: صح عنه قال: الذين قالوا إن لله سبحانه ولدا أكفر من الذين قالوا إن ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (7/ 313) والتاريخ الكبير (6/ 290) وتاريخ بغداد (11/ 446 - 458) وتهذيب الكمال (20/ 504 - 520) وتهذيب التهذيب (7/ 344) وتذكرة الحفاظ (1/ 316 - 317) والسير (9/ 249 - 262) وشذرات الذهب (2/ 2).

حماد بن أسامة الكوفي (201 هـ)

الله سبحانه لم يتكلم، وقال احذروا من المريسي وأصحابه فإن كلامهم الزندقة وأنا كلمت أستاذهم فلم يثبت أن في السماء إِلهاً. - وقال يحيى بن علي بن عاصم: كنت عند أبي فاستأذن عليه المريسي فقلت له: يا أبتي مثل هذا يدخل عليك؟ فقال: وما له؟ فقلت: إنه يقول إن القرآن مخلوق ويزعم أن الله معه في الأرض وكلاما ذكرته، فما رأيته اشتد عليه مثل ما اشتد عليه قوله إن القرآن مخلوق وقوله إن الله معه في الأرض. (¬1) - قال علي بن عاصم: ما اليهود والنصارى بأعظم على الله فرية ممن زعم أنه لا يتكلم. (¬2) حمَّاد بن أُسَامة الكوفي (¬3) (201 هـ) الحافظ الثبت الإمام الحجة، أبو أسامة حماد بن أسامة بن زيد القرشي، الكوفي مولى بني هاشم. ولد في حدود العشرين ومائة. حدث عن هشام بن عروة والأعمش وشعبة وسفيان وبهز بن حكيم وخلق كثير. وكان من أئمة العلم. حدث عنه عبد الرحمن بن مهدي والشافعي وأحمد والحميدي وإسحاق وخلق سواهم. عن أحمد بن حنبل قال: أبو أسامة ثقة، كان أعلم الناس بأمور الناس، وأخبار أهل الكوفة، ما كان أرواه عن هشام بن عروة. قال ابن الفرات: كان عند أبي أسامة ست مائة حديث عن هشام بن عروة. قال ¬

(¬1) اجتماع الجيوش (202) وطرفه الأول نحوه في الإبانة (2/ 13/106 - 107/ 355). (¬2) الإبانة (2/ 14/322/ 499). (¬3) طبقات ابن سعد (6/ 394) والتاريخ الكبير (3/ 28) وتهذيب الكمال (7/ 217 - 224) وتهذيب التهذيب (3/ 2) والسير (9/ 277 - 279) وتذكرة الحفاظ (1/ 321) وشذرات الذهب (2/ 2).

موقفه من المبتدعة:

ابن عمار: كان أبو أسامة في زمان سفيان يعد من النساك. قال رحمه الله عن نفسه: كتبت بأصبعي هاتين مائة ألف حديث. قال البخاري: مات في ذي القعدة سنة إحدى ومائتين وهو ابن ثمانين سنة. موقفه من المبتدعة: عن أبي نصر يعني بشرا، قال: سمعت أبا أسامة، يقول: جزى الله عنا خيرا من أعان الإسلام بشطر كلمة. (¬1) موقفه من الرافضة: - جاء في جامع بيان العلم: قال إبراهيم بن سعيد الجوهري: سألت أبا أسامة أيما كان أفضل، معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال: لا نعدل بأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أحدا. (¬2) - وفي أصول الاعتقاد: عن يحيى بن معين قال: سمعت أبا أسامة يقول: من يقدم عليا على عثمان فهو أحمق. (¬3) ضَمْرَة بن رَبِيعة الرمليّ (¬4) (202 هـ) الإمام الحافظ، أبو عبد الله ضمرة بن ربيعة القرشي مولاهم الدمشقي ثم الرملي، العبد الصالح المأمون القدوة محدث فلسطين. ثقة في الحديث. روى ¬

(¬1) الإبانة (1/ 1/214/ 56). (¬2) جامع بيان العلم وفضله (2/ 1173). (¬3) أصول الاعتقاد (8/ 1452/2622). (¬4) طبقات ابن سعد (7/ 471) التاريخ الكبير (4/ 337) وتهذيب الكمال (13/ 316 - 321) تهذيب التهذيب (4/ 460) وتذكرة الحفاظ (1/ 353) والسير (9/ 325 - 327).

موقفه من الجهمية:

عن إبراهيم بن أبي عبلة، والأودي والثوري ومولاه علي بن أبي حملة وسعيد ابن عبد العزيز وخلق سواهم. وروى عنه إسماعيل بن عياش ونعيم بن حماد، وعبد الله بن ذكوان وهشام بن عمار، وخلق كثير. قال آدم بن أبي إياس: ما رأيت أحدا أعقل لما يخرج من رأسه من ضمرة. قال ابن سعد: كان ثقة مأمونا خيرا لم يكن هناك أفضل منه. مات في أول رمضان سنة اثنتين ومائتين في خلافة عبد الله بن هارون. موقفه من الجهمية: قال ضمرة بن ربيعة: ترك جهم الصلاة أربعين يوما على وجه الشك، فخاصمه بعض السمنية فشك، فأقام أربعين يوما لا يصلي، قال ضمرة: وقد رآه ابن شوذب. (¬1) موقفه من القدرية: قال ضمرة بن ربيعة: لم نؤمر أن نتكل على القدر، وإليه نصير. (¬2) عبد الحميد بن عبد الرحمن الحِمَّانِي (¬3) (202 هـ) أبو يحيى الكوفي والد يحيى بن عبد الحميد الحماني وعبد الرحمن، لقبه بَشْمِين، أصله خوارزمي، وحمان من تميم. روى عن جرير بن عبد الحميد، ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى (5/ 41). (¬2) مجموع الفتاوى (8/ 105). (¬3) طبقات ابن سعد (6/ 399) وتاريخ خليفة (333) والتاريخ الكبير (6/ 45) وتهذيب الكمال (16/ 452 - 455) وتهذيب التهذيب (6/ 120) تاريخ الإسلام (حوادث 201 - 210/ص.227) وشذرات الذهب (2/ 3) والتقريب (1/ 556).

موقفه من الجهمية:

والحسين بن عمارة، والسفيانين والأعمش، وعثمان بن واقد العمري، وأبي حنيفة وغيرهم. روى عنه أحمد بن سنان القطان، والحسين بن يزيد الكوفي، وأبو بكر بن أبي شيبة، ويحيى بن إسماعيل الواسطي وخلق سواهم. قال عبد الله بن أحمد الدورقي عن يحيى بن معين: يحيى بن عبد الحميد الحماني، ثقة وأبوه ثقة. وقال ابن حجر: صدوق يخطئ ورمي بالإرجاء. قال هارون بن عبد الله الحمال: مات سنة اثنتين ومائتين. موقفه من الجهمية: عن أحمد بن عمر الكوفي: سمعت عبد الحميد الحماني يقول: جهم كافر بالله. (¬1) أبو داود الطَّيَالِسِي (¬2) (203 هـ) الحافظ الكبير، صاحب المسند، سليمان بن داود بن الجارود أبو داود الفارسي ثم الأسدي ثم الزبيري مولى آل الزبير بن العوام، الحافظ البصري، أحد الأعلام الحفاظ. سمع ابن عون وأيمن بن نابل وهشام بن أبي عبد الله الدستوائي وشعبة والحمادين، وغيرهم. وعنه أحمد والفلاس وبندار وابن الفرات وعباس الدوري وغيرهم. قال الفلاس: ما رأيت أحفظ منه. قال عامر بن إبراهيم: سمعت أبا داود يقول: كتبت عن ألف شيخ. وكان وكيع ¬

(¬1) الإبانة (2/ 13/91 - 92/ 321) والسنة للخلال (5/ 84). (¬2) طبقات ابن سعد (7/ 298) والتاريخ الكبير (4/ 10) وتاريخ بغداد (9/ 24) وتهذيب الكمال (11/ 401 - 408) وتهذيب التهذيب (4/ 176) والسير (9/ 378 - 384) وتذكرة الحفاظ (1/ 351) وشذرات الذهب (2/ 12).

موقفه من المبتدعة:

يقول: أبو داود جبل العلم. قال أحمد بن عبد الله العجلي: بصري ثقة، وكان كثير الحفظ، رحلت إليه فأصبته مات قبل قدومي بيوم، وكان قد شرب البلاذر هو وعبد الرحمن بن مهدي، فجذم هو، وبرص عبد الرحمن، فحفظ أبو داود أربعين ألف حديث، وحفظ عبد الرحمن عشرة آلاف حديث. مات سنة ثلاث ومائتين، وكان من أبناء الثمانين، رحمه الله تعالى. موقفه من المبتدعة: قال محمود بن غيلان: قيل لأبي داود الطيالسي: لم لا تحدث عن عبد الوارث؟ فقال: أأحدثك عن رجل كان يزعم أن يوما من عمرو بن عبيد أكبر من عمر أيوب السختياني، ويونس، وابن عون؟! (¬1) موقفه من الجهمية: أخرج البيهقي من طريق أبي داود الطيالسي قال: كان سفيان الثوري وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحددون ولا يشبهون ويروون هذه الأحاديث ولا يقولون كيف، قال أبو داود: وهو قولنا، قال البيهقي: وعلى هذا مضى أكابرنا. (¬2) ¬

(¬1) السير (8/ 302). (¬2) الفتح (13/ 407).

الحسين بن علي الجعفي (203 هـ)

الحسين بن علي الجُعْفِي (¬1) (203 هـ) شيخ الإسلام الإمام القدوة الحافظ المقرئ المجود، الزاهد بقية الأعلام، الحسين بن علي بن الوليد أبو عبد الله وأبو محمد الجعفي مولاهم الكوفي. قرأ القرآن على حمزة الزيات وأتقنه، وأخذ الحروف عن أبي عمرو بن العلاء، وعن أبي بكر بن عياش. سمع من الأعمش وجعفر بن برقان وسفيان الثوري وعدة، وصحب الفضيل بن عياض وغيره. حدث عنه سفيان بن عيينة وهو من شيوخه، وأحمد بن حنبل وابن راهويه وابن معين وخلق غيرهم. قال محمد بن رافع: ذاك راهب أهل الكوفة. قال ابن قتيبة: قيل لابن عيينة قدم حسين، فوثب وأتى فقبل يده وقال: قدم أفضل رجل يكون قط. قال حميد ابن الربيع: كتبنا عنه أكثر من عشرة آلاف حديث. وقال أحمد العجلي: كان ثقة لم أر أفضل منه، ولم أره إلا مقعدا وكان جميلا لباسا، مات سنة ثلاث ومائتين، عاش أربعا وثمانين سنة. موقفه من الجهمية: جاء في السنة لعبد الله عن عبد الله بن عمر قال: سمعت حسين بن علي الجعفي وحدث بحديث الرؤية (¬2) قال: على رغم أنف جهم والمريسي. (¬3) ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (6/ 396) والتاريخ الكبير (2/ 381) وتهذيب الكمال (6/ 449 - 454) تهذيب التهذيب (2/ 357) وتذكرة الحفاظ (1/ 349) والسير (9/ 397 - 401). (¬2) انظر تخريجه في مواقف عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون سنة (164هـ). (¬3) السنة لعبد الله (45).

إبراهيم بن حبيب (203 هـ)

إبراهيم بن حبيب (¬1) (203 هـ) ابن الشهيد الأزدي، مولاهم أبو إسحاق البصري، والد إسحاق بن إبراهيم الشهيدي. روى عن أبيه حبيب بن الشهيد. روى عنه أحمد بن إبراهيم الدورقي، وابنه إسحاق بن إبراهيم وسهل بن صالح الأنطاكي وغيرهم. قال ابن حجر: ثقة من التاسعة، مات سنة ثلاث ومائتين. موقفه من الجهمية: جاء في السنة قال عبد الله: حدثني هارون بن سفيان حدثني إبراهيم ابن حبيب بن الشهيد قال: قال أبي: يا بني، لا تسمع من عمرو بن عبيد واسمع من عمرو قهرمان آل الزبير. (¬2) علي الرضى (¬3) (203 هـ) علي بن موسى الكَاظِم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين أبو الحسن الهاشمي العلوي المدني. ولد بالمدينة سنة ثمان وأربعين ومائة. روى عن أبيه وعبيد الله بن أرطأة، وعنه ابنه أبو جعفر محمد وأبو عثمان المازني والمأمون ودارم بن قبيصة، وطائفة. ¬

(¬1) تهذيب الكمال (2/ 67 - 69) وتقريب التهذيب (1/ 33). (¬2) السنة (153). (¬3) الكامل لابن الأثير (6/ 326) وفيات الأعيان (3/ 269 - 271) وتهذيب الكمال (21/ 148 - 153) وسير أعلام النبلاء (9/ 387 - 393) وتاريخ الإسلام (حوادث 201 - 210/ص.269 - 272) وميزان الاعتدال (3/ 158) وتهذيب التهذيب (7/ 387 - 389).

موقفه من الجهمية:

كان سيد بني هاشم في زمانه، وأجلهم وأنبلهم، وكان المأمون يعظمه ويخضع له، ويتغالى فيه، حتى إنه جعله ولي عهده من بعده، وكتب بذلك إلى الآفاق، فثار لذلك بنو العباس وتألموا لإخراج الأمر عنهم. قال الذهبي: وقد كان علي الرضى كبير الشأن، أهلا للخلافة، ولكن كذبت عليه وفيه الرافضة، وأطروه بما لايجوز، وادعوا فيه العصمة، وغلت فيه، وقد جعل الله لكل شيء قدرا، وهو بريء من عهدة تلك النسخ الموضوعة عليه. ومن شعره: كلنا يأمل مدا في الأجل ... والمنايا هو آفات الأمل لا تغرنك أباطيل المنى ... والزم القصد ودع عنك العلل إنما الدنيا كظل زائل ... حل فيه راكب ثم رحل توفي رحمه الله في صفر سنة ثلاث ومائتين، عن خمسين سنة. موقفه من الجهمية: جاء في السير: قال الحاكم: حدثنا إسحاق بن محمد الهاشمي بالكوفة، حدثنا القاسم بن أحمد العلوي، حدثنا أبو الصلت الهروي، حدثني علي بن موسى الرضى قال: من قال: القرآن مخلوق، فهو كافر. (¬1) موقفه من القدرية: جاء في سير أعلام النبلاء: قال المبرد: عن أبي عثمان المازني قال: سئل ¬

(¬1) السير (9/ 389).

زهير البابي (204 هـ)

علي بن موسى الرضى: أيكلف الله العباد ما لا يطيقون؟ قال: هو أعدل من ذلك، قيل: فيستطيعون أن يفعلوا ما يريدون؟ قال: هم أعجز من ذلك. (¬1) زُهَيْر البَابِي (¬2) (204 هـ) ابن نُعَيْم السَّلُولي ويقال العِجْلِي أبو عبد الرحمن نزيل البصرة. روى عن بشر بن منصور السليمي، وسلام بن أبي مطيع ويزيد الرقاشي مرسل. روى عنه إبراهيم بن سعيد بن أنس، وأحمد بن إبراهيم. كان أحد العباد والزهاد والمتقشفين. عن زهير بن نعيم: إن هذا الأمر لا يتم إلا بشيئين: الصبر واليقين. قال سلمة بن شبيب: عن سهل بن عاصم: قلت لزهير بن نعيم: يا أبا عبد الرحمن ألك حاجة؟ قال: نعم، قلت: وما هي؟ قال: تتقي الله أحب إلي من أن يصير الحائط ذهبا. وقال سهل: وسمعت عنشط بن زياد يقول: سمعت زهير بن نعيم يقول: جالست الناس منذ خمسين سنة فما رأيت أحدا إلا وهو يتبع الهوى حتى إنه ليخطئ فيحب أن الناس قد أخطأوا، ولأن أسمع في جلدي صوت ضرب أحب إلي من أن يقال لي أخطأ فلان. وقال سهل: وسمعت زهيرا يقول: وددت أن جسدي قرض بالمقاريض وأن هذا الخلق أطاعوا الله. توفي سنة أربع ومائتين. موقفه من الجهمية: جاء في السنة: قال عبد الله: حدثني أحمد بن الدورق، سمعت زهيرا ¬

(¬1) السير (9/ 391). (¬2) الأنساب (2/ 15) وتقريب التهذيب (1/ 265) وتهذيب الكمال (9/ 426 - 428).

الشافعي (204 هـ)

البابي يقول: إذا تيقنت أنه جهمي أعدت الصلاة خلفه، الجمعة وغيرها. (¬1) الشافعي (¬2) (204 هـ) محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الإمام، عالم العصر، ناصر الحديث، فقيه الملة، أبو عبد الله القرشي ثم المطلبي الشافعي المكي الغزي المولد نسيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن عمه. ثبت في الحديث، حافظ لما وعى، عديم الغلط موصوف بالإتقان، متين الديانة. أخذ العلم ببلده عن مسلم ابن خالد الزنجي مفتي مكة، وداود بن عبد الرحمن العطار، وسفيان بن عيينة وعبد الرحمن بن أبي بكر وغيرهم. وارتحل إلى المدينة، فأخذ عن الإمام مالك وإبراهيم بن أبي يحيى وعبد العزيز الدراوردي. وحدث عنه الحميدي، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وأحمد بن حنبل وسليمان وغيرهم. وصنف التصانيف، ودون العلم، ورد على الأئمة متبعا الأثر، وصنف في أصول الفقه وفروعه، وبعد صيته، وتكاثر عليه الطلبة. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت محمد بن داود يقول: لم يحفظ في دهر الشافعي كله أنه تكلم في شيء من الأهواء، ولا نسب إليه ولا عرف به مع بغضه لأهل الكلام والبدع. وروى عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه قال: كان الشافعي إذا ثبت عنده ¬

(¬1) السنة (ص.19) (¬2) السير (10/ 5 - 99) والجرح والتعديل (7/ 204 - 210) والحلية (9/ 23 - 161) والفهرست لابن النديم (294 - 296) وتاريخ بغداد (2/ 56 - 73) وترتيب المدارك (1/ 221 - 231) والأنساب (7/ 251 - 254) ومعجم الأدباء (17/ 281 - 327) والوافي بالوفيات (2/ 171 - 181) وتذكرة الحفاظ (1/ 361 - 363) وآداب الشافعي ومناقبه لابن أبي حاتم وطبقات الشافعية الكبرى (1/ 100 - 107).

الخبر قلده، وخير خصلة كانت فيه لم يكن يشتهي الكلام، إنما همته الفقه. قال أبو زرعة، سمعت قتيبة بن سعيد يقول: مات الثوري ومات الورع ومات الشافعي وماتت السنن، ويموت أحمد ابن حنبل وتظهر البدع. قال أبو ثور الكلبي: ما رأيت مثل الشافعي، ولا رأى هو مثل نفسه. قال أحمد بن حنبل من طرق عنه إن الله يقيض للناس في رأس كل مائة من يعلمهم السنن، وينفي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكذب قال: فنظرنا، فإذا في رأس المائة عمر بن عبد العزيز وفي رأس المائتين الشافعي. وقال الفضل بن زياد: سمعت أحمد يقول: ما أحد مس محبرة ولا قلما إلا وللشافعي في عنقه منة. من أقواله: وددت أن الناس تعلموا هذا العلم -يعني كتبه- على أن لا ينسب إلي منه شيء. وعنه قال: ما كابرني أحد على الحق ودافع، إلا سقط من عيني، ولا قبله إلا هبته، واعتقدت مودته. وعنه: العلم علمان: علم الدين وهو الفقه، وعلم الدنيا وهو الطب، وما سواه من الشعر وغيره فعناء وعبث. وسئل: مَن أقدر الفقهاء على المناظرة؟ قال: من عود لسانه الركض في ميدان الألفاظ لم يتلعثم إذا رمقته العيون. وعنه بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد. وعنه ليس إلى السلامة من الناس سبيل، فانظر الذي فيه صلاحك فالزمه. وعنه ضياع العالم أن يكون بلا إخوان، وضياع الجاهل قلة عقله وأضيع منهما من واخى من لا عقل له. وعنه آلات الرياسة خمس: صدق اللهجة، وكتمان السر، والوفاء بالعهد، وابتداء النصيحة، وأداء الأمانة. توفي سنة أربع ومائتين.

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: - عن محفوظ بن أبي توبة قال: قال لي الشافعي: يظن الناس أني إنما أرد عليهم طلبا للدنيا، ولولا خلافهم لسنة محمد - صلى الله عليه وسلم - ما عرضت لهم. (¬1) - جاء في ذم الكلام عن يونس بن عبد الأعلى قال: قلت للشافعي: قال صاحبنا الليث بن سعد: لو رأيت صاحب هوى يمشي على الماء ما قبلته، فقال الشافعي: أما إنه قصر لو رأيته يمشي في الهواء ما قبلته. (¬2) - جاء في جامع بيان العلم وفضله عن الشافعي قال: ليس لأحد أن يقول في شيء حلال ولا حرام إلا من جهة العلم، وجهة العلم: ما نص في الكتاب أو في السنة أو في الإجماع فإن لم يوجد في ذلك فالقياس على هذه الأصول ما كان في معناها. (¬3) - جاء في ذم الكلام قال الحميدي: كنا عند الشافعي فأتاه رجل فسأله عن مسألة فقال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا فقال رجل للشافعي ما تقول؟ قال سبحانك تراني في كنيسة، تراني في بيعة، ترى على وسطي زنارا، أقول لك قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول لي ما تقول أنت؟. (¬4) - وفي الحلية عن الربيع بن سليمان قال سأل رجل الشافعي عن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له الرجل فما تقول؟ فارتعد وانتفض وقال: أي سماء ¬

(¬1) ذم الكلام (256). (¬2) ذم الكلام (248) وأصول الاعتقاد (1/ 164/297) والإبانة (2/ 3/534 - 535/ 662) والسير (10/ 23) والاستقامة (1/ 254) وتلبيس إبليس (24). (¬3) جامع بيان العلم وفضله (1/ 759) ومناقب الشافعي للبيهقي (1/ 474). (¬4) ذم الكلام (107) والسير (10/ 34) وإعلام الموقعين (2/ 285).

تظلني وأي أرض تقلني إذا رويت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقلت بغيره. (¬1) - جاء في ذم الكلام قال الربيع: سمعت الشافعي روى حديثا فقال له رجل: نأخذ بهذا يا أبا عبد الله، فقال: متى رويت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثا صحيحا ولم آخذ به، فأشهدكم أن عقلي قد ذهب وأشار بيده على رؤوسهم. (¬2) - وفيه قال: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعوا ما قلت. (¬3) - وكان يقول: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط، وإذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فهي قولي. (¬4) - وعنه قال: لم أسمع أحدا ينسبه عامة علمه أو ينسب نفسه إلى علم يخالف في أن الله فرض اتباع أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتسليم لحكمه بأن الله لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه، وإنه لا يلزم قول بكل حال إلا لكتاب الله أو سنة رسول الله، وإن ما سواهما تبع لهما، وإن فرض الله علينا وعلى من قبلنا وبعدنا قبول الخبر عن رسول الله واحد لا يختلف فيه أنه الفرض، وواجب قبول الخبر عن رسول الله إلا فرقة سأصف قولها إن شاء الله. افترض الله علينا ¬

(¬1) الحلية (9/ 106) ومناقب الشافعي للبيهقي (1/ 475) والفقيه والمتفقه (1/ 388) والسير مختصرا (10/ 35) وإعلام الموقعين (2/ 286). (¬2) ذم الكلام (108) وآداب الشافعي (68و93) والحلية (9/ 106) والفقيه والمتفقه (1/ 388 - 389) ومناقب الشافعي للبيهقي (1/ 474) والسير (10/ 34). (¬3) ذم الكلام (108) والفقيه والمتفقه (1/ 388) ومناقب الشافعي للبيهقي (1/ 472 - 473) والسير (10/ 34) و (10/ 77 - 78) ونحوه في تذكرة الحفاظ (1/ 362). (¬4) مجموع الفتاوى (20/ 211).

اتباع نبيه - صلى الله عليه وسلم - قال: {فلا وربك} (¬1) وفرض علينا اتباع أمره فقال: {وَمَا آَتَاكُمُ الرسول فخذوه} (¬2) ثم بني على هذا كتاب إجماع أهل العلم. (¬3) - وقال: كل متكلم على الكتاب والسنة فهو الجِد وما عداه فهو هذيان. (¬4) - وقال: لا يحل لأحد من أهل الرأي أن يفتي، فإن حل فلمحمد بن الحسن. (¬5) - وروي عن الشافعي أنه قال: مثل الذي ينظر في الرأي ثم يتوب منه مثل المجنون الذي عولج حتى برئ، فأغفل ما يكون قد هاج به. (¬6) - وفي ذم الكلام عنه قال: السخاء والكرم يغطيان عيوب الدنيا والآخرة بعد أن لا يلحق صاحبه بدعة. (¬7) - وفي الجرح والتعديل: وأما محمد بن الحسن فحدثنا محمد بن عبد الله ابن عبد الحكم قال سمعت الشافعي يقول: قال لي محمد بن الحسن: أيهما أعلم بالقرآن صاحبنا أو صاحبكم؟ يعني أبا حنيفة ومالك بن أنس، قلت على الإنصاف؟ قال: نعم، قلت: فأنشدك الله من أعلم بالقرآن صاحبنا أو ¬

(¬1) النساء الآية (65). (¬2) الحشر الآية (7). (¬3) ذم الكلام (109 - 110). (¬4) ذم الكلام (246) والسير (10/ 20). (¬5) ذم الكلام (101). (¬6) الاعتصام (2/ 782). (¬7) ذم الكلام (255).

صاحبكم؟ قال صاحبكم، يعني مالكا. قلت: فمن أعلم بالسنة صاحبنا أو صاحبكم؟ قال اللهم صاحبكم، قلت: فأنشدك الله من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمتقدمين صاحبنا أو صاحبكم؟ قال صاحبكم قال الشافعي: قلت لم يبق إلا القياس والقياس لا يكون إلا على هذه الأشياء فمن لم يعرف الأصول فعلى أي شيء يقيس؟. (¬1) - وفي ذم الكلام عنه قال: لولا أصحاب الحديث لكنا بُياع الفول. (¬2) - وقال: إذا رأيت رجلا من أصحاب الحديث فكأني رأيت رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، جزاهم الله خيرا، هم حفظوا لنا الأصل، فلهم علينا الفضل. (¬3) - وفي شرف أصحاب الحديث للخطيب بالسند إلى يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت الشافعي يقول: إذا رأيت رجلا من أصحاب الحديث فكأني رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - حيا. (¬4) " التعليق: لأنه يحمل ميراثه ودعوته إلى التوحيد الخالص لا الترنم والتغني به كأنه أزجال يتغرد بها. ¬

(¬1) الجرح والتعديل (1/ 12 - 13) ومناقب الشافعي (159 - 160) والحلية (6/ 329) و (9/ 74) والانتقاء (24) ومناقب أحمد (498) والسير (8/ 75 - 76) و (8/ 112) ووفيات الأعيان (4/ 136). (¬2) ذم الكلام (107). (¬3) صيانة الإنسان (308) وذم الكلام (109) والسير (10/ 59 - 60) وتلبيس إبليس (18) والحلية (9/ 109). (¬4) شرف أصحاب الحديث (46).

- وقال لبعض أصحاب الحديث: أنتم الصيادلة ونحن الأطباء. (¬1) - وفي ذم الكلام عنه: طلب العلم أفضل من صلاة التطوع. (¬2) - عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت محمد بن داود يقول: لم يحفظ في دهر الشافعي كله أنه تكلم في شيء من الأهواء ولا نسب إليه ولا عرف به مع بغضه لأهل الكلام والبدع. (¬3) - قال الربيع: سمعت الشافعي يقول: المراء في الدين يقسي القلب، ويورث الضغائن. (¬4) - جاء في درء التعارض عنه قال: ما ناظرت أحدا أحببت أن يخطئ إلا صاحب بدعة، فإني أحب أن ينكشف أمره للناس. (¬5) - وقال الزعفراني: حج بشر المريسي، فلما قدم قال: رأيت بالحجاز رجلا، ما رأيت مثله سائلا ولا مجيبا -يعني الشافعي- قال: فقدم علينا فاجتمع إليه الناس، وخفوا عن بشر فجئت إلى بشر فقلت: هذا الشافعي الذي كنت تزعم قد قدم، قال: إنه قد تغير عما كان عليه، قال: فما كان مثل بِشْر إلا مثل اليهود في شأن عبد الله بن سلام. (¬6) - قال أبو العباس الأصم: حدثنا الربيع بن سليمان: دخلت على الشافعي ¬

(¬1) السير (10/ 23) وذم الكلام (248). (¬2) ذم الكلام (247). (¬3) السير (10/ 26) وذم الكلام (249). (¬4) السير (10/ 28) وذم الكلام (251). (¬5) درء التعارض (7/ 249). (¬6) السير (10/ 44).

وهو مريض، فسألني عن أصحابنا فقلت: إنهم يتكلمون، فقال: ما ناظرت أحدا قط على الغلبة، وبودي أن جميع الخلق تعلموا هذا الكتاب -يعني كتبه- على أن لا ينسب إلي منه شيء. قال هذا يوم الأحد، ومات يوم الخميس، وانصرفنا من جنازته ليلة الجمعة، فرأينا هلال شعبان سنة أربع ومئتين، وله نيف وخمسون سنة. (¬1) - قال الميموني: سمعت أحمد يقول: سألت الشافعي عن القياس، فقال: عند الضرورات. (¬2) - قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: قال الشافعي: أنتم أعلم بالأخبار الصحاح منا، فإذا كان خبر صحيح، فأعلمني حتى أذهب إليه، كوفيا كان أو بصريا أو شاميا. (¬3) - وقال حرملة: قال الشافعي: كل ما قلته فكان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلاف قولي مما صح، فهو أولى، ولا تقلدوني. (¬4) - وفي آداب الشافعي عن أبي ثور: سمعته يقول: كل حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو قولي وإن لم تسمعوه مني. (¬5) - وعن أبي إسماعيل قال: أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم أخبرنا محمد بن عبد الله أخبرنا أبو الوليد حسان بن محمد الفقيه حدثنا إبراهيم بن محمد الكوفي -وكان من الإسلام بمكان- قال: رأيت الشافعي بمكة يفتي الناس، ¬

(¬1) السير (10/ 76). (¬2) السير (10/ 77). (¬3) السير (10/ 33) وطبقات الحنابلة (1/ 6). (¬4) السير (10/ 33) وآداب الشافعي (67 - 68) والحلية (9/ 106 - 107). (¬5) آداب الشافعي (94) والبداية (10/ 265).

ورأيت أحمد وإسحاق حاضرين، فقال الشافعي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وهل ترك لنا عقيل من دار" (¬1) فقال إسحاق: حدثنا يزيد عن الحسن وأخبرنا أبو نعيم وعبدة عن سفيان عن منصور عن إبراهيم أنهما لم يكونا يريانه، وعطاء وطاووس لم يكونا يريانه فقال الشافعي: من هذا؟ قيل: إسحاق بن إبراهيم الحنظلي بن راهويه، فقال الشافعي: أنت الذي يزعم أهل خراسان أنك فقيههم، ما أحوجني أن يكون غيرك في موضعك، فكنت آمر بعرْك أذنيه، أقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنت تقول: عطاء وطاووس ومنصور عن إبراهيم والحسن، وهل لأحد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة؟. (¬2) - وروى أبو الشيخ الحافظ وغيره من غير وجه أن الشافعي لما دخل مصر أتاه جلة أصحاب مالك، وأقبلوا عليه، فلما أن رأوه يخالف مالكا، وينقض عليه جفوه وتنكروا له، فأنشأ يقول: أأنثر درا بين سارحة النعم ... وأنظم منثورا لراعية الغنم لعمري لئن ضيعت في شر بلدة ... فلست مضيعا بينهم غرر الحكم فإن فرج الله اللطيف بلطفه ... وصادفت أهلا للعلوم وللحكم بثثت مفيدا واستفدت ودادهم ... وإلا فمخزون لدي ومكتتم ومن منح الجهال علما أضاعه ... ومن منع المستوجبين فقد ظلم وكاتم علم الدين عمن يريده ... يبوء بإثم زاد وإثم إذا كتم (¬3) ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (5/ 202) والبخاري (3/ 574/1588) ومسلم (2/ 984/1351) وأبو داود (2/ 514/2010) وابن ماجه (2/ 981/2942) والنسائي في الكبرى (2/ 480/4255) عن أسامة بن زيد. (¬2) السير (10/ 68) وذم الكلام (108). (¬3) السير (10/ 71).

قال أبو عبد الله بن منده: حدثت عن الربيع قال: رأيت أشهب بن عبد العزيز ساجدا يقول في سجوده: اللهم أمت الشافعي لا يذهب علم مالك فبلغ الشافعي، فأنشأ يقول: تمنى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى ... تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد وقد علموا لو ينفع العلم عندهم ... لئن مت ما الداعي علي بمخلد (¬1) - عن الربيع بن سليمان، قال: سمعت الشافعي يقول: صحبة من لا يخشى العار عار في القيامة. (¬2) - وعن الشافعي قال: لقد ضل من ترك حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقول من بعده. (¬3) - وعنه قال: كل مسألة تكلمت فيها صح الخبر فيها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أهل النقل بخلاف ما قلت، فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي. (¬4) - وقال: مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل، يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه وهو لا يدري. (¬5) - وعن البويطي قال: سمعت الشافعي يقول: عليكم بأصحاب الحديث ¬

(¬1) السير (10/ 72) والحلية (6/ 149 - 150). (¬2) الإبانة (2/ 3/466/ 462). (¬3) الفقيه والمتفقه (1/ 386). (¬4) ذم الكلام (108). (¬5) إعلام الموقعين (2/ 200).

موقفه من المشركين:

فإنهم أكثر الناس صوابا. (¬1) - وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه قال: كان الشافعي إذا ثبت عنده الخبر قلده، وخير خصلة كانت فيه أنه لم يكن يشتهي الكلام إنما همه الفقه. (¬2) - وأخرج الآجري من طريق أبي عثمان: سمعت أحمد بن حنبل يقول: كان أحسن أمر الشافعي أنه كان إذا سمع الخبر لم يكن عنده قال به، وترك قوله. (¬3) - وقال الربيع بن سليمان، قال الشافعي: من أبغض أحمد بن حنبل فهو كافر. فقلت: تطلق عليه اسم الكفر؟ فقال: نعم، من أبغض أحمد بن حنبل عاند السنة، ومن عاند السنة قصد الصحابة. ومن قصد الصحابة أبغض النبي، ومن أبغض النبي - صلى الله عليه وسلم - كفر بالله العظيم. (¬4) موقفه من المشركين: - قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن حد من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - القتل، وممن قاله مالك والليث وأحمد وإسحاق، وهو مذهب الشافعي. (¬5) - جاء في السير: ويروى عن الشافعي: لولا المحابر لخطبت الزنادقة ¬

(¬1) ذم الكلام (109) والسير (10/ 70). (¬2) ذم الكلام (249). (¬3) الصوارم والأسنة (ص.179). (¬4) طبقات الحنابلة (1/ 13). (¬5) الصارم (9).

موقفه من الرافضة:

على المنابر (¬1). - وفيها: عن الشافعي قال: خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة، يسمونه التغبير يشغلون به عن القرآن. (¬2) موقفه من الرافضة: - عن غيلان بن المغيرة المصري قال: سمعت الشافعي يقول: الخلفاء خمسة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز. (¬3) - عن المزني قال: أنشدني الشافعي من قيله: شهدت بأن الله لا شيء غيره ... وأشهد أن البعث حق وأخلص وأن عرى الإيمان قول مبين ... وفعل زكي قد يزيد وينقص وأن أبا بكر خليفة ربه ... وكان أبو حفص على الخير يحرص وأشهد ربي أن عثمان فاضل ... وأن عليا فضله متخصص أئمة قوم مقتدى بهداهم ... لحا الله من إياهم يتنقص فما لعتاة يشهدون سفاهة ... وما لسفيه لا يحيص ويخرص (¬4) - جاء في السير عن صالح جزرة: سمعت الربيع يقول: قال الشافعي: يا ربيع اقبل مني ثلاثة: لا تخوضن في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن خصمك النبي - صلى الله عليه وسلم - غدا، ولا تشتغل بالكلام فإني قد اطلعت من أهل الكلام على التعطيل، ¬

(¬1) السير (10/ 70). ذم الكلام (110). (¬2) السير (10/ 91). (¬3) أصول الاعتقاد (8/ 1474/2666) والسير (10/ 20). (¬4) أصول الاعتقاد (8/ 1474 - 1475/ 2668).

ولا تشتغل بالنجوم. (¬1) - وجاء في الإبانة عنه قال: لم أر أحدا من أصحاب الأهواء أكذب في الدعوى ولا أشهد بالزور من الروافض. (¬2) - قال ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية: وصح عن الشافعي أنه قال: خلافة أبي بكر رضي الله عنه حق قضاها الله في سمائه وجمع عليها قلوب عباده. (¬3) - وفي ذم الكلام عن البويطي قال: سألت الشافعي: أصلي خلف الرافضي؟ قال: لا تصل خلف الرافضي ولا القدري ولا المرجئ. قلت: صفهم لنا؟ قال: من قال: الإيمان قول فهو مرجئ ومن قال: إن أبا بكر وعمر ليسا بإمامين فهو رافضي، ومن جعل المشيئة إلى نفسه فهو قدري. (¬4) - وجاء في الشريعة: عن الربيع بن سليمان قال، سمعت الشافعي يقول: في الخلافة والتفضيل: لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي عنهم. (¬5) - عن الحسين بن علي، سمعت الشافعي يقول: العشرة أشكال لهم أن يغير بعضهم على بعض، والمهاجرون الأولون والأنصار لهم أن يغير بعضهم على بعض، ومسلمة الفتح أشكال لهم أن يغير بعضهم على بعض، فإذا ¬

(¬1) السير (10/ 28) والفتاوى الكبرى (5/ 245 - 246) وذم الكلام (251). (¬2) الإبانة (2/ 3/545/ 688) والمنهاج (1/ 61 - 62) والكفاية (126) والسير (10/ 89). (¬3) اجتماع الجيوش (154) ومجموع الفتاوى (5/ 53). (¬4) ذم الكلام (255 - 256) والسير (10/ 31). (¬5) الشريعة (3/ 20/1283) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 1174).

ذهب أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فحرام على تابع إلا اتباع بإحسان حذوا بحذو. (¬1) - جاء في السير: قال علي بن أحمد الدخمسيني: سمعت علي بن أحمد بن النضر الأزدي، سمعت أحمد بن حنبل، وسئل عن الشافعي، فقال: لقد من الله علينا به، لقد كنا تعلمنا كلام القوم، وكتبنا كتبهم، حتى قدم علينا، فلما سمعنا كلامه، علمنا أنه أعلم من غيره، وقد جالسناه الأيام والليالي، فما رأينا منه إلا كل خير، فقيل له: يا أبا عبد الله، كان يحيى وأبو عبيد لا يرضيانه -يشير إلى التشيع وأنهما نسباه إلى ذلك- فقال أحمد بن حنبل: ما ندري ما يقولان، والله ما رأينا منه إلا خيرا. قال الذهبي: من زعم أن الشافعي يتشيع فهو مفتر، لا يدري ما يقول. (¬2) - وفيها عن الربيع بن سليمان قال: حججنا مع الشافعي، فما ارتقى شرفا، ولا هبط واديا إلا وهو يبكي وينشد: يا راكبا قف بالمحصب من منى ... واهتف بقاعد خيفنا والناهض سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى ... فيضا كملتطم الفرات الفائض إن كان رفضا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي قال الذهبي: لو كان شيعيا -وحاشاه من ذلك- لما قال: الخلفاء الراشدون خمسة، بدأ بالصديق، وختم بعمر بن عبد العزيز. (¬3) ¬

(¬1) ذم الكلام (109). (¬2) السير (10/ 58). (¬3) السير (10/ 58 - 59).

موقفه من الصوفية:

- قال شيخ الإسلام وما أحسن ما قال الشافعي رحمه الله في رسالته: هم فوقنا (يعني أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -) في كل علم وعقل ودين وفضل، وكل سبب ينال به علم أو يدرك به هدى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا. (¬1) - وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: لا أرد شهادة أهل الأهواء، إلا الخطابية (¬2) فإنهم يعتقدون حل الكذب. (¬3) - وقال الشافعي: لم يختلف الصحابة والتابعون في تقديم أبي بكر وعمر. (¬4) موقفه من الصوفية: - قال الشافعي: لو أن رجلا تصوف أول النهار لا يأتي الظهر حتى يصير أحمق. وعنه أيضا أنه قال: ما لزم أحد الصوفية أربعين يوما فعاد عقله إليه أبدا. وأنشد الشافعي: ودعوا الذين إذا أتوك تنسكوا ... وإذا خلوا كانوا ذئاب حقاف (¬5) - وقال: خلفت ببغداد شيئا أحدثه الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن. (¬6) موقفه من الجهمية: - قال الإمام بن الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي: حدثنا أبو ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (4/ 158) ودرء التعارض (5/ 73) والمنهاج (6/ 81). (¬2) هم أتباع أبي الخطاب محمد بن أبي زينب وهم من غلاة الشيعة. (¬3) درء التعارض (1/ 94). (¬4) المنهاج (2/ 86). (¬5) التلبيس (447). (¬6) الفتاوى (10/ 77).

شعيب وأبو ثور عن أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى قال: القول في السنة التي أنا عليها ورأيت أصحابنا عليها أهل الحديث الذين رأيتهم وأخذت عنهم مثل سفيان ومالك وغيرهما، الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأن الله تعالى على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء، وأن الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا كيف شاء. (¬1) - وفي السير عن عبد الرحمن بن أبي حاتم، حدثنا يونس سمعت الشافعي يقول: نثبت هذه الصفات التي جاء بها القرآن، ووردت بها السنة وننفي التشبيه عنه كما نفى عن نفسه فقال: {ليس مثله شيءٌ} (¬2). (¬3) - وفي نقض المنطق لابن تيمية: يروى عن الشافعي: آمنت بما جاء عن الله وبما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مراد الله. (¬4) - جاء في السير وذم الكلام عن الربيع قال: سمعت الشافعي يقول في كتاب الوصايا: لو أن رجلا أوصى بكتبه من العلم لآخر وكان فيها كتب الكلام، لم تدخل في الوصية لأنه ليس من العلم. (¬5) - وفيهما أيضا عن الزعفراني قال: سمعت الشافعي يقول: ما ناظرت أحدا في الكلام إلا مرة، وأنا أستغفر الله من ذلك. (¬6) ¬

(¬1) اجتماع الجيوش (153 - 154). (¬2) الشورى الآية (11). (¬3) السير (20/ 341). (¬4) نقض المنطق (ص.2) ومجموع الفتاوى (6/ 354). (¬5) السير (10/ 30) وذم الكلام (253). (¬6) السير (10/ 30) وذم الكلام (253).

- وفي ذم الكلام قال المزني: كان الشافعي ينهى عن الخوض في الكلام. (¬1) - وفيه عن الشافعي قال: لو أردت أن أضع على كل مخالف كتابا كبيرا لفعلت، ولكن ليس الكلام من شأني ولا أحب أن ينسب إلي منه شيء. (¬2) - وفي أصول الاعتقاد عن الربيع بن سليمان: حضرت محمد بن إدريس الشافعي وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها، ما تقول في قول الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ ربهم يومئذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (¬3) قال الشافعي: فلما أن حجبوا هؤلاء في السخط كان في هذا دليل على أنهم يرونه في الرضى، قال الربيع: قلت يا أبا عبد الله وبه تقول؟ قال نعم، وبه أدين الله، لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى الله لما عبد الله تعالى. (¬4) - جاء في الإبانة: سمع الشافعي رجلين يتكلمان في الكلام فقال: إما أن تجاورونا بخير وإما أن تقوما عنا. (¬5) - وفيها عنه قال: والله لأن يبتلى المرء بكل ما نهى الله عنه ما عدا الشرك به، خير من النظر في الكلام. (¬6) ¬

(¬1) ذم الكلام (254). (¬2) ذم الكلام (256). (¬3) المطففين الآية (15). (¬4) أصول الاعتقاد (3/ 560/883). (¬5) الإبانة (2/ 534/660) ومثله في أصول الاعتقاد (1/ 166/304) وذم الكلام (253) ودرء التعارض (7/ 245). (¬6) الإبانة (2/ 534/661) وأصول الاعتقاد (1/ 165/300) والبداية والنهاية (10/ 294).

- وفيها عن أبي ثور: قال لي الشافعي: يا أبا ثور، ما رأيت أحدا ارتدى شيئا من الكلام فأفلح. (¬1) - وجاء في أصول الاعتقاد عنه قال: من قال القرآن مخلوق فهو كافر. (¬2) - وجاء في ذم الكلام عن المزني قال: كنت أنظر في الكلام قبل أن يقدم الشافعي، فلما قدم الشافعي أتيته فسألته عن مسألة في الكلام فقال لي أتدري أين أنت؟ قال: قلت نعم، أنا في المسجد بالفسطاط فقال لي: أنت في تاران، قال أبو القاسم: وتاران موضع في بحر القلزم لا يكاد تسلم منه سفينة، قال: ثم ألقى علي مسألة في الفقه فأجبت فيها، فأدخل شيئا أفسد جوابي فأجبت بغير ذلك فأدخل شيئا أفسد جوابي، فجعلت كلما أجبت بشيء أفسده قال: ثم قال لي: هذا الفقه الذي فيه الكتاب والسنة وأقاويل الناس يدخله مثل هذا، فكيف الكلام في رب العالمين الذي الزلل فيه كفر، فتركت الكلام وأقبلت على الفقه. (¬3) - وفي آداب الشافعي عن يونس: سمعت الشافعي يقول: قالت لي أم المريسي كلم بشرا أن يكف عن الكلام، فكلمته فدعاني إلى الكلام. (¬4) - وفي شرف أصحاب الحديث عن الشافعي أنه قال: حكمي في ¬

(¬1) الإبانة (2/ 530/666) وأصول الاعتقاد (1/ 165 - 166/ 303) وآداب الشافعي (186) والحلية (9/ 111) والسير (10/ 18). (¬2) أصول الاعتقاد (2/ 278 - 279/ 419) والإبانة (2/ 52/250) والبداية والنهاية (10/ 265). (¬3) ذم الكلام (ص.249). (¬4) آداب الشافعي (187) والإبانة (2/ 103/346) وتاريخ بغداد (7/ 59) والحلية (9/ 110 - 111).

أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد، ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في العشائر والقبائل فينادى عليهم، هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام- يعني أهل البدع. (¬1) - وفي السير وذم الكلام قال الحسين بن إسماعيل المحاملي: قال المزني: سألت الشافعي عن مسألة من الكلام، فقال: سلني عن شيء إذا أخطأت فيه قلت أخطأت، ولا تسألني عن شيء إذا أخطأت فيه قلت كفرت. (¬2) - وفي ذم الكلام والحلية: سئل الشافعي عن شيء من الكلام فغضب وقال سل عن هذا حفصا الفرد وأصحابه أخزاهم الله. (¬3) - وفي الأسماء والصفات للبيهقي والحلية عن الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول: من حلف باسم من أسماء الله تعالى فحنث فعليه الكفارة، لأن اسم الله غير مخلوق، ومن حلف بالكعبة وبالصفا والمروة فليس عليه كفارة، لأنه مخلوق، وذاك غير مخلوق. (¬4) - وفي السير وذم الكلام عن يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يقول: إذا سمعت الرجل يقول الاسم غير المسمى والشيء غير الْمُشَيِّ فاشهد عليه بالزندقة. (¬5) ¬

(¬1) شرف أصحاب الحديث (ص.78) وجامع بيان العلم (2/ 941) وذم الكلام (252) وتلبيس إبليس (102) والاعتصام (1/ 227) والمنهاج (2/ 138 - 139 و610) ومجموع الفتاوى (5/ 119) والبداية والنهاية (10/ 265). (¬2) ذم الكلام (250) وطبقات الحنابلة (2/ 154) والمنهاج (5/ 251) والسير (10/ 28). (¬3) ذم الكلام (251) والحلية (9/ 111) وجامع بيان العلم (2/ 940). (¬4) أصول الاعتقاد (2/ 236/343 - 344) والحلية (9/ 113) وآداب الشافعي (193) والأسماء والصفات (256 - 257) والإبانة (1/ 274/42). (¬5) ذم الكلام (253) والسير (10/ 30) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 941) بنحوه.

- وفي الحلية وذم الكلام عن ابن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه كما يفرون من الأسد. (¬1) - وفي طبقات الحنابلة عن ابن أبي حاتم قال: حدثنا يونس بن عبد الأعلى المصري قال: سمعت الشافعي يقول وقد سئل عن صفات الله وما ينبغي أن يؤمن به؟ فقال: لله تبارك وتعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه - صلى الله عليه وسلم - أمته لا يسع أحدا من خلق الله قامت عليه الحجة ردها أن القرآن نزل به وصح عنه بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما روى عنه العدل، فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه، فهو بالله كافر، فأما قبل ثبوت الحجة عليه من جهة الخبر، فمعذور بالجهل، لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا بالروية والفكر ونحو ذلك أخبار الله سبحانه وتعالى، أتانا أنه سميع وأن له يدين بقوله: {بَلْ يداه مَبْسُوطَتَانِ} (¬2) وأن له يمينا بقوله: {وَالسَّماوَاتُ مطوياتٌ بيمينه} (¬3)، وأن له وجها بقوله: {كل شَيْءٍ هَالِكٌ إِلًّا وجهه} (¬4) وقوله: {ويبقى وَجْه ربك ذو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (¬5) وأن له قدما بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "حتى يضع الرب فيها قدمه" (¬6) يعني جهنم، وأنه يضحك من ¬

(¬1) الحلية (9/ 111) وذم الكلام (255) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 941) ودرء التعارض (7/ 245) والسير (10/ 16). (¬2) المائدة الآية (64). (¬3) الزمر الآية (67). (¬4) القصص الآية (88). (¬5) الرحمن الآية (27). (¬6) انظر تخريجه في مواقف عبد العزيز بن عبد الله الماجشون سنة (164هـ).

عبده المؤمن بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للذي قتل في سبيل الله "إنه لقي الله وهو يضحك إليه" (¬1) وأنه يهبط كل ليلة إلى سماء الدنيا بخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك (¬2) وأنه ليس بأعور بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ ذكر الدجال فقال: "إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور" (¬3) وأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم كما يرون القمر ليلة البدر (¬4)، وأن له إصبعا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل" (¬5) فإن هذه المعاني التي وصف الله بها نفسه ووصفه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - مما لا يدرك حقيقته بالفكر والروية، فلا يكفر بالجهل بها أحد إلا بعد انتهاء الخبر إليه بها. فإن كان الوارد بذلك خبرا يقوم في الفهم مقام المشاهدة في السماع وجبت الدينونة على سامعه بحقيقته والشهادة عليه كما عاين وسمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن يثبت هذه الصفات وينفي التشبيه كما ¬

(¬1) أخرجه من طريق إسماعيل بن عياش عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة عن نعيم بن همار: أحمد (5/ 287) وأبو يعلى (12/ 258 - 259/ 6855) وسعيد بن منصور في سننه (2/ 219/2566 تحقيق الأعظمي) والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 410 - 411/ 986) وذكره الهيثمي في المجمع (5/ 292) وقال: "رواه أحمد وأبو يعلى ... ورجال أحمد وأبي يعلى ثقات" .. وهو كما قال، غير إسماعيل بن عياش فهو يخلط عن غير أهل بلده، وقد روى هنا عن بحير بن سعد وهو ثقة من أهل بلده فارتفع بذلك الخلط. ولفظه عن نعيم بن همار أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاءه رجل فقال: أي الشهداء أفضل؟ قال:"الذين يلقون في الصف فلا يقلبون وجوههم حتى يقتلوا أولئك يتلبطون في الغرف العليا من الجنة يضحك إليهم ربك، وإذا ضحك في موطن فلا حساب عليه". (¬2) تقدم من حديث أبي هريرة. انظر مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ). (¬3) جزء من حديث طويل أخرجه: أحمد (2/ 149) والبخاري (6/ 211/3057) ومسلم (4/ 2245/2931 (169)) وأبو داود (4/ 503/4229) دون ذكر محل الشاهد. والترمذي (4/ 440/2235) عن ابن عمر رضي الله عنهما. (¬4) انظر تخريجه في مواقف عبد العزيز الماجشون سنة (164هـ). (¬5) أخرجه من حديث النواس بن سمعان: أحمد (4/ 182) والنسائي في الكبرى (4/ 414/7738) وابن ماجه (1/ 72/199). وقال في الزوائد: "إسناده صحيح".

نفى ذلك عن نفسه تعالى ذكره، فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬1). (¬2) - وفي السير قال علي بن محمد بن أبان القاضي: حدثنا أبو يحيى زكريا الساجي حدثنا المزني قال: قلت: إن كان أحد يخرج ما في ضميري وما تعلق به خاطري من أمر التوحيد فالشافعي، فصرت إليه وهو في مسجد مصر فلما جثوت بين يديه قلت: هجس في ضميري مسألة في التوحيد، فعلمت أن أحدا لا يعلم علمك، فمن الذي عندك؟ فغضب ثم قال: أتدري أين أنت؟ قلت نعم قال: هذا الموضع الذي أغرق الله فيه فرعون. أبلغك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالسؤال عن ذلك، قلت: لا، قال: هل تكلم فيه الصحابة؟ قلت: لا، قال: تدري كم نجما في السماء؟ قلت: لا، قال: فكوكب منها تعرف جنسه، طلوعه، أفوله، مم خلق؟ قلت: لا، قال: فشيء تراه بعينك من الخلق لست تعرفه تتكلم في علم خالقه؟ ثم سألني عن مسألة في الوضوء فأخطأت فيها، ففرعها على أربعة أوجه، فلم أصب في شيء منه، فقال: شيء تحتاج إليه في اليوم خمس مرات تدع علمه وتتكلف علم الخالق، إذا هجس في ضميرك ذلك فارجع إلى الله وإلى قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬3) الآية، فاستدل ¬

(¬1) الشورى الآية (11). (¬2) طبقات الحنابلة (1/ 283 - 284) ومجموع الفتاوى (4/ 182 - 183). (¬3) البقرة الآيتان (163 - 164).

بالمخلوق على الخالق، ولا تتكلف علم ما لم يبلغه عقلك. قال: فتبت. (¬1) - وفي آداب الشافعي عن الربيع بن سليمان قال: حضرت الشافعي أو حدثني أبو شعيب إلا أني أعلم أنه حضر عبد الله بن عبد الحكم ويوسف بن عمرو بن يزيد وحفص الفرد وكان الشافعي يسميه حفصا المنفرد فسأل حفص عبد الله بن عبد الحكم فقال: ما تقول في القرآن؟ فأبى أن يجيبه، فسأل يوسف بن عمرو بن يزيد، فلم يجبه، وأشار إلى الشافعي، فسأل الشافعي واحتج عليه فطالت فيه المناظرة، فقام الشافعي بالحجة عليه بأن القرآن كلام الله غير مخلوق وبكفر حفص. قال الربيع: فلقيت حفصا، فقال: أراد الشافعي قتلي. (¬2) - وفي مناقب الشافعي والسير عن زكريا الساجي: سمعت محمد بن إسماعيل سمعت حسين بن علي الكرابيسي يقول: شهدت الشافعي ودخل عليه بشر المريسي فقال لبشر: أخبرني عما تدعو إليه، أكتاب ناطق وفرض مفترض وسنة قائمة ووجدت عن السلف البحث فيه والسؤال؟ فقال بشر: لا، إلا أنه لا يسعنا خلافه، فقال الشافعي، أقررت بنفسك على الخطأ فأين أنت عن الكلام في الفقه والأخبار يواليك الناس وتترك هذا، قال: لنا نهمة فيه، فلما خرج بشر قال الشافعي: لا يفلح. (¬3) - وقال في خطبة رسالته: الحمد لله الذي لا يؤدي شكر نعمة من ¬

(¬1) السير (10/ 31 - 32). (¬2) آداب الشافعي (194 - 195) والحلية (9/ 112) ومناقب الشافعي (1/ 455) وأصول الاعتقاد (2/ 279/421) والشريعة (1/ 223 - 224/ 190) وذم الكلام (254). (¬3) مناقب الشافعي (1/ 204) والسير (10/ 27).

نعمه إلا بنعمة منه، توجب مؤدى ماضي نعمه بأدائها: نعمة حادثة يجب عليه شكره بها، ولا يبلغ الواصفون كنه عظمته الذي هو كما وصف به نفسه وفوق ما يصفه به خلقه. (¬1) - جاء في السير: -قال- الحاكم: سمعت أبا سعيد بن أبي عثمان، سمعت الحسن بن صاحب الشاشي، سمعت الربيع، سمعت الشافعي وسئل عن القرآن؟ فقال: أف أف، القرآن كلام الله من قال: مخلوق فقد كفر. هذا إسناد صحيح. (¬2) - وفيها: زكريا الساجي: حدثني أحمد بن مردك الرازي سمعت عبد الله ابن صالح صاحب الليث يقول: كنا عند الشافعي في مجلسه، فجعل يتكلم في تثبيت خبر الواحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكتبناه، وذهبنا به إلى إبراهيم بن علية، وكان من غلمان أبي بكر الأصم، وكان في مجلسه عند باب الصوفي، فلما قرأنا عليه جعل يحتج بإبطاله، فكتبنا ما قال، وذهبنا به إلى الشافعي فنقضه وتكلم بإبطاله، ثم كتبناه، وجئنا به إلى ابن علية، فنقضه ثم جئنا به إلى الشافعي فقال: إن ابن علية ضال، قد جلس بباب الضوال يضل الناس. قال الذهبي: كان إبراهيم من كبار الجهمية، وأبوه إسماعيل شيخ المحدثين إمام. (¬3) - وفيها: وقال أبو نعيم: حدثنا الحسن بن سعيد حدثنا زكريا الساجي ¬

(¬1) الرسالة (ص.7 - 8) وإعلام الموقعين (4/ 248). (¬2) السير (10/ 18). (¬3) السير (10/ 23 - 24).

سمعت البويطي سمعت الشافعي يقول: إنما خلق الله الخلق بكن، فإذا كانت (كن) مخلوقة فكأن مخلوقا خلق بمخلوق. (¬1) - وفيها: الزبير بن عبد الواحد: أخبرني علي بن محمد بمصر، حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: كان الشافعي بعد أن ناظر حفصا الفرد يكره الكلام، وكان يقول: والله لأن يفتي العالم، فيقال: أخطأ العالم خير له من أن يتكلم فيقال: زنديق، وما شيء أبغض إلي من الكلام وأهله. (¬2) - وفيها: وقال أبو عبد الرحمن السلمي: سمعت عبد الرحمن بن محمد بن حامد السلمي، سمعت محمد بن عقيل بن الأزهر يقول: جاء رجل إلى المزني يسأله عن شيء من الكلام، فقال: إني أكره هذا، بل أنهى عنه كما نهى عنه الشافعي، لقد سمعت الشافعي يقول: سئل مالك عن الكلام والتوحيد فقال: محال أن نظن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه علم أمته الاستنجاء، ولم يعلمهم التوحيد، والتوحيد ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" (¬3) فما عصم به الدم والمال حقيقة التوحيد. (¬4) - وفيها: وعن الشافعي: حكمي في أهل الكلام حكم عمر في صبيغ. - وقال أبو عبد الرحمن الأشعري صاحب الشافعي: قال الشافعي: مذهبي في أهل الكلام تقنيع رؤوسهم بالسياط، وتشريدهم في البلاد. ¬

(¬1) السير (10/ 88). (¬2) السير (10/ 18). (¬3) البخاري (13/ 311/7284 و7285) ومسلم (1/ 51 - 52/ 20) وأبو داود (2/ 198/1556) والترمذي (5/ 5 - 6/ 2607) والنسائي (7/ 88/3980) من حديث أبي هريرة. (¬4) السير (10/ 26).

قال الذهبي: لعل هذا متواتر عن الإمام. (¬1) - عن الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول: دخلت بغداد؛ فنزلت على بشر المريسي فأنزلني في غرفة له، فقالت أمه: لم جئت إلى هذا؟ قلت: لأسمع العلم. فقالت لي: هذا زنديق. (¬2) - عن محمد الجرجاني سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول -وناظره رجل من أهل العراق- فخرج إلى شيء من الكلام فقال: هذا من الكلام دعه. (¬3) - عن يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي: تعلم يا أبا موسى لقد اطلعت من أصحاب الكلام على شيء ما ظننت أن مسلما يقول ذلك. (¬4) - عن عبد العزيز الجروي قال: كان الشافعي ينهى النهي الشديد عن الكلام في الأهواء ويقول: أحدهم إذا خالفه صاحبه قال: كفرت، والعلم فيه إنما يقال: أخطأت. (¬5) - عن الربيع قال: أنشدنا الشافعي في ذم الكلام: لم يبرح الناس حتى أحدثوا بدعا ... في الدين بالرأي لم تبعث بها الرسل حتى استخف بدين الله أكثرهم ... وفي الذي حملوا من خفة شغل (¬6) ¬

(¬1) السير (10/ 29). (¬2) الإبانة (2/ 13/102/ 345) وتاريخ بغداد (7/ 59). (¬3) أصول الاعتقاد (1/ 164 - 165/ 299) وآداب الشافعي (185). (¬4) أصول الاعتقاد (1/ 165/301) وآداب الشافعي (182). (¬5) أصول الاعتقاد (1/ 165/302) وآداب الشافعي (185). (¬6) ذم الكلام (256).

موقفه من الخوارج:

موقفه من الخوارج: - قال الشافعي رحمه الله تعالى: ولو أن قوما أظهروا رأي الخوارج، وتجنبوا جماعات الناس وكفروهم، لم يحلل بذلك قتالهم، لأنهم على حرمة الإيمان، لم يصيروا إلى الحال التي أمر الله عز وجل بقتالهم فيها. بلغنا أن عليا رضي الله تعالى عنه بينا هو يخطب إذ سمع تحكيما من ناحية المسجد: لا حكم إلا لله عز وجل. فقال علي رضي الله تعالى عنه: كلمة حق أريد بها باطل، لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفيء ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدؤكم. (¬1) - قال الشافعي رحمه الله: أخبرنا عبد الرحمن بن الحسن بن القاسم الأرزقي الغساني عن أبيه أن عديا كتب لعمر بن عبد العزيز أن الخوارج عندنا يسبونك، فكتب إليه عمر بن عبد العزيز: إن سبوني فسبوهم أو اعفوا، وإن أشهروا السلاح فأشهروا عليهم، وإن ضربوا فاضربوهم. قال الشافعي رحمه الله تعالى: وبهذا كله نقول. (¬2) موقفه من المرجئة: - عن محمد بن محمد الشافعي: سمعت أبي محمد بن إدريس الشافعي يقول ليلة للحميدي: ما تحتج عليهم -يعني أهل الارجاء- بآية أحج من قوله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا ¬

(¬1) ابن أبي شيبة (7/ 562/37930) ومن طريقه البيهقي (8/ 184). (¬2) كتاب الأم (4/ 309).

الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (¬1). (¬2) - وفي ذم الكلام عن البويطي قال: سألت الشافعي: أصلي خلف الرافضي؟ قال: لا تصل خلف الرافضي ولا القدري ولا المرجئ قال: قلت: صفهم لنا؟ قال: من قال إن الإيمان قول فهو مرجئ ومن قال: إن أبا بكر وعمر ليسا بإمامين فهو رافضي، ومن جعل المشيئة إلى نفسه فهو قدري. (¬3) - عن أبي حاتم قال: سمعت حرملة بن يحيى يناظر رجلين بحضرة الشافعي بمصر في دار الجروي في الإيمان، فقال أحدهما: إن الإيمان قول، فحمي الشافعي من ذلك وتقلد المسألة على أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. فطحن الرجل وقطعه. (¬4) - وقال الشافعي رحمه الله في كتاب 'الأم' في باب النية في الصلاة: نحتج بأن لا تجزي صلاة إلا بنية لحديث عمر بن الخطاب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنية" (¬5) ثم قال: وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ممن أدركناهم: أن الإيمان قول وعمل ونية ولا يجزي واحد من الثلاثة إلا بالآخر. (¬6) - وجاء في السير: عن أبي ثور: قلت للشافعي: ضع في الإرجاء كتابا، ¬

(¬1) البينة الآية (5). (¬2) الإبانة (2/ 826/1118) وأصول الاعتقاد (5/ 956/1592) والسنة للخلال (3/ 590/1038). (¬3) ذم الكلام (255 - 256). (¬4) الإبانة (2/ 826/1119) وأصول الاعتقاد (5/ 1034/1751). (¬5) أحمد (1/ 25) والبخاري (1/ 11/1) ومسلم (3/ 1515 - 1516/ 1907) وأبو داود (2/ 651 - 652/ 2201) والترمذي (4/ 154/1647) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (1/ 62 - 63/ 75) وابن ماجه (2/ 1413/4227) من حديث عمر. (¬6) أورده اللالكائي في أصول الاعتقاد (5/ 956 - 957/ 1593) ولم نقف عليه في كتاب الأم.

موقفه من القدرية:

فقال: دع هذا. فكأنه ذم الكلام. (¬1) موقفه من القدرية: - جاء في أصول الاعتقاد عنه قال: لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله، خير له من أن يلقاه بشيء من هذه الأهواء، وذلك أنه رأى قوما يتجادلون في القدر بين يديه، فقال الشافعي: أخبر الله في كتابه أن المشيئة له دون خلقه والمشيئة إرادة الله، يقول الله عز وجل: وَمَا {وما تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يشاء اللَّهُ} (¬2) فأعلم خلقه أن المشيئة له، -وكان يثبت القدر-. (¬3) - وجاء في أصول الاعتقاد عن محمد بن يحيى بن آدم قال: سمعت المزني يقول: قال الشافعي: تدري من القدري؟ القدري: الذي يقول إن الله لم يخلق الشيء حتى عمل به. قال المزني والشافعي بكفره. (¬4) - وقال الربيع بن سليمان: كنت جالسا عند الشافعي، وذكر القدر، فأنشأ يقول: ما شِئْتَ كان وإن لم أَشَأ ... وما شِئْتُ إن لم تَشَأ لم يكن خلقت العباد على ما علمت ... ففي العلم يجري الفتى والمسن على ذا مننت وهذا خذلت ... وهذا أعنت وذا لم تعن فمنهم شقي ومنهم سعيد ... ومنهم قبيح ومنهم حسن (¬5) ¬

(¬1) السير (10/ 30). (¬2) التكوير الآية (29). (¬3) أصول الاعتقاد (3/ 629/1013) والإبانة (2/ 10/262 - 263/ 1881) وبنحوه في ذم الكلام (251) وفي جامع بيان العلم وفضله (2/ 939) وفي السير (10/ 16). (¬4) أصول الاعتقاد (4/ 776/1302). (¬5) أصول الاعتقاد (4/ 776 - 777/ 1304).

شاذ بن يحيى الواسطي (204 هـ)

- وعن الربيع عن الشافعي أنه قال: لو حلف رجل فقال: والله لا أفعل كذا وكذا إلا أن يشاء الله وإلا أن يقدر الله فأراد به القدر فلا شيء عليه. (¬1) - وفي ذم الكلام عن الشافعي أنه كان يكره الصلاة خلف القدري. وقال أبو يحيى: حدثنا إبراهيم بن زياد الأيلي سمعت البويطي يقول: سألت الشافعي: أصلي خلف الرافضي؟ قال: لا تصل خلف الرافضي ولا القدري ولا المرجئ، قال: قلت: صفهم لنا؟ قال: من قال: إن الايمان قول فهو مرجئ ومن قال: إن أبا بكر وعمر ليسا بإمامين فهو رافضي، ومن جعل المشيئة إلى نفسه فهو قدري. (¬2) شَاذ بن يَحْيى الواسطي (¬3) (204 هـ) روى عن وكيع بن الجراح ويزيد بن هارون. وروى عنه أحمد بن سنان القطان وأحمد بن محمد بن أيوب الواسطي بلبل وتميم بن المنتصر الواسطي وغيرهم. قال أبو داود: سمعت أحمد قيل له: شاذ بن يحيى؟ قال: عرفته، وذكره بخير. توفي سنة أربع ومائتين. موقفه من المبتدعة: جاء في أصول الاعتقاد عنه قال: ليس طريق أقصد إلى الجنة من طريق ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 777/1305). (¬2) ذم الكلام (255 - 256) والسير (10/ 31). (¬3) السير (10/ 434) والجرح والتعديل (2/ 39) وتهذيب الكمال (12/ 341 - 342).

موقفه من الجهمية:

من سلك الآثار. (¬1) " التعليق: لأنه هو الذي تكفل الله ببيانه وجعل الهداية فيه، وأما طرق المبتدعة فهي الظن والتخمين والهوى، فكيف تكون موصلة للجنة؟ موقفه من الجهمية: قال عبد الله بن أحمد في السنة حدثني إبراهيم بن عبد الله بن بشار الواسطي قال سمعت شاذ بن يحيى يناظر يزيد بن هارون في شيء من أمر المريسي وهو يدعو عليه وجعل شاذ يلعن المريسي. (¬2) النَّضْر بن شُمَيْل المَازِنِي (¬3) (204 هـ) الإمام الحافظ العلامة، أبو الحسن المازني البصري النحوي نزيل مرو وعالمها. ولد في حدود سنة اثنتين وعشرين ومائة. قال أحمد بن سعيد الدارمي سمعته يقول: خرج بي أبي من مرو الروذ وأنا ابن خمس أو ست سنين إلى البصرة وقت الفتنة، يعني فتنة ظهور أبي مسلم سنة ثمان وعشرين ومائة. حدث عن هشام بن عروة وبهز بن حكيم وابن عون وحميد الطويل ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (1/ 98/112). (¬2) السنة لعبد الله (38). (¬3) طبقات ابن سعد (7/ 373) والتاريخ الكبير (8/ 90) وتهذيب الكمال (29/ 379 - 384) وتهذيب التهذيب (10/ 437) وتذكرة الحفاظ (1/ 314) والسير (9/ 328 - 332) والبداية والنهاية (10/ 266) وشذرات الذهب (2/ 7).

موقفه من المرجئة:

وشعبة وحماد بن سلمة وخلق كثير. وعنه يحيى بن معين، وابن راهويه وأبو محمد الدارمي وأمم سواهم. سئل ابن المبارك عن النضر بن شميل فقال: درة بين مروين ضائعة، يعني كورة مرو، وكورة مرو الروذ. وقال أيضا: ذاك أحد الأحدين، لم يكن أحد من أصحاب الخليل بن أحمد يدانيه. وقال العباس بن مصعب: كان النضر إماما في العربية والحديث، وهو أول من أظهر السنة بمرو وجميع خراسان، وكان أروى الناس عن شعبة وخرج كتبا كثيرة لم يسبقه إليها أحد، ولي قضاء مرو. ومناقبه كثيرة. توفي في أول سنة أربع ومائتين وهو ابن ثمانين. موقفه من المرجئة: عن إبراهيم بن شماس: سمعت النضر بن شميل يقول: الإيمان قول وعمل. (¬1) معروف الكرخي (204 هـ) موقفه من المشركين: جاء في السير: وقيل: كان أبواه نصرانيين، فأسلماه إلى مؤدب كان يقول له! قل: ثالث ثلاثة، فيقول معروف: بل هو الواحد، فيضربه، فيهرب، فكان والداه يقولان: ليته رجع، ثم إن أبويه أسلما. (¬2) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 812/1109) والسنة لعبد الله (85). (¬2) السير (9/ 339).

عبد الله بن نافع الصائغ (206 هـ)

عبد الله بن نافع الصائغ (¬1) (206 هـ) عبد الله بن نَافِع بن أبي نافع الصَّائِغ القرشي، المخزومي مولاهم، أبو محمد المدني. روى عن أسامة بن زيد الليثي وداود الفراء وابن أبي الزناد والليث بن سعد ومالك بن أنس وبه تفقه وأكثر عنه. روى عنه أحمد بن صالح المصري والخلال، والزبير بن بكار وسحنون ويونس بن عبد الأعلى. قال ابن سعد: كان قد لزم مالك بن أنس لزوما شديدا لا يقدم عليه أحدا. قال أحمد بن حنبل: كان صاحب رأي مالك، ومفتي أهل المدينة برأي مالك. قال رحمه الله: صحبت مالكا أربعين سنة ما كتبت عنه شيئا وإنما كان حفظا أتحفظه. له تفسير في الموطأ رواه عنه يحيى بن يحيى. توفي بالمدينة في رمضان سنة ست ومائتين. موقفه من الجهمية والمرجئة: عن أبي الحسن بن العطار -محمد بن محمد- قال سمعت سريج بن النعمان يقول: سألت عبد الله بن نافع وقلت له: إن قبلنا من يقول: القرآن مخلوق؟ فاستعظم ذلك ولم يزل موجعا حزينا يسترجع. قال عبد الله يعني ابن نافع، قال مالك: من قال القرآن مخلوق يؤدب ويحبس حتى تعلم توبته. وقال مالك: الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص، وقال مالك: الله في السماء وعلمه في كل مكان لا يخلو من علمه مكان. وقال مالك: القرآن كلام الله. وهكذا ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (5/ 438) والتاريخ الكبير (5/ 213) وتهذيب الكمال (16/ 208 - 212) والسير (10/ 371 - 374) وتهذيب التهذيب (6/ 51 - 52) وشذرات الذهب (2/ 15) تاريخ الإسلام (حوادث 201 - 210/ص.221 - 222) والديباج المذهب (1/ 409 - 410).

أبو عمرو الشيباني اللغوي (206 هـ)

قال عبد الله بن نافع في هذا كله. (¬1) أبو عمرو الشَّيْبَانِي اللغوي (¬2) (206 هـ) إسحاق بن مِرَار النحوي اللغوي الكوفي نزيل بغداد، روى عن أبي عمرو بن العلاء وركين الشامي. وعنه ابنه عمرو وأحمد بن حنبل وأبو عبيد القاسم بن سلام وأحمد بن إبراهيم الدورقي وغيرهم. قال أبو بكر بن الأنباري: كان أبو عمرو الشيباني يقال له أبو عمرو صاحب ديوان اللغة والشعر، وكان خيرا فاضلا صدوقا. قال عبد الله بن أحمد: كان أبي يلزم مجالس أبي عمرو ويكتب أماليه. قال عمرو بن أبي عمرو: لما جمع أبي أشعار العرب كانت نيفا وثمانين قبيلة، فكان كلما عمل منها قبيلة وأخرجها إلى الناس كتب مصحفا وجعله في مسجد الكوفة، حتى كتب نيفا وثمانين مصحفا بخطه. قال محمد بن إسحاق النديم كان راوية واسع العلم بصيرا باللغة ثقة في الحديث. مات سنة ست ومائتين وقيل عشر ومائتين، وبلغ من العمر مائة وعشرين سنة. وكان يكتب بيده إلى أن مات. موقفه من الجهمية: قال عبد الله بن أحمد في السنة: حدثت عن شيخ من أصحاب الحديث أنه سمع أبا عمرو الشيباني يقول لإسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة، وقال ¬

(¬1) السنة لعبد الله (41) وأصول الاعتقاد (2/ 347/497). (¬2) تاريخ بغداد (6/ 329 - 332) وتهذيب الكمال (34/ 134) وتهذيب التهذيب (12/ 182 - 184) وشذرات الذهب (2/ 23) تاريخ الإسلام (حوادث 201 - 210/ص.54) ووفيات الأعيان (1/ 201 - 202).

يزيد بن هارون (206 هـ)

القرآن مخلوق، فقلت: خلقه قبل أن يتكلم به أو بعد ما تكلم به، قال فسكت. (¬1) يزيد بن هارون (¬2) (206 هـ) ابن زَاذي ويقال ابن زَاذَان بن ثابت السلمي، أبو خالد الواسطي القدوة شيخ الإسلام روى عن أبان بن أبي عياش، وأبان بن يزيد العطار وإبراهيم بن سعد الزهري. وروى عنه إبراهيم بن يعقوب الجورجاني وأحمد ابن خالد الخلال، وأحمد بن خلاد. قال أحمد بن سنان: ما رأيت عالما أحسن صلاة من يزيد بن هارون يقوم كأنه أسطوانة يصلي بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، لم يكن يفتر من صلاة الليل والنهار. هو وهشيم معروفان بطول صلاة الليل والنهار. وقال أبو زرعة: سمعت أبا بكر بن أبي شيبة يقول: ما رأيت أتقن حفظا من يزيد بن هارون، قال أبو زرعة: والإتقان أكثر من حفظ السرد. مات أول سنة ست ومائتين. موقفه من المبتدعة: أخرج الخطيب عن عمران بن حصين قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال ¬

(¬1) السنة لأبي عبد الله (33). (¬2) تاريخ ابن معين (2/ 377) وطبقات ابن سعد (7/ 314 - 315) والجرح والتعديل (9/ 295) ومشاهير علماء الأمصار (177 - 178) وتاريخ بغداد (14/ 337 - 347) وتهذيب الكمال (32/ 261 - 270) وتذكرة الحفاظ (1/ 317 - 320) وشذرات الذهب (2/ 16).

موقفه من الرافضة:

طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة" (¬1). قال يزيد بن هارون: إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم .. ؟. (¬2) موقفه من الرافضة: - قال أبو سعيد: وسمعت الدقيقي يقول: سمعت يزيد بن هارون يقول: لا يصلى خلف الرافضي. (¬3) - قال يزيد بن هارون: يكتب عن كل صاحب بدعة إذا لم يكن داعية إلا الرافضة فإنهم يكذبون. (¬4) موقفه من الجهمية: - روى الخطيب بسنده إلى يحيى بن أكثم قال: قال لنا المأمون: لولا مكان يزيد بن هارون، لأظهرت: القرآن مخلوق. فقال بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين، ومن يزيد حتى يكون يتقى؟ قال: فقال ويحك، إني لا أتقيه لأن له سلطانا أو سلطنة ولكن أخاف إن أظهرته فيرد علي فيختلف الناس وتكون فتنة وأنا أكره الفتنة. قال: فقال له الرجل فأنا أخبر لك ذلك منه. قال: فقال له: نعم قال: فخرج إلى واسط فجاء إلى يزيد فدخل عليه المسجد وجلس إليه. فقال له: يا أبا خالد، إن أمير المؤمنين يقرئك السلام ويقول لك: إني أريد أن أظهر القرآن مخلوق. فقال: كذبت على أمير المؤمنين، أمير المؤمنين ¬

(¬1) أحمد (4/ 437) وأبو داود (3/ 11/2484) والحاكم (4/ 450) وقال: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي. (¬2) المحدث الفاصل (177 - 178) وشرف أصحاب الحديث (ص.26). (¬3) الشريعة (3/ 567/2082). (¬4) المنهاج (1/ 60) والميزان (1/ 28).

لا يحمل الناس على مالا يعرفونه، فإن كنت صادقا فاقعد إلى المجلس فإذا اجتمع الناس فقل. قال: فلما أن كان من الغد اجتمع الناس فقام فقال: يا أبا خالد رضي الله عنك، إن أمير المؤمنين يقرئك السلام ويقول لك: إني أردت أن أظهر القرآن مخلوق فما عندك في ذلك؟ قال كذبت على أمير المؤمنين، أمير المؤمنين ما يحمل الناس على ما لا يعرفونه، وما لم يقل به أحد. قال: فقدم. فقال: يا أمير المؤمنين كنت أنت أعلم قال: كان من القصة كيت وكيت، قال فقال له: ويحك تلعب بك. (¬1) " التعليق: هؤلاء هم العلماء حقا. جعل الله لهم الهيبة وجعل الرهبة والخوف في قلوب ملوكهم وأمرائهم، أين يزيد من الجيش العرمرم الذي كان تحت سلطة المأمون، ولكنه العلم النافع والعمل الصادق، وهذه هي سير السلف الصالح منذ بدايتهم إلى نهايتهم. نسأل الله أن يجعلنا على منهاجهم. - قال الذهبي في السير: وقد كان يزيد رأسا في السنة معاديا للجهمية، منكرا تأويلهم في مسألة الاستواء. (¬2) - وفي أصول الاعتقاد: عن شاذ بن يحيى الواسطي يقول: كنت قاعدا عند يزيد بن هارون، فجاء رجل فقال: يا أبا خالد، ما تقول في الجهمية؟ قال يستتابون: إن الجهمية غلت ففرغت في غلوها إلى أن نفت، وإن المشبهة ¬

(¬1) تاريخ بغداد (14/ 342). (¬2) السير (9/ 362).

غلت ففرغت في غلوها حتى مثلت، فالجهمية يستتابون والمشبهة -كذا- رماهم بأمر عظيم. (¬1) " التعليق: وهذه هي العبارة التي يقررها دائما شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم ومن تبعهم بإحسان، فلماذا الحقد على الشيخين؟ فالحاقد والمبغض لهما مبغض لأئمة السلف قاطبة. فما خرج الشيخان عنهم. - وفي السنة: وحدثني إبراهيم بن عبد الله بن بشار الواسطي قال: كنا عند يزيد بن هارون وشاذ بن يحيى يناظره في شيء من أمر المريسي، وهو يدعو عليه، فتفرقنا على أن يزيد قال: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، وجعل شاذ بن يحيى يلعن المريسي. (¬2) - وفيها: قال عبد الله: حدثنا محمد بن إسماعيل الواسطي، سمعت شاذ بن يحيى وأثنى عليه خيرا قال حلف لي يزيد بن هارون في بيته: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم من قال القرآن مخلوق فهو زنديق. (¬3) - وقال عبد الله: حدثني إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة، سمعت يزيد بن هارون يقول: لعن الله الجهم ومن قال بقوله، كان كافرا جاحدا ترك الصلاة ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (3/ 587/934). (¬2) السنة (ص.37). (¬3) السنة (ص.17) ونحوه في الإبانة (2/ 50/246) والشريعة (2/ 83/722) وخلق أفعال العباد (ص.9).

أربعين يوما يزعم يرتاد دينا. وذلك أنه شك في الإسلام، قال يزيد: قتله سالم ابن أحوز على هذا القول. (¬1) " التعليق: هكذا حال رؤوس البدع، تجدهم شاَكّين في الإسلام لا ثبات عندهم. - قال عبد الله: حدثني إسحاق بن البهلول قال: قلت ليزيد بن هارون: أصلي خلف الجهمية؟ قال: لا، قلت: أصلي خلف المرجئة؟ قال: إنهم لخبثاء. (¬2) - وقال: حدثني عباس العنبري، حدثنا ابن يحيى، سمعت يزيد بن هارون وقيل له من الجهمية؟ قال: من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي. (¬3) - وأخرج الخلال بسنده إلى أحمد بن أبي الحارث، قال: سألت يزيد ابن هارون، فقلت: إن عندنا ببغداد رجل يقال له المريسي يقول: القرآن مخلوق. فقال: أما في فتيانكم أحد يفتك به؟. (¬4) - وله بسنده إلى عمر بن عثمان الواسطي (ابن أخي علي بن عاصم) قال: مر بي يزيد بن هارون وأنا في الدكان، فصعد إلي، فقلت: يا أبا خالد ¬

(¬1) السنة لعبد الله (ص.37) وأصول الاعتقاد (3/ 422/631) والإبانة (2/ 94/325) والسنة للخلال (5/ 87/1688). (¬2) السنة (ص.17) والسنة للخلال (5/ 92). (¬3) السنة (ص.17). (¬4) السنة للخلال (5/ 101) والسير (10/ 210).

بلغني أن ببغداد رجل يقول: إن المريسي يقول القرآن مخلوق. فقال: من قال القرآن مخلوق، فهو كافر. (¬1) - جاء في الإبانة: عن محمد بن مجاهد قال: سمعت يزيد بن هارون يقول: من قال: القرآن مخلوق، فهو كافر، ومن لم يكفره، فهو كافر، ومن شك في كفره، فهو كافر. (¬2) - وفيها: قال عمرو بن عثمان الواسطي -ابن أخي علي بن عاصم-: سألت هشيما، وجريرا، والمعتمر، ومرحوما، وعمي علي بن عاصم، وأبا بكر بن عياش، وأبا معاوية، وسفيان، والمطلب بن زياد، ويزيد بن هارون عن من قال: القرآن مخلوق، فقالوا: زنادقة. قلت ليزيد بن هارون: يقتلون يا أبا خالد بالسيف؟ قال: بالسيف. (¬3) - وفيها: عن أحمد بن إبراهيم قال: سمعت يزيد بن هارون وذكر الجهمية فقال: هم والله الذي لا إله إلا هو، زنادقة عليهم لعنة الله. (¬4) - وفيها: قال: وسمعت يزيد بن هارون يقول وقد ذكر الجهمية، فقال: هم كفار لا يعبدون شيئا. (¬5) - وفيها: عن أحمد بن إبراهيم، قال: حدثني الثقة قال: سمعت يزيد بن ¬

(¬1) السنة لخلال (5/ 101). (¬2) الإبانة (2/ 12/57/ 257). (¬3) الإبانة (2/ 12/57/ 258). (¬4) الإبانة (2/ 12/64/ 275) والشريعة (1/ 221/182) والسنة لعبد الله (ص.17) والسنة للخلال (5/ 90 - 91). (¬5) الإبانة (2/ 13/100/ 338).

هارون يقول: بشر المريسي وأبو بكر الأصم كافران حلالا الدم. (¬1) - وفيها: عن حامد البلخي قال: سمعت يزيد بن هارون يقول: المريسي حلال الدم، يقتل فإن حي قتل، فإن حي قتل، فإن حي قتل، أخبر يا حامد أهل خراسان عني بهذا الكلام. (¬2) - قال أبو عثمان الصابوني في عقيدته: وروى يزيد بن هارون في مجلسه، حديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله في الرؤية، وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم تنظرون إلى ربكم كما تنظرون إلى القمر ليلة البدر" (¬3) فقال له رجل في مجلسه: يا أبا خالد ما معنى هذا الحديث؟ فغضب وحرد وقال: ما أشبهك بصبيغ وأحوجك إلى مثل ما فعل به، ويلك، ومن يدري كيف هذا، ومن يجوز له أن يجاوز هذا القول الذي جاء به الحديث، أو يتكلم فيه بشيء من تلقاء نفسه إلا من سفه نفسه واستخف بدينه؟ إذا سمعتم الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاتبعوه، ولا تبتدعوا فيه فإنكم إن اتبعتموه، ولم تماروا فيه سلمتم، وإن لم تفعلوا هلكتم. (¬4) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 13/101/ 342) وخلق أفعال العباد (ص.21). (¬2) الإبانة (2/ 13/103 - 104/ 349). (¬3) انظر تخريجه في مواقف وكيع بن الجراح سنة (196هـ). (¬4) عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص.236 - 237).

شبابة بن سوار (206 هـ)

شَبَابَة بن سَوَّار (¬1) (206 هـ) الفَزَارِي مولاهم أبو عمرو المدائني أصله من خراسان. روى عن حريز ابن عثمان الرحبي وإسرائيل وشعبة وشيبان وغيرهم. وروى عنه أحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين وإسحاق بن راهويه وعبد الله بن محمد المسندي وابن أبي شيبة وغيرهم. قال ابن المديني وغيره: كان يرى الإرجاء، وقال أحمد العجلي: قيل لشبابة: أليس الإيمان قولا وعملا؟ قال: إذا قال فقد عمل. قال أبو زرعة: رجع شبابة عن الإرجاء. توفي سنة ست ومائتين. موقفه من الجهمية: - جاء في السنة قال عبد الله: حدثني إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة الحراني، سمعت شبابة بن سوار يقول: اجتمع رأيي ورأي أبي النضر هاشم بن القاسم وجماعة من الفقهاء على أن المريسي كافر جاحد، نرى أن يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه. (¬2) - وفيها عن إسماعيل بن عبيد بن أَبي كريمة قال سمعت شبابة بن سوار وعبد العزيز بن أبان يقولان: القرآن كلام الله ومن زعم أنه مخلوق فهو كافر. (¬3) موقفه من المرجئة: جاء في تاريخ بغداد عن سعيد بن عمرو البرذعي قال: قيل لأبي زرعة ¬

(¬1) تاريخ بغداد (9/ 295 - 299) والسير (9/ 413 - 416) وتاريخ الإسلام (حوادث 201 - 210/ص.190 - 191) والوافي بالوفيات (16/ 98) وميزان الاعتدال (2/ 260 - 261) وتهذيب التهذيب (4/ 300 - 302) وتقريب التهذيب (1/ 245) وتذكرة الحفاظ (1/ 361). (¬2) السنة لعبد الله (18) وأصول الاعتقاد (2/ 350 - 351/ 508). (¬3) السنة لعبد الله (18) وأصول الاعتقاد (2/ 289/445).

مؤمل بن إسماعيل (206 هـ)

في أبي معاوية -وأنا شاهد- كان يرى الإرجاء؟ قال نعم، كان يدعو إليه، قيل فشبابة بن سوار أيضا، قال نعم، قيل رجع عنه؟ قال نعم، قال الإيمان قول وعمل. (¬1) مُؤَمَّل بن إسماعيل (¬2) (206 هـ) القرشي، العدوي، أبو عبد الرحمن البصري، نزيل مكة مولى آل عمر ابن الخطاب، وقيل مولى بني بكر بن عبد مناة بن كنانة. روى عن إبراهيم ابن يزيد الخوزي، وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وغيرهم. وروى عنه أحمد ابن إبراهيم الدورقي العبدي، وأحمد بن حنبل، وأبو الجوزاء أحمد بن عثمان النوفلي وغيرهم. وقال أبو حاتم: صدوق، شديد في السنة، كثير الخطأ. مات سنة ست ومائتين. موقفه من المبتدعة: جاء في أصول الاعتقاد: قال محمود بن غيلان أبو أحمد سمعت مؤمل ابن إسماعيل يقول في غير مجلس يقبل علينا: أحرج على كل مبتدع جهمي أو رافضي أو قدري أو مرجئ سمع مني، والله لو عرفتكم لم أحدثكم. (¬3) " التعليق: هكذا كان شأن السلف مع المبتدعة، مهما كانت بدعتهم لا يقبلون ¬

(¬1) تاريخ بغداد (9/ 299). (¬2) تقريب التهذيب (2/ 291) وتهذيب الكمال (29/ 176 - 179) وشذرات الذهب (2/ 16). (¬3) أصول الاعتقاد (4/ 706/1148).

موقفه من الجهمية:

روايتهم في الجملة ولا يحدثونهم لأنهم ليسوا أهلا لذلك. موقفه من الجهمية: عن أبي الحسن أحمد بن محمد بن أبي بزة قال: سمعت المؤمل بن إسماعيل، يقول: القرآن كلام الله، وليس بمخلوق. (¬1) موقفه من المرجئة: عن أبي الحسين بن أبي بزة قال: سمعت مؤمل بن إسماعيل يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. (¬2) وهب بن جرير (¬3) (206 هـ) ابن حازم بن زيد بن عبد الله بن شجاع الأزدي، أبو العباس البصري. روى عن الأسود بن شيبان، وأبيه جرير بن حازم وحماد بن زيد وسلام بن أبي مطيع وغيرهم. وروى عنه إبراهيم بن محمد بن عرعرة، وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني وأحمد بن إبراهيم الدورقي وغيرهم. أمر أحمد بن حنبل بالكتابة عنه، وأكثر عنه في 'مسنده'. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم سألت أبي عنه فقال: صدوق. قيل له: وهب بن جرير وروح بن عبادة وعثمان بن ¬

(¬1) الشريعة (1/ 233 - 234/ 208). (¬2) الإبانة (2/ 813/1116) والشريعة (1/ 289/287). (¬3) تاريخ ابن معين (2/ 635) وطبقات ابن سعد (7/ 298) والجرح والتعديل (9/ 28) وتهذيب الكمال (31/ 121 - 125) وسير أعلام النبلاء (9/ 442) وتذكرة الحفاظ (1/ 336 - 337) وشذرات الذهب (2/ 16).

موقفه من الجهمية:

عمر. قال: وهب أحب إلي منهما، وهب صالح الحديث. توفي سنة ست ومائتين. موقفه من الجهمية: - قال البخاري في خلق أفعال العباد: وقال وهب بن جرير: الجهمية زنادقة إنما يريدون أنه ليس على العرش استوى. (¬1) - وقال الإمام ابن القيم: صح عنه أنه قال: إياكم ورأي جهم فإنهم يحاولون أن ليس في السماء شيء، وما هو إلا من وحي إبليس، وما هو إلا الكفر، حكاه محمد بن عثمان الحافظ في رسالته في السنة. (¬2) - وفي السنة لعبد الله عن إبراهيم بن سعد وسعيد بن عبد الرحمن الجمحي ووهب بن جرير وأبي النضر هاشم بن القاسم وسليمان بن حرب قالوا: القرآن كلام الله ليس بمخلوق. (¬3) موقف السلف من عبد المجيد بن عبد العزيز (206 هـ) إرجاؤه: - جاء في السير: قال فيه أحمد بن حنبل كان فيه غلو في الإرجاء، يقول: هؤلاء الشكاك، يريد قول العلماء: أنا مؤمن إن شاء الله. ¬

(¬1) خلق أفعال العباد (ص.9) واجتماع الجيوش الإسلامية (127). (¬2) اجتماع الجيوش الإسلامية (202). (¬3) السنة لعبد الله (30) وأصول الاعتقاد (2/ 277 - 278/ 416) والإبانة (2/ 9/187).

وقال فيه يعقوب بن سفيان: كان مبتدعا داعية. وقال فيه أبو داود: كان عبد المجيد رأسا في الإرجاء. (¬1) - وفيها: قال سلمة بن شبيب: كنت عند عبد الرزاق فجاءنا موت عبد المجيد، وذلك في سنة ست ومئتين. فقال: الحمد لله الذي أراح أمة محمد من عبد المجيد. (¬2) وللسلف مواقف أخر منه ستأتي معنا بإذن الله. وله موقف طيب من القدرية: - جاء في أصول الاعتقاد: عن عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد قال: كنا مع إنسان يتكلم في القدر فأخذ بيضة وكنا نأكل بيضا وخبزا فقال هذه البيضة إن شئت أكلتها وإن شئت لم آكلها. قال: فقلنا له فشأ. قال: فأنا أشاء. قال: فأدخلها في فيه فوثب إليه رجلان من أصحابنا جلدان ففكا لحييه حتى رماها. فقالا: زعمت أنك يا عدو الله لو شئت لأكلتها ولكن المشيئة إلى الله شاء أن لا تأكلها فطرحتها. (¬3) تنبيه: هذا الرجل كان فيه غلو في الإرجاء، وقد بينا بحمد الله مواقف السلف منه، وإنما نقلنا عنه هنا ما وافق فيه السلف في هذا الباب. ¬

(¬1) السير (9/ 434 - 435). (¬2) السير (9/ 435). (¬3) أصول الاعتقاد (4/ 803/1341).

محمد بن عمر الواقدي (207 هـ)

محمد بن عمر الواقدي (¬1) (207 هـ) صاحب التصانيف والمغازي، العلامة أبو عبد الله، أحد أوعية العلم على ضعفه المتفق عليه. ولد بعد العشرين ومائة وطلب العلم عام بضعة وأربعين، وسمع من صغار التابعين فمن بعدهم بالحجاز والشام وغير ذلك. حدث عن محمد بن عجلان، وابن جريج، وثور بن يزيد ومعمر بن راشد وغيرهم. وحدث عنه محمد بن سعد كاتبه وأبو بكر بن أبي شيبة وأبو حسان الحسن ابن عثمان الزيادي وغيرهم. قال الذهبي: وجمع فأوعى، وخلط الغث بالسمين، والخرز بالدر الثمين، فاطرحوه لذلك، ومع هذا فلا يستغنى عنه في المغازي، وأيام الصحابة وأخبارهم. قال الخطيب: هو ممن طبق ذكره شرق الأرض وغربها، وسارت بكتبه الركبان في فنون العلم من المغازي والسير والطبقات والفقه، وكان جوادا كريما مشهورا بالسخاء. قال محمد بن سلام الجمحي: الواقدي عالم دهره. وروى عبد الله بن علي بن المديني عن أبيه قال: عند الواقدي عشرون ألف حديث لم أسمع بها، ثم قال: لا يروى عنه، وضعفه. قال الشافعي: كتب الواقدي كذب. وعن أحمد بن حنبل: الواقدي كذاب. قال إسحاق: هو عندي ممن يضع الحديث. قال الذهبي: وقد تقرر أن الواقدي ضعيف، يحتاج إليه في الغزوات والتاريخ، ونورد آثاره من غير احتجاج، أما في الفرائض فلا ينبغي أن يذكر فهذه الكتب الستة ومسند ¬

(¬1) السير (9/ 454 - 469) وتاريخ ابن معين (2/ 532) وطبقات ابن سعد (7/ 334 - 335) والجرح والتعديل (8/ 20 - 21) والفهرست لابن النديم (144 - 145) وتاريخ بغداد (3/ 3 - 21) ومعجم الأدباء (18/ 277 - 282) وتهذيب الكمال (26/ 180 - 195) وميزان الاعتدال (3/ 662 - 666).

موقفه من المبتدعة:

أحمد وعامة من جمع في الأحكام، نراهم يترخصون في إخراج أحاديث أناس ضعفاء بل ومتروكين، ومع هذا لا يخرجون لمحمد بن عمر شيئا مع أن وزنه عندي مع ضعفه يكتب حديثه ويروى لأني لا أتهمه بالوضع وقول من أهدره فيه مجازفة من بعض الوجوه، كما أنه لا عبرة بتوثيق من وثقه، كيزيد، وأبي عبيد، والصاغاني، والحربي، ومعن وتمام عشرة محدثين، إذ قد انعقد الإجماع اليوم على أنه ليس بحجة وأن حديثه في عداد الواهي، رحمه الله. مات سنة سبع ومائتين. موقفه من المبتدعة: - له كتب، عناوينها تدل على محاربته للمبتدعة، وذلك الظن به وبأمثاله، وهي: 1 - السنة والجماعة وذم الهوى وترك الخوارج في الفتن. 2 - كتاب الردة والدار. 3 - مقتل الحسن. 4 - كتاب صفين. 5 - مولد الحسن والحسين ومقتل الحسين. (¬1) " التعليق: هذا الوقت الذي عاش فيه الواقدي، كان يغلي بالأهواء والبدع من جهمية وقدرية وخوارج وغيرهم، فلعله ألف هذه الكتب في بيان أحوالهم ¬

(¬1) هدية العارفين (2/ 10) ومعجم الأدباء (18/ 282) والفهرست لابن النديم (ص.144).

أبو النضر هاشم بن القاسم (207 هـ)

والرد عليهم، ولو كانت هذه الكتب بين أيدينا، وكتب الله لها البقاء، وتيسر لنا الاطلاع عليها لتبين الأمر أكثر، وأما الذين ترجموا له وذكروها، فلم يعرفونا عن شيء منها. أبو النَّضْر هاشم بن القاسم (¬1) (207 هـ) هاشم بن القاسم أبو النضر الليثي البغدادي خراساني الأصل لقب بقيصر. ولد سنة أربع وثلاثين ومائة. سمع من ابن أبي ذئب وشعبة، وحريز بن عثمان وعكرمة بن عمار وغيرهم. وسمع منه أحمد وعلي ويحيى بن معين وإسحاق وخلق كثير. كان أحمد بن حنبل يقول: أبو النضر شيخنا من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. وقال أيضا: هو من متثبتي بغداد. وقال العجلي: كان أبو النضر من الأبناء، ثقة، صاحب سنة، سكن بغداد وكان أهلها يفخرون به. مات على الصحيح في ذي القعدة سنة سبع ومائتين رحمه الله. موقفه من الجهمية: - جاء في السنة لعبد الله عن إبراهيم بن سعد وسعيد بن عبد الرحمن الجمحي ووهب بن جرير وأبي النضر هاشم بن القاسم وسليمان بن حرب قالوا: القرآن كلام الله ليس بمخلوق. (¬2) ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (7/ 335) وتاريخ بغداد (14/ 63 - 66) وتهذيب الكمال (30/ 130 - 136) وتذكرة الحفاظ (1/ 359) والسير (9/ 545 - 549) وتهذيب التهذيب (11/ 18 - 19) (¬2) السنة لعبد الله (30) وأصول الاعتقاد (2/ 277 - 278/ 416) والإبانة (2/ 12/9/ 187).

أبو محمد بشر بن عمر (207 هـ)

- وفي الإبانة عنه قال: سألني إبراهيم بن شلكة -يعني: إبراهيم بن المهدي- عن القرآن، فقلت: القرآن كلام الله وليس بمخلوق. (¬1) أبو محمد بِشْر بن عمر (¬2) (207 هـ) بشر بن عمر بن الحكم بن عُقْبة الزَّهراني الأزدي، أبو محمد البصري الإمام الثبت. سمع عكرمة بن عمار وشعبة بن الحجاج وعاصم بن محمد العمري وجماعة. وسمع منه إسحاق بن راهويه وبشر بن آدم والذهلي وآخرون. قال ابن سعد: وكان ثقة راوية مالك بن أنس. توفي بالبصرة سنة سبع ومائتين. موقفه من الجهمية: عن بشر بن عمر قال: سمعت غير واحد من المفسرين يقولون: {الرَّحْمَنُ على الْعَرْشِ استوى} (¬3) قال: على العرش استوى: ارتفع. (¬4) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 12/16/ 203). (¬2) طبقات ابن سعد (7/ 300) وتهذيب الكمال (4/ 138 - 140) وتذكرة الحفاظ (1/ 337) والسير (9/ 417 - 418) وتهذيب التهذيب (1/ 455 - 456). (¬3) طه الآية (5). (¬4) أصول الاعتقاد (3/ 440/662).

محمد بن مصعب (208 هـ)

محمد بن مصعب (¬1) (208 هـ) محمد بن مصعب بن صَدَقَة القُرْقُسَاني، أبو عبد الله وقيل: أبو الحسن. روى عن الأوزاعي ومالك وحماد بن سلمة وإسرائيل وآخرين. وروى عنه أحمد بن حنبل وأبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة وجماعة. قال صالح بن محمد جزرة: عامة أحاديثه عن الأوزاعي مقلوبة. قال الخطيب: كان كثير الغلط لتحديثه من حفظه ويذكر عنه الخير والصلاح. مات سنة ثمان ومائتين. موقفه من الجهمية: قال محمد بن مصعب العابد: من زعم أنك لا تتكلم ولا ترى في الآخرة فهو كافر بوجهك، أشهد أنك فوق العرش فوق سبع سموات ليس كما يقول أعداء الله الزنادقة. (¬2) قُرَيْش بن أَنَس (¬3) (208 هـ) قريش بن أنس الأنصاري وقيل: الأموي، مولاهم أبو أنس البصري. روى عن عبد الله بن عون وعثمان بن غياث وعثمان الشحام وعوف الأعرابي وعدة. وروى عنه علي بن المديني ويحيى بن معين وعبد الله بن أبي ¬

(¬1) تاريخ بغداد (3/ 276 - 279) وتهذيب الكمال (26/ 460 - 465) وميزان الاعتدال (4/ 42) وتاريخ الإسلام (حوادث 201 - 210/ص.373 - 375) والوافي بالوفيات (5/ 32 - 68) وتهذيب التهذيب (9/ 458 - 460) وشذرات الذهب (2/ 21). (¬2) السنة لعبد الله (40). (¬3) تهذيب الكمال (23/ 585 - 589) وميزان الاعتدال (3/ 389) وتهذيب التهذيب (8/ 374 - 375) وشذرات الذهب (2/ 21).

موقفه من الجهمية:

الأسود وآخرون. مات سنة ثمان ومائتين. موقفه من الجهمية: قال قريش بن أنس: سمعت عمرو بن عبيد يقول: يؤتى بي يوم القيامة، فأقام بين يدي الله فيقول لي: لم قلت: إن القاتل في النار؟ فأقول: أنت قلته، ثم تلا هذه الآية {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} (¬1) قلت له -وما في البيت أصغر مني: أرأيت إن قال لك قد قلت: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬2) من أين علمت أني لا أشاء أن أغفر؟ قال: فما استطاع أن يرد علي شيئا. (¬3) سعيد بن عامر الضبعي (¬4) (208 هـ) سعيد بن عامر الضبعي البصري الزاهد الحافظ، أبو محمد مولى بني عجيف، ولد بعد العشرين ومائة. حدث عن شبيل بن عزرة صاحب أنس، وحبيب بن الشهيد ومحمد بن عمرو بن علقمة وهمام بن يحيى وآخرين. وحدث عنه علي بن المديني وأحمد ويحيى بن معين وابن راهويه وبندار وعدد كثير. قال محمد بن الوليد البسري: سمعت يحيى بن سعيد يقول: هو شيخ ¬

(¬1) النساء الآية (93). (¬2) النساء الآية (48). (¬3) تأويل مختلف الحديث (83). (¬4) طبقات ابن سعد (7/ 296) وتهذيب الكمال (10/ 510 - 514) وتذكرة الحفاظ (1/ 351) وتاريخ الإسلام (حوادث201 - 210/ 170 - 171) والسير (9/ 385 - 387) والوافي بالوفيات (15/ 231).

موقفه من الجهمية:

مصر منذ أربعين سنة. وقال أبو داود قال يحيى بن سعيد: إني لأغبط جيران سعيد بن عامر. وقال أبو حاتم: كان سعيد بن عامر رجلا صالحا صدوقا في حديثه بعض الغلط. مات في شوال سنة ثمان ومائتين. موقفه من الجهمية: روى ابن أبي حاتم في كتاب 'الرد على الجهمية' عن سعيد بن عامر الضبعي -إمام أهل البصرة علما ودينا، من شيوخ الإمام أحمد- أنه ذكر عنده الجهمية، فقال: أَشر قولا من اليهود والنصارى، وقد أجمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله على العرش، وهم قالوا: ليس على شيء. (¬1) أبو عبيدة معمر بن المثنى (¬2) (208 هـ) الإمام العلامة البحر أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي مولاهم البصري النحوي صاحب التصانيف. حدث عن هشام بن عروة ورؤبة بن العجاج وأبي عمرو بن العلاء وغيرهم. حدث عنه أبو عبيد القاسم بن سلام وعمر بن شبة وعلي بن المديني وطائفة. وكان يرى رأي الخوارج. قال فيه الذهبي: قد كان هذا المرء من بحور ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (5/ 52) ودرء التعارض (6/ 261). (¬2) وفيات الأعيان (5/ 235) وتذكرة الحفاظ (1/ 271) وتاريخ بغداد (13/ 252 - 258) وميزان الاعتدال (4/ 155) والسير (9/ 445 - 447) وتهذيب الكمال (6/ 328 - 333).

موقفه من الجهمية:

العلم، ومع ذلك فلم يكن بالماهر بكتاب الله، ولا العارف بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا البصير بالفقه واختلاف أئمة الاجتهاد، بلى وكان معافى من معرفة حكمة الأوائل والمنطق وأقسام الفلسفة، وله نظر في المعقول. توفي سنة ثمان ومائتين. موقفه من الجهمية: - عن الحسن بن محمد الكندي قال: قرأت على أبي عبيدة معمر بن المثنى البصري قال: بسم الله إنما هو الله لأن اسم الشيء هو الشيء قال لبيد: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر (¬1) - جاء في أصول الاعتقاد عنه قال: إذا رأيت الرجل يقول: الاسم غير المسمى، فاشهد عليه بالزندقة. (¬2) حفص بن عبد الله (¬3) (209 هـ) حفص بن عبد الله بن راشد السلمي أبو عمرو، ويقال: أبو سهل النَّيْسَابوري الفقيه قاضي نيسابور. ولد بعد الثلاثين ومائة. سمع من مسعر بن كدام وعثمان بن عطاء الخراساني وسفيان الثوري وإسرائيل وخلق. وسمع منه ولده المحدث أحمد بن حفص وقطن بن إبراهيم ومحمد بن يزيد محمش ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 238/349). (¬2) أصول الاعتقاد (2/ 232). (¬3) تهذيب الكمال (7/ 18 - 21) وتذكرة الحفاظ (1/ 368) وتاريخ الإسلام (حوادث 201 - 210/ص.115 - 116) والسير (9/ 485 - 486) وتهذيب التهذيب (2/ 403).

موقفه من المبتدعة:

ومحمد بن عقيل الخزاعي وآخرون. مات يوم السبت لخمس ليال بقين من شعبان سنة تسع ومائتين. موقفه من المبتدعة: قال أبو عوانة الحافظ: سمعت محمد بن عقيل يقول: كان حفص بن عبد الله قاضيا بالأثر، ولا يقضي بالرأي ألبتة. (¬1) عبد الرزاق بن هَمَّام الصَّنْعَاني (¬2) (211 هـ) عبد الرزاق بن همام بن نافع الحافظ الكبير، عالم اليمن، أبو بكر الحِمْيَرِي، مولاهم الصنعاني الثقة. روى عن معمر بن راشد ومعتمر بن سليمان وابن جريج وابن المبارك والثوري وابن عيينة وآخرين. وعنه وكيع ابن الجراح وأحمد بن حنبل وإسحاق بن منصور الكوسج وعلي بن المديني ويحيى بن معين وإسحاق بن راهويه وطائفة. قال ابن أبي السري عن عبد الوهاب بن همام: كنت عند معمر فقال: يختلف إلينا أربعة: رباح بن زيد ومحمد بن ثور وهشام بن يوسف وعبد الرزاق، فأما رباح فخليق أن تغلب عليه العبادة وأما هشام فخليق أن يغلب عليه السلطان، وأما ابن ثور فكثير النسيان، وأما عبد الرزاق فإن عاش فخليق أن تضرب إليه أكباد الإبل، قال ابن أبي السري: فوالله لقد أتعبها. ¬

(¬1) السير (9/ 486). (¬2) تذكرة الحفاظ (1/ 364) وتقريب التهذيب (1/ 505) ووفيات الأعيان (3/ 216 - 217) وتهذيب التهذيب (6/ 310 - 315) وشذرات الذهب (2/ 28) وتهذيب الكمال (18/ 52 - 62) والسير (9/ 563 - 580).

موقفه من المبتدعة:

وقال ابن حجر: ثقة حافظ، مصنف شهير، عمي في آخر عمره فتغير، وكان يتشيع. توفي سنة إحدى عشر ومائتين. موقفه من المبتدعة: له كتاب التفسير وهو من التفاسير التي نقلت عقيدة السلف وآثارهم الطيبة المباركة، ذكره شيخ الإسلام من التفاسير السلفية في درء التعارض وغيره من كتبه. (¬1) موقفه من الرافضة: - جاء في السير عن عبد الرزاق قال: الرافضي عندي كافر. (¬2) - عن سلمة بن شبيب قال: سمعت عبد الرزاق يقول: ما انشرح صدري قط أن أفضل عليا على أبي بكر وعمر، فرحمهما الله، ورحم عثمان وعليا، من لم يحبهم فما هو بمؤمن، أوثق عملي حبي إياهم. (¬3) موقفه من الجهمية: جاء في ذم الكلام عن عبد الرزاق قال: قال لي إبراهيم بن أبي يحيى: إني أرى المعتزلة عندكم كثيرا، قال: قلت: نعم ويزعمون أنك منهم، قال: أفلا تدخل معي هذا الحانوت حتى أكلمك، قلت: لا، قال: لم؟ قلت: لأن القلب ضعيف وأن الدين ليس لمن غلب. (¬4) ¬

(¬1) انظر مثلا درء التعارض (2/ 22). (¬2) السير (14/ 178). (¬3) السير (9/ 573 - 574) وهو في الميزان (2/ 612) بنحوه. (¬4) ذم الكلام (190) والإبانة (2/ 446 - 447/ 401) وأصول الاعتقاد (1/ 152/249).

موقفه من الخوارج:

موقفه من الخوارج: ضمن مصنفه بابا كبيرا في ذكر الخوارج: باب: قتال الحروراء (¬1) أورد فيه سبع عشرة حديثا، وقد مضى بعضها. موقفه من المرجئة: - جاء في ذم الكلام: عن حفص بن عمر المهرقاني، سألت عبد الرزاق، قلت يا أبا بكر إن عندنا قوما مختلفين في الإيمان فأخبرني على ما أنت وعلى ما أدركت العلماء؟ فقال: الإيمان عندنا قول وعمل ويقين وإصابة السنة، فمن عمل وأيقن وقال ولم يصب السنة فهو منقوص، ومن قال ولم يعمل فهو منقوص، ومن قال وعمل ولم يوقن فهو منقوص، على هذا أدركت العلماء. (¬2) - عن عبد الرزاق قال: كان معمر وابن جريج والثوري ومالك وابن عيينة يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص قال عبد الرزاق: وأنا أقول ذلك الإيمان قول وعمل يزيد وينقص وإن خالفتهم فقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين. (¬3) - وعن الحسن بن علي نعمان قال: نا عبد الرزاق قال: لقيت اثنين وستين شيخا منهم معمر والأوزاعي والثوري والوليد بن محمد القرشي ويزيد ¬

(¬1) (10/ 117 - 123). (¬2) ذم الكلام (125). (¬3) السنة لعبد الله بن أحمد (97) والشريعة (1/ 272/267) وأصول الاعتقاد (5/ 1028 - 1029/ 1735) والإبانة (2/ 813/1114).

موسى بن سليمان الجوزجاني (211 هـ)

ابن السائب وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وسفيان بن عيينة وشعيب بن حرب ووكيع بن الجراح ومالك بن أنس وابن أبي ليلى وإسماعيل بن عياش والوليد بن مسلم ومن لم نسمه كلهم يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. (¬1) - وجاء في السير: قال سلمة بن شبيب: كنت عند عبد الرزاق فجاءنا موت عبد المجيد، وذلك في سنة ست ومئتين. فقال: الحمد لله الذي أراح أمة محمد من عبد المجيد. (¬2) موسى بن سليمان الجَوْزَجَاني (¬3) (211 هـ) العلامة الإمام، أبو سليمان، موسى بن سليمان الجوزجاني، صاحب أبي يوسف ومحمد. سمع عبد الله بن المبارك وعمرو بن جميع، وأبا يوسف ومحمد بن الحسن وكان فقيها بصيرا بالرأي، يذهب مذهب أهل السنة في القرآن. سكن بغداد وحدث بها. فروى عنه عبد الله بن الحسن الهاشمي وأحمد ابن محمد بن عيسى البرتي وبشر بن موسى الأسدي وآخرون. قال ابن أبي حاتم: كتب عنه أبي وسئل عنه فقال: كان صدوقا. وقال أيضا: كان يكفر القائلين بخلق القرآن. وقيل: إن المأمون عرض عليه القضاء فامتنع، واعتل بأنه ليس بأهل لذلك فأعفاه ونبل عند الناس لامتناعه. وله تصانيف، منها: 'السير ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (5/ 1029/1737). (¬2) السير (9/ 435). (¬3) تاريخ بغداد (13/ 36 - 37) والسير (10/ 194 - 195) الفوائد البهية للكنوي (216) والجواهر المضيئة (3/ 518 - 519) وتاريخ الإسلام (حوادث 211 - 220/ص.423) والمنتظم (10/ 246) والنجوم الزاهرة (2/ 202).

موقفه من الجهمية:

الصغير' و'كتاب الصلاة' و'كتاب الرهن'. توفي بعد المائتين، وأرخ له ابن الجوزي وابن تغري بردي سنة إحدى عشر ومائتين. موقفه من الجهمية: - عن القاسم بن أبي رجاء قال: كنت عند أبي سليمان الجوزجاني وجاءه رجل فقال: مسألة بلوى، فإن رجلين البارحة حلف أحدهما فقال: امرأته طالق ثلاثا ألبتة إن كان القرآن مخلوقا، وقال الآخر: امرأته طالق ثلاثا إن لم يكن القرآن مخلوقا. فقال: إن الذي حلف أن امرأته طالق إن لم يكن القرآن مخلوقا قد بانت منه امرأته. (¬1) - عن أبي عبد الله الطهراني قال: سمعت الجوزجاني -يعني موسى بن سليمان- وسأله رجل عن مسألة فأفتاه ثم قال له: إن المريسي يقول بخلاف هذا. فقال الجوزجاني لمن حضره: سبحان الله، سمعتم أعجب من هذا، سألني عن مسألة فأجبته ثم حكى لي عن كافر. (¬2) أبو العَتَاهِية (¬3) (211 هـ) رأس الشعراء، الأديب الصالح الأوحد، أبو إسحاق، إسماعيل بن قاسم ابن سُوَيْد بن كَيْسَان العَنَزِي مولاهم الكوفي، نزيل بغداد. لقب بأبي العتاهية ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 299/476). (¬2) أصول الاعتقاد (3/ 427/643). (¬3) تاريخ بغداد (6/ 250 - 260) والسير (10/ 195 - 198) والبداية والنهاية (10/ 277) وشذرات الذهب (2/ 25).

موقفه من الجهمية:

لاضطراب فيه، وقيل كان يحب الخلاعة فيكون مأخوذا من العتو. سار شعره لجودته وحسنه وعدم تقعره، تنسك بأخرة وقال في المواعظ والزهد فأجاد. وكان أبو نواس يعظمه ويتأدب معه لدينه ويقول: ما رأيته إلا توهمت أنه سماوي وأني أرضي. ومن شعره: الناس في غفلاتهم ... ورحى المنية تطحن قال الرشيد لأبي العتاهية: الناس يزعمون أنك زنديق؟ فقال: يا سيدي كيف أكون زنديقا وأنا القائل: أيا عجبي كيف يعصى الإلـ ... ـه، أم كيف يجحده جاحد؟ ولله في كل تحريكة ... وفي كل تسكينة شاهد وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد وشعره كثير وسيرته طويلة. توفي سنة إحدى عشرة ومائتين. موقفه من الجهمية: قال ابن كثير في البداية: وفي صفر منها -أي من سنة سبع وثلاثين ومائتين- غضب المتوكل على ابن أبي دؤاد القاضي المعتزلي وكان على المظالم، فعزله عنها واستدعى بيحيى بن أكثم فولاه قضاء القضاة والمظالم أيضا. وفي ربيع الأول أمر الخليفة بالاحتياط على ضياع ابن أبي دؤاد وأخذ ابنه أبا الوليد محمد فحبسه في يوم السبت لثلاث خلون من ربيع الآخر، وأمر بمصادرته فحمل مائة ألف وعشرين ألف دينار، ومن الجواهر النفيسة ما يقوم بعشرين ألف دينار، ثم صولح على ستة عشر ألف ألف درهم. وكان ابن أبي

المعلى بن منصور (211 هـ)

دؤاد قد أصابه الفالج كما ذكرنا، ثم نفي أهله من سامرا إلى بغداد مهانين. قال ابن جرير فقال في ذلك أبو العتاهية: لو كنت في الرأي منسوبا إلى رشد ... وكان عزمك عزما فيه توفيق لكان في الفقه شغل لو قنعت به ... عن أن تقول كتاب الله مخلوق ماذا عليك وأصل الدين يجمعهم ... ما كان في الفرع لولا الجهل والموق (¬1) المُعَلَّى بن منْصُور (¬2) (211 هـ) معلى بن منصور الحافظ أبو يعلى الرازي ثم البغدادي الفقيه أحد الأعلام، سمع مالكا وسليمان بن بلال والليث وشريكا وطبقتهم، وعنه أبو ثور وأبو خيثمة وخلق. كان من أوعية العلم وثقه ابن معين وغيره. وقال العجلي: ثقة نبيل صاحب سنة، طلبوه للقضاء غير مرة فيأبى. وقال ابن سعد: نزل بغداد، وطلب الحديث وكان صدوقا صاحب حديث ورأي وفقه، فمن أصحاب الحديث من روى عنه ومنهم من لا يروي عنه. توفي سنة إحدى عشرة ومائتين ببغداد وبها دفن. موقفه من الجهمية: قال سهل بن عمار: كنت عند المعلى بن منصور، وإبراهيم بن حرب النيسابوري في أيام خاض الناس في القرآن، فدخل علينا إبراهيم بن مقاتل ¬

(¬1) البداية (10/ 329). (¬2) طبقات ابن سعد (7/ 341) وتذكرة الحفاظ (1/ 377) وميزان الاعتدال (4/ 150 - 151) وشذرات الذهب (2/ 27) والسير (10/ 365 - 370).

أسد بن موسى (212 هـ)

المروزي، فذكر للمعلى أن الناس قد خاضوا في أمره، فقال: ماذا يقولون؟ قال: يقولون: إنك تقول: القرآن مخلوق. فقال: ما قلت، ومن قال: القرآن مخلوق، فهو عندي كافر. قال الذهبي: كان معلى صاحب سنة واتباع، وكان بريئا من التجهم. (¬1) أسد بن موسى (¬2) (212 هـ) هو الإمام الحافظ، أبو سعيد أسد بن موسى بن إبراهيم القرشي الأموي. ولد سنة اثنتين وثلاثين ومائة. روى عن شعبة بن الحجاج، وشيبان النحوي، وعبد الرحمن المسعودي. وحدث عنه أحمد بن صالح، وعبد الملك بن حبيب، والربيع بن سليمان المرادي. قال عنه البخاري: مشهور الحديث. ولقبه الذهبي: بأسد السنة. توفي سنة اثنتي عشرة ومائتين. موقفه من المبتدعة: عن محمد بن وضاح عن غير واحد أن أسد بن موسى كتب إلى أسد ابن الفرات: اعلم يا أخي إنما حملني على الكتاب إليك ما ذكر أهل بلادك من صالح ما أعطاك الله من إنصافك الناس وحسن حالك مما أظهرت من السنة، وعيبك لأهل البدع، وكثرة ذكرك لهم، وطعنك عليهم، فقمعهم الله بك وشد بك ظهر أهل السنة وقواك عليهم بإظهار عيبهم والطعن عليهم، فأذلهم الله بذلك وصاروا ببدعتهم مستترين، فأبشر أي أخي بثواب ذلك ¬

(¬1) السير (10/ 369) وتاريخ بغداد (13/ 188). (¬2) السير (10/ 162) وتذكرة الحفاظ (1/ 402) وتهذيب الكمال (2/ 512) وتهذيب التهذيب (1/ 260).

واعتد به من أفضل حسناتك من الصلاة والصيام والحج والجهاد، وأين تقع هذه الأعمال من إقامة كتاب الله وإحياء سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أحيا شيئا من سنتي كنت أنا وهو في الجنة كهاتين" (¬1) وضم بين أصبعيه وقال: "أيما داع دعا إلى هدى فاتبع عليه كان له مثل أجر من تبعه إلى يوم القيامة" (¬2) فمن يدرك يا أخي أجر هذا بشيء من عمله؟ وذكر أيضا: "إن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام وليا لله يذب عنها وينطق بعلامتها" (¬3) فاغتنم -يا أخي- هذا الفضل وكن من أهله، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن وأوصاه وقال: "لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من كذا وكذا" (¬4)، وأعظم القول فيه. فاغتنم ذلك وادع إلى السنة حتى يكون لك في ذلك ألفة وجماعة يقومون مقامك إن حدث بك حدث، فيكونوا أئمة بعدك فيكون لك ثواب ذلك إلى يوم القيامة كما جاء الأثر، فاعمل على بصيرة ونية وحسبة، فيرد الله بك المبتدع المفتون الزائغ الحائر فتكون خلفا من نبيك ¬

(¬1) لم نظفر به بهذا اللفظ، وأقرب لفظ له ما رواه الترمذي (5/ 44 - 45/ 2678) وقال: "حديث حسن غريب عن أنس بن مالك بلفظ: " ... ومن أحيى سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة". وفيه علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف. وله طرق أخرى لا تخلو من ضعف". انظر الضعيفة (4538). (¬2) أخرجه: مسلم (4/ 2060/2674) وأبو داود (5/ 15 - 16/ 4609) والترمذي (5/ 42/2674) وقال: "حديث حسن صحيح". وابن ماجه (1/ 75/206) عن أبي هريرة. (¬3) أخرجه: أبو نعيم في الحلية (10/ 400) والعقيلي في الضعفاء (3/ 100) من طريق عبد الغفار المديني عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة. وقال عبد الغفار المديني: "مجهول بالنقل، حديثه غير محفوظ، ولا يعرف إلا به". وقال الذهبي في الميزان (2/ 641): "شيخ مدني حدث عن سعيد بن المسيب، لا يعرف، وكأنه أبو مريم، فإن خبره موضوع" .. (¬4) الذي ورد: أن ذلك قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي لما أرسله إلى خيبر، ولفظه: "لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم". رواه: أحمد (4/ 52) والبخاري (6/ 137 - 138/ 2942) ومسلم (4/ 1872/2406) وأبو داود (4/ 69/3661) والنسائي في الكبرى (5/ 46/8149).

- صلى الله عليه وسلم -، فأحي كتاب الله وسنة رسوله، فإنك لن تلقى الله بعمل يشبهه، وإياك أن يكون لك من أهل البدع أخ أو جليس أو صاحب، فإنه جاء الأثر: "من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة، ووكل إلى نفسه، ومن مشى إلى صاحب بدعة مشى في هدم الإسلام" (¬1) وجاء: "ما من إله يعبد من دون الله أبغض إلى الله من صاحب هوى" (¬2) وقد وقعت اللعنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أهل البدع، وأن الله لا يقبل منهم صرفا ولا عدلا ولا فريضة ولا تطوعا (¬3)، وكلما ازدادوا اجتهادا وصوما وصلاة ازدادوا من الله بعدا. فارفض مجلسهم وأذلهم وأبعدهم كما أبعدهم الله وأذلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأئمة الهدى بعده. (¬4) ¬

(¬1) أخرج الشطر الأول موقوفا عن محمد بن النضر الحارثي: الدينوري (2/ 335/209) وابن بطة في الإبانة (2/ 3/460) واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (1/ 153/252). وأخرج الشطر الثاني مرفوعا: أبو نعيم في الحلية (6/ 97) والطبراني في الكبير (20/ 96/188) عن خالد بن معدان عن معاذ بن جبل. وذكره الهيثمي في المجمع (1/ 188) وقال: "وفيه بقية وهو ضعيف". وفيه خالد بن معدان. قال الذهبي في تذكرة الحفاظ (1/ 94): "يرسل ويدلس". وخالد هذا لم يسمع من معاذ كما بين ذلك المزي في تهذيب الكمال في ترجمة خالد، وابن حجر في تهذيب التهذيب .. (¬2) أخرجه: ابن أبي عاصم في السنة (رقم 3) والطبراني في الكبير (8/ 122 - 123/ 7502) وأبو نعيم في الحلية (6/ 118) عن أبي أمامة بلفظ "ما تحت ظل السماء إله يعبد من دون الله أعظم عند الله من هوى متبع". وأورده الهيثمي في المجمع (1/ 188) وقال: "فيه الحسن بن دينار وهو متروك الحديث". والحديث ذكره ابن الجوزي في الموضوعات (3/ 139) وقال: "هذ حديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيه جماعة ضعاف والحسن بن دينار والخصيب كذابان عند علماء النقل". (¬3) تقدم تخريجه. انظر مواقف علي رضي الله عنه سنة (40هـ). (¬4) ابن وضاح (34 - 38) والاعتصام (1/ 45 - 46) بنحوه.

عيسى بن دينار (212 هـ)

عيسى بن دينار (¬1) (212 هـ) فقيه الأندلس ومفتيها، الإمام أبو محمد الغافقي القرطبي. ارتحل، ولزم ابن القاسم مدة، وعول عليه، وكان صالحا خيرا ورعا، يذكر بإجابة الدعوة. كان ابن وضاح يقول: هو الذي علم أهل الأندلس الفقه. وقال أبو عمر الصدفي: هو من أهل الفقه والفضل التام والورع. وقال الرازي: كان عيسى عالما زاهدا متفننا، حج حجات، وولي قضاء طليطلة للحكم والشورى بقرطبة. قال ابن القاسم: أتانا عيسى فسألنا سؤال عالم. ولعيسى تأليف في الفقه يسمى كتاب 'الهدية' كتب به إلى بعض الأمراء عشرة أجزاء. وكان ذا هيئة حسنة وعقل رصين ومذهب جميل. توفي رحمه الله سنة اثنتي عشرة ومائتين في سن الكهولة. موقفه من الجهمية: قال عيسى: من قال إن الله لم يكلم موسى، استتيب فإن تاب وإلا قتل. وأراه من الحق الواجب، وهو الذي أدين الله عليه. (¬2) محمد بن يوسف الفِرْيَابِي (¬3) (212 هـ) محمد بن يوسف بن واقد بن عثمان الفريابي، الإمام الحافظ شيخ ¬

(¬1) الديباج المذهب (2/ 64 - 66) وترتيب المدارك (4/ 105 - 110) والسير (10/ 439 - 440) وشذرات الذهب (2/ 28). (¬2) تخريج أصول السنة لابن أبي زمنين (308). (¬3) تذكرة الحفاظ (1/ 376) وتهذيب الكمال (27/ 52 - 61) والسير (10/ 114 - 118) وتقريب التهذيب (2/ 221) وتهذيب التهذيب (9/ 515) وشذرات الذهب (2/ 28).

موقفه من المبتدعة:

الإسلام، أبو عبد الله الضبي مولاهم، نزيل قيسارية الساحل من أرض فلسطين. سمع من الثوري وإسرائيل بن يونس والأوزاعي وابن عيينة ومالك ابن مغول ويونس بن أبي إسحاق وطائفة. وعنه البخاري وأحمد بن حنبل ومحمد بن مسلم بن وارة ومحمد بن يحيى الذهلي وابنه عبد الله وأمم سواهم. قال عنه الإمام أحمد: كان رجلا صالحا، صحب سفيان، كتبت عنه بمكة. وقال البخاري فيما حكاه عنه الدولابي: حدثنا محمد بن يوسف وكان من أفضل أهل زمانه. وسئل الدارقطني عنه، فوثقه، وقدمه لفضله ونسكه على قبيصة. وقال ابن زنجويه: ما رأيت أورع من الفريابي. توفي سنة اثنتي عشرة ومائتين. موقفه من المبتدعة: - جاء في ذم الكلام: قال أحمد بن يوسف السلمي: أتيت محمد بن يوسف الفريابي، فقلت له: أوصني؟ فقال: عليك بتقوى الله ولزوم السنة واجتناب السلطان. (¬1) -جاء في تلبيس إبليس بالسند إلى محمد بن سهل البخاري قال: كنا عند الفريابي فجعل يذكر أهل البدع، فقال له رجل: لو حدثتنا كان أعجب إلينا، فغضب وقال: كلامي في أهل البدع أحب إلي من عبادة ستين سنة. (¬2) " التعليق: رحمك الله يا إمام أهل الحديث في وقته! إن أهل عصرنا الآن يقولون: ¬

(¬1) ذم الكلام (243). (¬2) تلبيس إبليس (24).

موقفه من الرافضة:

إن بيان العقيدة السلفية الصحيحة للناس ونفي ما دخلها من الخزعبلات والخرافات والانحرافات الكلامية على اختلاف أنواعها، يعتبر تفرقة لكلمة المسلمين وتشتيتا لشملهم، والناس الآن ليسوا في حاجة إلى مثل هذا العمل، فهم في حاجة إلى جمع الكلمة وتأليف القلوب هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الحالة الأخلاقية المشاهدة وصلت إلى ترد وهبوط إلى مستوى البهيمية، فالواجب التكتل لإصلاحها!!! وكأني بهم يظنون الذين يشتغلون بهذه المهمة التي بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - من أجلها، وصاروا على درب سلفهم الصالح رضوان الله عليهم، يقرون هذه المعاصي ويرضونها ولا ينبهون على فسادها. والحقيقة أن هؤلاء الأدعياء لا المعاصي طردوا، ولا عقيدة السلف قرروا، ولكن إبليس حملهم على الوقوف ضد الدعوة السلفية والاشتغال بما لا يمكن أن يحقق مجتمع التوحيد الخالص ولو عمروا ملايين السنين، هذا إن أحسنا الظن بهم أنهم يريدون مجتمعا خالصا من أنواع البدع والشركيات. فالمقصود هو إنقاذ البشر فرادى وجماعات من ورطة الانحراف العقائدي سواء قامت الخلافة الإسلامية أو لم تقم، فإن خلافة تقوم على الانحراف العقائدي لا خير فيها. موقفه من الرافضة: جاء في أصول الاعتقاد: قيل لمحمد بن يوسف الفريابي: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ قال: قد فضلهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أخبرني رجل من قريش أن بعض

موقفه من الجهمية:

الخلفاء أخذ رجلين من الرافضة فقال لهما: والله لإن لم تخبراني بالذي يحملكما على تنقص أبي بكر وعمر لأقتلنكما فأبيا. فقدم أحدهما فضرب عنقه. ثم قال للآخر: والله لإن لم تخبرني لألحقنك بصاحبك. قال: فتؤمني؟ قال له: نعم. قال: فإنا أردنا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: لا يتابعنا الناس عليه، فقصدنا قصد هذين الرجلين فتابعنا الناس على ذلك. قال محمد بن يوسف: ما أرى الرافضة والجهمية إلا زنادقة. (¬1) موقفه من الجهمية: عن الفريابي قال: من قال: القرآن مخلوق، فهو كافر. (¬2) موقفه من المرجئة: جاء في تهذيب الكمال لأبي الحجاج المزي: قال البخاري: رأيت قوما دخلوا إلى محمد بن يوسف الفريابي، فقيل لمحمد بن يوسف: يا أبا عبد الله إن هؤلاء مرجئة، فقال: أخرجوهم. فتابوا ورجعوا. (¬3) أسد بن الفرات (¬4) (213 هـ) أسد بن الفُرَات بن سنان الإمام العلامة القاضي الأمير مقدم المجاهدين أبو عبد الله الحراني ثم المغربي مولى بني سليم بن قيس. روى عن مالك 'الموطأ' ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (8/ 1544 - 1545/ 2812). (¬2) الإبانة (2/ 12/64/ 274). (¬3) تهذيب الكمال (27/ 58). (¬4) ترتيب المدارك (1/ 270 - 278) ووفيات الأعيان (3/ 182) والديباج المذهب (1/ 305 - 308) وشذرات الذهب (2/ 28 - 29) والسير (10/ 225 - 228).

موقفه من المشركين:

وعن يحيى ابن أبي زائدة وجرير بن عبد الحميد وأبي يوسف القاضي ومحمد بن الحسن. أخذ عنه أبو يوسف 'الموطأ' وسحنون وسليمان بن عمران وابن المنهال، وسائر الكوفيين. قال أبو العرب: كان أسد ثقة لم يُزَنَّ ببدعة. وقد ولاه زيادة الله إمرة الجيش لغزو صقلية، فخرج الناس والعلماء يشيعونه، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، والله يا معشر الناس ما ولي لي أب ولا جد، ولا رأى أحد من سلفي مثل هذا، ولا بلغت ما ترون إلا بالأقلام، فاجهدوا أنفسكم فيها وثابروا على تدوين العلم تنالوا به الدنيا والآخرة. توفي وهو محاصر سرقوسة من غزوة صقلية سنة ثلاث عشرة ومائتين. موقفه من المشركين: واستفتى زيادة الله أمير إفريقية أسدا، وأبا محرز الكوفي، وزكرياء بن الحكم، في زنديق، فقال أبو محرز وأسد: يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. (¬1) موقفه من الجهمية: - جاء في ترتيب المدارك للقاضي عياض: قال أبو العرب: كان أسد ثقة لم يزن ببدعة، قال أبو بكر ابن حماد: قلت لسحنون: يقولون إن أسدا قال بخلق القرآن، فقال: والله ما قاله، قال داود بن يحيى: رأيت أسدا يعرض التفسير، فتلا هذه الآية: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} (¬2) فقال أسد: ويح أهل البدع، هلكت هوالكهم، ¬

(¬1) ترتيب المدارك (3/ 303). (¬2) طه الآيتان (13 - 14).

يزعمون أن الله خلق كلاما، يقول ذلك الكلام المخلوق: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ} الآية. قال يحيى بن سلام: حدث أسد يوما بحديث الرؤية (¬1) وسليمان الفراء المعتزلي في آخر المجلس فأنكر الرؤية فسمعه أسد فقام إليه وجمع بين طوقيه ولحيته واستقبله بنعله فضربه حتى أدماه وطرده من مجلسه، وقيل بل كان يقرأ عليه في تفسير المسيب بن شريك {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (¬2) وسليمان حاضر، فقال: من الانتظار يا أبا عبد الله، فأخذ أسد بتلابيبه ونعلا غليظة بيده الأخرى وقال: يا زنديق، لتقولنها أو لا تبصر بها عينيك، فقال سليمان: نعم تنظر. (¬3) - وفي رياض النفوس كان يقول: والله لو أدخلت الجنة فحجبت عن رؤيته لشككت فيه، ولأنا أسر برؤية ربي مني بالجنة. - وكان رحمه الله تعالى يكفر بشرا المريسي، ويتكلم فيه بأقبح الكلام، وبلغه أنه وضع كتابا وسماه بكتاب التوحيد، فقال أسد: أو جهل الناس التوحيد حتى يضع لهم بشر فيه كتابا؟ هذه نبوة ادعاها. (¬4) " التعليق: هذا هو إمام المالكية، وإليه تنسب الأسدية، فإن كان القوم ينسبون أنفسهم مالكية، فبالاقتداء به في أهل البدع وبأمثاله ممن حاربوا المبتدعة ¬

(¬1) انظر تخريجه في مواقف عبد العزيز الماجشون سنة (164هـ). (¬2) القيامة الآية (22). (¬3) ترتيب المدارك (3/ 301 - 302) ورياض النفوس (1/ 264 - 265). (¬4) رياض النفوس (1/ 264).

عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون (213 هـ)

وقرروا عقيدة السلف. عبد الملك بن عبد العزيز بن المَاجِشُون (¬1) (213 هـ) عبد الملك بن الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، العلامة الفقيه مفتي المدينة أبو مروان القرشي التيمي مولاهم المدني المالكي، تلميذ الإمام مالك. حدث عن أبيه وخاله يوسف بن يعقوب الماجشون، ومسلم الزنجي ومالك وإبراهيم بن سعد وطائفة. حدث عنه أبو حفص الفلاس ومحمد بن يحيى الذهلي وعبد الملك بن حبيب الفقيه المالكي وعمرو ابن علي الصيرفي وآخرون. قال ابن عبد البر: كان فقيها فصيحا دارت عليه الفتيا في زمانه إلى موته وعلى أبيه قبله وهو فقيه ابن فقيه. وقال يحيى بن أكثم: كان عبد الملك بحرا لا تكدره الدِّلاء. توفي سنة ثلاث عشرة ومائتين. موقفه من الجهمية: - عن هارون بن موسى الفروي قال: سمعت عبد الملك بن الماجشون يقول: من قال القرآن مخلوق فهو كافر. وسمعته يعني عبد الملك يقول: لو وجدت المريسي لضربت عنقه. (¬2) - وكتب سحنون إلى عبد الملك يذكر له ما حدث عندهم من الكلام في التشبيه والقرآن، ويسأله الجواب عليه، فكتب إليه عبد الملك: من عبد الملك ¬

(¬1) الديباج المذهب (2/ 6 - 8) والسير (10/ 359 - 360) وطبقات ابن سعد (5/ 442) والجرح والتعديل (5/ 358) ووفيات الأعيان (3/ 166 - 167) وتهذيب الكمال (18/ 358 - 362) وميزان الاعتدال (2/ 658 - 659). (¬2) السنة لعبد الله (40) وترتيب المدارك (3/ 141).

إدريس بن إدريس (213 هـ)

بن الماجشون إلى سحنون بن سعيد، سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، وفقنا الله وإياكم لطاعته، سألت عن مسائل ليست من شأن أهل العلم، والعلم بها جهل، فيكفيك من مضى من صدر هذه الأمة أنهم اتبعوا بإحسان، ولم يخوضوا في شيء منها، وقد خلص الدين إلى العذراء في خدرها، فما قيل لها كيف؟ ولا من أين؟ فاتبع كما اتبعوا، واعلم أنه العلم الأعظم، لا يشأ الرجل أن يتكلم في شيء من هذا فيكفر، فيهوي في نار جهنم. (¬1) - جاء في الإبانة عن الحسن بن عبد العزيز الجروي قال: أخبرني رجل أثق به قال: قلت لعبد الملك الماجشون: أوصني؟ قال: إياك والكلام، فإن لآخره أول سوء. (¬2) - عن هارون بن أبي علقمة الفروي قال: سمعت عبد الملك بن عبد العزيز الماجشون وغيره من علمائنا يقولون: من وقف في القرآن بالشك فهو كافر، قال: وسمعت عبد الملك يقول: من وقف في القرآن بالشك فهو مثل من قال مخلوق. (¬3) إدريس بن إدريس (¬4) (213 هـ) إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن المثنى، أبو القاسم ثاني ملوك ¬

(¬1) ترتيب المدارك (3/ 141). (¬2) الإبانة (2/ 3/536/ 667). (¬3) أصول الاعتقاد (2/ 363/542 - 543). (¬4) الاستقصا (1/ 161 - 171) والأعلام (1/ 278).

موقفه من المبتدعة:

الأدارسة في المغرب الأقصى وباني مدينة فاس. كان جوادا فصيحا حازما أحبته رعيته، واستمال أهل تونس وطرابلس الغرب والأندلس إليه، وصفا له ملك المغرب وضرب السكة باسمه. توفي رحمه الله بفاس سنة ثلاث عشرة ومائتين. موقفه من المبتدعة: جاء في الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى: وذكر ابن غالب في تاريخه أن الإمام إدريس لما فرغ من بناء مدينة فاس، وحضرت الجمعة الأولى، صعد المنبر وخطب الناس، ثم رفع يديه في آخر الخطبة فقال: اللهم إنك تعلم أني ما أردت ببناء هذه المدينة مباهاة ولا مفاخرة ولا رياء ولا سمعة ولا مكابرة، وإنما أردت أن تعبد بها ويتلى بها كتابك وتقام بها حدودك وشرائع دينك وسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - ما بقيت الدنيا، اللهم وفق سكانها وقطانها للخير وأعنهم عليه، واكفهم مؤنة أعدائهم وأدر عليهم الأرزاق، واغمد عنهم سيف الفتنة والشقاق إنك على كل شيء قدير. (¬1) عبد الله بن داود (¬2) (213 هـ) عبد الله بن داود بن عامر بن ربيع الإمام الحافظ القدوة أبو عبد الرحمن الهمداني ثم البصري المشهور بالخريبي حدث عن الأعمش وهشام بن عروة ومسعر بن كدام والثوري وشريك وسلمة بن نبيط وابن جريج وآخرين. ¬

(¬1) الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى (1/ 167). (¬2) شذرات الذهب (2/ 29) وطبقات ابن سعد (7/ 295) والجرح والتعديل (5/ 47) وتهذيب الكمال (14/ 458 - 467) وتذكرة الحفاظ (1/ 337 - 339) والسير (9/ 346 - 352).

موقفه من المبتدعة:

وعنه عمرو بن علي الصيرفي ومسدد ونصر بن علي ومحمد بن بشار وابن عيينة وابن المديني وطائفة. قال عثمان بن سعيد الدارمي: قلت ليحيى بن معين: فعبد الله بن داود الخريبي؟ قال: ثقة، مأمون، قلت: فأبو عاصم النبيل؟ قال: ثقة. قلت: فأيهما أحب إليك؟ فقال: ثقتان. قال الدارمي: الخريبي أعلى. من أقواله: ما أقبح بالرجل أن يظهر لأخيه خلاف ما في نفسه. وأيضا: من أمكن الناس من كل ما يريدون أضروا بدينه ودنياه. توفي سنة ثلاث عشرة ومائتين. موقفه من المبتدعة: أخرج الخطيب عن محمد بن يحيى الأزدي قال: سمعت عبد الله بن داود الخريبي يقول: والله لو بلغنا أن القوم لم يزيدوا في الوضوء على غسل أظفارهم، لما زدنا عليه. قال أبو بكر بن خزيمة: يريد أن الدين الاتباع. (¬1) موقفه من الرافضة: روى اللالكائي بسنده إلى إسماعيل بن إسحاق قال: سمعت عارما يقول: سمعت عبد الله بن داود يقول: من قدم عثمان على علي فحجته قوية لأن الخمسة قدموه. (¬2) موقفه من الجهمية: - قال زيد بن أخزم: سمعت الخريبي يقول: نَوْلُ الرّجلِ أن يكره ¬

(¬1) الفقيه والمتفقه (1/ 388). (¬2) أصول الاعتقاد (8/ 1452/2619).

أبو سهل الهيثم بن جميل (213 هـ)

ولده على طلب الحديث. وقال: ليس الدين بالكلام إنما الدين بالآثار. وقال في الحديث: من أراد به دنيا، فدنيا، ومن أراد به آخرة، فآخرة. (¬1) - وأخرج ابن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية عن عبد الله بن داود الخريبي بخاء معجمة ثم راء ثم موحدة مصغر قال: ما في القرآن آية أشد على أصحاب جهم من هذه الآية: {لأنذركم بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (¬2) فمن بلغه القرآن فكأنما سمعه من الله تعالى. (¬3) - جاء في أصول الاعتقاد قال بشر بن الحارث: سألت عبد الله بن داود عن القرآن فقال: العزيز الجبار، يكون هذا مخلوقا؟. - وفيه عنه قال: من قال القرآن مخلوق فعلى الإمام أن يستتيبه، فإن تاب وإلا ضربت عنقه. (¬4) أبو سهل الهَيثم بن جَمِيل (¬5) (213 هـ) الحافظ، الإمام الكبير، الثبت، أبو سهل البغدادي، نزيل أنطاكية. حدث عن مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك، والليث بن ¬

(¬1) السير (9/ 349) وشرف أصحاب الحديث (66). (¬2) الأنعام الآية (19). (¬3) الفتح (13/ 526). (¬4) أصول الاعتقاد (2/ 350/507). (¬5) طبقات ابن سعد (7/ 490) والتاريخ الكبير (8/ 216) وتاريخ بغداد (14/ 56 - 57) وتهذيب الكمال (30/ 365 - 369) وتذكرة الحفاظ (1/ 363) والسير (10/ 396) وتهذيب التهذيب (11/ 90) وشذرات الذهب (2/ 36).

موقفه من القدرية:

سعد وأبي عوانة وغيرهم. روى عنه أحمد بن حنبل، وأحمد بن إبراهيم الدورقي، وفضل بن يعقوب الرخامي، وسعدان بن يزيد وغيرهم. قال الإمام أحمد: كان من أصحاب الحديث ببغداد. وقال العجلي: ثقة صاحب سنة. توفي رحمه الله سنة ثلاث عشرة ومائتين. موقفه من القدرية: عن أبي سهل قال: لا تبدأ القدرية بالسلام، فإن سلموا عليك فقل وعليك. (¬1) الأسود بن سالم أبو محمد البغدادي (¬2) (213 هـ) أبو محمد الأسود بن سالم البغدادي الزاهد، العابد. سمع حماد بن زيد، وسفيان بن عيينة، وإسماعيل بن علية، ومعتمر بن سليمان، ويحيى بن عبد الملك، وعبيد الله الأشجعي. وروى عنه حاتم بن الليث وعبد الوهاب بن عبد الحكم الوراق، ومحمد بن عبد الله المخرمي، وأحمد بن زياد السمسار. كان صديقا ودودا لمعروف الكرخي، وكان معروفا بالخير. قال محمد بن جرير: كان ثقة ورعا فاضلا. توفي سنة ثلاث عشرة ومائتين. موقفه من المبتدعة: - قال أسود بن سالم: كان ابن المبارك إماما يقتدى به، كان من أثبت ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 705/1146). (¬2) تاريخ بغداد (7/ 35 - 37) والوافي بالوفيات (9/ 251 - 252) تاريخ الإسلام (حوادث 211 - 220/ص.79 - 80).

موقفه من الجهمية:

الناس في السنة، إذا رأيت رجلا يغمز ابن المبارك، فاتهمه على الإسلام. (¬1) - جاء في تاريخ بغداد: عن حبش بن الورد قال: رؤي أسود بن سالم يغسل وجهه من غدوة إلى نصف النهار، فقيل له: إيش خبرك؟ قال: رأيت اليوم مبتدعا، فأنا أغسل وجهي منذ رأيته إلى الساعة! وأنا أظنه لا ينقى!. (¬2) موقفه من الجهمية: عن عبد الوهاب الوراق قال: قلت للأسود بن سالم: هذه الآثار التي تروى في معاني النظر إلى الله تعالى ونحوها من الأخبار؟ فقال: نحلف عليها بالطلاق والمشي، قال عبد الوهاب: معناه تصديقا بها. (¬3) موقف السلف من عبيد الله بن موسى الشيعي (213 هـ) بغضه للصحابة: - جاء في السير: قال ابن مندة: كان أحمد بن حنبل يدل الناس على عبيد الله، وكان معروفا بالرفض، لم يدع أحدا اسمه معاوية يدخل داره فقيل: دخل عليه معاوية بن صالح الأشعري، فقال: ما اسمك؟ قال: معاوية قال: والله لا حدثتك ولا حدثت قوما أنت فيهم. (¬4) ¬

(¬1) السير (8/ 395). (¬2) تاريخ بغداد (7/ 36). (¬3) الشريعة (2/ 9/616). (¬4) السير (9/ 556 - 557).

عبد الله بن عبد الحكم (214 هـ)

عبد الله بن عبد الحَكَم (¬1) (214 هـ) عبد الله بن عبد الحكم بن أعين بن ليث الإمام الفقيه مفتي الديار المصرية أبو محمد المصري المالكي، صاحب مالك ويقال إنه من موالي عثمان رضي الله عنه. حدث عن الليث بن سعد ومالك بن أنس وابن القاسم وابن وهب ومسلم بن خالد الزنجي ومفضل بن فضالة وعدة. سمع منه بنوه محمد وسعد وعبد الرحمن وعبد الحكم، ومقدام بن داود الرعيني وأبو محمد الدارمي وأبو يزيد القراطيسي، وطائفة. قال أحمد العجلي: لم أر بمصر أعقل منه ومن سعيد بن أبي مريم. قال ابن عبد البر: كان ابن عبد الحكم رجلا صالحا ثقة متحققا بمذهب مالك. توفي سنة أربع عشرة ومائتين. موقفه من الصوفية: جاء في تلبيس إبليس بالسند إلى أبي عبد الرحمن السلمي قال: أول من تكلم في بلدته في ترتيب الأحوال ومقامات أهل الولاية ذو النون المصري، فأنكر عليه ذلك عبد الله بن عبد الحكم، وكان رئيس مصر وكان يذهب مذهب مالك، وهجره لذلك علماء مصر لما شاع خبره أنه أحدث علما لم يتكلم فيه السلف حتى رموه بالزندقة. (¬2) " التعليق: هكذا كان أصحاب مالك العلماء ينفون عن الدين تحريف الغالين ¬

(¬1) شذرات الذهب (2/ 34) والبداية والنهاية (10/ 281) والسير (10/ 220) وتهذيب الكمال (15/ 191) وترتيب المدارك (1/ 304 - 306). (¬2) التلبيس (206) والسير (11/ 534).

الوليد بن أبان الكرابيسي (214 هـ)

وانتحال المبطلين، وكل من أراد نشر زندقته أو باطنيته أو رافضيته أو أوساخ أهل اليونان، تشكل بالشكل الذي يناسبه. فرحمة الله على هذا الإمام وعلى أمثاله من علماء السلف. الوليد بن أبان الكرابيسي (¬1) (214 هـ) الوليد بن أبان الكرابيسي المتكلم المعتزلي البصري أحد الأئمة، له مقالات في تقوية مذهب الاعتزال. وذكر الخطيب في تاريخه قصة توبته في آخر حياته ورجوعه إلى مذهب أهل الحديث. توفي سنة أربع عشرة ومائتين. موقفه من الجهمية: - كان بشر المريسي يخرج إلى ناحية الزابيين ليغتسل، ويتطهر وكان به المذهب، قال فمضى وليد الكرابيسي إليه وهو في الماء. فقال: مسألة؟ قال وأنا على هذه الحال؟ فقال له نعم. فقال: أليس رووا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه "كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع" (¬2)، فهذا الذي أنت فيه إيش؟ قال: إبليس يوسوس لي، ويوهمني أني لم أطهر. قال: فهو الذي وسوس لك حتى قلت القرآن مخلوق. (¬3) ¬

(¬1) تاريخ بغداد (13/ 471 - 472) والأعلام (8/ 119) والسير (10/ 548). (¬2) أخرجه البخاري (1/ 403/201) ومسلم (1/ 258/325 (51)) وأخرجه أحمد (3/ 179) وأبو داود (1/ 72/95) والترمذي (2/ 507/609) مختصرا والنسائي (1/ 61/73) بمعناه. كلهم من طرق عن أنس. (¬3) تاريخ بغداد (13/ 471).

أبو سليمان الداراني (215 هـ)

- جاء في شرف أصحاب الحديث بالسند إلى أحمد بن سنان قال: كان الوليد الكرابيسي خالي، فلما حضرته الوفاة قال لبنيه: تعلمون أحدا أعلم بالكلام مني؟ قالوا: لا، قال فتتهموني؟ قالوا: لا، قال: فإني أوصيكم، أتقبلون؟ قالوا: نعم، قال: عليكم بما عليه أصحاب الحديث، فإني رأيت الحق معهم -لست أعني الرؤساء- ولكن هؤلاء الممزقين، ألم تر أحدهم يجيء إلى الرئيس منهم فيخطئه ويهجنه. قال أبو بكر بن الأشعث: كان أعرف الناس بالكلام بعد حفص الفرد الكرابيسي، وكان حسين الكرابيسي منه تعلم الكلام. (¬1) " التعليق: الكرابيسي معروف بعداوته لعقيدة السلف، وهذا النص المنقول هنا يدل دلالة واضحة على تراجعه عما كان يعتقده، ورجوعه إلى عقيدة السلف التي تتمثل في أهل الحديث الذين هم حملتها إلى يوم القيامة، فنقل مواقف مثل هؤلاء لا يوهم التناقض في البحث ولكن المقصود منه التأييد بكل موقف يظهر لنا أنه سلفي ولو كان صاحبه على خلافه. أبو سليمان الدَّارانِي (¬2) (215 هـ) الإمام الكبير، زاهد العصر، أبو سليمان، عبد الرحمن بن أحمد الداراني، ولد في حدود الأربعين ومائة. روى عن الثوري وأبي الأشهب العطاردي ¬

(¬1) شرف أصحاب الحديث (56) والتلبيس (104). (¬2) السير (10/ 182 - 186) والجرح والتعديل (5/ 214) وتاريخ بغداد (10/ 248 - 250) وحلية الأولياء (9/ 254 - 280).

موقفه من المبتدعة:

وغيرهما. روى عنه تلميذه أحمد بن أبي الحواري، وهاشم بن خالد وغيرهما. من كلماته: أفضل الأعمال خلاف هوى النفس. ومنها: إذا تكلف المتعبدون أن يتكلموا بالإعراب ذهب الخشوع من قلوبهم. ومنها: من اشتغل بنفسه شغل عن الناس، ومن اشتغل بربه شُغل عن نفسه وعن الناس. مات سنة خمس عشرة ومائتين وقيل غير ذلك. موقفه من المبتدعة: أبو سليمان هو وأمثاله ممن عاشوا في القرون الأولى، تروى عنهم أقوال وحكم، في ظاهرها توافق عقيدة السلف، وقد أخذها كثير ممن ألف في ذلك وجعلوها كشاهد، وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية في كثير من كتبه وفتاواه وتلميذه العلامة ابن القيم. في حين نجدهم صوفية أصحاب مقامات وأحوال أنكرها عليهم أهل العلم عامة وعلماء السلف خاصة. واسمع ما يقوله أبو سليمان في البدع والمبتدعة: - جاء في تاريخ الخطيب وغيره: وقال أحمد: سمعت أبا سليمان يقول: ليس لمن ألهم شيئا من الخير أن يعمل به حتى يسمعه من الأثر، فإذا سمعه من الأثر عمل به وحمد الله حيث وافق ما في قلبه. (¬1) - وعنه قال: ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياما، فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب والسنة. (¬2) ¬

(¬1) تاريخ الخطيب (10/ 249) والحلية (9/ 269) والباعث (108) والسير (10/ 183). (¬2) البداية والنهاية (10/ 255) والاعتصام (1/ 126 - 127) والباعث (108) والسير (10/ 183) و (18/ 231) والاستقامة (1/ 95 - 96).

موقفه من القدرية:

موقفه من القدرية: - جاء في الإبانة: عن أحمد بن أبي الحواري قال: قلت لأبي سليمان الداراني: من أراد الحظوة؛ فليتواضع في الطاعة، فقال لي: ويحك، وأي شيء التواضع؟ إنما التواضع في أن لا تعجب بعملك، وكيف يعجب عاقل بعمله، وإنما يعد العمل نعمة من الله عز وجل ينبغي أن يشكر الله ويتواضع، إنما يعجب بعمله القدري الذي يزعم أنه يعمل، فأما من زعم أنه يستعمل؛ فكيف يعجب. (¬1) - وفيها: عن أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: أهل السماوات والأرضين من الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين، ومن دونهم من الخليقة أعجز في حيلتهم وأضعف في قوتهم من أن يحدثوا في ملك الله عز وجل وسلطانه طرفة بعين أو خطرة بقلب أو نفسا واحدا من روح لم يشأه الله لهم ولم يعلمه منهم، ولقد أذعنت الجاهلية الجهلاء بالقدر، وأقرت لله بالمشيئة بعد ذلك في إسلامها، وقالته في خطبها ومحاوراتها وأشعارها. (¬2) - وجاء في السير: قال ابن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان يقول: صل خلف كل مبتدع إلا القدري، لا تصل خلفه، وإن كان سلطانا. (¬3) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 11/286/ 1930) والشريعة (1/ 462/604). (¬2) الإبانة (2/ 11/288/ 1933). (¬3) سير أعلام النبلاء (10/ 183).

قبيصة بن عقبة (215 هـ)

قَبِيصَة بن عُقْبَة (¬1) (215 هـ) قبيصة بن عقبة بن محمد بن سفيان بن عقبة، أبو عامر السُّوائي الكوفي، الحافظ، الإمام، الثقة، العابد. حدث عن يونس بن أبي إسحاق، وشعبة، وحمزة الزيات، وسفيان الثوري، وخلق. قال الذهبي: وما أظنه ارتحل في الحديث، وكان من أوعية العلم. حدث عنه أحمد بن حنبل، وعثمان بن أبي شيبة، والبخاري، وأبو زرعة الرازي، وابنه عقبة، وخلق كثير. طلب العلم وهو حدث. قال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عن قبيصة وأبي نعيم فقال: كان قبيصة أفضل الرجلين، وأبو نعيم أتقنهما، ولم أر من المحدثين من يحفظ ويأتي بالحديث على لفظ واحد لا يغيره سوى قبيصة. قال جعفر بن حمدويه: كنا على باب قبيصة، ومعنا دلف ابن الأمير أبي دلف، ومعه الخدم، يكتب الحديث، فصار إلى باب قبيصة فدق عليه فأبطأ قبيصة، فعاوده الخدم وقيل له: ابن ملك الجبل على الباب، وأنت لا تخرج إليه، فخرج وفي طرف إزاره كسر من الخبز، فقال: رجل قد رضي من الدنيا بهذا ما يصنع بابن ملك الجبل؟ والله لا حدثته، فلم يحدثه. مات في صفر سنة خمس عشرة ومائتين رحمه الله تعالى. موقفه من الرافضة: جاء في أصول الاعتقاد: عن أبي زرعة الرازي قال: سمعت قبيصة بن ¬

(¬1) تاريخ بغداد (12/ 473 - 476) والتاريخ الكبير (7/ 177) وتهذيب الكمال (23/ 481 - 489) وتاريخ الإسلام (حوادث 211 - 220/ 352 - 354) وتذكرة الحفاظ (1/ 373 - 375) والسير (10/ 130 - 135) وتهذيب التهذيب (8/ 347).

عبد الملك بن قريب الأصمعي (216 هـ)

عقبة يقول: حب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم سنة. (¬1) عبد الملك بن قُرَيب الأصمعي (¬2) (216 هـ) الإمام العلامة الحافظ، حجة الأدب، لسان العرب، أبو سعيد عبد الملك ابن قريب الأصمعي اللغوي الأخباري. ولد سنة بضع وعشرين ومائة. روى عن ابن عون وسليمان التيمي وشعبة والحمادين وغيرهم. روى عنه أبو عبيد ويحيى بن معين وأبو حاتم الرازي وغيرهم. قال إسحاق الموصلي: دخلت على الأصمعي أعوده، فإذا قِمَطْر، فقلت: هذا علمك كله؟ فقال: إن هذا من حق لكثير. وقال محمد بن الأعرابي: شهدت الأصمعي وقد أنشد نحوا من مائتي بيت، ما فيها بيت عرفناه. وقال الربيع بن سليم: سمعت الشافعي يقول: ما عبر أحد عن العرب بأحسن من عبارة الأصمعي. قال المبرد: كان الأصمعي بحرا في اللغة، لا نعرف مثله فيها، وكان أبو زيد أنحى منه. قال الذهبي: كتب شيئا لا يحصى عن العرب، وكان ذا حفظ وذكاء ولطف، وعبارة، فسادَ. مات سنة ست عشرة ومائتين وقيل غير ذلك. موقفه من المبتدعة: - أخرج ابن بطة بسنده إلى الأصمعي قال: لم أر بيتا قط أشبه بالسنة من قول عدي: ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (7/ 1313/2327). (¬2) شذرات الذهب (2/ 36 - 37) والأعلام (4/ 162) ووفيات الأعيان (3/ 170) وتاريخ بغداد (1/ 410 - 420) والجرح والتعديل (5/ 363) والأنساب (1/ 293) وميزان الاعتدال (2/ 662) والسير (10/ 175).

عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه ... فإن القرين بالمقارن يقتدي (¬1) - وقال أيضا: سمعت بعض فقهاء المدينة يقول: إذا تلاحمت بالقلوب النسبة، تواصلت بالأبدان الصحبة. قال ابن بطة: وبهذا جاءت السنة. (¬2) - عن الحسن بن عبد الوهاب قال: سمعت السبياوي يقول: رأيت الأصمعي يذهب إلى أن الجدّال زنادقة. (¬3) - عن أبي يعلى المنقري، قال: سمعت الأصمعي، قال: سمعت أعرابيا يقول: من لاحى الرجال وماراهم قلت مروءته وهانت كرامته، ومن أكثر من شيء عرف به. قال ابن بطة عقبه: فاعلم يا أخي أني لم أر الجدال والمناقضة والخلاف والمماحلة والأهواء المختلفة والآراء المخترعة من شرائع النبلاء ولا من أخلاق العقلاء ولا من مذاهب أهل المروءة ولا مما حكي لنا عن صالحي هذه الأمة ولا من سير السلف ولا من شيمة المرضيين من الخلف وإنما هو لهو يتعلم ودراية يتفكه بها ولذة يستراح إليها ومهارشة العقول وتذريب اللسان بمحق الأديان، وضراوة على التغالب واستمتاع بظهور حجة المخاصم، وقصد إلى قهر المناظر والمغالطة في القياس وبهت في المقاولة وتكذيب الآثار وتسفيه أحلام الأبرار، ومكابرة لنص التنزيل وتهاون بما قاله الرسول ونقض لعقدة ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/440/ 378). (¬2) الإبانة (2/ 3/453/ 422). (¬3) الإبانة (2/ 3/530/ 652).

موقفه من الجهمية:

الإجماع، وتشتيت الألفة وتفريق لأهل الملة، وشكوك تدخل على الأمة، وضراوة السلاطة، وتوغير للقلوب وتوليد للشحناء في النفوس، عصمنا الله وإياكم من ذلك وأعاذنا من مجالسة أهله. (¬1) موقفه من الجهمية: جاء في الإبانة: عن محمد بن غزوان، قال: سألت الأصمعي عن قول الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (¬2) قال: تأكيدا لكلامه، يريد أنه لا ترجمان بينهما ولا رسول. قلت: فما موضعه من الكلام؟ قال: كقول الرجل: لأضربنك ضربا، ولأفعلن بك فعلا. (¬3) - وفي أصول الاعتقاد: عن الأصمعي قال: إذا سمعته يقول الاسم غير المسمى فاحكم أو قال فاشهد عليه بالزندقة. (¬4) - وذكر ابن أبي حاتم عن الأصمعي قال: قدمت امرأة جهم فقال رجل عندها: الله على عرشه، فقالت: محدود على محدود. فقال الأصمعي: هي كافرة بهذه المقالة، أما هذا الرجل وامرأته فما أولاه بأن سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب. (¬5) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/531 - 532/ 657). (¬2) النساء الآية (164). (¬3) الإبانة (2/ 14/303 - 304/ 471). (¬4) أصول الاعتقاد (2/ 237/346 - 347). (¬5) اجتماع الجيوش الإسلامية (202) والفتاوى (5/ 53).

موقفه من القدرية:

" التعليق: هؤلاء هم أئمة اللغة الذين فهموا لغة القرآن والحديث، وكانوا على علم بحيل وألاعيب المبتدعة، وكانوا على عقيدة السلف الصالح. أما منتحلو اللغة والنحو الآن فعلى العكس من ذلك. إما جهلة جهلا مطبقا بالعلوم الشرعية، لأنهم قضوا حياتهم في العلوم اللغوية ويعتذرون أن هذه العلوم ليست من تخصصهم، وإما أن يكون لهم علم بالعلوم الشرعية، ولكن بشكل منحرف، عقيدة أشعرية وطريقة صوفية وبدعة مذهبية، هذا هو النوع الطيب منهم وقلما تجد من جمع بين سلامة المعتقد وحسن التصور ورسوخ العلم. كثرهم الله وهدى الباقي إلى سواء الصراط. موقفه من القدرية: - جاء في الإبانة: عن الأصمعي قال: من قال: إن الله عز وجل لا يرزق الحرام؛ فهو كافر. (¬1) - وجاء في أصول الاعتقاد عنه قال: سئل أعرابي عن القدر قال: ذاك علم اختصمت فيه الظنون وغلا فيه المختصمون، فالواجب علينا أن نرد ما أشكل علينا من حكمه إلى ما سبق من علمه. (¬2) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 11/276/ 1902) والشريعة (1/ 435/548). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 766/1821) والإبانة (2/ 11/323 - 324/ 2013).

حجاج بن منهال الأنماطي (217 هـ)

حجَّاج بن مِنْهَال الأَنْمَاطِي (¬1) (217 هـ) الحافظ، الإمام القدوة، العابد الحجة، أبو محمد البصري الأنماطي أخو محمد. حدث عن قرة بن خالد، وشعبة، والحمادين، وابن الماجشون، ومالك وعدة. حدث عنه البخاري، والباقون بواسطة، وإسحاق الكوسج، وعبد بن حميد، وأحمد بن الفرات، وإسماعيل القاضي وخلق كثير. قال أحمد العجلي: ثقة، رجل صالح، كان سمسارا، يأخذ من كل دينار حبة، فجاء خراساني موسر من أصحاب الحديث، فاشترى له أنماطا، فأعطاه التاجر ثلاثين دينارا، فقال: ما هذه؟ قال سمسرتك، قال: دنانيرك أهون علي من هذا التراب، هات من كل دينار حبة، فأخذ منه دينارا وكسرا. قال خلف كردوس: كان حجاج صاحب سنة يظهرها. توفي رحمه الله سنة سبع عشرة ومائتين في شوال. موقفه من الجهمية: عن عطاء ابن أخي حجاج الأنماطي قال: قلت لعمي حجاج: ما تقول في القرآن؟ قال: القرآن كلام الله وليس من الله شيء مخلوق. (¬2) ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (7/ 301) والتاريخ الكبير (2/ 380) وتهذيب الكمال (5/ 457 - 459) وتذكرة الحفاظ (1/ 403) وتهذيب التهذيب (2/ 206) والسير (10/ 352 - 354) والشذرات (2/ 38) وتاريخ الإسلام (حوادث 211 - 220/ص.106 - 108). (¬2) السنة لعبد الله (34).

أبو مسهر عبد الأعلى (218 هـ)

أبو مُسْهِر عبد الأعلى (¬1) (218 هـ) عبد الأعلى بن مسهر بن عبد الأعلى أبو مسهر الغساني الدمشقي الفقيه، ولد سنة أربعين ومائة. سمع من مالك بن أنس وإسماعيل بن عياش وابن عيينة وغيرهم. روى عنه يحيى بن معين وأحمد بن حنبل والبخاري وغيرهم. قال يحيى بن معين: الذي يحدث ببلد به من هو أولى بالتحديث منه أحمق، وإذا رأيتني أحدث ببلد فيها مثل أبي مسهر فينبغي للحيتي أن تحلق. كان أعلم الناس بالمغازي وأيام الناس. قال أبو داود: سمعت أحمد يقول: رحم الله أبا مسهر، ما كان أثبته، وجعل يطريه. قال ابن حبان: كان إمام أهل الشام في الحفظ والإتقان، ممن عني بأنساب أهل بلده وأنبائهم، وإليه كان يرجع أهل الشام في الجرح والعدالة لشيوخهم. وقال أبو داود: لقد كان من الإسلام بمكان، حمل على المحنة فأبى، وحمل على السيف، فمد رأسه وجرد السيف فأبى أن يجيب فلما رأوا ذلك منه، حمل إلى السجن فمات. توفي رحمه الله سنة ثمان عشرة ومائتين. موقفه من الجهمية: - عن محمد بن يعقوب الدمشقي قال: سمعت أبا مسهر يقول: ما أدركنا أحدا من أهل العلم إلا وهو يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق. (¬2) - جاء في السير: قال علي بن عثمان النفيلي: كنا على باب أبي مسهر ¬

(¬1) السير (10/ 228) وطبقات ابن سعد (7/ 473) والجرح والتعديل (6/ 29) وتاريخ بغداد (11/ 72 - 75) وترتيب المدارك (1/ 241 - 242) وتهذيب التهذيب (16/ 369) وتذكرة الحفاظ (1/ 381) وشذرات الذهب (2/ 44). (¬2) الإبانة (2/ 12/21 - 22/ 213).

جماعة من أصحاب الحديث، فمرض فعدناه وقلنا: كيف أصبحت؟ قال في عافية، راضيا عن الله ساخطا على ذي القرنين: كيف لم يجعل سدا بيننا وبين أهل العراق كما جعله بين أهل خراسان وبين يأجوج ومأجوج، فما كان بعد هذا إلا يسيرا حتى وافى المأمون دمشق، ونزل بدير مران وبنى القبة فوق الجبل، فكان بالليل يأمر بجمر عظيم فيوقد ويجعل في طسوت كبار تدلى من عند القبيبة بسلاسل وحبال فتضيء لها الغوطة فيبصرها بالليل. وكان لأبي مسهر حلقة في الجامع بين العشائين عند حائط الشرقي، فبينا هو ليلة إذ قد دخل الجامع ضوء عظيم فقال أبو مسهر: ما هذا؟ قالوا: النار التي تدلى من الجبل لأمير المؤمنين حتى تضيء له الغوطة فقال: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} (¬1) وكان في الحلقة صاحب خبر للمأمون، فرفع ذلك إلى المأمون فحقدها عليه، وكان قد بلغه أيضا أنه كان على قضاء أبي العميطر، فلما رحل المأمون أمر بحمل أبي مسهر إليه فامتحنه بالرقة في القرآن ... - وفيه بالسند إلى أصبغ: وكان مع أبي مسهر هو وابن أبي النجا، خرجا معه يخدمانه فحدثني أصبغ أن أبا مسهر دخل على المأمون بالرقة وقد ضرب رقبة رجل وهو مطروح، فأوقف أبا مسهر في الحال فامتحنه فلم يجبه، فأمر به فوضع في النطع ليضرب عنقه فأجاب إلى خلق القرآن، فأخرج من النطع، فرجع عن قوله فأعيد إلى النطع، فأجاب فأمر به أن يوجه إلى العراق، ¬

(¬1) الشعراء الآيتان (128 - 129).

ولم يثق بقوله، فما حذر وأقام عند إسحاق بن إبراهيم -يعني نائب بغداد- أياما لا تبلغ مائة يوم ومات رحمه الله. (¬1) - وجاء في ترتيب المدارك: قال موسى بن الحسن: سمعت أبا مسهر وقد وجه به المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم ببغداد فأحضر له إسحاق جماعة ليقر بكتاب المحنة الذي كتبه المأمون في خلق القرآن ونفي الرؤية وعذاب القبر، وأن الميزان ليس بكفتين وأن الجنة والنار غير مخلوقتين. فلما قرئ الكتاب على أبي مسهر قال: أنا منكر لجميع ما في كتابكم هذا، أبعد مجالسة مالك والثوري ومشايخ أهل العلم: إذًا لا أكفر بالله بعد إحدى وتسعين، لا أقول القرآن مخلوق ولا أنكر عذاب القبر ولا الموازين أنها كفتان، ولا أن الله يرى في القيامة، ولا أن الله تعالى على عرشه وعلمه قد أحاط بكل شيء، نزل بذلك القرآن وجاءت به الأخبار التي نقلها أهل العلم، فإن كانوا متهمين في ما يقولون فإنهم متهمون في القرآن، فهم الذين نقلوا القرآن والسنن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجر برجله وطرح في أضيق المجالس فما أقام به إلا يسيرا حتى توفي رحمه الله، فحضر جنازته من الخلق ما لا يحصيه إلا الله. (¬2) - قال إسحاق بن إبراهيم: لما صار المأمون إلى دمشق، ذكروا له أبا مسهر ووصفوه بالعلم والفقه، فأحضره فقال: ما تقول في القرآن؟ قال: كما قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى ¬

(¬1) السير (10/ 233 - 234). (¬2) ترتيب المدارك (3/ 223 - 224).

يسمع كَلَامَ اللَّهِ} (¬1) فقال: أمخلوق هو أو غير مخلوق؟ قال: ما يقول أمير المؤمنين؟ قال: مخلوق. قال: يخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو عن الصحابة أو التابعين؟ قال: بالنظر. واحتج عليه فقال: يا أمير المؤمنين، نحن مع الجمهور الأعظم أقول بقولهم، والقرآن كلام الله غير مخلوق. قال: يا شيخ، أخبرني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هل اختتن؟ قال: ما سمعت في هذا شيئا. قال: فأخبرني عنه أكان يشهد إذا زوج أو تزوج؟ قال: ولا أدري، قال: اخرج قبحك الله، وقبح من قلدك دينه وجعلك قدوة. (¬2) " التعليق: لقد ضل سعي المأمون وخسر الخسران المبين، وتأثم الإثم العظيم، فبنى للضلال أركانا، وجعل له سدودا وحصونا، فرخت فيها الجهمية والشيعة الروافض أفراخها، وأظهرت أعناقها التي كانت مقبورة مدفونة مدحورة ذليلة حقيرة عند علماء السلف وحكامهم، والذين جاهدوا فيهم حق جهاده باللسان والفعل والكتاب رضي الله عنهم وأرضاهم. فاستطاع هؤلاء الضلال الاستحواذ على المأمون الذي ضرب المثل في الجرأة وفي الوقاحة على علماء السلف ولم يستثن منهم أحدا، بل أتى على جميعهم محدثهم وفقيههم، وحتى العامة الذين يعيشون على فطرة سليمة وعقيدة سلفية صحيحة. ولله في ذلك حكم، فكتب الله الأجر والثواب لجماعة من السلفيين ¬

(¬1) التوبة الآية (6). (¬2) السير (10/ 235) وترتيب المدارك (3/ 224).

موقف السلف من بشر بن غياث المريسي الجهمي (218 هـ)

وقفوا له بالمرصاد وجادلوه بالحجة والبرهان، وثبتهم الله على ذلك مهما بلغت تهديداته وأساليب تعذيبه، واستشهد من استشهد منهم ومثالهم في ذلك إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد رضي الله عنه، وسيمر بنا إن شاء الله من مواقفه ومواقف غيره ما يثلج الصدر رحمهم الله جميعا، وجعلنا على نهجهم القويم، وهذا أبو مسهر إمام أهل الحديث في وقته ممن ينالون الأجر بإذن الله. موقف السلف من بشر بن غياث المريسي الجهمي (218 هـ) زندقته وتجهمه ومواقف السلف منه: - قال الذهبي في سيره: نظر في الكلام، فغلب عليه، وانسلخ من الورع والتقوى، وجرد القول بخلق القرآن، ودعا إليه، حتى كان عين الجهمية في عصره وعالمهم، فمقته أهل العلم، وكفره عدة، ولم يدرك جهم بن صفوان، بل تلقف مقالاته من أتباعه. (¬1) - وقال فيها أيضا: وكان جهميا له قدر عند الدولة، وكان يشرب النبيذ، وقال مرة لرجل اسمه كامل: في اسمه دليل على أن الاسم غير المسمى. (¬2) - وقال: وقع كلامه إلى عثمان بن سعيد الدارمي الحافظ، فصنف مجلدا في الرد عليه. (¬3) ¬

(¬1) السير (10/ 201). (¬2) السير (10/ 201). (¬3) السير (10/ 202).

- ثم قال: فهو بشر الشر وبشر الحافي بشر الخير، كما أن أحمد بن حنبل هو أحمد السنة، وأحمد بن أبي دؤاد أحمد البدعة. ومن كفر ببدعة وإن جلت، ليس هو مثل الكافر الأصلي، ولا اليهودي والمجوسي، أبى الله أن يجعل من آمن بالله ورسوله واليوم الآخر، وصام وصلى وحج وزكى وإن ارتكب العظائم وضل وابتدع، كمن عاند الرسول، وعبد الوثن، ونبذ الشرائع وكفر، ولكن نبرأ إلى الله من البدع وأهلها. (¬1) - وفيها: قال البويطي: سمعت الشافعي يقول: ناظرت المريسي، فقال: القرعة قمار، فذكرت له حديث عمران بن حصين في القرعة (¬2)، ثم ذكرت قوله لأبي البختري القاضي، فقال: شاهدا آخر وأصلبه. (¬3) - وفيها: روى أبو داود، عن أحمد بن حنبل، أنه سمع ابن مهدي أيام صنع ببشر ما صنع يقول: من زعم أن الله لم يكلم موسى يستتاب، فإن تاب، وإلا ضربت عنقه. (¬4) وفيها: قال أبو بكر الأثرم: سئل أحمد عن الصلاة خلف بشر المريسي، فقال: لا تصل خلفه. (¬5) ¬

(¬1) السير (10/ 202). (¬2) أخرجه أحمد (4/ 426) ومسلم (3/ 1288/1668) وأبو داود (4/ 266 - 269/ 3958) والترمذي (3/ 645/1364) والنسائي (4/ 366/1957) وابن ماجة (2/ 786/2345) من طرق عن عمران بن حصين، ولفظ مسلم عن عمران بن الحصين أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجزأهم أثلاثا، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة وقال له قولا شديدا. (¬3) السير (10/ 200) والسنة للخلال (5/ 105). (¬4) السير (10/ 201). (¬5) السير (10/ 202).

موقف السلف من المأمون (218 هـ)

- وفيها: قال المروذي: سمعت أبا عبد الله، وذكر المريسي، فقال: كان أبوه يهوديا، أي شيء تراه يكون؟ (¬1) - وفيها: قال قتيبة: بشر المريسي كافر. (¬2) - وفيها: قال أبو عبد الله: كان بشر يحضر مجلس أبي يوسف، فيصيح، ويستغيث، فقال له أبو يوسف مرة: لا تنتهي أو تفسد خشبة، ثم قال أبو عبد الله: ما كان صاحب حجج، بل صاحب خطب. (¬3) - وفي السنة لعبد الله: عن يحيى بن أيوب قال: كنت أسمع الناس يتكلمون في المريسي فكرهت أن أقدم عليه حتى أسمع كلامه لأقول فيه بعلم، فأتيته فإذا هو يكثر الصلاة على عيسى بن مريم عليه السلام، فقلت له: إنك تكثر الصلاة على عيسى فأهل ذاك هو ولا أراك تصلي على نبينا ونبينا أفضل منه فقال: ذاك كان مشغولا بالمرآة والمشط والنساء. (¬4) موقف السلف من المأمون (218 هـ) إحداثه التكبير دبر الصلوات: - وفي البداية والنهاية يقول الحافظ ابن كثير: وفيها أي سنة ست ¬

(¬1) السير (10/ 201). (¬2) السير (10/ 202). (¬3) السير (10/ 201 - 202). (¬4) السنة لعبد الله (39).

عشرة ومائتين كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد يأمره أن يأمر الناس بالتكبير عقب الصلوات الخمس، فكان أول ما بدئ بذلك في مجامع بغداد والرصافة يوم الجمعة لأربع عشرة ليلة خلت من رمضان، وذلك أنهم كانوا إذا قضوا الصلاة قام الناس قياما فكبروا ثلاث تكبيرات، ثم استمروا على ذلك في بقية الصلوات وهذه بدعة أحدثها المأمون أيضا بلا مستند وبلا دليل ولا معتمد، فإن هذا لم يفعله أحد قبله، ولكن ثبت في الصحيح عن ابن عباس أن رفع الصوت بالذكر كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين ينصرف الناس من المكتوبة (¬1) وقد استحب هذا طائفة من العلماء كابن حزم وغيره، وقال ابن بطال: المذاهب الأربعة على عدم استحبابه. قال النووي: وقد روي عن الشافعي أنه قال: إنما كان ذلك ليعلم الناس أن الذكر بعد الصلوات مشروع، فلما علم ذلك لم يبق للجهر معنى وهذا كما روي عن ابن عباس أنه كان يجهر في الفاتحة في الصلاة، في صلاة الجنازة ليعلم الناس أنها سنة (¬2)، ولهذا نظائر والله أعلم. وأما هذه التي أمر بها المأمون فإنها بدعة محدثة لم يعمل بها أحد من السلف. (¬3) " التعليق: وهذه البدعة التي ابتدعها المأمون تطورت وتفرعت عنها أذكار وأوراد ¬

(¬1) البخاري (2/ 412/841) ومسلم (1/ 410/583) وأبو داود (1/ 609/1003) والنسائي (3/ 76 - 77/ 1334) عن ابن عباس. (¬2) البخاري (3/ 261/1335) وأبو داود (3/ 537 - 538/ 3198) والترمذي (3/ 346/1027) والنسائي (4/ 377 - 378/ 1986 - 1987) عن طلحة بن عبد الله بن عوف قال: "صليت خلف ابن عباس" فذكره. (¬3) البداية والنهاية (10/ 282 - 283).

وأحزاب في مساجد العالم الإسلامي، إلا من عصم من ذلك. فإذا كان هؤلاء الأئمة الذين نقل الحافظ ابن كثير أقوالهم يرون هذه التي أحدث المأمون بدعة ضلالة، فما بالك لو وقفوا على ما عليه أهل هذا الزمان من رفع الأصوات في المساجد بالصيغ الجماعية التي هي أشبه ما يكون بفعل النصارى في كنائسهم والله المستعان. تشيعه وتجهمه: - جاء في السير: قيل: إن المأمون استخرج كتب الفلاسفة واليونان من جزيرة قبرس، وقدم دمشق مرتين. (¬1) - قال إبراهيم نفطويه: حكى داود بن علي، عن يحيى بن أكثم قال: كنت عند المأمون وعنده قواد خراسان، وقد دعا إلى القول بخلق القرآن، فقال لهم: ما تقولون في القرآن؟ فقالوا: كان شيوخنا يقولون: ما كان فيه من ذكر الحمير والجمال والبقر فهو مخلوق، فأما إذ قال أمير المؤمنين هو مخلوق، فنحن نقول: كله مخلوق. فقلت للمأمون: أتفرح بموافقة هؤلاء؟. (¬2) - قال نفطويه: بعث المأمون مناديا، فنادى في الناس ببراءة الذمة ممن ترحم على معاوية، أو ذكره بخير. وكان كلامه في القرآن سنة اثنتي عشر ومئتين، فأنكر الناس ذلك، واضطربوا، ولم ينل مقصوده، ففتر إلى وقت. (¬3) ¬

(¬1) السير (10/ 278). (¬2) السير (10/ 281). (¬3) السير (10/ 281).

- قيل: إن المأمون لتشيعه أمر بالنداء بإباحة المتعة -متعة النساء - فدخل عليه يحيى بن أكثم، فذكر له حديث علي رضي الله عنه بتحريمها (¬1)، فلما علم بصحة الحديث، رجع إلى الحق، وأمر بالنداء بتحريمها. (¬2) - أما مسألة القرآن، فما رجع عنها، وصمم على امتحان العلماء في سنة ثماني عشرة، وشدد عليهم، فأخذه الله. (¬3) - وكان المأمون يجل أهل الكلام، ويتناظرون في مجلسه. (¬4) - وفي سنة اثنتي عشر: سار محمد بن حميد الطوسي لمحاربة بابك، وأظهر المأمون تفضيل علي على الشيخين، وأن القرآن مخلوق. (¬5) - وبالغ في محنة القرآن، وحبس إمام الدمشقيين أبا مسهر، بعد أن وضعه في النطع للقتل، فتلفظ مكرها. (¬6) - وكتب المأمون إلى نائبه على العراق إسحاق بن إبراهيم الخزاعي كتابا يمتحن العلماء، يقول فيه: وقد عرفنا أن الجمهور الأعظم والسواد من حشو الرعية وسفلة العامة، ممن لا نظر لهم ولا روية، أهل جهالة وعمى عن أن يعرفوا الله كنه معرفته، ويقدروه قدره، ويفرقوا بينه وبين خلقه، فساووا بين ¬

(¬1) أحمد (1/ 79) والبخاري (7/ 611/4216) ومسلم (2/ 1027/1407) والترمذي (3/ 429/1121) والنسائي (6/ 435/3366) وابن ماجه (1/ 630/1961) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (¬2) السير (10/ 283). (¬3) السير (10/ 283). (¬4) السير (10/ 285). (¬5) السير (10/ 286). (¬6) السير (10/ 287).

الله وبين خلقه، وأطبقوا على أن القرآن قديم، لم يخترعه الله، وقد قال: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا} (¬1) فكل ما جعله فقد خلقه، كما قال: {وجعل الظلمات والنور} (¬2)، وقال: {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} (¬3)، فأخبر أنه قصص لأمور أحدثه بعدها. وقال: {أُحْكِمَتْ آياته ثُمَّ فُصِّلَتْ} (¬4) والله محكم له، فهو خالقه ومبدعه. إلى أن قال: فمال قوم من أهل السمت الكاذب والتخشع لغير الله إلى موافقتهم، فرأى أمير المؤمنين أنهم شر الأمة ولعمر أمير المؤمنين، إن أكذب الناس من كذب على الله ووحيه، ولم يعرف الله حق معرفته. فاجمع القضاة، وامتحنهم، فيما يقولون، وأعلمهم أني غير مستعين في عمل ولا واثق بمن لا يوثق بدينه فإن وافقوا فمرهم بنص من بحضرتهم من الشهود، ومسألتهم عن علمهم في القرآن، ورد شهادة من لم يقر أنه مخلوق. (¬5) - وكتب المأمون أيضا في أشخاص سبعة، محمد بن سعد، وابن معين، وأبي خيثمة، وأبي مسلم المستملي، وإسماعيل بن داود، وأحمد الدورقي، فامتحنوا فأجابوا -قال ابن معين: جبنا خوفا من السيف- وكتب بإحضار من امتنع منهم: أحمد بن حنبل، وبشر بن الوليد، وأبي حسان الزيادي، ¬

(¬1) الزخرف الآية (3). (¬2) الأنعام الآية (1). (¬3) طه الآية (99). (¬4) هود الآية (1). (¬5) السير (10/ 287).

والقواريري، وسجادة، وعلي بن الجعد، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وعلي بن أبي مقاتل، وذيال بن الهيثم، وقتيبة بن سعيد، وسعدويه، في عدة، فتلكأ طائفة، وصمم أحمد وابن نوح، فقيدا، وبعث بهما، فلما بلغا الرقة، تلقاهم موت المأمون، وكان مرض بأرض الثغر، فلما احتضر، طلب ابنه العباس ليقدم، فوافاه بآخر رمق، وقد نفذت الكتب إلى البلدان، فيها: من المأمون وأخيه أبي إسحاق الخليفة من بعده. فقيل: وقع ذلك بغير أمر المأمون، وقيل: بل بأمره. وأشهد على نفسه عند الموت أن عبد الله بن هارون أشهد عليه أن الله وحده لا شريك له، وأنه خالق، وما سواه مخلوق، ولا يخلو القرآن من أن يكون شيئا له مثل، والله لا مثل له، والبعث حق، وإني مذنب، أرجو وأخاف، وليصل علي أقربكم، وليكبر خمسا، فرحم الله عبدا اتعظ وفكر فيما حتم الله على جميع خلقه من الفناء، فالحمد لله الذي توحد بالبقاء، ثم لينظر امرؤ ما كنت فيه من عز الخلافة، هل أغنى عني شيئا إذ نزل أمر الله بي؟ لا والله، لكن أضعف به على الحساب، فيا ليتني لم أك شيئا، يا أخي، ادن مني، واتعظ بما ترى، وخذ بسيرة أخيك في القرآن، واعمل في الخلافة إذ طوقكها الله عمل المريد لله، الخائف من عقابه، ولا تغتر، فكأن قد نزل بك الموت، ولا تغفل أمر الرعية، الرعية الرعية فإن الملك بهم، الله الله فيهم وفي غيرهم يا أبا إسحاق عليك عهد الله، لتقومن بحقه في عباده، ولتؤثرن طاعته على معصيته، فقال: اللهم نعم. هؤلاء بنو عمك من ذرية علي رضي الله عنه، أحسن صحبتهم، وتجاوز عن مسيئهم. ثم مات في رجب في ثاني عشرة، سنة ثمان عشرة ومئتين، وله ثمان وأربعون سنة، توفي بالبذنذون،

فنقله ابنه العباس. ودفنه بطرسوس في دار خاقان خادم أبيه. (¬1) - وفي البداية والنهاية قال الحافظ ابن كثير: وفي ربيع الأول سنة ثنتي عشرة ومائتين أظهر المأمون في الناس بدعتين فظيعتين، إحداهما أطم من الأخرى، وهي القول بخلق القرآن، والثانية تفضيل علي بن أبي طالب على الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد أخطأ في كل منهما خطئا كبيرا فاحشا وأثم إثما عظيما. (¬2) - وقال أبو العباس أحمد بن تيمية في مجموع الفتاوى: وفي دولة أبي العباس المأمون، ظهر الخرمية ونحوهم من المنافقين، وعرب من كتب الأوائل المجلوبة من بلاد الروم ما انتشر بسببه مقالات الصابئين وراسل ملوك المشركين من الهند ونحوهم حتى صار بينه وبينهم مودة. فلما ظهر ما ظهر من الكفر والنفاق في المسلمين، وقوي ما قوي من حال المشركين وأهل الكتاب، كان من أثر ذلك ما ظهر من استيلاء الجهمية والرافضة وغيرهم من أهل الضلال، وتقريب الصابئة ونحوهم من المتفلسفة، وذلك بنوع رأي يحسبه صاحبه عقلا وعدلا، وإنما هو جهل وظلم، إذ التسوية بين المؤمن والمنافق والمسلم والكافر أعظم الظلم، وطلب الهدى عند أهل الضلال أعظم الجهل، فتولد من ذلك محنة الجهمية حتى امتحنت الأمة بنفي الصفات والتكذيب بكلام الله ورؤيته، وجرى من محنة الإمام أحمد ¬

(¬1) السير (10/ 288). (¬2) البداية والنهاية (10/ 278 - 279).

وغيره ما جرى مما يطول وصفه. (¬1) - وفي تذكرة الحفاظ للحافظ الذهبي: وبعد كلامه على الطبقة السادسة من تقسيمه رحمه الله قال: وكان في زمان هؤلاء خلائق من أصحاب الحديث ومن أئمة المقرئين، كورش واليزيدي والكسائي وإسماعيل ابن عبيد الله المكي القسط وخلق من الفقهاء كفقيه العراق محمد بن الحسن وفقيه مصر عبد الرحمن بن القاسم وخلق من مشائخ القوم كشقيق البلخي وصالح المري الواعظ، والفضيل المذكور والدولة لهارون الرشيد والبرامكة، ثم بعدهم اضطربت الأمور وضعف أمر الدولة بخلافة الأمين رحمه الله، فلما قتل واستخلف المأمون على رأس المائتين نجم التشيع وأبدى صفحته، وبزغ فجر الكلام وعربت حكمة الأوائل ومنطق اليونان، وعمل رصد الكواكب، ونشأ للناس علم جديد مرد مهلك لا يلائم علم النبوة، ولا يوافق توحيد المؤمنين، قد كانت الأمة منه في عافية، وقويت شوكة الرافضة والمعتزلة وحمل المأمون المسلمين على القول بخلق القرآن ودعاهم إليه، فامتحن العلماء، فلا حول ولا قوة إلا بالله، إن من البلاء أن تعرف ما كنت تنكر وتنكر ما كنت تعرف، وتقدم عقول الفلاسفة ويعزل منقول أتباع الرسل ويمارى في القرآن ويتبرم بالسنن والآثار، وتقع في الحيرة، فالفرار قبل حلول الدمار، وإياك ومضلات الأهواء ومجاراة العقول ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم. (¬2) ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (4/ 21). (¬2) تذكرة الحفاظ (1/ 328 - 329).

عبد الله بن الزبير الحميدي (219 هـ)

عبد الله بن الزبير الحُمَيْدِي (¬1) (219 هـ) عبد الله بن الزبير بن عيسى الإمام الحافظ الفقيه شيخ الحرم، أبو بكر القرشي صاحب المسند. حدث عن ابن عيينة -فأكثر عنه وجوَّد- وإبراهيم ابن سعد ووكيع ابن الجراح والوليد بن مسلم ومروان بن معاوية وعدة. وعنه البخاري ومحمد بن يحيى الذهلي ويعقوب بن شيبة وهارون بن عبد الله الحمال ومحمد بن يونس النسائي وطائفة. قال فيه الإمام أحمد: الحميدي عندنا إمام، وقال يعقوب الفسوي: حدثنا الحميدي، وما لقيت أنصح للإسلام وأهله منه. توفي سنة تسع عشرة ومائتين. موقفه من المبتدعة: - كان هذا الإمام سلفي المعتقد قال رحمه الله في مسنده: السنة عندنا أن يؤمن الرجل بالقدر خيره وشره حلوه ومره، وأن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن ذلك كله قضاء من الله عز وجل، وأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، لا ينفع قول إلا بعمل، ولا عمل وقول إلا بنية، ولا قول وعمل بنية إلا بسنة، والترحم على أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كلهم فإن الله عز وجل قال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} (¬2) فلم نؤمر إلا ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (5/ 502) والجرح والتعديل (5/ 56) والأنساب (4/ 231) وتذكرة الحفاظ (2/ 413) وطبقات الشافعية لابن كثير (2/ 140) والعقد الثمين (5/ 160) وتهذيب التهذيب (5/ 214) وشذرات الذهب (2/ 45) والسير (10/ 616 - 621). (¬2) الحشر الآية (10).

بالاستغفار لهم، فمن سبهم أو بغضهم أو أحدا منهم فليس على السنة، وليس له في الفيء حق، أخبرنا بذلك غير واحد عن مالك بن أنس أنه قال: قسم الله تعالى الفيء فقال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ ديارهم} ثم قال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا} الآية فمن لم يقل هذا لهم فليس ممن جعل له الفيء، والقرآن كلام الله، سمعت سفيان يقول: والقرآن كلام الله، ومن قال: مخلوق فهو مبتدع لم نسمع أحدا يقول هذا، وسمعت سفيان يقول: الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص، فقال له أخوه إبراهيم بن عيينة: يا أبا محمد لا تقل ينقص، فغضب، وقال: اسكت يا صبي بلى، حتى لا يبقى منه شيء. والإقرار بالرؤية بعد الموت، وما نطق به القرآن والحديث مثل {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} (¬1)، ومثل {وَالسَّماوَاتُ مطوياتٌ بيمينه} (¬2) وما أشبه هذا من القرآن والحديث، لا يزيد فيه ولا يفسره، يقف على ما وقف عليه القرآن والسنة، ويقول: {الرَّحْمَنُ على الْعَرْشِ استوى} (¬3) ومن زعم غير هذا فهو معطل جهمي، وأن لا يقول كما قالت الخوارج: من أصاب كبيرة فقد كفر، ولا يكفر بشيء من الذنوب، إنما الكفر في ترك ¬

(¬1) المائدة الآية (64). (¬2) الزمر الآية (67) .. (¬3) طه الآية (5).

الخمس التي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت" (¬1)، وأما ثلث منها فلا يناظر تاركه، من لم يتشهد، ولم يصل، ولم يصم، لأنه لا يؤخر من هذا شيء عن وقته، ولا يجزئ من قضاه بعد تفريطه فيه عامدا عن وقته، وأما الزكاة فمتى ما أداها أجزأت عنه، وكان آثما في الحبس، وأما الحج فمن وجب عليه، ووجد السبيل إليه وجب عليه، ولا يجب عليه في عامه ذلك حتى لا يكون له منه بد، متى أداه كان مؤديا ولم يكن آثما في تأخيره إذا أداه، كما كان آثما في الزكاة لأن الزكاة حق لمسلمين (¬2) مساكين، حبسه عليهم فكان آثما حتى وصل إليهم، وأما الحج فكان في ما بينه وبين ربه إذا أداه فقد أدى، وإن هو مات وهو واجد مستطيع ولم يحج سأل الرجعة إلى الدنيا أن يحج، ويجب لأهله أن يحجوا عنه، ونرجو أن يكون ذلك مؤديا عنه كما لو كان عليه دين فقضي عنه بعد موته. (¬3) - وجاء في ذم الكلام عنه قال: والله لأن أغزو هؤلاء الذين يردون حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إلي من أن أغزو عدتهم من الأتراك. (¬4) " التعليق: رضي الله عنك يا إمام، فهذا هو الفهم الصحيح، لأن في غزو الرادين ¬

(¬1) أحمد (2/ 143) والبخاري (1/ 67 - 68/ 8) ومسلم (1/ 45/16) والترمذي (5/ 7/2609) والنسائي (8/ 481 - 482/ 5016) عن ابن عمر. (¬2) في الأصل "لمسلمي" ولعل الصواب ما أثبتناه. (¬3) المسند (2/ 546 - 548) وانظر نقض المنطق (5 - 6) واجتماع الجيوش (204) وتذكرة الحفاظ (2/ 414). (¬4) ذم الكلام (77) والسير (10/ 619).

موقفه من الجهمية:

للسنة حفظا لرأس مال الإسلام وغزو الأتراك طلب الربح، وحفظ رأس المال أولى، وبهذا وجه الإمام ابن هبيرة قول أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: قتالهم -أي الخوارج- أجل عندي من قتال عدتهم من الترك. موقفه من الجهمية: جاء في الكفاية عن عوام قال قال لي الحميدي: كان بشر بن السري جهميا، لا يحل أن يكتب عنه. (¬1) موقفه من المرجئة: قال حنبل: أخبرنا الحميدي (وأخبرت) أن ناسا يقولون: من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئا حتى يموت، أو يصلي مستدبر القبلة حتى يموت، فهو مؤمن ما لم يكن جاحدا إذا علم أن تركه ذلك (فيه إيمانه) إذا كان يقر بالفرائض واستقبال القبلة. فقلت: هذا الكفر الصراح وخلاف كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفعل المسلمين قال الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} (¬2). (¬3) موقفه من القدرية: قال الإمام أحمد في معاذ بن هشام الدستوائي: كان في كتابه عن أبيه: ¬

(¬1) الكفاية (123). (¬2) البينة الآية (5). (¬3) أصول الاعتقاد (5/ 957/1594) والسنة للخلال (3/ 586 - 587/ 1027) وانظر الفتاوى (7/ 209).

أبو الأسود النضر بن عبد الجبار (219 هـ)

ليس المعاصي من قدر الله. قلت له: وما علمك؟ قال: أنا رأيته في كتابه عن أبيه، ثم خرج إلى مكة في تجارة، فجلس يحدثهم، فقال الحميدي: لا تسمعوا من هذا القدري شيئا. (¬1) أبو الأسود النَّضْر بن عبد الجبار (¬2) (219 هـ) النضر بن عبد الجبار بن نَضِير الإمام القدوة العابد الحافظ أبو الأسود المرادي مولاهم البصري الكاتب الشروطي كاتبُ الحُكم لِقاضي مصر لَهيعة ابن عيسى بن لهيعة. روى عن ابن لهيعة والليث بن سعد وبكر بن مضر والمفضل بن فضالة ونافع بن يزيد ونوح بن عباد وآخرين. حدث عنه يحيى ابن معين والذهلي والربيع بن سليمان الجيزي وجعفر بن مسافر وحميد بن الربيع اللخمي وعدة. قال أبو حاتم: شيخ صدوق عابد شبهته بالقعنبي. قال إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد عن يحيى بن معين: كان راوية عن ابن لهيعة، وكان شيخ صدق. توفي سنة تسع عشرة ومائتين. موقفه من الجهمية: جاء في السنة: قال عبد الله: حدثني محمد بن سهل سمعت أبا الأسود النضر بن عبد الجبار يقول: القرآن كلام الله، من قال القرآن مخلوق ¬

(¬1) السير (9/ 372). (¬2) الجرح والتعديل (2/ 48) وتهذيب التهذيب (10/ 440) وشذرات الذهب (2/ 46) والسير (10/ 567).

عمرو بن الربيع (219 هـ)

فهو كافر، هذا كلام الزنادقة. (¬1) عمرو بن الربيع (¬2) (219 هـ) عمرو بن الربيع بن طارق بن قرة الهلالي أبو حفص الكوفي ثم المصري. حدث عن إسماعيل بن مرزوق ورشدين بن سعد والليث بن سعد ومالك بن أنس وابن لهيعة وآخرين. وعنه البخاري ويحيى بن معين وإسحاق بن منصور الكوسج ومحمد بن إسحاق الصاغاني وابنه طاهر وطائفة. ذكره ابن حبان في كتاب الثقات. توفي سنة تسع عشرة ومائتين. موقفه من الجهمية: روى عبد الله في السنة قال: حدثني محمد بن سهل قال: سمعت عمرو ابن الربيع بن طارق يقول: القرآن كلام الله، من زعم أنه مخلوق فهو كافر. (¬3) هشام بن بَهْرَام (¬4) (219 هـ) هشام بن بهرام، أبو محمد المَدَائِني. حدث عن أبي شهاب الحناط، والمعافى بن عمران، وسفيان بن عيينة، وعلي بن مسهر وغيرهم. وروى عنه عباس الدوري، ومحمد بن إسحاق الصاغاني، وعلي بن أحمد بن النضر وأبو ¬

(¬1) السنة لعبد الله (ص.18). (¬2) التقريب (2/ 70) وتهذيب التهذيب (8/ 33) وتهذيب الكمال (22/ 23 - 26). (¬3) السنة لعبد الله (ص.18). (¬4) تاريخ الإسلام (حوادث 211 - 220/ص.432) وتاريخ بغداد (14/ 47 - 48) وتهذيب الكمال (30/ 177 - 178).

موقفه من الجهمية:

داود وغيرهم. قال الخطيب: كان ثقة. توفي سنة تسع عشرة ومائتين. موقفه من الجهمية: عن محمد بن منصور الطوسي قال: قدم علي بن مضاء مولى لخالد القسري. حدثنا هشام بن بهرام سمعت معافى بن عمران يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق. قال هشام: وأنا أقول كما قال المعافى، قال علي: وأنا أقول كما قال -يعني هشاما- قال أبو جعفر الطوسي: وأنا أقول: القرآن كلام الله غير مخلوق. (¬1) سليمان بن داود الهاشمي (¬2) (219 هـ) هو سليمان بن داود بن داود بن علي، أبو أيوب، وأبو داود الهاشمي العباسي الأمير. قال الذهبي: كان شريفا جليلا، عالما ثقة، سريا، بلغنا عن أحمد بن حنبل أنه قال: كان يصلح للخلافة. سمع عبد الرحمن بن أبي الزناد وإسماعيل بن جعفر، وسفيان بن عيينة وجماعة. وروى عنه أحمد بن حنبل وعباس الدوري، والحارث ابن أبي أسامة، وإبراهيم الحربي وغيرهم. ومن كلامه: ربما أتحدث بحديث واحد ولي نية، فإذا أتيت على بعضه تغيرت نيتي، وإذا الحديث الواحد يحتاج إلى نيات. قال الشافعي: ما رأيت أعقل من هذين الرجلين: أحمد بن حنبل، وسليمان بن داود الهاشمي. مات سنة تسع عشرة ¬

(¬1) السنة لعبد الله (67). (¬2) تاريخ الإسلام (حوادث 211 - 220/ص.180 - 181) وتاريخ بغداد (9/ 31 - 32) وطبقات ابن سعد (7/ 343) والوافي بالوفيات (15/ 389).

موقفه من الجهمية:

ومائتين. موقفه من الجهمية: - قال سليمان بن داود الهاشمي الإمام -نظير أحمد بن حنبل- الذي قال فيه الشافعي: ما خلفت ببغداد أعقل من رجلين: أحمد بن حنبل، وسليمان بن داود الهاشمي، قال: من قال: إن القرآن مخلوق لزم أن يكون قول فرعون كلام الله، فإن الله خلق في فرعون قوله: {فَقَالَ أَنَا ربكم الأعلى} (¬1) وعندهم أن الله خلق في الشجرة إِنَّنِي {أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فاعبدني} (¬2). فإذا كان كلامه لكونه خلقه فالآخر أيضا كلامه. (¬3) - وقال سليمان بن داود الهاشمي: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، وإن كان القرآن مخلوقا كما زعموا فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار إذ قال: {أَنَا أَنَا ربكم الأعلى} (¬4)؟ وزعموا أن هذا مخلوق والذي قال: إِنَّنِي {أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فاعبدني} (¬5) هذا أيضا قد ادعى ما ادعى فرعون، فلم صار فرعون أولى أن يخلد في النار من هذا؟ وكلاهما عنده مخلوق. فأخبر بذلك أبو عبيد فاستحسنه وأعجبه. (¬6) ¬

(¬1) النازعات الآية (24). (¬2) طه الآية (14). (¬3) مجموع الفتاوى (6/ 316 - 317). (¬4) النازعات الآية (24). (¬5) طه الآية (14). (¬6) مجموع الفتاوى (12/ 509) ونحوه في المنهاج (5/ 426).

الفضل بن دكين (219 هـ)

الفَضْل بن دُكَين (¬1) (219 هـ) الحافظ الكبير، الفضل بن عمرو بن حَمَّاد بن زُهَيْر بن درهم القرشي التيمي الطلحي، أبو نعيم الملائي الكوفي الأحول، مولى آل طلحة بن عبيد الله. كان شريكَ عبدِالسلام بن حرب الملائي في دكان يبيعان المُلاء. سمع الأعمش وشريكا ومالك بن مغول وسفيان الثوري ومسعر بن كدام وشعبة، وخلقا سواهم. وحدث عنه البخاري وأحمد بن حنبل وإسحاق وابن معين وأبو حاتم وأمم سواهم. قال يعقوب الفسوي: أجمع أصحابنا أن أبا نعيم كان غاية في الإتقان. قال أحمد بن حنبل: إنما رفع الله عفان وأبا نعيم بالصدق حتى نُوّه بذكرهما. وقال أيضا: شيخان كان الناس يتكلمون فيهما ويذكرونهما، وكنا نلقى من الناس في أمرهما ما الله به عليم، قاما لله بأمر لم يقم به كبير أحد: عفان وأبو نعيم. روى الميموني عن أحمد أنه أثنى على أبي نعيم، وقال: كان ثقة، يقظان في الحديث، عارفا به، ثم قام في أمر الامتحان ما لم يقم غيره، عافاه الله. قال الخطيب: كان أبو نعيم مزاحا ذا دعابة، مع تدينه وثقته وأمانته. وقال أبو أحمد الفراء: كنا نهاب أبا نعيم أشد من هيبة الأمير. توفي رحمه الله سنة تسع عشرة ومائتين. موقفه من الجهمية: - جاء في السير: قال أبو العباس السراج عن الكديمي قال: لما دخل ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (6/ 400) وتاريخ بغداد (12/ 346) وتهذيب الكمال (23/ 197 - 220) والسير (10/ 142 - 157) وتهذيب التهذيب (8/ 270 - 276) وشذرات الذهب (2/ 46).

أبو نعيم على الوالي ليمتحنه، وثم يونس وأبو غسان وغيرهما، فأول من امتحن فلان، فأجاب، ثم عطف على أبي نعيم، فقال: قد أجاب هذا، فما تقول؟ فقال: والله ما زلت أتهم جده بالزندقة، ولقد أخبرني يونس بن بُكير أنه سمع جده يقول: لا بأس أن يرمي الجمرة بالقوارير. أدركت الكوفة وبها أكثر من سبع مئة شيخ، الأعمش فمن دونه يقولون: القرآن كلام الله وعنقي أهون من زري هذا، فقام إليه أحمد بن يونس، فقبل رأسه -وكان بينهما شحناء- وقال: جزاك الله من شيخ خيرا. (¬1) - قال الطبراني: سمعت صليحة بنت أبي نعيم تقول: سمعت أبي يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال: مخلوق، فهو كافر. (¬2) - جاء في السنة لعبد الله: عن أبي نعيم بن دكين قال: وذكر عنده من يقول: القرآن مخلوق فقال: والله والله ما سمعت بشيء من هذا حتى خرج ذاك الخبيث جهم. (¬3) - وللخلال: عن أحمد بن حنبل حدثهم: سمع أبا نعيم الفضل بن دكين قال له رجل: يا أبا نعيم هذا بشر المريسي. فقال: لعن الله أهل الزيغ والضلالة، من بشر المريسي؟ إنما يتكلم في هذا التافه من الناس، لا يعرف، نسأل الله لنا ولكم اليسر والعافية، عليكم بالآثار، والعلم ما كان عليه من مضى من السلف. (¬4) ¬

(¬1) السير (10/ 149) وأصول الاعتقاد (2/ 305/481). (¬2) السير (10/ 149) ونحوه في السنة لعبد الله (32). (¬3) السنة لعبد الله (40). (¬4) السنة للخلال (5/ 104).

العتابي (219 هـ)

- وفي السنة لعبد الله عنه قال: لعن الله بشرا المريسي الكافر. (¬1) - وعن أحمد بن محمد بن إسماعيل الرازي قال: سمعت عقبة بن قبيصة قال: خرج علينا أبو نعيم الفضل بن دكين وهو مغضب فقال: حدثنا سفيان ابن سعيد بن مسروق الثوري وحدثنا الحسن بن صالح بن حي وحدثنا شريك بن عبد الله النخعي وحدثنا زهير بن معاوية: كلهم رووا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا نرى ربنا (¬2)، وجاء ابن صباغ يهودي فأنكر الرؤية -يعني المريسي-. (¬3) - وقال الخلال: أخبرنا علي بن عيسى أن حنبلا حدثهم سمعت أبا نعيم الفضل بن دكين يقول: أدركت الناس ما يتكلمون في هذا ولا عرفنا هذا إلا بعد سنين، القرآن كلام الله منزل من عند الله لا يؤول إلى خالق ولا مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، هذا الذي لم نظل عليه ولا نعرف غيره. (¬4) العتابي (¬5) (219 هـ) كلثوم بن عمرو العتابي أبو عمرو الأديب الشاعر المشهور الأخباري، كان خطيبا بليغا فصيحا مجيدا، مدح الرشيد والمأمون، وكان يتزهد ويتصوف ويقل من السلطان. من أشعاره: ¬

(¬1) السنة لعبد الله (38). (¬2) انظر تخريجه في مواقف عبد العزيز الماجشون سنة (164هـ). (¬3) أصول الاعتقاد (3/ 561/887). (¬4) الفتاوى الكبرى (5/ 75) والإبانة (2/ 36/228). (¬5) تاريخ بغداد (12/ 488) وتاريخ الإسلام (15/ 357 - 358) والنجوم الزاهرة (2/ 186) والمنتظم (10/ 189 - 193).

موقفه من الجهمية:

ولقد بلوت الناس ثم سبرتهم ... وخبرت ما وصلوا من الأسباب فإذا القرابة لا تقرب قاطعا ... وإذا المودة أكبر الأنساب ومنها: إن الكريم ليخفي عنك عسرته ... حتى تراه غنيا وهو مجهود وللبخيل على أموالهم علل ... زرق العيون عليها أوجه سود بث النوال ولا يمنعك قلته ... فكل ما سد فقرا فهو محمود توفي سنة تسع عشرة ومائتين. موقفه من الجهمية: روى ابن بطة في الإبانة بسنده إلى أبي علي محمد بن سعيد بن الحسن قال: دخل العتابي على المأمون، وعنده بشر المريسي، فقال المأمون: ناظر بشرا في الرأي؟ فقال العتابي: يا أمير المؤمنين الإيناس قبل ... (¬1) فإنه لا يحمد المرء في أول وهلة على صوابه، ولا يذم على خطأه، لأنه بين حالين من كلام قد هيأه أو حصر، ولكنه يبسط بالمؤانسة، ويبحث بالمثاقبة، فقال له: ناظر بشرا في الرأي، فقال العتابي: يا أمير المؤمنين إن لأهل الرأي أغاليط وأغاليق واختلافا في آرائهم، وأنا واصف لأمير المؤمنين ما أعتقده من ذلك، لعل صفتي تأتي على ما يحاول أمير المؤمنين، إن أمر الديانة أمران: أحدهما لا يرد إلا جحدا لأنه القرآن، وهو الأصل المعروض عليه كل ¬

(¬1) في هامش الإبانة كلمة غير واضحة لعلها المناظرة.

آدم بن أبي إياس (220 هـ)

حجة وعلم كل حادث لا نرد سؤل من انتحله حجة، فما وضحت فيه آية من كتاب الله مجمع على تأويلها أو سنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا اختلاف فيها أو إجماع من العلماء أو مستنبط تعرف العقول عدله لزمهم الديانة به والقيام عليه وما لم يصح فيه آية من كتاب الله مجمع على تأويلها ولا سنة تلزمهم الديانة بها، ولا القيام عليه، كان عليهم العهد والميثاق في الوقوف عنده، كذلك نقول في التوحيد فما دونه وفي أرش الخدش فما فوقه، فما أضاء لي نوره اصطفيته وما عمي عني نوره نفيته وبالله التوفيق. فقال المأمون اكتبوا هذا الكلام وخلدوه ببيت الحكمة. (¬1) " التعليق: سبحان من طبع على قلب المأمون، يسمع مثل هذا ويعجبه ويرتضيه، ومع ذلك يستمر على ضلاله الذي تبناه، فلا أدري إن كان حب الظهور هو الذي دفعه إلى هذا، أو هذا حقيقة عقيدة اقتنع بها وأراد حمل الناس عليها فالله أعلم، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. آدم بن أبي إياس (¬2) (220 هـ) هو الإمام الحافظ القدوة، أبو الحسن الخراساني المروذي، ثم البغدادي، ثم العسقلاني. نشأ ببغداد، وسمع بها الكثير، وبالحرمين والكوفة والبصرة ¬

(¬1) الإبانة (2/ 537/670). (¬2) تاريخ بغداد (7/ 27 - 30) وتاريخ الإسلام (حوادث 211 - 220/ص.59 - 62) وسير أعلام النبلاء (10/ 335 - 338) وطبقات ابن سعد (7/ 490).

موقفه من الجهمية:

والشام ومصر. وسكن عسقلان إلى أن مات بها. حدث عن ابن أبي ذئب، ومبارك بن فضالة، وشعبة بن الحجاج، وغيرهم. وحدث عنه البخاري، وأحمد بن الأزهر، وأحمد بن عبد الله العكاوي، وإسماعيل سمويه وخلق سواهم. قال فيه أبو حاتم الرازي: ثقة مأمون متعبد من خيار عباد الله. وذكره أحمد بن حنبل، فقال: كان مكينا عند شعبة، كان من الستة الذين يضبطون الحديث عنه. مات آدم في جمادى الآخرة سنة عشرين ومائتين، وهو ابن ثمان وثمانين سنة. موقفه من الجهمية: جاء في السير: قال أبو بكر الأعين: أتيت آدم العسقلاني، فقلت له: عبد الله بن صالح كاتب الليث يقرئك السلام، فقال: لا تقرئه مني السلام، قلت: ولم؟ قال: لأنه قال: القرآن مخلوق، فأخبرته بعذره، وأنه أظهر الندامة وأخبر الناس بالرجوع. قال: فأقرئه السلام وإذا أتيت أحمد بن حنبل فأقرئه السلام وقل له: يا هذا اتق الله وتقرب إلى الله تعالى بما أنت فيه، ولا يستفزنك أحد، فإنك -إن شاء الله- مشرف على الجنة، وقل له: أخبرنا الليث عن ابن عجلان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أرادكم على معصية الله، فلا

عفان بن مسلم (220 هـ)

تطيعوه" (¬1) قال: فأبلغت ذلك أبا عبد الله، فقال: رحمه الله حيا وميتا، فلقد أحسن النصيحة. (¬2) عفَّان بن مُسْلِم (¬3) (220 هـ) عفان بن مسلم بن عبد الله مولى عَزْرَة بن ثابت الأنصاري الإمام الحافظ محدث العراق، أبو عثمان البصري الصفار بقية الأعلام. سمع همام بن يحيى وشعبة والحمادين وداود بن أبي الفرات وعبد الواحد بن زياد ووهيب ابن خالد ويحيى القطان وعدة. وعنه البخاري وأحمد بن حنبل وابن المديني وزهير بن حرب وإسحاق بن منصور الكوسج ومحمد بن عبد الرحيم البزاز ويحيى بن معين وابن أبي شيبة وطائفة. وقال فيه ابن خراش: عفان ثقة من ¬

(¬1) الخطيب البغدادي في التاريخ (7/ 28 - 29) والمزي في التهذيب (2/ 306) وللحديث شواهد منها: - حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أخرجه: البخاري (6/ 143/2955) ومسلم (3/ 1469/1839) وأبو داود (3/ 93 - 94/ 2626) والترمذي (4/ 182/1707) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (7/ 179 - 180/ 4217) وابن ماجه (2/ 956/2864) كلهم من طرق عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "على المرء المسلم الطاعة فيما أحب أو كره. إلا أن يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة". - حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أخرجه: أحمد (3/ 67) وابن ماجه (2/ 955 - 956/ 2863) قال في الزوائد: "إسناده صحيح". وابن حبان (10/ 421 - 422/ 4558) (الإحسان) والحاكم (3/ 630 - 631) مختصرا. من طرق عن محمد بن عمرو عن عمر بن الحكم بن ثوبان عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أمركم منهم بمعصية الله فلا تطيعوه". وفيه قصة، وفي الباب عن علي وعمران بن الحصين والحكم بن عمرو الغفاري. (¬2) السير (10/ 336). (¬3) طبقات ابن سعد (7/ 336) وتاريخ خليفة (476) والجرح والتعديل (7/ 30) وتاريخ بغداد (12/ 269 - 277) وميزان الاعتدال (3/ 81 - 82) وتذكرة الحفاظ (1/ 379 - 381) وتهذيب التهذيب (7/ 239) وشذرات الذهب (2/ 47) والسير (10/ 242).

موقفه من الجهمية:

خيار المسلمين، وقال أبو حاتم: عفان إمام ثقة متين متقن. وقال يحيى بن معين: أصحاب الحديث خمسة: مالك، وابن جريج، والثوري، وشعبة وعفان. توفي سنة عشرين ومائتين. موقفه من الجهمية: - قال الخطيب في تاريخه: أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق أخبرنا عثمان ابن أحمد الدقاق حدثنا حنبل بن إسحاق، قال: حضرت أبا عبد الله أحمد ويحيى ابن معين عند عفان بعد ما دعاه إسحاق بن إبراهيم للمحنة -وكان أول من امتحن من الناس عفان- فسأله يحيى بن معين من الغد بعد ما امتحن -وأبو عبد الله حاضر ونحن معه- فقال له يحيى: يا أبا عثمان، أخبرنا بما قال لك إسحاق بن إبراهيم وما رددت عليه؟ فقال عفان ليحيى: يا أبا زكريا، لم أسود وجهك ولا وجوه أصحابك -يعني بذلك أني لم أجب- فقال له فكيف كان؟ قال: دعاني إسحاق بن إبراهيم فلما دخلت عليه قرأ علي الكتاب الذي كتب به المأمون من أرض الجزيرة من الرقة، فإذا فيه: امتحن عفان وادعه إلى أن يقول القرآن كذا وكذا، فإن قال ذلك فأقره على أمره، وإن لم يجبك إلى ما كتبت به إليك فاقطع عنه الذي يجري عليه - وكان المأمون يجري على عفان خمسمائة درهم كل شهر - قال عفان: فلما قرأ الكتاب قال لي إسحاق بن إبراهيم ما تقول؟ قال عفان فقرأت عليه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ} حتى ختمتها. فقلت مخلوق هذا؟ فقال لي إسحاق بن إبراهيم: يا شيخ، إن أمير المؤمنين يقول: إنك إن لم تجبه إلى الذي يدعوك إليه يقطع عنك ما يجري

عليك، وإن قطع عنك أمير المؤمنين قطعنا عنك نحن أيضا. فقلت له يقول الله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (¬1) قال: فسكت عني إسحاق وانصرفت، فسر بذلك أبو عبد الله ويحيى ومن حضر من أصحابنا. (¬2) قال الذهبي: هذه الحكاية تدل على جلالة عفان وارتفاع شأنه عند الدولة، فإن غيره امتحن، وقيد وسجن، وعفان فما فعلوا معه غير قطع الدراهم عنه. (¬3) - وفي التاريخ أيضا عن إبراهيم -يعني ابن الحسين بن ديزيل- يقول: لما دعي عفان للمحنة كنت آخذا بلجام حماره. فلما حضر عرض عليه القول فامتنع أن يجيب، فقيل له: يحبس عطاؤك -قال: وكان يعطى في كل شهر ألف درهم، فقال: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (¬4) قال: فلما رجع إلى داره عذله نساؤه ومن في داره- قال وكان في داره نحو أربعين إنسانا -قال فدق عليه داق الباب، فدخل عليه رجل شبهته بسمان- أو زيات- ومعه كيس فيه ألف درهم. فقال: يا أبا عثمان ثبتك الله كما ثبت الدين، وهذا في كل شهر. (¬5) - عن أبي بكر الأعين قال: كنت عند عفان وقد دعاه إسحاق لهذا الأمر، فقال: أعطوني ثيابي، فجاؤوه بقميص جديد، فقال لهم: هذا يكون ¬

(¬1) الذاريات الآية (22). (¬2) تاريخ بغداد (12/ 270 - 271) وهو في السير (10/ 244) والإبانة (2/ 293 - 294/ 463). (¬3) السير (10/ 245). (¬4) الذاريات الآية (22). (¬5) تاريخ بغداد (12/ 271 - 272) وهو في السير (10/ 245).

عبد الله بن مسلمة القعنبي (221 هـ)

لكم، هاتوا قميصا خلقا. قال: فألبسته إياه، يعني: لضرب العنق. (¬1) - قال علي بن سهل: فأحسن إسحاق في أمره، وكتب إلى المأمون أنه شيخ كبير مريض، وقد امتحنته فلم يجب، ولا أحسب يصل كتابي إلى أمير المؤمنين إلا وقد توفي. (¬2) - قال حنبل: فسمعت أبا عبد الله بعد ذلك يقول: سبحان الله، كان الناس يتكلمون -يعني: في هذين الشيخين- ويذكرونهما، وكنا من الناس في أمرهما ما الله به عليم، قاما لله بأمر لم يقم به أحد مثل ما قاما به عفان وأبو نعيم. (¬3) عبد الله بن مَسْلَمَة القَعْنَبِي (¬4) (221 هـ) عبد الله بن مسلمة بن قَعْنَب الإمام الثبت القدوة، شيخ الإسلام، أبو عبد الرحمن الحارثي القعنبي المدني نزيل البصرة ثم مكة. حدث عن أفلح بن حميد ومالك بن أنس وإبراهيم بن سعد الزهري وفضيل بن عياض وعدة. وعنه البخاري ومسلم وأبو داود وعبد بن حميد وأبو زرعة الرازي وطائفة. قال أبو زرعة: ما كتبت عن أحد أجل في عيني من القعنبي. وعن الميموني ¬

(¬1) الإبانة (2/ 13/294/ 464). (¬2) الإبانة (2/ 13/295/ 465). (¬3) الإبانة (2/ 13/294/ 463). (¬4) طبقات ابن سعد (7/ 302) وتاريخ خليفة (28 و476) وترتيب المدارك (1/ 231 - 232) والأنساب (10/ 208 - 209) ووفيات الأعيان (3/ 40) وتذكرة الحفاظ (1/ 383) والديباج المذهب (1/ 411) والعقد الثمين (5/ 285) وتهذيب التهذيب (6/ 31) وشذرات الذهب (2/ 49) والسير (10/ 257 - 264).

موقفه من الجهمية:

قال: سمعت القعنبي يقول: اختلفت إلى مالك ثلاثين سنة ما من حديث في الموطإ إلا لو شئت قلت سمعته مرارا. قال الذهبي: حد الولي الرسوخ في العلم والعمل مثل القعنبي. وقال يحيى بن معين: ما رأيت رجلا يحدث لله إلا وكيعا والقعنبي. توفي سنة إحدى وعشرين ومائتين. موقفه من الجهمية: جاء في اجتماع الجيوش الإسلامية: قال بنان بن أحمد: كنا عند القعنبي فسمع رجلا من الجهمية يقول: {الرَّحْمَنُ على الْعَرْشِ استوى} (¬1) استولى فقال القعنبي: من لا يوقن أن الرحمن على العرش استوى كما تقرر في قلوب العامة، فهو جهمي. (¬2) هشام بن عبيد الله (¬3) (221 هـ) هشام بن عبيد الله الرازي السِّنِّي (قرية ببغداد) الفقيه أحد أئمة السنة. روى عن مالك بن أنس وابن أبي ذئب وحماد بن زيد وعبد العزيز بن المختار وعدة. وعنه بقية بن الوليد ومحمد بن سعيد العطار والحسن بن عرفة وأبو حاتم الرازي وأحمد بن الفرات وطائفة. قال الذهبي: كان من بحور العلم. وقال أبو حاتم: صدوق، وما رأيت أحدا أعظم قدرا ولا أجل من هشام بن ¬

(¬1) طه الآية (5). (¬2) اجتماع الجيوش الإسلامية (ص.201). (¬3) الجرح والتعديل (9/ 67) وميزان الاعتدال (4/ 300) وتهذيب التهذيب (11/ 47 - 48) ولسان الميزان (6/ 195) وشذرات الذهب (2/ 49) والسير (10/ 446 - 447).

موقفه من الجهمية:

عبيد الله بالري. توفي سنة إحدى وعشرين ومائتين. موقفه من الجهمية: - قال الذهبي في التذكرة: كان داعية إلى السنة محطا على الجهمية. (¬1) - جاء في السير: قال محمد بن خلف الخراز: سمعت هشام بن عبيد الله الرازي يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، فقال له رجل: أليس الله يقول: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} (¬2)؟ فقال: محدث إلينا، وليس عند الله بمحدث. (¬3) قال الذهبي: لأنه من علم الله، وعلم الله لا يوصف بالحدث. (¬4) - ذكر عبد الرحمن قال: وجدت في كتاب عند أبي مما وضعه هشام في 'الرد على الجهمية' قال هشام: وكان فيما سألتم في كتابكم عن أهل الجنة أنهم يرون ربهم. قال هشام: ورد علينا في تفسير القرآن ومحكم الحديث: أن الله جل ثناؤه يرى في الآخرة. ثم ذكر الروايات في تفسير القرآن والأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬5) - عن جعفر بن محمد بن هارون بن عزرة قال: سمعت هشام بن عبيد الله الرازي يقول: أبوجاد الجهمية من زعم أن القرآن مخلوق. (¬6) ¬

(¬1) تذكرة الحفاظ (1/ 388). (¬2) الأنبياء الآية (2). (¬3) السير (10/ 447) والفتح (13/ 497). (¬4) السير (10/ 447). (¬5) أصول الاعتقاد (3/ 561/885). (¬6) أصول الاعتقاد (2/ 299/477).

- عن هشام بن عبيد الله الرازي قال: إذا مات الخلق ولم يبق إلا الله وقال: {لِمَنِ الْمُلْكُ اليوم} (¬1) فلا يجيبه أحد فيرد على نفسه فيقول: {لله الواحد القهار} (¬2) قال: فلا يشك أحد أن هذا كلام الله وليس بوحي إلى أحد لأنه لم تبق نفس فيها روح إلا وقد ذاقت الموت، والله هو القائل وهو المجيب لنفسه. (¬3) - وفي ذم الكلام: حبس هشام بن عبيد الله رجلا في التجهم فتاب، فجيء به إلى هشام ليمتحنه فقال: الحمد لله على التوبة، أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه؟ قال: أشهد أن الله على عرشه، ولا أدري ما بائن من خلقه. فقال: ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب. (¬4) - وجاء في أصول الاعتقاد بالسند إلى هشام بن عبيد الله قال: المريسي عندنا خليفة جهم بن صفوان الضال، وهو ولي عهده، ومثله عندنا مثل بلعم ابن باعورا الذي قال الله فيه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} (¬5).اهـ (¬6) ¬

(¬1) غافر الآية (16). (¬2) غافر الآية (16). (¬3) الفتح (13/ 368). (¬4) ذم الكلام (ص.263) ومجموع الفتاوى (5/ 49) واجتماع الجيوش (132). (¬5) الأعراف الآية (175). (¬6) أصول الاعتقاد (3/ 427/644).

عاصم بن علي (221 هـ)

عاصم بن علي (¬1) (221 هـ) عاصم بن علي بن عاصم الواسطي أبو الحسين القرشي التيمي مولى قريبة بنت محمد بن أبي بكر الصديق. روى عن عكرمة بن عمار وعاصم بن محمد وشعبة ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب وطائفة. روى عنه البخاري وأحمد بن حنبل والذهلي وأبو حاتم الرازي وخلق سواهم. قال العجلي: شهدت مجلس عاصم بن علي، فحزروا من شهده ذلك اليوم ستين ومائة ألف، وكان رجلا مسودا. وقال الذهبي: كان حافظا صدوقا من أصحاب شعبة، وكان رحمه الله ممن ذب عن الدين في المحنة. توفي سنة إحدى وعشرين ومائتين. موقفه من الجهمية: - قال الذهبي في سيره: كان عاصم رحمه الله ممن ذب عن الدين في المحنة، فروى الهيثم بن خلف الدوري أن محمد بن سويد الطحان حدثه قال: كنا عند عاصم بن علي ومعنا أبو عبيد، وإبراهيم بن أبي الليث وجماعة، وأحمد بن حنبل يضرب، فجعل عاصم يقول: ألا رجل يقوم معي، فنأتي هذا الرجل، فنكلمه؟ قال: فما يجيبه أحد، ثم قال ابن أبي الليث: أنا أقوم معك يا أبا الحسين، فقال: يا غلام: خُفي. فقال ابن أبي الليث: يا أبا الحسين أبلُغُ إلى بناتي، فأُوصِيهم، فظننا أنه ذهب يتكفن ويتحنط، ثم جاء، فقال: إني ذهبت إليهن، فبكين، قال: وجاء كتاب ابنتي عاصم من واسط: يا أبانا إنه بلغنا أن ¬

(¬1) تذكرة الحفاظ (1/ 397 - 398) وتقريب التهذيب (1/ 384) وتهذيب التهذيب (5/ 49 - 51) وتاريخ بغداد (12/ 247 - 250) وشذرات الذهب (2/ 48) والسير (9/ 262).

أحمد بن أبي محرز (221 هـ)

هذا الرجل أخذ أحمد بن حنبل، فضربه على أن يقول: القرآن مخلوق، فاتق الله، ولا تجبه فوالله لأن يأتينا نعيك أحب إلينا من أن يأتينا أنك أجبت. (¬1) - جاء في اجتماع الجيوش الإسلامية: قال عاصم: ناظرت جهميا فتبين من كلامه أنه اعتقد أن ليس في السماء رب. (¬2) أحمد بن أبي محرز (¬3) (221 هـ) أحمد بن أبي محرز القيرواني. كان من أفضل الناس في زمانه، وأورعهم، وأعدلهم حكومة وأكثرهم إشفاقا، حافظا للسنن، على هدى واستقامة، مع تبحره في العلم، ومعرفته بأصول الدين، ولي القضاء مجبورا، جبره عليه زيادة الله بن إبراهيم الذي تولى إمارة تونس آنذاك، ولما قبل القضاء اشترط على الأمير أن لا يقبل أحدا من أقاربه ولا من حشمه، ولا من يطوف به وكيلا. قال ابن الأثير: كان من العلماء العاملين، الزاهدين في الدنيا. وقد أثنى عليه أهل زمانه لتدينه واستقامته، بل كان الأمير يفتخر به ويقول: لا أبالي إن سألني ما قدمت عليه يوم القيامة، وقد قدمت عليه بأربعة وذكر منها: وتوليتي أحمد ابن محرز قضاء إفريقية. توفي رحمه الله سنة إحدى وعشرين ومائتين. ¬

(¬1) السير (9/ 263 - 264). (¬2) اجتماع الجيوش (ص.203) ومجموع الفتاوى (3/ 53). (¬3) معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان (2/ 40 - 48) ورياض النفوس (1/ 395 - 401) والكامل في التاريخ (6/ 460).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: جاء في معالم الإيمان: وكان سيفا مجردا على أهل الأهواء والبدع، قامعا لهم، غيورا على الشريعة، شديدا في ذات الله تعالى. (¬1) أبو سعيد الحداد (¬2) (221 هـ) أحمد بن داود بن رواد الضبي الواسطي، أبو سعيد الحداد. نزل ببغداد وحدث عن حماد بن زيد وخالد بن عبد الله ومحمد بن يزيد الكلاعي وعبد الرحمن بن مهدي. وحدث عنه أحمد بن سنان ومشرف بن سعيد ومحمد بن عبد الملك الدقيقي ومحمد بن إسحاق الصاغاني وغيرهم. قال: دخلت على أحمد الحبس قبل الضرب، فقلت له في بعض كلامي: يا أبا عبد الله عليك عيال ولك صبيان، وأنت معذور -كأني أسهل عليه الإجابة- فقال لي أحمد بن حنبل: إن كان هذا عقلك يا أبا سعيد فقد استرحت. وعن أحمد بن سنان قال: سمعت أبا سعيد الحداد يقول: قال لي عبد الرحمن بن مهدي -وقد ذكرت شيئا- أخطأت، فقلت له: أخطأت أنت، إذ ظننت أني لا أخطئ. وسئل يحيى بن معين عنه فقال: كان ثقة صدوقا، وقال ابن حبان: كان حافظا متقنا. توفي رحمه الله سنة إحدى وعشرين ومائتين، وقيل سنة ثنتين وعشرين. ¬

(¬1) معالم الإيمان (2/ 40). (¬2) الطبقات الكبرى (7/ 358) والتاريخ الكبير (2/ 4 رقم 1496) وتاريخ بغداد (4/ 138 - 140) وطبقات الحنابلة (1/ 43) وتاريخ الإسلام (حوادث 221 - 230/ص.40 - 41) والمقصد الأرشد (1/ 104) والدر المنضد (1/ 86).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: قال أبو سعيد الحداد: الإسناد مثل الدرج ومثل المراقي. فإذا زلت رجلك عن المرقاة سقطت. والرأي مثل المرج. (¬1) الحسن بن الربيع (¬2) (221 هـ) الإمام الحافظ، أبو علي البجلي القسري الكوفي البوارني. حدث عن: حماد بن زيد، وشريك، وعبيد الله بن إياد بن لقيط، وعدة. حدث عنه: البخاري، ومسلم وهو من كبار مشيخته، وأبو داود، والباقون بواسطة، وأبو زرعة، وأبو حاتم الرازيان، وغيرهم. قال الذهبي: كان من العلماء العاملين. مات في رمضان سنة إحدى وعشرين ومئتين. موقفه من القدرية: قال يعقوب الفسوي: حدثنا الحسن بن الربيع قال: كنا نسمع من عبد الوارث، فإذا أقيمت الصلاة ذهبنا فلم نصل خلفه. (¬3) قال جامعه: عبد الوارث هو ابن سعيد بن ذكوان أبو عبيدة العنبري البصري المقرئ وهو قدري مبتدع. ¬

(¬1) شرف أصحاب الحديث (42). (¬2) السير (10/ 399) وتاريخ بغداد (7/ 307) وتهذيب التهذيب (2/ 277). (¬3) السير (8/ 302).

مسلم بن إبراهيم (222 هـ)

مسلم بن إبراهيم (¬1) (222 هـ) الإمام الحافظ الثقة مسلم بن إبراهيم أبو عمرو الأزدي. ولد في حدود ثلاثين ومائة. حدث عن عبد الله بن عون، وقرة بن خالد، ومالك بن مغول. وروى عنه البخاري، وأبو داود، ويحيى بن معين. توفي سنة اثنتين وعشرين ومائتين. موقفه من المبتدعة: عن مسلم بن إبراهيم قال: طلبت الحديث، فلم أر أهل الحديث على مثل ما هم عليه اليوم، ولولا أني أقول: إنها سنة أحييها، وبدعة أميتها لعل الله أن يكفر عني بعض ما أنا فيه، ما حدثت. (¬2) موقف السلف من يحيى بن صالح الوحاظي (222 هـ) تجهمه وإرجاؤه: - قال أحمد بن حنبل: أخبرني رجل من أصحاب الحديث أن يحيى بن صالح قال: لو ترك أصحاب الحديث عشرة أحاديث -يعني هذه التي في الرؤية- ثم قال أحمد: كأنه نزع إلى رأي جهم. (¬3) ¬

(¬1) السير (10/ 314 - 318) وتهذيب الكمال (27/ 487 - 492) وطبقات ابن سعد (7/ 304) وتهذيب التهذيب (10/ 121). (¬2) السير (10/ 318). (¬3) السير (10/ 455).

عبد الله بن محمد بن أبي الأسود (223 هـ)

- قال أبو زرعة الدمشقي: حدثنا يزيد بن عبد ربه يقول: سمعت وكيعا يقول ليحيى الوحاظي: اجتنب الرأي، فإني سمعت أبا حنيفة رحمه الله يقول: البول في المسجد أحسن من بعض قياسهم. (¬1) - قال إسحاق الكوسج: حدثنا الوحاظي، وكان مرجئا خبيثا داعي دعوة. (¬2) عبد الله بن محمد بن أبي الأسود (¬3) (223 هـ) عبد الله بن محمد بن أبي الأسود أبو بكر الإمام الحافظ الثبت تخرج بخاله عبد الرحمن بن مهدي، ينسب إلى جده. سمع من مالك بن أنس ومعتمر بن سليمان ويحيى بن سعيد القطان وابن علية وأنس بن عياض وخلق سواهم. حدث عنه البخاري وأبو داود وإبراهيم الحربي والذهلي وإسماعيل القاضي وعدة. قال الخطيب: كان حافظا متقنا، سكن بغداد. توفي سنة ثلاث وعشرين ومائتين. موقفه من الجهمية: قال عبد الله بن أحمد: حدثني عباس العنبري حدثنا عبد الله بن محمد ابن حميد -يعني أبا بكر بن أبي الأسود- قال: لو أن رجلا جهميا مات وأنا وارثه ما استحللت أن آخذ من ميراثه. (¬4) ¬

(¬1) السير (10/ 456). (¬2) السير (10/ 456). (¬3) الجرح والتعديل (5/ 159) وتاريخ بغداد (10/ 62 - 64) وتذكرة الحفاظ (2/ 493) وتهذيب التهذيب (6/ 6) وتقريب التهذيب (1/ 446) والسير (10/ 648 - 649). (¬4) السنة لعبد الله (16).

أبو عبيد القاسم بن سلام (224 هـ)

أبو عُبَيْد القاسم بن سَلاَّم (¬1) (224 هـ) القاسم بن سلام بن عبد الله الإمام الحافظ المجتهد ذو الفنون أبو عبيد الفقيه القاضي الأديب المشهور صاحب التصانيف المشهورة والعلوم المذكورة. قرأ القرآن على أبي الحسن الكسائي وإسماعيل بن جعفر وغيرهما. وأخذ اللغة عن أبي عبيدة وأبي زيد وجماعة. سمع ابن عيينة وابن المبارك وشريك بن عبد الله وهشيما وخلقا سواهم. روى عنه نصر بن داود وأبو بكر بن أبي الدنيا والحارث بن أبي أسامة وعباس الدوري والحسن بن مكرم البزار وآخرون. قال أحمد بن كامل القاضي: كان أبو عبيد فاضلا في دينه وفي علمه، ربانيا مفننا في أصناف علوم الإسلام من القرآن، والفقه والعربية والأخبار، حسن الرواية، صحيح النقل، لا أعلم أحدا طعن عليه في شيء من أمره ودينه. من أقواله: المتبع السنة كالقابض على الجمر وهو اليوم عندي أفضل من ضرب السيف في سبيل الله. توفي سنة أربع وعشرين ومائتين. موقفه من الرافضة: قال الخلال: أخبرني الدوري قال: سمعت أبا عبيد القاسم بن سلام يقول: عاشرت الناس وكلمت أهل الكلام وكذى، فما رأيت أوسخ وسخا، ولا أقذر قذرا، ولا أضعف حجة، ولا أحمق من الرافضة، ولقد وليت قضاء ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (7/ 355) والجرح والتعديل (7/ 111) وتاريخ بغداد (12/ 403 - 416) والكامل لابن الأثير (6/ 509) ووفيات الأعيان (4/ 60 - 63) وتذكرة الحفاظ (1/ 417) وميزان الاعتدال (3/ 371) والبداية والنهاية (10/ 304) والعقد الثمين (7/ 23 - 25) وشذرات الذهب (2/ 54 - 55) والسير (10/ 490 - 509).

موقفه من الجهمية:

الثغور فنفيت منهم ثلاثة رجال جهميين، ورافضي أو رافضيين وجهمي، وقلت: مثلكم لا يساكن أهل الثغور فأخرجتهم. (¬1) موقفه من الجهمية: - عن العباس الدوري، سمعت أبا عبيد القاسم بن سلام -وذكر الباب الذي يروى فيه الرؤية، والكرسي موضع القدمين، وضحك ربنا، وأين كان ربنا- فقال: هذه أحاديث صحاح، حملها أصحاب الحديث والفقهاء بعضهم عن بعض، وهي عندنا حق لا نشك فيها، ولكن إذا قيل: كيف يضحك؟ وكيف وضع قدمه؟ قلنا: لا نفسر هذا، ولا سمعنا أحدا يفسره. (¬2) قال الذهبي: قد صنف أبو عبيد كتاب 'غريب الحديث' وما تعرض لأخبار الصفات الإلهية بتأويل أبدا، ولا فسر منها شيئا. وقد أخبر بأنه ما لحق أحدا يفسرها، فلو كان والله تفسيرها سائغا، أو حتما، لأوشك أن يكون اهتمامهم بذلك فوق اهتمامهم بأحاديث الفروع والآداب. فلما لم يتعرضوا لها بتأويل، وأقروها على ما وردت عليه، علم أن ذلك هو الحق الذي لا حيدة عنه. (¬3) - جاء في الشريعة: عن العباس بن محمد الدوري، قال: سمعت أبا عبيد القاسم بن سلام يقول وذكر عنده هذه الأحاديث في الرؤية فقال: هذه عندنا حق، نقلها الناس بعضهم عن بعض. (¬4) ¬

(¬1) السنة للخلال (1/ 499 - 500) وهو في السنة لعبد الله بن الإمام أحمد (ص.65 - 66). (¬2) السير (10/ 505) وهو في أصول الاعتقاد (3/ 581/ 928). (¬3) السير (8/ 162). (¬4) الشريعة (2/ 10/622).

- قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى: وقال أبو عبيد القاسم بن سلام نظرت في كلام اليهود والمجوس فما رأيت قوما أضل في كفرهم منهم -أي الجهمية- وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم. (¬1) - وفي السنة قال عبد الله: حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني، سمعت أبا عبيد يقول من قال: القرآن مخلوق، فقد افترى على الله، وقال عليه ما لم تقله اليهود ولا النصارى. (¬2) - جاء في ذم الكلام عن أحمد بن الحسين العازلي، سمعت أبا عبيد القاسم بن سلام يقول، وقال له رجل: ما تقول في رأي أهل الكلام؟ فقال: لقد دَلَّك ربك على سبيل الرشد وطريق الحق، فقال: {فَإِنْ تنازعتم في شَيْءٍ فردوه إلى اللَّهِ} (¬3) الآية. أما لك فيما دلك عليه ربك، من كلامه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ما يغنيك عن الرجوع إلى رأيك وعقلك، وقد نهاك الله عن الكلام في ذاته وصفاته، إلا حسب ما أطلقه لك قال: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (¬4). وقال: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} (¬5) الآية. (¬6) ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (12/ 509). (¬2) السنة لعبد الله (ص.19) الإبانة (2/ 50/247) والشريعة (1/ 224/191). (¬3) النساء الآية (59). (¬4) الأنعام الآية (68). (¬5) الأعراف الآية (180). (¬6) ذم الكلام (258).

- قال الحافظ في الفتح: قال البخاري في كتاب خلق أفعال العباد قال أبو عبيد -يعني القاسم بن سلام-: احتج هؤلاء الجهمية بآيات وليس فيما احتجوا به أشد بأسا من ثلاث آيات قوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فقدره تقديرًا} (¬1) و {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ} (¬2)، و {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} (¬3) قالوا إن قلتم أن القرآن لا شيء كفرتم، وإن قلتم أن المسيح كلمة الله فقد أقررتم أنه خلق، وإن قلتم ليس بمحدث رددتم القرآن، قال أبو عبيد أما قوله: {وَخَلَقَ كُلَّ} شَيْءٍ} فقد قال في آية أخرى {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ ‘ذا أردناه أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فيكون} (¬4) فأخبر أن خلقه بقوله وأول خلقه هو من أول الشيء الذي قال وخلق كل شيء، وقد أخبر أنه خلقه بقوله، فدل على أن كلامه قبل خلقه، وأما المسيح فالمراد أن الله خلقه بكلمته لا أنه هو الكلمة لقوله: {أَلْقَاهَا إلى مريم} (¬5) ولم يقل ألقاه ويدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ} (¬6) ¬

(¬1) الفرقان الآية (2). (¬2) النساء الآية (171). (¬3) الأنبياء الآية (2). (¬4) النحل الآية (40). (¬5) النساء الآية (171). (¬6) آل عمران الآية (59).

وأما الآية الثالثة فإنما حدث القرآن عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لما علمه ما لم يعلم. (¬1) - قال العباس الدوري: سمعت أبا عبيد يقول: عاشرت الناس، وكلمت أهل الكلام، فما رأيت قوما أوسخ وسخا، ولا أضعف حجة من الرافضة، ولا أحمق منهم، ولقد وليت قضاء الثغر، فنفيت ثلاثة، جهميين ورافضيا أو رافضيين وجهميا. (¬2) - وجاء في أصول الاعتقاد قال ابن أبي حاتم: حدثنا عبد الله بن محمد ابن إبراهيم السلمى -بالكوفة- قال: قال أبو عبيد القاسم بن سلام: لو أن رجلا حلف فقال: والله لا تكلمت اليوم بشيء، فقرأ القرآن في غير صلاة أو في صلاة لم يحنث، لأن أيمان الناس إنما هي لمعاملة بعضهم بعضا، وأن القرآن كلام الله ليس يدخل في شيء من كلام الناس ولا يختلط به، ولو كان يشبه في شيء من الحالات لكان القرآن إذا يقطع الصلاة، لأن كل متكلم في صلاته بالتعمد لذلك قاطع لها، إلا أن يكون الحالف نوى القرآن واعتمده في يمينه فيلزمه حينئذ نيته واعتقاده. (¬3) " التعليق: جمع هؤلاء بين اللغة والعقيدة والفقه والحديث، واختلط بلحمهم ودمهم فجزاهم الله خيرا وأسكننا وإياهم جنات الفردوس. ¬

(¬1) الفتح (13/ 498). (¬2) السير (10/ 504). (¬3) أصول الاعتقاد (2/ 394/607).

- جاء في السنة لعبد الله عن أبي بكر محمد بن إسحاق الصغاني، قال: رأيت في كتاب أبي عبيد القاسم بن سلام بخطه، إذا قال لك الجهمية أخبرني عن القرآن أهو الله أم غير الله؟ فإن الجواب أن يقال له: أحلت (¬1) في مسألتك، لأن الله وصفه بوصف لا يقع عليه في مسألتك قال الله: {الم (1) تنزيل الْكِتَابِ لا ريب فيه من رب الْعَالَمِينَ} (¬2) فهو من الله ولم يقل هو أنا ولا هو غيري، وإنما سماه كلامه، فليس له عندنا غير ما حلاه، وننفي عنه ما نفى عنه. فإن قالوا أرأيتم قوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ! إذا أردناه أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فيكون} (¬3) فالقرآن شيء، فهو مخلوق. قيل له: ليس قول الله يقال له شيء، ألا تسمع كلامه: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ! إذا أردناه أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فيكون} فأخبرك أن القول كان منه قبل الشيء فالقول من الله سبق الشيء. ومعنى قوله كن، أي: كان في علمه أن يكونه. (¬4) - وجاء في أصول الاعتقاد عنه قال: من قال القرآن مخلوق فهو شر ممن قال: إن الله ثالث ثلاثة جل الله وتعالى، لأن أولئك يثبتون شيئا وهؤلاء لا يثبتون المعنى. (¬5) ¬

(¬1) أي طلبت المحال. (¬2) السجدة الآيتان (1و2). (¬3) النحل الآية (40). (¬4) السنة لعبد الله (34 - 35) والإبانة (2/ 40 - 41/ 233). (¬5) أصول الاعتقاد (2/ 291 - 292/ 452).

موقفه من المرجئة:

- جاء في أصول الاعتقاد: قال علي بن المديني -أو غيره-: يا أبا عبيد، ما تقول فيمن قال: القرآن مخلوق؟ فقال أبو عبيد: هذا رجل يعلم، ويقال له: إن هذا كفر، فإن رجع وإلا ضربت عنقه. (¬1) - وقال عبد الله: حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقى سمعت أبا عبيد القاسم بن سلام يقول: لو أن خمسين يؤمون الناس يوم الجمعة لا يقولون القرآن مخلوق، يأمر بعضهم بعضا بالإمامة إلا أن الرأس الذي يأمرهم، يقول هذا، رأيت الإعادة، لأن الجمعة إنما تثبت بالرأس، فأخبرت أبي بقول أبي عبيد فقال: هذا يضيق على الناس إذا كان الذي يصلي بنا لا يقول بشيء من هذا، صليت خلفه، فإذا كان الذي يصلي بنا يقول بشيء من هذا القول أعدت الصلاة خلفه. (¬2) " التعليق: فلا أدري ماذا يقول أعداء العقيدة السلفية إذا سمعوا قولة إمام أهل اللغة، هل يعتبرونه تنطعا أو تشددا وغيرها من الكلمات التي تَعَودوا وصف السلفيين بها. موقفه من المرجئة: - له كتاب الإيمان، وهو كتاب نفيس في بابه بين فيه اعتقاد السلف، ورد فيه على طوائف الخلف، نورد ههنا نقولا منه، قال في مطلعه: ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 351/509). (¬2) السنة لعبد الله (ص.20).

اعلم رحمك الله: أن أهل العلم والعناية بالدين افترقوا في هذا الأمر فرقتين، فقالت إحداهما: الإيمان بالإخلاص لله بالقلوب وشهادة الألسنة وعمل الجوارح. وقالت الفرقة الأخرى: بل الإيمان بالقلوب والألسنة، فأما الأعمال فإنما هي تقوى وبر، وليست من الإيمان. وإنا نظرنا في اختلاف الطائفتين، فوجدنا الكتاب والسنة يصدقان الطائفة التي جعلت الإيمان بالنية والقول والعمل جميعا، وينفيان ما قالت الأخرى. (¬1) - قال أيضا: ومما يصدق تفاضله بالأعمال قول الله جل ثناؤه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (¬2) فلم يجعل الله للإيمان حقيقة إلا بالعمل على هذه الشروط، والذي يزعمه أنه بالقول خاصة، يجعله مؤمنا حقا وإن لم يكن هناك عمل فهو معاند لكتاب الله والسنة. ومما يبين لك تفاضله في القلب قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ ¬

(¬1) كتاب الإيمان (9 - 10). (¬2) الأنفال الآيتان (2و3).

فَامْتَحِنُوهُنَّ} (¬1) ألست ترى أن هاهنا منزلا دون منزل: {اللَّهُ أَعْلَمُ بإيمانهن فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} (¬2) كذلك ومثله قوله: {يا أيها الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ ورسوله} (¬3). فلولا أن هناك موضع مزيد، ما كان لأمره بالإيمان معنى، ثم قال أيضا: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (¬4) وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} (¬5). وقال: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} (¬6). أفلست تراه تبارك وتعالى، قد امتحنهم بتصديق القول بالفعل، ولم يرض منهم بالإقرار دون العمل، حتى جعل أحدهما من الآخر؟ فأي شيء يتبع بعد كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومنهاج السلف بعده الذين هم موضع القدوة والإمامة؟ - فالأمر الذي عليه السنة عندنا ما نص عليه علماؤنا؟ مما اقتصصنا في ¬

(¬1) الممتحنة الآية (10). (¬2) الممتحنة الآية (10). (¬3) النساء الآية (136). (¬4) العنكبوت الآيات (1 - 3). (¬5) العنكبوت الآية (10). (¬6) آل عمران الآية (141).

ابن أبي مريم (224 هـ)

كتابنا هذا أن الإيمان بالنية والقول والعمل جميعا، وأنه درجات بعضها فوق بعض، إلا أن أولها وأعلاها الشهادة باللسان كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي جعله فيه بضعة وسبعين جزءا (¬1)، فإذا نطق بها القائل، وأقر بما جاء من عند الله لزمه اسم الإيمان بالدخول فيه بالاستكمال عند الله، ولا على تزكية النفوس، وكلما ازداد لله طاعة وتقوى، ازداد به إيمانا. (¬2) ابن أبي مريم (¬3) (224 هـ) سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم المعروف بابن أبي مريم الحافظ العلامة الفقيه محدث الديار المصرية أبو محمد الجمحي المصري مولى أبي الصبيغ مولى بني جمح. حدث عن مالك والليث ومحمد بن جعفر بن أبي كثير ومحمد بن مطرف وعدة. حدث عنه البخاري والذهلي وإسحاق الكوسج وحمزة بن نصير المصري ويحيى بن معين وآخرون. قال الذهبي: كان من أئمة الحديث. توفي سنة أربع وعشرين ومائتين. موقفه من الرافضة والجهمية والقدرية: - جاء في السير: قال فيه العجلي: ثقة، كان له دهليز طويل، وكان يأتيه الرجل، فيقف فيسلم عليه، فيرد عليه: لا سلم الله عليك ولا حفظك وفعل بك. فأقول: ما هذا؟ فيقول: قدري. ويأتي آخر فيقول له مثل ذلك، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في مواقف إبراهيم بن محمد أبي إسحاق الفزاري سنة (186هـ). (¬2) كتاب الإيمان (18 - 19). (¬3) الجرح والتعديل (4/ 13 - 14) وتذكرة الحفاظ (1/ 392) وتهذيب التهذيب (4/ 82) والسير (10/ 327 - 330).

فأقول: ما هذا؟ فيقول: جهمي خبيث، ويأتي آخر، فيقول: رافضي، ولا نظن إلا رد عليه سلامه، وكان عاقلا، لم أر بمصر أعقل منه، ومن عبد الله بن عبد الحكم. (¬1) علق محقق السير على هذا الموقف بقوله: وليس ذا من أدب الإسلام، فإن الله تعالى يقول: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}. (¬2) قلت: وهذا من أخطاء المحقق الشنيعة، فإن هذا الذي أنكر المحقق أن يكون من أدب الإسلام هو أدب الإسلام مع المبتدعة، وعليه درج السلف رضوان الله عليهم، فهذا الإمام أحمد بن حنبل يقول: إذا سلم الرجل على المبتدع فهو يحبه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم". (¬3) - جاء في السنة: قال عبد الله: حدثني محمد بن سهل بن عسكر، سمعت ابن أبي مريم يقول: من زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر. (¬4) ¬

(¬1) السير (10/ 328). (¬2) النساء الآية (86). (¬3) أحمد (2/ 291) ومسلم (1/ 74/54) وأبو داود (5/ 378/5193) والترمذي (5/ 50/2688) وابن ماجه (1/ 26/68) عن أبي هريرة. (¬4) السنة (18).

سليمان بن حرب (224 هـ)

سليمان بن حرب (¬1) (224 هـ) سليمان بن حرب بن بجيل الإمام الثقة الحافظ شيخ الإسلام أبو أيوب الواشحي الأزدي البصري قاضي مكة. حدث عن شعبة وحوشب بن عقيل ومحمد بن طلحة بن مصرف ووهيب بن خالد ومبارك بن فضالة وعدة. حدث عنه البخاري وأبو داود وإبراهيم الحربي والذهلي وابن أبي شيبة وطائفة. قال أبو حاتم: سليمان بن حرب إمام من الأئمة. وقال المسعري: جاء رجل إلى سليمان بن حرب، فقال: إن مولاك فلانا مات، وخلف قيمة عشرين ألف درهم، قال: فلان أقرب إليه مني، المال لذاك دوني. قال: وهو يومئذ محتاج إلى درهم. وقال يعقوب بن شيبة: حدثنا سليمان بن حرب، وكان ثقة ثبتا صاحب حفظ. توفي سنة أربع وعشرين ومائتين. موقفه من المبتدعة: - جاء في ذم الكلام عنه قال: من زال عن السنة بشعرة فلا تعتدن به. (¬2) - قال محمد بن يحيى الصولي: حدثنا المقدمي القاضي، حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن أكثم، قال: قال لي المأمون: من تركت بالبصرة؟ فوصفت له مشايخ منهم سليمان بن حرب، وقلت: هو ثقة حافظ للحديث، عاقل، في ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (7/ 300) والجرح والتعديل (4/ 108) وتاريخ بغداد (9/ 33) ووفيات الأعيان (2/ 418 - 420) وتذكرة الحفاظ (1/ 393) والعقد الثمين (3/ 601 - 603) وتهذيب التهذيب (4/ 178) وشذرات الذهب (2/ 54) والسير (10/ 330 - 334). (¬2) ذم الكلام (126).

موقفه من الجهمية:

نهاية الستر والصيانة، فأمرني بحمله إليه، فكتبت إليه في ذلك، فقدم، فاتفق أني أدخلته إليه، وفي المجلس ابن أبي دؤاد، وثمامة، وأشباه لهما، فكرهت أن يدخل مثله بحضرتهم، فلما دخل سلم، فأجابه المأمون، ورفع مجلسه، ودعا له سليمان بالعز والتوفيق، فقال ابن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين، نسأل الشيخ عن مسألة؟ فنظر المأمون إليه نظر تخيير له، فقال سليمان: يا أمير المؤمنين، حدثنا حماد بن زيد قال: قال رجل لابن شبرمة: أسألك؟ قال: إن كانت مسألتك لا تضحك الجليس، ولا تزري بالمسؤول، فسل. وحدثنا وهيب قال: قال إياس بن معاوية: من المسائل ما لا ينبغي للسائل أن يسأل عنها، ولا للمجيب أن يجيب فيها. فإن كانت مسألته من غير هذا، فليسأل، وإن كانت من هذا فليمسك. قال: فهابوه، فما نطق أحد منهم حتى قام، وولاه قضاء مكة، فخرج إليها. (¬1) موقفه من الجهمية: - جاء في السنة لعبد الله عن عباس بن عبد العظيم قال: سمعت سليمان ابن حرب قال: القرآن ليس بمخلوق فقلت له إنك كنت لا تقول هذا فما بدا لك؟ قال استخرجته من كتاب الله قال الله: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} (¬2) فالكلام والنظر واحد. (¬3) - جاء في أصول الاعتقاد: عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال سمعت ¬

(¬1) السير (10/ 332 - 333). (¬2) آل عمران الآية (77). (¬3) السنة لعبد الله (33).

أبي يقول: بلغني عن إبراهيم بن سعد وسعيد بن عبد الرحمن الجمحي ووهب ابن جرير وأبي النضر هاشم بن القاسم وسليمان بن حرب قالوا: القرآن ليس بمخلوق. (¬1) - وفيه عن عبد الرحمن قال حدثنا ابن أبي عبد الرحمن المقري قال: سمعت سليمان بن حرب -وسأله سلمة بن شبيب -وهو المستملي- فقال له: يا أبا أيوب أذكر حديث أبي موسى في الرؤية (¬2). فقال: دعه. فقال رجل -بالقرب من سليمان- خفيا: أي والله فدعه. فسمعه سليمان فنظر إليه فقال: إذا أحدثه على رغم أنفك، خذها إليك، فإني أراك ممن تركه. ثم بدأ فحدثه به. (¬3) - جاء في مجموع الفتاوى: قال أبو القاسم عبد الرحمن بن أبي عبد الله ابن منده هذا. قال حدثنا محمد بن محمد بن الحسن، حدثنا عبد الله بن محمد الوراق، حدثنا زكريا بن يحيى الساجي، ثم قال عبد الرحمن: حدثني أحمد بن نصر قال: كنت عند سليمان بن حرب فجاء إليه رجل كلامي من أصحاب الكلام فقال له: تقولون إن الله على عرشه لا يزول، ثم تروون أن الله ينزل إلى السماء الدنيا؟ فقال: عن حماد بن زيد إن الله على عرشه ولكن يقرب من خلقه كيف شاء. قال عبد الرحمن: ومن زعم أن حماد بن زيد وسليمان ابن حرب، أرادا بقولهما يقرب من خلقه كيف شاء، أرادا أن لا يزول عن ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 277 - 278/ 416) والسنة لعبد الله (ص.30). (¬2) أحمد (4/ 411) والبخاري (8/ 803/4878) ومسلم (1/ 163/180) والترمذي (4/ 581/2528) والنسائي في الكبرى (4/ 419 - 420/ 7765) وابن ماجه (1/ 66 - 67/ 186). (¬3) أصول الاعتقاد (3/ 562/888).

محمد بن عيسى بن الطباع (224 هـ)

مكانه، فقد نسبهما إلى خلاف ما ورد في الكتاب والسنة. (¬1) محمد بن عيسى بن الطَّبَّاع (¬2) (224 هـ) محمد بن عيسى بن نجيح، الحافظ أبو جعفر بن الطباع البغدادي. حدث عن مالك، وإسماعيل بن عياش، وابن المبارك، وحماد بن زيد. وحدث عنه أبو داود وعلق له البخاري، والذهلي، وأبو حاتم، وعدة. قال أبو حاتم: حدثنا محمد بن الطباع الثقة المأمون، ما رأيت من المحدثين أحفظ للأبواب منه. ذكره أحمد بن حنبل، فقال: إن ابن الطباع لَثَبْت كَيس. وقال أبو داود: كان يتفقه، وكان يحفظ نحوا من أربعين ألف حديث. توفي رحمه الله سنة أربع وعشرين ومائتين بالثغر. موقفه من الرافضة: قال محمد بن عيسى: لئن قلت: إن عليا أفضل من عثمان لقد قلت إن القوم خانوا. (¬3) أَصْبَغُ بن الفَرَج (¬4) (225 هـ) أصبغ بن الفرج بن سعيد، مفتي ديار مصر وعالمها في زمانه. ولد بعد ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (5/ 385). (¬2) تاريخ بغداد (2/ 395 - 396) وتهذيب الكمال (26/ 258) وسير أعلام النبلاء (10/ 386 - 389) وتاريخ الإسلام (حوادث 221 - 230/ص.375 - 376) وتهذيب التهذيب (9/ 392 - 394). (¬3) السنة للخلال (1/ 392). (¬4) السير (10/ 656 - 658) وترتيب المدارك (1/ 325) وتهذيب الكمال (3/ 304) وتهذيب التهذيب (1/ 361).

موقفه من المبتدعة:

خمسين ومائة، وطلب العلم وهو شاب كبير. روى عن عبد العزيز الدراوردي، وأسامة بن زيد، وعبد الله بن وهب. حدث عنه البخاري، ويحيى ابن معين، وأحمد بن الحسن الترمذي. قال عنه يحيى بن معين: كان من أعلم خلق الله برأي مالك يعرفها مسألة مسألة، متى قالها مالك ومن خالفه فيها. وقال أحمد بن عبد الله: كان أصبغ ثقة صاحب سنة. قال بعض العلماء: ما أخرجت مصر مثل أصبغ. قال يحيى بن عمر: اختفى أصبغ بن الفرج أيام الأصم، وأخذه الناس بالمحنة في القرآن، فطلبه الأصم فاختفى في داره حتى مات. توفي سنة خمس وعشرين ومائتين. موقفه من المبتدعة: - قال الشاطبي: وقد سئل أصبغ عن دعاء الخطيب للخلفاء المتقدمين؟ فقال: هو بدعة، ولا ينبغي العمل به، وأحسنه أن يدعو للمسلمين عامة. - قيل له: فدعاؤه للغزاة والمرابطين؟ قال: ما أرى به بأسا عند الحاجة إليه، وأما أن يكون شيئا يصمد له في خطبته دائما، فإني أكره ذلك. (¬1) أبو السري منصور بن عمار (¬2) (225 هـ) منصور بن عَمَّار، الواعظ، أبو السَّرِي السُّلَمِي الخُراساني. روى عن ¬

(¬1) الاعتصام (1/ 36). (¬2) الجرح والتعديل (8/ 176) وحلية الأولياء (9/ 325) وتاريخ بغداد (13/ 71 - 79) وميزان الاعتدال (4/ 187) وسير أعلام النبلاء (9/ 93 - 98) والنجوم الزاهرة (2/ 244) ومختصر العلو (ص.161 - 162) وتاريخ الإسلام (حوادث: 191 - 200 ص.409 - 414).

موقفه من المبتدعة:

الليث، وابن لهيعة، ومعروف الخياط، وهقل بن زياد، وجماعة. وروى عنه ابناه سليم وداود، وزهير بن عباد، وعلي بن خشرم، وأحمد بن منيع، وعدة. قال الذهبي: وعظ ببغداد والشام ومصر، وبعُدَ صِيته، وتزاحم عليه الخلق، وكان ينطوي على زهد وتأله وخشية، ولوعظه وقع في النفوس. قال ابن يونس: قصد بمصر على الناس وسمعه الليث فأعجبه ووصله بألف دينار. ومن درر كلامه: سلامة النفس في مخالفتها، وبلاؤها في متابعتها. رماه ابن عدي بالتجهم، ورد ذلك الشيخ الألباني رحمه الله في 'مختصر العلو'. وأرخ له صاحب النجوم الزاهرة في حوادث سنة خمس وعشرين ومائتين. موقفه من المبتدعة: جاء في المحدث الفاصل عن سليم بن منصور بن عمار قال: كان أبي يصف أهل القرآن وأصحاب الحديث في مجلس فيقول: الحمد لله المنعم المنان، مظهر الإسلام على كل الأديان، وحافظ القرآن من الزيادة والنقصان، ومانعه من مكائد الشيطان، وتحريف أهل الزيغ والكفران -وذكر كلاما في ذكر القرآن طويلا، ثم قال-: ووكل بالآثار المفسرة للقرآن والسنن القوية الأركان، عصابة منتخبة، وفقهم لطلابها وكتابها، وقواهم على رعايتها وحراستها، وحبب إليهم قراءتها ودراستها، وهون عليهم الدأب والكلال، والحل والترحال، وبذل النفس مع الأموال، وركوب المخوف من الأهوال، فهم يرحلون من بلاد إلى بلاد، خائضين في العلم كل واد، شعث الرؤوس، خلقان الثياب، خمص البطون، ذبل الشفاه، شحب الألوان، نحل الأبدان، قد جعلوا لهم هما واحدا، ورضوا بالعلم دليلا ورائدا، لا يقطعهم عنه جوع ولا

موقفه من الجهمية:

ظمأ، ولا يملهم منه صيف ولا شتاء، مائزين الأثر: صحيحه من سقيمه، وقويه من ضعيفه، بألباب حازمة، وآراء ثاقبة، وقلوب للحق واعية، فأمنت تمويه المموهين، واختراع الملحدين، وافتراء الكاذبين، فلو رأيتهم في ليلهم، وقد انتصبوا لنسخ ما سمعوا، وتصحيح ما جمعوا، هاجرين الفرش الوطي، والمضجع الشهي، قد غشيهم النعاس فأنامهم، وتساقطت من أكفهم أقلامهم، فانتبهوا مذعورين قد أوجع الكد أصلابهم، وتيه السهر ألبابهم، فتمطوا ليريحوا الأبدان، وتحولوا ليفقدوا النوم من مكان إلى مكان، ودلكوا بأيديهم عيونهم، ثم عادوا إلى الكتابة حرصا عليها، وميلا بأهوائهم إليها لعلمت أنهم حرس الإسلام، وخزان الملك العلام، فإذا قضوا من بعض ما راموا أوطارهم، انصرفوا قاصدين ديارهم، فلزموا المساجد، وعمروا المشاهد، لابسين ثوب الخضوع، مسالمين ومسلمين، يمشون على الأرض هونا، لا يؤذون جارا، ولا يقارفون عارا، حتى إذا زاغ زائغ، أو مرق في الدين مارق، خرجوا خروج الأسد من الآجام، يناضلون عن معالم الإسلام- في كلام غير هذا في ذكرهم يطول. (¬1) موقفه من الجهمية: - عن محمد بن منصور بن عمار -أبي الحسن- قال: كتب بشر بن غياث المريسي -لعنه الله- إلى أبي يسأله عن القرآن، فكتب إليه أبي: عصمنا الله وإياك من كل فتنة، فإن يفعل، فأعظم بها من نعمة، وإن لا يفعل، فهي والله الهلكة، أخبرني بعض أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أباه سئل عن ذلك ¬

(¬1) المحدث الفاصل (ص.220 - 221).

فقال: ليس على الله بعد المرسلين حجة، إن الكلام في القرآن بدعة اشترك فيه السائل والمجيب، أما السائل، فتعاطى ما ليس له، وتكلف المجيب ما ليس عليه، وما أعرف خالقا إلا الله، والقرآن كلام الله، فانته بنفسك، والمتكلمون معك في القرآن إلى أسمائه التي سماه الله بها، تكن من المهتدين، {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬1). (¬2) -وجاء في تاريخ الخطيب وكتب بشر إلى منصور يسأله عن قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ على الْعَرْشِ استوى} (¬3) كيف استوى؟ فكتب إليه منصور: استواؤه غير محدود والجواب فيه تكلف، ومسألتك عن ذلك بدعة، والإيمان بجملة ذلك واجب، قال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} (¬4) وحده. ثم استأنف الكلام فقال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (¬5) فنسبهم إلى الرسوخ في العلم بأن قالوا لما تشابه منه عليهم {آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ ¬

(¬1) الأعراف الآية (180). (¬2) الإبانة (2/ 14/289 - 290/ 458) وانظرها في تاريخ بغداد (13/ 75 - 76) بزيادات مهمة. (¬3) طه الآية (5). (¬4) آل عمران الآية (7). (¬5) آل عمران الآية (7).

محمد بن سلام البيكندي (225 هـ)

عند ربنا} فهؤلاء هم الذين أغناهم الرسوخ في العلم عن الاقتحام على السدد المضروبة. دون الغيوب، بما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فمدح اعترافهم بالعجز عن تأول ما لم يحيطوا به علما، وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم رسوخا في العلم. فانته رحمك الله من العلم إلى حيث انتهى بك إليه، ولا تجاوز ذلك إلى ما حظر عنك علمه فتكون من المتكلفين وتهلك مع الهالكين والسلام عليك. (¬1) محمد بن سلام البيكندي (¬2) (225 هـ) محمد بن سلام بن الفرج الإمام الحافظ الناقد، أبو عبد الله السُّلَمي مولاهم البخاري البيكندي. رأى مالك بن أنس ولم يتفق له السماع منه. روى عن أبي الأحوص سلام بن سليم وعبد الله بن المبارك وسفيان بن عيينة وجرير بن عبد الحميد وطائفة. روى عنه ابنه إبراهيم، والبخاري وعبيد الله ابن واصل البيكندي وحميد بن النضر البيكندي والطفيل بن زيد النسفي وعدة. قال محمد بن أحمد الغنجار: كان لابن سلام مصنفات في كل باب من العلم. وقال سهل بن المتوكل: سمعت محمدا يقول: أنفقت في طلب العلم أربعين ألفا، وأنفقت في نشره أربعين ألفا، وليت ما أنفقت في طلبه كان في نشره. قال الذهبي: كان من أوعية العلم وأئمة الأثر. وقال ابن حجر: ثقة ¬

(¬1) تاريخ بغداد (13/ 76) والسير (9/ 97 - 98) مختصرا. (¬2) الجرح والتعديل (7/ 278) وتذكرة الحفاظ (2/ 422) وتهذيب التهذيب (9/ 212) وشذرات الذهب (2/ 57) والسير (10/ 628 - 630).

موقفه من الجهمية:

ثبت. توفي سنة خمس وعشرين ومائتين. موقفه من الجهمية: له كتاب سماه: 'السنة والجماعة' نقل منه شيخ الإسلام في غير ما موضع من كتبه على عادته في الاعتماد على كتب السلف رحمهم الله، قال في الفتاوى الكبرى من كتاب السنة والجماعة: ما جاء في بدو الجهمية والسمنية وكيف كان شأنهم وكفرهم بآيات الله. عن حفص بن عبد الرحمن البجلي قال: حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن أيوب بن أبي تميمة قال: ما أعلم أحدا من أهل الصلاح أكذب على كتاب الله من السمنية قال: وهو عندنا كما قال لا أعلم أن أحدا أجهل ولا أحمق قولا منهم: لا يتعلقون من كتاب الله بشيء، ولا يحتجون، إنما هو حب وبغض، من أحب دخل الجنة، ومن أبغض دخل النار. (¬1) إبراهيم بن مهدي (¬2) (225 هـ) إبراهيم بن مَهْدِي المِصِّيصِي بغدادي الأصل، صاحب حديثٍ، مرابطٌ. روى عن حماد بن زيد وإبراهيم بن سعد ومعتمر بن سليمان وعلي بن مسهر وأبي المليح الرقي وحفص بن غياث وعدة. روى عنه أبو داود وأحمد بن حنبل وابن أبي الدنيا وعباس بن محمد الدوري ويعقوب بن شيبة السدوسي ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى (5/ 40). (¬2) الجرح والتعديل (2/ 138 - 139) وتاريخ بغداد (6/ 178) وميزان الاعتدال (1/ 68) وتهذيب التهذيب (1/ 169) وشذرات الذهب (2/ 53) والسير (10/ 556 - 557) والتقريب (1/ 44).

موقفه من الجهمية:

وطائفة. وثقه أبو حاتم. توفي سنة خمس وعشرين ومائتين. موقفه من الجهمية: جاء في السنة لعبد الله: حدثني محمد، سمعت نعيم بن حماد يكفرهم -يعني الجهمية- قال: وسمعت إبراهيم بن مهدي يكفرهم. (¬1) يحيى بن يحيى النيسابوري (¬2) (226 هـ) يحيى بن يحيى بن بكر بن عبد الرحمن شيخ الإسلام وعالم خراسان أبو زكريا التَّمِيمِي المِنْقَرِي النيسابوري الحافظ مولى بني حنظلة. روى عن مالك ابن أنس وكثير بن سليم وجرير بن عبد الحميد ووكيع بن الجراح وإسماعيل ابن علية وعدة. روى عنه البخاري ومسلم والذهلي وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي وعلي بن عثام العامري وإسحاق بن راهويه وطائفة. عن عبد الله بن محمد بن مسلم: كنت مع أبي عبد الله المروزي فقلت: من أدركت من المشايخ على سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: ما أعلم إلا أن يكون يحيى ابن يحيى. قال إسحاق بن إبراهيم: مات يحيى بن يحيى يوم مات وهو إمام أهل الدنيا. وعن أحمد بن حنبل قال: كان يحيى بن يحيى عندي إماما ولو كانت عندي نفقة لرحلت إليه. توفي سنة ست وعشرين ومائتين. ¬

(¬1) السنة لعبد الله (18). (¬2) الجرح والتعديل (9/ 197) وتذكرة الحفاظ (2/ 415 - 416) وتهذيب التهذيب (11/ 296) وشذرات الذهب (2/ 59) وتهذيب الكمال (32/ 31 - 37) وسير أعلام النبلاء (10/ 512 - 519).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: جاء في السير عن محمد بن يحيى الذهلي، قال: سمعت يحيى بن يحيى يقول: الذب عن السنة أفضل من الجهاد في سبيل الله. فقلت ليحيى: الرجل ينفق ماله ويتعب نفسه ويجاهد، فهذا أفضل منه؟ فقال: نعم بكثير. (¬1) " التعليق: وكذلك في زماننا هذا، الذب عن عقيدة السلف من أكبر أنواع الجهاد، لأن القصد من الجهاد رفع كلمة التوحيد، ودفع الكفر والشرك عنها، كذلك السلفي الذي يشتغل بذلك، يدفع عنها الأخلاط المسمومة التي وردت عليها من كل حدب وصوب. موقفه من الجهمية: - جاء في أصول الاعتقاد: عن يحيى بن يحيى النيسابوري قال: من زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر. (¬2) - وعن عثمان بن سعيد الدارمي قال: ذهبت يوما أحكي ليحيى بن يحيى بعض كلام الجهمية لأستخرج منه نقضا عليهم، وفي مجلسه يومئذ الحسين بن عمير البسطامي، وأحمد بن الحريش القاضي، ومحمد بن رافع وأبو قدامة السرخسي فيما أحسب وغيرهم من المشايخ، فنهرني يحيى بغضب وقال ¬

(¬1) ذم الكلام (242) ومجموع الفتاوى (4/ 13) والسير (10/ 518). (¬2) أصول الاعتقاد (2/ 289/447) وخلق أفعال العباد (ص.18 رقم 50) والدارمي في الرد على الجهمية (ص.111) ومختصر العلو (ص.181 رقم:309).

سنيد (226 هـ)

اسكت، وأنكر على المشايخ الذين في مجلسه استعظاما أن أحكي كلامهم وإنكارا. (¬1) سُنَيْد (¬2) (226 هـ) حسين بن داود الإمام الحافظ محدث الثغر أبو علي المِصِّيصِي المحتسب صاحب التفسير الكبير، وسنيد لقب غلب عليه. حدث عن حجاج بن محمد وحماد بن زيد وابن عيينة وشريك وابن المبارك وعدة. حدث عنه أبو بكر الأثرم وابنه جعفر بن سنيد والحسن بن محمد الزعفراني وأبو زرعة الرازي ويعقوب بن شيبة السدوسي وطائفة. توفي سنة ست وعشرين ومائتين. موقفه من الجهمية: - قال أبو حاتم الرازي: حدثنا أبو عمران موسى الطرطوشي قال: قلت لسنيد بن داود: هو على عرشه، بائن من خلقه؟ قال: نعم. ألم تسمع قوله تعالى: {وترى الْمَلَائِكَةَ حافين مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} (¬3). (¬4) آثاره: له تفسير نهج فيه نهج السلف، وذكر آثارهم وعقائدهم الطيبة، ذكره ¬

(¬1) الدارمي في الرد على الجهمية (115 - 116) وذم الكلام (242) ودرء التعارض (5/ 309) والسير (10/ 518). (¬2) الجرح والتعديل (4/ 326) وتاريخ بغداد (8/ 42 - 44) وميزان الاعتدال (2/ 236) وتذكرة الحفاظ (2/ 459 - 460) وتهذيب التهذيب (4/ 244) وشذرات الذهب (1/ 59) والسير (10/ 627 - 628). (¬3) الزمر الآية (75). (¬4) مختصر العلو (ص.183 - 184 رقم:215) واجتماع الجيوش الإسلامية (215).

عبد الله بن أبي حسان اليحصبي (226 هـ)

شيخ الإسلام ضمن التفاسير السلفية في درء التعارض وغيره من كتبه، والذهبي في مختصر العلو (184) وقال: قلت: لسنيد تفسير كبير رأيته كله بالأسانيد، ومذهبه في الصفات مذهب السلف. عبد الله بن أبي حسان اليحصبي (¬1) (226 هـ) عبد الله بن أبي حسان، واسم أبي حسان يزيد بن عبد الرحمن وقيل اسمه عبد الرحمن ويقال عبد الرحمن بن يزيد، وهو من أشراف إفريقية وصاحب فقه وأدب. رحل إلى مالك فكان عنده مكرما، وسمع من ابن أبي ذئب وابن عيينة وابن أنعم. روى عنه سحنون بن سعيد وفرات وسليمان وابن وضاح وآخرون. قال فيه المالكي: وكان مفوها، قويا على المناظرة، ذابا عن السنة متبعا لمذهب مالك، شديدا على أهل البدع، قليل الهيبة للملوك، لا يخاف في الله لومة لائم. توفي سنة ست وعشرين ومائتين. موقفه من الرافضة: جاء في رياض النفوس سليمان بن خلاد: قلت لابن أبي حسان: أرأيت هذا الذي يقول الناس في أبي بكر وعلي؟ -يريد التفضيل بينهما. فرفع يده فضربني الصدر ضربة واحدة أوجعتني، ثم قال: ليس هذا دين قريش ولا دين العرب، هذا دين أهل "قم" (قرية من قرى خراسان) ثم قال: والله ما يخفى علينا نحن من يستحق الولاية بعد والينا ولا من يستحق القضاء بعد قاضينا، ¬

(¬1) الديباج المذهب (1/ 418) وترتيب المدارك (1/ 278 - 281) وشجرة النور الزكية (1/ 63) ورياض النفوس (1/ 284 - 289).

إسماعيل بن أبي أويس (226 هـ)

فكيف يخفى على أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - من يستحق الأمر بعد نبيهم. (¬1) " التعليق: لله درك يا عالم القيروان، ما أحسنه من كلام يثلج صدر السلفي، ويبقر بطن الشيعي الرافضي الخبيث، الذي نصب نفسه عدوا لمن اصطفاه الله على خلقه بعد نبيه - صلى الله عليه وسلم -. إسماعيل بن أبي أُوَيْس (¬2) (226 هـ) هو إسماعيل بن عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر أبو عبد الله ابن أبي أويس الأشجعي المدني الأصْبَحِي. أخو عبد الحميد بن أبي أويس. قرأ القرآن وجوده على نافع فكان آخر تلامذته وفاة. حدث عن أبيه عبد الله، وأخيه أبي بكر، وخاله مالك بن أنس، وعبد العزيز بن عبد الله بن الماجشون، وعدة. وحدث عنه البخاري، ومسلم، ثم مسلم وأبو داود والترمذي، وابن ماجة بواسطة، وأحمد بن صالح، وعثمان بن سعيد الدارمي، وخلق سواهم. قال الإمام أحمد: هو ثقة، قام في أمر المحنة مقاما محمودا. وقال الذهبي: وكان عالم أهل المدينة ومحدثهم في زمانه على نقص في حفظه وإتقانه، ولولا أن الشيخين احتجا به، لزحزح حديثه عن درجة الصحيح إلى درجة الحسن، هذا الذي عندي فيه. مات سنة ست وعشرين ومائتين، وقيل ¬

(¬1) رياض النفوس (1/ 287 - 288). (¬2) سير أعلام النبلاء (10/ 391 - 395) وتاريخ الإسلام (حوادث 221 - 230/ص.91 - 94) وتهذيب الكمال (3/ 124 - 129) وترتيب المدارك (1/ 213 - 214) وتهذيب التهذيب (1/ 310 - 312).

موقفه من الجهمية:

سنة سبع في رجب رحمه الله. موقفه من الجهمية: - حكى إسماعيل بن أبي أويس إجماع أهل المدينة قال: كان مالك وعلماء أهل بلدنا يقولون: القرآن من الله وليس من الله شيء مخلوق. (¬1) - عن إسحاق بن بهلول قال: سمعت ابن أبي أويس يقول: القرآن كلام الله عز وجل ومن الله، وما كان من الله فليس بمخلوق. (¬2) محمود الوراق (¬3) (توفي في خلافة المعتصم) هو محمود بن الحسن الوراق، الشاعر المشهور، أكثر من الشعر الحسن في المواعظ والحكم. يقال إنه كان نخاسا يبيع الرقيق. روى عنه أبو بكر بن أبي الدنيا، وأبو العباس بن مسروق، وغيرهما. ومن شعره قوله: رجعت على السفيه بفضل حلمي ... فكان الحلم عنه له لجاما وظن بي السفاه فلم يجدني ... أُسافِهُه وقلت له سلاما فقام يجر رجليه ذليلا ... وقد كسب المذلة والملاما وفضل الحلم أبلغ في سفيه ... وأحرى أن تنال به انتقاما قال محمد بن شاكر الكتبي: توفي في خلافة المعتصم في حدود الثلاثين ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 300/478) والسنة لعبد الله (ص.31). (¬2) أصول الاعتقاد (2/ 289/446). (¬3) تاريخ بغداد (13/ 87 - 89) وتاريخ الإسلام (حوادث 221 - 230/ص.404) وسير أعلام النبلاء (11/ 461 - 462) وفوات الوفيات (4/ 79 - 81).

موقفه من القدرية:

والمائتين. موقفه من القدرية: جاء في أصول الاعتقاد، عن محمود قال: ليس عندي إلا الرضا بقضاء ... الله فيما أحببته وكرهته لوالي الأمور اختار منها خيرها ... لي عواقبا ما عرفته فأرى أن أرد ذاك إلى ... من عنده العلم الذي قد جهلته (¬1) أحمد بن يونس (¬2) (227 هـ) هو الإمام الحجة الحافظ، أبو عبد الله، أحمد بن عبد الله بن يونس التميمي، اليَرْبُوعِي الكوفي، ينسب إلى جده تخفيفا. سمع من جده يونس بن عبد الله بن قيس اليربوعي، ومن ابن أبي ذئب، وسفيان الثوري وغيرهم. وحدث عنه البخاري، ومسلم وهو من كبراء شيوخه، وعبد بن حميد، وأبو زرعة الرازي، وخلق سواهم. قال ابن سعد: مات بالكوفة يوم الجمعة لخمس ليال بقين من شهر ربيع الآخر سنة سبع وعشرين ومائتين، وكان ثقة صدوقا صاحب سنة وجماعة. قال الفضل بن زياد: سمعت أحمد بن حنبل وسأله رجل عمن أكتب؟ قال: ارحل إلى أحمد بن يونس، فإنه شيخ الإسلام. وقال أبو حاتم: كان ثقة متقنا. وقال العجلي: ثقة صاحب سنة. ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 767/1283). (¬2) طبقات ابن سعد (6/ 405) وتاريخ الإسلام (حوادث 221 - 230/ص.44 - 46) وسير أعلام النبلاء (10/ 457 - 459) والتاريخ الكبير (2/ 5) وتهذيب الكمال (1/ 375 - 378) وتهذيب التهذيب (1/ 50 - 51).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: عن أحمد بن زهير قال: سمعت أحمد بن عبد الله بن يونس يقول: امتحن أهل الموصل بمعافى بن عمران، فإن أحبوه فهم أهل السنة وإن أبغضوه فهم أهل بدعة كما يمتحن أهل الكوفة بيحيى. (¬1) موقفه من الرافضة: جاء في الصارم: قال أحمد بن يونس: لو أن يهوديا ذبح شاة، وذبح رافضي لأكلت ذبيحة اليهودي، ولم آكل ذبيحة الرافضي؛ لأنه مرتد عن الإسلام. (¬2) موقفه من الجهمية: قال أبو داود صاحب السنن: سألت أحمد بن يونس، فقال: لا تصل خلف من يقول: القرآن مخلوق، هؤلاء كفار. (¬3) الهيثم بن خارجة (¬4) (227 هـ) الهيثم بن خارجة أبو أحمد، ويقال أبو يحيى المروذي ثم البغدادي الحافظ. روى عن مالك، والليث، ويعقوب القمي، وحفص بن ميسرة، وغيرهم. روى عنه أحمد بن حنبل، وعباس الدوري، والبخاري، وأبو زرعة، ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (1/ 74/58). (¬2) الصارم المسلول (572) وهو في أصول الاعتقاد (8/ 1546/2817) مختصرا. (¬3) السير (10/ 458) وتذكرة الحفاظ (1/ 400) والإبانة (2/ 12/61/ 267). (¬4) السير (10/ 477 - 479) وطبقات ابن سعد (7/ 342) وتاريخ بغداد (14/ 58 - 59) وتهذيب الكمال (30/ 374 - 378) وتهذيب التهذيب (11/ 93 - 94) وتاريخ الإسلام (حوادث 221 - 330/ص.442 - 444).

موقفه من الجهمية:

وآخرون. قال هشام بن عمار: كنا نسميه شعبة الصغير. قال صالح جزرة: كان يتزهد، كان أحمد بن حنبل يثني عليه. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: كان أبي إذا رضي عن إنسان وكان عنده ثقة حدث عنه وهو حي، فحدثنا عن الحكم بن موسى وهو حي، وعن الهيثم بن خارجة وهو حي، وعن أبي الأحوص، وخلف، وشجاع وهم أحياء. مات يوم الاثنين لثمان ليال بقين من ذي الحجة سنة سبع وعشرين ومائتين. موقفه من الجهمية: عن ابن أخي الهيثم بن خارجة قال: سمعت الهيثم يقول: القرآن كلام الله وليس بمخلوق. (¬1) أبو الوليد الطَّيَالِسِي (¬2) (227 هـ) هشام بن عبد الملك الإمام الحافظ الناقد، شيخ الإسلام أبو الوليد الباهلي مولاهم البصري الطيالسي. روى عن مالك وابن عيينة وشعبة وأبي عوانة الوضاح بن عبد الله وهمام بن يحيى ومهدي بن ميمون والحمادين وعدة. وعنه البخاري وأبو داود وإسحاق بن راهويه والذهلي وأبو زرعة ومحمد بن ¬

(¬1) الإبانة (2/ 12/19/ 209). (¬2) طبقات ابن سعد (7/ 300) والجرح والتعديل (9/ 65) والأنساب (8/ 283) وتذكرة الحفاظ (1/ 382) وميزان الاعتدال (4/ 301) وتهذيب التهذيب (1/ 45 - 47) وشذرات الذهب (2/ 62 - 63) والسير (10/ 341 - 347).

موقفه من المبتدعة:

بشار وأبو خيثمة زهير بن حرب وآخرون. قال أحمد بن حنبل: أبو الوليد اليوم شيخ الإسلام، ما أقدم عليه اليوم أحدا من المحدثين. وقال أبو زرعة: أدرك أبو الوليد نصف الإسلام، وكان إماما في زمانه، جليلا عند الناس. توفي سنة سبع وعشرين ومائتين. موقفه من المبتدعة: عن محمد بن يحيى، سمعت أبا الوليد يقول: وحدث بحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقيل له: ما رأيك؟ فقال ليس لي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - رأي. (¬1) موقفه من الجهمية: - عن يعقوب بن سفيان قال سمعت أبا الوليد هشام بن عبد الملك قال: قال يحيى بن سعيد أما تعجب من هذا؟ يقولون: قُلْ {هُوَ اللَّهُ أحد} مخلوقة؟ قال أبو الوليد: القرآن كلام الله والكلام في القرآن كلام في الله. قال أبو الوليد: من لم يعقد قلبه على أن القرآن ليس بمخلوق فهو خارج من الإسلام. (¬2) - جاء في أصول الاعتقاد عنه قال: ما عرفت بالري ولا ببغداد ولا بالبصرة رجلا يقول: القرآن مخلوق، وأسأل الله العافية. (¬3) - وفيه عنه قال: من قال القرآن مخلوق يفرق بينه وبين امرأته بمنزلة المرتد. (¬4) ¬

(¬1) ذم الكلام (100). (¬2) أصول الاعتقاد (2/ 286/437). (¬3) أصول الاعتقاد (2/ 311/483). (¬4) أصول الاعتقاد (2/ 354/516).

أبو نصر بشر بن الحارث (227 هـ)

أبو نصر بشر بن الحارث (227 هـ) موقفه من المبتدعة: - جاء في ذم الكلام عنه قال: النظر إلى أهل الأهواء يورث القلب القساوة. (¬1) " التعليق: إذا نقلت عن مثل هؤلاء الذين انتسبوا إلى التصوف أو الكلام أو غير ذلك، فأقصد بذلك مواقفهم التي توافق مواقف السلف في الذب عن العقيدة السلفية. - جاء في الإبانة عنه قال: وقد سئل عن الرجل يكون مع هؤلاء أهل الأهواء في موضع جنازة أو مقبرة فيتكلمون ويعرضون، فترى لنا أن نجيبهم؟ فقال: إن كان معك من لا يعلم، فردوا عليه لأن لا يرى أولئك أن القول كما يقولون، وإن كنتم أنتم وهم، فلا تكلموهم ولا تجيبوهم. (¬2) - عن أبي جعفر محمد بن المثنى قال: سمعت أبا نصر بشر بن الحارث يقول: الخصومات تحبط الأعمال. (¬3) - عن محمد بن المثنى، سمعت بشرا ينهى عن مخاطبة أهل الأهواء كلهم ومناظرتهم. (¬4) ¬

(¬1) ذم الكلام (257). (¬2) الإبانة (2/ 3/542/ 683). (¬3) الإبانة (2/ 3/529 - 530/ 650). (¬4) ذم الكلام (257).

موقفه من الجهمية:

- عن موسى بن أحمد الفريابي قال: قال بشر الحافي: علامة طاعة الله تسليم أمره لطاعته، وعلامة حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسليم آثاره والعمل على سنته، ولا يلتفت إلى غيره. (¬1) موقفه من الجهمية: - جاء في السير: قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: حدثنا محمد بن المثنى صاحب بشر قال: قال رجل لبشر وأنا حاضر: إن هذا الرجل -يعني أحمد ابن حنبل- قيل له: أليس الله قديما وكل شيء دونه مخلوق؟ قال: فما ترك بشر الرجل يتكلم حتى قال: لا، كل شيء مخلوق إلا القرآن. (¬2) - عن محمد بن المثنى قال: سمعت بشر بن الحارث يقول: أما سمعت ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك" (¬3) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الله عز وجل" (¬4) ثم قال بشر: هؤلاء الجهمية يتعاظمون هذا. (¬5) - عن أبي بكر بن زيادة قال: قلت لبشر بن الحارث: يا أبا نصر ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله ليس بمخلوق. فقلت له: لا تكلم بهذا. قال: أخاف السلطان. قلت له: فلثقاتك. قال: إن لكل ثقة ثقة. (¬6) ¬

(¬1) ذم الكلام (257). (¬2) السير (10/ 473 - 474). (¬3) أخرجه من حديث أنس: أحمد (3/ 112) والترمذي (4/ 390 - 391/ 2140) وقال: "هذا حديث حسن". وابن ماجه (2/ 1260/3834) ويشهد له حديث عبد الله بن عمرو وعائشة والنواس وغيرهم وستأتي معنا بإذن الله. (¬4) انظر تخريجه في مواقف سفيان بن عيينة سنة (198هـ) ومواقف الشافعي سنة (204هـ). (¬5) الشريعة (2/ 118/780). (¬6) الإبانة (2/ 12/40/ 232).

- عن أبي نصر -عصمة بن أبي عصمة- قال: حدثنا ابن الخالقاني عن أبي حفص العطار، قال: سمعت بشر بن الحارث يقول حين أنشده أبو الرمة هذا الشعر في بشر المريسي: اكتبوا هذا الشعر وتعلموه، فهو أنفع لكم من غيره، وعلموه صبيانكم، ورأيت بشرا يعجبه هذا الشعر إذا أنشده: أيها الناس فاستقيموا إلى ... الحق وخافوا عقوبة الرحمن واتقوا يوم ينجلي الأمر فيه ... لكم من كرامة أو هوان فإلى جنة الخلد فيها أم ... إلى جاحم من النيران يوم يجمعكم الإله ليوم ... فيه شابت ذوائب الولدان فأجيبوا عن القرآن وعما ... قلتموه يا معشر المجان أزعمتم بأنه مخلوق فكذبتم ... ومنزل الفرقان بل كلام الإله ليس بمخلوق ... ولا ميت مع الإنسان كل خلق يبيد لا شك فيه ... أي خلق يبقى على الحدثان لا تقولوا بقول بشر المريسي ... والعنوه في السر والإعلان واستعيذوا بالله من شر بشر ... كاستعاذتكم من الشيطان ما أراد الذي أراد سوى الشرك ... ولكن كنى عن الأوثان بالقرآن اهتدى وضل الذي ضل ... وكل مخاصم بالقرآن فعليكم بدينكم لا تبيعوه ... بشيء من المعيشة فان لا على الشرك ترقدون وإن متم ... على الدين صرتم للجنان فاقبلوا النصح من أخ بذل النصـ ... ـح لكم من ضميره واللسان (¬1) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 14/295 - 296/ 466).

موقف السلف من أبي الهذيل العلاف المعتزلي (227 هـ)

- قال عبد الله في السنة: حدثني بعض أصحابنا وهو محمد بن علي قال: سمعت أبي يقول: سمعت بشر بن الحارث يقول: لا تجالسوهم ولا تكلموهم، وإن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم، كيف يرجعون وأنتم تفعلون بهم هذا؟ قال: يعني الجهمية. (¬1) - جاء في تلبيس إبليس عنه قال: جاء موت هذا الذي يقال له المريسي وأنا في السوق فلولا أن الموضع ليس موضع سجود لسجدت شكرا. الحمد لله الذي أماته، هكذا قولوا. (¬2) - وجاء في ذم الكلام عنه قال: لا تخالف الأئمة، فإنه ما أفلح صاحب كلام قط. (¬3) موقف السلف من أبي الهذيل العلاف المعتزلي (227 هـ) ضلاله ومخازيه: - جاء في سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي: ورأس المعتزلة أبو الهذيل محمد بن الهذيل البصري العلاف صاحب التصانيف، الذي زعم أن نعيم الجنة وعذاب النار ينتهي، بحيث أن حركات أهل الجنة تسكن حتى لا ينطقون بكلمة، وأنكر الصفات المقدسة حتى العلم والقدرة وقال: هما الله، ¬

(¬1) السنة لعبد الله (ص.18). (¬2) تلبيس إبليس (ص.24). (¬3) ذم الكلام (ص.57).

وأن لما يقدر الله عليه نهاية وآخرا، وأن للقدرة نهاية، لو خرجت إلى الفعل، فإن خرجت لم تقدر على خلق ذرة أصلا، وهذا كفر وإلحاد. (¬1) - جاء في تاريخ بغداد عن أبي سعيد علي بن الحسن القبصري قال: قال المأمون يوما لحاجبه: من بالباب؟ قال أبو الهذيل وعبد الله بن أباض الخارجي وهشام بن الكلبي فقال: ما بقي من رؤوس جهنم أحد إلا وقد حضر. (¬2) - ثم قال الذهبي: ولم يكن أبو الهذيل بالتقي حتى لنقل أنه سكر مرة عند صديقه، فراود غلاما له فرماه بتور، فدخل في رقبته وصار كالطوق، فاحتاج إلى حداد يفكه. (¬3) - وكان أخذ الاعتزال عن عثمان بن خالد الطويل تلميذ واصل بن عطاء الغزال. وطال عمر أبي الهذيل وجاوز التسعين، وانقلع في سنة سبع وعشرين ومائتين. (¬4) - وفي أصول الاعتقاد: وسأل رجل أبا الهذيل العلاف المعتزلي البصري عن القرآن فقال: مخلوق، فقال له: مخلوق يموت أو يخلد؟ قال: بل يموت. قال: فمتى يموت القرآن؟ قال: إذا مات من يتلوه فهو موته. قال: فقد مات من يتلوه. وقد ذهبت الدنيا وتصرمت، وقال الله عز وجل: {لِمَنِ الْمُلْكُ ¬

(¬1) السير (10/ 542 - 543). (¬2) ذكره في تاريخه الخطيب (3/ 369) وأصول الاعتقاد (4/ 818/1380). (¬3) السير (10/ 543) وتاريخ بغداد (3/ 369). (¬4) السير (10/ 543).

عبد الله بن عبد الله الخراساني (زمن المعتصم)

اليوم} (¬1) فهذا القرآن وقد مات الناس؟ فقال: ما أدري وبهت. (¬2) عبد الله بن عبد الله الخراساني (زمن المعتصم) موقفه من الجهمية: حدثنا أبو الحسن -علي بن يحيى بن عيسى- قال: سمعت زرقان بن محمد يقول: سمعت أبا داود السجستاني يقول: لما جيء بعبد الله بن عبد الله الخراساني وأحضر للمحنة وأحمد بن حنبل محبوس، قال الخراساني: هذا الذي تدعوني إليه اعرضوه علي. قال: تقول القرآن مخلوق؟ قال: هذا الذي تدعون إليه، علمه الله ورسوله وجميع المؤمنين؟ قالوا: نعم. قال: فوسعهم السكوت عنه؟ فأطرق المعتصم مليا، ثم رفع رأسه، فقال: نعم. قال: فما وسعكم ما وسع القوم؟ قال: فقال المعتصم: أخلوا لي بيتا، فأخلي له بيت، فطرح نفسه فيه على قفاه ورفع رجليه مع الحائط وهو يقول: علمه الله، وعلمه رسوله والمؤمنون، ووسعهم السكوت عنه، وسعنا ما وسع القوم، صدق الخراساني، ما زال يقول ذلك ويردده يومه وليلته، لا يجد فيه حجة، فلما كان من الغد أمر بإحضار الجماعة ثم جلس على كرسيه وأحضر القوم، فبدأ الخراساني فأسكتهم وقطع حجتهم، فقال المعتصم: خلوا عن الخراساني، فقال ابن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين، إن هذا متى يخرج على هذه السبيل يفتن العامة، ¬

(¬1) غافر الآية (16). (¬2) أصول الاعتقاد (2/ 246/363).

المعتصم (227 هـ)

ويقول: غلبت أمير المؤمنين وغلبت قضاته وشيوخه وعلماءه، وقهرته وأدحضت حجته، فقال: صدقت يا أحمد. ثم قال: جروا برجله، فجروا برجله على وجهه إلى البيت الذي فيه أحمد بن حنبل، فتعلقت الرزة بغلصمته، فقال: اجذبوه فجذبوه فانقطع رأسه، قال أحمد بن حنبل: فسمعت اللسان يقول في الرأس: غير مخلوق، ثلاث مرات، ثم سكت. قال أحمد: فكان ذلك مما بصرني في أمري، وشجع به قلبي. (¬1) المعتصم (227 هـ) الخليفة أبو إسحاق محمد بن الرشيد هارون بن محمد المهدي بن المنصور العباسي. امتحن الناس بخلق القرآن، وكتب بذلك إلى الأمصار، ودام ذلك حتى أزاله المتوكل بعد أربعة عشر عاما. موقفه من المشركين: - قال الرياشي: كتب طاغية الروم إلى المعتصم يتهدده، فأمر بجوابه، فلما عرض عليه رماه، وقال للكاتب: اكتب: أما بعد، فقد قرأت كتابك، وسمعت خطابك، والجواب ما ترى لا ما تسمع {وسيعلم الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدار} (¬2). (¬3) - جاء في فتح الباري: ثم خرج في أيام المأمون بابك الخرمي، فغلب ¬

(¬1) الإبانة (2/ 14/282 - 283/ 455). (¬2) الرعد الآية (42). (¬3) السير (10/ 291).

على بلاد الجبل، وقتل في المسلمين وهزم الجيوش إلى أن ظفر به المعتصم فصلبه. (¬1) - وفي البداية والنهاية: وفيها -أي سنة عشرين ومائتين من الهجرة- عقد المعتصم للأفشين واسمه حيضر بن كاوس على جيش عظيم لقتال بابك الخرمي لعنه الله، وكان قد استفحل أمره جدا وقويت شوكته وانتشرت أتباعه في أذربيجان وما والاها، وكان أول ظهوره في سنة إحدى ومائتين، وكان زنديقا كبيرا وشيطانا رجيما، فسار الأفشين وقد أحكم صناعة الحرب في الأرصاد وعمارة الحصون وإرصاد المدد، وأرسل إليه المعتصم مع بغا الكبير أموالا جزيلة، إلى أن قال الحافظ ابن كثير: وقد أمر المعتصم ابنه هارون الواثق أن يتلقى الأفشين، وكانت أخباره تفد إلى المعتصم في كل يوم من شدة اعتناء المعتصم بأمر بابك، وقد ركب المعتصم قبل وصول بابك بيومين على البريد، حتى دخل إلى بابك وهو لا يعرفه، فنظر إليه ثم رجع فلما كان يوم دخوله عليه تأهب المعتصم واصطف الناس سماطين، وأمر بابك أن يركب على فيل ليشهر أمره ويعرفوه وعليه قباء ديباج وقلنسوة سمور مدورة وقد هيأوا الفيل وخضبوا أطرافه ... إلى أن قال: ولما أحضر بين يدي المعتصم أمر بقطع يديه ورجليه وجز رأسه وشق بطنه، ثم أمر بحمل رأسه إلى خراسان وصلب جثته على خشبة بسامرا، وكان بابك قد شرب الخمر ليلة قتله ... وكان هذا الملعون قد قتل من المسلمين في مدة ظهوره -وهي عشرون سنة- مائتي ألف وخمسة وخمسين ¬

(¬1) فتح الباري (12/ 271).

موقفه من الرافضة:

ألفا وخمسمائة إنسان، قاله ابن جرير. وأسر خلقا لا يحصون، وكان جملة من استنقذه الأفشين من أسره، نحوا من سبعة آلاف وستمائة إنسان ... وكان أصل بابك من جارية زرية الشكل جدا، فآل به الحال إلى ما آل به إليه، ثم أراح الله المسلمين من شره بعد ما افتتن به خلق كثير وجم غفير من العوام الطغام. (¬1) موقفه من الرافضة: جاء في السير: وفتح مصر -يعني قهر أهلها- قبل خلافته. وقتل ثمانية: بابك، والأفشين، ومازيار، وباطيس، ورئيس الزنادقة، وعجيفا، وقارون، وأمير الرافضة. (¬2) موقفه من القدرية: - جاء في الكفاية بالسند إلى الفضل بن مروان قال: كان المعتصم يختلف إلى علي بن عاصم المحدث وكنت أمضي معه إليه، فقال يوما: حدثنا عمرو بن عبيد وكان قدريا. فقال له المعتصم: يا أبا الحسن أما تروي أن القدرية مجوس هذه الأمة؟ (¬3) قال: بلى. قال فلم تروي عنه؟ قال: لأنه ثقة في الحديث صدوق. قال: فإن كان المجوسي ثقة فما تقول أتروي عنه؟ فقال له علي: أنت شغاب يا أبا إسحاق. قال الخطيب معلقا: وهذا الاعتراض المذكور في الخبر لازم، ولا خلاف ¬

(¬1) البداية والنهاية (10/ 295 - 298). (¬2) السير (10/ 302). (¬3) سيأتي تخريجه في مواقف الآجري سنة (360هـ).

علي بن عثام (228 هـ)

أن الفاسق بفعله لا يقبل قوله في أمور الدين مع كونه مؤمنا عندنا، فبأن لا يقبل قول من يحكم بكفره من المعتزلة وغيرهم أولى. (¬1) علي بن عَثَّام (¬2) (228 هـ) علي بن عثام بن علي الإمام الحافظ القدوة شيخ الإسلام أبو الحسن الكِلاَبِي العَامِرِي الكوفي نزيل نيسابور. سمع أحمد بن حنبل وحماد بن زيد وابن عيينة وابن المبارك وخلقا سواهم. حدث عنه الذهلي وأبو حاتم الرازي وأحمد بن سعيد الدارمي وسلمة بن شبيب وعدة. قال عنه الحاكم: أديب فقيه، حافظ زاهد، واحد عصره. قال ابن حجر: ثقة فاضل. من أقواله: إن طريق البر سهل وإن طريق القطيعة وعر. توفي سنة ثمان وعشرين ومائتين. موقفه من المبتدعة: جاء في ذم الكلام عن محمد بن عبد الوهاب قال: قلت لعلي بن عثام: رجل يقول: ليس في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقه، فقال: هذا فاجر، فأين الفقه وأين الخير إلا فيه. (¬3) ¬

(¬1) الكفاية (124) وأصول الاعتقاد (4/ 819 - 820/ 1383). (¬2) الجرح والتعديل (6/ 199) وتهذيب التهذيب (7/ 362 - 364) وشذرات الذهب (2/ 65) والسير (10/ 569 - 571) وتهذيب الكمال (21/ 57 - 66) والتقريب (1/ 699). (¬3) ذم الكلام (77).

عبد الملك بن عبد العزيز القشيري (228 هـ)

" التعليق: إلى هذا الحد وصلت الوقاحة بالمبتدعة، وقد تبنى هذه الفكرة النجسة علماء الكلام فيما بعد، ودافعوا عنها، وقالوا الحجة في المعقول لا في المنقول، وكذلك الصوفية قالوا: لا حجة في القشور وإنما الحجة في التلقي بطريق الكشف، والله المستعان. عبد الملك بن عبد العزيز القُشَيْرِي (¬1) (228 هـ) عبد الملك بن عبد العزيز بن ذكوان، الإمام الثقة، الزاهد القدوة، القشيري، نزيل بغداد، أبو نَصْر التَّمَّار. ولد عام مقتل أبي مسلم الخراساني. روى عن جرير بن حازم، وسعيد بن عبد العزيز، وحماد بن سلمة، وغيرهم. وروى عنه مسلم، وأحمد بن منيع، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وأبو يعلى الموصلي، وخلق سواهم. قال ابن سعد: وكان ثقة فاضلا خيرا ورعا. توفي في أول يوم من المحرم سنة ثمان وعشرين ومائتين وهو ابن إحدى وتسعين سنة وقد ذهب بصره. موقفه من الجهمية: عن أبي يوسف -حكيم التمار- وكان صديقا لأبي نصر التمار، قال: لما أدخل أبو نصر -يعني دار إسحاق بن إبراهيم للمحنة قعدنا على الباب ننظر ما يكون من أمره، فخرج، فقلت: ما صنعت يا أبا نصر؟ فقال: يا أبا ¬

(¬1) السير (10/ 571 - 574) تهذيب الكمال (18/ 354 - 358) تهذيب التهذيب (6/ 406 - 407) وطبقات ابن سعد (7/ 340) ميزان الاعتدال (2/ 658) تاريخ بغداد (10/ 420 - 423).

نعيم بن حماد الخزاعي (228 هـ)

يوسف دخلنا كفرنا، وخرجنا. (¬1) نُعَيْم بن حَمَّاد الخُزَاعِي (¬2) (228 هـ) نعيم بن حماد بن الحارث بن هَمَّام الإمام العلامة الحافظ أبو عبد الله الخزاعي المَرْوَزِي الفَرَضِي الأعور صاحب التصانيف سكن مصر. حدث عن ابن المبارك وهشيم بن بشير وعبد الله بن وهب وعبد الله بن إدريس وابن عيينة وعدة. روى عنه البخاري مقرونا وأبو داود ويحيى بن معين والذهلي وعبد الله ابن عبد الرحمن الدارمي وطائفة. قال فيه ابن حجر: صدوق يخطئ كثيرا، فقيه عارف بالفرائض. وقد قال ابن عدي -بعد ما ساق له بعض المناكير-: وقد كان أحد من يتصلب في السنة، ومات في محنة القرآن في الحبس، وعامة ما أنكر عليه هو ما ذكرته، وأرجو أن يكون باقي حديثه مستقيما. توفي سنة ثمان وعشرين ومائتين. موقفه من المبتدعة: - روى محمد بن يزيد المستملي عن نعيم بن حماد قال: إذا رأيت العراقي يتكلم في أحمد فاتهمه في دينه، وإذا رأيت الخراساني يتكلم في إسحاق فاتهمه، وإذا رأيت البصري يتكلم في وهب بن جرير فاتهمه في دينه. (¬3) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 13/112 - 113/ 369). (¬2) طبقات ابن سعد (7/ 519) والجرح والتعديل (8/ 463) وتاريخ بغداد (13/ 306 - 314) وتذكرة الحفاظ (2/ 418) وميزان الاعتدال (4/ 267 - 270) وتهذيب التهذيب (10/ 458) وشذرات الذهب (2/ 67) والسير (10/ 595 - 612) والتقريب (2/ 250). (¬3) السير (11/ 381).

موقفه من الجهمية:

" التعليق: هذه قاعدة جليلة مطردة في كشف أهل الأهواء والبدع إذ من أظهر آياتهم الوقيعة في السلفيين أهل الحديث والأثر على مر الأزمان. - عن أبي حاتم قال: سمعت نعيم بن حماد يقول: من ترك حديثا معروفا فلم يعمل به، وأراد له علة أن يطرحه، فهو مبتدع. (¬1) - وفي صيانة الإنسان: قال نعيم بن حماد: إذا فسدت الجماعة فعليك ما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد، وإن كنت وحدك فإنك أنت الجماعة حينئذ. (¬2) موقفه من الجهمية: - له مواقف مشرفة ضد المبتدعة عموما والجهمية خصوصا، ويكفي أنه بذل نفسه في سبيل الله فمات في المحنة. - جاء في كتاب الكامل لابن عدي ما لفظه: قال الشيخ: وكان ممن يتصلب في السنة ومات في محنة القرآن في الحبس. (¬3) - وفيه قال ابن عدي: حدثنا أحمد بن عيسى بن محمد المروزي إجازة مشافهة، حدثنا ابن أبي مصعب قال نعيم بن حماد الفارض: منزله على الماء ¬

(¬1) الفقيه والمتفقه (1/ 386). (¬2) صيانة الإنسان (ص.310). (¬3) الكامل (7/ 2485).

جار في السكة التي تنسب إلى أبي حمزة السكري، وضع كتب الرد على أبي حنيفة، وناقض محمد بن الحسن ووضع ثلاثة عشر كتابا في الرد على الجهمية. (¬1) - روى الخطيب بسنده إلى أبي بكر الطرسوسي يقول: أخذ نعيم بن حماد في أيام المحنة سنة ثلاث وعشرين أو أربع وعشرين، وألقوه في السجن ومات في سنة سبع وعشرين، وأوصى أن يدفن في قيوده وقال إني مخاصم. (¬2) - وفي طبقات ابن سعد: وكان من أهل خراسان من أهل مرو، وطلب الحديث طلبا كثيرا بالعراق والحجاز، ثم نزل مصر، فلم يزل بها حتى أشخص منها في خلافة أبي إسحاق بن هارون فسئل عن القرآن فأبى أن يجيب فيه بشيء مما أرادوه عليه، فحبس بسامرا، فلم يزل محبوسا بها حتى مات في السجن في سنة ثمان وعشرين ومائتين. (¬3) - وقال ابن القيم في اجتماع الجيوش الاسلامية: قول نعيم بن حماد الخزاعي أحد شيوخ النبل، شيخ البخاري رحمهما الله تعالى، قال في قوله {وَهُوَ مَعَكُمْ} (¬4): معناه لا يخفى عليه خافية بعلمه، ألا ترى إلى قوله تعالى: {ما يكون من نجوى ثَلَاثَةٍ إِلًّا هُوَ رابعهم} (¬5) أراد أن لا يخفى عليه ¬

(¬1) الكامل (7/ 2482). (¬2) تاريخ بغداد (13/ 313). (¬3) طبقات ابن سعد (7/ 519). (¬4) الحديد الآية (4). (¬5) المجادلة الآية (7).

خافية. - قال البخاري سمعته يقول: من شبه الله تعالى بخلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله تعالى به نفسه ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - تشبيها. (¬1) " التعليق: وهل في الإثبات أصرح من هذا يا من اتهم السلف بأنهم كانوا مفوضة؟ ولكن الهوى لا يترك للمبتدعة مجالا يراجعون أنفسهم، حتى يعرفوا هل السلف مفوضة أو مثبتة أو كما يقولون هم: مشبهة، فإذا لم يكن الإثبات، فلا معنى للنصوص ولا لإنزالها، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. - وفي أصول الاعتقاد عنه قال: حق على كل مؤمن أن يؤمن بجميع ما وصف الله به نفسه، ويترك التفكير في الرب تبارك وتعالى، ويتبع حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق" (¬2) قال نعيم: ليس كمثله شيء ولا يشبهه شيء من الأشياء. (¬3) - وكان نعيم بن حماد يكفر القائلين بخلق القرآن كما في السنة لعبد الله. (¬4) - عن زكريا بن يحيى بن حمدويه الحلواني قال: سمعت رفيق نعيم بن ¬

(¬1) اجتماع الجيوش (204) وطرفه الأخير في أصول الاعتقاد (3/ 587 - 588/ 936) والسير (13/ 299). (¬2) انظر تخريجه في مواقف مقاتل بن سليمان سنة (150هـ). (¬3) أصول الاعتقاد (3/ 582/929). (¬4) السنة لعبد الله (18).

حماد يقول: لما صرنا إلى العراق وحبس نعيم بن حماد، دخل عليه رجل في السجن من هؤلاء فقال لنعيم: أليس الله قال: {لا تدركه الْأَبْصَارُ وَهُوَ يدرك الْأَبْصَارَ} (¬1) فقال نعيم: بلى ذاك في الدنيا. قال: وما دليلك؟ فقال نعيم: إن الله هو البقاء، وخلق الخلق للفناء، فلا يستطيعون أن ينظروا بأبصار الفناء إلى البقاء، فإذا جدد لهم خلق البقاء فنظروا بأبصار البقاء إلى البقاء. (¬2) - قال الذهبي: وكان شديدا على الجهمية، أخذ ذلك عن نوح الجامع، وكان كاتبه. قال صالح بن مسمار: سمعت نعيما يقول: أنا كنت جهميا، فلذلك عرفت كلامهم، فلما طلبت الحديث عرفت أن أمرهم يرجع إلى التعطيل. قال الخطيب: يقال إن نعيم بن حماد أول من جمع المسند. وقال الحسين بن حبان: سمعت يحيى بن معين يقول: نعيم بن حماد أول من سمع صدوق وأنا أعرف الناس به، وكان رفيقي بالبصرة، كتب عن روح بن عبادة خمسين ألف حديث. وكذا وثقه أحمد. وروى إبراهيم بن الجنيد، عن ابن معين: ثقة. وقال أحمد العجلي: ثقة صدوق. وقال العباس بن مصعب في تاريخه: نعيم بن حماد وضع كتبا في الرد على الجهمية وكان من أعلم الناس بالفرائض، ثم خرج إلى مصر فأقام بها نيفا وأربعين سنة. ثم حمل إلى العراق في امتحان القرآن مع البويطي مقيدين، فمات نعيم بن حماد بسر من رأى. (¬3) قال الحافظ في الفتح: قال ابن أبي حاتم في كتاب 'الرد على الجهمية' ¬

(¬1) الأنعام الآية (103). (¬2) أصول الاعتقاد (3/ 562 - 563/ 890). (¬3) الميزان (4/ 267).

وجدت في كتاب أبي عمر نعيم بن حماد قال: يقال للجهمية أخبرونا عن قول الله تعالى بعد فناء خلقه: {لِمَنِ الْمُلْكُ اليوم} (¬1) فلا يجيبه أحد فيرد على نفسه {لِلَّهِ الواحد القهار} وذلك بعد انقطاع ألفاظ خلقه بموتهم، أفهذا مخلوق؟. (¬2) - وقال أيضا: قال ابن أبي حاتم في كتاب 'الرد على الجهمية' ذكر نعيم بن حماد أن الجهمية قالوا: إن أسماء الله مخلوقة، لأن الاسم غير المسمى، وادعوا أن الله كان ولا وجود لهذه الأسماء، ثم خلقها، ثم تسمى بها، قال فقلنا لهم: إن الله قال: {سبح اسم ربك الأعلى} (¬3) وقال: {ذلكم الله ربكم فاعبدوه} (¬4) فأخبر أنه المعبود ودل كلامه على اسمه بما دل به على نفسه، فمن زعم أن اسم الله مخلوق فقد زعم أن الله أمر نبيه أن يسبح مخلوقا. (¬5) - وقال أيضا: احتج بعض المبتدعة بقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (¬6) على أن القرآن مخلوق لأنه شيء، وتعقب ذلك نعيم بن حماد ¬

(¬1) غافر الآية (16). (¬2) الفتح (13/ 368). (¬3) الأعلى الآية (1). (¬4) يونس الآية (3). (¬5) الفتح (13/ 378). (¬6) الزمر الآية (62).

وغيره من أهل الحديث بأن القرآن كلام الله وهو صفته فكما أن الله لم يدخل في عموم قوله: {كُلِّ شَيْءٍ} اتفاقا فكذلك صفاته، ونظير ذلك قوله تعالى: {ويحذركم اللَّهُ نَفْسَهُ} (¬1) مع قوله تعالى: {كل نَفْسٍ ذائقة الْمَوْتِ} (¬2) فكما لم تدخل نفس الله في هذا العموم اتفاقا فكذا لا يدخل القرآن. (¬3) - وقال شيخ الإسلام: وكذلك من دخل مع أهل البدع والفجور ثم بين الله له الحق وتاب عليه توبة نصوحا، ورزقه الجهاد في سبيل الله، فقد يكون بيانه لحالهم وهجره لمساويهم، وجهاده لهم أعظم من غيره، قال نعيم بن حماد الخزاعي -وكان شديدا على الجهمية- أنا شديد عليهم، لأني كنت منهم. وقد قال الله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬4) نزلت هذه الآية في طائفة من الصحابة كان المشركون فتنوهم عن دينهم ثم تاب الله عليهم، فهاجروا إلى الله ورسوله، وجاهدوا وصبروا. (¬5) ¬

(¬1) آل عمران الآية (28). (¬2) العنكبوت الآية (57). (¬3) الفتح (13/ 532). (¬4) النحل الآية (110). (¬5) مجموع الفتاوى (10/ 303).

خلف بن هشام (229 هـ)

خلف بن هشام (¬1) (229 هـ) خَلَف بن هشام بن ثَعْلَب وقيل خلف بن هشام بن طالب بن غالب الإمام الحافظ الحجة شيخ الإسلام أبو محمد البغدادي البزار المقرئ أحد الأعلام. له اختيار أقرأ به وخالف فيه حمزة. قرأ على سليم عن حمزة، وعلى أبي يوسف لعاصم، وأخذ حرف نافع عن إسحاق المسيبي وقراءة أبي بكر عن يحيى بن آدم. قرأ عليه أحمد بن يزيد الحلواني وأحمد بن إبراهيم وراقة، ومحمد بن يحيى الكسائي الصغير وإدريس بن عبد الكريم الحداد وخلق سواهم. روى عن مالك بن أنس وحماد بن زيد وأبي الأحوص سلام بن سليم وشريك وهشيم بن بشير وأبي عوانة وطائفة. روى عنه مسلم وأبو داود وإبراهيم الحربي وأحمد بن حنبل وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيان وأبو يعلى الموصلي وعدة. قال الدارقطني: كان عابدا فاضلا. وقال الحسين بن فهم: ما رأيت أنبل من خلف بن هشام كان يبدأ بأهل القرآن، ثم لا يأذن لأصحاب الحديث، وكان يقرأ من حديث أبي عوانة خمسين حديثا. توفي سنة تسع وعشرين ومائتين. موقفه من الجهمية: جاء في أصول الاعتقاد عن خلف بن هشام فيمن قال: الاسم غير المسمى، وهو ينكر ذلك أشد النكرة ويقول: لو أن رجلا شتم رجلا على قول من قال هذه المقالة لم يلزمه شيء، يقول إنما شتمت الاسم. ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (7/ 348) والجرح والتعديل (3/ 372) وتاريخ بغداد (8/ 322 - 328) وتهذيب التهذيب (3/ 156) وشذرات الذهب (2/ 67) والسير (10/ 576 - 582) وتهذيب الكمال (8/ 299 - 303).

عبد الله بن محمد الجعفي المسندي (229 هـ)

ولو أن رجلا حلف بالله على مال رجل لم يلزمه في كلامه حنث على قول من قال هذه المقالة، ويقول: إنما حلفت بالاسم فلم أحلف بالمسمى. ورأيت يدور أمر الإسلام على هذا الاسم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" (¬1) أرأيت الوضوء حين يبدأ فيه الإنسان، يقول: بسم الله، فإذا فرغ قال: سبحانك اللهم. ورأيت الأذان أوله: الله أكبر، ولا يزال يردد أشهد أن لا إله إلا الله، ثم رأيت الصلاة حين يفتتح بقوله الله أكبر ولا يزال في ذلك حتى يختم بقوله: السلام عليكم ورحمة الله. فأولها وآخرها الله. ورأيت الحج؟ لبيك اللهم لبيك. ورأيت الذبيحة بسم الله، ورأيت أمر الإسلام يدور على هذا الاسم، فمن زعم أن أسماء الله مخلوقة فهو كافر، وكفره عندي أوضح من هذه الشمس. (¬2) عبد الله بن محمد الجُعْفِي المُسْنَدِي (¬3) (229 هـ) عبد الله بن محمد بن عبد الله الإمام الحافظ المُجَوِّد شيخ ما وراء النهر أبو جعفر الجعفي مولاهم البخاري المعروف بالمسندي لكثرة اعتنائه بالأحاديث المسندة. روى عن ابن عيينة وحفص بن غياث والقعنبي وعبد الرزاق الصنعاني وعبد الرحمن بن مهدي ومعتمر بن سليمان ووكيع ¬

(¬1) البخاري (13/ 311/7284و7285) ومسلم (1/ 51 - 52/ 20) وأبو داود (2/ 198/1556) والترمذي (5/ 5 - 6/ 2607) والنسائي (7/ 88/3980) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) أصول الاعتقاد (2/ 238 - 239/ 350). (¬3) شذرات الذهب (2/ 67) والجرح والتعديل (5/ 162) وتاريخ بغداد (10/ 64) وتهذيب التهذيب (6/ 9) والسير (10/ 658 - 660) والأنساب (5/ 298).

موقفه من الجهمية:

وعدة. روى عنه البخاري والذهلي وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان ومحمد بن نصر المروزي وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي وطائفة. قال الحاكم: هو إمام الحديث في عصره بما وراء النهر بلا مدافعة، وهو أستاذ البخاري. قال الذهبي: وقد أسلم جد البخاري على يدي يمان جد المسندي. توفي سنة تسع وعشرين ومائتين. موقفه من الجهمية: له كتاب 'الصفات والرد على الجهمية' ذكره شيخ الاسلام في أوائل الكتب التي ألفت في هذا الباب. (¬1) أحمد بن شَبُّويَه (¬2) (230 هـ) أحمد بن محمد بن ثابت بن عثمان الإمام القدوة المحدث شيخ الإسلام أبو الحسن الخزاعي المروزي الحافظ ابن شبويه. سمع ابن عيينة وابن المبارك وعبد الرزاق الصنعاني وابن علية ووكيعا وابن أبي أويس وعدة. حدث عنه أبو داود وأبو زرعة الدمشقي والذهلي وابنه ثابت وابن أبي خيثمة وابن معين وآخرون. قال النسائي: ثقة. توفي سنة ثلاثين ومائتين. موقفه من المبتدعة: جاء في السير عنه قال: من أراد علم القبر فعليه بالأثر، ومن أراد علم ¬

(¬1) انظر الفتاوى الكبرى (5/ 15). (¬2) الجرح والتعديل (2/ 55) والأنساب (7/ 285) وتذكرة الحفاظ (2/ 464) وتهذيب التهذيب (1/ 71) والسير (11/ 7 - 8) وتهذيب الكمال (1/ 433 - 436).

موقفه من الجهمية:

الخبز فعليه بالرأي. (¬1) موقفه من الجهمية: قال عبد الله في السنة: حدثنا ابن شبويه سمعت أبي يقول: من قال شيء من الله مخلوق، علمه أو كلامه، فهو زنديق كافر لا يصلى عليه ولا يصلى خلفه، ويجعل ماله كمال المرتد. ويذهب في مال المرتد إلى مذهب أهل المدينة أنه في بيت المال. (¬2) زكريا بن يحيى بن صالح (¬3) (230 هـ) زكريا بن يحيى بن صالح أبو يحيى البلخي. روى عن أبي مطيع الحكم ابن عبد الله البلخي، والحكم بن المبارك، وخلف بن أيوب. حدث عنه البخاري، وأحمد بن سيار المروزي، وجعفر بن محمد بن الحسن. قال قتيبة بن سعيد: فتيان خراسان أربعة. وذكر منهم زكريا بن يحيى. توفي سنة ثلاثين ومائتين. موقفه من المبتدعة: قال ابن حبان: كان ثقة صاحب سنة وفضل وممن يرد على أهل البدع، وهو مصنف كتاب الإيمان. (¬4) ¬

(¬1) السير (11/ 7 - 8). (¬2) السنة لعبد الله (ص.35). (¬3) تهذيب الكمال (9/ 378) وتذكرة الحفاظ (2/ 517) وتهذيب التهذيب (3/ 335) والثقات لابن حبان (8/ 254). (¬4) تذكرة الحفاظ (2/ 518).

الأمير عبد الله بن طاهر (230 هـ)

الأمير عبد الله بن طاهر (¬1) (230 هـ) الأمير العادل عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب، أبو العباس الخزاعي، حاكم خراسان وما وراء النهر. ولد سنة اثنتين وثمانين ومائة، وتأدب وتفقه وسمع من وكيع ويحيى بن الضريس والمأمون، روى عنه إسحاق ابن راهويه ونصر بن زياد القاضي وأحمد بن سعيد الرباطي وآخرون. قلده المأمون مصر والمغرب ثم خراسان، وكان أحد الأجواد الممدحين والسمحاء المذكورين. قال ابن خلكان: كان ابن طاهر شهما نبيلا، عالي الهمة. وعن سهل بن ميسرة أن جيران دار عبد الله بن طاهر أمر بإحصائهم، فبلغوا أربعة آلاف نفس، فكان يقوم بمؤنتهم وكسوتهم، فلما خرج إلى خراسان، انقطعت الرواتب من المؤنة، وبقيت الكسوة مدة حياته. وعن محمد بن الفضل أن ابن طاهر لما افتتح مصر ونحن معه، سوغه المأمون خراجها، فصعد المنبر، فلم ينزل حتى أجاز بها كلها، وهي ثلاثة آلاف ألف دينار أو نحوها. قال الذهبي: كان ابن طاهر عادلا في الرعية، عظيم الهيبة، حسن المذهب. توفي رحمه الله بمرو في ربيع الأول سنة ثلاثين ومائتين، وله ثمان وأربعون سنة. موقفه من المرجئة: عن أحمد بن سعيد الرباطي قال: قال لي عبد الله بن طاهر، يا أحمد إنكم تبغضون هؤلاء القوم جهلا، وأنا أبغضهم عن معرفة، إن أول أمرهم ¬

(¬1) تاريخ بغداد (9/ 483 - 489) ووفيات الأعيان (3/ 83 - 89) والوافي بالوفيات (17/ 219 - 223) وتاريخ الإسلام (حوادث 221 - 230/ص.229 - 234) وسير أعلام النبلاء (10/ 684 - 685) والنجوم الزاهرة (2/ 258).

محمد بن زياد بن الأعرابي (231 هـ)

أنهم لا يرون للسلطان طاعة. والثاني أنه ليس للإيمان عندهم قدر، والله لا أستجيز أن أقول: إيماني كإيمان يحيى بن يحيى، ولا كإيمان أحمد بن حنبل، وهم يقولون: إيماننا كإيمان جبريل وميكائيل. (¬1) محمد بن زياد بن الأعرابي (¬2) (231 هـ) محمد بن زياد، أبو عبد الله مولى بني هاشم، المعروف بابن الأعرابي. ولد بالكوفة سنة خمسين ومائة. أخذ عن أبي معاوية الضرير، والمفضل الضبي، والقاسم بن معن، والكسائي. وأخذ عنه إبراهيم الحربي، وعثمان الدارمي، وثعلب، وآخرون. قال ثعلب: لزمت ابن الأعرابي تسع عشرة سنة، وكان يحضر مجلسه زهاء مائة إنسان، وما رأيت بيده كتابا قط، انتهى إليه علم اللغة والحفظ. وقال الأزهري: ابن الأعرابي صالح، زاهد ورع صدوق، حفظ مالم يحفظه غيره. وقال الذهبي: له مصنفات كثيرة أدبية، وتاريخ القبائل، وكان صاحب سنة واتباع. توفي سنة إحدى وثلاثين ومائتين. موقفه من الجهمية: - جاء في أصول الاعتقاد: عن أبي عبد الله نفطويه قال: سمعت أحمد بن عمارة بن خالد قال: سمعت ابن الأعرابي يقول: ما رأيت قوما أكذب على ¬

(¬1) عقيدة السلف للصابوني (ص.272). (¬2) تاريخ بغداد (5/ 282) والأنساب (1/ 187) ووفيات الأعيان (4/ 306) وسير أعلام النبلاء (10/ 687 - 688) وتاريخ الإسلام (حوادث 231 - 240/ص.320 - 321) وشذرات الذهب (2/ 70).

اللغة من قوم يزعمون: أن القرآن مخلوق. (¬1) - وفيه: عن أبي عبد الله نفطويه قال: حدثني أبو سليمان داود بن علي قال: كنا عند ابن الأعرابي فأتاه رجل فقال له: ما معنى قول الله عز وجل: {الرحمن على العرش استوى} (¬2)؟ فقال: هو على عرشه كما أخبر عز وجل. فقال: يا أبا عبد الله ليس هذا معناه إنما معناه: استولى. قال: اسكت، ما أنت وهذا؟ لا يقال: استولى على الشيء إلا أن يكون له مضاد، فإذا غلب أحدهما قيل: استولى أما سمعت النابغة: ألا لمثلك أو من أنت سابقه ... سبق الجواد إذا استولى على الأمد (¬3) - وفيه: عن أبي بكر محمد بن أحمد بن النضر -وهو ابن بنت معاوية ابن عمرو- وقال: كان أبو عبد الله بن الأعرابي جارنا، وكان ليله أحسن ليل، وذكر لنا أن ابن أبي دؤاد سأله: أتعرف في اللغة استوى بمعنى: استولى؟ فقال: لا أعرف. (¬4) - ونقل الحافظ عن أبي إسماعيل في كتاب الفارق عن محمد بن أحمد ابن النضر الأزدي سمعت ابن الأعرابي يقول: أرادني أحمد بن أبي دؤاد أن أجد له في لغة العرب {الرحمن على العرش استوى} بمعنى استولى ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 404/623). (¬2) طه الآية (5). (¬3) أصول الاعتقاد (3/ 442/666) وتاريخ بغداد (5/ 284). (¬4) أصول الاعتقاد (3/ 443/667) وتاريخ بغداد (5/ 283).

البويطي (231 هـ)

فقلت: والله ما أصبت هذا. (¬1) البويطي (¬2) (231 هـ) يوسف بن يحيى الإمام العلامة سيد الفقهاء أبو يعقوب المصري البويطي صاحب الإمام الشافعي. حدث عن ابن وهب والشافعي وغيرهما. حدث عنه الربيع المرادي وإبراهيم بن إسحاق الحربي وأبو حاتم الرازي ومحمد بن إسماعيل الترمذي وعدة. قال عنه أبو عمر بن عبد البر: كان من أهل الدين والعلم والفهم والثقة، صليبا في السنة، يرد على أهل البدع، وكان حسن النظر. وقال أبو بكر الخطيب: قد حمل إلى بغداد في أيام المحنة وأريد على القول بخلق القرآن فامتنع من الإجابة إلى ذلك، فحبس ببغداد، ولم يزل في الحبس إلى حين وفاته، وكان صالحا، متعبدا، زاهدا. توفي سنة إحدى وثلاثين ومائتين. موقفه من الجهمية: - عن أبي نعيم الاستراباذي قال: قيل للربيع سمعت البويطي يقول: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر. قيل له -يعني الربيع- تقول به؟ قال: نعم ¬

(¬1) الفتح (13/ 406). (¬2) الجرح والتعديل (9/ 235) وتاريخ بغداد (14/ 299 - 303) ووفيات الأعيان (7/ 61 - 62) والسير (12/ 58 - 61) والأنساب (2/ 339) وتهذيب الكمال (32/ 472 - 476) والفهرست (298) وطبقات الشافعية (1/ 275 - 279).

أقول وأدين الله به. (¬1) - جاء في تاريخ الخطيب بالسند إلى الربيع بن سليمان قال: رأيت البويطي على بغل في عنقه غل، وفي رجله قيد، وبين الغل والقيد سلسلة حديد فيها طوبة وزنها أربعون رطلا، وهو يقول: إنما خلق الله الخلق بكن، فإذا كانت كن مخلوقة فكانت مخلوقا خلق مخلوقا، فوالله لأموتن في حديدي هذا حتى يأتي من بعدي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم، ولئن أدخلت إليه لأصدقنه -يعني الواثق- قال الربيع: وكتب إلي من السجن أنه لا يأتي علي أوقات ما أحس بالحديد أنه على بدني حتى تمسه يدي، فإذ قرأت كتابي هذا فأحسن خلقك مع أهل حلقتك واستوص بالغرباء خاصة خيرا فكثيرا ما كنت أسمع الشافعي يتمثل بهذا البيت: أهين لهم نفسي لكي يكرمونها ... ولا تكرم النفس التي لا تهينها (¬2) " التعليق: ألا تجهش بالبكاء حين تقرأ مثل هذه المواقف، وتنظر إلى سلفك كيف كانوا يفدون عقيدتهم بأنفسهم، ويصبرون على الذلة الظاهرة، وهي العزة الباطنة، هكذا ينبغي أن يكون الرجال، فرحمة الله عليك يا إمام الفقه في وقتك، لقد جاء من بعدك وعلم أنك استشهدت في هذا الشأن، وكنت له قدوة يقتدى بك، فشهادة العقيدة السلفية لا تعدلها شهادة، اللهم ارزقنا شهادة في سبيلك. ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 295 - 296/ 466) والإبانة (2/ 12/160/ 266). (¬2) تاريخ بغداد (14/ 302).

أحمد بن نصر الخزاعي (231 هـ)

أحمد بن نَصْر الخُزَاعِي (¬1) (231 هـ) أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم الإمام الكبير أبو عبد الله الخزاعي المروزي ثم البغدادي. كان أمارا بالمعروف، قوالا بالحق. روى عن مالك بن أنس وحماد بن زيد وهشيم بن بشير وابن عيينة وغيرهم. روى عنه أحمد الدورقي وسلمة بن شبيب ويحيى بن معين وعدة. قتله الواثق سنة إحدى وثلاثين ومائتين لما أبى أن يجيبه إلى القول بخلق القرآن. موقفه من الجهمية: قال ابن كثير في البداية: فجمع -أي نائب السلطنة محمد بن إبراهيم بن مصعب- جماعة من رؤوس أصحاب أحمد بن نصر معه وأرسل بهم إلى الخليفة بسر من رأى، وذلك في آخر شعبان، فأحضر له جماعة من الأعيان، وحضر القاضي أحمد بن أبي دؤاد المعتزلي، وأحضر أحمد بن نصر، ولم يظهر منه على أحمد بن نصر عتب، فلما أوقف أحمد بن نصر بين يدي الواثق لم يعاتبه على شيء مما كان منه في مبايعته العوام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيره، بل أعرض عن ذلك كله وقال له: ما تقول في القرآن؟ فقال: هو كلام الله. قال: أمخلوق هو؟ قال: هو كلام الله. وكان أحمد بن نصر قد استقتل وباع نفسه وحضر وقد تحنط وتنور وشد على عورته ما ¬

(¬1) تاريخ الطبري (9/ 135 - 139) والجرح والتعديل (2/ 79) وتاريخ بغداد (5/ 173 - 176) والأنساب (5/ 106 - 107) والكامل في التاريخ (7/ 20 - 23) والوافي بالوفيات (8/ 211 - 212) وتهذيب التهذيب (1/ 87) وشذرات الذهب (2/ 69) والسير (11/ 166 - 169).

يسترها فقال له، فما تقول في ربك، أتراه يوم القيامة؟ فقال: يا أمير المؤمنين قد جاء القرآن والأخبار بذلك، قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (¬1) وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته" (¬2). فنحن على الخبر. زاد الخطيب، قال الواثق: ويحك أيرى كما يرى المحدود المتجسم؟ ويحويه مكان يحصره الناظر؟ أنا أكفر برب هذه صفته. قلت -أي ابن كثير-: وما قاله الواثق لا يجوز ولا يلزم ولا يرد به هذا الخبر الصحيح والله أعلم. ثم قال أحمد بن نصر للواثق: وحدثني سفيان بحديث يرفعه "إن قلب ابن آدم بأصبعين من أصابع الله يقلبه كيف شاء" (¬3) وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" (¬4) فقال له إسحاق بن إبراهيم: ويحك، انظر ما تقول. فقال: أنت أمرتني بذلك. فأشفق إسحاق من ذلك وقال: أنا أمرتك؟ قال: نعم، أنت أمرتني أن أنصح له. فقال الواثق لمن حوله: ما تقولون في هذا الرجل؟ فأكثروا القول فيه. فقال عبد الرحمن بن إسحاق -وكان قاضيا على الجانب الغربي فعزل، وكان موادا لأحمد بن نصر قبل ذلك- يا أمير المؤمنين هو حلال الدم. وقال أبو عبد الله الأرمني صاحب أحمد بن أبي دؤاد: اسقني دمه يا أمير المؤمنين. فقال الواثق: ¬

(¬1) القيامة الآيتان (22و23). (¬2) انظر تخريجه في مواقف عبد العزيز الماجشون سنة (164هـ). (¬3) انظر تخريجه في مواقف سفيان بن عيينة سنة (198هـ). (¬4) انظر تخريجه في مواقف بشر بن الحارث سنة (227هـ).

لا بد أن يأتي ما تريد. وقال ابن أبي دؤاد: هو كافر يستتاب لعل به عاهة أو نقص عقل. فقال الواثق: إذا رأيتموني قمت إليه فلا يقومن أحد معي، فإني أحتسب خطاي. ثم نهض إليه بالصمصامة -وقد كان سيفا لعمرو بن معد يكرب الزبيدي أهديت لموسى الهادي في أيام خلافته وكانت صفيحة مسحورة في أسفلها مسمورة بمسامير- فلما انتهى إليه ضربه بها على عاتقه وهو مربوط بحبل قد أوقف على نطع، ثم ضربه أخرى على رأسه ثم طعنه بالصمصامة في بطنه فسقط صريعا رحمه الله على النطع، ميتا، فإنا لله وإنا إليه راجعون. رحمه الله وعفا عنه. ثم انتضى سيما الدمشقي سيفه فضرب عنقه وحز رأسه، وحمل معترضا حتى أتى به الحظيرة التي فيها بابك الخرمي فصلب فيها، وفي رجله زوج قيود وعليه سراويل وقميص، وحمل رأسه إلى بغداد فنصب في الجانب الشرقي أياما، وفي الغربي أياما، وعنده الحرس في الليل والنهار، وفي أذنه رقعة مكتوب فيها: هذا رأس الكافر المشرك الضال أحمد بن نصر الخزاعي، ممن قتل على يدي عبد الله هارون الإمام الواثق بالله أمير المؤمنين بعد أن أقام عليه الحجة في خلق القرآن، ونفي التشبيه وعرض عليه التوبة ومكنه من الرجوع إلى الحق فأبى إلا المعاندة والتصريح، فالحمد لله الذي عجله إلى ناره وأليم عقابه بالكفر، فاستحل بذلك أمير المؤمنين دمه ولعنه. ثم أمر الواثق بتتبع رؤوس أصحابه فأخذ نحوا من تسع وعشرين رجلا فأودعوا في السجون وسموا الظلمة، ومنعوا أن يزورهم أحد وقيدوا بالحديد، ولم يجر عليهم شيء من الأرزاق التي كانت تجري على المحبوسين وهذا ظلم

هارون بن معروف (231 هـ)

عظيم. (¬1) " التعليق: لقد بلغ الواثق من الوقاحة على الله وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - مبلغا ما كان يظن أن يبلغه خليفة من خلفاء المسلمين. ولكن زين لهم الشيطان أعمالهم فسول لهم وأملى لهم. هارون بن معروف (¬2) (231 هـ) هارون بن معروف الإمام القدوة الثقة أبو علي المروزي ثم البغدادي الخزاز ثم الضرير. حدث عن عبد الله بن وهب وعبد الله بن يزيد المقرئ والدراوردي وهشيم بن بشير ومعتمر بن سليمان وأبي بكر بن عياش وطائفة. حدث عنه مسلم وأبو داود وأحمد بن حنبل وابن أبي خيثمة وعدة. قال الذهبي: كان صدوقا فاضلا، صاحب سنة. توفي سنة إحدى وثلاثين ومائتين. موقفه من الرافضة: قال عبد الملك الميموني سمعت هارون بن معروف يقول: ما بيننا وبين أصحاب محمد عليه السلام إلا خير، قاتلوا على دين الله عز وجل ما ينبغي ¬

(¬1) البداية (10/ 317 - 318) وطبقات الحنابلة (1/ 81) مختصرا. (¬2) طبقات ابن سعد (7/ 355) والجرح والتعديل (9/ 96) وتاريخ بغداد (14/ 14 - 15) وتهذيب التهذيب (1/ 11 - 12) وشذرات الذهب (2/ 71) والسير (11/ 129 - 130).

موقفه من الجهمية:

ها هنا إلا الشكر لله عز وجل، ثم لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، ثم لأصحابه رضي الله عنهم. (¬1) موقفه من الجهمية: - جاء في السير عن هارون الحمال: سمعت هارون بن معروف يقول: من زعم أن القرآن مخلوق، فكأنما عبد اللات والعزى. (¬2) - وروى عبد الله بن أحمد في السنة عنه قال: من زعم أن الله لا يتكلم فهو يعبد الأصنام. (¬3) - وفيها عن هارون بن عبد الله الحمال قال: قال هارون بن معروف: من قال القرآن مخلوق فهو يعبد صنما، ثم قال لي: احك هذا عني. (¬4) يوسف بن عدي التيمي (¬5) (232 هـ) يوسف بن عَدِي بن زُرَيْق بن إسماعيل، الإمام الحافظ، أبو يعقوب التيمي الكوفي، أخو زكريا بن عدي. روى عن إسماعيل بن عياش وشريك ومالك بن أنس وعبد الرحمن بن أبي الزناد، وعبد الله بن المبارك، وعدة. وروى عنه البخاري وأبو زرعة وأبو حاتم، وخلق كثير. ¬

(¬1) السنة للخلال (1/ 479 - 480). (¬2) السير (11/ 130). (¬3) السنة لعبد الله (40) والسير (11/ 130). (¬4) السنة لعبد الله (ص.19) والإبانة (2/ 63/272). (¬5) الجرح والتعديل (9/ 227) وتهذيب الكمال (32/ 438) وسير أعلام النبلاء (10/ 484) وتهذيب التهذيب (11/ 417 - 418) وشذرات الذهب (2/ 75).

موقفه من الجهمية:

قال أبو زرعة: ثقة، ذهب إلى مصر للتجارة، فسكنها، ثم توفي بها سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. موقفه من الجهمية: قال ابن وضاح: وسألت يوسف بن عدي عن النزول؟ فقال نعم: أقر به ولا أحد حدا، وسألت عنه ابن معين فقال: نعم أقر به ولا أحد فيه حدّا. (¬1) موقف السلف من النظام المعتزلي (232 هـ) ضلاله ومخازيه: - قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: شيخ المعتزلة، صاحب التصانيف، أبو إسحاق إبراهيم بن سيار مولى آل الحارث بن عباد الضبعي البصري المتكلم. تكلم في القدر وانفرد بمسائل، وهو شيخ الجاحظ. وكان يقول: (إن الله لا يقدر على الظلم ولا الشر، ولو كان قادرا لكنا لا نأمن وقع ذلك، وإن الناس يقدرون على الظلم)، وصرح بأن الله لا يقدر على إخراج أحد من جهنم، وأنه ليس يقدر على أصلح مما خلق. قال الذهبي رادا عليه: (القرآن والعقل الصحيح يكذبان هؤلاء ويزجرانهم عن القول بلا علم، ولم يكن النظام ممن نفعه العلم والفهم وقد كفره جماعة. ¬

(¬1) رياض الجنة بتخريج أصول السنة (113).

العباس بن موسى بن مشكويه الهمذاني (عاش في زمن الواثق)

وقال بعضهم: كان النظام على دين البراهمة المنكرين للنبوة والبعث ويخفي ذلك ... ورد أنه سقط من غرفة وهو سكران، فمات في خلافة المعتصم أو الواثق). (¬1) العباس بن موسى بن مشكويه الهمذاني (عاش في زمن الواثق) موقفه من الجهمية: عن العباس بن مشكويه الهمذاني قال: أدخلت على الخليفة المتكني بالواثق أنا وجماعة من أهل العلم، فأقبل بالمسألة علي من بينهم، فقلت: يا أمير المؤمنين إني رجل مروع ولا عهد لي بكلام الخلفاء من قبلك. فقال: لا ترع ولا بأس عليك، ما تقول في القرآن؟ فقلت: كلام الله غير مخلوق، فقال: أشهد لتقولن مخلوقا أو لأضربن عنقك. قال: فقلت: إنك إن تضرب عنقي فإنك في موضع ذلك إن جرت به المقادير من عند الله، فتثبت علي يا أمير المؤمنين، فإما أن أكون عالما، فتثبت حجتي، وإما أن أكون جاهلا، فيجب عليك أن تعلمني لأنك أمير المؤمنين وخليفة الله في أرضه وابن عم نبيه. فقال: أما تقرأ: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بقدر} (¬2)، و {وخلق كُلَّ شَيْءٍ فقدره تقديرًا} (¬3) قلت: يا أمير المؤمنين الكلية في كتاب الله خاص أم عام؟ قال: عام. قلت: لا بل خاص، قال الله عز وجل: {وأوتيت مِنْ كُلِّ ¬

(¬1) السير (10/ 541 - 542). (¬2) القمر الآية (49). (¬3) الفرقان الآية (2).

شَيْءٍ} (¬1) فهل أوتيت ملك سليمان عليه السلام؟ فحذفني بعمود كان بين يديه ثم قال: أخرجوه فاضربوا عنقه، فأخرجت إلى قبة قريبة منه، فشد عليها كتافي، فناديت: يا أمير المؤمنين إنك ضارب عنقي، وأنا متقدمك، فاستعد للمسألة جوابا. فقال: أخرجوا الزنديق وضعوه في أضيق المحابس، فأخرجت إلى دار العامة، فإذا أنا بابن أبي دؤاد يناظر الناس على خلق القرآن، فلما نظر إلي، قال: يا خرمي، قلت: أنت والذين معك وهم شيعة الدجال. فحبسني في سجن ببغداد يقال له المطبق، فأرسل إلي جماعة من العلماء رقعة يشجعونني ويثبتونني على ما أنا عليه، فقرأت ما فيها، فإذا فيها: عليك بالعلم واهجر كل مبتدع ... وكل غاو إلى الأهواء ميال ولا تميلن يا هذا إلى بدع ... يضل أصحابها بالقيل والقال إن القرآن كلام الله أنزله ... ليس القرآن بمخلوق ولا بال لو أنه كان مخلوقا لصيره ... ريب الزمان إلى موت وإبطال وكيف يبطل ما لا شيء يبطله ... أم كيف يبلى كلام الخالق العالي وهل يضيف كلام الله من أحد ... إلى البلى غير ضلال وجهال فلا تقل بالذي قالوا وإن سفهوا ... وأوثقوك بأقياد وأغلال ألم تر العالم الصبار حيث بلي ... بالسيوط هل زال عن حال إلى حال فاصبر على كل ما يأتي الزمان به ... فالصبر سرباله من خير سربال يا صاحب السجن فكر فيم تحبسه (¬2) ... أقاتل هو أم عون لقَتَّال ¬

(¬1) النمل الآية (23). (¬2) في الأصل "تحسبه" ولعل الصواب ما أثبتناه.

أم هل أتيت به رأسا لرافضة ... يرى الخروج لهم جهلا على الوالي أم هل أصيب على خمر ومعزفة ... يصرف الكأس فيها كل ضلال ما هكذا هو بل لكنه ورع ... عف عفيف عن الأعراض والمال ثم ذكرني بعد أيام وأخرجني من السجن وأوقفني بين يديه، وقال: عساك مقيما على الكلام الذي كنت سمعته منك؟ فقلت: والله يا أمير المؤمنين إني لأدعو ربي تبارك وتعالى في ليلي ونهاري ألا يميتني إلا على ما كنت سمعته مني، قال: أراك متمسكا. قلت: ليس هو شيء قلته من تلقاء نفسي، ولكنه شيء لقيت فيه العلماء بمكة، والمدينة، والكوفة، والبصرة، والشام، والثغور، فرأيتهم على السنة والجماعة. فقال لي: وما السنة والجماعة؟ قلت: سألت عنها العلماء، فكل يخبر ويقول: إن صفة المؤمن من أهل السنة والجماعة أن يقول العبد مخلصا: لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، والإقرار بما جاءت الأنبياء والرسل، ويشهد العبد على ما ظهر من لسانه وعقد عليه قلبه، والإيمان بالقدر خيره وشره من الله، ويعلم العبد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، والإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأن الله عز وجل قد علم من خلقه ما هم فاعلون، وما هم إليه صائرون، فريق في الجنة وفريق في السعير. وصلاة الجمعة والعيدين خلف كل إمام بر وفاجر، وصلاة المكتوبة من غير أن تقدم وقتا أو تؤخر وقتا، وأن نشهد للعشرة الذين شهد لهم رسول الله

- صلى الله عليه وسلم - من قريش بالجنة، والحب والبغض لله وفي الله، وإيقاع الطلاق إذا جرى كلمة واحدة، والمسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام وللمقيم يوم وليلة، والتقصير في السفر إذا سافر ستة عشر فرسخا بالهاشمي -ثمانية وأربعين ميلا-وتقديم الإفطار وتأخير السحور، وتركيب اليمين على الشمال في الصلاة، والجهر بآمين، وإخفاء بسم الله الرحمن الرحيم، وأن تقول بلسانك وتعلم يقينا بقلبك أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضوان الله عليهم، والكف عما شجر بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والإيمان بالبعث والنشور وعذاب القبر ومنكر ونكير والصراط والميزان، وأن الله عز وجل يخرج أهل الكبائر من هذه الأمة من النار، وأنه لا يخلد فيها إلا مشرك، وأن أهل الجنة يرون الله عز وجل بأبصارهم، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون. قال: فلما سمع هذا مني، أمر بي فقلع لي أربعة أضراس، وقال: أخرجوه عني لا يفسد علي ما أنا فيه، فأخرجت، فلقيت أبا عبد الله -أحمد بن حنبل، فسألني عما جرى بيني وبين الخليفة فأخبرته، فقال: لا نسي الله لك هذا المقام حين تقف بين يديه. ثم قال: ينبغي أن نكتب هذا على أبواب مساجدنا، ونعلمه أهلنا وأولادنا، ثم التفت إلى ابنه صالح، فقال: اكتب هذا الحديث، واجعله في رق أبيض واحتفظ به، واعلم أنه من خير حديث كتبته إذا لقيت الله يوم

ابن الشحام قاضي الري (عاش في زمن الواثق)

القيامة تلقاه على السنة والجماعة. (¬1) ابن الشحام قاضي الري (عاش في زمن الواثق) موقفه من الجهمية: قال ابن بطة: ووجدت أيضا في كتاب هذا الشيخ بخطه: سمعت أبا عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن الفضل بن جعفر بن يعقوب بن المنصور يقول: حدثني أبو الشمر السيبي، قال: حدثني ابن الرازي، قال: كنت يوما خارجا من باب خراسان، فاستقبلت القاضي ابن الشحام وهو يومئذ قاضي الري، فسلمت عليه، فقال لي: البيت البيت، فمضيت به إلى منزلي الذي أسكنه، فقال لي: يا محمد، اخرج فارتد خانا للغلمان والدواب، فخرجت فارتدت موضعا ثم عدت إليه، فقال لي: تأهب للخروج معي إلى سر من رأى، فقلت: أعز الله القاضي، وأي شيء السبب؟ فقال: حاجة عرضت، ومسألة أسأل أمير المؤمنين أطال الله بقاه عنها، فدفعته عن نفسي أشد دفع فلم يجبني إلى ذلك، فاكتريت زورقا إلى سر من رأى، وأنزلت فيه الدواب والغلمان، وخرجت أنا وهو، فلما صرت في بعض الطريق، ذاكرته بالحاجة ما هي، فقال: يحكي قوم عن أمير المؤمنين أنه يقول: القرآن مخلوق، وأريد أن أسمع هذا شفاها. فتغيرت عليه أشد تغير، قال: ثم قلت: أظن أن منيته قد ¬

(¬1) الإبانة (2/ 14/284 - 288/ 456).

ساقته وساقتني معه حتى وفيت سر من رأى، فقال: اطلب خانا ننزله، فنزل الخان ونزلت معه، ثم قال: يا محمد قم فاخرج فاسأل الناس متى مجلسه، فسألت فقيل لي: في غداة غد يجلس، فقال للغلمان: قوموا بوقت، ثم إنه نام وفكري يجول في كل شيء، فلما كان طلوع الفجر، صاح بغلمانه فأسرجوا، ثم أنبهني ثم جدد الطهر، ولبس ثيابه وتبخر، فقلت: أرجو أن يدعني هاهنا ويمضي، فلما ركب قال لي: يا محمد معي، فقلت في نفسي: ليس غير الموت، فلم يزل يسير وأنا معه في ركابه حتى وافينا باب أمير المؤمنين وعليه ثياب القضاء وسواده وذيلته، وكان رجلا عظيم الخلق، لا يمر بقوم إلا نظروا إليه، فقال: يا محمد، قل للحُجَّاب يستأذنون لي على أمير المؤمنين، ويعلموا أني قاضي الري، فنظر الحجاب إليه، ثم قالوا: لم يؤذن لأحد عليه، ودخل الحاجب فما أبطأ حتى خرج إلي فقال لي: قل له ينزل، فنزل واعتمد على يدي، وأنا أذكر الله وأسبح، فلم يزل يدخل من دهليز إلى دهليز حتى دخلنا إلى الصحن، فإذا جماعة يتناظرون، وقد علت أصواتهم في الدار، حتى وافى إلى القوم فسلم عليهم ثم جلس، فجعل إذا نظر إليهم أطرقوا إلى الأرض وتشاغلوا بالكلام، وإذا أطرق إلى الأرض نظروا إليه، فنحن هكذا حتى شيل الستر، فإذا بأمير المؤمنين جالس، فسلمنا عليه، ثم أمرنا بالجلوس ولم يزل القوم يتكلمون فيما جئنا فيه. ثم أقبل أمير المؤمنين، فقال لابن الشحام: من الرجل؟ فقال: عامل من عمالك، قاضي الري، أعرف بابن الشحام. فقال: حاجة؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، جئت قاصدا من الري إلى أمير المؤمنين، أسأله عن شيء تحدث الناس به وأسمعه منه، وهي

مسألة، فقال له: قل ما شئت. فقال: يا أمير المؤمنين على شريطة أن لا يكون المجيب لي غير أمير المؤمنين، ولا يعارض في المسألة أحد، فقال: ذلك لك. فقلت: يا أمير المؤمنين ما تقول في رجل كان له بيت يدخله في حوائجه، وهو يحفظ القرآن، فجرت منه يمين أن لا يدخل البيت مخلوق سواه، فعرضت له حاجة فدخل إلى ذلك البيت، طلقت امرأته أم لا؟ فضج أهل المجلس، وقالوا: يا أمير المؤمنين مسألة حيلة. قال: فقال: يا أمير المؤمنين ليس هكذا، وعدتني أن لا يجيبني غيرك ولا يعارضني في المسألة، فأسكتهم ثم قال له: كيف حلف؟ قال له: رجل كان له بيت، وكان يحفظ القرآن، فحلف بالطلاق ثلاثا أنه لا يدخل ذلك البيت مخلوق سواه، فعرضت له حاجة فدخل البيت، طلقت امرأته أم لا؟ فقال: لا، وقرابتي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما طلقت -مرتين أو ثلاثا- ثم ألقي الستر فيما بيننا وبينه، ثم وثب القاضي واعتمد على يدي، فقلت: ليته ترك يده من يدي، ولا أحسبه إلا قاتلي، فلما صرنا في آخر الصحن، عرض لنا خادم ومعه فراش على كتفه بدرة، فقال: إن أمير المؤمنين أطال الله بقاه يقرأ عليك السلام ويقول لك: استعن بهذه في مصلحتك، ولا تخل مجلسنا من حضورك، ثم رجع الخادم ولم يزل الفراش معه إلى الخان الذي كنا فيه، فقال لي: يا محمد حل البدرة، فحللتها، فقال: احث بيدك للفراش، فضربت بيدي اليمين، فقال: بالاثنتين، فحثيت له ما حملت يداي، وانصرف الفراش. ثم قال لي: شدها وضعها في الصندوق. وقال: اطلب زورقا للانحدار إلى بغداد، فاكتريت له زورقا،

موقف السلف من الواثق بالله (232 هـ)

وخرج من يومه من سرمن رأى إلى بغداد. (¬1) موقف السلف من الواثق بالله (232 هـ) ضلاله وحمله الناس على القول بخلق القرآن: - جاء في السير: قال الخطيل: استولى أحمد بن أبي دؤاد على الواثق، وحمله على التشدد في المحنة، والدعاء إلى خلق القرآن. (¬2) - وفيها: قال عبيد الله بن يحيى: حدثنا إبراهيم بن أسباط، قال: حمل رجل مقيد فأدخل على ابن أبي دؤاد بحضور الواثق، فقال لأحمد: أخبرني عن ما دعوتم الناس إليه، أعلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما دعا إليه، أم شيء لم يعلمه؟ قال: بل علمه. قال: فكان يسعه أن لا يدعو الناس إليه، وأنتم لا يسعكم؟! فبهتوا، وضحك الواثق، وقام قابضا على فمه، ودخل مجلسا، ومد رجليه وهو يقول: أمر وسع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسكت عنه ولا يسعنا، ثم أمر أن يعطى الشيخ ثلاث مئة دينار، وأن يرد إلى بلده. (¬3) - وفيها عن طاهر بن خلف قال: سمعت المهتدي بالله بن الواثق يقول: ¬

(¬1) الإبانة (2/ 14/278 - 281/ 454). (¬2) السير (10/ 307). (¬3) السير (10/ 307 - 308).

كان أبي إذا أراد أن يقتل رجلا أحضرنا، قال: فأتي بشيخ مخضوب مقيد، فقال أبي: ائذنوا لأحمد بن أبي دؤاد وأصحابه، وأدخل الشيخ، فقال: السلام عليكم يا أمير المؤمنين، فقال: لا سلم الله عليك، قال: بئس ما أدبك مؤدبك، قال الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (¬1)، فقال أحمد: الرجل متكلم. قال كلمه. فقال: يا شيخ، ما تقول في القرآن؟ قال: لم تنصفني ولي السؤال، قال: سل. قال: ما تقول أنت؟ قال: مخلوق. قال: هذا شيء علمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر والخلفاء، أم لم يعلموه؟ فقال: شيء لم يعلموه. فقال: سبحان الله، شيء لم يعلموه وعلمته أنت؟ فخجل، وقال: أقلني. قال: المسألة بحالها، ما تقول في القرآن؟ قال: مخلوق، قال: شيء علمه رسول الله؟ قال: علمه، قال: أعلمه ولم يدع الناس إليه؟ قال: نعم. قال: فوسعه ذلك؟ قال: نعم. قال: أفلا وسعك ما وسعه ووسع الخلفاء بعده؟ فقام الواثق، فدخل الخلوة، واستلقى وهو يقول: شيء لم يعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، علمته أنت سبحان الله، عرفوه، ولم يدعوا إليه الناس فهلا وسعك ما وسعهم ثم أمر برفع قيد الشيخ، وأمر له بأربع مئة دينار، وسقط من عينه ابن أبي دؤاد، ولم يمتحن بعدها أحدا. (¬2) - وفيها: وفي سنة إحدى وثلاثين: قتل أحمد بن نصر الخزاعي الشهيد ظلما، وأمر بامتحان الأئمة والمؤذنين بخلق القرآن، وافتك من أسر الروم ¬

(¬1) النساء الآية (86). (¬2) السير (10/ 308 - 309) وتاريخ بغداد (4/ 151 - 152). تقدمت معنا المناظرة بطولها ضمن مواقف أبي عبد الرحمن عبد الله بن محمد الجزري (ت 232) فلتنظر هناك.

يحيى بن معين (233 هـ)

أربعة آلاف وست مئة نفس، فقال ابن أبي دؤاد: من لم يقل: القرآن مخلوق، فلا تفتكوه. (¬1) - وجاء في الكامل: وفيها -أي سنة إحدى وثلاثين ومائتين- كان الفداء بين المسلمين والروم، واجتمع المسلمون فيها على نهر اللامس، على مسيرة يوم من طرسوس، واشترى الواثق من ببغداد وغيرها من الروم، وعقد الواثق لأحمد بن سعيد بن مسلم بن قتيبة الباهلي على الثغور والعواصم، وأمره بحضور الفداء هو وخاقان الخادم، وأمرهما أن يمتحنا أسرى المسلمين، فمن قال: القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة، فودي به، وأعطي دينارا، ومن لم يقل ذلك ترك في أيدي الروم. (¬2) يحيى بن معين (¬3) (233 هـ) يحيى بن معين بن عون الإمام الحافظ الجهبذ، شيخ المحدثين أبو زكريا الغطفاني ثم المري مولاهم البغدادي أحد الأعلام. روى عن حجاج بن محمد الأعور وإسماعيل بن مجالد وابن المبارك وابن نمير وابن مهدي وعبد الرزاق الصنعاني وعدة. روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد بن حنبل وأبو يعلى الموصلي وطائفة. قال الحافظ أبو بكر الخطيب: كان إماما ربانيا، عالما، ¬

(¬1) السير (10/ 312). (¬2) الكامل لابن الأثير (7/ 24). (¬3) طبقات ابن سعد (7/ 354) وتاريخ بغداد (14/ 177 - 187) ووفيات الأعيان (6/ 139 - 143) وتذكرة الحفاظ (2/ 429 - 431) وميزان الاعتدال (4/ 410) وتهذيب التهذيب (1/ 280 - 288) والسير (11/ 71 - 96) وشذرات الذهب (2/ 79) وتهذيب الكمال (31/ 543 - 568) والتقريب (2/ 316).

موقفه من المبتدعة:

حافظا، ثبتا، متقنا. وقال الإمام أحمد: هاهنا رجل خلقه الله تعالى لهذا الشأن، يظهر كذب الكذابين، يعني: يحيى بن معين. وقال أبو حاتم الرازي: إذا رأيت الرجل يبغض يحيى بن معين فاعلم أنه كذاب. وعن جعفر بن أبي عثمان: كنا عند يحيى بن معين فجاءه رجل مستعجل، فقال: يا أبا زكريا حدثني بشيء أذكرك به فقال يحيى: اذكرني أنك سألتني أن أحدثك فلم أفعل. ومن أشعاره رحمه الله: المال يذهب حله وحرامه ... يوما وتبقى في غد آثامه ليس التقي بمتق لإلهه ... حتى يطيب شرابه وطعامه ويطيب ما يحوي وتكسب كفه ... ويكون في حسن الحديث كلامه نطق النبي لنا به عن ربه ... فعلى النبي صلاته وسلامه - وقال ابن حجر: ثقة حافظ مشهور، إمام الجرح والتعديل. توفي رحمه الله سنة ثلاث وثلاثين ومائتين. موقفه من المبتدعة: - قال الذهبي: وروى أحمد بن زهير، عن يحيى، قال: إذا رأيت إنسانا يقع في عكرمة وحماد بن سلمة، فاتهمه على الإسلام. (¬1) - وأسند الخطيب إلى أحمد بن محمد البغدادي قال: سمعت يحيى بن معين يقول: آلة الحديث الصدق، والشهرة بطلبه، وترك البدع، واجتناب الكبائر. (¬2) ¬

(¬1) السير (7/ 447). (¬2) الكفاية (101) والمحدث الفاصل (406).

موقفه من الرافضة:

موقفه من الرافضة: - جاء في الميزان: قال ابن معين في تليد بن سليمان الكوفي الأعرج: كذاب يشتم عثمان، قعد فوق سطح فتناول عثمان، فقام إليه بعض أولاد موالي عثمان فرماه فكسر رجليه. (¬1) - وفيه: قال يحيى في مينا بن أبي مينا: ومَنْ مَيْناً المَاصُّ بَظْرَ أُمِّهِ حتى يتكلم في الصحابة؟ (¬2) - وفي جامع بيان العلم لابن عبد البر: قال هارون بن إسحاق، سمعت يحيى بن معين يقول: من قال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسلم لعلي سابقته فهو صاحب سنة. قال: فذكرت له هؤلاء الذين يقولون: أبو بكر وعمر وعثمان ويسكتون. فتكلم فيهم بكلام غليظ. (¬3) موقفه من الجهمية: - جاء في السنة لعبد الله: عن يحيى بن معين أنه يعيد صلاة الجمعة مذ أظهر عبد الله بن هارون المأمون ما أظهر يعني القرآن مخلوق. (¬4) - وفيها: قال عبد الله: حدثني الحسين بن علي بن يزيد الصدائي: سمعت يحيى بن معين يقول: من قال القرآن مخلوق فهو كافر. (¬5) - وجاء في أصول الاعتقاد: عن أحمد بن زهير قال: وسمعت أبي سأل ¬

(¬1) الميزان (1/ 358). (¬2) الميزان (4/ 237). (¬3) جامع بيان العلم (2/ 1174). (¬4) السنة لعبد الله (20). (¬5) السنة لعبد الله (ص.19) والإبانة (2/ 12/66/ 281).

موقفه من الخوارج:

يحيى بن معين فقال: إنهم يقولون إنك تقول القرآن كلام الله وتسكت ولا تقول: مخلوق ولا غير مخلوق. قال: لا. فعاودته. فقال: معاذ الله: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال غير هذا فعليه لعنة الله. (¬1) - وفي الإبانة: عن جعفر الطيالسي، قال: سمعت يحيى بن معين يقول: بيننا وبين الجهمية كلمتان، يسألون: كان الله وكلامه؟ أو كان الله ولا كلام؟ فإن قالوا: كان الله وكلامه، فليست لهم حجة، وإن قالوا: كان الله ولا كلام، يقال لهم: كيف خلق الأشياء وهو قال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذا أردناه أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فيكون} (¬2). (¬3) - جاء في اجتماع الجيوش الإسلامية: روى ابن بطة في الإبانة بإسناده قال: إذا قال لك الجهمي: كيف ينزل؟ فقل: كيف يصعد. (¬4) - وفي أصول الاعتقاد: عنه قال: إذا سمعت الجهمي يقول: أنا كفرت برب ينزل، فقل: أنا أومن برب يفعل ما يريد. (¬5) موقفه من الخوارج: قال الخلال: أخبرنا الدوري قال: سمعت يحيى، وسألته عن الصفرية ما هم؟ فقال: يرون رأي الخوارج. (¬6) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 293/456). (¬2) النحل الآية (40). (¬3) الإبانة (2/ 12/29/ 220). (¬4) اجتماع الجيوش (ص.209). (¬5) أصول الاعتقاد (3/ 502/776). (¬6) السنة (1/ 145/109).

موقفه من المرجئة:

موقفه من المرجئة: - عن الدوري قال: قال يحيى: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. (¬1) - جاء في السير: قال رحمه الله: القرآن كلام الله وليس بمخلوق، والإيمان قول وعمل يزيد وينقص. (¬2) موقفه من القدرية: جاء في السير: قال الحافظ محمد بن البرقي، قلت ليحيى بن معين، أرأيت من يرمى بالقدر يكتب حديثه، قال: نعم، قد كان قتادة وهشام الدستوائي وسعيد بن أبي عروبة وعبد الوارث، وذكر جماعة يقولون بالقدر، وهم ثقات يكتب حديثهم مالم يدعوا إلى شيء. (¬3) قال جامعه: قال الذهبي رحمه الله: هذه مسألة كبيرة، وهي: القدري والمعتزلي والجهمي والرافضي، إذا علم صدقه في الحديث وتقواه، ولم يكن داعيا إلى بدعته، فالذي عليه أكثر العلماء قبول روايته والعمل بحديثه، وترددوا في الداعية هل يؤخذ عنه؟ فذهب كثير من الحفاظ إلى تجنب حديثه وهجرانه، وقال بعضهم: إذا علمنا صدقه وكان داعية ووجدنا عنده سنة تفرد بها فكيف يسوغ لنا ترك تلك السنة؟ فجميع تصرفات أئمة الحديث ¬

(¬1) السنة للخلال (3/ 582/1012). (¬2) السير (11/ 85). (¬3) السير (7/ 153 - 154).

إبراهيم بن أبي الليث (234 هـ)

تؤذن بأن المبتدع إذا لم تبح بدعته خروجه من دائرة الإسلام، ولم تبح دمه فإن قبول ما رواه سائغ. وهذه المسألة لم تتبرهن لي كما ينبغي، والذي اتضح لي منها أن من دخل في بدعة ولم يعد من رؤوسها، ولا أمعن فيها، يقبل حديثه كما مثل الحافظ أبو زكريا بأولئك المذكورين، وحديثهم في كتب الإسلام لصدقهم وحفظهم. (¬1) إبراهيم بن أبي اللَّيث (¬2) (234 هـ) إبراهيم بن أبي الليث نصر، أبو إسحاق البغدادي، روى عن فرج بن فضالة، وعبيد الله الأشجعي وشريك بن عبد الله وهشيم، روى عنه أحمد بن حنبل وابنه عبد الله وعلي بن المديني وأبو يعلى الموصلي وغيرهم. قال عثمان ابن سعيد الدارمي الهروي: كان أحمد بن حنبل وعلي بن المديني يحسنان القول في إبراهيم بن أبي الليث، وكان يحيى بن معين يحمل عليه. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به. قال يحيى بن معين: إبراهيم بن أبي الليث كذاب لا حفظه الله. قال أبو بكر المروذي: قلت لأبي عبد الله -يعني أحمد بن حنبل- إني سألت يحيى عن صاحب الأشجعي، فقال: لا أعرفه فعجب، وقال: كان يختلف معنا إليه ما أعجب ذا، ثم قال: كان جليس ليحيى هو ¬

(¬1) السير (7/ 154). (¬2) الجرح والتعديل (2/ 141) وطبقات ابن سعد (7/ 360) وتاريخ بغداد (6/ 191 - 196) والكامل لابن عدي (1/ 269) وميزان الاعتدال (1/ 54) وتاريخ الإسلام (حوادث 231 - 240/ص.74 - 76) ولسان الميزان (1/ 93 - 94).

موقفه من الجهمية:

الذي أغرى بينه وبين يحيى حتى تكلم فيه. قال ابن سعد: كان صاحب سنة، ويضعف في الحديث. توفي سنة أربع وثلاثين ومائتين. موقفه من الجهمية: قال أبو بكر المروذي: سألت إبراهيم بن أبي الليث عن الواقفة فقال: هم كفار بالله العظيم، لا يزوجوا ولا يناكحوا. (¬1) محمد بن عبد الله بن نُمَيْر (¬2) (234 هـ) محمد بن عبد الله بن نمير الهَمَدانِي الخارفي، أبو عبد الرحمن الكوفي الحافظ. روى عن إسماعيل بن علية، وسفيان بن عيينة، وأبي نعيم الفضل بن دكين، ووكيع بن الجراح، وخلق. وروى عنه البخاري تعليقا، ومسلم وأبو داود وابن ماجه ومحمد بن يحيى الذهلي، وبقي بن مخلد الأندلسي، وعدة. قال ابن الجنيد: ما رأيت بالكوفة مثل محمد بن عبد الله بن نمير، وكان رجلا قد جمع العلم والفهم والسنة والزهد. وقال ابن حبان: كان من الحفاظ المتقنين وأهل الورع في الدين. وقال الحسن بن سفيان: ابن نمير ريحانة العراق وأحد الأعلام. وقال أبو إسماعيل الترمذي: كان أحمد بن حنبل يعظمه ويقول: أي فتى هو. توفي رحمه الله سنة أربع وثلاثين ومائتين. موقفه من الجهمية: ¬

(¬1) الإبانة (1/ 12/302/ 85). (¬2) طبقات ابن سعد (6/ 413) وتهذيب الكمال (25/ 566) وسير أعلام النبلاء (11/ 455) وتاريخ الإسلام (حوادث 231 - 240/ص.330) وتهذيب التهذيب (9/ 282).

ابن الرماح (234 هـ)

- حدثنا عباس العنبري، قال: سمعت محمد بن عبد الله بن نمير يقول: القرآن كلام الله ليس بمخلوق، ومن قال إنه مخلوق فقد كفر. (¬1) - قال المروزي: وسألت محمد بن عبد الله بن نمير عن الواقفة، فقال: هم شر من الجهمية، وقال: هذا والوقف زندقة وكفر. (¬2) ابن الرَّمَّاح (¬3) (234 هـ) العلامة أبو محمد، عبد الله بن عمر بن الرماح البَلْخِي ثم النيسابوري. سمع مالكا وحماد بن زيد ومعتمر بن سليمان، وعدة، وحدث عنه الذهلي، وإسحاق بن راهويه، ومحمد بن عبد الوهاب الفراء. قال الذهبي رحمه الله: كان صاحب سنة، وصدع بالحق. توفي رحمه الله سنة أربع وثلاثين ومائتين. موقفه من الجهمية: - قال عنه الذهبي في سيره: وامتنع من القول بخلق القرآن، وكفر الجهمية. (¬4) - وقال أيضا في تاريخ الإسلام: قال أبو زيد عبد الله بن محمد: سمعته يقول: من قال القرآن مخلوق فهو كافر. ومن قال الجمعة ليست بواجبة فهو كافر، ومن شك في كفرهم فهو كافر. ¬

(¬1) الإبانة (2/ 12/70/ 292). (¬2) الإبانة (1/ 302 - 303/ 86). (¬3) الثقات لابن حبان (8/ 357) والتاريخ الصغير (2/ 365) والجرح والتعديل (5/ 111) وسير أعلام النبلاء (11/ 12 - 13) والوافي بالوفيات (17/ 364) وتاريخ الإسلام (حوادث 231 - 240/ص.219 - 220). (¬4) السير (11/ 13).

علي بن المديني (234 هـ)

وفيه أيضا قال الحاكم: ثنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم، ثنا أبو العباس مكي بن محمد البلخي، ثنا أبو سليمان محمد بن منصور قال: قال لي بشر بن الوليد: اشكروا ابن الرماح. فقد كنا في مجلس أمير المؤمنين وهو وراء الستر، فخرج خصي فقال: أمير المؤمنين يقول: من لم يكن على رأينا فلا يشهد مجلسنا. فقام ابن الرماح وقال: لسنا على هذا الرأي، ولا نبالي أن لا نجلس هذا المجلس. قال بشر: فغطيت وجهي وسددت أذني وقلت: الساعة أسمع وقع السيوف. فلما لم أسمع رفعت يدي، وإذا قفاه ووجهه إلينا قد بلغ الباب ليخرج. فقلت: الحمد لله الذي سلمه منهم. (¬1) علي بن المَدِيني (¬2) (234 هـ) علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح الشيخ الإمام الحجة أمير المؤمنين في الحديث أبو الحسن السعدي مولاهم البصري المعروف بابن المديني: الإمام المبرز في هذا الشأن صاحب التصانيف الواسعة والمعرفة الباهرة. روى عن ابن عيينة وأنس بن عياض وحماد بن زيد وهشيم بن بشير ومعن بن عيسى وجرير بن عبد الحميد وأمم سواهم. روى عنه البخاري وأبو داود وأحمد بن ¬

(¬1) تاريخ الإسلام (17/ص.220). (¬2) تاريخ الفسوي (1/ 210) والجرح والتعديل (6/ 192 - 194) وتاريخ بغداد (11/ 458 - 473) وتذكرة الحفاظ (2/ 428 - 429) وميزان الاعتدال (3/ 138) وتهذيب التهذيب (7/ 349 - 357) وشذرات الذهب (2/ 81) والسير (11/ 41 - 60).

موقفه من المبتدعة:

حنبل وأبو حاتم الرازي والذهلي ويعقوب بن شيبة وإسماعيل القاضي وطائفة. قال أبو حاتم: كان ابن المديني علما في الناس في معرفة الحديث والعلل، وما سمعت أحدا سماه قط، إنما كان يكنيه تبجيلا له. وعن ابن مهدي قال: علي بن المديني أعلم الناس بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال النسائي: كأن الله خلق علي بن المديني لهذا الشأن. - من أقواله: التفقه في معاني الحديث نصف العلم، ومعرفة الرجال نصف العلم. توفي سنة أربع وثلاثين ومائتين. موقفه من المبتدعة: - روى اللالكائي عن سهل بن محمد، قرأها على علي بن عبد الله بن جعفر المديني فقال له: قلت أعزك الله: السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقلها أو يؤمن بها لم يكن من أهلها: الإيمان بالقدر خيره وشره، ثم تصديق بالأحاديث والإيمان بها، لا يقال لم؟ ولا كيف؟ إنما هو التصديق بها والإيمان بها، وإن لم يعلم تفسير الحديث ويبلغه عقله، فقد كفي ذلك وأحكم عليه الإيمان به والتسليم. مثل حديث زيد بن وهب عن ابن مسعود قال: "حدثنا الصادق المصدوق" (¬1) ونحوه من الأحاديث المأثورة عن الثقات، ولا يخاصم أحدا ولا يناظر ولا يتعلم الجدل. والكلام في القدر وغيره من السنة مكروه ولا يكون صاحبه -وإن أصاب السنة بكلامه- من أهل السنة حتى يدع الجدل ويسلم، ويؤمن بالإيمان. ¬

(¬1) انظر تخريجه ضمن موقف السلف من عمرو بن عبيد سنة (144هـ).

والقرآن كلام الله ليس بمخلوق، ولا تضعف أن تقول ليس بمخلوق، فإن كلام الله عز وجل ليس ببائن منه وليس منه شيء مخلوق، يؤمن به ولا يناظر فيه أحدا. والإيمان بالميزان يوم القيامة، يوزن العبد ولا يزن جناح بعوضة. يوزن أعمال العباد كما جاءت به الآثار، الإيمان به والتصديق والإعراض عن من رد ذلك وترك مجادلته. وإن الله عز وجل يكلم العباد يوم القيامة ويحاسبهم ليس بينهم وبينه ترجمان، الإيمان بذلك والتصديق. والإيمان بالحوض، إن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حوضا يوم القيامة، ترد عليه أمته، عرضه مثل طوله، مسيرة شهر آنيته، كعدد نجوم السماء على ما جاء في الأثر ووصف. ثم الإيمان بذلك. والإيمان بعذاب القبر، إن هذه الأمة تفتن في قبورها، وتسأل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويأتيه منكر ونكير كيف شاء الله عز وجل وكما أراد، الإيمان بذلك والتصديق، والإيمان بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإخراج قوم من النار بعدما احترقوا وصاروا فحما، فيؤمر بهم إلى نهر على باب الجنة كما جاء في الأثر، كيف شاء وكما شاء إنما هو الإيمان به والتصديق، والإيمان بأن المسيح الدجال مكتوب بين عينيه (كافر) للأحاديث التي جاءت فيه، الإيمان بأن ذلك كائن. وإن عيسى ابن مريم ينزل فيقتله بباب لد. والإيمان قول وعمل على سنة وإصابة ونية. والإيمان يزيد وينقص وأكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا. وترك الصلاة كفر، ليس شيء من

الأعمال تركه كفر إلا الصلاة، من تركها فهو كافر وقد حل قتله. وخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر الصديق، ثم عمر ثم عثمان بن عفان، نقدم هؤلاء الثلاثة كما قدمهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يختلفوا في ذلك. ثم من بعد الثلاثة أصحاب الشورى الخمسة: علي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن مالك. كلهم يصلح للخلافة، وكلهم إمام كما فعل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم أفضل الناس بعد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: القرن الذين بعث فيهم كلهم، من صحبه سنة أو شهرا أو ساعة أو رآه أو وفد إليه فهو من أصحابه، له من الصحبة على قدر ما صحبه، فأدناهم صحبة، هو أفضل من الذين لم يروه، ولو لقوا الله عز وجل بجميع الأعمال، كان الذي صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ورآه بعينه وآمن به ولو ساعة أفضل بصحبته من التابعين كلهم، ولو عملوا كل أعمال الخير، ثم السمع والطاعة للأئمة وأمراء المؤمنين، البر والفاجر، ومن ولي الخلافة بإجماع الناس ورضاهم، لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ليلة إلا عليه إمام برا كان أو فاجرا، فهو أمير المؤمنين. والغزو مع الأمراء ماض إلى يوم القيامة البر والفاجر لا يترك. وقسمة الفيء وإقامة الحدود للأئمة الماضية ليس لأحد أن يطعن عليهم، ولا ينازعهم، ودفع الصدقات إليهم جائزة نافذة قد برئ من دفعها إليهم، وأجزأت عنه برا كان أو فاجرا. وصلاة الجمعة خلفه وخلف من ولاه جائزة قائمة ركعتان، من أعادها فهو مبتدع تارك للإيمان مخالف وليس له من فضل الجمعة شيء، إذا لم ير الجمعة خلف الأئمة من كانوا برهم

وفاجرهم، والسنة أن يصلوا خلفهم لا يكون في صدره حرج من ذلك. ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين وقد اجتمع عليه الناس فأقروا له بالخلافة بأي وجه كانت -برضا كانت أو بغلبة- فهو شاق هذا الخارج عليه العصا، وخالف الآثار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن مات الخارج عليه مات ميتة جاهلية. ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس فمن عمل ذلك فهو مبتدع على غير السنة. ويحل قتال الخوارج واللصوص إذا عرضوا للرجل في نفسه وماله أو ما دون نفسه، فله أن يقاتل عن نفسه وماله حتى يدفع عنه في مقامه. وليس له إذا فارقوه أن يطلبهم ولا يتبع آثارهم وقد سلم منهم، ذلك إلى الأئمة إنما هو يدفع عن نفسه في مقامه، وينوي بجهده أن لا يقتل أحدا، فإن أتى على يده في دفعه عن نفسه في المعركة فأبعد الله المقتول. وإن قتل هو في ذلك الحال وهو يدفع عن نفسه وماله رجونا له الشهادة كما في الأثر، وجميع الآثار إنما أمر بقتاله ولم يؤمر بقتله. ولا يقيم عليه الحد ولكنه يدفعه إلى من ولاه الله أمره فيكون هو يحكم فيه. ولا يشهد على أحد من أهل القبلة بعمل عمله، بجنة ولا نار؛ نرجو للصالح، ونخاف على الطالح المذنب، ونرجو له رحمة الله عز وجل. ومن لقي الله بذنب يجب له بذنبه النار تائبا منه غير مصر عليه، فإن الله يتوب عليه ويقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات. ومن لقي الله وقد أقيم عليه حد

ذلك الذنب فهو كفارته، كما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، ومن لقيه مصرا غير تائب من الذنوب التي استوجبت بها العقوبة فأمره إلى الله عز وجل، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له. ومن لقيه مشركا عذبه ولم يغفر له. والرجم على من زنا وهو محصن إذا اعترف بذلك وقامت عليه البينة؛ رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجم الأئمة الراشدون من بعده. ومن تنقص أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أبغضه لحدث كان منه أو ذكر مساوئه فهو مبتدع، حتى يترحم عليهم جميعا فيكون قلبه لهم سليما. والنفاق هو الكفر: أن يكفر بالله عز وجل ويعبد غيره في السر، ويظهر الإيمان في العلانية مثل المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقبل منهم الظاهر، فمن أظهر الكفر قتل. وهذه الأحاديث التي جاءت: "ثلاث من كن فيه فهو منافق" (¬2) جاءت على التغليظ، نرويها كما جاءت ولا نفسرها. مثل: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض". (¬3) ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (5/ 320) والبخاري (7/ 278/3892) ومسلم (3/ 1333/1709) والترمذي (4/ 36/1439) والنسائي (7/ 160 - 161/ 4172) من حديث عبادة بن الصامت. (¬2) أخرجه: أحمد (2/ 536) والبخاري (1/ 120/33) ومسلم (1/ 78/59) والترمذي (5/ 20/2631) والنسائي (8/ 491/5036) بمعناه. كلهم عن أبي هريرة. (¬3) أحمد (1/ 230) والبخاري (8/ 133 - 134/ 4403) ومسلم (1/ 82/66) وأبو داود (5/ 63/4686) والنسائي (7/ 143/4136) وابن ماجه (2/ 1300/3943) عن ابن عمر.

ومثل: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار". (¬1) ومثل: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر". (¬2) ومثل: "من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما". (¬3) ومثل: "كفر بالله تبرؤ من نسب وإن دق". (¬4) ونحو هذه الأحاديث مما ذكرناه ومما لم نذكر في هذه الأحاديث. ما صح وحفظ فإنه يسلم له وإن لم يعلم تفسيره فلا يتكلم فيه ولا يجادل فيه ولا يتكلم فيه ما لم يبلغ لنا منه، ولا نفسر الأحاديث إلا على ما جاءت ولا نردها. والجنة والنار مخلوقتان كما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دخلت الجنة فرأيت فيها قصرا ورأيت الكوثر" (¬5) و"اطلعت في الجنة فإذا أكثر أهلها كذا، ¬

(¬1) أحمد (5/ 43) والبخاري (1/ 115/31) ومسلم (4/ 2214/2888 [15]) وأبو داود (4/ 462/4268) والنسائي (7/ 142/4132) وأخرجه ابن ماجه (2/ 1311/3965) بمعناه. كلهم عن أبي بكرة. وورد أيضا عن عدة من الصحابة. (¬2) أحمد (1/ 385) والبخاري (1/ 147/48) ومسلم (1/ 81/64) والترمذي (4/ 311/1983) والنسائي (7/ 138/4121) وابن ماجه (1/ 27/69) عن ابن مسعود. (¬3) أحمد (2/ 112) والبخاري (10/ 630/6104) ومسلم (1/ 79/60) وأبو داود (5/ 64/4687) والترمذي (5/ 23/2637) عن ابن عمر رضي الله عنهما. (¬4) أخرجه: أحمد (2/ 215) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. والحديث أخرجه بلفظ: "كفر بامرئ ادعاء نسب لا يعرفه أو جحده وإن دق". وابن ماجه (2/ 916/2744) والطبراني في الأوسط (8/ 446/7915) وفي الصغير (2/ 377/1045) قال البوصيري في الزوائد: "هذا الحديث في بعض النسخ دون بعض، ولم يذكره المزي في الأطراف، وإسناده صحيح، وأظنه من زيادات ابن القطان". (¬5) أخرج طرفه الأول: أحمد (3/ 309) والبخاري (9/ 399/5226) ومسلم (4/ 1862/2394) من حديث جابر.

واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها كذا" (¬1). فمن زعم أنهما لم يخلقا فهو مكذب بالأثر، ولا أحسبه يؤمن بالجنة والنار. وقوله: "أرواح الشهداء تسرح في الجنة" (¬2). وهذه الأحاديث التي جاءت كلها نؤمن بها. ومن مات من أهل القبلة موحدا مصليا صلينا عليه واستغفرنا له لا نحجب الاستغفار ولا ندع الصلاة عليه لذنب صغير أم كبير، وأمره إلى الله عز وجل. وإذا رأيت الرجل يحب أبا هريرة ويدعو له ويترحم عليه، فارج خيره واعلم أنه برئ من البدع. وإذا رأيت الرجل يحب عمر بن عبد العزيز ويذكر محاسنه وينشرها فاعلم أن وراء ذلك خيرا إن شاء الله. وإذا رأيت الرجل يعتمد من أهل البصرة على أيوب السختياني وابن عون ويونس والتيمي ويحبهم ويكثر ذكرهم والاقتداء بهم فارج خيره. ثم من بعد هؤلاء حماد بن سلمة ومعاذ ووهب بن جرير فإن هؤلاء محنة أهل البدع، وإذا رأيت الرجل من أهل الكوفة يعتمد على طلحة بن مصرف وابن أبجر وابن حيان التيمي ومالك بن مغول وسفيان بن سعيد الثوري وزائدة فارجه، ومن بعدهم عبد الله بن إدريس ومحمد بن عبيد وابن أبي عتبة والمحاربي فارجه. ¬

(¬1) أحمد (4/ 429) والبخاري (6/ 391/3241) والترمذي (4/ 617/2603) والنسائي في الكبرى (5/ 398/9259) من حديث عمران بن حصين. (¬2) أخرجه: مسلم (3/ 1502 - 1503/ 1887) والترمذي (5/ 215 - 216/ 3011) وابن ماجه (2/ 936 - 937/ 2801) عن عبد الله بن مسعود.

وإذا رأيت الرجل يحب أبا حنيفة ورأيه والنظر فيه، فلا تطمئن إليه وإلى من يذهب مذهبه ممن يغلو في أمره ويتخذه إماما. (¬1) " التعليق: هذه عقيدة كاملة من هذا الإمام من قرأها فهم تماما عقيدة السلف. وجميع الأصول التي ذكرها هذا الإمام السلفي هي التي ذكرها من جاء بعده ممن ألف في العقيدة السلفية، إما على طريقة الاختصار أو على طريقة التفصيل. وعلى كل حال نحمد الله على وجود هذه العقائد السلفية في هذا الوقت المبكر تقمع رؤوس البدع في وقتها وبعدها، وترد كيد الكائدين والمفترين الذين ينسبون عقيدة السلف إلى ابن تيمية وأتباعه. - قال علي بن المديني في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم" (¬2): هم أهل الحديث، والذين يتعاهدون مذاهب الرسول ويذبون عن العلم. لولاهم، لم تجد عند المعتزلة والرافضة والجهمية وأهل الإرجاء والرأي شيئا من السنن. (¬3) - قال الميموني: سمعت علي بن المديني يقول: ما قام أحد بأمر الإسلام بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قام أحمد بن حنبل. قال قلت له: يا أبا الحسن، ولا أبو بكر الصديق؟ قال: ولا أبو بكر الصديق؛ إن أبا بكر الصديق كان له أعوان ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (1/ 185 - 192/ 318). (¬2) تقدم تخريجه. انظر مواقف عبد الله بن المبارك سنة (181هـ). (¬3) شرف أصحاب الحديث (10) و (27) وبلفظ مغاير في (52).

وأصحاب، وأحمد بن حنبل لم يكن له أعوان ولا أصحاب. (¬1) ¬

(¬1) طبقات الحنابلة (1/ 17).

" التعليق: قد عاين الإمام علي بن المديني محنة الإمام أحمد ورأى منه الصبر والجلد في سبيل نصرة المذهب الحق، فعظم الإمام أحمد في عين ابن المديني، ونحن نقول رحمة الله على الإمام أحمد وأين لنا مثل أحمد في سعة علمه وتبحره وتضحيته بالنفس والمال والعلم، وصبره وجلده. نحبه ونثني عليه ونذكر مناقبه ولا نرفعه فوق قدره، وهو من علماء القرون المفضلة وأبو بكر الصديق أفضل هذه الأمة بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم -، وفضائله مشهورة مأثورة أوضح من نار على علم، وجهوده وتضحياته في سبيل نصرة هذا الدين أوضح من أن تبين، وهي مبثوثة في أبواب السيرة لمن شاء الوقوف عليها، ولن يبلغ أحد بعده ما بلغه في نصرة هذا الدين، قال البخاري في صحيحه حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا أبو عامر حدثنا فليح قال: حدثني سالم أبو النضر عن بسر بن سعيد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس وقال: "إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله. قال فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عبد خير، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر". (¬1) ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (3/ 18) والبخاري (1/ 734/466) ومسلم (4/ 1854 - 1855/ 2382) والترمذي (5/ 568/3660) عن أبي سعيد الخدري.

قال الحافظ في الفتح: وأخوة الإسلام ومودته متفاوتة بين المسلمين في نصر الدين وإعلاء كلمة الحق وتحصيل كثرة الثواب ولأبي بكر من ذلك أعظمه وأكثره، والله أعلم (¬1). اهـ وأورد هنا ما ذكره المقري التلمساني في نفح الطيب من فوائد أبي بكر ابن العربي قال: تذاكرت بالمسجد الأقصى مع شيخنا أبي بكر الفهري الطرطوشي في حديث أبي ثعلبة المرفوع: "إن من ورائكم أياما للعامل فيها أجر خمسين منكم" فقالوا: بل منهم، فقال: "بل منكم، لأنكم تجدون على الخير أعوانا، وهم لا يجدون عليه أعوانا" (¬2)، وتفاوضنا كيف يكون أجر من يأتي من الأمة أضعاف أجر الصحابة مع أنهم قد أسسوا الإسلام، وعضدوا الدين، وأقاموا المنار، وافتتحوا الأمصار، وحموا البيضة، ومهدوا الملة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح: "لو أنفق أحدكم كل يوم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" (¬3)، فتراجعنا القول، وتحصل ما أوضحناه في شرح الصحيح، وخلاصته: أن الصحابة كانت لهم أعمال كثيرة لا يلحقهم فيها ¬

(¬1) الفتح (7/ 16). (¬2) أخرج القسم الأول منه إلى قوله: "بل منكم": أبو داود (4/ 512/4341) والترمذي (5/ 240/3058) وابن ماجه (2/ 1330 - 1331/ 4014) وابن حبان (الإحسان: 2/ 108 - 109/ 385) عن أبي ثعلبة الخشني. وقال الترمذي: "حديث حسن غريب". وأخرجه الطبراني في الكبير (10/ 182 - 183/ 10394) والبزار (كشف: 4/ 131/3370) عن ابن مسعود. وأورده الهيثمي في المجمع (7/ 282) وقال: "رواه البزار والطبراني ... ورجال البزار رجال الصحيح غير سهل بن عامر البجلي وثقه ابن حبان". وقال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في الصحيحة (1/ 892 - 893/ 494) بعد أن ذكر رواية المعجم: "وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات رجال مسلم". (¬3) أحمد (3/ 11) والبخاري (7/ 24/3673) ومسلم (4/ 1967 - 1968/ 2541) وأبو داود (5/ 45/4658) والترمذي (5/ 653/3861) عن أبي سعيد الخدري ..

أحد، ولا يدانيهم فيها بشر، وأعمال سواها من فروع الدين يساويهم فيها في الأجر من أخلص إخلاصهم، وخلصها من شوائب البدع والرياء بعدهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب عظيم هو ابتداء الدين والإسلام، وهو أيضا انتهاؤه، وقد كان قليلا في ابتداء الإسلام، صعب المرام، لغلبة الكفار على الحق، وفي آخر الزمان أيضا يعود كذلك، لوعد الصادق - صلى الله عليه وسلم - بفساد الزمان، وظهور الفتن، وغلبة الباطل، واستيلاء التبديل والتغيير على الحق من الخلق، وركوب من يأتي سنن من مضى من أهل الكتاب، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "لتركبن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه" (¬1) وقال - صلى الله عليه وسلم -: "بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ" (¬2) فلا بد، والله تعالى أعلم بحكم هذا الوعد الصادق، أن يرجع الإسلام إلى واحد، كما بدأ من واحد، ويضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى إذا قام به قائم مع احتواشه بالمخاوف وباع نفسه من الله تعالى في الدعاء إليه كان له من الأجر أضعاف ما كان لمن كان متمكنا منه معانا عليه بكثرة الدعاة إلى الله تعالى، وذلك قوله: "لأنكم تجدون على الخير أعوانا وهم لا يجدون عليه أعوانا" حتى ينقطع ذلك انقطاعا باتا لضعف اليقين وقلة الدين، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله" (¬3) ¬

(¬1) أخرجه بلفظ: "لتتبعن ... ": أحمد (3/ 84) والبخاري (6/ 613/3456) ومسلم (4/ 2054/2669) عن أبي سعيد وفي الباب عن أبي هريرة وغيره. (¬2) أخرجه: مسلم (1/ 130/145) وابن ماجه (2/ 1319 - 1320/ 3986) عن أبي هريرة وفي الباب عن أنس وابن مسعود وغيرهما. (¬3) أخرجه: أحمد (3/ 268) ومسلم (1/ 131/148) والترمذي (4/ 426 - 427/ 2207) من حديث أنس بن مالك ..

يروى برفع الهاء ونصبها، فالرفع على معنى لا يبقى موحد يذكر الله عز وجل، والنصب على معنى لا يبقى آمر بمعروف ولا ناه عن منكر يقول: أخاف الله، وحينئذ يتمنى العاقل الموت، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني كنت مكانه" (¬1) انتهى. (¬2) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في 'الفرقان بين الحق والباطل': لكن تضعيف الأجر لهم في أمور لم يضعف للصحابة، لا يلزم أن يكونوا أفضل من الصحابة، ولا يكون فاضلهم كفاضل الصحابة؛ فإن الذي سبق إليه الصحابة، من الإيمان والجهاد، ومعاداة أهل الأرض في موالاة الرسول، وتصديقه وطاعته فيما يُخبر به ويوجبه قبل أن تنتشر دعوته وتظهر كلمته وتكثر أعوانه وأنصاره وتنتشر دلائل نبوته، بل مع قلة المؤمنين وكثرة الكافرين والمنافقين، وإنفاق المؤمنين أموالهم في سبيل الله ابتغاء وجهه في مثل تلك الحال أمر ما بقي يحصل مثله لأحد. (¬3) وبالجملة فصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل هذه الأمة وأبرها قلوبا وأعمقها علما ولن يبلغ أحد مد أحدهم ولا نصيفه وإن ضوعف له في الأجر بسبقهم إلى الإسلام ودفاعهم عنه ومقامهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذبهم عنه وبتبليغهم دعوته بعده، وتزكية الله لهم، والأجر غير الفضل، فقد يزاد للرجل بعدهم في الأجر كما صح في الخبر، ولا يبلغ الفضل الذي خصوا به، وبالله ¬

(¬1) تقدم تخريجه. انظر مواقف أبي ذر سنة (32هـ). (¬2) نفح الطيب (2/ 37 - 39). (¬3) مجموع الفتاوى (13/ 65 - 66).

موقفه من الرافضة:

العصمة والتوفيق. موقفه من الرافضة: - جاء في السير: قال أحمد بن أبي خيثمة: سمعت ابن معين، يقول: كان علي ابن المديني إذا قدم علينا، أظهر السنة، وإذا ذهب إلى البصرة أظهر التشيع. قال الذهبي: كان إظهاره لمناقب الإمام علي بالبصرة، لمكان أنهم عثمانية، فيهم انحراف على علي. (¬1) - وقال ابن المديني في عمرو بن عبد الغفار الفقيمي: رافضي تركته لأجل الرفض. (¬2) موقفه من الجهمية: - جاء في أصول الاعتقاد: عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: سمعت علي بن المديني قبل أن يموت بشهرين يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر. (¬3) - وعن علي بن المديني قال: الإيمان والتصديق بالشفاعة وبأقوام يخرجون من النار بعدما احترقوا وصاروا فحما كما جاء الأثر والتصديق به والتسليم (¬4).اهـ (¬5) - وفي السير عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة، سمعت عليا على المنبر ¬

(¬1) السير (11/ 47). (¬2) الميزان (3/ 272). (¬3) أصول الاعتقاد (2/ 292/453) والسير (11/ 58). (¬4) انظر تخريجه في مواقف السلف من عمرو بن عبيد سنة (144هـ). (¬5) أصول الاعتقاد (6/ 1183).

يقول: من زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر، ومن زعم أن الله لا يرى فهو كافر، ومن زعم أن الله لم يكلم موسى على الحقيقة فهو كافر. (¬1) - وقال عثمان بن سعيد الدارمي، سمعت علي بن المديني، يقول: هو كفر، يعني من قال: القرآن مخلوق. (¬2) - وجاء في ذم الكلام عن جعفر بن محمد بن علي بن عبد الله بن نجيح المديني مولى بني نصر، حدثني أبي قال: سمعت أبي يقول: يوسف بن خالد سقط حديثه من أجل الكلام، وكل من كان صاحب كلام فليس بشيء. (¬3) - جاء في اجتماع الجيوش الإسلامية: قال البخاري: علي بن المديني سيد المسلمين. قيل له: ما قول الجماعة في الاعتقاد؟ قال: يثبتون الكلام والرؤية، ويقولون: إن الله تعالى على العرش استوى. فقيل له: ما تقول في قوله تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا وهو رابعهم} فقال: اقرأوا أول الآية يعني بالعلم، لأن أول الآية {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يعلم مَا في السَّمَاوَاتِ} (¬4). قال البخاري في كتاب خلق الأفعال: وقال ابن المديني: القرآن كلام الله غير مخلوق، من قال إنه مخلوق فهو كافر لا يصلى خلفه. (¬5) ¬

(¬1) السير (11/ 58). (¬2) السير (11/ 59). (¬3) ذم الكلام (296). (¬4) المجادلة الآية (7). (¬5) اجتماع الجيوش (214 - 215) ومختصر العلو (188 - 189).

موقفه من المرجئة:

موقفه من المرجئة: عن حنبل قال: سمعت علي بن عبد الله بن جعفر بالبصرة سنة إحدى وعشرين يقول: الإيمان قول وعمل على سنة وإصابة ونية، والإيمان يزيد وينقص وأكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وترك الصلاة كفر ليس شيء من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة من تركها فهو كافر وقد حل قتله. (¬1) يحيى بن أيوب (¬2) (234 هـ) يحيى بن أيوب الإمام العالم القدوة الحافظ أبو زكريا البغدادي المَقَابِرِي العابد. روى عن عبد الله بن وهب وعبد الله بن نمير وعبد الله بن المبارك وهشيم بن بشير ووكيع بن الجراح وأبي معاوية الضرير وعدة. روى عنه مسلم وأبو داود وأبو يعلى وأحمد بن حنبل وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان ومحمد بن وضاح وابن أبي الدنيا وآخرون. قال أحمد بن حنبل: هو رجل صالح، صاحب سكون ودعة. وقال الحسين بن فهم: كان يحيى بن أيوب ثقة ورعا مسلما. توفي سنة أربع وثلاثين ومائتين. موقفه من الجهمية: - قال الحسين بن فهم: كان يحيى بن أيوب ثقة ورعا مسلما، يقول بالسنة، ويعيب من يقول بقول جهم، أو بخلاف السنة. (¬3) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (5/ 1034 - 1035/ 1752). (¬2) الجرح والتعديل (9/ 128) وتاريخ بغداد (14/ 188 - 189) وتهذيب التهذيب (11/ 188) وشذرات الذهب (2/ 79) والسير (11/ 386 - 388). (¬3) السير (11/ 387) وطبقات الحنابلة (1/ 400).

أبو خيثمة زهير بن حرب (234 هـ)

- جاء في السنة لعبد الله: عن يحيى بن أيوب قال: كنت أسمع الناس يتكلمون في المريسي فكرهت أن أقدم عليه حتى أسمع كلامه لأقول فيه بعلم، فأتيته فإذا هو يكثر الصلاة على عيسى بن مريم عليه السلام فقلت له: إنك تكثر الصلاة على عيسى، فأهل ذاك هو، ولا أراك تصلي على نبينا ونبينا أفضل منه فقال: ذاك كان مشغولا بالمرآة والمشط والنساء. (¬1) - وفيها عنه قال: من لم يقل القرآن كلام الله غير مخلوق فهو جهمي. (¬2) - وفيها عنه قال: وذكرنا الشكاك الذين يقولون لا نقول القرآن مخلوق ولا غير مخلوق. فقال يحيى بن أيوب: كنت قلت لابن شداد صديق لي، من قال هذا فهو جهمي صغير. قال يحيى: وهو اليوم جهمي كبير. (¬3) - جاء في الإبانة عن أبي بكر المروذي قال: وسألت يحيى بن أيوب عن الواقفة، فقال: هم شر من الجهمية. (¬4) أبو خَيْثَمَة زُهَيْر بن حَرْب (¬5) (234 هـ) زهير بن حرب بن شداد الحَرَشِيّ النسائي ثم البغدادي الحافظ الحجة ¬

(¬1) السنة لعبد الله (39). (¬2) السنة لعبد الله (33). (¬3) السنة لعبد الله (43). (¬4) الإبانة (1/ 12/302/ 84). (¬5) تاريخ الفسوي (1/ 209) والجرح والتعديل (3/ 591) وتاريخ بغداد (8/ 482 - 484) وتذكرة الحفاظ (2/ 437) والسير (11/ 489 - 492) وتاريخ الإسلام (حوادث 231 - 240/ص.164) وتهذيب الكمال (9/ 402).

موقفه من الجهمية:

أحد أعلام الحديث مولى بني الحريش بن كعب بن عامر. حدث عن جرير ابن عبد الحميد وابن عيينة وهشيم بن بشير ووهب بن جرير وعبد الرزاق بن همام وعدة. حدث عنه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه وإبراهيم الحربي وابنه أحمد وطائفة. قال أبو بكر الخطيب: كان ثقة ثبتا حافظا متقنا. وقال الذهبي: كان من كبار أئمة الأثر ببغداد، وهو والد الحافظ أبي بكر أحمد بن أبي خيثمة صاحب التاريخ الكبير. توفي سنة أربع وثلاثين ومائتين. موقفه من الجهمية: - جاء في السنة لعبد الله عن أحمد بن إبراهيم، سمعت يحيى بن معين وأبا خيثمة يقولان: القرآن كلام الله وهو غير مخلوق. (¬1) - وفي السنة للخلال عن محمد بن منصور قال: كنا نمضي إلى سعدويه، قال: فكان أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبو خيثمة وعدة قال: فتلقانا بشر المريسي قال: فتصدى له أبو خيثمة ثم التفت إلينا، فقال: رأيتم قط أشبه باليهود منه؟ قال: فجعل أحمد بن حنبل رحمه الله يقول لأبي خيثمة رحمه الله: ستورثني يا أبا خيثمة، رأيت مثل ذلك الوجه. (¬2) - جاء في أصول الاعتقاد عن أحمد بن زهير قال: سمعت أبي ما لا أحصي كثرة يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق ولا نعرف غير هذا. (¬3) ¬

(¬1) السنة لعبد الله (34). (¬2) السنة للخلال (5/ 102). (¬3) أصول الاعتقاد (2/ 293/455).

- وفيه عنه قال: من زعم أن القرآن كلام الله مخلوق، فهو كافر ومن شك في كفره فهو كافر. (¬1) " التعليق: وهذا عام في كل من لم يكفر الكافر، ومن ظهر شركه وبدعته وفسقه، فهذه الأحكام من ظهرت له من صاحبه ولم ينسبه إليها فهو مثله، وليس كجهلة أهل هذا الزمان، الذين يقولون بزعمهم: لا ينبغي لنا أن نكفر أحدا ونجعله مشركا أو مبتدعا. نعم هذا لا يجوز قطعا، ولكن إذا صح الوصف على المسمى، فما الحيلة إذا كان كفره واضحا وشركه واضحا وبدعته واضحة؟ فإن قيل: من باب الورع، فهذا كذب، فالورع أن تنزل الأشياء في مواضعها وأن تزنها بميزان الشرع. وأما قول بعضهم: فهذه الأحكام تفرق الكلمة، فنقول: لا جمع الله كلمة على شرك أو بدعة إلى يوم القيامة، فكلمة لا تجتمع على التوحيد الخالص، وتجمع لا يقوم على عقيدة صحيحة مناهضة لكل شرك وبدعة وخرافة، لا خير فيه. ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 282 - 283/ 430).

أبو بكر بن أبي شيبة (235 هـ)

أبو بكر بن أبي شَيْبَة (¬1) (235 هـ) عبد الله بن محمد بن القاضي أبي شيبة إبراهيم بن عثمان بن خواستى الإمام العلم، سيد الحفاظ وصاحب الكتب الكبار 'المسند' و'المصنف' و'التفسير' أبو بكر العبسي مولاهم الكوفي. روى عن شريك بن عبد الله النخعي وعن حماد بن أسامة وحفص بن غياث وجرير بن عبد الحميد وابن عيينة وعدة. روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه وإبراهيم الحربي وأحمد بن حنبل وأبو يعلى الموصلي وطائفة. قال يحيى الحماني: أولاد ابن أبي شيبة من أهل العلم، كانوا يزاحموننا عند كل محدث. وقال أحمد العجلي: كان ثقة حافظا للحديث. وقال أبو زرعة: ما رأيت أحفظ من أبي بكر بن أبي شيبة. توفي سنة خمس وثلاثين ومائتين. موقفه من الرافضة: قال الذهبي في سيره: قال عبدان الأهوازي: أنكر علينا أبو بكر بن أبي شيبة، أو هناد مُضِيَّنا إلى إسماعيل بن موسى، وقال: إيش عملتم عند ذاك الفاسق الذي يشتم السلف. (¬2) موقفه من الجهمية: - جاء في السنة: قال عبد الله: سمعت أبا بكر بن أبي شيبة وقال له ¬

(¬1) الجرح والتعديل (5/ 160) وتاريخ بغداد (1/ 66 - 71) وتاريخ الإسلام (حوادث 231 - 240/ص.227 - 230) وميزان الاعتدال (2/ 490) والبداية والنهاية (10/ 328) وتهذيب التهذيب (6/ 2) وشذرات الذهب (2/ 85) والسير (11/ 122 - 127) وتهذيب الكمال (16/ 34 - 42). (¬2) السير (11/ 176 - 177).

موقفه من الخوارج:

رجل من أصحابه: القرآن كلام الله وليس بمخلوق. فقال أبو بكر: من لم يقل هذا فهو ضال مضل مبتدع. (¬1) - وفي الإبانة لابن بطة عن المروزي: قال: وسألت أبا بكر بن أبي شيبة عن الواقفة، فقال: هم شر من أولئك -يعني: الجهمية-. (¬2) موقفه من الخوارج: أورد ضمن مصنفه بابا كبيرا (ما ذكر في الخوارج) (¬3) ضمنه ثلاثة وثمانين أثرا. وقد مضى معنا جملة طيبة منها. موقفه من المرجئة: له كتاب الإيمان طبع مفردا بتحقيق فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، وأصل الكتاب ضمن مصنفه (6/ 157 - 207/ 30309 - 30715) ويزيد على الجزء المفرد بأحاديث. أبو الفضل شُجَاع بن مَخْلَد (¬4) (235 هـ) هو شجاع بن مخلد الفَلاَّس، أبو الفضل البغوي، نزيل بغداد. روى عن إسماعيل بن علية، وإسماعيل بن عياش، وسفيان بن عيينة، وأبي نعيم الفضل ابن دكين وغيرهم. وروى عنه مسلم وأبو داود وابن ماجه وإبراهيم بن ¬

(¬1) السنة لعبد الله (ص.33) وأصول الاعتقاد (2/ 293/457). (¬2) الإبانة (1/ 12/303/ 87). (¬3) (7/ 552). (¬4) طبقات ابن سعد (7/ 352) وتهذيب الكمال (12/ 379 - 381) وتاريخ الخطيب (9/ 251) وتهذيب التهذيب (4/ 312).

موقفه من الجهمية:

إسحاق الحربي وغيرهم. قال الحسين بن فهم: شجاع بن مخلد من أهل خراسان من البغيين. وهو ثقة ثبت، توفي ببغداد لعشر خلون من صفر سنة خمس وثلاثين ومائتين، وحضره بشر كثير، ودفن في مقبرة باب التبن. قال ابن قانع: ثقة ثبت. وقال أحمد: كان ثقة، وكان كتابه صحيحا. موقفه من الجهمية: قال المروذي: سألت شجاع بن مخلد وأحمد بن إبراهيم وأحمد بن منيع ويحيى بن عثمان عن القرآن فقالوا: كلام الله وليس بمخلوق. (¬1) عبيد الله بن عمر القواريري (¬2) (235 هـ) هو عبيد الله بن عمر بن ميسرة، أبو سعيد الجشمي مولاهم البصري القواريري الزجاج، نزيل بغداد. حدث عن حماد بن زيد وعبد العزيز الدراوردي وفضيل بن عياض وأبي عوانة وغيرهم. وحدث عنه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وبقي بن مخلد، وأبو يعلى الموصلي وغيرهم. قال ابن حجر: ثقة ثبت. مات يوم الخميس لاثني عشر يوما مضين من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين ومائتين. وله خمس وثمانون سنة. موقفه من الجهمية: عن أبي بكر المروذي: قال: وسألت عبيد الله بن عمر القواريري عن ¬

(¬1) الإبانة (2/ 12/20/ 211). (¬2) تاريخ بغداد (10/ 320 - 323) طبقات ابن سعد (7/ 350) وسير أعلام النبلاء (11/ 442 - 446) وتهذيب الكمال (19/ 130 - 136) والتقريب (1/ 637).

أحمد بن عمر الوكيعي (235 هـ)

الواقفة، فقال: هم شر من الجهمية. (¬1) أحمد بن عمر الوكيعي (¬2) (235 هـ) أحمد بن عمر بن حفص بن جهم أبو جعفر الكوفي الوكيعي، نزيل بغداد. روى عن حفص بن غياث، وأبي معاوية، وأبي بكر بن عياش. وحدث عنه مسلم، وإبراهيم الحربي، وأبو داود. وثقه يحيى بن معين وغيره. توفي سنة خمس وثلاثين ومائتين. موقفه من المبتدعة: قال العباس بن مصعب: سمعت أحمد بن يحيى الكشميهني، سمعت أحمد ابن عمر الوكيعي يقول: وليت المظالم بمرو مدة اثنتي عشرة سنة، فلم يرد علي حكم إلا وأنا أحفظ فيه حديثا، فلم أحتج إلى الرأي، ولا إلى أهله. (¬3) إبراهيم بن محمد بن أبي معاوية (¬4) (236 هـ) إبراهيم بن محمد بن خازم السعدي مولاهم، أبو إسحاق بن أبي معاوية الضرير الكوفي. روى عن أبيه، ويحيى بن عيسى الرملي، وأبي بكر بن عياش. وروى عنه أبو داود وبقي بن مخلد الأندلسي، والحسن بن سفيان الشيباني، ¬

(¬1) الإبانة (2/ 12/301 - 302/ 83). (¬2) السير (11/ 36) وتهذيب الكمال (1/ 412) وتاريخ بغداد (4/ 284) وتهذيب التهذيب (1/ 63) غاية النهاية في طبقات القراء (1/ 92). (¬3) السير (11/ 37). (¬4) تهذيب الكمال (2/ 171) تاريخ الإسلام (حوادث 231 - 240/ص.68 - 69) وتهذيب التهذيب (1/ 153).

موقفه من الجهمية:

وخلق. قال عنه أبو زرعة: لا بأس به صدوق صاحب سنة. مات سنة ست وثلاثين ومائتين. موقفه من الجهمية: قال المروزي: وسألت ابن أبي معاوية الضرير عن الواقفة، فقال: هم مثل الجهمية. (¬1) محمد بن بشير (¬2) (236 هـ) هو محمد بن بشير بن مروان، أبو جعفر الكندي الدعاء البغدادي. أخذ عن ابن المبارك، وابن السماك الواعظ، وابن عيينة. وعنه ابن أبي الدنيا، وأبو يعلى. مات سنة ست وثلاثين ومائتين. موقفه من الجهمية: قال ابن بطة: أملى علي أبو عمر النحوي وقرأته عليه، وقال: حدثنا المبرد قال: أنشدني الرياشي لمحمد بن بشير يعيب المتكلمين: يا سائلي عن مقالة الشيع ... وعن صنوف الأهواء والبدع دع من يقول الكلام ناحية ... فما يقول الكلام ذو ورع كل أناس بزيهم حسن ... ثم يصيرون بعد للشيع أكثر ما فيه أن يقال له ... لم يك في قوله بمنقطع (¬3) ¬

(¬1) الإبانة (1/ 12/303/ 89). (¬2) تاريخ الإسلام (حوادث 231 - 240/ص.310 - 311) وميزان الاعتدال (3/ 491). (¬3) الإبانة (2/ 3/545/ 687).

أبو إبراهيم الترجماني (236 هـ)

أبو إبراهيم الترجماني (¬1) (236 هـ) هو إسماعيل بن إبراهيم بن بسام البغدادي، أبو إبراهيم الترجماني من أبناء خراسان. روى عن إسماعيل بن عياش، وحبان بن علي العنزي، وخلف ابن خليفة وغيرهم، وروى عنه أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة، وأبو يعلى الموصلي، وابن أبي الدنيا، وأبو زرعة الرازي، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وغيرهم. توفي لخمس ليال خلون من سنة ست وثلاثين ومائتين وشهده ناس كثير، وكان صاحب سنة وفضل وخير كثير. موقفه من الجهمية: قال المروذي: سمعت إسماعيل بن إبراهيم الترجماني يقول: القرآن كلام الله ليس بمخلوق. قال: وأدركت الناس منذ سبعين سنة على هذا. (¬2) محمد بن مُقَاتِل العَبَّادَانِي (¬3) (236 هـ) محمد بن مقاتل العباداني أبو جعفر، أحد المشهورين بالصلاح والفضل والسنة. روى عن حماد بن سلمة وعبد الله بن المبارك. روى عنه أحمد بن إبراهيم الدورقي، وعبد الصمد بن يزيد مردويه، وموسى بن هارون الحافظ، وغيرهم. قال أبو بكر المروذي: دخلت على محمد بن مقاتل لما قدم من ¬

(¬1) تهذيب الكمال (3/ 13 - 16) وتهذيب التهذيب (1/ 246) والتاريخ الكبير (1/ 342) وطبقات ابن سعد (7/ 358) وتاريخ بغداد (6/ 264 - 265). (¬2) الإبانة (2/ 12/19 - 20/ 210). (¬3) تهذيب الكمال (26/ 494 - 495) والسير (11/ 102) وتاريخ بغداد (3/ 276) وتهذيب التهذيب (9/ 470 - 471) وطبقات الحنابلة (1/ 323).

موقفه من الجهمية:

عبادان فقال رجل، زينت بلدنا بقدومك، أو قال بمجيئك فتغير وجهه وقال: لا تعد تقول هذا. وأراه قال: هذا الذبح وأشار بيده إلى حلقه، وقال أبو بكر الخطيب: كان أحد الصالحين مشهورا بحسن الطريقة ومذهب السنة. مات بعبادان في أول يوم من سنة ست وثلاثين ومائتين. موقفه من الجهمية: - روى ابن بطة في الإبانة بسنده إلى أحمد بن إبراهيم، قال: سمعت محمد بن مقاتل العباداني، وكان من خيار المسلمين يقول في الواقفة: هم عندي شر من الجهمية. (¬1) - وفي تاريخ بغداد: قال موسى بن هارون عنه: أظهر كلاما حسنا سمعه منه غير واحد من أصحابنا يقول: القرآن كلام الله وليس بمخلوق، علموه أبناءكم وأبناءهم إن شاء الله، وأظنه قال: ونساءكم. (¬2) مصعب الزُّبَيْرِي (¬3) (236 هـ) مصعب بن عبد الله بن مصعب، ينتهي نسبه إلى الزبير بن العوام، العلامة الصدوق الإمام أبو عبد الله ابن أمير اليمن القرشي الأسدي الزبيري المدني نزيل بغداد. روى عن أبيه ومالك بن أنس والضحاك بن عثمان ¬

(¬1) الإبانة (1/ 12/300 - 301/ 81) والشريعة (1/ 233/206) والسنة للخلال (5/ 141). (¬2) تاريخ بغداد (3/ 276) وتهذيب الكمال (26/ 495). (¬3) شذرات الذهب (2/ 84) والوافي بالوفيات (8/ 396 - 397) وطبقات ابن سعد (7/ 344) وتاريخ بغداد (13/ 112 - 114) والسير (11/ 30 - 32).

موقفه من الجهمية:

والمغيرة بن عبد الرحمن والمنذر بن عبد الله وابن عيينة وعدة. روى عنه ابن ماجه وإبراهيم الحربي وأبو داود وعبد الله بن أحمد بن حنبل والذهلي ومسلم بن الحجاج -خارج الصحيح- وطائفة. قال الذهبي: كان علامة نسابة أخباريا فصيحا، من نبلاء الرجال وأفرادهم. توفي سنة ست وثلاثين ومائتين. موقفه من الجهمية: - جاء في أصول الاعتقاد: عن مصعب الزبيري أنه سئل عن القرآن وعن من لا يقول غير مخلوق؟ فقال: هؤلاء جهال وخطأهم. وإني لأتهمهم أن يكونوا زنادقة. (¬1) - جاء في أصول الاعتقاد: قال مصعب الزبيري: رأيت أهل بلدنا -يعني أهل المدينة- ينهون عن الكلام في الدين. (¬2) - وفي جامع بيان العلم وفضله: حدثني أحمد بن زهير قال مصعب بن عبد الله: ناظرني إسحاق بن أبي إسرائيل، فقال: لا أقول كذا ولا أقول غيره -يعني في القرآن- فناظرته فقال: لم أقف على الشك، ولكني أقول كما قال: أسكت كما سكت القوم، قال: فأنشدته هذا الشعر فأعجبه وكتبه وهو شعر قيل منذ أكثر من عشرين سنة: أأقعد بعدما رجفت عظامي ... وكان الموت أقرب ما يليني أجادل كل معترض خصيم ... وأجعل دينه غرضا لديني فأترك ما علمت لرأي غيري ... وليس الرأي كالعلم اليقين ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 358/525). (¬2) أصول الاعتقاد (1/ 168).

وما أنا والخصومة وهي لبس ... تصرف في الشمال وفي اليمين وقد سنت لنا سنن قوام ... يلحن بكل فج أو وجين وكان الحق ليس به خفاء ... أغر كغرة الفلق المبين وما عوض لنا منهاج جهم ... بمنهاج ابن آمنة الأمين فأما ما علمت فقد كفاني ... وأما ما جهلت فجنبوني فلست مكفرا أحدا يصلي ... وما أحرمكم أن تكفروني وكنا إخوة نرمي جميعا ... فنرمي كل مرتاب ظنين فما برح الكلف أن رمينا ... بشأن واحد فوق الشؤون فأوشك أن يخر عماد بيت ... وينقطع القرين عن القرين قال أبو عمر: وكان مصعب بن عبد الله الزبيري شاعرا محسنا. (¬1) " التعليق: انظر هذا النفس الطيب، وهذه العقيدة الطيبة، تجد قلبك يطرب فرحا، وتجد المبتدع مقنعا رأسه خاسئا خاسرا ذليلا حقيرا من شدة ما ينزل عليه من الصواعق السلفية. - وحكي عن أبي حاتم الرازي أنه قال: قال مصعب: هؤلاء الذين يقولون في القرآن: لا ندري -مخلوق أم غير مخلوق- هم عندنا شر ممن يقول ¬

(¬1) جامع بيان العلم وفضله (2/ 936 - 937) وأصول الاعتقاد (1/ 167 - 168/ 308) والإبانة مختصرا (2/ 544 - 545/ 586).

موقفه من القدرية:

مخلوق. يستتابون فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم. (¬1) موقفه من القدرية: روى اللالكائي بالسند عن أحمد بن علي الأبار قال: سألت مصعب الزبيري عن ابن أبي ذئب وقلت له: حدثونا عن أبي عاصم أنه قال: كان ابن أبي ذئب قدريا. قال: معاذ الله، إنما كان زمن المهدي أخذوا القدرية وضربوهم ونفوهم فجاء قوم من أهل القدر فجلسوا إليه واعتصموا به من الضرب. فقال قوم: إنما جلسوا إليه لأنه كان يرى القدر. فقد حدثني من أثق به أنه ما تكلم فيه قط. (¬2) أبو مَعْمَر الهُذَلِي (¬3) (236 هـ) إسماعيل بن إبراهيم بن معمر الإمام الحافظ الكبير الثبت أبو معمر الهذلي الهروي ثم البغدادي القطيعي نزيل بغداد. روى عن ابن عيينة وحماد بن أسامة وحفص بن غياث وجرير بن عبد الحميد وابن المبارك وطائفة. روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود وإبراهيم الحربي وعبد الله بن أحمد بن حنبل وأبو زرعة وأبو حاتم وطائفة. قال محمد بن سعد: أبو معمر الهروي من هذيل، من أنفسهم، صاحب سنة وفضل وخير، وهو ثقة ثبت. توفي سنة ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 358/523). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 800 - 801/ 1336). (¬3) طبقات ابن سعد (7/ 359) والجرح والتعديل (2/ 157) وتاريخ بغداد (6/ 266 - 272) وتذكرة الحفاظ (1/ 471) وميزان الاعتدال (1/ 220) وتهذيب التهذيب (1/ 273 - 274) وشذرات الذهب (2/ 86) والسير (11/ 69 - 71) وتهذيب الكمال (3/ 19 - 23).

موقفه من المبتدعة:

ست وثلاثين ومائتين. موقفه من المبتدعة: قال عبيد بن شريك البزار: كان أبو معمر القطيعي من شدة إدلاله بالسنة يقول: لو تكلمت بغلتي لقالت: إنها سنية. (¬1) موقفه من الجهمية: - جاء في السنة لعبد الله عنه قال: من زعم أن الله لا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر ولا يغضب ولا يرضى، وذكر أشياء من هذه الصفات فهو كافر بالله، إن رأيتموه على بئر واقفا فألقوه فيها. بهذا أدين الله لأنهم كفار بالله. (¬2) - وفيها عنه قال: القرآن كلام الله ليس بمخلوق، ومن شك في أنه غير مخلوق فهو جهمي، لا بل شر من جهمي. (¬3) - وفي أصول الاعتقاد عنه قال: أدركت الناس يقولون: القرآن كلام الله ليس بمخلوق. (¬4) - وفي السير عنه قال: آخر كلام الجهمية أنه ليس في السماء إله. قال الذهبي: بل قولهم: إنه عز وجل في السماء وفي الأرض، لا امتياز للسماء. وقول عموم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -: إن الله في السماء، يطلقون ذلك وفق ماجاءت النصوص بإطلاقه، ولا يخوضون في تأويلات المتكلمين، مع جزم ¬

(¬1) السير (11/ 70). (¬2) السنة لعبد الله (71). (¬3) السنة لعبد الله (ص.34) وأصول الاعتقاد (2/ 294/460). (¬4) أصول الاعتقاد (2/ 294/462).

إبراهيم بن المنذر الحزامي (236 هـ)

الكل بأنه تعالى: {ليس كَمِثْلِهِ شيءٌ} (¬1). (¬2) إبراهيم بن المنذر الحِزَامي (¬3) (236 هـ) إبراهيم بن المنذر بن عبد الله بن المنذر الإمام الحافظ الثقة أبو إسحاق القرشي الأسدي الحزامي المدني. روى عن أنس بن عياض وابن عيينة وعبد الله بن وهب وابن أبي أويس وطائفة. روى عنه البخاري وابن ماجه وابن أبي خيثمة وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان وعبد الملك بن حبيب المالكي وطائفة. صدوق توفي سنة ست وثلاثين ومائتين. موقفه من الجهمية: جاء في أصول الاعتقاد: عنه أنه سئل: ما تقول في عبد اشتري ثم خرج جهميا؟ فقال: عيب يرد منه. قال: فإن خرج واقفيا؟ قال شر يرد منه. (¬4) سعيد بن رحمة (¬5) (236 هـ) سعيد بن رحمة بن نعيم المصيصي. روى عن ابن المبارك وهو راوي ¬

(¬1) الشورى الآية (11). (¬2) السير (11/ 70 - 71). (¬3) المعرفة والتاريخ (1/ 210) والجرح والتعديل (2/ 139) وتاريخ بغداد (6/ 179 - 181) والأنساب (4/ 129) وميزان الاعتدال (1/ 67) والوافي بالوفيات (6/ 150) وتهذيب التهذيب (1/ 166) وشذرات الذهب (2/ 86) والسير (10/ 689 - 691). (¬4) أصول الاعتقاد (2/ 358 - 359/ 526). (¬5) ميزان الاعتدال (2/ 135/3172) وكتاب المجروحين لابن حبان (328) والمغني في الضعفاء (1/ 258).

موقفه من الجهمية:

كتاب الجهاد عنه. موقفه من الجهمية: عن عبد الله الشعراني قال: سمعت سعيد بن رحمة -صاحب إسحاق الفزاري- يقول: إنما خرج جهم عليه لعنة الله سنة ثلاثين ومائة. فقال: القرآن مخلوق. فلما بلغ العلماء تعاظمهم، فأجمعوا على أنه تكلم بالكفر وحمل الناس ذلك عنهم. (¬1) إسحاق بن راهَوَيْه (¬2) (237 هـ) إسحاق بن إبراهيم بن مَخْلَد بن إبراهيم الإمام الكبير شيخ المشرق وسيد الحفاظ أحد أئمة المسلمين وعلماء الدين، اجتمع له الحديث والفقه والحفظ والصدق والورع والزهد، أبو يعقوب التميمي ثم الحنظلي المروزي نزيل نيسابور المعروف بابن راهويه. روى عن حماد بن أسامة وابن عيينة ومعاذ بن هشام الدستوائي وعدة. روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وأحمد بن حنبل والفريابي وأحمد بن سعيد الدارمي وطائفة. قال النسائي: ابن راهويه أحد الأئمة، ثقة مأمون، سمعت سعيد بن ذؤيب يقول: ما أعلم على وجه الأرض مثل إسحاق. وقال ابن خزيمة: والله لو كان ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (3/ 422 - 423/ 633). تنبيه: ذكر فيه أن جهما قال بخلق القرآن سنة (130هـ) والصواب أنه قال ذلك قبلها، لأنه قتل سنة (128هـ). (¬2) الجرح والتعديل (2/ 209 - 210) وتاريخ بغداد (6/ 345 - 355) ووفيات الأعيان (1/ 199 - 201) وميزان الاعتدال (1/ 182 - 183) وتذكرة الحفاظ (2/ 433) والوافي بالوفيات (8/ 386 - 388) وتهذيب التهذيب (1/ 216 - 219) وشذرات الذهب (2/ 89) والسير (11/ 358 - 383).

موقفه من المبتدعة:

إسحاق في التابعين، لأقروا له بحفظه وعلمه وفقهه. وقال نعيم بن حماد: إذا رأيت الخراساني يتكلم في إسحاق بن راهويه، فاتهمه في دينه. توفي سنة سبع وثلاثين ومائتين. موقفه من المبتدعة: - قال ابن قتيبة: ولم أر أحدا ألهج بذكر أصحاب الرأي وتنقصهم والبعث على قبيح أقاويلهم، والتنبيه عليها، من إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه. وكان يقول: نبذوا كتاب الله تعالى، وسنن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولزموا القياس. وكان يعدد من ذلك أشياء، منها قولهم: إن الرجل إذا نام جالسا، واستثقل في نومه، لم يجب عليه الوضوء. ثم أجمعوا على أن كل من أغمي عليه، منتقض الطهارة قال: وليس بينهما فرق على أنه ليس في المغمى عليه أصل، فيحتج به في انتقاض وضوئه. وفي النوم غير حديث -منها قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "العين وكاء السه. فإذا نامت العين انفتح الوكاء" (¬1) وفي حديث آخر: "من نام، فليتوضأ" (¬2). قال: فأوجبوا في الضجعة الوضوء إذا غلبه النوم، وأسقطوه عن النائم المستثقل راكعا أو ساجدا. قال: وهاتان الحالان في خشية الحدث أقرب من الضجعة. فلا هم اتبعوا أثرا، ولا لزموا قياسا. قال: وقالوا من تقهقه بعد التشهد أجزأته صلاته، وعليه الوضوء لصلاة أخرى. قال: فأي غلط أبين من غلط من يحتاط لصلاة لم تحضر، ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (1/ 111) وأبو داود (1/ 140/203) وابن ماجه (1/ 161/477) عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وكاء السه العينان، فمن نام فليتوضأ". وفي الباب عن معاوية بن أبي سفيان. وقال الحافظ في التلخيص الحبير (1/ 118): "وحسن المنذري وابن الصلاح والنووي حديث علي". (¬2) هو الطرف الأخير من الحديث السابق.

موقفه من المشركين:

ولا يحتاط لصلاة هو فيها. قال: وقالوا في رجل توفي وترك جده أبا أمه وبنت بنته -المال للجد دون بنت البنت. وكذلك هو -عندهم- مع جميع ذوي الأرحام. قال: فأي خطأ أفحش من هذا، لأن الجد يدلي بالأم، فكيف يفضل على بنت البنت، وهي تدلي بالبنت، إلا أن يكون شبهوا أبا الأم بأبي الأب، إذ اتفق أسماؤهم. (¬1) - قال حاشد بن إسماعيل: سمعت وهب بن جرير يقول: جزى الله إسحاق بن راهويه، وصدقة بن الفضل، ويعمر عن الإسلام خيرا، أحيوا السنة بالمشرق. (¬2) موقفه من المشركين: قال الإمام إسحاق بن راهويه أحد الأئمة الأعلام: أجمع المسلمون على أن من سب الله، أو سب رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو دفع شيئا مما أنزل الله عز وجل، أو قتل نبيا من أنبياء الله عز وجل: أنه كافر بذلك، وإن كان مقرا بكل ما أنزل الله. (¬3) موقفه من الرافضة: - روى ابن عبد البر في جامع بيان العلم بسنده إلى سلمة بن شبيب قال: قلت لأحمد بن حنبل: من تقدم؟ قال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي في ¬

(¬1) تأويل مختلف الحديث (53 - 54). (¬2) السير (11/ 364) (¬3) الصارم (9).

موقفه من الجهمية:

الخلافة. قال سلمة: وكتبت إلى إسحاق بن راهويه: من تقدم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فكتب إلي: لم يكن بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأرض أفضل من أبي بكر، ولم يكن بعده أفضل من عمر، ولم يكن بعد عمر أفضل من عثمان، ولم يكن على الأرض بعد عثمان خير ولا أفضل من علي رضي الله عنهم. (¬1) - وروى الخلال بسنده إلى إسحاق قال: سئل أحمد عن أبي بكر وعمر فقال: ترحم عليهما، وتبرأ ممن يبغضهما، قال إسحاق بن راهويه: كما قال. (¬2) - وقال إسحاق بن راهويه: من شتم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يعاقب ويحبس. (¬3) موقفه من الجهمية: - جاء في السنة للخلال عن حرب بن إسماعيل الكرماني قال: سألت إسحاق يعني ابن راهويه قلت: رجل سرق كتابا من رجل فيه رأي جهم أو رأي القدر؟ قال: يرمي به، قلت: إنه أخذ قبل أن يحرقه أو يرمي به، هل عليه قطع؟ قال: لا قطع عليه، قلت لإسحاق: رجل عنده كتاب فيه رأي الإرجاء أو القدر أو بدعة فاستعرته منه فلما صار في يدي أحرقته أو مزقته؟ قال: ليس عليك شيء. (¬4) ¬

(¬1) جامع بيان العلم (2/ 1172). (¬2) السنة للخلال (1/ 313). (¬3) الصارم (ص.571). (¬4) السنة للخلال (1/ 511).

- وفيها عنه، قال: سألت إسحاق عن الرجل يقول: القرآن كلام الله ويقف. قال: هو عندي شر من الذي يقول مخلوق، لأنه يقتدي به غيره. (¬1) - وفيها أيضا عن سليمان بن الأشعث، قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم (يعني: ابن راهويه) يقول: من قال: لا أقول القرآن مخلوق ولا غير مخلوق فهو جهمي. (¬2) - وفي أصول الاعتقاد عن أحمد بن سلمة عن إسحاق قال: ومن وقف فهو -كذا- رماه بأمر عظيم وقال: هو ضال مضل. (¬3) - وفي الإبانة عن حرب قال: وسألت إسحاق بن راهويه، قلت: يا أبا يعقوب أليس تقول: القرآن كلام الله تكلم به ليس بمخلوق؟ قال: نعم، القرآن كلام الله ليس بمخلوق، ومن قال إنه مخلوق فهو كافر. (¬4) - وهذه أبيات لأحمد بن سعيد الرباطي: قربي إلى الله دعاني إلى ... حب أبي يعقوب إسحاق لم يجعل القرآن خلقا كما ... قد قاله زنديق فساق يا حجة الله على خلقه ... في سنة الماضين للباقي أبوك إبراهيم محض التقى ... سباق مجد وابن سباق (¬5) - قال أحمد بن سلمة: سمعت إسحاق الحنظلي رضي الله عنه، يقول: ¬

(¬1) السنة للخلال (5/ 136 - 137) وأصول الاعتقاد (2/ 362/538). (¬2) السنة للخلال (5/ 137) والإبانة (1/ 12/298 - 299/ 77) والشريعة (1/ 233/205) والسير (11/ 376). (¬3) أصول الاعتقاد (2/ 362/539). (¬4) الإبانة (2/ 12/66 - 67/ 283). (¬5) السير (11/ 375).

ليس بين أهل العلم اختلاف أن القرآن كلام الله ليس بمخلوق، وكيف يكون شيء خرج من الرب عز وجل مخلوقا؟. (¬1) - وعنه قال صح أن الله يقول بعد فناء خلقه: {لِمَنِ الْمُلْكُ اليوم} فلا يجيبه أحد، فيقول لنفسه: {لِلَّهِ الواحد القهار} (¬2). (¬3) وقد نقل الهروي في الفاروق بسنده إلى حرب الكرماني: سألت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يعني ابن راهويه عن قوله تعالى: {مَا {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} (¬4) قال: قديم من رب العزة محدث إلى الأرض. (¬5) - وعن إسحاق بن راهويه: إن الله سميع بسمع بصير ببصر قادر بقدرة. (¬6) - عن أحمد بن سلمة قال حدثنا إسحاق بن راهويه قال: أفضوا إلى أن قالوا: أسماء الله مخلوقة لأنه كان ولا اسم، وهذا الكفر المحض. لأن لله الأسماء الحسنى، فمن فرق بين الله وبين أسمائه وبين علمه ومشيئته فجعل ذلك مخلوقا كله والله خالقها فقد كفر. ولله عز وجل تسعة وتسعون اسما. صح ذلك عن ¬

(¬1) السير (11/ 376). (¬2) غافر الآية (16). (¬3) الفتح (13/ 368). (¬4) الأنبياء الآية (2). (¬5) الفتح (13/ 497). (¬6) أصول الاعتقاد (3/ 450/682).

النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قاله (¬1)، ولقد تكلم بعض من ينسب إلى جهم بالأمر العظيم فقال: لو قلت إن للرب تسعة وتسعين اسما لعبدت تسعة وتسعين إلها. حتى إنه قال: إني لا أعبد الله الواحد الصمد إنما أعبد المراد به. فأي كلام أشد فرية وأعظم من هذا: أن ينطق الرجل أن يقول: لا أعبد "الله". (¬2) - قال الحافظ في الفتح: ونقل عن إسحاق بن راهويه عن الجهمية أن جهما قال: لو قلت إن لله تسعة وتسعين اسما لعبدت تسعة وتسعين إلها، قال فقلنا لهم: إن الله أمر عباده أن يدعوه بأسمائه، فقال: {وَلِلَّهِ الأسماء الْحُسْنَى فادعوه بِهَا} (¬3) والأسماء جمع أقله ثلاثة ولا فرق في الزيادة على الواحد بين الثلاثة وبين التسعة والتسعين. (¬4) - وسئل إسحاق مرة أخرى عن اللفظية؟ فقال: هي مبتدعة. قال عبد الرحمن: قال أبو علي القوهستاني: سمعت إسحاق بن راهويه أن لفلان -يعني داود الأصبهاني- في القرآن قولا ثالثا، قول سوء فلم يزل يسأل إسحاق ما هو؟ قال أظهر اللفظ -يعني قال: لفظي بالقرآن مخلوق-. (¬5) - وسمعت إسحاق بن راهويه ذكر "اللفظية" وبدعهم. (¬6) ¬

(¬1) أخرجه من حديث أبي هريرة: أحمد (2/ 267/503) والبخاري (5/ 444 - 445/ 2736) ومسلم (4/ 2062 - 2063/ 2677) والترمذي (5/ 497/3508) وابن ماجه (2/ 1269/3860). (¬2) أصول الاعتقاد (2/ 240/352). (¬3) الأعراف الآية (180). (¬4) الفتح (13/ 378). (¬5) أصول الاعتقاد (2/ 393/605و606) وفي الإبانة (1/ 12/332/ 135) طرفه الأول. (¬6) مجموع الفتاوى (12/ 325).

- وفي أصول الاعتقاد: قال ابن أبي حاتم: أخبرنا حرب بن إسماعيل الكرماني -فيما كتب إلي- قال: سمعت إسحاق بن راهويه وسئل عن الرجل يقول: القرآن ليس مخلوقا، ولكن قراءتي أنا إياه مخلوقة، لأني أحكيه وكلامنا مخلوق، فقال إسحاق: هذا بدعة، لا يقار على هذا حتى يرجع عن هذا ويدع قوله هذا. (¬1) - جاء في السير عن عبد الله بن أُبَيّ الخوارزمي قال: سمعت إسحاق الحنظلي يقول: أخرجتْ خراسان ثلاثة لا نظير لهم في البدعة والكذب: جهم، وعمر بن صبيح ومقاتل. (¬2) - وفيها: قال أبو بكر المروذي، حدثنا محمد بن الصباح النيسابوري، حدثنا أبو داود سليمان بن داود الخفاف، قال: قال إسحاق بن راهويه: إجماع أهل العلم أنه تعالى على العرش استوى، ويعلم كل شيء في أسفل الأرض السابعة. (¬3) - وفيها أنه ورد عن إسحاق أن بعض المتكلمين، قال له: كفرت برب ينزل من سماء إلى سماء. فقال: آمنت برب يفعل ما يشاء. (¬4) - قال أبو عبد الله الرباطي: حضرت يوما مجلس الأمير عبد الله بن طاهر ذات يوم، وحضر إسحاق بن راهويه، فسئل عن حديث النزول (¬5) أصحيح ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 393/604). (¬2) السير (11/ 369). (¬3) السير (11/ 370). (¬4) السير (11/ 376). (¬5) انظر تخريجه في مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ).

هو؟ فقال: نعم، فقال له بعض قواد عبد الله: يا أبا يعقوب، أتزعم أن الله ينزل كل ليلة؟ قال: نعم، قال: كيف ينزل؟ قال أثبته فوق، حتى أصف لك النزول، فقال له الرجل: أثبته فوق، فقال له إسحاق: قال الله تعالى: {وَجَاءَ ربك وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (¬1) فقال الأمير عبد الله بن طاهر: يا أبا يعقوب هذا يوم القيامة، فقال إسحاق: أعز الله الأمير، ومن يجيء يوم القيامة، من يمنعه اليوم؟. (¬2) - عن الترمذي: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: اجتمعت الجهمية إلى عبد الله بن طاهر يوما فقالوا له: أيها الأمير، إنك تقدم إسحاق وتكرمه وتعظمه، وهو كافر يزعم أن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة ويخلو منه العرش. قال: فغضب عبد الله وبعث إلي، فدخلت عليه وسلمت، فلم يرد علي السلام غضبا ولم يستجلسني، ثم رفع رأسه وقال لي: ويلك يا إسحاق، ما يقول هؤلاء؟ قال: قلت لا أدري، قال: تزعم أن الله سبحانه وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا في كل ليلة ويخلو من العرش؟ فقلت أيها الأمير، لست أنا قلته، قاله النبي - صلى الله عليه وسلم -: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن إسحاق، عن الأغر بن مسلم أنه قال: أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ينزل الله إلى سماء الدنيا في كل ليلة فيقول: من ¬

(¬1) الفجر الآية (22). (¬2) مجموع الفتاوى (5/ 375).

يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له" (¬1) ولكن مرهم يناظروني. قال: فلما ذكرت له النبي - صلى الله عليه وسلم - سكن غضبه، وقال لي: اجلس، فجلست. فقلت: مرهم أيها الأمير يناظروني. قال: ناظروه، قال فقلت لهم: يستطيع أن ينزل ولا يخلو منه العرش أم لا يستطيع؟ قال: فسكتوا وأطرقوا رؤوسهم، فقلت: أيها الأمير مرهم يجيبوا، فسكتوا. فقال: ويحك يا إسحاق ماذا سألتهم، قال: قلت: أيها الأمير قل لهم: يستطيع أن ينزل ولا يخلو منه العرش أم لا؟ قال: فإيش هذا؟ قلت: إن زعموا أنه لا يستطيع أن ينزل إلا أن يخلو منه العرش؟ فقد زعموا أن الله عاجز مثلي ومثلهم، وقد كفروا. وإن زعموا أنه يستطيع أن ينزل ولا يخلو منه العرش، فهو ينزل إلى السماء الدنيا كيف يشاء، ولا يخلو منه المكان. (¬2) - وروي عن إسحاق بن إبراهيم قال: قال لي الأمير عبد الله بن طاهر: يا أبا يعقوب، هذا الحديث الذي ترويه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا" كيف ينزل؟ قال: قلت: أعز الله الأمير لا يقال لأمر الرب كيف؟ إنما ينزل بلا كيف. (¬3) - وجاء في أصول الاعتقاد: أن عبد الله بن طاهر قال لإسحاق بن راهويه: ما هذه الأحاديث التي يحدث بها أن الله عز وجل ينزل إلى سماء الدنيا، والله يصعد وينزل، قال: فقال له إسحاق: تقول إن الله يقدر على أن ¬

(¬1) أخرجه من حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما: أحمد (2/ 383) ومسلم (1/ 523/758 (172)) والنسائي في الكبرى (6/ 124/10315). (¬2) مجموع الفتاوى (5/ 387 - 389). (¬3) درء التعارض (2/ 27).

ينزل ويصعد ولا يتحرك؟ قال: نعم، قال: فلم تنكر. (¬1) - وجاء في مجموع الفتاوى: قال عبد الرحمن: والصحيح مما جرى بين إسحاق وعبد الله بن طاهر ما أخبرنا أبي، ثنا أبو عثمان عمرو بن عبد الله البصري، ثنا محمد بن حاتم، سمعت إسحاق بن إبراهيم بن مخلد يقول: قال لي عبد الله بن طاهر: يا أبا يعقوب، هذه الأحاديث التي تروونها في النزول -يعني وغير ذلك- ما هي؟ قلت: أيها الأمير، هذه أحاديث جاءت مجيء الأحكام والحلال والحرام، ونقلها العلماء، فلا يجوز أن ترد، هي كما جاءت بلا كيف. فقال عبد الله: صدقت، ما كنت أعرف وجوهها إلى الآن. (¬2) - عن إسحاق أنه قال: لا نزيل صفة مما وصف الله بها نفسه، أو وصفه بها الرسول عن جهتها، لا بكلام ولا بإرادة، إنما يلزم المسلم الأداء، ويوقن بقلبه أن ما وصف الله به نفسه في القرآن إنما هي صفاته، ولا يعقل نبي مرسل، ولا ملك مقرب تلك الصفات إلا بالأسماء التي عرفهم الرب عز وجل. فأما أن يدرك أحد من بني آدم تلك الصفات، فلا يدركه أحد. (¬3) - وفي أصول الاعتقاد عنه قال: من وصف الله فشبه صفاته بصفات أحد من خلق الله فهو كافر بالله العظيم، لأنه وصف لصفاته إنما هو استسلام لأمر الله، ولما سن الرسول. (¬4) - وفيه عنه قال: علامة جهم وأصحابه: دعواهم على أهل الجماعة ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (3/ 501/474). (¬2) مجموع الفتاوى (5/ 389). (¬3) نقله شيخ الإسلام من كتاب الفصول لشيخ الحرمين الكرجي. انظر مجموع الفتاوى (4/ 185). (¬4) أصول الاعتقاد (3/ 588/937).

وما أولعوا به من الكذب أنهم مشبهة، بل هم المعطلة، ولو جاز أن يقال لهم: هم المشبهة لاحتمل ذلك، وذلك أنهم يقولون: إن الرب تبارك وتعالى في كل مكان بكماله في أسفل الأرضين، وأعلى السموات، على معنى واحد، وكذبوا في ذلك ولزمهم الكفر. (¬1) - قال حرب بن إسماعيل الكرماني صاحب أحمد: قلت لإسحاق بن راهويه: قول الله عز وجل: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} (¬2) كيف تقول فيه؟ قال: حيث ما كنت فهو أقرب إليك من حبل الوريد، وهو بائن من خلقه. ثم قال: وأعلى كل شيء من ذلك وأثبته قول الله عز وجل: {الرحمن على العرش استوى} (¬3). (¬4) - وفي ذم الكلام: قلت لإسحاق هو على العرش بحد؟ قال نعم بحد. (¬5) - وفي درء التعارض: قال: أخبرنا المروزي قال: قال إسحاق بن إبراهيم بن راهويه: قال الله تبارك وتعالى: {الرَّحْمَنُ على الْعَرْشِ استوى} (¬6). إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى، ويعلم كل شيء في أسفل الأرض السابعة، وفي قعور البحار ورؤوس الآكام وبطون الأودية، وفي ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (3/ 588/938). (¬2) المجادلة الآية (7). (¬3) طه الآية (5). (¬4) السير (11/ 370) واجتماع الجيوش الإسلامية (208) وذم الكلام (263). (¬5) ذم الكلام (ص.263). (¬6) طه الآية (5).

كل موضع، كما يعلم علم ما في السماوات السبع وما فوق العرش، أحاط بكل شيء علما، فلا تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات البر والبحر ولا رطب ولا يابس إلا قد عرف ذلك كله وأحصاه، فلا تعجزه معرفة شيء عن معرفة غيره. (¬1) - وفي ذم الكلام: قال: لا يجوز الخوض في أمر الله كما يجوز الخوض في فعل المخلوقات، لقوله: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (¬2) ولا يجوز لأحد أن يتوهم على الله بصفاته وفعاله بفهم ما يجوز التفكر والنظر في أمر المخلوقين، وذلك أنه يمكن أن يكون الله عز وجل موصوفا بالنزول كل ليلة، إذا مضى ثلثها إلى السماء الدنيا كما يشاء، ولا يسأل كيف نزوله؟ لأن الخالق يصنع ما شاء كما يشاء. (¬3) - وفيه: قال الفضل بن محمد المروزي: سمعت إسحاق بن راهويه الحنظلي يقول في الحديث الذي يجيء القرآن يوم القيامة في صورة الرجل الشاب الشاحب (¬4) قال: إنما يجيء ثواب عمله، خيال كالرجل ليس خلق مخلوق. وجاء في الحديث: "الحجر الأسود يأتي يوم القيامة له عينان ¬

(¬1) درء التعارض (2/ 34 - 35). (¬2) الأنبياء الآية (23). (¬3) ذم الكلام (ص.261) والاستقامة (1/ 78) ومجموع الفتاوى (5/ 393). (¬4) أخرجه: ابن ماجه (2/ 1242/3781) قال في الزوائد: "إسناده صحيح رجاله ثقات". والحاكم (1/ 556) وصححه على شرط مسلم. وأخرجه مطولا أحمد (5/ 348) والدارمي (2/ 450 - 451) وابن أبي شيبة (10/ 492 - 493) كلهم من طريق بشير بن المهاجر عن عبد الله بن بريدة عن أبيه مرفوعا وبشير بن مهاجر صدوق لين الحديث كما في التقريب وله شاهد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أخرجه الطبراني في الأوسط (6/ 357 - 358/ 5760) وانظر الصحيحة (2829).

موقفه من المرجئة:

ولسان" (¬1) ولقد جاءنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دخل الرجل القبر أتاه عمله الصالح على أحسن صورة فيقول: أنا عملك الصالح" (¬2) إنما يجيء ثواب عمله وهو خيال، كيف ندرك صفة هذا بالعقول، وقد نهينا عن تكلف علم هذا وإنما علينا التعبد والاستسلام. (¬3) " التعليق: فيه رد على المؤولة المتكلفة المعارضة للنصوص بعقلها التائه. - آثاره في العقيدة السلفية: له تفسير ذكره شيخ الإسلام من ضمن التفاسير التي اعتنت بنقل عقيدة السلف وآثارهم الطيبة، رحمة الله عليه. (¬4) موقفه من المرجئة: - عن إسحاق بن منصور حدثهم قال: قال إسحاق بن راهويه: الإيمان ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (1/ 307) والترمذي (3/ 294/961) وحسنه. وابن ماجه (2/ 982/2944) وابن حبان (9/ 25 - 26/ 3712) وابن خزيمة (4/ 220/2735) من طريق ابن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعا. (¬2) جزء من حديث طويل للبراء بن عازب، أخرجه: أحمد (4/ 287 - 288) وأبو داود (5/ 114 - 116/ 4753) دون ذكر الشاهد. الحاكم في المستدرك (1/ 37 - 38) من طرق عن البراء به، ثم قال في آخره: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، فقد احتجا جميعا بالمنهال بن عمرو، وزاذان أبي عمر الكندي. وفي هذا الحديث فوائد كثيرة لأهل السنة وقمع للمبتدعة، ولم يخرجاه بطوله. قال البيهقي في كتابه 'إثبات عذاب القبر' (ص39): "هذا حديث كبير، صحيح الإسناد". (¬3) ذم الكلام (ص.262). (¬4) درء التعارض (2/ 22).

العباس بن الوليد النرسي (237 هـ)

قول وعمل يزيد وينقص حتى لا يبقى منه شيء. (¬1) - عن موسى بن هارون الحمال قال: أملى علينا إسحاق بن راهويه أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. (¬2) - عن إسحاق بن منصور حدثهم قال: قلت لإسحاق: هل الإيمان منتهى حتى نستطيع أن نقول المرء مستكمل الإيمان؟ قال: لا، لأن جميع الطاعة من الإيمان، فلا يمكن أن نشهد باستكمال لأحد إلا الأنبياء أو من شهد له الأنبياء بالجنة. لأن الأنبياء وإن كانوا أذنبوا فقد غفر ذلك الذنب قبل أن يخلقوا. (¬3) العباس بن الوليد النَّرْسِي (¬4) (237 هـ) العباس بن الوليد بن نصر الحافظ الإمام الحجة، أبو الفضل الباهلي النرسي البصري. سمع: حماد بن سلمة، وعبد الله بن جعفر المديني، وأبا عوانة، وحماد بن زيد، وعدة. وحدث عنه البخاري، ومسلم، والنسائي بواسطة، وآخرون. كان متقنا صاحب حديث. ذكره ابن حبان في كتاب 'الثقات'. وقال يحيى بن معين: رجل صدق. مات سنة سبع وثلاثين ومائتين. ¬

(¬1) السنة للخلال (3/ 582/1011). (¬2) مجموع الفتاوى (7/ 308). (¬3) السنة للخلال (3/ 569/973). (¬4) تهذيب الكمال (14/ 259 - 261) وميزان الاعتدال (2/ 386) وتاريخ الإسلام (حوادث 231 - 240/ص.211 - 212) والسير (11/ 27 - 28) والوافي بالوفيات (16/ 652) وتهذيب التهذيب (5/ 133 - 134).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: جاء في الإبانة بالسند إلى أبي بكر المروذي قال: سألت عباسا النرسي عن القرآن فقال: نحن ليس نقف، نحن نقول القرآن غير مخلوق. (¬1) يحيى بن سليمان الجُعْفِي (¬2) (237 هـ) يحيى بن سليمان بن يحيى بن سعيد بن مسلم بن عبيد أبو سعيد الجعفي الكوفي المقريء. سمع عبد العزيز الدراوردي، وأبا خالد الأحمر، وعبد الرحمن المحاربي، ووكيعا، وطائفة. وسمع منه: البخاري، والترمذي عن رجل عنه، ومحمد بن يحيى الذهلي، وآخرون. مات سنة سبع وثلاثين ومائتين. موقفه من المرجئة: عن إبراهيم بن شماس: سمعت يحيى بن سليمان يقول: الإيمان قول وعمل. (¬3) ¬

(¬1) الإبانة (1/ 12/301/ 82) وأصول الاعتقاد (2/ 360). (¬2) تهذيب الكمال (31/ 369 - 372) وميزان الاعتدال (4/ 382) وتهذيب التهذيب (11/ 227) وتاريخ الإسلام (حوادث 231 - 240/ص.399 - 400) (¬3) الإبانة (2/ 6/812/ 1105).

ابن حبيب الأندلسي المالكي (238 هـ)

ابن حبيب الأندلسي المالكي (¬1) (238 هـ) الإمام العلامة، فقيه الأندلس، عبد الملك بن حبيب بن سليمان بن هارون أبو مروان القرطبي المالكي. ولد في حياة الإمام مالك بعد السبعين ومائة. أخذ عن الغاز بن قيس، وعبد الملك بن الماجشون، ومطرف بن عبد الله اليساري، وأسد بن موسى، وعدة من أصحاب مالك والليث. حدث عنه بقي بن مخلد، ومحمد بن وضاح، ويوسف بن يحيى المغامي، وخلق. كان نحويا، عروضيا شاعرا، حافظا للأخبار والأنساب والأشعار، طويل اللسان، متصرفا في فنون العلوم. قال الذهبي: كان موصوفا بالحذق في الفقه كبير الشأن بعيد الصيت، كثير التصانيف إلا أنه في باب الرواية ليس بمتقن، بل يحمل الحديث تهورا كيف اتفق، وينقله وجادة وإجازة ولا يتعانى تحرير أصحاب الحديث. مات يوم السبت لأربع مضين من رمضان سنة ثمان وثلاثين ومائتين بعلة الحصى رحمه الله. موقفه من الرافضة: قال عبد الملك بن حبيب: من غلا من الشيعة إلى بغض عثمان والبراءة منه أدب أدبا شديدا، ومن زاد إلى بغض أبي بكر وعمر فالعقوبة عليه أشد، ويكرر ضربه، ويطال سجنه حتى يموت، ولا يبلغ به القتل إلا في سب النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) ¬

(¬1) تاريخ علماء الأندلس (1/ 269 - 272) وميزان الاعتدال (2/ 652 - 653) وتذكرة الحفاظ (2/ 537 - 538) وتاريخ الإسلام (حوادث 231 - 240/ص.258 - 261) والسير (12/ 102 - 107) ولسان الميزان (4/ 59 - 60) ومعجم المؤلفين (6/ 181 - 182). (¬2) الصارم المسلول (571 - 572).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: قال رحمه الله: وفتنة القبر وعذابه عند أهل السنة والإيمان بالله قوي ليس عندهم فيه شك، ومن كذب بذلك فهو من أهل التكذيب بالله، وإنما يكذب به الزنادقة الذين لا يؤمنون بالبعث، وقد طلع من كلامهم طرف رأيته دب في الناس، خفت عليهم من الضلال في دينهم وإيمانهم، فاحذروهم، فهم الذين قالوا: إن الأرواح تموت بموت الأجساد، إرادة التكذيب بعذاب القبر وبما بعده. (¬1) موقفه من الخوارج: - جاء في أصول السنة: عن عبد الملك رحمه الله أنه قال: السنة أن يصلى على كل من وحد الله، وإن مات سرفا على نفسه بالذنوب وإن كانت كبائر، إذا كان مستمسكا بالتوحيد مقرا بما جاء من عند الله، فإنه يصلى عليه، وإثمه على نفسه وحسابه على ربه، وهو عندنا مؤمن "بذنبه" إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له، ولا نخرجه بالذنوب من الإسلام ولا يوجب له بها النار حتى يكون الله الذي يحكم فيه بعلمه، ويصيره إلى حيث شاء من جنة أو نار، إلا أنا نرجو للمحسن ونخشى على المسيء المذنب. بهذا ندين الله وبه نوصي من اقتدى بنا وأخذ بهدينا، وهو الذي عليه أهل السنة وجمهور هذه الأمة. (¬2) - وعنه أنه قال: سمعت أهل العلم يقولون: لا بأس بالجهاد مع الولاة ¬

(¬1) رياض الجنة بتخريج أصول السنة لابن أبي زمنين (157). (¬2) رياض الجنة بتخريج أصول السنة لابن أبي زمنين (225).

زهير بن عباد (238 هـ)

وإن لم يضعوا الخمس موضعه، وإن لم يوفوا بعهد إن عاهدوا، ولو عملوا ما عملوا، ولو جاز للناس ترك الغزو معهم بسوء حالهم لاستذل الإسلام، وتخيفت أطرافه، واستبيح حريمه، ولعلا الشرك وأهله. (¬1) زهير بن عباد (¬2) (238 هـ) زهير بن عَبَّاد الرؤاسي ابن عم وكيع وكان يكنى أبا محمد سمع من: مالك بن أنس، وحفص بن ميسرة، وفضيل بن عياض. وسمع منه: محمد بن أحمد العريبي، والحسن بن الفرج الغزي، وجماعة منهم: أبو حاتم الرازي. وقال: ثقة. مات سنة ثمان وثلاثين ومائتين بمصر. موقفه من الجهمية: روى ابن أبي زمنين بسنده إلى زهير بن عباد أنه قال: كل من أدركت من المشايخ مالك وسفيان وفضيل وعيسى بن يونس وابن المبارك ووكيع ابن الجراح كانوا يقولون: الميزان حق. (¬3) بشر بن الوليد (¬4) (238 هـ) بشر بن الوليد بن خالد الإمام العلامة المحدث الصادق قاضي العراق ¬

(¬1) رياض الجنة بتخريج أصول السنة لابن أبي زمنين (289). (¬2) ميزان الاعتدال (2/ 83) تاريخ الإسلام (حوادث 231 - 240/ص.166 - 167) ولسان الميزان (2/ 492). (¬3) رياض الجنة بتخريج أصول السنة لابن أبي زمنين (157). (¬4) تاريخ بغداد (7/ 80 - 84) وميزان الاعتدال (1/ 32) وشذرات الذهب (2/ 89) والطبقات لابن سعد (7/ 355) والسير (10/ 673 - 676).

موقفه من الجهمية:

أبو الوليد الكندي. روى عن عبد الرحمن بن الغسيل ومالك بن أنس وحماد ابن زيد وصالح المري والقاضي أبي يوسف وعدة. روى عنه الحسن بن علويه وحامد بن شعيب البلخي وموسى بن هارون وأبو يعلى الموصلي وأبو القاسم البغوي وطائفة. قال الذهبي: كان حسن المذهب وله هفوة لا تزيل صدقه وخيره إن شاء الله ... وبلغنا أنه كان إماما، واسع الفقه، كثير العلم، صاحب حديث وديانة وتعبد. توفي سنة ثمان وثلاثين ومائتين. موقفه من الجهمية: قال الخلال في السنة: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يقول: سمعت بشر بن الوليد يقول: استتيب ابن أبي دؤاد من القرآن مخلوق في ليلة ثلاث مرات يتوب، ثم يرجع ليتوب ثم يرجع. (¬1) داود بن رُشَيْد الخَوَارِزْمِي (¬2) (239 هـ) الإمام الحافظ، الثقة داود بن رشيد الهاشمي مولاهم أبو الفضل الخوارزمي ثم البغدادي. سمع: أبا المليح الحسن بن عمر الرقي، وإسماعيل بن جعفر، وهشيم بن بشير، وإسماعيل بن عياش، وعدة. وحدث عنه مسلم، وأبو داود، وابن ماجه وأبو زرعة، وأبو حاتم، وعدد كثير. كان رحالا جوالا صاحب حديث. توفي في سابع شعبان سنة تسع وثلاثين ومائتين. ¬

(¬1) السنة للخلال (5/ 117) والسير (11/ 170). (¬2) طبقات ابن سعد (7/ 349) وتاريخ بغداد (8/ 367 - 368) وتهذيب الكمال (8/ 388 - 392) والسير (11/ 133 - 135) وتهذيب التهذيب (3/ 184 - 185).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: جاء في الإبانة عنه قال: من زعم أن القرآن كلام الله وقال: لا أقول مخلوق ولا غير مخلوق، فهذا يزعم أن الله عز وجل لم يتكلم ولا يتكلم. (¬1) عثمان بن أبي شَيْبَة (¬2) (239 هـ) عثمان بن محمد بن أبي شيبة، الإمام الحافظ أبو الحسن الكوفي. حدث عن شريك، وأبي الأحوص، وجرير بن عبد الحميد، وسفيان بن عيينة. روى عنه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه. سئل عنه أحمد بن حنبل فأثنى عليه، وقال: ما علمت إلا خيرا. وقال يحيى بن معين: ثقة مأمون. توفي سنة تسع وثلاثين ومائتين. موقفه من المبتدعة: عن محمد بن محمد بن الصديق البزار سمعت عثمان بن أبي شيبة يقول: فساق أهل الحديث خير من عباد غيرهم. (¬3) موقفه من الجهمية: - جاء في السنة لعبد الله عن عثمان بن أبي شيبة قال: القرآن كلام الله وليس بمخلوق. وسمعت عثمان مرة أخرى يقول: من لم يقل القرآن كلام الله ¬

(¬1) الإبانة (2/ 12/314/ 114) والسنة للخلال (5/ 137). (¬2) السير (11/ 151 - 154) وتهذيب الكمال (19/ 478 - 487) وتهذيب التهذيب (7/ 149) وتاريخ بغداد (11/ 283) وميزان الاعتدال (3/ 35 - 39) وشذرات الذهب (2/ 92). (¬3) ذم الكلام (44).

إبراهيم بن يوسف (239 هـ)

وليس بمخلوق فهو عندي شر من هؤلاء، يعني الجهمية. (¬1) - جاء في الإبانة بالسند إلى محمد بن عبد الملك قال: سمعت عثمان بن أبي شيبة يقول: الواقفة شر من الجهمية بعشرين مرة، هؤلاء شكوا في الله. (¬2) إبراهيم بن يوسف (¬3) (239 هـ) إبراهيم بن يوسف بن ميمون الباهلي البلخي الماكياني أبو إسحاق الحافظ الكبير. حدث عن حماد بن زيد ومالك وشريك وهشيم وطبقتهم. وحدث عنه النسائي وجعفر بن محمد بن سوار ومحمد بن عبد الله الدويري وزكريا بن يحيى خياط السنة وخلق كثير. قال ابن حبان: كان ظاهر مذهبه الإرجاء واعتقاده في الباطن السنة. قال الذهبي: قال أبو يعلى الخليلي: روى إبراهيم بن يوسف عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال: كل مسكر خمر. ولم يسمع منه غيره. وذلك أنه حضر، وقتيبة حاضر، فقال لمالك: هذا مرجيء، فأقيم من المجلس، فوقع له بهذا عداوة مع قتيبة. إلا أنه مما عساه -إن شاء الله- أن يبرئه من إرجائه هذا ما رواه ابن حبان نفسه في الثقات قال: سمعت أحمد بن محمد بن الفضل يقول: سمعت محمد بن داود الفوعي يقول: حلفت ألا أكتب إلا عمن يقول: ¬

(¬1) السنة لعبد الله (33) وأصول الاعتقاد (2/ 293 - 294/ 458) والسنة للخلال (5/ 141). (¬2) الإبانة (2/ 12/290 - 291/ 59) ونحوه في الشريعة (1/ 233/205). (¬3) تهذيب الكمال (2/ 251 - 255) والميزان (1/ 72) وتذكرة الحفاظ (2/ 452 - 454) والسير (11/ 62 - 63) والوافي بالوفيات (6/ 172) والثقات لابن حبان (8/ 76).

موقفه من الجهمية:

الإيمان قول وعمل، فأتيت إبراهيم بن يوسف فأخبرته. فقال: اكتب عني، فإني أقول: الإيمان قول وعمل. مات في جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين ومائتين. موقفه من الجهمية: قال محمد بن محمد بن الصديق: سمعته يقول: القرآن كلام الله، من قال: مخلوق، فهو كافر. ومن وقف فهو جهمي. (¬1) أبو ثَوْر (¬2) (240 هـ) إبراهيم بن خالد الإمام الحافظ الحجة المجتهد مفتي العراق أبو ثور الكلبي البغدادي الفقيه ويكنى أيضا أبا عبد الله. روى عن ابن عيينة وابن مهدي والشافعي وأبي معاوية الضرير ووكيع بن الجراح وسعيد بن منصور ويزيد بن هارون وعدة. روى عنه أبو داود وابن ماجه وأبو حاتم الرازي ومسلم خارج الصحيح وقيل في المقدمة وأبو القاسم البغوي ومحمد بن إسحاق السراج وطائفة. قال أبو بكر الأعين: سألت أحمد بن حنبل عنه فقال: أعرفه بالسنة منذ خمسين سنة، وهو عندي في مسلاخ سفيان الثوري. قال ابن حبان: كان أحد أئمة الدنيا فقها وعلما وورعا وفضلا، صنف الكتب، وفرع على السنن ¬

(¬1) السير (11/ 63) وتذكرة الحفاظ (2/ 454). (¬2) الجرح والتعديل (1/ 97 - 98) وتاريخ بغداد (6/ 65 - 69) ووفيات الأعيان (1/ 26) وتذكرة الحفاظ (2/ 512 - 513) وميزان الاعتدال (1/ 29 - 30) والوافي بالوفيات (5/ 344) والبداية والنهاية (10/ 337) وتهذيب التهذيب (1/ 118 - 119) وشذرات الذهب (2/ 92 - 94) والسير (12/ 72 - 76).

موقفه من المبتدعة:

وذب عنها رحمه الله تعالى. توفي سنة أربعين ومائتين. موقفه من المبتدعة: عن أبي بكر بن الجنيد، سمعت أبا ثور يقول: لولا أن الله مَنَّ علي بالشافعي للقيت الله وأنا ضال. قدم علينا وأنا أظن الله لم يعبده أحد بغير مذهب الرأي، قال الشافعي: وضع الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأهل دينه موضع الإبانة من كتاب الله مع ما أراد، وفرض طاعته فقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (¬1)، فليس لمفت أن يفتي ولا لحاكم أن يحكم حتى يكون عالما بهما ولا يخالفهما ولا واحدا منهما، وإلا فهو عاص وحكمه مردود، وإن لم يجدهما منصوصين فالاجتهاد أن يطلبهما. (¬2) موقفه من الجهمية: جاء في أصول الاعتقاد: سئل أبو ثور عن ألفاظ القرآن فقال: هذا مما يسعك جهله، والله لا يسألك عز وجل عن هذا. فلا تتكلموا فيه فإن من زعم أن كلامه بالقرآن مخلوق فقد وافق اللفظيين لأنه إذا سمع منك القرآن فزعمت أنه لفظك فقد زعمت أن القرآن مخلوق ولأنك تزعم أن لفظك بالقرآن مخلوق فقد أجبت القوم أنه مخلوق. (¬3) موقفه من المرجئة: عن إدريس بن عبد الكريم المقري قال: سأل رجل من أهل خراسان أبا ¬

(¬1) النساء الآية (80). (¬2) ذم الكلام (110). (¬3) أصول الاعتقاد (2/ 392 - 393/ 603).

ثور عن الإيمان؟ وما هو؟ يزيد وينقص؟ وقول هو؟ أو قول وعمل؟ وتصديق وعمل؟ فأجابه أبو ثور بهذا، فقال أبو ثور: سألت رحمك الله، وعفا عنك عن الإيمان ما هو؟ يزيد وينقص؟ وقول هو؟ أو قول وعمل وتصديق وعمل؟. فأخبرك بقول الطوائف واختلافهم: فاعلم يرحمنا الله وإياك أن الإيمان تصديق بالقلب والقول باللسان وعمل بالجوارح. وذلك أنه ليس بين أهل العلم خلاف في رجل لو قال: أشهد أن الله عز وجل واحد وأن ما جاءت به الرسل حق وأقر بجميع الشرائع، ثم قال: ما عقد قلبي على شيء من هذا ولا أصدق به؛ أنه ليس بمسلم، ولو قال المسيح هو الله وجحد أمر الإسلام، وقال لم يعتقد قلبي على شيء من ذلك أنه كافر بإظهار ذلك وليس بمؤمن، فلما لم يكن بالإقرار إذا لم يكن معه التصديق مؤمنا ولا بالتصديق إذا لم يكن معه الإقرار مؤمنا حتى يكون مصدقا بقلبه مقرا بلسانه. فإذا كان تصديق بالقلب وإقرار باللسان، كان عندهم مؤمنا، وعند بعضهم لا يكون حتى يكون مع التصديق عمل، فيكون بهذه الأشياء إذا اجتمعت مؤمنا. فلما نفوا أن الإيمان شيء واحد وقالوا: يكون بشيئين في قول بعضهم وثلاثة أشياء في قول غيرهم لم يكن مؤمنا إلا بما اجتمعوا عليه من هذه الثلاثة الأشياء. وذلك أنه إذا جاء بالثلاثة أشياء فكلهم يشهد أنه مؤمن، فقلنا بما اجتمعوا عليه من التصديق بالقلب والإقرار باللسان وعمل بالجوارح، فأما الطائفة التي زعمت أن العمل ليس من الإيمان، فيقال لهم: ما أراد الله عز وجل من العباد إذ قال

موقفه من القدرية:

لهم: {وأقيموا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزكاة} (¬1) الإقرار بذلك؟ أو الإقرار والعمل؟ فإن قالت: إن الله أراد الإقرار ولم يرد العمل فقد كفرت عند أهل العلم، من قال: إن الله لم يرد من العباد أن يصلوا ولا يؤتوا الزكاة. فإن قالت: أراد منهم الإقرار والعمل، قيل: فإذا أراد منهم الأمرين جميعا لم زعمتم أن يكون مؤمنا بأحدهما دون الآخر؟ وقد أرادهما جميعا. أرأيتم لو أن رجلا قال: أعمل جميع ما أمر الله، ولا أقر به، أيكون مؤمنا؟ فإن قالوا لا، قيل لهم: فإن قال: أقر بجميع ما أمر الله به ولا أعمل منه شيئا أيكون مؤمنا؟ فإن قالوا: نعم. قيل: لهم ما الفرق؟ وقد زعمتم أن الله عزوجل أراد الأمرين جميعا؟ فإن جاز أن يكون بأحدهما مؤمنا إذا ترك الآخر، جاز أن يكون بالآخر إذا عمل ولم يقر مؤمنا. لا فرق بين ذلك. فان احتج فقال: لو أن رجلا أسلم، فأقر بجميع ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -، أيكون مؤمنا بهذا الإقرار قبل أن يجيء وقت عمل؟ قيل له: إنما نطلق له الاسم بتصديقه أن العمل عليه بقوله، أن يعمله في وقته إذا جاء وليس عليه في هذا الوقت الإقرار بجميع ما يكون به مؤمنا، وقال: أقر ولا أعمل لم نطلق له اسم الإيمان. (¬2) موقفه من القدرية: جاء في أصول الاعتقاد: عن إدريس بن عبد الكريم، أرسل رجل من أهل خراسان بكتاب يسأل أبا ثور فأجاب، سألتم رحمكم الله عن القدرية ¬

(¬1) البقرة الآية (43). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 931 - 933/ 1590).

قتيبة بن سعيد (240 هـ)

من هم؟ فالقدرية من قال: إن الله لم يخلق أفاعيل العباد وإن المعاصي لم يقدرها على العباد، ولم يخلقها، فهؤلاء قدرية لا يصلى خلفهم، ولا يعاد مريضهم، ولا تشهد جنائزهم، ويستتابون من هذه المقالة، فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم، وذلك أن الله خالق كل شيء، وقال: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بقدر} (¬1) فمن زعم أن شيئا ليس بمخلوق من أفاعيل العباد كان ذلك ضالا، وذلك يزعم أنه يخلق فعله. والأشياء على معنيين: إما عرض وإما جسم، فمن زعم أنه يخلق جسما أو عرضا فقد كفر. (¬2) قُتَيْبَة بن سعيد (¬3) (240 هـ) قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف شيخ الإسلام، المحدث الإمام الثقة الجوال راوية الإسلام، أبو رجاء الثقفي مولاهم البلخي البغلاني، قيل إن جده جميلا كان مولى للحجاج بن يوسف الثقفي. روى عن حماد بن زيد وحاتم ابن إسماعيل وإسماعيل بن جعفر وحميد بن عبد الرحمن الرؤاسي وداود بن عبد الرحمن العطار وخلق سواهم. روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والذهلي وأحمد بن حنبل وعدة. قال الخطيب: كان ثبتا ¬

(¬1) القمر الآية (49). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 795 - 796/ 1331) (¬3) طبقات ابن سعد (7/ 379) والجرح والتعديل (7/ 140) والسير (11/ 13 - 24) وتاريخ بغداد (12/ 464 - 470) وتهذيب الكمال (23/ 523 - 537) وتهذيب التهذيب (8/ 358 - 361) وشذرات الذهب (2/ 94 - 95) وتذكرة الحفاظ (2/ 446 - 447).

موقفه من المبتدعة:

فيما روى، صاحب سنة وجماعة. توفي سنة أربعين ومائتين. موقفه من المبتدعة: - جاء في شرف أصحاب الحديث عن قتيبة بن سعيد قال: إذا رأيت الرجل يحب أهل الحديث مثل يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه -وذكر قوما آخرين- فإنه على السنة، ومن خالف هذا فاعلم أنه مبتدع. (¬1) - وقال: أحمد بن حنبل إمامنا، من لم يرض به فهو مبتدع. (¬2) " التعليق: وكان من بعده شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ثم في هذا الزمان الشيخ حامد الفقي، والشيخ ناصر الألباني والشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وغيرهم مما يكثر عده كثرهم الله وجعلنا من محبيهم. موقفه من الجهمية: - قال الخلال في السنة: أخبرنا سليمان، قال: سمعت قتيبة يقول: بشر المريسي كافر. (¬3) - وقال أيضا: أخبرنا أبو داود السجستاني قال: سمعت قتيبة قال: ¬

(¬1) شرف أصحاب الحديث (71 - 72) وأصول الاعتقاد (1/ 74/59) وذم الكلام (261). (¬2) طبقات الحنابلة (1/ 15). (¬3) السنة للخلال (5/ 103) والإبانة (2/ 13/102/ 343) والميزان (1/ 323).

الواقفة جهمية. وسمعت قتيبة قيل له الواقفة؟ فقال: الواقفة شر من هؤلاء (يعني: ممن قال القرآن مخلوق). (¬1) - وفي ذم الكلام عنه قال: إذا قال الرجل: المشبهة، فاحذروه، فإنه يرى رأي جهم. (¬2) " التعليق: لقد تفطن السلف إلى حيل المبتدعة وعرفوها، فلذا حذروا منها وجعلوا لمن ينتحلها علامات إذا رأوها منه. وكما يقال: التاريخ يعيد نفسه، فمن قال الآن: وهابية أو أتباع ابن تيمية وابن القيم أو مجسمة وما أشبه ذلك، فاعلم أنه مبتدع ضال، قصده الطعن فيمن رد الناس إلى عقيدة السلف. - وفي أصول الاعتقاد: عنه قال: قول الأئمة المأخوذ به في الإسلام والسنة، الإيمان بالرؤية والتصديق بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرؤية. (¬3) - وفي السير واجتماع الجيوش الإسلامية: عن أبي العباس السراج قال: سمعت قتيبة بن سعيد يقول: هذا قول الأئمة في الإسلام وأهل السنة والجماعة، نعرف ربنا عز وجل في السماء السابعة على عرشه. كما قال تعالى: {الرحمن على العرش استوى} (¬4). (¬5) ¬

(¬1) السنة للخلال (5/ 140) والإبانة (1/ 12/299/ 78) والشريعة (1/ 233/205). (¬2) ذم الكلام (ص.257). (¬3) أصول الاعتقاد (3/ 561/886). (¬4) طه الآية (5). (¬5) السير (11/ 20) واجتماع الجيوش الإسلامية (ص.212).

موقفه من المرجئة:

موقفه من المرجئة: جاء في السير: وقيل: كان سبب نزوح قتيبة من مدينة بلخ، وانقطاعه بقرية بغلان، أنه حضر عنده مالك، وجاءه إبراهيم بن يوسف البلخي للسماع، فبرز قتيبة، وقال: هذا من المرجئة، فأخرجه مالك من مجلسه -وكان لإبراهيم صورة كبيرة ببلده- فعادى قتيبة، وأخرجه. (¬1) سُحْنُون (¬2) (240 هـ) عبد السلام بن سعيد بن حبيب بن حسان الإمام العلامة فقيه المغرب أبو سعيد التنوخي الحمصي الأصل، المغربي القيرواني، قاضي القيروان، وصاحب 'المدونة' ويلقب بـ "سحنون" بفتح السين وضمها، وهو اسم طائر بالمغرب، يوصف بالفطنة والتحرز. سمع من سفيان بن عيينة وعبد الله بن وهب وابن القاسم ووكيع بن الجراح وأشهب والوليد بن مسلم وطائفة. أخذ عنه ولده محمد فقيه القيروان وأصبغ بن خليل القرطبي وبقي بن مخلد وعيسى بن مسكين وسعيد بن نمر الغافقي وعدة. قال يونس بن عبد الأعلى: سحنون سيد أهل المغرب. وقال أشهب: ما قدم علينا مثل سحنون. من أقواله: أكل بالمسكنة، ولا أكل بالعلم. محب الدنيا أعمى لم ينوره العلم. ما أقبح بالعالم أن يأتي الأمراء، والله ما دخلت على السلطان إلا وإذا خرجت ¬

(¬1) السير (11/ 20). (¬2) وفيات الأعيان (3/ 180 - 182) وترتيب المدارك (1/ 339 - 363) ورياض النفوس (1/ 345 - 375) والديباج المذهب (2/ 30 - 40) والسير (12/ 63 - 69) وتاريخ الإسلام (حوادث 231 - 240/ص.247 - 249).

موقفه من المبتدعة:

حاسبت نفسي، فوجدت عليها الدرك، وأنتم ترون مخالفتي لهواه، وما ألقاه به من الغلظة، والله ما أخذت ولا لبست لهم ثوبا. توفي سنة أربعين ومائتين. موقفه من المبتدعة: - وسئل سحنون: أيسع العالم أن يقول: لا أدري فيما يدري؟ قال: أما ما فيه كتاب أو سنة ثابتة فلا، وأما ما كان من هذا الرأي، فإنه يسعه ذلك لأنه لا يدري أمصيب هو أم مخطئ. (¬1) - وعنه قال: إني لأخرج من الدنيا، ولا يسألني الله عن مسألة قلت فيها برأيي، وما أكثر ما لا أعرف. (¬2) - قال سحنون بن سعيد: ما أدري ما هذا الرأي؟ سُفكت به الدماء، واستحلت به الفروج، واستحقت به الحقوق، غير أنا رأينا رجلا صالحا فقلدناه. (¬3) - وعن يحيى بن عون: قال: دخلت مع سحنون على ابن القصار وهو مريض فقال: ما هذا القلق؟ قال له: الموت والقدوم على الله. قال له سحنون: ألست مصدقا بالرسل والبعث والحساب والجنة والنار، وأن أفضل هذه الأمة أبو بكر ثم عمر، والقرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله يرى يوم القيامة، وأنه على العرش استوى، ولا تخرج على الأئمة بالسيف، وإن جاروا. قال: إي والله، فقال: مت إذا شئت، مت إذا شئت. (¬4) ¬

(¬1) السير (12/ 65). (¬2) السير (12/ 69). (¬3) إعلام الموقعين (1/ 79). (¬4) السير (12/ 67).

موقفه من الرافضة:

موقفه من الرافضة: قال العتبي وسئل سحنون عمن قال: إن جبريل أخطأ بالوحي، وإنما كان لعلي ابن أبي طالب إلا أن جبريل أخطأ الوحي، هل يستتاب أو يقتل ولا يستتاب؟ قال: بل يستتاب، فإن تاب وإلا قتل: قيل: فإن شتم أحدا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر وعمر أو عثمان أو علي أو معاوية أو عمرو بن العاص؟ فقال لي: أما إذا شتمهم فقال إنهم كانوا على ضلال وكفر، قتل، وإن شتمهم بغير هذا كما يشتم الناس رأيت أن ينكل نكالا شديدا. (¬1) موقفه من الجهمية: لم تقف بدعة الجهمية في المشرق، بل تجاوزت إلى المغرب، وتبناها الكثير من ضعفاء العقول والجهلة بالأثر والفقه السلفي، وحكام مغرضون وافقت أهواءهم، وقاموا بنفس الامتحان الذي قام به حكام المشرق. ولكن وجدوا الجبال الراسيات، التي ثبتها الله، زيادة على مشربهم السلفي، فرحمة الله على الجميع. وقد ذكر القاضي عياض في 'ترتيب المدارك' جملة كبيرة من هذا النموذج، وكذلك الدباغ في 'معالم الإيمان في تاريخ القيروان' وأبو العرب والخشني وغيرهم، مما لو جمع لكان جيشا كبيرا سلفيا، وقد أخذت بعض النماذج في هذا البحث المبارك، ولعل الله يطيل في العمر ونكمل الباقي إن شاء الله. وإليكم الإمام الكبير سحنون بن سعيد. - جاء في معالم الإيمان: قال غير واحد من العلماء بالأثر: كان ¬

(¬1) رياض الجنة بتخريج أصول السنة لابن أبي زمنين (308 - 309).

سحنون قد حضر جنازة وهب -وكان أخاه من الرضاعة- فتقدم ابن أبي الجواد الذي كان قاضيا قبله -وكان يذهب إلى رأي الكوفيين، ويقول بالمخلوق- فصلى عليها، فرجع سحنون ولم يصل خلفه، فبلغ ذلك الأمير "زيادة الله"، فأمر أن يوجه إلى عامل القيروان أن يضرب سحنونا خمسمائة سوط، ويحلق رأسه ولحيته، فبلغ ذلك وزيره علي بن حميد فأمر الوزير أن يتوقف، وتلطف حتى دخل على الأمير وقت القائلة، وقد نام، فقال له: ما شيء بلغني في كذا؟ قال: نعم، قال: لا تفعل، فإن الغير إنما هلك بضربه البهلول بن راشد، فقال: وهذا مثل بهلول؟ قال: نعم، وقد حبست البريد شفقة على الأمير، فشكره ولم ينفذ أمره. وبينما سحنون يقرئ الناس إذ أتاه الخبر بما أراح الله منه، وقيل له: لو ذهبت إلى علي بن حميد فشكرته؟ قال: لا أفعل، قيل له: لو وجهت ابنك لذلك؟ فأبى، قال: ولكني أحمد الله الذي حرك ابن حميد لهذا، فهو أولى بالشكر، وأقبل على إسماعه، فقال له قوم من أصحابه: لهذا كتب والله اسمك بالحبر على الرقوق. قال ابن وضاح: كنت عند سحنون فجاء إنسان فساره شيئا، فتغير لونه، ثم جاءه آخر فساره فرجعت إليه نفسه، ثم قال: لم أبلغ أنا مبلغ من ضرب، إنما يضرب مثل مالك وابن المسيب. ولما ولي أحمد بن الأغلب الإمارة، وأخذ الناس بالمحنة بالقرآن، وخطب به بالقيروان، توجه سحنون إلى عبد الرحيم الزاهد بقصر زياد فارا، فكان عنده، فوجه في طلبه إلى هنالك رجلا يقال له:

ابن السلطان، وكان مبغضا في سحنون بغضا عظيما، اختاره لذلك في خيل وجهها معه. فلما وصل إلى سحنون قال له ابن السلطان: وجهني الأمير إليك، وقصدني لبغضي فيك، لأبلغ منك، وقد حالت نيتي عن ذلك، وأنا أبذل دمي دون دمك، فاذهب حيث شئت من البلاد أو أقم، فأنا معك. فشكره سحنون وقال: ما كنت أعرضك لهذا، بل أذهب معك. فخرج وشيعه أصحابه، وقال عبد الرحيم للرسول: قل للأمير: أوحشتنا من صاحبنا وأخينا في هذا الشهر العظيم، -وكان شهر رمضان- سلبك الله ما أنت فيه وأوحشك. وفي رواية عارضتني في ضيفي، فوالله لأعرضنك على رب العالمين. فلما وصل إلى الأمير، جمع له قواده وقاضيه ابن أبي الجواد وغيره، وسأله عن القرآن، فقال سحنون: أما شيء أبتدئه من نفسي فلا، ولكن سمعت من تعلمت منه وأخذت عنه كلهم يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق، فقال ابن أبي الجواد: كفر اقتله، ودمه في عنقي، وقال غيره مثله ممن يرى رأيه وقال بعضهم: يقطع أرباعا ويجعل كل ربع بموضع من المدينة. ويقال هذا جزاء من لم يقل بكذا. فقال الأمير لداود بن حمزة: ما تقول أنت؟ قال: قتله بالسيف راحة، ويقال إن قائل هذا علي بن حميد ومحمد بن أحمد الحضرمي ورجال السنة من أصحاب السلطان، ولكن اقتله قتل الحياة، تأخذ عليه الضمناء وينادى عليه بسماط القيروان أن لا يفتي ولا يسمع أحدا ويلزم داره ففعل ذلك وأخذ عليه عشرة حملاء، ويقال إن ابن أبي الجواد هو الذي أمر بأخذ الحملاء عليه. قال سهل: فدخلت عليه ومعي دراهم أشتري بها ثيابي من الحرس إن أخذوني، فعافاني الله فقلت: البدعة فاشية، وأهلها أعزاء، فقال لي: أما علمت

أن الله إذا أراد قطع بدعة أظهرها، وما كان إلا زمن قليل ومات الأمير. (¬1) " التعليق: هكذا يكرم الله عباده الصالحين بالنجاة من الظالمين، فيهيئ لذلك من الأسباب والأشخاص ما لا يدخل في حساب الناجي. وهذا الإمام سحنون الذي خلد الله ذكره في الأولين والآخرين، يثبت على عقيدة السلف، ويقف سدا منيعا أمام دعاة الجهمية؛ حكام وعلماء سوء والكل يسبحون في بحر من الضلال والجهل، وسحنون هذا، كان في وقته بمنزلة الإمام أحمد وأمثاله، فلو أجاب إلى هذه البدعة لأجاب كل علماء السلف الذين بإفريقية، ولكن جعل نفسه فداء لعقيدة السلف كما سبقه إلى ذلك جبال راسيات من السلفيين الأخيار، رحمهم الله، وجعلهم في أعلى عليين، وجعلنا وشباب العالم الإسلامي على منهاجهم، إنه سميع مجيب. - وفي نقض المنطق للحافظ ابن تيمية: قال سحنون: من العلم بالله السكوت عن غير ما وصف به نفسه. (¬2) ¬

(¬1) معالم الإيمان (2/ 93 - 95). (¬2) نقض المنطق (ص.5).

عبد العزيز بن يحيى الكناني (240 هـ)

عبد العزيز بن يحيى الكِنَاني (¬1) (240 هـ) عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز بن مسلم بن ميمون الكناني المكي الفقيه صاحب كتاب 'الحيدة' وكان يلقب بالغول لدمامة منظره. روى عن سفيان بن عيينة ومروان بن معاوية الفزاري وعبد الله بن معاذ الصنعاني والشافعي وهشام بن سليمان المخزومي. روى عنه أبو العيناء محمد بن القاسم والحسين بن الفضل البجلي وأبو بكر يعقوب بن إبراهيم التيمي. قال الخطيب: قدم بغداد زمن المأمون، وجرى بينه وبين بشر المريسي مناظرة في القرآن، وكان من أهل العلم والفضل. توفي سنة أربعين ومائتين. موقفه من الجهمية: - آثاره في العقيدة السلفية: 1 - كتاب الحيدة: هذا شخص مبارك يعرفه من قرأ له كتابه 'الحيدة' وهو من أروع الكتب التي حملت قوة علم السلفيين، وشجاعتهم، وقوة ثباتهم وعدم مبالاتهم بالسلطان المبتدع الضال، ومن قرأ الكتاب يتبين له جهل المبتدعة بالمعقول والمنقول، وأن سلاحهم الوحيد في نشر بدعهم هو الحيلة والمكر والروغان المستمر، وعدم معرفتهم بباطلهم والرجوع إلى الحق. ولما لهذا الكتاب من مكانة في العقيدة السلفية، حاول أعداء هذه المدرسة الطعن في الشخص والكتاب، ولكن كما قال الشاعر: ¬

(¬1) ميزان الاعتدال (2/ 639) وتاريخ بغداد (10/ 449 - 450) وشذرات الذهب (2/ 95) وتهذيب التهذيب (6/ 363 - 364).

كناطح صخرة يوما ليوهنها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل وكما قال آخر: وهل حط قدر البدر عند طلوعه ... إذا ما الكلاب أنكرته فهرت وما إن يضر البحر إن قام أحمق ... على شطه يرمي إليه بصخرة 2 - الرد على الجهمية: نقل منه الإمام ابن القيم في اجتماع الجيوش، وذكره شيخ الإسلام في درء التعارض وغيره. وهذا نموذج منه: باب قول الجهمي في قوله: {الرحمن على العرش استوى} (¬1)، زعمت الجهمية أن معنى استوى استولى، من قول العرب استوى فاطن على مصر، يريدون استولى عليها، قال: فيقال له: هل يكون خلق من خلق الله أتت عليه مدة ليس بمستول عليه؟ فإذا قال: لا، قيل له: فمن زعم ذلك فهو كافر، فيقال له: يلزمك أن تقول: إن العرش أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه، وذلك لأنه أخبر أنه سبحانه خلق العرش قبل السموات والأرض ثم استوى عليه بعد خلقهن، فيلزمك أن تقول المدة التي كان العرش قبل خلق السموات والأرض ليس الله تعالى بمستول عليه فيها، ثم ذكر كلاما طويلا في تقرير العلو والاحتجاج عليه. (¬2) ¬

(¬1) طه الآية (5). (¬2) اجتماع الجيوش (ص.203).

- مناظرته لبشر بن غياث المريسي: عن عبد العزيز بن يحيى المكي الكناني: أرسل لي أمير المؤمنين المأمون فأحضرني، وأحضر بشر بن غياث المريسي فدخلنا عليه، فلما جلسنا بين يديه، قال: إن الناس قد أحبوا أن تجتمعا وتتناظرا، فأردت أن يكون ذلك بحضرتي، فَأَصِّلا فيما بينكما أصلا إن اختلفتما في فرع رجعتما إلى الأصل، فإن انقضى فيما بينكما أمره إلا كانت لكما عودة. قال عبد العزيز: قلت: يا أمير المؤمنين، إني رجل لم يسمع أمير المؤمنين كلامي قبل هذا اليوم، وقد سمع كلام بشر ودار في مسامعه، فصار دقيق كلامه جليلا عند أمير المؤمنين وفي بعض كلامي دقة، فإن رأى أمير المؤمنين أن أتكلم، فأقدم من كلامي شيئا يتبين به الكلمة التي تدق على سامعها ولا تغبى إذا طرت على أهل المجلس، قال: ونزهته أن أواجهه بها. فقال: قل يا عبد العزيز. قال: قلت: يا أمير المؤمنين، إنه من ألحد في كتاب الله جاحدا أو زائدا، لم يناظر بالتأويل ولا بالتفسير ولا بالحديث. قال: فبم يناظر؟ قلت له: بالتنزيل. قال الله عزوجل لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} (¬1) وقال: {إِنَّمَا أنذركم بِالْوَحْيِ} (¬2) وقال لليهود حين ادعت تحريم أشياء لم ¬

(¬1) الرعد الآية (30). (¬2) الأنبياء الآية (45).

يحرمها: {قُلْ فَأْتُوا بالتوراة فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صادقين} (¬1) وإنما يكون التأويل والتفسير لمن قرأ التنزيل، فأما من ألحد في تنزيل القرآن وخالفه، لم يناظر بتأويله ولا بالحديث. قال عبد العزيز: فقال المأمون: أو يخالفك في التنزيل؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، يخالفني في التنزيل، أو ليتركن قوله. قال: فقال: سله. قلت له: يا بشر: ما حجتك بأن القرآن مخلوق؟ انظر أَحَدَّ سهم في كنانتك فارمني به، ولا تكن بك حاجة إلى معاودة، فقال: قوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (¬2). قال: فقلت للمأمون: يا أمير المؤمنين من أخذ بمكيال فعليه أن يعطي به. فقال لي: ذاك يلزمه. فقلت له: أخبرني عن قوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (¬3)، هل بقي شيء لم يأت عليه هذا الخبر؟ فقال لي: لا. قلت له: أخبرني عن علم الله الذي أخبر عنه في خمسة مواضع، فقال في البقرة: {ولا يحيطون بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} (¬4) وقال في النساء: {لَكِنِ اللَّهُ يشهد بما أنزل إليك أنزله بِعِلْمِهِ} (¬5) وقال: {فَإِنْ لَمْ يستجيبوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أنزل بِعِلْمِ اللَّهِ} (¬6) وقال في فاطر: {وما ¬

(¬1) آل عمران الآية (93). (¬2) الأنعام الآية (102). (¬3) الأنعام الآية (102). (¬4) البقرة الآية (255). (¬5) النساء الآية (166). (¬6) هود الآية (14).

تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى ولا تضع إِلًّا بِعِلْمِهِ} (¬1) وقال في سجدة المؤمن: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى ولا تضع إِلًّا بِعِلْمِهِ} (¬2) أفمقر أنت أن لله علما كما أخبر عن علمه أو تخالف التنزيل؟ قال عبد العزيز: فحاد بشر عن جوابي وأبى أن يصرح بالكفر، فيقول: ليس لله علم، فأرجع بالمسئلة وعلم ما يلزمه فأقول له: أخبرني عن علم الله داخل في قوله: {خَالِقُ كُلِّ شيءٍ}، فلزم الحيدة واجتلب كلاما لم أسأله عنه، فقال: معنى ذلك لا يجهل، فقلت: يا أمير المؤمنين، فلا يكون الخبر عن المعنى قبل الإقرار بالشيء يقر أن لله علما، فإن سألته ما معنى العلم، وليس هذا مما أسأله عنه، فيجيب بهذا إن كان هذا جوابا حاد عن الجواب ولزم سبيل الكفار. فقال لي بشر: وتعرف الحيدة؟ قال: قلت: نعم، إني لأعرف الحيدة من كتاب الله وهي سبيل الكفار التي اتبعتها. فقال لي المأمون: والحيدة نجدها في كتاب الله؟ قلت: نعم، وفي سنة المسلمين وفي اللغة. فقال لي: فأين هي من كتاب الله؟ قال عبد العزيز: قلت: إن إبراهيم عليه السلام قال لقومه: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} (¬3) فكانوا بين أمرين: أن يقولوا: يسمعوننا حين ندعوا أو ينفعوننا أو يضروننا، فيشهد ¬

(¬1) فاطر الآية (11). (¬2) فصلت الآية (47). (¬3) الشعراء الآيتان (72و73).

عليهم من يسمع قولهم أنهم قد كذبوا، أو يقولوا: لا يسمعوننا حين ندعوا ولا يضروننا ولا ينفعوننا، فينفوا عن آلهتهم المقدرة، فبأي الخبرين أجابوا كانت الحجة عليهم لإبراهيم عليه السلام فحادوا عن جوابه واجتلبوا كلاما من غير فن كلامه، فقالوا: {وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (¬1)، ولم يكن هذا جوابا عن مسألة إبراهيم. ويروى أن عمر بن الخطاب قال لمعاوية وقد قدم عليه فنظر إليه يكاد يتفقأ شحما، فقال: ما هذه الشحمة يا معاوية، لعلها من نومة الضحى ورد الخصم؟ فقال (¬2): يا أمير المؤمنين، إذا تصونني يرحمك الله، فقد صدق بشر أن الله لا يجهل، إنما سألته أن يقر بالعلم الذي أخبر الله عنه، فأبى أن يقر به وحاد عن جوابي إلى نفي الجهل، فليقل أن لله علما وأن الله لا يجهل، ثم التفت إلي بشر فقلت: يا بشر أنا وأنت نقول أن الله لا يجهل، وأنا أقول أن لله علما وأنت تأبى أن تقوله، فدع ما تقول وأقول، وما لا تقول ولا أقول، وإنما مناظرتي إياك فيما أقول ولا تقول، أو تقول ولا أقول، قال: وهو في ذلك يأبى أن يقر أن لله علما، ويقول: إن الله لا يجهل، فلما أكثر، قلت: يا أمير المؤمنين، إن نفي السوء لا يثبت المدحة، وكنت متكئا على أسطوانة، قلت: هذه الأسطوانة لا تجهل ولا تعلم، فليس نفي الجهل بإثبات للعلم، فإثباته ما أثبت الله أولى به، لأن على الناس أن يثبتوا ما أثبت الله، وينفوا ما نفى الله، ويمسكوا حيث أمسك الله. ثم قلت: يا أمير المؤمنين: لم يمدح الله ملكا ولا نبيا ولا مؤمنا بنفي ¬

(¬1) الشعراء الآية (74). (¬2) وقع هنا سقط في الإبانة وما بين المعقوفتين مثبت من كتاب الحيدة (ص.54 - 55) بتحقيق د. جيل صليبا).

الجهل، بل دل على إثبات العلم، فقال تعالى للملائكة: {كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يعلمون مَا تَفْعَلُونَ} (¬1)، ولم يقل: لا يجهلون. وقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} (¬2) وقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (¬3)، ولم يقل: الذين لا يجهلون، فمن أثبت العلم، نفى الجهل، ومن نفى الجهل، لم يثبت العلم، فما اختار بشر لله من حيث اختار الله لنفسه، ولا من حيث اختار لملائكته ولرسله وللمؤمنين. فقال لي أمير المؤمنين: فإذا أقر أن لله علما يكون ماذا؟ قلت: يا أمير المؤمنين أسأله عن علم الله، أداخل هو في جملة الأشياء المخلوقة حين احتج بقوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (¬4)، وزعم أنه لم يبق شيء إلا وقد أتى عليه هذا الخبر، فإن قال: نعم، فقد شبه الله بخلقه الذين أخرجهم الله من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا، وكل من تقدم وجوده علمه فقد دخل عليه الجهل فيما بين وجوده إلى حدوث علمه، وهذه صفة المخلوقين الذين أخرجهم الله من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا، فيكون بِشر قد شبه الله بخلقه. فقال لي أمير المؤمنين: أحسنت أحسنت يا عبد العزيز، ثم التفت إلى بشر، فقال: يأبى ¬

(¬1) الانفطار الآيتان (11و12). (¬2) التوبة الآية (43). (¬3) فاطر الآية (28). (¬4) الأنعام الآية (102).

عليك عبد العزيز إلا أن تقر أن لله علما، ثم قال لي أمير المؤمنين: تقول إن الله عالم؟ قلت: نعم. قال: وتقول أن لله علما؟ قلت: نعم. قال: تقول إن الله سميع بصير؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال: فتقول أن لله سمعا وبصرا كما قلت أن لله علما؟ قال: قلت: لا يا أمير المؤمنين. فقال لي: فرق بين هذين. قال: فأقبل بشر، فقال: يا أمير المؤمنين يا أفقه الناس يا أعلم الناس يقول الله عز وجل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (18) (¬1) قال: قلت: قد قدمت إلى أمير المؤمنين فيما احتججت به أن على المؤمنين أن يثبتوا ما أثبت الله وينفوا ما نفى الله، ويمسكوا عن ما أمسك الله، فأخبرني الله أنه عالم، فقلت: إنه عالم بقوله: {عَالِمُ الغيب والشهادة} (¬2) وأخبرني أن له علما بقوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أنزل بِعِلْمِ اللَّهِ} (¬3)، وأخبرني أنه سميع بصير، فقلت بالخبر ولم يخبرني أن له سمعا وبصرا، فأمسكت. فقال المأمون: ما هو مشبها فلا تكذبوا عليه. فقال لي بشر: فما معنى العلم، لو أن رجلين وردا عليك فقالا ما معنى العلم؟ فحلف أحدهما بالطلاق أن العلم هو الله، وقال الآخر: أن العلم غير الله، ما كان جوابك؟ قلت: أما مسألتك إياي ما معنى العلم، فإنك تسألني عما لم يخبرني الله به ولم يخبر ¬

(¬1) الأنبياء الآية (18). (¬2) الأنعام الآية (73). (¬3) هود الآية (14).

أحدا، فأمرتني أن أقول على الله ما لم أعلم كما أمر الشيطان، فأولى الأمرين بي أن أمسك عما حرم الله علي أن أقول به، وأمرني الشيطان أن أقوله. قال الله عزوجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (¬1) وقال: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (¬2) ثم أقبلت على المأمون، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن بشرا قد علم أنه قد أفحم فلم يكن عنده جواب، فيسأل عما لم يكن له أن يسأل عنه ولا يكون لي أن أجيب عنه، فأراد أن يقول إن عبد العزيز سأل بشرا عن مسألة فلم يجبه، وسأل بشر عبد العزيز فلم يجبه، فأنا وبشر يا أمير المؤمنين من مسألتي ومسألته على غير السواء، سألته عما أعلمه الله به ووقعه عليه بالإعلام وتعبده بالإيمان به لقوله: {وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أنزل اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} (¬3) فأبى أن يقر به، وسألني عن معنى العلم وقد ستر الله ذلك عني وعنه، وإنما يدخل النقص علي لو كان بشر يعلم أو أحد العلماء ما العلم، فأما ما نجتمع أنا وبشر والخلق في الجهل بمعرفته، فلم يكن الضرر داخلا علي ¬

(¬1) الأعراف الآية (33). (¬2) البقرة الآيتان (168و169). (¬3) الشورى الآية (15) ..

دونه، وهذه مسألة لا يحل لمؤمن أن يسأل عنها ولمؤمن أن يجيب فيها، لأن الله عز وجل أمسك عن أن يخبر كيف علمه، فلم يكن لأحد أن يتكلفه ولا يخبر عنه ولا لسائل أن يسأل عنه، فلما كان علينا أن نقول سميعا بصيرا، قلنا، وليس لنا أن نقول: سمع وبصر. قال عبد العزيز: وقلت لبشر: حين تسألني ما معنى العلم وتشير علي أن أقول على الله ما لم يقله، هل تجوز هذه المسألة في خلق من خلق الله؟ قد قال الله عز وجل: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} (¬1)، فلو ورد علي ثلاثة نفر فحلف أحدهم أن الأقلام خشب، وحلف الآخر أنها قصب، وحلف الآخر أنها خوص، كان علي أن أميز بين قول هؤلاء؟ وقال الله عز وجل: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} (¬2)، فلو ورد علي رجلان فحلف أحدهما أنه الزهرة، وحلف الآخر أنه المشتري، أكان علي أن أنظر بين هذين أيهما المصيب من المخطئ؟ وقال عز وجل: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} (¬3)، فلو أن ثلاثة نفر حلفوا فقال أحدهم: المؤذن ملك، وقال الآخر: هو إنسي، وقال الآخر: هو جني، كان علي أو على أحد من الناس أن يقضي بينهم إلا أن يكون الله أخبر في كتابه كيف ذلك وعلى لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -؟ وإذا لم يوجد شيء من هذا عن الله ولا عن ¬

(¬1) آل عمران الآية (44). (¬2) الأنعام الآية (76). (¬3) الأعراف الآية (44).

رسوله، لم يكن لأحد أن يصل الخبر بتفسير من تلقاء نفسه، فإذا كان هذا لا يجوز في خلق من خلق الله، فكيف تجوز المسألة في الله، وقد حرم الله عز وجل على الناس أن يقولوا على الله ما لا يعلمون؟ قال عبد العزيز: ورأيته قد حار في يدي، فقلت: يا أمير المؤمنين احتج بشر بقوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (¬1) فليعط بالمكيال الذي أراد أن يأخذ به إن كان صادقا. قال الله عز وجل: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} (¬2)، {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (¬3) وقال: {ويحذركم اللَّهُ نَفْسَهُ} (¬4) وقال: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} (¬5) فأخبر أن له نفسا. وقال: {كل نَفْسٍ ذائقة الْمَوْتِ} (¬6) فلو أن ملحدا ألحد علي وعلى بشر، فقال: قد أخبر الله أن كل نفس ذائقة الموت، وأن له نفسا، ما كانت الحجة لي وله عليه. قال: فقال بشر: إن كنت تريد نفس ضمير أو توهم جارحة. فقلت: كم ألقي إليك أني أقول بالخبر وأمسك عن علم ما ستر عني، وإنما أقول: إن ¬

(¬1) الأنعام الآية (102). (¬2) المائدة الآية (116). (¬3) الأنعام الآية (54). (¬4) آل عمران الآية (28). (¬5) طه الآية (41). (¬6) آل عمران الآية (185).

لله نفسا كما قال، فليكن معناها عندك ما شئت، أهي داخلة في قوله: {كل نفس ذائقة الموت}؟ إلى كم تفر إلى المعاني؟ انظر هل أجري معك حيث تجري؟ قال: فقال المأمون: ويحك يا عبد العزيز كيف هذا؟ قلت: يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل أنزل القرآن بأخبار خاصة وعامة، ففيها ما يكون مخرجها مخرج العموم ومعناها معنى العموم، ومنه خبر مخرج لفظه مخرج خاص ومعناه معنى خاص، منهما خبران محكمان لا ينصرفان بإلحاد ملحد، ومن القرآن خبر مخرج لفظه خاص ومعناه عام، وخبر مخرج لفظه عام ومعناه خاص، وفي هذه دخلت الشبه على من لم يعرف خاص القرآن وعامه، فأما الخبر الذي مخرجه عام ومعناه عام، فقوله: {وَلَهُ كل شَيْءٍ} (¬1) فجمع هذا الخبر الخلق والأمر فلم يبق شيء إلا وقد أخبر أنه له، فمخرجه عام ومعناه عام، وأما الخبر الذي مخرجه خاص ومعناه خاص فما قدم في عيسى عليه السلام أنه خلق من غير أب، وفي آدم عليه السلام. وقال: {يا أيها النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذكرٍ وَأُنْثَى} (¬2)، فلم يتوهم مؤمن أن الله عز وجل عنى آدم وعيسى. وأما الخبر الذي مخرجه خاص ومعناه عام، فهو قوله: {وَأَنَّهُ هُوَ رب الشِّعْرَى} (¬3) فهو رب الشعرى وغير الشعرى. ¬

(¬1) النمل الآية (91). (¬2) الحجرات الآية (13). (¬3) النجم الآية (49).

وأما الخبر الذي معناه خاص، فهو قوله: {إِلَّا آَلَ لُوطٍ نجيناهم بِسَحَرٍ} (¬1) إنما كان معناه خاصا، لأن امرأة لوط لم تعن، ولما أنزل الله عز وجل القرآن على معاني هذه الأخبار، لم يتركها أشباها على الناس، ولكن بيانها خاص لقوم يفقهون، وإذا أنزل الله خبرا مخرج لفظه خاص ومعناه عام، بين في أكثر ذلك ما بينه بأحد بيانين: إما أن يستثني من الجملة شيئا فيكون بيانا للناس أكملهم، أو يقدم فيهم خبرا خاصا فلا يعينه، فإذا أنزل خبرا عاما لم يتوهم عالم أنه عنى في خبره العام خلاف ما خصه ونصه. وأما الخبر الذي بين له على العموم ثم يستثني ما لم يعنه، فهو قوله: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} (¬2) فعقل المؤمنون أن الألف السنة لم يستكملها نوح في قومه قبل الطوفان بقول الله عز وجل: {إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا}، فكان ابتداء لفظه عاما ومعناه خاصا بالاستثناء. وأما الخبر الخاص الذي لا يجري عليه الخبر العام، فهو كقوله في إبليس: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} (¬3)، وقال: {ورحمتي وسعت كُلَّ شَيْءٍ} (¬4)، فعقل أهل العلم عن الله أنه لم يعن إبليس ¬

(¬1) القمر الآية (34). (¬2) العنكبوت الآية (14). (¬3) ص الآية (85). (¬4) الأعراف الآية (156).

بقوله: {ورحمتي وسعت كُلَّ شَيْءٍ} لما قدم فيه من الخبر الخاص باليأس من رحمة الله لأن من سنته أن لا يترك الذي لا يعني حتى يخرجه بالاستثناء أو محاشاة، فيقدم فيه خبرا كقوله: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} (¬1) قال إبراهيم عليه السلام: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} (¬2)، فاستثنى لوطا من أهل القرية، واستثنى امرأة لوط من آل لوط. وقال في موضع آخر: {إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} (¬3) وقال: {مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ} (¬4)، فخص المرأة بالهلاك، وأنزل خبرا مخرجه مخرج عام، ومعناه خاص، فقال: {إِلَّا آَلَ لُوطٍ نجيناهم بِسَحَرٍ} (¬5) فعقل المؤمنون عن الله أنه لم يعن امرأة لوط بالنجاة، لما قدم فيها من الخبر الخاص بالهلكة، وكذلك حين قدم في نفسه خبرا خاصا، فقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} (¬6) ثم قال: {كل نَفْسٍ ¬

(¬1) العنكبوت الآية (31). (¬2) العنكبوت الآية (32). (¬3) النمل الآية (57). (¬4) العنكبوت الآية (31). (¬5) القمر الآية (34). (¬6) الفرقان الآية (58).

ذائقة الْمَوْتِ} (¬1)، فلم يكن لأحد أن يتوهم على الله أنه عنى نفسه، وكذلك حين قدم في قوله خبرا خاصا، فقال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬2)، فدل على قوله باسم معرفة وعلى الشيء باسم نكرة فكانا شيئين متفرقين، فقال: {إذا أردناه} ولم يقل إذا أردناهما ولم يقل أن نقول لهما ثم قال: {كُنْ فيكون}، ففرق بين القول والشيء المخلوق. ثم قال: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (¬3)، فعقل أهل العلم عن الله أنه لم يعن قوله في جملة الأشياء المخلوقة حين قدم فيه خبرا أنه خلق الأشياء بقوله، وإنما غلط بشر يا أمير المؤمنين ومن قال بقوله بخاص القرآن وعامه. قال عبد العزيز: ثم أقبلت على المأمون، فقلت: يا أمير المؤمنين إن بشرا خالف كتاب الله وسنة رسوله، وإجماع أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -. فقال: أو فعل ذلك؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، أوقفك عليه الساعة. فقال لي كيف؟ قلت: إن اليهود ادعت تحريم أشياء في التوراة، فقال الله عز وجل: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬4) فإذا تليت التوراة فلم يوجد ما ادعوا، كان إمساك التوراة مسقطا لدعواهم، وكذلك يقال لبشر: ¬

(¬1) آل عمران الآية (185). (¬2) النحل الآية (40). (¬3) الأنعام الآية (102). (¬4) آل عمران الآية (93).

اتل بما قلت قرآنا وإلا فإن إمساك القرآن بما تدعي مسقط لدعواك، وكذلك تنظر في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن كانت معه سنة من رسول الله، وإلا كان إمساك سنة رسول الله مسقطا لدعواه، وأما خلافه أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن أصحاب محمد اختلفوا في الحلال والحرام ومخارج الأحكام، فلم يخطئ بعضهم بعضا، فهم من أن يبدع بعضهم بعضا أبعد، وهم من أن يكفر بعضهم بعضا بالتأويل أبعد، وبشر ادعى على الأمة كلها كلمة تأولها، ثم زعم أن من خالفه كافر، فهو خارج من إجماع أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال بشر: ما ادعيت إلا نص التنزيل. قال: قلت له: هات، فأنا أول من يقول بقولك إن كان معك تنزيل، ومن خالف فكافر. قال: فقال محمد بن الجهم: أولا تقبل منه إلا نص القرآن؟ قلت: لا، لأنه إذا تأول فلخصمه أن يتأول معه. قال: فقال لي محمد بن الجهم: ومن أين لك من القرآن أن هذا الحصير مخلوق؟ قلت: هو في القرآن من حيث لا تعلم، وقد أخبر الله أنه خلق الأنعام وخلق الشجر، وهذا الحصير من الشجر ومن جلود الأنعام، فمعك أنت شيء تخبرني أن القرآن من ذلك الشيء الذي خلقه الله؟ قال بشر: معي نص القرآن. قال: فقلت: فكيف لم تأتني به أولا حين قلت لك ارمني بأحدّ سهم في كنانتك؟ قال: فقال نعم، قول الله عز وجل: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (¬1) قلت: لا أعلم أحدا من المؤمنين لا يقول إن الله قد جعل القرآن عربيا وكل ¬

(¬1) الزخرف الآية (3).

المؤمنين يقولون: إن الله قد جعل القرآن عربيا، فقد قالوا معك بالتنزيل ولم يخالفوا التنزيل، وأنت إنما كفرت القوم بمعنى جعل لأن معنى جعل عندك معنى خلق. قال بشر: ما بين جعل وخلق فرق. قلت لبشر: أخبرني عن جعل عندك حرف محكم لا يحتمل إلا معنى خلق؟ قال: نعم، لا يعقل جعل في لغة من اللغات إلا معنى خلق. قلت: فأخبرني عن قول الله عز وجل: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} (¬1) معناه معنى خلقتم؟ أخبرني عن قول الله عز وجل: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} (¬2) معناه: لا تخلقوا؟ أخبرني عن قوله: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} (¬3) معناه: لا تخلقوا؟ قال: فقال لي المأمون: فما معناه؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين هذا رجل جاهل بلغة قومك، إن "جعل" في كتاب الله يحتمل معنيين: معنى خلق، ومعنى تصيير غير خلق، فلما كان خلق حرفا محكما لا يحتمل معنيين، ولم يكن من صناعة العباد، لم يتعبد الله الخلق به، فيقول: اخلقوا أولا تخلقوا، إذ لم يكن الخلق من صناعة المخلوقين، ولما كان جعل يحتمل معنيين: معنى خلق، وهو معنى تفرد الله به دون الخلق، ويحتمل معنى غير الخلق، خاطب الخلق بالأمر به والنهي عنه، أفقال: اجعلوا ولا تجعلوا؟ ألم تسمع إلى قوله: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ ¬

(¬1) النحل الآية (91). (¬2) البقرة الآية (224). (¬3) النور الآية (63).

الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} (¬1)، وقوله: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} (¬2)، ولما كان جعل يحتمل معنيين من الله: معنى خلق، ومعنى تصيير غير خلق، لم يدع ذلك لبسا على المؤمنين حتى جعل على كل كلمة علما ودليلا، ففرق بين معنى جعل الذي يكون على معنى خلق، وبين جعل الذي معناه غير معنى خلق، فأما معنى جعل الذي هو على معنى خلق، فإن الله عز وجل أنزل القرآن به مفصلا وهو بيان لقوم يفقهون، وأنزل القول مفصلا يستغني السامع إذا أخبر عنه أن يوصل الكلمة بكلمة أخرى، من ذلك قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} (¬3) فسواء قال: جعل أو خلق. وقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} (¬4) وقوله: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} (¬5)، فهذا وما كان على مثاله على معنى خلق. وأما جعل الذي معناه على غير معنى الخلق، فهذا من القول الموصل. ألم تسمع إلى قوله: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (¬6)، كقوله: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي ¬

(¬1) النور الآية (63). (¬2) يونس الآية (87). (¬3) الأنعام الآية (1) .. (¬4) النحل الآية (72). (¬5) السجدة الآية (9). (¬6) القصص الآية (51).

الأرض} (¬1)، فلما قال: {جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً}، لم يدع الكلمة إذ لم تكن على معنى خلق حتى وصلها بقوله: {خَلِيفَةً}. وقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} (¬2)، فلم يأمرها أن تلقيه في اليم إلا وهو مخلوق، ثم قال: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (¬3) فقد كان في وقت مخلوقا ولم يكن مرسلا حتى جعله مرسلا. وقوله: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} (¬4)، وقد كان الجبل مخلوقا قبل أن يجعله دكا، فهذا وما على مثاله من القول الموصل، فنرجع أنا وبشر -يا أمير المؤمنين- فيما اختلفنا فيه من قول الله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} (¬5)، فما كان من القول الموصل، فهو كما قلت أنا: إن الله جعله عربيا، بأن صيره عربيا، وأنزله بلغة العرب، ولم يصيره أعجميا، فينزله بلغة العجم. وإن كان الموصل كقوله: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} (¬6) فهو كما ¬

(¬1) ص الآية (26). (¬2) القصص الآية (7). (¬3) القصص الآية (7). (¬4) الأعراف الآية (143). (¬5) الزخرف الآية (3). (¬6) الأنعام الآية (1).

قال بشر. وإنما دخل عليه الجهل لقلة معرفته بلغة أهل اللسان، فلو أن رجلا قال: اللهم اجعل لي ولدا، لكان يعقل من بحضرته أنه سأل ربه أن يخلق له ولدا، إذ لم يصل الكلمة بكلمة ثانية، ولو قال: اللهم اجعل ولدي، كان هذا الكلام لا يتم بهذا الإخبار عنه، حتى يقول: اجعله صالحا، اجعله بارا، اجعله تقيا، فيعقل عنه أنه إنما أراد أن يصيره بارا، ولم يرد أن يخلقه، لأن الله قد خلقه. ألم تسمع إلى قول الله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} (¬1)، ولم يرفعا القواعد إلا وهما مخلوقان، وحين قالا: {وَاجْعَلْنَا}، لم يدركا المسألة حتى قال: {مُسْلِمَيْنِ لَكَ} فهذا وما كان على أمثاله في القرآن على غير معنى الخلق. ثم أقبل المأمون على بشر، فقال: كلم عبد العزيز، فقال: يا أمير المؤمنين لم أكلمه؟ هذا رجل يقول بالأخبار وأنا أقول بالقياس. فقال له المأمون: وهل ديننا إلا الأخبار؟ قال: فأردت أن أعلمه أن الكلام في القياس لم يفتني في الموضع الذي يجب لي القول به، وكان جلس أمير المؤمنين مجلس الحاكم من الخصم، فقلت: يا أمير المؤمنين، لو كان لبشر غلامان، وأنا لا آخذ علمهما عن أحد من الناس إلا عنه، يقال لأحدهما خالد والآخر يزيد، فكتب إلي ثمانية عشر كتابا يقول في كل كتاب منها: ¬

(¬1) البقرة الآيتان (127و128).

ادفع هذا الكتاب إلى خالد غلامي، وكتب إلي مئة وأربعة وخمسين كتابا يقول في كل كتاب منها: ادفع هذا الكتاب إلى يزيد، ولا يقول: غلامي، وكتب إليَّ كتابا، فقال: ادفع هذا الكتاب إلى يزيد وإلى خالد غلامي، وكتب إلي كتابا واحدا يقول فيه: خالد غلامي ويزيد، ولم يقل: غلامي، فكتبت إليه: إني قد دفعت الكتاب إلى يزيد، وإلى خالد غلامك، فلقيني فقال: لم لم تكتب إلي أنك دفعت الكتاب إلى خالد ويزيد غلامي، فقلت له: قد كتبت إلي مئة كتاب وأربعة وخمسين كتابا تقول: ادفع هذا الكتاب إلى يزيد، ولا تقول فيها: غلامي، وكتبت إلي ثمانية عشر كتابا تقول فيها: إلى خالد غلامي. فقال لي بشر: فرطت، فحلفت أنا: إن بشرا فرط وحلف بشر أني فرطت، أينا كان المفرط يا أمير المؤمنين؟ فقال المأمون: إذا كان هكذا فبشر المفرط. فقلت: يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل أخبرنا عن القرآن في أربعة وخمسين ومئة موضع، فلم يخبر عن خلقه في موضوع واحد، ثم جمع بين القرآن والإنسان في موضع واحد، فقال: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (¬1) ففرق بين القرآن والإنسان وزعم بشر أن الله فرط في الكتاب، إذ كان القرآن مخلوقا، وعليه أن يخبر بخلق القرآن. قال عبد العزيز: فأخبرني أبو كامل الخادم أن المأمون كان يقول: ما مر بكم مثل المكي قط في خالد ويزيد. فأمر له -يعني: لعبد العزيز- بعشرة آلاف درهم، وأمر أن تجرى له ¬

(¬1) الرحمن الآيات (1 - 4).

موقف السلف من أحمد بن أبي دؤاد (240 هـ)

الأرزاق، وجرت بينه وبين المأمون بعد أشياء لم تذكر في هذا الكتاب. (¬1) - قال أبو أيوب -عبد الوهاب بن عمرو-: وأخبرني العطاف بن مسلم عن هؤلاء المسلمين في صدر هذا الكتاب، وعن غيرهم من أصحاب المكي: أن عبد العزيز قال: اجتمعت مع أمير المؤمنين بعد هذا المجلس، فجرت بيني وبينه مناظرات كثيرة، فقال لي بعدما جرى بيننا: ويحك يا عبد العزيز، قل القرآن مخلوق، فوالله لأوطئن الرجال عقبك، ولا نوهن باسمك، فإن لم تقل، فانظر ما ينزل بك مني. فقلت: يا أمير المؤمنين، إن القلوب لا ترد بالرغبة ولا بالرهبة، ترغبني فتقول: قل حتى أفعل لك، وإن لم تفعل، انظر ماذا ينزل بك مني، فيميل إليك لساني ولا ينطق لك قلبي، فأكون قد نافقتك يا أمير المؤمنين. فقال: ويحك فبماذا ترد القلوب؟ قال: قلت: بالبصائر يا أمير المؤمنين، بصرني من أين القرآن مخلوق؟ فقال لي: صدقت. (¬2) موقف السلف من أحمد بن أبي دؤاد (240 هـ) ابتداعه وضلاله وتجهمه: للسلف مواقف كثيرة من هذا الضال المبتدع ذكرت في ثنايا هذه المسيرة المباركة هذه بعضها: - قال الذهبي في السير: قال عون بن محمد الكندي: لعهدي بالكرخ، ¬

(¬1) الإبانة (2/ 14/226 - 248/ 426). (¬2) الإبانة (2/ 14/248/ 427).

ولو أن رجلا قال: ابن أبي دؤاد مسلم، لقتل. ثم وقع الحريق في الكرخ، فلم يكن مثله قط. فكلم ابن أبي دُؤاد المعتصم في الناس، ورققه إلى أن أطلق له خمسة آلاف ألف درهم، فقسمها على الناس، وغرم من ماله جملة. فلعهدي بالكرخ، ولو أن إنسانا، قال: زر أحمد بن أبي دُؤاد وسخ، لقتل. (¬1) - وقال: وقد كان ابن أبي دؤاد يوم المحنة إلبا على الإمام أحمد، يقول: يا أمير المؤمنين، اقتله، هو ضال مضل. قال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي سمعت بشر بن الوليد يقول: استتبت أحمد بن أبي دؤاد من قوله: القرآن مخلوق في ليلة ثلاث مرات، ثم يرجع. (¬2) - وقد كان ابن أبي دؤاد محسنا إلى علي بن المديني بالمال، لأنه بلديه ولشيء آخر، وقد شاخ ورمي بالفالج، وعاده عبد العزيز الكناني، وقال: لم آتك عائدا، بل لأحمد الله على أن سجنك في جلدك. (¬3) - وفي تاريخ بغداد عن أحمد بن المعدل أنه قال: كتب ابن أبي دؤاد إلى رجل من أهل المدينة -يتوهم أنه عبد الله بن موسى بن جعفر بن محمد-: إن بايعت أمير المؤمنين في مقالته استوجبت منه حسن المكافأة، وإن امتنعت لم تأمن مكروهه. فكتب إليه: عصمنا الله وإياك من الفتنة، وكأنه إن يفعل فأعظم بها نعمة، وإلا فهي الهلكة، نحن نرى الكلام في القرآن بدعة، يشترك فيها السائل والمجيب، فتعاطى السائل ما ليس له، وتكلف المجيب ما ليس ¬

(¬1) السير (11/ 170). (¬2) السير (11/ 170). (¬3) السير (11/ 170).

أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد الجزري (من الطبقة العاشرة)

عليه، ولا يعلم خالقا إلا الله، وما سواه مخلوق، والقرآن كلام الله، فانته بنفسك ومخافتك إلى اسمه الذي سماه الله به، وذر الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون، ولا تسم القرآن باسم من عندك فتكون من الضالين. فلما وقف على جوابه أعرض عنه فلم يذكره. (¬1) - وفيه أيضا: من شعر أبي الحجاج الأعرابي: نكست الدين يا ابن أبي دؤاد ... فأصبح من أطاعك في ارتداد زعمت كلام ربك كان خلقا ... أما لك عند ربك من معاد كلام الله أنزله بعلم ... وأنزله على خير العباد ومن أمسى ببابك مستضيفا ... كمن حل الفلاة بغير زاد لقد أظرفت يا ابن أبي دؤاد ... بقولك أنني رجل إيادي (¬2) أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد الجزري (¬3) (من الطبقة العاشرة) عبد الله بن محمد بن إسحاق الجزري أبو عبد الرحمن الأذرمي الموصلي، روى عن إسحاق بن يوسف الأزرق، وحكام بن سلم الرازي وداود بن عطاء المديني وسفيان بن عيينة وغيرهم. وروى عنه أبو داود والنسائي وأبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي، وأبو حاتم الرازي وخلق. قال أبو حاتم والنسائي: ثقة. وقال الحافظ أبو بكر الخطيب: كان الواثق بالله أشخص ¬

(¬1) تاريخ بغداد (4/ 151). (¬2) تاريخ بغداد (4/ 152 - 153). (¬3) تاريخ بغداد (10/ 74) وتهذيب الكمال (16/ 42 - 43) وتهذيب التهذيب (6/ 4) وتقريب التهذيب (1/ 528).

موقفه من الجهمية:

شيخا من أهل أذنة للمحنة وناظر ابن أبي دؤاد بحضرته واستعلى عليه الشيخ بحجته فأطلقه الواثق ورده إلى وطنه، ويقال إنه كان أبا عبد الرحمن الأذرمي. قال ابن حجر: ثقة من العاشرة. موقفه من الجهمية: عن أبي الفضل صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور الهاشمي، وكان من وجوه هاشم وأهل الجلالة والسن منهم، قال: حضرت المهتدي بالله -أمير المؤمنين- رحمة الله عليه وقد جلس ينظر في أمور المسلمين في دار العامة، فنظرت إلى قصص الناس تقرأ عليه من أولها إلى آخرها فيأمرنا بالتوقيع فيها وإنشاء الكتب لأصحابها، وتختم وتدفع إلى صاحبه بين يديه، فيسرني ذلك، وجعلت أنظر إليه ففطن ونظر إلي، فغضضت عنه حتى كان ذلك مني ومنه مرارا ثلاثا، إذا نظر إلي غضضت وإذا اشتغل نظرت، فقال لي: يا صالح، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، وقمت قائما، فقال: في نفسك منا شيء تريد (¬1) أن تقوله، أو قال: تحب أن تقوله؟ قلت: نعم يا سيدي يا أمير المؤمنين، فقال: عد إلى موضعك، فعدت. وعاد في النظر حتى إذا قام قال للحاجب: لا يبرح صالح. فانصرف الناس، ثم أذن لي وقد همتني نفسي، فدخلت فدعوت له، فقال لي: اجلس فجلست. فقال: يا صالح تقول لي ما دار في نفسك أو أقول أنا ما دار في نفسك أنه دار في نفسك؟ قلت: يا أمير المؤمنين ما تعزم عليه وما تأمر به؟ فقال: وأقول أنا كأني بك وقد استحسنت ما رأيت منا، ¬

(¬1) في الإبانة: (تحب) والتصحيح من تاريخ بغداد.

فقلت: أي خليفة خليفتنا إن لم يكن يقول: القرآن مخلوق، فورد على قلبي أمر عظيم، وهمتني نفسي ثم قلت: يا نفس هل تموتين إلا مرة واحدة، وهل تموتين قبل أجلك، وهل يجوز الكذب في جد أو هزل؟ فقلت: والله يا أمير المؤمنين ما دار في نفسي إلا ما قلت. أطرق مليا، ثم قال: ويحك، اسمع مني ما أقول لك، فوالله لتسمعن الحق، فسري عني وقلت: يا سيدي ومن أولى بالحق منك وأنت خليفة رب العالمين، وابن عم سيد المرسلين من الأولين والآخرين؟ فقال لي: ما زلت أقول إن القرآن مخلوق صدرا من خلافة الواثق حتى أقدم علينا ابن أبي دؤاد شيخا من أهل الشام -من أهل أذنة- فأدخل الشيخ على الواثق وهو جميل الوجه، تام القامة، حسن الشيبة، فرأيت الواثق قد استحيا منه ورق له، فمازال يدنيه (¬1) ويقربه حتى قرب منه، فسلم الشيخ فأحسن السلام، ودعا فأبلغ وأوجز، فقال له الواثق: اجلس، ثم قال له: يا شيخ ناظر ابن أبي دؤاد على ما يناظرك عليه، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين ابن أبي دؤاد يقل ويضعف عن المناظرة، فغضب الواثق وعاد مكان الرقة له غضبا عليه، فقال أبو عبد الله: ابن أبي دؤاد يصبو ويقل ويضعف عن مناظرتك أنت؟ فقال الشيخ: هون عليك يا أمير المؤمنين ما بك، وائذن لي في مناظرته. فقال الواثق: ما دعوتك إلا لمناظرته. فقال الشيخ: يا أحمد إلى ما دعوت الناس ودعوتني إليه؟ فقال: إلى أن تقول القرآن مخلوق. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تحفظ علي وعليه ما نقول. قال: أفعل. فقال الشيخ: يا ¬

(¬1) في الأصل (يدينه) ولعل الصواب ما أثبتناه.

أحمد أخبرني عن مقالتك هذه، واجبة داخلة في عقدة الدين، فلا يكون الدين كاملا حتى يقال فيه ما قلت؟ قال: نعم. قال الشيخ: يا أحمد أخبرني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بعثه الله عز وجل إلى عباده، هل ستر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما أمره الله به في دينه؟ قال: لا. قال الشيخ: فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأمة إلى مقالتك هذه؟ فسكت ابن أبي دؤاد. فقال الشيخ: تكلم. فسكت، فالتفت الشيخ إلى الواثق، فقال: يا أمير المؤمنين واحدة. فقال الواثق: واحدة. فقال الشيخ: يا أحمد أخبرني عن الله سبحانه حين أنزل القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬1) كان الله عز وجل الصادق في إكمال دينه أم أنت الصادق في نقصانه، فلا يكون الدين كاملا حتى يقال فيه بمقالتك هذه؟ فسكت ابن أبي دؤاد، فقال الشيخ: أجب يا أحمد فلم يجبه. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين اثنتان. فقال الواثق: اثنتان. فقال الشيخ: يا أحمد أخبرني عن مقالتك هذه، علمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم جهلها؟ فقال ابن أبي دؤاد: علمها. قال الشيخ: فدعا الناس إليها؟ فسكت ابن أبي دؤاد. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين ثلاث. فقال الواثق: ثلاث. فقال الشيخ: يا أحمد فاتسع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ علمها كما زعمت، ولم يطالب أمته بها؟ قال: نعم. قال الشيخ: واتسع لأبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، ¬

(¬1) المائدة الآية (3).

وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم؟ فقال ابن أبي دؤاد: نعم. فأعرض الشيخ عنه، فأقبل على الواثق، فقال: يا أمير المؤمنين قدمت القول أن أحمد يصبو ويقل ويضعف عن المناظرة، يا أمير المؤمنين إن لم يتسع لك من الإمساك عن هذه المقالة ما اتسع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فلا وسع الله على من لم يتسع له ما اتسع لهم من ذلك. فقال الواثق: نعم، إن لم يتسع لنا من الإمساك عن هذه المقالة ما اتسع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فلا وسع الله علينا، اقطعوا قيد الشيخ. فلما قطع، ضرب الشيخ بيده إلى القيد ليأخذه، فجاذبه الحداد عليه، فقال الواثق: دع الشيخ ليأخذه، فأخذه الشيخ فوضعه في كمه، فقال الواثق: لم جاذبته عليه؟ قال الشيخ: لأني نويت أن أتقدم إلى من أوصي إليه إذا أنا مت أن يجعله بيني وبين كفني حتى أخاصم به هذا الظالم عند الله يوم القيامة، وأقول: يا رب سل عبدك هذا لم قيدني؟ وروع أهلي وولدي وإخواني بلا حق أوجب ذلك علي؟ وبكى الشيخ، فبكى الواثق فبكينا، ثم سأله الواثق أن يجعله في حل وسعة مما ناله، فقال الشيخ: والله يا أمير المؤمنين لقد جعلتك في حل وسعة من أول يوم إكراما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ كنت رجلا من أهله. فقال الواثق: لي إليك حاجة، فقال الشيخ: إن كانت ممكنة فعلت. فقال الواثق: تقيم قبلنا، فينتفع بك فتياننا. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين إن ردك إياي إلى الموضع الذي أخرجني منه هذا الظالم أنفع لك من مقامي عليك، وأخبرك بما في ذلك أصير إلى أهلي وولدي، فأكف دعاءهم، فقد

خلفتهم على ذلك. فقال الواثق: فتقبل منا صلة تستعين بها على دهرك. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين لا تحل لي أنا عنها غني، وذو مرة سوي، قال: فاسأل حاجتك. قال: أو تقضيها يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم. قال: تخلي سبيلي الساعة وتأذن لي فيه. قال: لقد أذنت لك. فسلم عليه الشيخ وخرج. قال صالح: قال المهتدي بالله: فرجعت عن هذه المقالة من ذلك اليوم، وأظن الواثق بالله كان رجع عنها من ذلك الوقت. (¬1) - قال ابن بطة في الإبانة: رأيت في كتب بعض شيوخنا بخطه: حدثنا أبو موسى -محمد بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن عيسى بن منصور- قال: أخبرنا صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور، قال: كنت يوما بين يدي أمير المؤمنين المهتدي بالله رحمة الله عليه، وقد جلس للنظر في المظالم للعامة، فجعلت أنظر إليه، فذكر نحو القصة الأولى أو شبيها بها حتى بلغ منها قوله: يا أحمد أخبرني عن الله عز وجل حين نزل على رسوله في القرآن: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (¬2)، وقلت أنت: الدين لا يكون كاملا حتى يقال بمقالتك، أكان الله الصادق في إكماله، أم أنت الصادق في نقصانه؟ فسكت أحمد، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين هذه ثنتان. ثم قال الشيخ: يا أحمد الكلمة التي يكون الله تعالى بها الأشياء من أي شيء خلقها؟ فسكت أحمد، فقال الشيخ: ثلاث يا أمير المؤمنين. ثم قال ¬

(¬1) الإبانة (2/ 14/269 - 274/ 452) وتاريخ بغداد (10/ 75 - 78). (¬2) المائدة الآية (3).

الشيخ: يا أحمد أخبرني حيث كان الله في وحدانيته قبل أن يخلق الخلق كان تاما أو ناقصا؟ قال: بل تاما. قال: فكيف يكون تاما من لا كلام له؟ فسكت أحمد فقال: أربع يا أمير المؤمنين. قال الشيخ: يا أحمد أكان الله عالما تام العلم، أم كان جاهلا؟ فسكت أحمد. فقال: خمس يا أمير المؤمنين. ثم قال الشيخ: يا أحمد قوله: {ولكن حق القول مني} (¬1) الكلمة منه أم خلقها من غيره؟ فأمسك أحمد، فقال: ست يا أمير المؤمنين. وذكر من القصة في القيد وغيرها شبيها بما مضى في الخبر الأول وزاد فيه: قال الواثق: يا شيخ زد أحمد من هذه الحجج لعله يرجع عن هذه المقالة. قال: يا أمير المؤمنين عليكم نزل العلم، ومنكم اقتبسناه، ثم قال الشيخ: يا أحمد قد علمنا وعلمت أن الله عز وجل قال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (¬2) أليس ما أنزل الله على رسوله؟ قال: نعم. قال: فهل تقدر أن تقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلغنا هذا الذي تدعونا إليه؟ أم هذه المقالة في كتاب الله أو سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - حتى نتابعك عليها، وإن قلت: إنه لم يبلغنا، فقد نسبت رسول الله إلى التقصير في أمر الله، وأنه كتم أمرا أمره الله إبلاغنا إياه، فسكت أحمد فلم يجبه بشيء. قال الشيخ: يا أحمد قول الله عز وجل: يا ¬

(¬1) السجدة الآية (13). (¬2) المائدة الآية (67).

موسى {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} (¬1) أفيجوز أن يكون هذا مخلوقا؟ فسكت أحمد. قال الواثق: يا شيخ سلني حاجة. قال: حاجتي أن تردني الساعة إلى منزلي الذي أخرجت عنه، فأمر برده مكرما. قال صالح: فقال أمير المؤمنين المهتدي بالله: فرجعت في ذلك اليوم عن تلك المقالة، ورجع أمير المؤمنين الواثق، ولم نسمعه يناظر في شيء من ذلك القول حتى مات. (¬2) ¬

(¬1) طه الآية (14). (¬2) الإبانة (2/ 14/275 - 277/ 453).

أحمد بن حنبل (241 هـ)

أحمد بن حنبل (¬1) (241 هـ) أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الإمام حقا وشيخ الإسلام صدقا أبو عبد الله الذهلي الشيباني المروزي ثم البغدادي أحد الأئمة الأعلام. روى عن الشافعي ومعتمر بن سليمان ومحمد بن جعفر وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الرزاق بن همام ووكيع بن الجراح وعدة. روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود وإبراهيم الحربي وابناه صالح وعبد الله وأبو حاتم وأبو زرعة وطائفة. قال أبو عبيد: إني لأتدين بذكر أحمد، ما رأيت رجلا أعلم بالسنة منه. قال المزني: أحمد بن حنبل يوم المحنة، وأبو بكر يوم الردة، وعمر يوم السقيفة، وعثمان يوم الدار، وعلي يوم الجمل وصفين. وقال الشافعي: خرجت من العراق، فما تركت رجلا أفضل ولا أعلم ولا أورع ولا أتقى من أحمد بن حنبل. وقال أبو الحسن الطرخاباذي الهمداني: أحمد ابن حنبل محنة به يعرف المسلم من الزنديق. ومناقبه كثيرة، قد أفردها العلماء بالتأليف كابن الجوزي والبيهقي وغيرهما. توفي رحمه الله سنة إحدى وأربعين ومائتين. موقفه من المبتدعة: - عن إبراهيم بن محمد بن الحسن قال: حدثت عن أحمد بن حنبل، وذكر حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تفترق الأمة على نيف وسبعين فرقة، كلها في النار ¬

(¬1) طبقات ابن سعد (7/ 354 - 355) والجرح والتعديل (1/ 292 - 313) والحلية (9/ 161 - 233) وتاريخ بغداد (4/ 412 - 423) ووفيات الأعيان (1/ 63 - 65) وتهذيب الكمال (1/ 437 - 470) وتذكرة الحفاظ (1/ 431 - 432) والوافي بالوفيات (6/ 363 - 369) والبداية والنهاية (10/ 340 - 358) والسير (11/ 177 - 358).

إلا فرقة" (¬1)، فقال: إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم. (¬2) - جاء في طبقات الحنابلة: عن أحمد بن حنبل -في تفسير حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسا " (¬3)؟ - قال: هم أصحاب الحديث. (¬4) - وفيها: رأى أحمد بن حنبل أصحاب الحديث، وقد خرجوا من عند محدث والمحابر بأيديهم. فقال أحمد: إن لم يكن هؤلاء الناس، فلا أدري من الناس؟. (¬5) - وفيها: حدثنا أحمد بن مروان الخزاعي، حدثنا صالح بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يقول: ما الناس إلا من يقول: حدثنا، وأخبرنا، وسائر الناس لا خير فيهم. (¬6) - وفيها بالسند إلى أبي إسماعيل الترمذي قال: كنت أنا وأحمد بن الحسن الترمذي عند أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، فقال له أحمد بن ¬

(¬1) أحمد (4/ 102) وأبو داود (5/ 5 - 6/ 4597) والحاكم (1/ 128) من حديث معاوية بن أبي سفيان وقال: "هذه أسانيد تقام بها الحجة في تصحيح هذا الحديث" ووافقه الذهبي. وقال العراقي في تخريج الأحياء (4/ 1879): "ورواه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو وحسنه، ولأبي داود من حديث معاوية وابن ماجه من حديث عوف وأنس ابن مالك وأسانيدها جياد". والحديث صححه غير واحد من أهل العلم. انظر الصحيحة (1/ 204). (¬2) شرف أصحاب الحديث (25) وتلبيس إبليس (400). (¬3) أخرجه: أحمد (4/ 200) وابن ماجه (1/ 5/8 المقدمة) وابن حبان (الإحسان 2/ 32 - 33/ 326) عن أبي عنبة الخولاني وقال البوصيري في الزوائد (1/ 44): "هذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات". (¬4) طبقات الحنابلة (1/ 391). (¬5) طبقات الحنابلة (1/ 426). (¬6) طبقات الحنابلة (3/ 136).

الحسن: يا أبا عبد الله ذكروا لابن أبي قتيلة بمكة أصحاب الحديث فقال: أصحاب الحديث قوم سوء، فقام أبو عبد الله وهو ينفض ثوبه ويقول: زنديق زنديق زنديق فدخل البيت. (¬1) - وفيها قال أحمد: من كذَّب بالرواية فهو زنديق. (¬2) - وفيها: قال المروذي سئل أحمد: أمر في الطريق فأسمع الإقامة: ترى أن أصلي؟ فقال: قد كنت أسهل، فأما إذ كثرت البدع (¬3) فلا تصل إلا خلف من تعرف. (¬4) - وفيها: حدثنا الفضل قال: سمعت أبا عبد الله وسئل عن الرجل يسأل عن الشيء من المسائل، فيرشد صاحب المسألة إلى رجل يسأله عنها، هل عليه شيء في ذلك؟ فقال: إذا كان الرجل متبعا أرشده إليه فلا بأس، قيل له فيفتي بقول مالك وهؤلاء؟ قال: لا، إلا بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآثاره وما روي عن أصحابه، فإن لم يكن روي عن أصحابه شيء فعن التابعين. (¬5) " التعليق: لله در هذا الإمام ما أعظم حرصه على السنة، ماذا يقول مقلدة الحنابلة وغيرهم في هذا إذا ظهر لهم الدليل؟ فهذا الإمام يشترط في الفتوى ¬

(¬1) طبقات الحنابلة (1/ 38) وشرف أصحاب الحديث (ص.74) وذم الكلام (78) وتلبيس إبليس (400) ومجموع الفتاوى (4/ 96). (¬2) طبقات الحنابلة (1/ 95). (¬3) المقصود: البدع التي تصل بأصحابها إلى الكفر. (¬4) طبقات الحنابلة (1/ 59). (¬5) طبقات الحنابلة (2/ 15).

أن تكون مصحوبة بسنة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو آثار عن الصحابة أو التابعين. أما الذي يفتي الفتوى مجردة عن الدليل فلم يأذن الإمام في استفتائه. - وفي فتح الباري: عن أحمد: يؤخذ العلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم عن الصحابة فإن لم يكن فهو في التابعين مخير. (¬1) - وفي طبقات الحنابلة: قال أبو عبد الله: إنما على الناس اتباع الآثار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعرفة صحيحها من سقيمها ثم يتبعها إذا لم يكن لها مخالف، ثم بعد ذلك قول أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأكابر وأئمة الهدى يتبعون على ما قالوا وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك لا يخالفون إذا لم يكن قول بعضهم لبعض مخالفا، فإذا اختلفوا نظر في الكتاب بأي قولهم كان أشبه بالكتاب أخذ به أو كان أشبه بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ به، فإن لم يأت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، نظر في قول التابعين فأي قولهم كان أشبه بالكتاب والسنة أخذ به وترك ما أحدث الناس بعدهم. (¬2) - وقال قتيبة: خير أهل زماننا ابن المبارك، ثم هذا الشاب، يعني: أحمد ابن حنبل، وإذا رأيت رجلا يحب أحمد، فاعلم أنه صاحب سنة. ولو أدرك عصر الثوري، والأوزاعي، والليث، لكان هو المقدم عليهم. فقيل لقتيبة: يضم أحمد إلى التابعين؟ قال: إلى كبار التابعين. وقال قتيبة: لولا الثوري، ¬

(¬1) الفتح (3/ 29). (¬2) طبقات الحنابلة (2/ 15 - 16).

لمات الورع، ولولا أحمد لأحدثوا في الدين، أحمد إمام الدنيا. (¬1) - قال حنبل صليت بأبي عبد الله العصر، فصلى معنا رجل يقال له محمد بن سعيد الختلي، وكان يعرفه بالسنة. فقعد أبو عبد الله بعد الصلاة، وبقيت أنا وهو والختلي في المسجد ما معنا رابع. فقال لأبي عبد الله: نهيت عن زيد بن خلف أن لا يكلم؟ قال: كتب إلي أهل الثغر يسألوني عن أمره، فكتبت إليهم، فأخبرتهم بمذهبه وما أحدث، وأمرتهم أن لا يجالسوه، فاندفع الختلي على أبي عبد الله، فقال: والله لأردنك إلى محبسك، ولأدقن أضلاعك ... في كلام كثير. فقال لي أبو عبد الله: لا تكلمه ولا تجبه. وأخذ أبو عبد الله نعليه وقام فدخل وقال: مر السكان أن لا يكلموه ولا يردوا عليه. فما زال يصيح، ثم خرج. فلما كان بعد ذلك، ذهب هذا الختلي إلى شعيب، وكان قد ولي على قضاء بغداد، وكانت له في يديه وصية، فسأله عنها، ثم قال له شعيب: يا عدو الله، وثبت على أحمد بالأمس، ثم جئت تطلب الوصية، إنما أردت أن تتقرب إلي بذا، فزبره، ثم أقامه. فخرج بعد إلى حسبة العسكر. (¬2) - عن أحمد بن شهاب الإسفراييني: سمعت أحمد بن حنبل، وسئل عمن نكتب في طريقنا؟ فقال: عليكم بهناد، وبسفيان بن وكيع، وبمكة ابن أبي عمر، وإياكم أن تكتبوا، يعني: عن أحد من أصحاب الأهواء، قليلا ولا ¬

(¬1) السير (11/ 195). (¬2) السير (11/ 221).

كثيرا. عليكم بأصحاب الآثار والسنن. (¬1) - جاء في سير أعلام النبلاء: ثم إن رافعا رفع إلى المتوكل: إن أحمد رَبَّص علويا في منزله، يريد أن يخرجه ويبايع عليه. قال: ولم يكن عندنا علم، فبينا نحن ذات ليلة نيام في الصيف، سمعنا الجلبة، ورأينا النيران في دار أبي عبد الله، فأسرعنا، وإذا به قاعد في إزار، ومظفر بن الكلبي صاحب الخبر، وجماعة معهم، فقرأ صاحب الخبر كتاب المتوكل: ورد على أمير المؤمنين أن عندكم علويا ربصته لتبايع له، وتظهره، في كلام طويل. ثم قال له مظفر: ما تقول؟ قال: ما أعرف من هذا شيئا، وإني لأرى له السمع والطاعة في عسري ويسري، ومنشطي ومكرهي، وأثرة علي، وإني لأدعو الله له بالتسديد والتوفيق في الليل والنهار، في كلام كثير. فقال مظفر: قد أمرني أمير المؤمنين أن أحلفك، قال: فأحلفه بالطلاق ثلاثا، أن ما عنده طلبة أمير المؤمنين. ثم فتشوا منزل أبي عبد الله والسرب والغرف والسطوح، وفتشوا تابوت الكتب، وفتشوا النساء والمنازل، فلم يروا شيئا، ولم يحسوا بشيء، ورد الله الذين كفروا بغيظهم، وكتب بذلك إلى المتوكل، فوقع منه موقعا حسنا، وعلم أن أبا عبد الله مكذوب عليه. وكان الذي دس عليه رجل من أهل البدع. ولم يمت حتى بين الله أمره للمسلمين، وهو ابن الثلجي. (¬2) - قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: من مات على الإسلام والسنة، ¬

(¬1) السير (11/ 231). (¬2) السير (11/ 266 - 267).

مات على الخير؟ فقال: اسكت، بل مات على الخير كله. (¬1) - قال أبو مزاحم الخاقاني: قال لي عمي عبد الرحمن بن يحيى بن خاقان: أمر المتوكل بمسألة أحمد عمن يقلد القضاء، فسألت عمي أن يخرج إلي جوابه، فوجه إلي نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم نسخة الرقعة التي عرضتها على أحمد بن محمد ابن حنبل بعد أن سألته، فأجابني بما قد كتبته. سألته عن أحمد بن رباح، فقال فيه: جهمي معروف، وإنه إن قلد شيئا من أمور المسلمين، كان فيه ضرر عليهم. وسألته عن الخلنجي، فقال فيه: كذلك. وسألته عن شعيب بن سهل، فقال: جهمي معروف بذلك. وسألته عن عبيد الله بن أحمد، فقال: كذلك. وسألته عن المعروف بأبي شعيب، فقال: كذلك. وسألته عن محمد ابن منصور قاضي الأهواز، فقال: كان مع ابن أبي دؤاد، وفي ناحيته وأعماله، إلا أنه كان من أمثلهم. وسألته عن علي بن الجعد، فقال: كان معروفا بالتجهم، ثم بلغني أنه رجع. وسألته عن الفتح بن سهل، فقال: جهمي من أصحاب المريسي. وسألته عن الثلجي، فقال: مبتدع صاحب هوى. وسألته عن إبراهيم بن عتاب، فقال: لا أعرفه إلا أنه كان من أصحاب بشر المريسي، وفي الجملة أن أهل البدع والأهواء، لا ينبغي أن يستعان بهم في شيء من أمور المسلمين مع ما عليه رأي أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، من التمسك بالسنة والمخالفة لأهل البدع. يقول أحمد بن محمد بن ¬

(¬1) السير (11/ 296).

حنبل: قد سألني عبد الرحمن بن يحيى عن جميع من في هذا الكتاب، وأجبته بما كتب، وكنت عليل العين ضعيفا في بدني، فلم أقدر أن أكتب بخطي، فوقع هذا التوقيع في أسفل القرطاس عبد الله ابني بأمري، وبين يدي. (¬1) - قال الخلال: بلينا بقوم جهال، يظنون أنهم علماء. فإذا ذكرنا فضائل أبي عبد الله، يخرجهم الحسد، إلى أن قال بعضهم فيما أخبرني ثقة عنه: أحمد ابن حنبل نبيهم. (¬2) - قال صالح ابن الإمام أحمد: وجاء جار لنا قد خضب، فقال أبي: إني لأرى الرجل يحيي شيئا من السنة فأفرح به. (¬3) - قال السلمي: حضرت جنازة أبي الفتح القواس مع الدارقطني، فلما نظر إلى الجمع، قال: سمعت أبا سهل بن زياد، يقول: سمعت عبد الله بن أحمد، يقول: سمعت أبي يقول: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم يوم الجنائز. (¬4) - عن الخلال: سمعت عبد الوهاب الوراق: يقول: أظهر الناس في جنازة أحمد بن حنبل السنة والطعن على أهل البدع، فسر الله المسلمين بذلك على ما عندهم من المصيبة لما رأوا من العز وعلو الإسلام، وكبت أهل الزيغ. (¬5) - عن أبي العباس الفضل بن زياد قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن ¬

(¬1) السير (11/ 297 - 298). (¬2) السير (11/ 305). (¬3) السير (11/ 335) ومناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص.403). (¬4) السير (11/ 340). (¬5) السير (11/ 342).

محمد بن حنبل يقول: نظرت في المصحف فوجدت فيه طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة وثلاثين موضعا ثم جعل يتلو: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬1). وجعل يكررها ويقول: وما الفتنة؟ الشرك لعله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيزيغ قلبه فيهلكه. وجعل يتلو هذه الآية: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (¬2). (¬3) - قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: من رد حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو على شفا هلكة. (¬4) " التعليق: قال ابن بطة: فالله الله إخواني، احذروا مجالسة من قد أصابته الفتنة فزاغ قلبه وعشيت بصيرته واستحكمت للباطل نصرته، فهو يخبط في عشواء ويعشو في ظلمة أن يصيبكم ما أصابهم، فافزعوا إلى مولاكم الكريم فيما أمركم به من دعوته وحضكم عليه من مسألته فقولوا: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ ¬

(¬1) النور الآية (63). (¬2) النساء الآية (65). (¬3) الإبانة (1/ 1/260/ 97) وطبقات الحنابلة (1/ 97 - 98). (¬4) الإبانة (1/ 1/260/ 97) والفقيه والمتفقه (1/ 289) وطبقات الحنابلة (2/ 15) والسير (11/ 297).

الْوَهَّابُ} (¬1).اهـ (¬2) - قال أبو علي حنبل بن إسحاق بن حنبل: كتب رجل إلى أبي عبد الله رحمه الله كتابا يستأذنه فيه أن يضع كتابا يشرح فيه الرد على أهل البدع، وأن يحضر مع أهل الكلام فيناظرهم ويحتج عليهم، فكتب إليه أبو عبد الله: بسم الله الرحمن الرحيم، أحسن الله عاقبتك ودفع عنك كل مكروه ومحذور، الذي كنا نسمع وأدركنا عليه من أدركنا من أهل العلم أنهم كانوا يكرهون الكلام والجلوس مع أهل الزيغ، وإنما الأمور في التسليم والانتهاء إلى ما كان في كتاب الله أو سنة رسول الله، لا في الجلوس مع أهل البدع والزيغ لترد عليهم، فإنهم يلبسون عليك وهم لا يرجعون. فالسلامة إن شاء الله في ترك مجالستهم والخوض معهم في بدعتهم وضلالتهم، فليتق الله امرؤ وليصر إلى ما يعود عليه نفعه غدا من عمل صالح يقدمه لنفسه، ولا يكن ممن يحدث أمرا فإذا هو خرج منه أراد الحجة فيحمل نفسه على المحال فيه وطلب الحجة لما خرج منه، بحق أو بباطل ليزين به بدعته وما أحدث، وأشد من ذلك أن يكون قد وضعه في كتاب قد حمل عنه، فهو يريد أن يزين ذلك بالحق والباطل وإن وضح له الحق في غيره ونسأل الله التوفيق لنا ولك والسلام عليك. (¬3) - عن إسحاق بن إبراهيم بن هانيء قال: سألت أبا عبد الله عن رجل ¬

(¬1) آل عمران الآية (8). (¬2) الإبانة (1/ 1/260 - 261). (¬3) الإبانة (2/ 3/471 - 472/ 481).

مبتدع داعية يدعو إلى بدعته يجالس؟ قال أبو عبد الله: لا يجالس ولا يكلم لعله يتوب. (¬1) - عن حنبل بن إسحاق قال: سمعت أبا عبد الله يقول: أهل البدع ما ينبغي لأحد أن يجالسهم ولا يخالطهم ولا يأنس بهم. (¬2) - عن أبي بكر المروذي، قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل ينكر على أصحاب القياس ويتكلم فيهم بكلام شديد. (¬3) - عن أبي بكر الأثرم، قال: سمعت أبا عبد الله: أحمد بن حنبل، يقول: إنما هو السنة والاتباع، وإنما القياس أن نقيس على أصل، فأما أن تجيء إلى الأصل فتهدمه، ثم تقول هذا قياس، فعلى أي شيء كان هذا القياس؟. قيل لأبي عبد الله، فلا ينبغي أن يقيس إلا رجل عالم كبير، يعرف كيف يشبه الشيء بالشيء. فقال: أجل، لا ينبغي. (¬4) - عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: قلت لأبي: رجل وقعت له مسألة وفي البلد رجل من أهل الحديث فيه ضعف، وفقيه من أهل الرأي، أيهما يسأل، قال: لا تسأل أهل الرأي، ضعيف الحديث خير من قوي الرأي. (¬5) - وكتب إلى أبي سليمان الجوزجاني: إن أمسكت عن كتب الرأي ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/475/ 494). (¬2) الإبانة (2/ 3/475/ 495). (¬3) الفقيه والمتفقه (1/ 463). (¬4) الفقيه والمتفقه (1/ 500). (¬5) ذم الكلام (98).

سمعنا منك كتب الحديث. وأرسل إلى يحيى بن صالح الوحاظي الحمصي، إن تركت الرأي أتيناك فسمعنا منك. (¬1) - وسئل أحمد بن حنبل عن النظر في الرأي فكرهه ونهى عنه. (¬2) - وحكي عن أحمد بن حنبل: أنه قال: إذا رأيت الرجل يبغض مالكا، فاعلم أنه مبتدع. (¬3) - قال أحمد: من دل على صاحب رأي ليفتنه، فقد أعان على هدم الإسلام. (¬4) - قال زياد بن أيوب: سألت أحمد بن حنبل عن أبي ثور؟ فقال: لا يجالس. (¬5) - قال أبو داود السجستاني: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: أرى رجلا من أهل السنة مع رجل من أهل البدعة، أَتْرُكُ كلامَه؟ قال: لا، أو تُعلِمَه أن الرجل الذي رأيته معه صاحب بدعة. فإِنْ تَركَ كلامه فكلمه، وإلا فألحقه به. قال ابن مسعود: المرء بخدنه. (¬6) - عن عبد الله بن أحمد حدثنا أبي قال: قبور أهل السنة من أهل الكبائر روضة. وقبور أهل البدعة من الزهاد حفرة، فساق أهل السنة أولياء الله. ¬

(¬1) ذم الكلام (296). (¬2) ذم الكلام (110). (¬3) الاعتصام (2/ 631). (¬4) طبقات الحنابلة (1/ 54) والسير (12/ 485). (¬5) طبقات الحنابلة (1/ 158). (¬6) طبقات الحنابلة (1/ 160).

وزهاد أهل البدعة أعداء الله. (¬1) - عن عبد الله بن محمد بن الفضل الصيداوي قال: قال لي أحمد: إذا سلم الرجل على المبتدع فهو يحبه. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم (¬2) ". (¬3) - عن عبد السلام قال: قلت لأبي عبد الله: إن بطرسوس رجلا قد سمع رأي عبد الله بن المبارك يفتي به. قال: هذا من ضيق علم الرجل، يقلد دينه رجلا، لا يكون واسعا في العلم. (¬4) - عن علي بن أبي خالد قال: قلت لأحمد: إن هذا الشيخ -لشيخ حضر معنا- هو جاري وقد نهيته عن رجل، ويحب أن يسمع قولك فيه: حرث القصير -يعني حارثا المحاسبي- وكنت رأيتني معه منذ سنين كثيرة، فقلت لي: لا تجالسه، ولا تكلمه. فلم أكلمه حتى الساعة. وهذا الشيخ يجالسه، فما تقول فيه؟ فرأيت أحمد قد احمر لونه، وانتفخت أوداجه وعيناه. وما رأيته هكذا قط. ثم جعل ينتفض، ويقول: ذاك؟ فعل الله به وفعل. ليس يعرف ذاك إلا من خبره وعرفه، أويه، أويه، أويه. ذاك لا يعرفه إلا من قد خبره وعرفه. ذاك جالسه المغازلي ويعقوب وفلان. فأخرجهم إلى رأي جهم. هلكوا بسببه. فقال له الشيخ: يا أبا عبد الله، يروي الحديث، ساكن خاشع، ¬

(¬1) طبقات الحنابلة (1/ 184). (¬2) أخرجه: أحمد (2/ 291) ومسلم (1/ 74/54) وأبو داود (5/ 378/5193) والترمذي (5/ 50/2688) وابن ماجه (1/ 26/68) عن أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) طبقات الحنابلة (1/ 196). (¬4) طبقات الحنابلة (1/ 217) وتلبيس إبليس (101) وإعلام الموقعين (2/ 200 - 201).

من قصته ومن قصته؟ فغضب أبو عبد الله، وجعل يقول: لا يغرك خشوعه ولينه، ويقول: لا تغتر بتنكيس رأسه. فإنه رجل سوء، ذاك لا يعرفه إلا من قد خبره. لا تكلمه، ولا كرامة له. كل من حدث بأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان مبتدعا تجلس إليه؟ لا، ولا كرامة، ولا نعمى عين. وجعل يقول: ذاك. ذاك. (¬1) - عن الفضل بن مهران أبي العباس قال: سألت أحمد، قلت: إن عندنا قوما يجتمعون فيدعون، ويقرءون القرآن، ويذكرون الله. فما ترى فيهم؟ فقال لي أحمد: يقرأ في المصحف، ويذكر الله في نفسه، ويطلب حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قلت: فأخ لي يفعل هذا، فأنهاه؟ قال: نعم. قلت: فإن لم يقبل؟ قال: بلى، إن شاء الله. فإن هذا محدث: الاجتماع والذي تصف. (¬2) - عن الفضل بن نوح قال: قلت لأحمد: أريد الخروج إلى الثغر، وإني أسأل عن هذين الرجلين: عن الكرابيسي، وأبي ثور؟ فقال: احذرهما. (¬3) - عن محمد بن بندار السباك الجرجاني قال: قلت لأحمد بن حنبل رضي الله عنه: إني ليشتد علي أن أقول: فلان ضعيف، فلان كذاب. قال أحمد: إذا سكت أنت وسكت أنا، فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم؟ (¬4) ¬

(¬1) طبقات الحنابلة (1/ 233 - 234). (¬2) طبقات الحنابلة (1/ 255). (¬3) طبقات الحنابلة (1/ 255). (¬4) طبقات الحنابلة (1/ 287).

- عن محمد بن يسر بن بشر بن أبي طاهر البلدي أحد الأصحاب قال أبو بكر الخلال: سمعته يقول: سألت أبا عبد الله عن النظر في الرأي؟ فقال: عليك بالسنة. فقلت له: يا أبا عبد الله، صاحب حديث ينظر في الرأي إنما يريد أن يعرف رأي من خالفه؟ فقال: عليك بالسنة. (¬1) - قال أبو طالب: أخبروني عن الكرابيسي أنه ذكر قول الله: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬2) قال: لو أكمل لنا ديننا ما كان هذا الاختلاف. فقال: -يعني أحمد بن حنبل- هذا الكفر صراحا. (¬3) - سألت أبا عبد الله -يعني أحمد بن حنبل- عن الكرابيسي، وما أظهر، فكلح وجهه، ثم قال: إنما جاء بلاؤهم من هذه الكتب التي وضعوها، تركوا آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وأقبلوا على هذه الكتب. (¬4) - وجاء في طبقات الحنابلة: قرأت في كتاب أبي جعفر محمد بن أحمد ابن صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل حدثني عمي زهير بن صالح قال: قرأ علي أبي صالح بن أحمد هذا الكتاب وقال: هذا كتاب عمله أبي رضي الله عنه في مجلسه، ردا على من احتج بظاهر القرآن، وترك ما فسره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودل على معناه، وما يلزم من اتباعه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رحمة الله عليهم. قال ¬

(¬1) طبقات الحنابلة (1/ 327). (¬2) المائدة الآية (3). (¬3) طبقات الحنابلة (1/ 40). (¬4) شرف أصحاب الحديث (6).

أبو عبد الله: إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه بعث محمدا نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. وأنزل عليه كتابه الهدى والنور لمن اتبعه. وجعل رسوله - صلى الله عليه وسلم - الدال على معنى ما أراد من ظاهره وبالسنة، وخاصه وعامه، وناسخه ومنسوخه، وما قصد له الكتاب. فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المعبر عن كتاب الله، الدال على معانيه. شاهده في ذلك أصحابه، من ارتضاه الله لنبيه واصطفاه له. ونقلوا ذلك عنه. فكانوا هم أعلم الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وبما أخبر عن معنى ما أراه الله من ذلك بمشاهدتهم ما قصد له الكتاب. فكانوا هم المعبرين عن ذلك بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال جابر بن عبد الله: ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا عليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا. فقال قوم: بل نستعمل الظاهر، وتركوا الاستدلال برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقبلوا أخبار أصحابه. وقال ابن عباس للخوارج: أتيتكم من عند أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المهاجرين والأنصار، ومن عند ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصهره، وعليهم نزل القرآن، وهم أعلم بتأويله منكم. وليس فيكم منهم أحد. وذكر تمام الكتاب بطوله. (¬1) - قال المروذي: قلت لأبي عبد الله -يعني إمامنا أحمد- ترى للرجل أن يشتغل بالصوم والصلاة، ويسكت عن الكلام في أهل البدع؟ فكلح وجهه، وقال: إذا هو صام وصلى واعتزل الناس، أليس إنما هو لنفسه؟ قلت: بلى. قال: فإذا تكلم كان له ولغيره. يتكلم أفضل. (¬2) ¬

(¬1) طبقات الحنابلة (2/ 65). (¬2) طبقات الحنابلة (2/ 216).

- عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: قلت لأبي: ما تقول في أصحاب الحديث يأتون الشيخ لعله أن يكون مرجئا أو شيعيا أو فيه شيء من خلاف السنة، أيسعني أن أسكت عنه أم أحذر عنه؟ فقال أبي: إن كان يدعو إلى بدعة وهو إمام فيها ويدعو إليها قال: نعم تحذر عنه. (¬1) - عن محمد بن أحمد بن أبي الثلج، قال حدثني جدي قال: سألت أحمد ابن حنبل، قلت: يا أبا عبد الله أيهما أحب إليك: الرجل يكتب الحديث أو يصوم ويصلي؟ قال: يكتب الحديث. قلت: فمن أين فضلت كتابة الحديث على الصوم والصلاة؟ قال: لئلا يقول قائل: إني رأيت قوما على شيء فاتبعتهم. " التعليق: قال الخطيب قلت: طلب الحديث في هذا الزمان أفضل من سائر أنواع التطوع لأجل دروس السنن وخمولها، وظهور البدع واستعلاء أهلها. (¬2) هذا التعليق من إمام المحدثين الخطيب البغدادي يدل على حراسة كبيرة لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومراقبة لسيرها وانتشارها وكثرة وقلة حملتها وبروز أئمة في علومها، وظهور ما يضادها من مخالفين ومدافعين لها ومزاحمين لها بمناهج ضالة واسعة تستغرق الأعمار والأجيال، ويرى في ظاهرها اللمعان والانجذاب، ويرى رحمه الله أن الغفلة عن هذا التصوير الصحيح يعرض الإسلام تماما للزوال، إلا أن الله ضمن بقاءه على يد الطائفة المنصورة، ¬

(¬1) الكفاية (46). (¬2) شرف أصحاب الحديث (85 - 86).

ويعرض الإسلام إلى كثير من التلبيسات والتحريفات المقصودة وذوبانه باسمه وتحت شعاره هذا في زمن الخطيب، فكيف بزماننا نحن الذي انتشرت فيه كل المذاهب الهدامة الكفرية الخارجة عن دائرة الإسلام، ولها أنصار ودول تعضدها وتنفق عليها وتخصص لها أعظم الميزانيات المالية. وأما المخالفون في دائرة الإسلام، فلا تسأل عن تمردهم عن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وازدراء أهلها واحتقارهم ووصفهم بكل الأوصاف المشينة ومتابعتهم في كل خطواتهم للزج في كل متاهة سوء لعلهم ينحرفون عن منهاجهم ويرتدون عن أصولهم، ويوافقون كل منافق وناعق في كل ما يريده من انحراف وتحريف. اللهم هيئ للأمة الإسلامية أمر رشد يعز فيها أهل السنة ويذل فيها أهل البدعة والضلالة. - قال يحيى بن منده في مناقب الإمام: وجدت بخط المؤتمن البغدادي الشيخ الصالح الثقة المتدين رحمه الله، قال: قال أبو يعلى الحنبلي البغدادي: أخرج إلي أبو الفتح عبد الوهاب بن أحمد الحراني صاحبنا هذه الأبيات، قال: وجدتها في كتاب المصباح، قال: أنشدني أبو منصور الفقيه لأحمد بن محمد ابن حنبل رحمه الله: يا طالب العلم، صارم كل بطال ... وكل غاد إلى الأهواء ميال واعمل بعلمك سرا أو علانية ... ينفعك يوما على حال من الحال ولا تميلن -يا هذا- إلى بدع ... تضل أصحابها بالقيل والقال خذ ما أتاك به ما جاء من أثر ... شبها بشبه وأمثالا بأمثال

ألا فكن أثريا خالصا فهما ... تعش حميدا ودع آراء ضلال (¬1) - عن أحمد بن حنبل قال: أصول الإيمان ثلاثة: دال، ودليل، ومستدل. فالدال: الله تبارك وتعالى، والدليل: القرآن، والمستدل: المؤمن. فمن طعن على حرف من القرآن فقد طعن على الله تعالى وعلى كتابه وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) - وقال أبو عمر بن عبد البر: أنشدني عبد الرحمن بن يحيى قال: أنشدني أبو علي الحسن بن الخضر الأسيوطي بمكة قال: أنشدنا أبو القاسم محمد بن جعفر الأخباري قال: أنشدنا عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه: دين النبي محمد أخبار ... نعم المطية للفتى الآثار لا ترغبن عن الحديث وأهله ... فالرأي ليل والحديث نهار ولربما جهل الفتى أثر الهدى ... والشمس بازغة لها أنوار (¬3) - قال الإمام أحمد في خطبته فيما صنفه من 'الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله'، قال: الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس ¬

(¬1) طبقات الحنابلة (3/ 44). (¬2) طبقات الحنابلة (3/ 135). (¬3) جامع بيان العلم (1/ 782).

عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدع، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مخالفون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله، وفي الله، وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن الضالين. (¬1) - عن أبي عبد الرحمن عبيد الله بن أحمد الحلبي قال: سألت أحمد بن حنبل عن محدث كذب في حديث واحد ثم تاب ورجع، قال توبته فيما بينه وبين الله تعالى، ولا يكتب حديثه أبدا. (¬2) - عن الحسين بن منصورقال: سئل أحمد بن حنبل عمن يكتب العلم؟ فقال عن الناس كلهم، إلا عن ثلاثة، صاحب هوى يدعو إليه، أو كذاب فإنه لا يكتب عنه قليل ولا كثير، أو عن رجل يغلط فيرد عليه فلا يقبل. (¬3) - قال أحمد: أصول السنة عندنا هي التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والاقتداء بهم وترك البدع، وكل بدعة فهي ضلالة، وترك الخصومات، والجلوس مع أصحاب الأهواء، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين والسنة عندنا آثار ... وترك الهوى. (¬4) - وكان يقول: لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكا ولا الشافعي ولا الثوري، ¬

(¬1) الرد على الجهمية والزنادقة (ص.85). (¬2) الكفاية (117). (¬3) الكفاية (144). (¬4) أصول الاعتقاد (1/ 176/317).

موقفه من المشركين:

وتعلموا كما تعلمنا. وكان يقول: من قلة علم الرجل أن يقلد دينه الرجال، وقال: لا تقلد دينك الرجال فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا. (¬1) موقفه من المشركين: - قال حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: كل من شتم النبي - صلى الله عليه وسلم - أو تنقصه -مسلما كان أو كافرا- فعليه القتل، وأرى أن يقتل ولا يستتاب. قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: كل من نقض العهد وأحدث في الإسلام حدثا مثل هذا رأيت عليه القتل، ليس على هذا أعطوا العهد والذمة، وكذلك قال أبو الصفراء: سألت أبا عبد الله عن رجل من أهل الذمة شتم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ماذا عليه؟ قال: إذا قامت البينة عليه يقتل من شتم النبي - صلى الله عليه وسلم -، مسلما كان أو كافرا. رواهما الخلال. (¬2) - عن علي بن عبد الله الطيالسي قال: مسحت يدي على أحمد بن حنبل، ثم مسحت يدي على بدني وهو ينظر، فغضب غضبا شديدا، وجعل ينفض نفسه، ويقول: عمن أخذتم هذا؟ وأنكره إنكارا شديدا. (¬3) - جاء في غاية الأماني ردا على القبورية: وأما الإمام أحمد، فذكر الثناء عليه بلفظ الشهادة له بذلك مع الدعاء له بغير الصلاة، ومع دعاء الداعي لنفسه أيضا لم يذكر أن يطلب منه شيئا ولا يقرأ عند القبر: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إذ ¬

(¬1) الفتاوى (20/ 211 - 212). (¬2) الصارم (10). (¬3) طبقات الحنابلة (1/ 228) والسير (11/ 225).

موقفه من الرافضة:

{ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (¬1). (¬2) - جاء في طبقات الحنابلة: وكان أحمد إذا نظر إلى نصراني غمض عينيه، فقيل له في ذلك؟ فقال: لا أقدر أنظر إلى من افترى على الله وكذب عليه. (¬3) موقفه من الرافضة: - قال الإمام أحمد: أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. إلى أن قال: ومن ولي الخلافة فأجمع عليه الناس ورضوا به، ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين، فدفع الصدقات إليه جائز برا كان أو فاجرا. (¬4) - وجاء في البداية والنهاية: قال أحمد حين اجتاز بحمص وقد حمل إلى المأمون في زمن المحنة، ودخل عليه عمرو بن عثمان الحمصي فقال له: ما تقول في الخلافة؟ فقال: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ومن قدم عليا على عثمان فقد أزرى بأصحاب الشورى لأنهم قدموا عثمان رضي الله عنه. (¬5) ¬

(¬1) النساء الآية (64). (¬2) غاية الأماني (1/ 179). (¬3) الطبقات (1/ 12). (¬4) المنهاج (1/ 529). (¬5) البداية (10/ 342) ونحوه في المنهاج (1/ 533 - 534).

- وجاء في أصول الاعتقاد: عن حنبل قال: سمعت أبا عبد الله يعني أحمد أيضا سئل عن التفضيل فقال: أبو بكر وعمر وعثمان وأما الخلافة فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الخلافة في أمتي ثلاثون سنة وقال ابن عمر: كنا نفاضل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنقول أبو بكر ثم عمر ثم عثمان. قال أبو عبد الله: ولا نتعدى الأثر والاتباع، فالاتباع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن بعده لأصحابه إذا رضي أصحابه بذلك، وكانوا هم يفاضلون بعضهم على بعض، هو ذا فلا يعيب بعضهم على بعض فعلينا أن نتبع ما مضى عليه سلفنا ونقتدي بهم رضي الله عنهم. (¬1) - وفيه عن محمد بن يزيد المستملي قال: كنت أسأل أحمد بن حنبل عن الخلفاء الراشدين، فيقول: دع هذا، فلززته يوما إلى حائط فسألته عن الخلفاء الراشدين المهديين كأنه جزم عليه فقال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز رحمة الله عليهم. (¬2) - وعن إبراهيم بن سويد الأرمني قال: قلت: لأحمد بن حنبل: من الخلفاء؟ قال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. قلت: فمعاوية؟ قال: لم يكن أحد أحق بالخلافة في زمن علي من علي رضي الله عنه. ورحم الله معاوية. (¬3) - روى ابن عبد البر بسنده إلى أبي علي الحسن بن أحمد بن الليث ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (8/ 1453/2625). (¬2) أصول الاعتقاد (8/ 1475/2669). (¬3) طبقات الحنابلة (1/ 95).

الرازي قال: سألت أحمد بن حنبل فقلت: يا أبا عبد الله. من تفضل؟ فقال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وهم الخلفاء، فقال: يا أبا عبد الله. إنما أسألك عن التفضيل من تفضل؟ قال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وهم الخلفاء الراشدون المهديون، ورد الباب في وجهي. (¬1) - وفي السنة للخلال عن أحمد بن حنبل قال: من قال: أبو بكر وعمر وعثمان فهو صاحب سنة، ومن قال: أبو بكر وعمر وعلي وعثمان فهو رافضي، أو قال: مبتدع. (¬2) - وفي السنة لعبد الله أنه قال: سمعت أبي يقول: السنة في التفضيل الذي نذهب إليه إلى ما روي عن ابن عمر يقول: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، وأما الخلافة فنذهب إلى حديث سفينة فيقول: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي في الخلفاء، نستعمل الحديثين جميعا ولا نعيب من ربع بعلي، لقرابته وصهره وإسلامه القديم وعدله. (¬3) - وفي السنة للخلال عن محمد بن أبي حسان قال: قلت يا أبا عبد الله كان علي إماما، قال: نعم كان إماما عدلا رحمه الله، وكان عمه حاضرا فقال لي عمه -بحضرة أبي عبد الله وأبو عبد الله يسمع-: هؤلاء الفساق الفجار الذين لا يثبتون إمامة علي: رجل كان يقسم الفيء ويرجم ويقيم الحدود ويسمى أمير المؤمنين فكان خارجي يكذب؟ وأصحاب رسول الله ¬

(¬1) جامع بيان العلم (2/ 1172). (¬2) السنة للخلال (1/ 381). (¬3) السنة لعبد الله (243).

- صلى الله عليه وسلم - يكذبون، وأبو عبد الله ساكت يتبسم. (¬1) - وفي السنة لعبد الله قال: قلت لأبي إن قوما يقولون إنه ليس بخليفة -يعني علي- قال: هذا قول سوء رديء وقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون له: يا أمير المؤمنين، أفنكذبهم؟ وقد حج بالناس وقطع ورجم فيكون هذا إلا خليفة. قلت لأبي: من احتج بحديث عبيدة أنه قال لعلي: رأيك في الجماعة أحب إلي من رأيك في الفرقة، فقال أبي: إنما أراد أمير المؤمنين بذلك أن يضع نفسه بتواضع. قوله -أي علي رضي الله عنه-: خبطتنا فتنة، تواضع بذلك. (¬2) - وفي أصول الاعتقاد: عن محمد بن سليمان بن داود قال: نا وزيره ابن محمد قال: دخلت إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل حين أظهر التربيع بعلي، فقلت يا أبا عبد الله إن هذه اللفظة توجب الطعن على طلحة والزبير فقال لي: بين ما قلت وما نحن وحرب القوم نذكرها؟ فقلت أصلحك الله إنما ذكرناها حين ربعت وأوجبت له الخلافة وما يجب للأئمة قبله قال: وما يمنعني من ذلك؟ قال: قلت حديث ابن عمر فقال لي: عمر حين طعن، قد رضي عليا للخلافة على المسلمين وأدخله في الشورى وعلي بن أبي طالب قد سمى نفسه أمير المؤمنين فأقول أنا ليس للمؤمنين بأمير! فانصرف عنه. (¬3) - قال شيخ الإسلام في المنهاج: وقال أحمد: من لم يربع بعلي في ¬

(¬1) السنة للخلال (1/ 427). (¬2) السنة لعبد الله (243 - 244). (¬3) أصول الاعتقاد (8/ 1475/2670) وطبقات الحنابلة (1/ 393).

الخلافة فهو أضل من حمار أهله. (¬1) - جاء في طبقات الحنابلة: عنه قال: من لم يربع بعلي بن أبي طالب في الخلافة فلا تكلموه ولا تناكحوه. (¬2) - وفي المنهاج أنه رحمه الله قال: السيد الحليم (يعني معاوية (، وكان معاوية كريما حليما. (¬3) - وفي السنة للخلال عن عبد الملك بن عبد الحميد الميموني قال: قلت لأحمد ابن حنبل: أليس قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كل صهر ونسب ينقطع إلا صهري ونسبي" (¬4)؟ قال: بلى، قلت: وهذه لمعاوية؟ قال: نعم له صهر ونسب، قال: وسمعت ابن حنبل يقول: ما لهم ولمعاوية، نسأل الله العافية. (¬5) - وفيها عن هارون بن عبد الله قال: قلت لأبي عبد الله: جاءني كتاب من الرقة أن قوما قالوا: لا نقول معاوية خال المؤمنين، فغضب وقال: ما اعتراضهم في هذا الموضع، يجفون حتى يتوبوا. (¬6) - وفيها عن محمد بن جعفر أن أبا الحارث حدثهم قال: وجهنا رقعة إلى أبي عبد الله: ما تقول رحمك الله فيمن قال: لا أقول إن معاوية كاتب ¬

(¬1) المنهاج (4/ 402). (¬2) طبقات الحنابلة (1/ 45). (¬3) المنهاج (4/ 445). (¬4) أحمد (4/ 323) والبيهقي في السنن (7/ 64) وصححه الحاكم (3/ 158) ووافقه الذهبي. من حديث المسور بن مخرمة. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 203): "وفيه أم بكر بنت المسور ولم يجرحها أحد ولم يوثقها، وبقية رجاله وثقوا". وللحديث شواهد انظرها في التلخيص الحبير (3/ 143). (¬5) السنة للخلال (1/ 432) والصارم (570). (¬6) السنة للخلال (1/ 434).

الوحي ولا أقول إنه خال المؤمنين، فإنه أخذها بالسيف غصبا؟ قال أبو عبد الله: هذا قول سوء رديء، يجانبون هؤلاء القوم ولا يجالسون ونبين أمرهم للناس. (¬1) - وفيها: عن أبي بكر المروذي قال: قلت لأبي عبد الله: أيما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز فقال: معاوية أفضل، لسنا نقيس بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدا، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خير الناس قرني الذي بعثت فيهم". (¬2) - وفيها عن الفضل بن زياد حدثهم قال: سمعت أبا عبد الله وسئل عن رجل انتقص معاوية وعمرو بن العاص، أيقال له رافضي؟ فقال: إنه لم يجترئ عليهما إلا وله خبيئة سوء، ما انتقص أحد أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا له داخلة سوء. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خير الناس قرني" (¬3). (¬4) - وفيها عن يوسف بن موسى أن أبا عبد الله سئل عن رجل شتم معاوية، يصيره إلى السلطان؟ قال: أخلق أن يتعدى عليه. (¬5) - وفيها عن أبي بكر بن سندي قال: كنت أو حضرت أو سمعت أبا عبد الله وسأله رجل: يا أبا عبد الله لي خال ذكر أنه ينتقص معاوية وربما ¬

(¬1) السنة للخلال (1/ 434). (¬2) السنة للخلال (1/ 434). (¬3) أحمد (1/ 434) والبخاري (5/ 324/2652) ومسلم (4/ 1963/2533 (212) والترمذي (5/ 652/3859) وابن ماجه (2/ 791/2362) عن ابن مسعود. (¬4) السنة للخلال (1/ 447). (¬5) السنة للخلال (1/ 448).

أكلت معه، فقال أبو عبد الله مبادرا: لا تأكل معه. (¬1) - وفيها عن أبي بكر المروذي قال: قيل لأبي عبد الله ونحن بالعسكر وقد جاء بعض رسل الخليفة وهو يعقوب فقال: يا أبا عبد الله ما تقول فيما كان من علي ومعاوية رحمهما الله؟ فقال أبو عبد الله: ما أقول فيهما إلا الحسنى رحمهم الله أجمعين. (¬2) - وفيها عن أحمد بن الحسن الترمذي قال: سألت أبا عبد الله قلت: ما تقول فيما كان من أمر طلحة والزبير وعلي وعائشة وأظن ذكر معاوية؟ فقال: من أنا، أقول في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان بينهم شيء الله أعلم. (¬3) - وفيها عن إسحاق بن منصور حدثهم أنه قال لأبي عبد الله: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمار: "تقتلك الفئة الباغية" (¬4)، قال: لا أتكلم فيه. زاد الطيالسي: تركه أسلم. (¬5) - وفيها: سئل أحمد عن أبي بكر وعمر فقال: ترحم عليهما، وتبرأ ممن يبغضهما. (¬6) - وفيها: أن الفضل حدثهم: سمع أبا عبد الله وذكر نوح بن حبيب فقال: إن كان الذي قيل في نوح بن حبيب أنه يقدم عليا على عثمان، فهذا ¬

(¬1) السنة للخلال (1/ 448). (¬2) السنة للخلال (1/ 460). (¬3) السنة للخلال (2/ 460). (¬4) أحمد (2/ 161) والبخاري (1/ 712/447) ومسلم (4/ 2236/2916) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬5) السنة للخلال (1/ 462). (¬6) السنة للخلال (1/ 313).

أيضا بلاء أو نحو هذا، ثم قال: كيف يقدم عليا على عثمان؟ وهل كانت بيعة أوثق من بيعته ولا أصح منها؟ وخليفة قتل ظلما لم يبهش إليهم بقصبه، فجعل يقول هذا الكلام، وهو مغضب شديد الغضب. (¬1) - وفيها عن محمد بن عوف الحمصي قال: سمعت أحمد بن حنبل وسئل عن التفضيل فقال: من قدم عليا على أبي بكر فقد طعن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن قدمه على عمر، فقد طعن على رسول الله وعلى أبي بكر، ومن قدمه على عثمان فقد طعن على أبي بكر وعلى عمر وعلى أهل الشورى وعلى المهاجرين والأنصار. (¬2) - وفيها عن أبي عبد الله قال: من زعم أن عليا أفضل من أبي بكر فهو رجل سوء، لا نخالطه ولا نجالسه. (¬3) - وفيها عن إسحاق بن إبراهيم أنه حدثهم قال سألت أبا عبد الله عمن قدم عليا على عثمان؟ فقال: هذا رجل سوء، نبدأ بما قال -أصحاب- النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن فضله النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) - جاء في أصول الاعتقاد عن عبد الملك بن عبد الحميد الميموني قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما لهم ولنا، اسأل الله العافية. وقال لي: يا أبا الحسن إذا رأيت أحدا يذكر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسوء فاتهمه على ¬

(¬1) السنة للخلال (1/ 321). (¬2) السنة للخلال (1/ 374). (¬3) السنة للخلال (1/ 377). (¬4) السنة للخلال (1/ 378).

الإسلام. (¬1) - وفيه عن عبد الله بن أحمد قال: سألت أبي عن رجل سب رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: أرى أن يضرب. فقلت له: حد. فلم يقف على الحد إلا أنه قال: يضرب وما أراه على الإسلام. (¬2) - وجاء في طبقات الحنابلة: عن أبي القاسم إسحاق بن إبراهيم بن آزر الفقيه، قال حدثني أبي قال: حضرت أحمد بن حنبل وسأله رجل عما جرى بين علي ومعاوية فأعرض عنه. فقيل له: يا أبا عبد الله، هو رجل من بني هاشم؟ فأقبل عليه، وقال: اقرأ {تِلْكَ أُمَّةٌ قد خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ} (¬3). (¬4) - وفيها عن إسحاق بن إبراهيم قال: سمعت أبا عبد الله يسأل عن الذي يشتم معاوية، نصلي خلفه؟ قال: لا، ولا كرامة. (¬5) - وفيها عن سعيد بن أبي سعيد أبي نصر الأرطائي قال: سمعت أحمد ابن حنبل، وسئل عن الصلاة خلف المبتدعة؟ فقال: أما الجهمية: فلا، وأما الرافضة الذين يردون الحديث: فلا. (¬6) - وفي السنة للخلال عن أبي يعقوب ابن العباس قال: كنا عند أبي عبد الله سنة سبع وعشرين أنا وأبو جعفر ابن إبراهيم فقال له أبو جعفر: ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (7/ 1326/2359). (¬2) أصول الاعتقاد (7/ 1341/2386) والصارم (570). (¬3) البقرة الآية (134). (¬4) طبقات الحنابلة (1/ 97). (¬5) طبقات الحنابلة (1/ 108). (¬6) طبقات الحنابلة (1/ 168).

أليس نترحم على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم: معاوية، وعمرو بن العاص، وعلى أبي موسى الأشعري، والمغيرة؟ قال: نعم كلهم وصفهم الله في كتابه فقال: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] (¬1). اهـ (¬2) - وفيها عن إسحاق أنه حدثهم قال سألت أبا عبد الله: قلت: الشراة يأخذون رجلا فيقولون له: تبرأ من علي وعثمان وإلا قتلناك، كيف ترى له أن يفعل؟ قال أبو عبد الله: إذا عذب وضرب فليصر إلى ما أرادوا، والله يعلم منه خلافه. (¬3) - وفيها عن أبي طالب قال: سألت أبا عبد الله: البراءة بدعة، والولاية بدعة، والشهادة بدعة؟ قال: البراءة أن تتبرأ من أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والولاية أن تتولى بعضا وتترك بعضا، والشهادة أن تشهد على أحد أنه في النار. (¬4) - وفيها عن عبد الملك بن عبد الحميد قال: سمعت أبا عبد الله قال: من شتم، أخاف عليه الكفر مثل الروافض، ثم قال: من شتم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نأمن أن يكون قد مرق عن الدين. (¬5) - وفيها عن أبي بكر المروذي قال: سألت أبا عبد الله عن من يشتم أبا ¬

(¬1) الفتح الآية (29). (¬2) السنة للخلال (1/ 476 - 477). (¬3) السنة للخلال (1/ 479). (¬4) السنة للخلال (1/ 479). (¬5) السنة للخلال (1/ 493).

بكر وعمر وعائشة؟ قال: ما أراه على الإسلام. (¬1) - وفيها عن أبي طالب أنه قال لأبي عبد الله: الرجل يشتم عثمان؟ فأخبروني أن رجلا تكلم فيه فقال: هذه زندقة. (¬2) - وفيها عن إسماعيل بن إسحاق الثقفي النيسابوري أن أبا عبد الله سئل عن رجل له جار رافضي يسلم عليه؟ قال: لا وإذا سلم عليه لا يرد عليه. (¬3) - وفيها عن الحسن بن علي بن الحسن أنه سأل أبا عبد الله عن صاحب بدعة يسلم عليه؟ قال: إذا كان جهميا أو قدريا أو رافضيا داعية، فلا يصلي عليه ولا يسلم عليه. (¬4) - وفي السنة لعبد الله قال: سألت أبي من الرافضة؟ فقال الذين يسبون أو يشتمون أبا بكر وعمر. (¬5) - وجاء في الصارم المسلول: قال أبو طالب: سألت أحمد عمن شتم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: القتل أجبن عنه، ولكن أضربه ضربا نكالا. (¬6) - وفيه قال في الرسالة التي رواها أبو العباس أحمد بن يعقوب الإصطخري وغيره: وخير الأمة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر، وعمر بعد أبي بكر، وعثمان بعد عمر وعلي بعد عثمان، ووقف قوم، وهم خلفاء راشدون ¬

(¬1) السنة للخلال (1/ 493) وهو في الصارم (573). (¬2) لسنة للخلال (1/ 493) وهو في الصارم (573). (¬3) السنة للخلال (1/ 494) وهو في طبقات الحنابلة (2/ 14). (¬4) السنة للخلال (1/ 494). (¬5) السنة لعبد الله (222) وهو في الصارم (570). (¬6) الصارم (570).

موقفه من الصوفية:

مهديون، ثم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هؤلاء الأربعة خير الناس، لا يجوز لأحد أن يذكر شيئا من مساويهم، ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا نقص، فمن فعل ذلك فقد وجب تأديبه وعقوبته، ليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ويستتيبه، فإن تاب قبل منه، وإن ثبت أعاد عليه العقوبة وخلده في الحبس حتى يموت أو يراجع. (¬1) - وفيه قال أحمد في رواية أبي طالب في الرجل الذي يشتم عثمان: هذا زندقة. (¬2) موقفه من الصوفية: - جاء في السير: عن إسماعيل (¬3) بن إسحاق السراج قال: قال أحمد بن حنبل يوما: يبلغني أن الحارث هذا -يعني: المحاسبي- يكثر الكون عندك، فلو أحضرته، وأجلستني من حيث لا يراني، فأسمع كلامه. قلت: السمع والطاعة. وسرني هذا الابتداء من أبي عبد الله، فقصدت الحارث، وسألته أن يحضر، وقلت: تسأل أصحابك أن يحضروا. فقال: يا إسماعيل، فيهم كثرة فلا تزدهم على الكسب (¬4) والتمر، وأكثر منهما ما استطعت. ففعلت ما أمرني، وأعلمت أبا عبد الله فحضر بعد المغرب، وصعد غرفة، واجتهد في ورده، وحضر الحارث وأصحابه، فأكلوا ثم قاموا إلى الصلاة، ولم يصلوا بعدها، ¬

(¬1) الصارم (570). (¬2) الصارم (573). (¬3) وقع في المطبوع من السير: إبراهيم، وهو خطأ. (¬4) الكسب: عصارة الدهن كما في اللسان.

وقعدوا بين يدي الحارث وهم سكوت إلى قريب من نصف الليل، وابتدأ واحد منهم، وسأل عن مسألة، فأخذ الحارث في الكلام وهم يسمعون. وكأن على رؤوسهم الطير، فمنهم من يبكي، ومنهم من يزعق. فصعدت لأتعرف حال أبي عبد الله، وهو متغير الحال، فقلت: كيف رأيت؟ قال: ما أعلم أني رأيت مثل هؤلاء القوم، ولا سمعت في علم الحقائق مثل كلام هذا، وعلى ما وصفت، فلا أرى لك صحبتهم، ثم قام وخرج. (¬1) - وجاء في التلبيس عن أحمد بن حنبل أنه قال: حذروا من الحارث أشد التحذير، الحارث أصل البلية -يعني في حوادث كلام جهم- ذاك جالسه فلان وفلان، وأخرجهم إلى رأي جهم، ما زال مأوى أصحاب الكلام، حارث بمنزلة الأسد المرابط، انظر أي يوم يثب على الناس. (¬2) - وقد حكي لأحمد بن حنبل أن بعض الغلاة الجهال بحقيقة التوكل، كان إذا وضع له الطعام لم يمد يده حتى يوضع في فمه، وإذا وضع يطبق فمه حتى يفتحوه ويدخلوا فيه الطعام، فأنكر ذلك أشد الإنكار، ومن هؤلاء من حرم المكاسب. (¬3) - وقال الإمام أحمد: ليست السياحة من الإسلام في شيء، ولا من فعل النبيئين ولا الصالحين. (¬4) ¬

(¬1) السير (11/ 326 - 327) وتاريخ بغداد (8/ 214 - 215). (¬2) تلبيس إبليس (207). (¬3) الفتاوى (8/ 530). (¬4) الاقتضاء (1/ 287).

- وقد سأل إبراهيم الحربي أحمد بن حنبل عن تعمير الخضر وإلياس، وأنهما باقيان يريان ويروى عنهما، فقال الإمام أحمد: من أحال على غائب لم ينصف منه، وما ألقى هذا إلا شيطان. (¬1) - وعنه قال: الغناء ينبت النفاق في القلب، لا يعجبني. (¬2) - وسئل عن استماع القصائد فقال: أكرهه، هو بدعة، ولا يجالسون. (¬3) - عن الحسين الرازي قال: شهدت أحمد بن حنبل وجاءه رجل من أهل خراسان فقال له: يا أبا عبد الله معي درهم أحج بهذا الدرهم؟ فقال له أحمد: اذهب إلى باب الكرخ فاشتر بهذا الدرهم حبا، واحمل على رأسك حتى يصير عندك ثلاثمائة درهم فحج. قال يا أبا عبد الله أما ترى مكاسب الناس؟ قال أحمد لا تنظر إلى هذا، فإنه من رغب في هذا يريد أن يفسد على الناس معايشهم، قال يا أبا عبد الله: أنا متوكل. قال: فتدخل البادية وحدك أو مع الناس؟ قال: لا، مع الناس، قال: كذبت إذن، لست بمتوكل، فادخل وحدك وإلا فأنت متوكل على جراب الناس. (¬4) - وقد سئل عن الوساوس والخطرات، فقال: ما تكلم فيها الصحابة ولا التابعون. (¬5) ¬

(¬1) الفتاوى (4/ 337). (¬2) التلبيس (280). (¬3) التلبيس (281). (¬4) التلبيس (369). (¬5) التلبيس (206).

موقفه من الجهمية:

" التعليق: وهل الصوفية إلا وسوسة وخزعبلات وأحلام ورؤى يكذبها شيوخهم حتى عبدوهم من دون الله، نسأل الله العافية. موقفه من الجهمية: - الموقف العظيم الذي وقفه إمام أهل السنة: قال الله تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (¬2) {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (¬3). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الرجل لتكون له عند الله المنزلة، فما يبلغها بعمل فلا يزال الله يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها" وعن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) العنكبوت الآيات (1 - 3). (¬2) آل عمران الآية (142). (¬3) البقرة الآية (214).

قال: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط". (¬1) وعن مصعب بن سعد عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: "الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة". (¬2) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة". (¬3) وعن عبد الله قال: كأني أنظر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، فهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. (¬4) ¬

(¬1) أخرجه من حديث أنس: الترمذي (4/ 519/2396) وقال: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه". وابن ماجه (2/ 1338/4031)، البغوي في شرح السنة (5/ 245/1435)، وقال الشيخ الألباني في الصحيحة (رقم 146): "سنده حسن، رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين غير ابن سنان هذا وهو صدوق له أفراد كما في التقريب". (¬2) أخرجه من حديث سعد: أحمد (1/ 173 - 174و180) والترمذي (4/ 520/2398) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وابن ماجه (2/ 1334/4023) والحاكم (1/ 40 - 41) وصححه على شرط الشيخين. وله شاهد من حديث أبي سعيد أخرجه: ابن ماجه (2/ 1334 - 1335/ 4024) والبخاري في الأدب المفرد (رقم510) والحاكم (1/ 40) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي. وقال البوصيري في زوائد ابن ماجه: "إسناده صحيح رجاله ثقات". (¬3) أخرجه: أحمد (2/ 287) والترمذي (4/ 520/2399) وقال: "حديث حسن صحيح". والحاكم (1/ 346) وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي. ابن حبان (7/ 176/2913 الإحسان). (¬4) أحمد (1/ 456 - 457) والبخاري (12/ 349/6929) ومسلم (3/ 1417/1792) وابن ماجه (2/ 1335/4025).

وعنه قال: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يوعك، فقلت يا رسول الله، إنك توعك وعكا شديدا. قال: أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم. قلت: ذلك بأن لك أجرين. قال: أجل، ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى -شوكة فما فوقها- إلا كفر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها. (¬1) وعن خباب قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة -وقد لقينا من المشركين شدة- فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله؟ فقعد وهو محمر وجهه فقال: "لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه - وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت ما يخاف إلا الله". (¬2) وعن أبي أمامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أحب الجهاد إلى الله كلمة حق تقال لإمام جائر". (¬3) وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يمنعن أحدكم هيبة الناس ¬

(¬1) أحمد (1/ 381و441) والبخاري (10/ 137/5648) ومسلم (4/ 1991/2571). (¬2) أحمد (5/ 109) والبخاري (7/ 209/3852) وأبو داود (3/ 108/2649) والنسائي (8/ 592/5335). (¬3) أخرجه من حديث أبي أمامة: أحمد (5/ 251) وابن ماجه (2/ 1330/4012). قال البوصيري في الزوائد: "في إسناده أبو غالب وهو مختلف فيه، ضعفه ابن سعد وأبو حاتم والنسائي، ووثقه الدارقطني. وقال ابن عدي: لا بأس به، وراشد بن سعيد، قال فيه أبو حاتم: صدوق، وباقي رجال الإسناد ثقات". وللحديث شواهد: من حديث أبي سعيد الخدري: أخرجه أحمد (3/ 19) وأبو داود (4/ 514/4344) والترمذي (4/ 409/2174) وقال: "حسن غريب من هذا الوجه". وابن ماجه (2/ 1329/4011). ومن حديث طارق بن شهاب: أخرجه أحمد (4/ 314 - 315) والنسائي (7/ 181/4220). قال الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة (1/ 888) تعليقا على حديث أبي أمامة: "وهذا إسناد حسن، وفي أبي غالب خلاف لا ينزل حديثه عن رتبة الحسن، وحديثه هذا صحيح بشاهده المتقدم والآتي" -يعني حديث أبي سعيد وطارق بن شهاب-.

أن يقول في حق، إذا رآه أو شهده أو سمعه". (¬1) هذا نموذج قليل من النصوص التي وردت في القرآن والسنة؛ ولقد ضرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة بعده والتابعون بعدهم المثل الأعلى في هذا الباب، وكانوا خير سلف لخلف يأتي بعدهم، وإذا كان الإمام أحمد وهو إمام أهل الحديث والسير والتواريخ، ويعتبر كتابه أجمع كتاب في هذا الباب، وقلما يخرج عنه حديث للرسول - صلى الله عليه وسلم - على اختلاف الأنواع، فكل يجد في مسند الإمام أحمد بغيته؛ المفسر له فيه ما يشبع رغبته، والمؤرخ ودارسو سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الأخيار لهم ما يكفيهم فيه، إلى غير ذلك من الفنون والعلوم التي جمعها هذا الإمام، والكتاب أحق أن يقال فيه الإمام، فهو مرجع المسلمين الكبير يجدون فيه حاجتهم. وإذا كان كذلك؛ فما صدر من الإمام أحمد فليس بغريب، فإن هذا الأمر جاء على بابه، فإن الله يعلم حيث يجعل رسالته؛ فلا يحمل رسالته منافقا أو ضعيفا، معاذ الله أن يكون كذلك، ولكن يحملها من جمع أمرين: الأمر الأول: القوة، والأمر الثاني: الإخلاص. ¬

(¬1) أحمد (3/ 19) والترمذي (4/ 419 - 420/ 2191) وقال: "وهذا حديث حسن صحيح". وابن ماجه (2/ 1328/4007) والحاكم (4/ 506). كلهم من طريق علي بن زيد بن جدعان عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري مرفوعا، وعلي بن زيد ضعيف إلا أن حديثه يحسن في المتابعات، وقد تابعه جماعة منهم: سليمان بن طرخان التيمي عن أبي نضرة بهذا الإسناد. أخرجه أحمد (3/ 5و53). المستمر بن الريان عن أبي نضرة به. أخرجه أحمد (3/ 46 - 47) وأبو يعلى في مسنده (2/ 419/1212). قتادة عن أبي نضرة به. أخرجه: الطيالسي في مسنده (2151) أحمد (3/ 92) وابن حبان (1/ 511 - 512/ 278). وهذه المتابعات الثلاث كلها صحح الشيخ الألباني رحمه الله أسانيدها في الصحيحة (رقم 168) وبالله التوفيق.

فالمخلص بلا قوة يعجز عن القيام، والقوي بلا إخلاص يخذل. ولقد جمع الله هذا للأنبياء بالدرجة الأولى، فكانوا في القمة قوة وإخلاصا، وأتباعهم يتفاوتون في ذلك. وقد كان -ولله الحمد- الإمام أحمد مثلا في ذلك، قوة وإخلاصا وتوفيقا. لقد صمد الإمام أمام قوة عظمى عزمت على مداهمته ومصارعته بفكرها الباطل. حكومة بأكملها ملكها ووزراؤها وعلماؤها وسجانها، وجميع قواها التعذيبية، والمجاهد إذا كان في المعركة ومعه أصحابه تجده قويا بهم مرفوع الحس والمعنى. ولكن إمامنا تولى عنه أصحابه وخافوا من سطوة السيف فبقي في الميدان وحيدا فريدا، وحتى من كان عن يمينه استشهد إلى رحمة الله. والمعركة عادة تكون فترتها قصيرة، فتسفر عن هزيمة أحد الفريقين أو على الأقل يحصل تعادل، ولكن في مقامنا هذا، لقد طال الأمد -تناوله ثلاثة من الحكام- وفي أغلب الأحيان بنوع أو نوعين. ولكن إمامنا هذا، جمع له كل الأنواع، زيادة في الأجر ورفعا لدرجاته في الجنة إن شاء الله. سجن، وقيود، وجوع، وتهديدات متكررة، وكثرة المناظرة بالباطل، واحتقار لشأن الإمام، وتحريض من بيده الأمر على تعذيبه، وقتله، ووقوف الحاكم على رأسه، ومشاهدة تعذيبه في وقاحة كاملة، ونفي من مكان إلى مكان، وإقامة جبرية، لا جمعة، ولا جماعة، ولا اتصال للتحديث، ضعف مادي في الأسرة لا تجد ما تنفقه ... كل هذا على ماذا؟ إنه على العقيدة السلفية، عقيدة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والصحابة بعده، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. ولقد برأ الله الإمام أحمد من التسابق على المناصب السياسية. فهو لم

يسابق حكومة المأمون ولا المعتصم ولا الواثق على وزارة أو أي منصب سياسي، لم ينازعهم في هذه الأمور التي يتطاحن عليها أهل الدنيا. وقد حاول المعتصم إغراءه بالقرب إليه، ولكن إمامنا لم يعبأ به. ولقد حاول المتوكل -وهو الذي رفع المحنة جزاه الله خيرا- أن يتقرب إليه بكل وسائل التواضع ولكن الإمام لم يرض أن يدنس دينه وسيرته بالقرب منهم. فالإمام لم ينله ما ناله -ولله الحمد- في جريمة ارتكبها أو منازعة أو مغالبة سياسية أو حزبية. فإن هذا مما طهره الله منه وإخوانه من السلف السابقين واللاحقين منهم. وإذا كان لكم شيء تفتخرون به يا أصحاب عقيدة السلف، فليكن بالإمام أحمد وبأمثاله، وكم لكم من أمثاله إن كنتم تقرأون تاريخ عقيدتكم السلفية. وبعد هذه التوطئة نذكر ملخص المحنة، وإلا فقد أفردت بالتأليف، وقد أطال المؤرخون للإمام في سياقها، وذكر رواياتها، ومن أعظمهم الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء، وفي تاريخ الإسلام، وابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد بن حنبل، وغيرهم مما هو معروف عند من يتتبع سيرته العطرة. - قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية: قد ذكرنا فيما تقدم أن المأمون كان قد استحوذ عليه جماعة من المعتزلة فأزاغوه عن طريق الحق إلى الباطل، وزينوا له القول بخلق القرآن ونفي الصفات عن الله عز وجل. قال البيهقي: ولم يكن في الخلفاء قبله من بني أمية وبني العباس خليفة إلا على مذهب السلف ومنهاجهم، فلما ولي هو الخلافة، اجتمع به هؤلاء فحملوه

على ذلك وزينوا له، واتفق خروجه إلى طرسوس لغزو الروم، فكتب إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، يأمره أن يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن، واتفق له ذلك آخر عمره قبل موته بشهور من سنة ثماني عشرة ومائتين، فلما وصل الكتاب كما ذكرنا، استدعى جماعة من أئمة الحديث، فدعاهم إلى ذلك فامتنعوا، فتهددهم بالضرب وقطع الأرزاق، فأجاب أكثرهم مكرهين واستمر على الامتناع من ذلك الإمام أحمد بن حنبل ومحمد ابن نوح الجنديسابوري فحملا على بعير وسيرا إلى الخليفة عن أمره بذلك، وهما مقيدان متعادلان في محمل على بعير واحد، فلما كانا ببلاد الرحبة، جاءهما رجل من الأعراب من عبادهم يقال له جابر بن عامر، فسلم على الإمام أحمد وقال له: يا هذا، إنك وافد الناس فلا تكن شؤما عليهم، وإنك رأس الناس اليوم، فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه فيجيبوا، فتحمل أوزارهم يوم القيامة، وإن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت فيه، فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل وإنك إن لم تقتل تمت وإن عشت عشت حميدا. قال أحمد: وكان كلامه مما قوى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع من ذلك الذي يدعونني إليه، فلما اقتربا من جيش الخليفة ونزلوا دونه بمرحلة، جاء خادم وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه ويقول: يعز علي يا أبا عبد الله أن المأمون قد سل سيفا لم يسله قبل ذلك، وأنه يقسم بقرابته (¬1) من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف. قال: فجثى ¬

(¬1) لا يجوز الحلف إلا بالله عز وجل وأسمائه وصفاته، أما الحلف بغيرها فهو من قبيل الشرك، فليتنبه ..

الإمام أحمد على ركبتيه، ورمق بطرفه إلى السماء وقال: سيدي: غر حلمك هذا الفاجر حتى تجرأ على أوليائك بالضرب والقتل، اللهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته. قال: فجاءهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل. قال أحمد: ففرحنا، ثم جاء الخبر بأن المعتصم قد ولي الخلافة وقد انضم إليه أحمد بن أبي دؤاد وأن الأمر شديد، فردونا إلى بغداد في سفينة مع بعض الأسارى، ونالني منهم أذى كثير وكان في رجليه القيود، ومات صاحبه محمد بن نوح في الطريق، وصلى عليه أحمد، فلما رجع أحمد إلى بغداد دخلها في رمضان، فأودع في السجن نحوا من ثمانية وعشرين شهرا، وقيل: نيفا وثلاثين شهرا، ثم أخرج إلى الضرب بين يدي المعتصم. وقد كان أحمد وهو في السجن هو الذي يصلي في أهل السجن والقيود في رجليه. - ذكر ضربه -رضي الله عنه- بين يدي المعتصم: لما أحضره المعتصم من السجن، زاد في قيوده، قال أحمد: فلم أستطع أن أمشي بها، فربطتها في التكة وحملتها بيدي، ثم جاءوني بدابة فحملت عليها، فكدت أن أسقط على وجهي من ثقل القيود، وليس معي أحد يمسكني، فسلم الله حتى جئنا دار المعتصم، فأدخلت في بيت وأغلق علي، وليس عندي سراج، فأردت الوضوء فمددت يدي فإذا إناء فيه ماء فتوضأت منه ثم قمت ولا أعرف القبلة فلما أصبحت إذا أنا على القبلة ولله الحمد والحمد لله. ثم دعيت فأدخلت على المعتصم، فلما نظر إلي وعنده ابن أبي دؤاد قال: أليس قد زعمتم أنه حدث السن، وهذا شيخ مكهل؟ فلما دنوت

منه وسلمت قال لي: ادنه؟ فلم يزل يدنيني حتى قربت منه، ثم قال: اجلس، فجلست وقد أثقلني الحديد، فمكثت ساعة، ثم قلت: يا أمير المؤمنين، إلام دعا إليه ابن عمك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، قلت: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، قال: ثم ذكرت له حديث ابن عباس في وفد عبد القيس (¬1)، ثم قلت: فهذا الذي دعا إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ثم تكلم ابن أبي دؤاد بكلام لم أفهمه، وذلك أني لم أتفقه كلامه، ثم قال المعتصم: لولا أنك كنت في يد من كان قبل لم أتعرض إليك. ثم قال: يا عبد الرحمن: ألم آمرك أن ترفع المحنة؟ قال أحمد: فقلت، الله أكبر، هذا فرج للمسلمين، ثم قال: ناظره يا عبد الرحمن، كلمه، فقال لي عبد الرحمن: ما تقول في القرآن؟ فلم أجبه، فقال المعتصم: أجبه؟ فقلت: ما تقول في العلم؟ فسكت، فقلت: القرآن من علم الله، ومن زعم أن علم الله مخلوق فقد كفر بالله. فسكت فقالوا فيما بينهم: يا أمير المؤمنين، كفرك وكفرنا، فلم يلتفت إلى ذلك. فقال عبد الرحمن: كان الله ولا قرآن. فقلت: كان الله ولا علم؟ فسكت، فجعلوا يتكلمون من هاهنا وهاهنا. فقلت: يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله حتى أقول به، فقال ابن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا بهذا وهذا؟ فقلت: وهل يقوم الإسلام إلا بهما؟ وجرت مناظرات طويلة واحتجوا عليه بقوله: مَا {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} (¬2) وبقوله: {اللَّهُ ¬

(¬1) أخرجه أحمد (1/ 228) والبخاري (1/ 172/53) ومسلم (1/ 46/17) وأبو داود (4/ 94/3692) والترمذي (5/ 9 - 10/ 2611) والنسائي (8/ 495/5046). (¬2) الأنبياء الآية (2).

خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (¬1) وأجاب بما حاصله: أنه عام مخصوص بقوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} (¬2) فقال ابن أبي دؤاد: هو والله يا أمير المؤمنين ضال مضل مبتدع، وهنا قضاتك والفقهاء فسلهم؟ فقال لهم ما تقولون؟ فأجابوا بمثل ما قال ابن أبي دؤاد، ثم أحضروه في اليوم الثاني وناظروه أيضا في اليوم الثالث، وفي ذلك كله يعلو صوته عليهم، وتغلب حجته حججهم. قال: فإذا سكتوا فتح الكلام عليهم ابن أبي دؤاد، وكان من أجهلهم بالعلم والكلام، وقد تنوعت بهم المسائل في المجادلة، ولا علم لهم بالنقل، فجعلوا ينكرون الآثار ويردون الاحتجاج بها، وسمعت منهم مقالات لم أكن أظن أن أحدا يقولها، وقد تكلم معي ابن غوث بكلام طويل -ذكر فيه الجسم وغيره- مما لا فائدة فيه، فقلت: لا أدري ما تقول، إلا أني أعلم أن الله أحد صمد ليس كمثله شيء. فسكت عني، وقد أوردت لهم حديث الرؤية في الدار الآخرة (¬3)، فحاولوا أن يضعفوا إسناده، ويلفقوا عن بعض المحدثين كلاما يتسلقون به إلى الطعن فيه، وهيهات، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد. وفي غضون ذلك كله يتلطف به الخليفة ويقول: يا أحمد، أجبني إلى هذا حتى أجعلك من خاصتي وممن يطأ بساطي. فأقول يا أمير المؤمنين: يأتوني بآية من كتاب الله أو سنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أجيبهم عليها. ¬

(¬1) الرعد الآية (16). (¬2) الأحقاف الآية (25). (¬3) انظر تخريجه في مواقف عبد العزيز الماجشون سنة (164هـ).

واحتج أحمد عليهم حين أنكروا الآثار بقوله تعالى: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} (¬1) وبقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (¬2) وبقوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فاعبدني} وبقوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬4) ونحو ذلك من الآيات. فلما لم يقم لهم معه حجة، عدلوا إلى استعمال جاه الخليفة، فقالوا: يا أمير المؤمنين، هذا كافر ضال مضل. وقال له إسحاق بن إبراهيم، نائب بغداد: يا أمير المؤمنين، ليس من تدبير الخلافة أن تخلي سبيله ويغلب خليفتين، فعند ذلك حمي واشتد غضبه، وكان ألينهم عريكة، وهو يظن أنهم على شيء. قال أحمد: فعند ذلك قال لي: لعنك الله، طمعت فيك أن تجيبني فلم تجبني، ثم قال: خذوه واخلعوه واسحبوه، قال أحمد: فأخذت وسحبت وخلعت وجيء بالعقابين والسياط وأنا أنظر، وكان معي شعرات من شعر النبي - صلى الله عليه وسلم - مصرورة في ثوبي، فجردوني منه وصرت بين العقابين، فقلت: يا أمير المؤمنين، الله، الله إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل دم ¬

(¬1) مريم الآية (42). (¬2) النساء الآية (164). (¬3) طه الآية (14). (¬4) النحل الآية (40).

امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث" (¬1) وتلوت الحديث، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم" (¬2) فبم تستحل دمي ولم آت شيئا من هذا؟ يا أمير المؤمنين: اذكر وقوفك بين يدي الله كوقوفي بين يديك، فكأنه أمسك، ثم لم يزالوا يقولون له: يا أمير المؤمنين إنه ضال مضل كافر، فأمر بي، فقمت بين العقابين، وجيء بكرسي، فأقمت عليه، وأمرني بعضهم أن آخذ ناتئ الخشبتين، فلم أفهم، فتخلعت يداي، وجيء بالضرابين، ومعهم السياط، فجعل أحدهم يضربني سوطين ويقول له يعني المعتصم: شد قطع الله يديك ويجيء الآخر فيضربني سوطين، ثم الآخر كذلك فضربوني أسواطا، فأغمي علي وذهب عقلي مرارا، فإذا سكن الضرب يعود علي عقلي، وقام المعتصم إلي يدعوني إلى قولهم، فلم أجبه، وجعلوا يقولون: ويحك! الخليفة على رأسك، فلم أقبل. وأعادوا الضرب، ثم عاد إلي فلم أجبه، فأعادوا الضرب، ثم جاء إلي الثالثة، فدعاني، فلم أعقل ما قال من شدة الضرب، ثم أعادوا الضرب فذهب عقلي فلم أحس بالضرب وأرعبهم ذلك من أمري، وأمر بي فأطلقت، ولم أشعر إلا وأنا في حجرة من بيت، وقد أطلقت الأقياد من رجلي، وكان ذلك في اليوم الخامس والعشرين من رمضان من سنة ¬

(¬1) أحمد (1/ 382،428،444) والبخاري (12/ 247/6878) ومسلم (3/ 1302/1676) وأبو داود (4/ 522/4352) والترمذي (4/ 12 - 13/ 1402) وقال: "حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح". والنسائي (7/ 90 - 91/ 4027) وابن ماجه (2/ 847/2534) .. (¬2) أخرجه: البخاري (13/ 311/7284و7285) ومسلم (1/ 51 - 52/ 20) وأبو داود (2/ 198/1556) والترمذي (5/ 5 - 6/ 2607) والنسائي (7/ 88/3980) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

إحدى وعشرين ومائتين، ثم أمر الخليفة بإطلاقه إلى أهله، وكان جملة ما ضرب نيفا وثلاثين سوطا، وقيل ثمانين سوطا لكن كان ضربا مبرحا شديدا جدا، وقد كان الإمام أحمد رجلا طوالا رقيقا أسمر اللون كثير التواضع رحمه الله. ولما حمل من دار الخلافة إلى دار إسحاق بن إبراهيم وهو صائم، أتوه بسويق ليفطر من الصوم، فامتنع من ذلك وأتم صومه وحين حضرت صلاة الظهر صلى معهم، فقال له ابن سماعة القاضي: وصليت في دمك! فقال له أحمد: قد صلى عمر وجرحه يثعب دما، فسكت ... ولما رجع إلى منزله جاءه الجرايحي، فقطع لحما ميتا من جسده وجعل يداويه، والنائب في كل وقت يسأل عنه، وذلك أن المعتصم ندم على ما كان منه إلى أحمد ندما كثيرا، وجعل يسأل النائب عنه والنائب يستعلم خبره، فلما عوفي فرح المعتصم والمسلمون بذلك، ولما شفاه الله بالعافية بقي مدة وإبهاماه يؤذيهما البرد، وجعل كل من آذاه في حل إلا أهل البدعة، وكان يتلو في ذلك قوله تعالى: {وليعفوا وليصفحوا} (¬1) الآية، ويقول ماذا ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك؟ وقد قال تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ على اللَّهِ إِنَّهُ لا يحب الظَّالِمِينَ} (¬2) وينادي المنادي يوم القيامة: (ليقم من أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا) وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول ¬

(¬1) النور الآية (22). (¬2) الشورى الآية (40).

الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، ومن تواضع لله رفعه الله" (¬1). (¬2) - محنته أيام الواثق: جاء في السير: قال حنبل لم يزل أبو عبد الله بعد أن برئ من الضرب يحضر الجمعة والجماعة، ويحدث ويفتي حتى مات المعتصم، وولي ابنه الواثق فأظهر ما أظهر من المحنة والميل إلى أحمد بن أبي دؤاد وأصحابه، فلما اشتد الأمر على أهل بغداد وأظهرت القضاة المحنة بخلق القرآن وفرق بين فضل الأنماطي وبين امرأته، وبين أبي صالح وبين امرأته، كان أبو عبد الله يشهد الجمعة ويعيد الصلاة إذا رجع، ويقول: تؤتى الجمعة لفضلها والصلاة تعاد خلف من قال بهذه المقالة. وجاء نفر إلى أبي عبد الله وقالوا: هذا الأمر قد فشا وتفاقم، ونحن نخافه على أكثر من هذا، وذكروا ابن أبي دؤاد وأنه على أن يأمر المعلمين بتعليم الصبيان في المكاتب القرآن كذا وكذا، فنحن لا نرضى بإمارته فمنعهم من ذلك وناظرهم. وحكى أحمد قصده في مناظرتهم، وأمرهم بالصبر، قال: فبينا نحن في أيام الواثق، إذ جاء يعقوب ليلا برسالة الأمير إسحاق بن إبراهيم إلى أبي عبد الله يقول لك الأمير: إن أمير المؤمنين قد ذكرك، فلا يجتمعن إليك أحد، ولا تساكني بأرض ولا مدينة أنا فيها، فاذهب حيث شئت من أرض الله قال: فاختفى أبو عبد الله بقية حياة الواثق، وكانت تلك الفتنة، وقتل أحمد بن ¬

(¬1) أخرجه من حديث أبي هريرة: أحمد (2/ 235،386) ومسلم (4/ 2001/2588) والترمذي (4/ 330/2029). (¬2) البداية والنهاية (10/ 346 - 349).

نصر الخزاعي، ولم يزل أبو عبد الله مختفيا في البيت لا يخرج إلى صلاة ولا إلى غيرها، حتى هلك الواثق. وعن إبراهيم بن هانئ قال: اختفى أبو عبد الله عندي ثلاثا، ثم قال: اطلب لي موضعا. قلت: لا آمن عليك، قال: افعل، فإذا فعلت أفدتك، فطلبت له موضعا فلما خرج قال: اختفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الغار ثلاثة أيام ثم تحول. (¬1) - عبر المحنة: 1 - مكائد المبتدعة لأهل السنة في كل زمان ومكان ومهما كان نوع المكيدة، المهم القضاء على أتباع العقيدة السلفية. 2 - ضعف حجج المبتدعة مهما كانت منزلتهم من القرآن والسنة، وسعة علم السلفيين واطلاعهم الواسع. 3 - الحجة عند السلفيين في الكتاب والسنة وما وافقهما من المعقول. 4 - العاقبة الحميدة لأهل الحق، وأما أهل الباطل فعاقبتهم الخيبة والخسران، فابن أبي دؤاد يصاب بالفالج، وكل واحد أصيب بمصيبة أعظم من الأخرى. 5 - رفع الله بها ذكر الإمام أحمد في الأولين والآخرين، فلا يذكر إلا بلفظ الإمام. 6 - جعله الله قدوة لمن جاء بعده، فلعل من جاء بعده يتذكر مواقفه فيقفها، فيكون من باب من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها. ¬

(¬1) السير (11/ 263 - 264).

- عقيدة الإمام أحمد ورسائله السلفية: لم يكن للإمام أحمد ذلك الموقف العظيم الذي وقفه والذي شكره عليه الأولون والآخرون فحسب، بل ترك تراثا سلفيا ذكر فيه أصول السلف في العقيدة السلفية، وقد ذكر ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة جملة منها. ولولا خشية الإطالة لشرفت بحثى بنقلها كلها وأتكلم على كل واحدة بما يتيسر من التحليل والتعليق، وإن يجعل الله في العمر فسحة فسأفعل إن شاء الله، وهاكم أرقام الصفحات من طبقات الحنابلة التي ذكرت فيها الرسائل والعقائد السلفية. 1 - رسالة الإصطخري من ص.24 إلى 36/ 1. 2 - رسالة عبدوس بن مالك العطار من ص 241 إلى 246/ 1 وذكرها شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (4/ 102). 3 - رسالة محمد بن حبيب الأندراني من ص 294 إلى 295/ 1. 4 - رسالة محمد بن يونس السرخسي من ص 329 إلى 330/ 1. 5 - رسالته إلى أمير المؤمنين المتوكل، وقد ذكرها الذهبي في سير أعلام النبلاء، وقال إسنادها كالشمس من ص 281 إلى 286/ 11. وقد ذكرها شيخ الإسلام في كثير من كتبه، انظر درء التعارض7/ 155 6 - الرد على الزنادقة والجهمية: طبع ولله الحمد، ذكره شيخ الإسلام في كثير من كتبه، وقد شرحه وحلله كله. انظر درء التعارض (1/ 18 - 44 - 221 - 249) (2/ 75 - 291 - 301) (3/ 23) (5/ 157 - 167 -

175 - 177 - 282 - 302) (6/ 137 - 148) (7/ 257 - 259). وذكره ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية (195). 7 - التفسير، ذكره شيخ الإسلام في درء التعارض (2/ 22). 8 - الإيمان، ذكره غير واحد، ومن أشهرهم الإمام الذهبي، انظر السير (11/ 301). 9 - فضائل الصحابة، وقد حقق رسالة علمية في جامعة أم القرى، وطبعه المجلس العلمي بنفس الجامعة. 10 - رسالة مسدد، ذكرها في الطبقات (1/ 341 إلى 345). - جاء في طبقات الحنابلة: قال أحمد بن سعد الجوهري: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما أحد على أهل الإسلام أضر من الجهمية، ما يريدون إلا إبطال القرآن وأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) " التعليق: وقد تكرر هذا من كثير من السلف رضوان الله عليهم، ففهموا قصد المبتدعة ومرادهم من أن إحداث هذه البدع ليس القصد منها القربة إلى الله، وإنما القصد منها إبطال الرسالة بالكلية بطريق غير مباشر، والله المستعان. - وروى الآجري في الشريعة عن إسحاق بن منصور الكوسج، قال: قلت لأحمد يعني ابن حنبل: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة، حين يبقى ¬

(¬1) طبقات الحنابلة (1/ 47) والسنة للخلال (5/ 123).

ثلث الليل الأخير إلى سماء الدنيا" (¬1)، أليس تقول بهذه الأحاديث؟ ويراه أهل الجنة -يعني ربهم عز وجل؟ و"لا تقبحوا الوجه فإن الله عز وجل خلق آدم على صورته" (¬2) و"اشتكت النار إلى ربها عز وجل حتى وضع فيها قدمه" (¬3) و"إن موسى لطم ملك الموت" (¬4) قال أحمد: كل هذا صحيح؛ قال إسحاق: هذا صحيح، ولا يدفعه إلا مبتدع أو ضعيف الرأي. (¬5) - وفيها: عن أبي بكر المروذي، قال: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله عن الأحاديث التي يردها الجهمية في الصفات والإسراء والرؤية وقصة العرش؟ فصححها وقال: قد تلقتها العلماء بالقبول، تسلم الأخبار كما جاءت. قال أبو بكر المروذي: وأرسل أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة إلى أبي عبد الله يستأذنانه أن يحدثا بهذه الأحاديث التي تردها الجهمية، فقال: أبو عبد الله: حدثوا بها، قد تلقتها العلماء بالقبول، وقال أبو عبد الله: تسلم الأخبار كما جاءت. (¬6) ¬

(¬1) انظر تخريجه في مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ). (¬2) انظر تخريجه في مواقف البربهاري سنة (329هـ). (¬3) أخرجه من حديث أبي هريرة بلفظ: "تحاجت الجنة والنار فقالت النار ... " الحديث أحمد (2/ 276) والبخاري (13/ 533/7449) ومسلم (4/ 2186/2846) والترمذي (4/ 598 - 599/ 2561) دون ذكر موضع الشاهد. والنسائي في الكبرى (6/ 468/11522). (¬4) أخرجه من حديث أبي هريرة موقوفا: أحمد (2/ 209) والبخاري (6/ 544/3407) ومسلم (4/ 1842/2372 [157]) والنسائي (4/ 424 - 425/ 2088). وأخرجه مرفوعا: أحمد (2/ 533) والبخاري (6/ 544/3407) ومسلم (4/ 1843/2372 [158]). (¬5) الشريعة (2/ 94/741). (¬6) الشريعة (2/ 114/771) وطبقات الحنابلة (1/ 5699).

- قال الحافظ في الفتح: وقال الإمام أحمد في 'كتاب السنة' قالت الجهمية لمن قال: إن الله لم يزل بأسمائه وصفاته، قلتم بقول النصارى حيث جعلوا معه غيره، فأجابوا بأنا نقول إنه واحد بأسمائه وصفاته، فلا نصف إلا واحدا بصفاته كما قال تعالى: {ذرني وَمَنْ خَلَقْتُ وحيدًا} (¬1) وصفه بالوحدة مع أنه كان له لسان وعينان وأذنان وسمع وبصر ولم يخرج بهذه الصفات عن كونه واحدا ولله المثل الأعلى. (¬2) - وقال: وحكى حنبل بن إسحق في كتاب السنة عن أحمد بن حنبل أنه قال ردا على من أنكر الميزان ما معناه: قال الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} (¬3) وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الميزان يوم القيامة فمن رد على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد رد على الله عز وجل. (¬4) - قال عبد الله بن أحمد وجدت في كتاب أبي بخط يده مما يحتج به على الجهمية من القرآن. قال الله تعالى في سورة البقرة: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا ¬

(¬1) المدثر الآية (11). (¬2) الفتح (13/ 381). (¬3) الأنبياء الآية (47). (¬4) الفتح (13/ 538) وأصول الاعتقاد (6/ 1245/2211).

يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬1) وقال في يس: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (¬2) وقال في سورة البقرة: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} (¬3) وقال الله في آل عمران: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} (¬4) وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬5) وقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (¬6) وقال: {يا أهل

_ (¬1) البقرة الآية (174). (¬2) يس الآيتان (82و83). (¬3) البقرة الآيتان (117و118). (¬4) آل عمران الآية (45). (¬5) آل عمران الآية (77) .. (¬6) القيامة الآيتان (22و23).

الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} (¬1) وقال في سورة الأنعام: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬2) وقال في سورة النمل: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} (¬3) وقال في سورة الأعراف: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬4) وقال في القصص: {كل شَيْءٍ هَالِكٌ إِلًّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وإليه تُرْجَعُونَ} (¬5) وقال في الرحمن: {كل ¬

(¬1) النساء الآية (171). (¬2) الأنعام الآية (115). (¬3) النمل الآيات (8 - 10). (¬4) الأعراف الآية (54). (¬5) القصص الآية (88).

مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (¬1) وقال في طه: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ} (¬2) وقال في البقرة: {مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ} (¬3) وقال في آل عمران: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} (¬4) وقال في سورة النساء: {وَكَلَّمَ اللَّهُ موسى تكليمًا} (¬5) وقال: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} (¬6) وقال في الأنعام: {حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} (¬7) وقال في طه: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ ¬

(¬1) الرحمن الآيتان (26و27) .. (¬2) طه الآيتان (39و40). (¬3) البقرة الآية (174). (¬4) آل عمران الآية (39). (¬5) النساء الآية (164). (¬6) النساء الآية (171). (¬7) الأنعام الآية (34).

{إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (¬1) وقال في الكهف: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} (¬2) وقال: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (¬3) وقال في التوبة: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (¬4) وفي حم عسق: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} (¬5) وفي لقمان: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬6) وفي القصص: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬7) وفي ¬

(¬1) طه الآيات (11 - 14). (¬2) الكهف الآية (27). (¬3) الكهف الآية (109) .. (¬4) التوبة الآية (6). (¬5) الشورى الآية (51). (¬6) لقمان الآية (27). (¬7) القصص الآية (30).

الأعراف: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (¬1) وفي الفتح: {يد الله فوق أيديهم} (¬2) وفي البقرة: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (¬3) وفي الكهف: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (¬4) وفي الأعراف: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ... وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} (¬5) وفي الأنفال: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ ¬

(¬1) الأعراف الآيتان (143و144). (¬2) الفتح الآية (10) .. (¬3) البقرة الآية (115). (¬4) الكهف الآية (28). (¬5) الأعراف الآيات (137 - 143).

الْكَافِرِينَ} (7) (¬1) وفي التوبة: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (¬2) وفي هود: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} (¬3) وفي يونس: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (¬4) {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} (¬5) وقال: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (¬6) وقال: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} (¬7) وفي فصلت: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} (¬8) وفي هود: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (¬9) وفي الكهف: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ ¬

(¬1) الأنفال الآية (7). (¬2) التوبة الآية (40). (¬3) هود الآية (110). (¬4) يونس الآية (33). (¬5) يونس الآية (64). (¬6) يونس الآية (82). (¬7) يونس الآية (96). (¬8) فصلت الآية (45) .. (¬9) هود الآية (119).

مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} (¬1) وفي طه: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا} (¬2) وفي الصافات: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} (¬3) وفي المؤمن (غافر): {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬4) وفي حم عسق: {وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (¬5)، {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} (¬6) وفي الفتح: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا} (¬7) وفي التحريم: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} (¬8) وفي المؤمن: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} (¬9) وفي النحل: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ¬

(¬1) الكهف الآية (27). (¬2) طه الآية (129). (¬3) الصافات الآية (171). (¬4) غافر الآية (6). (¬5) الشورى الآية (24). (¬6) الشورى الآية (51). (¬7) الفتح الآية (15). (¬8) التحريم الآية (12). (¬9) غافر الآية (15).

{بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} (¬1)، {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} (¬2) وفي الإسراء: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (¬3) وفي حم عسق: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} (¬4) وفي الشعراء: {نزل به الروح الْأَمِينُ (193) على قلبك لتكون من المنذرين} (¬5) وفي عم يتساءلون: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} (¬6) وفي الواقعة: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} (¬7) وقال: {أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} (¬8) وقال: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) ¬

(¬1) النحل الآية (102). (¬2) النحل الآية (2) .. (¬3) الإسراء الآية (85). (¬4) الشورى الآية (52). (¬5) الشعراء الآيتان (193و194). (¬6) النبأ الآية (28). (¬7) الواقعة الآيات (63 - 65). (¬8) الواقعة الآيتان (69و70).

{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} (¬1) وفي الروم: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا} (¬2) وفي ن والقلم: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} (¬3) وفي المرسلات: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} (¬4) وفي الأنعام: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} (¬6) {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬7) وفي الأعراف: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (¬8)، {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} (¬9)، {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ ¬

(¬1) الواقعة الآيتان (81و82). (¬2) الروم الآية (48). (¬3) ن الآية (35). (¬4) المرسلات الآيات (20 - 23) .. (¬5) الأنعام الآية (39). (¬6) الأنعام الآية (136). (¬7) الأنعام الآية (100). (¬8) الأعراف الآية (47). (¬9) الأعراف الآية (69).

مِنْ بَعْدِ عَادٍ} (¬1)، {يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} (¬2)، {فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (¬3). وفي الرعد: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} (¬4)، {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ} (¬5). وفي هود: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} (¬6) وقال في الشعراء: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} (¬7)، {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} (¬8) وفي فصلت: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬9) وفي النمل: {ويكشف السُّوءَ ِ ¬

(¬1) الأعراف الآية (74). (¬2) الأعراف الآية (138). (¬3) الأعراف الآية (150). (¬4) الرعد الآية (16). (¬5) الرعد الآية (33). (¬6) هود الآية (82). (¬7) الشعراء الآية (29) .. (¬8) الشعراء الآيتان (84و85). (¬9) فصلت الآية (9).

{وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} (¬1) {إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} (¬2) وفي القصص: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} (¬3) وفي الذاريات {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} (¬4) وقال: {وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} (¬5) وفي القصص: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} (¬6) وقال: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (¬7) وقال: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا} (¬8)، {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} (¬9) وقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ ¬

(¬1) النمل الآية (62). (¬2) النمل الآية (34). (¬3) القصص الآية (4). (¬4) الذاريات الآية (41). (¬5) الذاريات الآية (51). (¬6) القصص الآية (5). (¬7) القصص الآية (7). (¬8) القصص الآية (38). (¬9) القصص الآية (41) ..

الْقِيَامَةِ} (¬1) وفي إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} (¬2)، {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} (¬3)، {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} (¬4)، {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} (¬5) وفي الحجر: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ} (¬6)، {الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} (¬7)، {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} (¬8) وفي النحل: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا} (¬9)، {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} (¬10)، {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} (¬11)، {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا}، ¬

(¬1) القصص الآية (71). (¬2) إبراهيم الآية (35). (¬3) إبراهيم الآية (37). (¬4) إبراهيم الآية (40). (¬5) إبراهيم الآية (30). (¬6) الحجر الآية (91). (¬7) الحجر الآية (96). (¬8) الحجر الآية (73). (¬9) النحل الآية (56). (¬10) النحل الآية (57). (¬11) النحل الآية (62).

تَسْتَخِفُّونَهَا} (¬1)، {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} (¬2)، {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} (¬3) وفي الإسراء: {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} (¬4)، {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} (¬5) وفي الفرقان: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} (¬6)، {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} (¬7)، {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} (¬8)، {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا} (¬9)، وفي العنكبوت: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ ¬

(¬1) النحل الآية (80). (¬2) النحل الآية (81). (¬3) النحل الآية (91). (¬4) الإسراء الآية (6) .. (¬5) الإسراء الآية (22). (¬6) الفرقان الآية (23). (¬7) الفرقان الآية (37). (¬8) الفرقان الآية (54). (¬9) الفرقان الآية (35).

{السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} (¬1)، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} (¬2) وفي سبأ: {وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} (¬3) {وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬4) وفي إبراهيم: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} (¬5) وفي المائدة: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ} (¬6) وفي التوبة: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (¬7) وفي يونس: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} (¬8)، {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (¬9) وفي الزخرف: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} ¬

(¬1) العنكبوت الآية (15). (¬2) العنكبوت الآية (10). (¬3) سبأ الآية (19). (¬4) سبأ الآية (33). (¬5) إبراهيم الآية (35). (¬6) المائدة الآية (103). (¬7) التوبة الآية (19). (¬8) يونس الآية (73) .. (¬9) يونس الآية (85). (¬10) الزخرف الآية (56).

(¬1)، {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} (¬2)، وفي الفيل: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} (¬3) وفي سورة الأنبياء: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ} (¬4)، {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} (¬5) {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} (¬6) وفي الصافات: {فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} (¬8)، {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} (¬9) وفي ص: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا ¬

(¬1) الزخرف الآية (60). (¬2) الفيل الآية (5). (¬3) الأنبياء الآيتان (57و58). (¬4) الأنبياء الآية (70). (¬5) الأنبياء الآيتان (72و73). (¬6) الأنبياء الآية (15). (¬7) الصافات الآيتان (97و98). (¬8) الصافات الآية (158).

{الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (¬1) وفي الزمر: {ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا} (¬2) وفي يوسف: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} (¬3)، وقال: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} (¬4)، {لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ} (¬5) وفي الأعراف: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬6) وفي الإسراء: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (¬7) في النساء: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} (¬8) وفي الواقعة: {إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ} (¬9) وفي البروج: {بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مجيدٌ} (¬10) وفي الزخرف: {وَإِنَّهُ في أُمِّ ¬

(¬1) ص الآية (28). (¬2) الزمر الآية (21). (¬3) يوسف الآية (55) .. (¬4) يوسف الآية (70). (¬5) يوسف الآية (62). (¬6) الأعراف الآية (180). (¬7) الإسراء الآية (110). (¬8) النساء الآية (174). (¬9) الواقعة الآية (77). (¬10) البروج الآية (21).

{الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (¬1) وفي فصلت: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عزيزٌ} (¬2) وفي سورة الدخان: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} (¬3) وفي يس: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} (¬4) وفي الفرقان: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} (¬5). وفي الحجر: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} (¬6) وفي فصلت: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (¬7) وفي الأنعام: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬8) وفي فصلت: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي ¬

(¬1) الزخرف الآية (4). (¬2) فصلت الآية (41). (¬3) الدخان الآيتان (1و2). (¬4) يس الآيتان (1و2). (¬5) الفرقان الآية (59). (¬6) الحجر الآية (1) .. (¬7) الآيتان (41و42). (¬8) الأنعام الآية (155).

آذَانِهِمْ وَقْرٌ} (¬1) وفي حم عسق: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} (¬2) وفي الزخرف: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (¬3) وفي سورة العلق: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} (¬4) وفي المائدة: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (¬5) وفي الأنعام: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} (¬6) {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (¬7) وفي الطور: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} (¬8) وفي البقرة: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} (¬9)، {يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} (¬10) وفي طه: {إِنَّنِي مَعَكُمَا ¬

(¬1) فصلت الآية (44). (¬2) الشورى الآية (7). (¬3) الزخرف الآيات (1 - 3). (¬4) العلق الآيتان (14و15). (¬5) المائدة الآية (116). (¬6) الأنعام الآية (12). (¬7) الأنعام الآية (54). (¬8) الطور الآية (48) .. (¬9) البقرة الآية (37). (¬10) البقرة الآية (75).

{مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (¬1) وفي مريم: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} (¬2) وفي لقمان: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} (¬3) وفي النساء: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} (¬4) وفي الزمر: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (¬5) وفي المائدة: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} (¬6) وفي الفتح: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} (¬7) وفي طه: {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي ¬

(¬1) طه الآية (46). (¬2) مريم الآية (42). (¬3) لقمان الآية (28). (¬4) النساء الآية (134). (¬5) الزمر الآية (67). (¬6) المائدة الآية (64). (¬7) الفتح الآية (10) ..

{مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} (¬1) وفي القيامة: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (¬2) وفي المطففين: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} (¬3)، {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} (¬4)، وفي الملك {قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬5) وفي النجم: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} (¬6). اهـ (¬7) ¬

(¬1) طه الآيات (45 - 47). (¬2) القيامة الآيات (20 - 23). (¬3) المطففين الآيتان (15و16). (¬4) المطففين الآيتان (22و23). (¬5) الملك الآيتان (25و26). (¬6) النجم الآيات (10 - 14). (¬7) السنة لعبد الله (ص.192 - 206).

- روى اللالكائي بسنده إلى حنبل قال: قلت لأبي عبد الله -يعني أحمد ابن حنبل- ما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشفاعة فقال: هذه أحاديث صحاح نؤمن بها ونقر، وكل ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسانيد جيدة نؤمن بها ونقر، قلت له: وقوم يخرجون من النار؟ فقال: نعم، إذا لم نقر بما جاء به الرسول ودفعناه رددنا على الله أمره قال الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬1) قلت: والشفاعة؟ قال: كم حديث يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشفاعة والحوض، فهؤلاء يكذبون بها ويتكلون، وهو قول صنف من الخوارج، وإن الله تعالى لا يخرج من النار أحدا بعد إذ أدخله، والحمد لله الذي عدل عنا ما ابتلاهم به. (¬2) - وفيه عن حنبل قال: سمعت أبا عبد الله -يعني أحمد بن حنبل- يقول: إذا صير العبد إلى لحده وانصرف عنه أهله أعيد إليه روحه في جسده فيسأل حينئذ في قبره، وهو قول الله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} (¬3) يعني القبر، فنسأل الله أن يثبتنا على طاعته، ويبارك لنا في تلك الساعة عند المساءلة، فالسعيد من أسعده الله عز وجل، قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: نؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير. (¬4) ¬

(¬1) الحشر الآية (7). (¬2) أصول الاعتقاد (6/ 1183/2090). (¬3) إبراهيم الآية (27). (¬4) أصول الاعتقاد (6/ 1219/2158).

- وفيه: وروى يوسف بن موسى البغدادي أنه قيل لأبي عبد الله أحمد ابن حنبل: الله عز وجل فوق السماء السابعة على عرشه بائن من خلقه وقدرته وعلمه في كل مكان؟ قال: نعم على العرش وعلمه لا يخلو منه مكان. (¬1) - ذكر الإمام الخلال في السنة عن أبي ثابت الخطاب، قال: كنت أنا وإسحاق بن أبي عمر جالسا، فمر بنا رجل جهمي وأنا أعلم أنه جهمي، فسلم علينا فرددت عليه السلام ولم يرد عليه إسحاق بن أبي عمر، فقال لي إسحاق: ترد على جهمي السلام؟ قال: فقلت: أليس أرد على اليهودي والنصراني؟ قال: ترضى بأبي عبد الله؟ قلت: نعم. قال: فغدوت إلى أبي عبد الله، فأخبرته بالخبر، فقال: سبحان الله، ترد على جهمي؟ فقلت: أليس أرد على اليهودي والنصراني؟ فقال: اليهودي والنصراني قد تبين أمرهما. (¬2) - وفيها: عن عبد الملك الميموني أن أبا عبد الله ذكر رجلا من الجهمية، فقال: أخزاه الله. (¬3) - وفيها: عن أبي بكر المروذي، قال: قلت لأبي عبد الله: الرجل المقرئ يجيئه ابن الجهمي، ترى أن يأخذ عليه؟ قال: وابن كم هو؟ قلت: ابن سبع أو ثمان. قال: لا تأخذ عليه ولا تقبله، ليذل الأب به. (¬4) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (3/ 445 - 446/ 674). (¬2) السنة للخلال (5/ 94). (¬3) السنة للخلال (5/ 94). (¬4) السنة للخلال (5/ 95).

- وفيها: عن أبي بكر المروذي، قال: قلت لأبي عبد الله: أمر بقرية جهمي وليس معي زاد، ترى أن أطوى؟ قال: نعم اطو، ولا تشتر منه شيئا. وقال المروذي في موضع آخر. قال: سألت أبا عبد الله، قلت: أبيع الثوب من الرجل الذي أكره كلامه ومبايعته، أعني الجهمي؟ قال: دعني حتى أنظر. فلما كان بعدما سألته عنها، قال: توق مبايعته. قلت لأبي عبد الله: فإن بايعته وأنا لا أعلم. قال: إن قدرت أن ترد البيع، فافعل. قلت: فإن لم يمكنني، أتصدق بالثمن؟ قال: أكره أن أحمل الناس على هذا، فتذهب أموالهم. قلت: فكيف أصنع؟ قال: ما أدري، أكره أن أتكلم فيه بشيء. قلت: إنما أريد أن أعرف مذهبك. قال: أليس بعت ولا تعرفه؟ قلت: نعم. قال: أكره أن أتكلم فيه بشيء، ولكن أقل ما هاهنا أن تصدق بالربح وتوق مبايعتهم. (¬1) - وبسنده إلى أبي بكر المروذي، قال: سمعت أبا عبد الله وذكر الجهمية فقال: إنما كان يراد بهم المطابق، تدري أي شيء عملوا هؤلاء في الإسلام؟ قيل لأبي عبد الله: الرجل يفرح بما ينزل بأصحاب ابن أبي دؤاد، عليه في ذلك إثم؟ قال: ومن لا يفرح بهذا؟ قيل له: إن ابن المبارك قال: الذي ينتقم من الحجاج، هو ينتقم للحجاج من الناس. قال: أي شيء يشبه هذا من الحجاج؟ هؤلاء أرادوا تبديل الدين. (¬2) - قال الإمام أحمد: وكذلك الجهم وشيعته دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث، فضلوا وأضلوا بكلامهم بشرا كثيرا، فكان مما بلغنا من أمر ¬

(¬1) السنة للخلال (5/ 96). (¬2) السنة للخلال (5/ 121).

الجهم عدو الله: أنه كان من أهل خراسان من أهل الترمذ، وكان صاحب خصومات وكلام، وكان أكثر كلامه في الله تبارك وتعالى، فلقي ناسا من المشركين يقال لهم السمنية، فعرفوا الجهم فقالوا له: نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك، فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له: ألست تزعم أن لك إلها؟ قال الجهم: نعم، فقالوا له: فهل رأيت إلهك؟ قال: لا، فقالوا له: هل سمعت كلامه؟ قال: لا، قالوا: فشممت له رائحة؟ قال: لا، قالوا: فوجدت له حسا؟ قال: لا، قالوا: فوجدت له مجسا؟ قال: لا، قالوا: فما يدريك أنه إله؟ قال: فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يوما، ثم إنه استدرك حجة من جنس حجة الزنادقة من النصارى، وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح التي في عيسى هي من روح الله من ذات الله، وإذا أراد الله أن يحدث أمرا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه، فيأمر بما شاء وينهى عن ما شاء وهو روح غائبة عن الأبصار. فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة، فقال للسمني: ألست تزعم أن فيك روحا؟ فقال: نعم، قال فهل رأيت روحك؟ قال: لا، قال: فسمعت كلامه؟ قال: لا، قال: فوجدت له حسا؟ قال: لا، قال: فكذلك الله لا يرى له وجه، ولا يسمع له صوت، ولا يشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان. ووجد ثلاث آيات في القرآن من المتشابه قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (¬1). {وهو ¬

(¬1) الشورى الآية (11).

اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} (¬1). {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} (¬2). فبنى أصل كلامه كله على هؤلاء الآيات، وتأول القرآن على غير تأويله، وكذب بأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزعم أن من وصف من الله شيئا مما وصف الله به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله كان كافرا، وكان من المشبهة. وأضل بكلامه بشرا كثيرا، وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة، ووضع دين الجهمية. (¬3) - وقال: قال أحمد: إنه مستو على العرش عالم بكل مكان. (¬4) - وفيه: قال الإمام أحمد: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس، وقال: يجتنب المتكلم في الفقه هذين الأصلين المجمل والقياس، وهذه الطريق يشترك فيها جميع أهل البدع الكبار والصغار، فهي طريق الجهمية والمعتزلة ومن دخل في التأويل من الفلاسفة والباطنية الملاحدة. (¬5) - وجاء في السير عن أبي معمر القطيعي، قال: لما أحضرنا إلى دار السلطان أيام المحنة، وكان أحمد بن حنبل قد أحضر، فلما رأى الناس يجيبون، وكان رجلا لينا، فانتفخت أوداجه، واحمرت عيناه، وذهب ذلك اللين. فقلت: إنه قد غضب لله، فقلت أبشر: حدثنا ابن الفضيل، عن الوليد بن ¬

(¬1) الأنعام الآية (3). (¬2) الأنعام الآية (103). (¬3) الرد على الجهمية والزنادقة (ص.101 - 105)، وانظر الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 39 - 40). (¬4) مجموع الفتاوى (4/ 181). (¬5) مجموع الفتاوى (17/ 355 - 356).

عبد الله بن جميع، عن أبي سلمة، قال: كان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من إذا أريد على شيء من أمر دينه، رأيت حماليق عينيه في رأسه تدور كأنه مجنون. (¬1) - وجاء في الإبانة: عن أبي نصر عصمة بن أبي عصمة، قال: حدثنا الفضل بن زياد، قال: حدثنا أبو طالب أحمد بن حميد، قال: قال لي أبو عبد الله: صاروا ثلاث فرق في القرآن. قلت: نعم: هم ثلاث: الجهمية، والواقفة، واللفظية، فأما الجهمية، فهم يكشفون أمرهم، يقولون: مخلوق. قال: كلهم جهمية، هؤلاء يستترون، فإذا أحرجتهم، كشفوا الجهمية، فكلهم جهمية، قال الله عز وجل: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (¬2) وقال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (¬3) فيسمع مخلوقا وجبريل جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمخلوق. (¬4) - وبسنده إلى علي بن عيسى العكبري أن حنبلا حدثهم سمع أبا عبد الله قال: من قال إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، فقد كفر وَرَدَّ على الله أمره وقوله، يستتاب فإن تاب وإلا قتل. (¬5) - وفيها: عن يعقوب بن بختان، قال: قلت لأبي عبد الله رحمه الله: من ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (11/ 238). (¬2) النساء الآية (164). (¬3) التوبة الآية (6). (¬4) الإبانة (1/ 12/294 - 295/ 64) ونحوه في السنة للخلال (5/ 225) والسير (11/ 289). (¬5) الإبانة (2/ 13/79/ 304).

كان له قرابة جهمي، يرثه؟ قال: بلغني عن عبد الرحمن أنه قال: لا يرثه، فقيل: ما ترى؟ فقال: إذا كان كافرا. قلت: لا يرثه؟ قال: لا. (¬1) - وفيها: عن المروذي، قال: سألت أبا عبد الله عن الجهمي يموت وله ابن عم ليس له وارث غيره، فقال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يرث المسلم الكافر" (¬2) قلت: فلا يرثه؟ قال: لا. قلت: فما يصنع بماله؟ قال: بيت المال، نحن نذهب إلى أن مال المرتد لبيت المال. (¬3) - وفيها: وروى الميموني، قال: ذاكرت أبا عبد الله أمر الجهمية وما يتكلمون، فقال: في كلامهم كلام الزنادقة، يدورون على التعطيل ليس يثبتون شيئا، وهكذا الزنادقة. (¬4) - وفيها: روى المروذي عن أبي عبد الله، قال: قلت لأبي عبد الله: رجل صلى خلف الصف هو ورجل، فلما سلم نظر إلى الذي صلى على جانبه فإذا هو جهمي، قال: يعيد الصلاة، فإنه إنما صلى خلف الصف وحده، أو كلام هذا معناه: إن شاء الله. (¬5) - وبسنده إلى الحارث الصائغ: قلت لأبي عبد الله إن أصحاب ابن ¬

(¬1) الإبانة (2/ 12/81/ 310). (¬2) أخرجه من حديث أسامة بن زيد: أحمد (5/ 200،208،209) والبخاري (12/ 58/6764) ومسلم (3/ 1233/1614) وأبو داود (3/ 326 - 327/ 2909) والترمذي (4/ 369/2107) والنسائي في الكبرى (4/ 80/6371) وابن ماجه (2/ 911/2729). (¬3) الإبانة (2/ 13/82 - 83/ 314). (¬4) الإبانة (2/ 13/107/ 356). (¬5) الإبانة (2/ 13/122/ 389).

الثلاج نلنا منهم ومن أعراضهم، فنستحلهم من ذلك؟ فقال: لا، هؤلاء جهمية، من أي شيء يستحلون؟. (¬1) - وفيها: قال عبد الله بن أحمد: وسألت أبي عن الصلاة خلف أهل البدع، فقال: لا تصل خلفهم مثل الجهمية والمعتزلة، وقال: إذا كان القاضي جهميا، فلا تشهد عنده. (¬2) - وفيها: قال حنبل: وقال أبو عبد الله: واحتججت عليهم فقلت: زعمتم أن الأخبار تردونها باختلاف أسانيدها، وما يدخلها من الوهم والضعف، فهذا القرآن نحن وأنتم مجمعون عليه وليس بين أهل القبلة فيه خلاف، وهو الإجماع. قال الله عز وجل في كتابه تصديقا منه لقول إبراهيم غير دافع لمقالته ولا لما حكى عنه، فقال: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} (¬3) فذم إبراهيم أباه أن عبد ما لا يسمع ولا يبصر، فهذا منكر عندكم. فقالوا: شبه، شبه يا أمير المؤمنين. فقلت: أليس هذا القرآن؟ هذا منكر عندكم مدفوع، وهذه قصة موسى، قال الله عزوجل لموسى في كتابه حكاية عن نفسه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ موسى} (¬4) فأثبت الله الكلام لموسى كرامة منه لموسى ثم قال: {يا موسى إنني ¬

(¬1) الإبانة (2/ 13/131 - 132/ 408). (¬2) الإبانة (2/ 13/139 - 140/ 414). (¬3) مريم الآية (42). (¬4) النساء الآية (164).

أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فاعبدني} (¬1) فتنكرون هذا، فيجوز أن تكون هذه الياء راجعة ترد على غير الله، أو يكون مخلوق يدعي الربوبية؟ وهل يجوز أن يقول هذا غير الله؟ وقال له: {يا موسى لا تخف} (¬2)، {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12] (¬3) فهذا كتاب الله يا أمير المؤمنين، فيجوز أن يقول لموسى: أنا ربك مخلوق؟ وموسى كان يعبد مخلوقا؟ ومضى إلى فرعون برسالة مخلوق يا أمير المؤمنين؟ قال: فأمسكوا، وأداروا بينهم كلاما لم أفهمه. قال أبو عبد الله: والقوم يدفعون هذا وينكرونه، ما رأيت أحدا طلب الكلام واشتهاه إلا أخرجه إلى أمر عظيم، لقد تكلموا بكلام، واحتجوا بشيء ما يقوى قلبي ولا ينطق لساني أن أحكيه، والقوم يرجعون إلى التعطيل في أقاويلهم، وينكرون الرؤية والآثار كلها، ما ظننت أنه هكذا حتى سمعت مقالاتهم. قال أبو عبد الله: قيل لي يومئذ: كان الله ولا قرآن. فقلت له: كان الله ولا علم؟ فأمسك. ولو زعم غير ذلك أن الله كان ولا علم، لكفر بالله. قال أبو عبد الله: وقلت له -يعني: لابن الحجام-: يا ويلك، لا يعلم حتى يكون، فعلمه وعلمك واحد، كفرت بالله عالم السر وأخفى، عالم الغيب والشهادة، علام الغيوب، ويلك، يكون علمه مثل علمك، تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. قال أبو عبد الله: فهذه أليست مقالته؟ قال أبو عبد الله: وهذا هو ¬

(¬1) طه الآية (14). (¬2) النمل الآية (10). (¬3) طه الآية (12).

الكفر بالله، ما ظننت أن القوم هكذا. لقد جعل برغوث يقول يومئذ: الجسم وكذا وكلام لا أفهمه، فقلت: لا أعرف ولا أدري ما هذا، إلا أنني أعلم أنه أحد صمد، لا شبه له ولا عدل، وهو كما وصف نفسه، فيسكت عني. قال: فقال لي شعيب: قال الله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عربيًا} (¬1) أفليس كل مجعول مخلوقا؟ قلت: فقد قال الله: {فَجَعَلَهُمْ جذاذًا} (¬2) أفخلقهم {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} (¬3) أفخلقهم؟ أفكل مجعول مخلوق؟ كيف يكون مخلوقا وقد كان قبل أن يخلق الجعل؟ قال: فأمسك. (¬4) - وبسنده إلى صالح بن أحمد أن أباه قال: قال لي رجل منهم: أراك تذكر الحديث وتنتحله. قال: فقلت له: ما تقول في قول الله عز وجل: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (¬5) فقال: خص الله بها المؤمنين، قال: قلت: فما تقول إن كان قاتلا أو عبدا أو يهوديا أو نصرانيا؟ فسكت. (¬6) - وفيها عن محمد بن جعفر، قال: سمعت هرثمة بن خالد -قرابة إسحاق بن داود- وكنا جميعا أنا وإسحاق، قال: قال أحمد بن حنبل، قال ¬

(¬1) الزخرف الآية (3). (¬2) الأنبياء الآية (58). (¬3) الفيل الآية (5). (¬4) الإبانة (2/ 14/254 - 257/ 433). (¬5) النساء الآية (11). (¬6) الإبانة (2/ 14/258/ 435).

لي ابن أبي دؤاد -وهم يناظروني- وقد كنت قلت لهم: أوجدوني ما تقولون في كتاب الله أو في سنة رسول الله، أوجدني أنت يا ابن حنبل في علمك أن هذا البساط الذي نحن عليه مخلوق؟ قال: قلت: نعم. قال الله عز وجل: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} (¬1) قال: فكأني ألقمته حجرا. (¬2) - وفيها: وروى الميموني، قال: سألت أبا عبد الله، قلت: من قال: إن الله تعالى كان ولا علم؟ فتغير وجهه تغيرا شديدا، وكثر غيظه، ثم قال لي: كافر. وقال لي: كل يوم أزداد في القوم بصيرة. (¬3) - ونقل الخلال في السنة عن عبد الملك الميموني أن أبا عبد الله ذكر عنده بشر المريسي، فقيل: كافر. فلم أر أبا عبد الله أنكر من قول القائل شيئا. (¬4) - وفيها: عن الأثرم قال: سمعت أبا عبد الله قديما يسأل عن الصلاة خلف بشر المريسي قال: لا يصلى خلفه. (¬5) - وجاء في الإبانة عن المروذي، قال: سمعت أبا عبد الله وذكر بشرا المريسي، فقال: من كان يهوديا، إيش تراه يكون؟. (¬6) - وجاء في السنة للخلال: عن الحسن بن ثواب المخرمي، قال: قلت ¬

(¬1) النحل الآية (80). (¬2) الإبانة (2/ 14/258 - 259/ 436). (¬3) الإبانة (2/ 12/70/ 291). (¬4) السنة للخلال (5/ 100). (¬5) السنة للخلال (5/ 102). (¬6) الإبانة (2/ 13/112/ 367) والسنة للخلال (5/ 99) وزاد: "ملأ الله قبر المريسي نارا".

لأحمد بن حنبل، ابن أبي دؤاد؟، قال: كافر بالله العظيم. (¬1) - وفيها: عن إسحاق بن إبراهيم حدثهم أنه حضر العيد مع أبي عبد الله، قال: فإذا بقاص يقول: على ابن أبي دؤاد لعنة الله، وحشا الله قبر ابن أبي دؤاد مئة ألف عمود من نار. وجعل يلعن، فقال أبو عبد الله: ما أنفعهم للعامة. (¬2) - ونقل ابن بطة بسنده إلى أحمد بن محمد بن عبد الحميد الكوفي، قال: سمعت عبيد بن محمد القصير قال: سمعت من حضر مجلس أبي إسحاق يوم ضرب أحمد بن حنبل، قال له أبو إسحاق: يا أحمد إن كنت تخشى من هؤلاء النابتة، جئتك أنا في جيش إلى بيتك حتى أسمع منك الحديث. قال: فقال له: يا أمير المؤمنين خذ في غير هذا واسأل عن العلم واسأل عن الفقه، أي شيء تسأل عن هذا؟ قال عبيد بن محمد: وسمعت من حضر مجلس أبي إسحاق يوم ضرب أحمد بن حنبل، قال: التفت إليه المعتصم، فقال: تعرف هذا؟ قال: لا. قال: تعرف هذا؟ قال: لا. فالتفت أحمد، فوقعت عينه على ابن أبي دؤاد فحول وجهه، فكأنما وقعت عينه على قرد، قال: تعرف هذا -يعني: عبد الرحمن؟ قال: نعم. قال: قل: الله رب القرآن، قال: القرآن كلام الله. قال: فشهد ابن سماعة وقتلته، فقالوا: قد كفر، اقتله ودمه في أعناقنا. (¬3) - وذكر الإمام الخلال في السنة: عن حرب بن إسماعيل الكرماني، ¬

(¬1) السنة للخلال (5/ 117). (¬2) السنة للخلال (5/ 118). (¬3) الإبانة (2/ 14/262 - 263/ 439).

قال: سمعت أحمد، وذكر شعيب بن سهل قاضي بغداد، فقال أحمد: خزاه الله. (¬1) - وجاء في الإبانة: عن الفضل بن زياد، قال: قلت لأبي عبد الله: إن الشراك بلغني عنه أنه قد تاب ورجع. قال: كذب، لا يتوب هؤلاء، كما قال أيوب: إذا مرق أحدهم لم يعد فيه أو نحوهذا. (¬2) - وفيها: عن الفضل بن زياد قال: قلت لأبي عبد الله: إن ابن عم لي قدم من طرسوس، فأخبرني عنهم أنهم يحبون أن يعلموا رأيك في الذي تكلم به موسى بن عقبة، فقال: قد كنت تكلمت بكلام فيه. قلت: إنهم يريدون منك حركة في أمره، فقال: قد أخرجت فيه أحاديث، وادفع إلي كاغدا حتى أخرجها إليك. فقام، فأخرجت كتابا فدفعه إلي، فقال: اقرأ علي، فقرأت الأحاديث، ودفع إلي طبق كاغد من عنده، فقال: انسخه. فنسخته، وعارضت به، وصححته. (¬3) - جاء في الشريعة: عن الفضل بن زياد؛ قال: سمعت أبا عبد الله أحمد ابن حنبل، وبلغه عن رجل أنه قال: إن الله تعالى لا يرى في الآخرة، فغضب غضبا شديدا ثم قال: من قال بأن الله تعالى لا يرى في الآخرة فقد كفر، عليه لعنة الله وغضبه، من كان من الناس، أليس الله عز وجل قال: {وُجُوهٌ ¬

(¬1) السنة للخلال (5/ 119). (¬2) الإبانة (2/ 13/129 - 130/ 404). (¬3) الإبانة (1/ 12/357/ 165).

يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (¬1) وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (¬2) هذا دليل على أن المؤمنين يرون الله تعالى. (¬3) - وفيها: عن حنبل بن إسحاق بن حنبل، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: قالت الجهمية: إن الله لا يرى في الآخرة، وقال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} فلا يكون هذا إلا أن الله تعالى يرى، وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فهذا النظر إلى الله تعالى. والأحاديث التي رويت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم ترون ربكم" (¬4) برواية صحيحة، وأسانيد غير مدفوعة، والقرآن شاهد أن الله تعالى يرى في الآخرة. (¬5) - وفيها: عن أبي داود السجستاني، قال: سمعت أحمد بن حنبل وقيل له في رجل حدث بحديث عن رجل، عن أبي العطوف -يعني أن الله عز وجل لا يرى في الآخرة-، فقال: لعن الله من حدث بهذا الحديث، ثم قال: أخزى الله هذا. (¬6) - وفي السنة للخلال: عن عبيد الله بن أحمد الحلبي، قال: سمعت أبا ¬

(¬1) القيامة الآيتان (22و23). (¬2) المطففين الآية (15). (¬3) الشريعة (2/ 9/618). (¬4) انظر تخريجه في مواقف عبد العزيز الماجشون سنة (164هـ). (¬5) الشريعة (2/ 9 - 10/ 619) ونحوه في مجموع الفتاوى (6/ 499 - 500). (¬6) الشريعة (2/ 51/671).

عبد الله وحدثني بحديث جرير بن عبد الله في الرؤية (¬1)، فلما فرغ قال: على الجهمية لعنة الله. (¬2) - وجاء في طبقات الحنابلة: وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن قوم يقولون: لما كلم الله موسى لم يتكلم بصوت، فقال أبي: تكلم الله تبارك وتعالى بصوت وهذه الأحاديث نرويها كما جاءت، وقال أبي: حديث ابن مسعود: إذا تكلم الله بالوحي سمع له صوت كجر السلسلة على الصفوان (¬3) قال أبي: والجهمية تنكره. قال أبي: وهؤلاء كفار. (¬4) " التعليق: هذه هي المسائل التي طال الحوار فيها بين السلف والجهمية وأفراخهم، وقد تصدى لهم السلف بالرد وألفوا في ذلك، ومن أحسن ما ألف: كتاب إثبات الحرف والصوت لأبي نصر السجزي الذي سيمر بنا إن شاء الله تعالى. وأثبت من المنقول والمعقول ما فيه كفاية لمن أراد الحجة، وأما الذي لا يطلب الدليل فكما قال الله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ ¬

(¬1) تقدمت الإشارة إليه. (¬2) السنة للخلال (5/ 95). (¬3) أخرجه: أبو داود (5/ 105 - 106/ 4738)، ابن حبان (1/ 223 - 224/ 37) كلهم من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن عبد الله - رضي الله عنه - به مرفوعا. وأخرجه موقوفا: ابن خزيمة في التوحيد (1/ 351/208) والبيهقي في الأسماء والصفات (1/ 507/432) من طريق سعدان بن نصر كلاهما عن أبي معاوية بهذا الإسناد موقوفا. وذكره البخاري تعليقا (13/ 554) عن مسروق عن ابن مسعود موقوفا. وقد اختلف في رفعه ووقفه، قال الدارقطني في العلل (5/ 243): "والموقوف هو المحفوظ" ولو ثبت موقوفا فهو في حكم الرفع، لأن مثل هذا ليس من قبيل الرأي. (¬4) طبقات الحنابلة (1/ 185) والسنة لعبد الله (70 - 71) والفتح (13/ 460).

بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} (¬1). فالمعاند لا ينتفع لا بالقرآن ولا بالسنة. وقد حقق الكتاب رسالة علمية مقدمة من أخينا وصديقنا الفاضل الشيخ محمد باكريم الزهراني. - ونقل الإمام اللالكائي: عن حنبل قال: قلت لأبي عبد الله: يكلم الله عبده يوم القيامة؟ قال: نعم، فمن يقضي بين الخلق إلا الله، يكلمه الله عز وجل ويسأله الله عز وجل متكلم لم يزل بما شاء، ويحكم، وليس لله عدل ولا مثل تبارك وتعالى كيف شاء وأنى شاء. (¬2) - وفي الفتاوى الكبرى قال الإمام أحمد فيما خرجه في الرد على الجهمية، بيان ما أنكرت الجهمية أن يكون الله كلم موسى صلى الله عليه وعلى نبينا وعلى سائر الأنبياء، قلنا لم أنكرتم ذلك؟ قالوا: لأن الله لم يتكلم ولا يتكلم، إنما كون شيئا فعبر عن الله وخلق صوتا فسمع. فزعموا أن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم وشفتين ولسان، فقلنا فهل يجوز لمكون أو لغير الله أن يقول لموسى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (¬3)، {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} (¬4)؟ فمن زعم ذلك فقد زعم أن غير الله ادعى الربوبية ولو كان كما زعم الجهمية أن الله كون شيئا، كان يقول ذلك ¬

(¬1) الأنعام الآية (7). (¬2) أصول الاعتقاد (3/ 479/738) والإبانة (2/ 14/321/ 496). (¬3) طه الآية (14). (¬4) طه الآية (12).

المكون يا موسى إن الله رب العالمين، ولا يجوز أن يقول إني أنا الله رب العالمين، وقد قال الله جل ثناؤه: {وكلم الله موسى تكليمًا} (¬1) وقال: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} (¬2) وقال: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} (¬3) فهذا منصوص القرآن قال: وأما ما قالوا إن الله لم يتكلم ولا يتكلم، فكيف يصنعون بحديث سليمان الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم الطائي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان" (¬4) قال: وأما قولهم إن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم وشفتين ولسان. أليس الله عز وجل قال للسموات والأرض: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (¬5) أتراها أنها قالت بجوف وشفتين ولسان؟ وقال الله: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} (¬6) أتراها أنها سبحت بفم وجوف ولسان وشفتين، والجوارح إذا شهدت على الكافر فقالوا: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} (¬7) ¬

(¬1) النساء الآية (164). (¬2) الأعراف الآية (143). (¬3) الأعراف الآية (144). (¬4) أخرجه: أحمد (4/ 256) والبخاري (11/ 488/6539) ومسلم (2/ 703 - 704/ 1016 [67]) والترمذي (4/ 528/2415) وابن ماجه (1/ 66/185). (¬5) فصلت الآية (11) .. (¬6) الأنبياء الآية (79). (¬7) فصلت الآية (21).

أتراها نطقت بجوف وشفتين وفم ولسان، ولكن الله أنطقها كيف شاء من غير أن يقول فم ولسان وشفتان. قال: فلما خنقته الحجج قال: إن الله كلم موسى إلا أن كلامه غيره: فقلنا: وغيره مخلوق؟ قال: نعم، قلنا هذا مثل قولكم الأول إلا أنكم تدفعون الشنعة عن أنفسكم بما تظهرون ... قال وقلنا للجهمية: من القائل لعيسى يوم القيامة {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (¬1) أليس الله هو القائل، قالوا: يكون الله شيئا يعبر عن الله كما كون فعبر لموسى، فقلنا: فمن القائل {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} (¬2) أليس الله هو الذي يسأل؟ قالوا: هذا كله إنما يكون الله شيئا فيعبر عن الله، قلنا: قد أعظمتم على الله الفرية حتى زعمتم أن الله لا يتكلم فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله لأن الأصنام لا تتكلم ولا تتحرك ولا تزول عن مكان إلى مكان، فلما ظهرت عليه الحجة قال: أقول إن الله قد يتكلم ولكن كلامه مخلوق. قلنا: وكذلك بنوا آدم كلامهم مخلوق، ففي مذهبكم أن الله قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق التكلم، وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما، فقد جمعتم بين كفر وتشبيه فتعالى الله عن هذه الصفة، بل نقول إن الله جل ثناؤه لم يزل متكلما إذا شاء، ولا نقول أنه كان ولا يتكلم حتى خلق كلاما، ولا نقول أنه قد كان لا يعلم حتى خلق ¬

(¬1) المائدة الآية (116). (¬2) الأعراف الآية (6).

علما فعلم، ولا نقول أنه قد كان ولا قدرة، حتى خلق لنفسه قدرة ولا نقول إنه قد كان ولا نور له حتى خلق لنفسه نورا، ولا نقول إنه كان ولا عظمة حتى خلق لنفسه عظمة. فقالت الجهمية لنا لما وصفنا من الله هذه الصفات: إن زعمتم أن الله ونوره والله وقدرته والله وعظمته فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره ولم يزل وقدرته فقلنا: لا نقول أن الله لم يزل وقدرته ولم يزل ونوره، ولكن نقول: لم يزل بقدرته ونوره لا متى قدر ولا كيف قدر. فقالوا لا تكونون موحدين أبدا حتى تقولوا كان الله ولا شيء، فقلنا: نحن نقول كان الله ولاشيء ولكن إذا قلنا أن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلها واحدا بجميع صفاته وضربنا لهم مثلا في ذلك فقلنا لهم: أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذوع وكرب وليف وسعف وخوص وجمار واسمها اسم واحد وسميت نخلة بجميع صفاتها، فكذلك الله جل ثناؤه وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد، لا نقول إنه قد كان في وقت من الأوقات ولا قدرة له حتى خلق قدرة، والذي ليس له قدرة هو عاجز، ولا نقول إنه قد كان في وقت من الأوقات ولا علم له حتى خلق فعلم والذي لا يعلم فهو جاهل ولكن نقول لم يزل الله قادرا عالما مالكا لا متى ولا كيف، وقد سمى الله رجلا كافرا اسمه الوليد بن المغيرة المخزومي فقال: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} (¬1) أو قد كان لهذا الذي سماه وحيدا عينان وأذنان ولسانا وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة، فقد سماه الله وحيدا بجميع صفاته، ¬

(¬1) المدثر الآية (11) ..

فكذلك الله، وله المثل الأعلى هو بجميع صفاته إله واحد. (¬1) - ونقل الإمام ابن بطة عن حنبل بن إسحاق، قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: من زعم أن الله لم يكلم موسى، فهو كافر بالله، وكذب بالقرآن، ورد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يستتاب من هذه المقالة، فإن تاب، وإلا ضربت عنقه. (¬2) - جاء في الشريعة عن محمد بن يوسف بن الطباع، قال: سمعت رجلا سأل أحمد بن حنبل، فقال: يا أبا عبد الله، أصلي خلف من يشرب المسكر؟ قال: لا. قال: فأصلي خلف من يقول: القرآن مخلوق؟ قال: سبحان الله! أنهاك عن مسلم، وتسألني عن كافر؟. (¬3) - وجاء في الفتح: قال ابن أبي حاتم في كتاب 'الرد على الجهمية' حدثنا أبي قال: قال أحمد بن حنبل: دل على أن القرآن غير مخلوق حديث عبادة، "أول ما خلق الله القلم فقال اكتب" الحديث (¬4) قال: وإنما نطق القلم بكلامه لقوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى (5/ 60 - 63). (¬2) الإبانة (2/ 14/320/ 495) والشريعة (2/ 85/723) بنحوه. (¬3) الشريعة (1/ 222 - 223/ 187) والإبانة (2/ 12/71 - 72/ 295). (¬4) أخرجه: أحمد (5/ 317) من طريق ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه فذكره. قال الشيخ الألباني رحمه الله في "ظلال الجنة" (1/ 48): "وإسناده لا بأس به في الشواهد رجاله ثقات غير ابن لهيعة وهو سيئ الحفظ لكنه يتقوى بما قبله وما بعده" -يعني من كتاب السنة لابن أبي عاصم. وأخرجه: أبو داود (5/ 76/4700) من طريق إبراهيم بن أبي عبلة عن أبي حفصة قال: قال عبادة بن الصامت لابنه، فذكره. الترمذي (4/ 398/2155) وقال: "وهذا حديث غريب من هذا الوجه". وفيه قصة طويلة. وأخرجه أيضا في (5/ 394 - 395/ 3319) وقال: "هذا حديث حسن غريب".

(40) (¬1) قال فكلام الله سابق على أول خلقه فهو غير مخلوق. (¬2) وفيه: وقد احتج أحمد بن حنبل بهذه الآية -يعني قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (¬3) الآية- على أن القرآن غير مخلوق لأنه لم يرد في شيء من القرآن ولا من الأحاديث أنه مخلوق، ولا ما يدل على أنه مخلوق. (¬4) - جاء في السنة لعبد الله: قال أحمد بن حنبل: من قال القرآن مخلوق فهو عندنا كافر، لأن القرآن من علم الله، قال الله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} (¬5) وقال: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (¬6) وقال: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ¬

(¬1) النحل الآية (40). (¬2) الفتح (13/ 443). (¬3) المائدة الآية (67). (¬4) الفتح (13/ 504). (¬5) آل عمران الآية (61). (¬6) البقرة الآية (120).

وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} (¬1) وقال: {ألا له الخلق والأمر} (¬2) وقال: {ومن يكفر به من الأحزاب} (¬3). اهـ (¬4) - وفيها: قال عبد الله: سمعت أبي مرة أخرى سئل عن القرآن فقال: كلام الله ليس بمخلوق. ولا تخاصموا ولا تجادلوا من يخاصم. (¬5) - وفيها: قال عبد الله: سمعت أبي يقول: من كان من أصحاب الحديث أو من أصحاب الكلام فأمسك عن أن يقول القرآن ليس بمخلوق فهو جهمي. (¬6) - عن أحمد بن الحسن الترمذي قال: سألت أبا عبد الله قال: قد وقع من أمر القرآن ما قد وقع، فإن سئلت عنه ماذا أقول؟ قال لي: ألست أنت مخلوقاً؟، قلت: نعم. قال: أليس كل شيء منك مخلوقاً؟ قلت: نعم. قال: فكلامك، أليس هو منك وهو مخلوق؟، قلت: نعم. قال: فكلام الله أليس هو منه؟ قلت: نعم. قال: فيكون شيء من الله مخلوقاً؟. (¬7) ¬

(¬1) البقرة الآية (145). (¬2) الأعراف الآية (54). (¬3) هود الآية (17). (¬4) السنة لعبد الله بن أحمد (ص.9 - 10) ونحوه في الشريعة (1/ 223/189) وأصول الاعتقاد (2/ 290 - 291/ 450). (¬5) السنة لعبد الله بن أحمد (ص.21). (¬6) السنة لعبد الله بن أحمد (ص.29). (¬7) الإبانة (2/ 12/35/ 225) وأصول الاعتقاد (2/ 291/451).

- وجاء في الفتاوى الكبرى: عن الميموني أنه قال لأبي عبد الله: ما تقول فيمن قال إن أسماء الله محدثة. فقال: كافر. ثم قال لي: الله من أسمائه، فمن قال إنها محدثة، فقد زعم أن الله مخلوق، وأعظم أمرهم عنده وجعل يكفرهم، وقرأ علي: {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} (¬1) وذكر آية أخرى. (¬2) - وفيها: وقال الخلال في كتاب السنة: أخبرني محمد بن سليمان قال: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: ما تقول في القرآن؟ قال: عن أي قالة تسأل؟ قلت: كلام الله، قال: كلام الله وليس بمخلوق، ولا تجزع أن تقول ليس بمخلوق، فإن كلام الله من الله ومن ذات الله وتكلم الله به، وليس من الله شيء مخلوق. (¬3) - وفيها: قال الخلال: وأخبرني عبيد الله بن حنبل حدثني حنبل سمعت أبا عبد الله يقول: قال الله في كتابه العزيز: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (¬4) فجبريل سمعه من الله تعالى، وسمعه النبي - صلى الله عليه وسلم - من جبريل - صلى الله عليه وسلم -، وسمعه أصحاب النبي من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالقرآن كلام الله غير مخلوق ولا نشك، ولا نرتاب فيه، وأسماء الله تعالى في القرآن ¬

(¬1) الصافات الآية (126). (¬2) الفتاوى الكبرى (5/ 70). (¬3) الفتاوى الكبرى (5/ 76) والإبانة (2/ 12/35/ 224). (¬4) التوبة الآية (6).

وصفاته في القرآن أن القرآن من علم الله وصفاته منه، فمن زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر، والقرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، وقد كنا نهاب الكلام في هذا حتى أحدث هؤلاء ما أحدثوا وقالوا ما قالوا ودعوا الناس إلى ما دعوهم إليه، فبان لنا أمرهم وهو الكفر بالله العظيم. (¬1) - ونقل شيخ الإسلام رحمه الله عن أحمد قال: وما في اللوح المحفوظ وما في المصاحف وتلاوة الناس وكيفما يقرأ وكيفما يوصف، فهو كلام الله غير مخلوق. (¬2) - وجاء في السير: عن عبد الله بن أحمد، قال: كتب عبيد الله بن يحيى ابن خاقان إلى أبي يخبره أن أمير المؤمنين أمرني أن أكتب إليك أسألك عن القرآن، لا مسألة امتحان، لكن مسألة معرفة وتبصرة. فأملى علي أبي: إلى عبيد الله بن يحيى، بسم الله الرحمن الرحيم، أحسن الله عاقبتك أبا الحسن في الأمور كلها، ودفع عنك المكاره برحمته، قد كتبت إليك، رضي الله عنك، بالذي سأل عنه أمير المؤمنين بأمر القرآن بما حضرني، وأني أسأل الله أن يديم توفيق أمير المؤمنين، فقد كان الناس في خوض من الباطل، واختلاف شديد ينغمسون فيه، حتى أفضت الخلافة إلى أمير المؤمنين، فنفى الله به كل بدعة، وانجلى عن الناس ما كانوا فيه من الذل وضيق المحابس، فصرف الله ذلك كله، وذهب به بأمير المؤمنين، ووقع ذلك من المسلمين موقعا عظيما، ودعوا الله لأمير المؤمنين، وأسأل الله أن يستجيب في أمير المؤمنين صالح الدعاء، وأن ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى (5/ 76 - 77). (¬2) مجموع الفتاوى (4/ 182).

يتم ذلك لأمير المؤمنين، وأن يزيد في نيته، وأن يعينه على ما هو عليه. فقد ذكر عن ابن عباس أنه قال: لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، فإنه يوقع الشك في قلوبكم. وذكر عن عبد الله بن عمرو، أن نفرا كانوا جلوسا بباب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا، وقال بعضهم: ألم يقل الله كذا؟ فسمع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرج كأنما فقئ في وجهه حب الرمان، فقال: "أبهذا أمرتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ إنما ضلت الأمم قبلكم في مثل هذا، إنكم لستم مما ها هنا في شيء، انظروا الذي أمرتم به، فاعملوا به، وانظروا الذي نهيتم عنه، فانتهوا عنه" (¬1) وروي عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مراء في القرآن كفر" (¬2) وروي عن أبي جهيم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تماروا في القرآن فإن مراء فيه كفر" (¬3) وقال ابن عباس: قدم رجل على عمر، فجعل عمر يسأله عن الناس، فقال: يا أمير المؤمنين، قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا. فقال ابن عباس: فقلت: والله ما أحب أن يتسارعوا يومهم في القرآن هذه المسارعة. فزبرني عمر، وقال: مه، فانطلقت إلى منزلي كئيبا حزينا، فبينا أنا ¬

(¬1) أحمد (2/ 195 - 196) وابن ماجه (1/ 33/85) مختصرا، قال في الزوائد: "هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات". وقال الشيخ الألباني: "حسن صحيح". انظر صحيح سنن ابن ماجه (1/ 21) وصحيح الترغيب (1/ 169)، وله شاهد عن أنس وآخر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما. (¬2) أخرجه أحمد (2/ 258) وأبو داود (5/ 9/4603) والحاكم (2/ 223) وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي. وابن حبان (4/ 324 - 325/ 1464) من حديث أبي هريرة. (¬3) أخرجه: أحمد (4/ 170) والطبري في التفسير (1/ 19) وأبو عبيد في فضائل القرآن (2/ 166/728) والبغوي في شرح السنة (4/ 505 - 506)، وذكره الهيثمي في المجمع (7/ 151) وقال: "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح". وله شاهد من حديث زيد بن ثابت.

كذلك إذ أتاني رجل فقال: أجب أمير المؤمنين. فخرجت، فإذا هو بالباب ينتظرني، فأخذ بيدي، فخلا بي، وقال: ما الذي كرهت؟ قلت: يا أمير المؤمنين، متى يتسارعوا هذه المسارعة، يحتقوا، ومتى ما يحتقوا يختصموا، ومتى ما يختصموا يختلفوا، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا. قال: لله أبوك، والله إن كنت لأكتمها الناس حتى جئت بها. وروي عن جابر، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرض نفسه على الناس بالموقف، فيقول: "هل من رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي" (¬1). وروي عن جبير بن نفير، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم لن ترجعوا إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه" (¬2)، يعني: القرآن. وروي عن ابن مسعود، قال: جردوا القرآن، لا تكتبوا فيه شيئا إلا كلام الله. وروي عن عمر أنه قال: هذا القرآن كلام الله، فضعوه مواضعه. وقال رجل للحسن: يا أبا سعيد، إني إذا قرأت كتاب الله، وتدبرته، كدت أن آيس، وينقطع رجائي، فقال: إن القرآن كلام الله، وأعمال ابن آدم إلى الضعف والتقصير، فاعمل وأبشر. وقال فروة بن نوفل الأشجعي: كنت جارا لخباب، فخرجت يوما معه إلى المسجد، وهو آخذ بيدي، فقال: يا هناه، تقرب إلى الله بما استطعت، فإنك لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه. وقال رجل للحكم: ما حمل أهل الأهواء على هذا؟ قال: الخصومات. وقال معاوية بن قرة: إياكم وهذه الخصومات، فإنها تحبط الأعمال. وقال أبو قلابة: لا ¬

(¬1) سيأتي تخريجه قريباً. (¬2) أخرجه الترمذي (5/ 162/2912) وقال: "مرسل". وله طرق أخرى لا تخلو من مقال وانظر الضعيفة (1957).

تجالسوا أهل الأهواء، أو قال: أصحاب الخصومات. فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، ويلبسوا عليكم بعض ما تعرفون. ودخل رجلان من أصحاب الأهواء على محمد بن سيرين، فقالا: يا أبا بكر، نحدثك بحديث؟ قال: لا. قالا: فنقرأ عليك آية؟ قال: لا. لتقومان عني، أو لأقومنه، فقاما. وقال: خشيت أن يقرآ آية فيحرفانها، فيقر ذلك في قلبي. وقال رجل من أهل البدع لأيوب: يا أبا بكر أسألك عن كلمة؟ فولى، وهو يقول بيده: لا، ولا نصف كلمة. وقال ابن طاووس لابن له يكلمه رجل من أهل البدع: يا بني أدخل أصبعيك في أذنيك حتى لا تسمع ما يقول. ثم قال: اشدد اشدد. وقال عمر ابن عبد العزيز: من جعل دينه غرضا للخصومات، أكثر التنقل. وقال إبراهيم النخعي: إن القوم لم يدخر عنهم شيء خبئ لكم لفضل عندكم. وكان الحسن يقول: شر داء خالط قلبا، يعني: الأهواء. وقال حذيفة: اتقوا الله، وخذوا طريق من كان قبلكم، والله لئن استقمتم، لقد سبقتم سبقا بعيدا، ولئن تركتموه يمينا وشمالا، لقد ضللتم ضلالا بعيدا، أو قال: مبينا. قال أبي: وإنما تركت الأسانيد لما تقدم من اليمين التي حلفت بها مما قد علمه أمير المؤمنين، ولولا ذاك، ذكرتها بأسانيدها. وقد قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (¬1). وقال: {ألا لَهُ ¬

(¬1) التوبة الآية (6).

الخلق وَالْأَمْرُ} (¬1) فأخبر أن الأمر غير الخلق. وقال: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (¬2). فأخبر أن القرآن من علمه. وقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (¬3). وقال: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} (¬4) إلى قوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} (¬5). فالقرآن من علم الله. وفي الآيات دليل على أن الذي جاءه هو القرآن. وقد روي عن السلف أنهم كانوا يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق، وهو الذي أذهب إليه، لست بصاحب كلام، ولا أرى الكلام في شيء من هذا إلا ما كان في كتاب الله، أو في حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو عن أصحابه، أو عن التابعين. فأما غير ذلك، فإن الكلام فيه غير محمود. ¬

(¬1) الأعراف الآية (54). (¬2) الرحمن الآيات (1 - 4). (¬3) البقرة الآية (120). (¬4) البقرة الآية (145) .. (¬5) البقرة الآية (145).

قال الذهبي: فهذه الرسالة إسنادها كالشمس، فانظر إلى هذا النفس النوراني. لا كرسالة الإصطخري، ولا كالرد على الجهمية الموضوع على أبي عبد الله، فإن الرجل كان تقيا ورعا لا يتفوه بمثل ذلك. ولعله قاله، وكذلك رسالة المسيء في الصلاة باطلة. وما ثبت عنه أصلا وفرعا ففيه كفاية. (¬1) - وفيها: وقال إسحاق بن إبراهيم البغوي: سمعت أحمد يقول: من قال: القرآن مخلوق، فهو كافر. وسمع سلمة بن شبيب أحمد يقول ذلك، وهذا متواتر عنه. وقال أبو إسماعيل الترمذي: سمعت أحمد بن حنبل، يقول: من قال: القرآن محدث، فهو كافر. وقال إسماعيل بن الحسن السراج: سألت أحمد عمن يقول: القرآن مخلوق، قال: كافر، وعمن يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، فقال: جهمي. (¬2) - ونقل الإمام البغوي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه، فيمن قال بخلق القرآن: أنه لا يصلى خلفه الجمعة، ولا غيرها، إلا أنه لا يدع إتيانها، فإن صلى أعاد الصلاة. (¬3) - وجاء في الإبانة عن أبي توبة الطرسوسي -الربيع بن نافع- قال: قلت لأحمد بن حنبل وهو عندنا ها هنا بطرسوس -يعني حين حمل في المحنة: ما ترى في هؤلاء الذين يقولون: القرآن مخلوق؟ فقال: "كفار". قلت: ما يصنع بهم؟ قال: فقال: يستتابون، فإن تابوا، وإلا ضربت أعناقهم. قال: ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (11/ 281 - 287). (¬2) سير أعلام النبلاء (11/ 288). (¬3) شرح السنة للبغوي (1/ 229).

فقلت: قد جئت تضعف أهل العراق، لا بل يقتلون ولا يستتابون. قال أبو بكر الأثرم: فقال أبو إسحاق العباداني يوما لأبي عبد الله ونحن عنده: يا أبا عبد الله: حكى عنك أبو توبة كذا وكذا، فابتسم ثم قال: عافى الله أبا توبة. (¬1) - وفيها عن بكر بن محمد بن الحكم عن أبيه عن أبي عبد الله، قال: سألته عمااحتج به حين دخل على هؤلاء، فقال: احتجوا علي بهذه الآية: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} (¬2) أي: أن القرآن محدث، فاحتججت عليهم بهذه الآية: {ص وَالْقُرْآَنِ ذي الذِّكْرِ} (¬3) قلت: فهو سماه الذكر، وقلت: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} فهذا يمكن أن يكون غير القرآن محدث، ولكن {ص وَالْقُرْآَنِ ذي الذِّكْرِ} فهو القرآن، ليس هو محدثا، قال: فبهذا احتججت عليهم، واحتجوا علي: ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا كذا أعظم من آية الكرسي (¬4)، قال: فقلت له: إنه لم يجعل آية الكرسي مخلوقة، إنما هذا مثل ضربه، أي: هي أعظم من ¬

(¬1) الإبانة (2/ 13/78 - 79/ 303). (¬2) الأنبياء الآية (2). (¬3) ص الآية (1). (¬4) أخرجه: ابن الضريس (رقم 193) من طريق حماد عن عاصم عن أبي الأحوص عن عبد الله فذكره. و (رقم 194) من طريق وكيع عن الأعمش عن أبي إسحاق عن مسروق قال: قال عبد الله فذكره. وأخرجه أبو عبيد في فضائله (2/ 34 - 35/ 421) من طريق منصور بن المعتمر عن الشعبي قال: التقى مسروق بن الأجدع وشتير بن شكل، فقال شتير لمسروق إما أن أحدثك عن عبد الله وتصدقني أو تحدثني وأصدقك. فقال مسروق تحدث وأصدقك، فقال شتير: سمعت عبد الله يقول: فذكره.

أن تخلق، ولو كانت مخلوقة لكانت السماء أعظم منها، أي: فليست بمخلوقة. قال: واحتجوا علي بقول: {الله خالق كل شيءٍ} (¬1) فقلت: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زوجين} (¬2) فخلق من القرآن زوجين، {وأوتيت مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} (¬3) فأوتيت القرآن؟ فأوتيت النبوة أوتيت كذا وكذا؟ وقال الله تعالى: {تدمر كُلَّ شَيْءٍ} (¬4) فدمرت كل شيء، إنما دمرت ما أراد الله من شيء، قال: وقال لي ابن أبي دؤاد: أين تجد أن القرآن كلام الله؟ قلت: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} (¬5) فسكت. وقلت له بين يدي الرئيس، وجرى كلام بيني وبينه، فقلت له: اجتمعت أنا وأنت أنه كلام وقلت: إنه مخلوق، فهاتوا الحجة من كتاب الله أو من السنة، فما أنكر ابن أبي دؤاد ولا أصحابه أنه كلام. قال: وكانوا يكرهون أن يظهروا أنه ليس بكلام فيشنع عليهم. (¬6) - وفيها: عن حنبل قال: قال أبو عبد الله: وكان إذا كلمني ابن أبي دؤاد لم أجبه ولم ألتفت إلى كلامه، فإذا كلمني أبو إسحاق، ألنت له القول والكلام. قال: فقال لي أبو إسحاق: لئن أجبتني لآتينك في حشمي وموالي، ¬

(¬1) الزمر الآية (62). (¬2) الذاريات الآية (49). (¬3) النمل الآية (23). (¬4) الأحقاف الآية (25) .. (¬5) الكهف الآية (27). (¬6) الإبانة (2/ 14/250 - 253/ 431).

ولأطأن بساطك، ولا نوهن باسمك، يا أحمد اتق الله في نفسك، يا أحمد الله الله. قال أبو عبد الله: وكان لا يعلم ولا يعرف، ويظن أن القول قولهم، فيقول: يا أحمد إني عليك شفيق. فقلت: يا أمير المؤمنين هذا القرآن وأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخباره، فما وضح من حجة صرت إليها. قال: فيتكلم هذا وهذا. قال: فقال ابن أبي دؤاد لما انقطع وانقطع أصحابه: والذي لا إله إلا هو، لئن أجابك لهو أحب إلي من مئة ألف ومئة ألف عددا مرارا كثيرة. قال أبو عبد الله: وكان فيما احتججت عليهم يومئذ، قلت لهم: قال الله عزوجل: {ألا له الخلق وَالْأَمْرُ} (¬1)، وذلك أنهم قالوا لي: أليس كل ما دون الله مخلوق؟ فقلت لهم: فرق بين الخلق والأمر، فما دون الله مخلوقا، فأما القرآن، فكلامه ليس بمخلوق. فقالوا: قال الله عز وجل: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬2) فقلت لهم: قال الله تعالى: {أتى أَمْرُ اللَّهِ} (¬3) فأمره كلامه واستطاعته ليس بمخلوق، فلا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، فقد نهينا عن ذلك. (¬4) - وفيها عن محمد بن يوسف المروزي -المعروف بابن سرية، قال: دخلت على أبي عبد الله والجبائر على ظهره، قال لي: يا أبا جعفر، أشاط ¬

(¬1) الأعراف الآية (54). (¬2) النحل الآية (40). (¬3) النحل الآية (1). (¬4) الإبانة (2/ 14/253 - 254/ 432).

القوم بدمي فقالوا له -يعني المعتصم-: يا أمير المؤمنين سله عن القرآن، أشيء هو أو غير شيء؟ قال: فقال لي المعتصم: يا أحمد أجبهم. قال: فقلت له: يا أمير المؤمنين إن هؤلاء لا علم لهم بالقرآن، ولا بالناسخ والمنسوخ، ولا بالعام والخاص، قد قال الله عز وجل في قصة موسى: {وكتبنا لَهُ في الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} (¬1) فما كتب له القرآن. وقال في قصة سبأ: {وأوتيت مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} (¬2) وما أوتيت القرآن، فأخرسوا. (¬3) - روى الآجري في الشريعة بسنده إلى أبي داود السجستاني قال: سمعت أحمد يسأل: هل لهم رخصة أن يقول الرجل: القرآن كلام الله، ثم يسكت؟ فقال: ولم يسكت؟ لولا ما وقع فيه الناس كان يسعه السكوت، ولكن حيث تكلموا فيما تكلموا، لأي شيء لا يتكلمون؟. (¬4) - وله بسنده إلى أبي داود، قال: سمعت أحمد -وذكر رجلين كانا وقفا في القرآن، ودعوا إليه، فجعل يدعو عليهما- وقال لي: هؤلاء فتنة عظيمة، وجعل يذكرهما بالمكروه. قال أبو داود: ورأيت أحمد سلم عليه رجل من أهل بغداد، ممن وقف فيما بلغني، فقال له: اغرب، لا أراك تجيء إلى بابي. في كلام غليظ، ولم يرد عليه السلام، وقال له: ما أحوجك أن يصنع بك ما ¬

(¬1) الأعراف الآية (145). (¬2) النمل الآية (23). (¬3) الإبانة (2/ 14/257 - 258/ 434). (¬4) الشريعة (1/ 232/203).

صنع عمر بن الخطاب بصبيغ. ودخل بيته، ورد الباب. (¬1) - قال عبد الله: سمعت أبي سئل عن الواقفة فقال أبي: من كان منهم يخاصم ويعرف بالكلام فهو جهمي، ومن لم يكن يعرف بالكلام يجانب حتى يرجع، ومن لم يكن له علم يسأل يتعلم. (¬2) - وجاء في أصول الاعتقاد عن سلمة بن شبيب قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: الواقفي لا تشك في كفره. (¬3) - وجاء في السنة للخلال عن حنبل قال: قلت لأبي عبد الله: إن يعقوب بن شيبة وزكريا الشركي ابن عمار أنهما إنما أخذا عنك هذا الأمر الوقف. فقال أبو عبد الله: كنا نأمر بالسكوت ونترك الخوض في الكلام وفي القرآن، فلما دعينا إلى أمر ما كان بدا لنا من أن ندفع ذاك ونبين من أمره ما ينبغي. قلت لأبي عبد الله: فمن وقف، فقال: لا أقول مخلوق ولا غير مخلوق؟ فقال: كلام سوء، هو ذا موضع السوء، وقوفه، كيف لا يعلم إما حلال وإما حرام، إما هكذا وإما هكذا، قد نزه الله عز وجل القرآن عن أن يكون مخلوقا، وإنما يرجعون هؤلاء إلى أن يقولوا إنه مخلوق، فاستحسنوا لأنفسهم فأظهروا الوقف. القرآن كلام الله غير مخلوق بكل جهة وعلى كل تصريف. قلت: رضي الله عنك، لقد بينت من هذا الأمر ما قد كان تلبس على الناس. ¬

(¬1) الشريعة (1/ 232 - 233/ 204). (¬2) السنة لعبد الله بن أحمد (ص.43) والسنة للخلال (5/ 130). (¬3) أصول الاعتقاد (2/ 363/544).

قال: لا تجالسهم ولا تكلم أحدا منهم. (¬1) - وفيها: عن أبي الحارث قال: سألت أبا عبد الله قلت: إن بعض الناس يقول: إن هؤلاء الواقفة هم شر من الجهمية. قال: هم أشد على الناس تزيينا من الجهمية، هم يشككون الناس وذلك أن الجهمية قد بان أمرهم، وهؤلاء إذا قالوا إنا لا نتكلم استمالوا العامة، إنما هذا يصير إلى قول الجهمية. قال: وسمعته يسأل عن من قال: أقول القرآن كلام الله وأسكت. قال: لا، هذا شاك، لا، حتى يقول غير مخلوق. (¬2) - وفيها: عن إبراهيم بن الحارث العبادي، قال: قمت من عند أبي عبد الله، فأتيت عباس العنبري، فأخبرته بما تكلم أبو عبد الله في أمر ابن معذل، فسر به ولبس ثيابه ومعه أبو بكر بن هاني، فدخل على أبي عبد الله، فابتدأ عباس فقال: يا أبا عبد الله قوم هاهنا حدثوا يقولون: لا نقول مخلوق ولا غير مخلوق. قال: هؤلاء أضر من الجهمية على الناس، ويلكم، فإن لم تقولوا ليس بمخلوق، فقولوا مخلوق. فقال أبو عبد الله: كلام سوء. فقال العباس: ما تقول يا أبا عبد الله؟ فقال: الذي أعتقده وأذهب إليه، ولا أشك فيه أن القرآن غير مخلوق. ثم قال: سبحان الله، ومن يشك في هذا؟ ثم تكلم أبو عبد الله استعظاما للشك في ذلك، فقال: سبحان الله! في هذا شك؟ قال الله عز وجل: {ألا له الخلق والأمر} (¬3) ففرق بين الخلق والأمر. قال أبو عبد الله: ¬

(¬1) السنة للخلال (5/ 134). (¬2) السنة للخلال (5/ 135) والإبانة (1/ 12/293 - 294/ 62و63). (¬3) الأعراف الآية (54).

فالقرآن من علم الله، ألا تراه يقول: {عَلَّمَ الْقُرْآَنَ} (¬1) والقرآن فيه أسماء الله عز وجل، أي شيء تقولون؟ ألا تقولون أن أسماء الله عز وجل غير مخلوقة؟ من زعم أن أسماء الله عز وجل مخلوقة، فقد كفر، لم يزل الله عز وجل قديرا، عليما، عزيزا، حكيما، سميعا، بصيرا، لسنا نشك أن أسماء الله ليست بمخلوقة، ولسنا نشك أن علم الله تبارك وتعالى ليس بمخلوق، وهو كلام الله عز وجل، ولم يزل الله عز وجل حكيما، ثم قال أبو عبد الله: وأي كفر أبين من هذا، وأي كفر أكفر من هذا؟ إذا زعموا أن القرآن مخلوق، فقد زعموا أن أسماء الله مخلوقة، وأن علم الله مخلوق، ولكن الناس يتهاونون بهذا ويقولون: إنما يقولون القرآن مخلوق، فيتهاونون ويظنون أنه هين، ولا يدرون ما فيه من الكفر. قال: فأنا أكره أن أبوح بهذا لكل أحد، وهم يسألوني، فأقول: إني أكره الكلام في هذا، فبلغني أنهم يدعون علي أني أمسك. قلت لأبي عبد الله: فمن قال القرآن مخلوق، فقال: لا أقول أسماء الله مخلوقة ولا علمه ولم يزد على هذا، أقول هو كافر؟ فقال: هكذا هو عندنا. قال أبو عبد الله: نحن نحتاج أن نشك في هذا؟ القرآن عندنا فيه أسماء الله عز وجل وهو من علم الله، من قال مخلوق، فهو عندنا كافر. ثم قال أبو عبد الله: بلغني أن أبا خالد وموسى بن منصور وغيرهم يجلسون في ذلك الجانب، فيعيبون قولنا، ويدعون إلى هذا القول أن لا يقال: مخلوق ولا غير مخلوق، ويعيبون من يكفر، ويزعمون أنا نقول بقول الخوارج. ثم تبسم أبو عبد الله ¬

(¬1) الرحمن الآية (2).

كالمغتاظ، ثم قال: هؤلاء قوم سوء. ثم قال أبو عبد الله للعباس: وذاك السجستاني الذي عندكم بالبصرة، ذاك خبيث، بلغني أنه قد وضع في هذا يوما يقول: لا أقول مخلوق ولا غير مخلوق، وذاك خبيثا ذاك الأحول. فقال العباس: كان يقول مرة بقول جهم. ثم صار إلى أن يقول هذا القول. فقال أبو عبد الله: ما يعني أنه كان يقول بقول جهم إلا الشفاعة. (¬1) - وفيها: عن أبي بكر المروذي، قال: سألت أبا عبد الله عن الصلاة على الواقفي (يعني: إذا مات)؟ قال: لا تصل عليه. (¬2) - وفيها: عن محمد بن النقيب بن أبي حرب الجرجرائي قال: سألت أبا عبد الله عن رجل له والد واقفي، فقال: يأمره ويرفق به. قلت: فإن أبى، يقطع لسانه عنه؟ قال: نعم. (¬3) - وفيها: عن محمد بن أبي حرب، قال: سألت أبا عبد الله عن رجل له أخت أو عمة ولها زوج واقفي، قال: يلتقي بها ويسلم عليها. قلت: فإن كانت الدار له؟ قال: يقف على الباب ولا يدخل. (¬4) - وجاء في الإبانة: قال أبو طالب: وجاء رجل إلى أبي عبد الله وأنا عنده، فقال: إن لي قرابة يقول بالشك، قال: فقال وهو شديد الغضب: من شك فهو كافر. (¬5) ¬

(¬1) السنة للخلال (5/ 137 - 139) والإبانة (1/ 12/291 - 293/ 61) مختصراً. (¬2) السنة للخلال (5/ 141). (¬3) السنة للخلال (5/ 143). (¬4) السنة للخلال (5/ 143). (¬5) الإبانة (1/ 12/295/ 66).

- وفيها: عن إسحاق بن داود: قال: سمعت جعفر بن أحمد يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: اللفظية والواقفة زنادقة عتق. (¬1) - وفيها: قال المروذي: وسألت أبا عبد الله عن من وقف لا يقول غير مخلوق. وقال: أنا أقول: القرآن كلام الله، قال: يقال له: إن العلماء يقولون: غير مخلوق، فإن أبى، فهو جهمي. (¬2) - وفيها: قال أبو بكر المروذي: وقدم رجل من ناحية الثغر، فأدخلته عليه فقال: ابن عم لي يقف وقد زوجته ابنتي، وقد أخذتها وحولتها إلي على أن أفرق بينهما، فقال: لا ترض منه حتى يقول: غير مخلوق، فإن أبى ففرق بينهما. (¬3) - وفيها عن محمد بن عبد الملك الدقيقي الواسطي قال: سمعت سلمة ابن شبيب بمكة أمله علينا في المسجد الحرام، قال: دخلت على أحمد بن حنبل فقلت: يا أبا عبد الله ما تقول فيمن يقول: القرآن كلام الله؟ فقال أحمد: من لم يقل القرآن كلام الله غير مخلوق، فهو كافر، ثم قال لي: لا تشكن في كفرهم، فإنه من لم يقل: القرآن كلام الله غير مخلوق، فهو يقول: مخلوق، فهو كافر. وقال لنا سلمة بن شبيب: وقلت -يعني: لابن حنبل- الواقفة؟ فقال: كفار. (¬4) ¬

(¬1) الإبانة (1/ 12/296/ 68). (¬2) الإبانة (1/ 12/297/ 74). (¬3) الإبانة (1/ 12/298/ 75). (¬4) الإبانة (1/ 12/305 - 306/ 94).

- وفيها: عن مهنا بن يحيى، قال: قلت لأحمد بن حنبل: أي شيء تقول في القرآن قال: كلام الله وهو غير مخلوق. قلت: إن بعض الناس يحكي عنك أنك تقول: القرآن كلام الله وتسكت. قال: من قال علي ذا، فقد أبطل. (¬1) - وجاء في الشريعة عن أبي طالب، قال: سألت أبا عبد الله عمن أمسك، فقال: لا أقول: ليس هو مخلوقا، إذا لقيني في الطريق، وسلم علي، أسلم عليه؟ قال: لا تسلم عليه ولا تكلمه، كيف يعرفه الناس إذا سلمت عليه؟ وكيف يعرف هو أنك منكر عليه؟ فإذا لم تسلم عليه عرف الذل، وعرف أنك أنكرت عليه، وعرفه الناس. (¬2) - وفي فتاوى شيخ الإسلام: ونقل الخلال أخباره في كتاب السنة ما يوضح الأمر فقال: أخبرني الحسين بن عبد الله قال: سألت أبا بكر المروذي عن قصة ابن الثلاج. فقال: قال لي أبو عبد الله جاءني هارون الحمال فقال: إن ابن الثلاج تاب من صحبة المريسي فأجيء به إليك. قال: قلت: لا ما أريد أن يراه أحد على بابي، قال: أحب أن أجيء به بين المغرب والعشاء، فلم يزل يطلب إلى أن قال: قلت هو ذا يقول: أجب، فأي شيء أقول لك. قال: فجاء به فقلت له: اذهب حتى تصح توبتك وأظهرها ثم ارجع قال: فبلغنا أنه أظهر الوقف. قال أبو بكر المروذي فمضيت ومعي نفسان من أصحابنا، فقلت له: ¬

(¬1) الإبانة (1/ 12/308/ 99). (¬2) الشريعة (1/ 233/207) ونحوه في السنة للخلال (5/ 93).

قد بلغني عنك شيء ولم أصدق به. قال: وما هو؟ قلت: تقف في القرآن، فقال: أنا أقول كلام الله فجعل يحتج بيحيى بن آدم وغيره أنهم وقفوا، فقلت له: هذا من الكتاب الذي أوصى لكم به عبيد بن نعيم. فقال: لا تذكر الناس، فقلت له: أليس أجمع المسلمون جميعا أنه من حلف بمخلوق أنه لا كفارة عليه؟ قال: نعم. قلت: فمن حلف بالقرآن أليس قد أوجبوا عليه كفارة لأنه حلف بغير مخلوق؟ فقال: هذا متاع أصحاب الكلام، ثم قال: إنما أقول كلام الله كما أقول أسماء الله فإنه من الله، ثم قال وأي شيء قام به أحمد بن حنبل، ثم قال: علموكم الكلام وأومأ إلى ناحية الكرخ يريد أبا ثور وغيره، فقمنا من عنده فما كلمناه حتى مات. وروى الخلال من وجهين عن زياد بن أيوب قال: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله، وعلماء الواقفة جهمية؟ قال: نعم مثل ابن الثلجي وأصحابه الذين يجادلون. (¬1) - وجاء في أصول الاعتقاد: قال محمد بن مسلم بن وارة قال لي أبو مصعب: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر. ومن قال لا أدري -يعني مخلوق أو غير مخلوق- فهو مثله ثم قال: بل هو شر منه. فذكرت رجلا كان يظهر مذهب مالك فقلت إنه أظهر الوقف. فقال: لعنه الله، ينتحل مذهبنا وهو بريء منه. فذكرت ذلك لأحمد بن حنبل فأعجبه وسر به. (¬2) - وفي الإبانة: قال أبو بكر المروذي: قال لي أبو عبد الله: أول من ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى (5/ 82 - 83). (¬2) أصول الاعتقاد (2/ 358/522).

سألني عن الوقف علي الأشقر، فقلت له: القرآن غير مخلوق. (¬1) - وجاء في السير: قال أبو الحسن عبد الملك الميموني: قال رجل لأبي عبد الله: ذهبت إلى خلف البزار أعظه، بلغني أنه حدث بحديث عن الأحوص عن عبد الله قال: ما خلق الله شيئا أعظم .. وذكر الحديث، فقال أبو عبد الله: ما كان ينبغي له أن يحدث بهذا في هذه الأيام -يريد زمن المحنة- والمتن: "ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي" (¬2) وقد قال أحمد بن حنبل لما أوردوا عليه هذا يوم المحنة: إن الخلق واقع ها هنا على السماء والأرض وهذه الأشياء، لا على القرآن. (¬3) - قال شيخ الإسلام: بل المنصوص عن الإمام أحمد وعامة أصحابه تبديع من قال لفظي بالقرآن غير مخلوق، كما جهموا من قال لفظي بالقرآن مخلوق، وقد صنف أبو بكر المروذي -أخص أصحاب الإمام أحمد به- في ذلك رسالة كبيرة مبسوطة، ونقلها عنه أبو بكر الخلال في كتاب 'السنة' الذي جمع فيه كلام الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة في أبواب الاعتقاد، وكان بعض أهل الحديث إذ ذاك أطلق القول بأن لفظي بالقرآن غير مخلوق معارضة لمن قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فبلغ ذلك الإمام أحمد، فأنكر ذلك إنكارا شديدا، وبدع من قال ذلك وأخبر أن أحدا من العلماء لم يقل ذلك، فكيف بمن يزعم أن صوت العبد قديم. وأقبح من ذلك من يحكي عن بعض ¬

(¬1) الإبانة (1/ 12/297/ 71). (¬2) تقدم تخريجه قريباً. (¬3) السير (10/ 578).

العلماء أن المداد الذي في المصحف قديم، وجميع أئمة أصحاب الإمام أحمد وغيرهم أنكروا ذلك، وما علمت أن عالما يقول ذلك إلا ما يبلغنا عن بعض الجهال: من الأكراد ونحوهم. (¬1) - قال عبد الله: سألت أبي رحمه الله، قلت: ما تقول في رجل قال التلاوة مخلوقة، وألفاظنا بالقرآن مخلوقة، والقرآن كلام الله وليس بمخلوق. وما ترى في مجانبته وهل يسمى مبتدعا؟ فقال هذا يجانب وهو قول المبتدع، وهذا كلام الجهمية، ليس القرآن مخلوقا. (¬2) - قال عبد الله: سمعت أبي سئل عن اللفظية فقال: هم جهمية وهو قول جهم. ثم قال: لا تجالسوهم. سئل أبي وأنا أسمع عن اللفظية والواقفة فقال: من كان منهم جاهلا فليسأل وليتعلم. سئل أبي وأنا أسمع عن اللفظية والواقفة فقال: من كان منهم يحسن الكلام فهو جهمي. وقال مرة هم شر من الجهمية وقال مرة أخرى هم جهمية. سمعت أبي يقول: من قال لفظي بالقرآن مخلوق هذا كلام سوء رديء وهو كلام الجهمية. قلت له إن الكرابيسي يقول هذا. قال كذب هتكه الله الخبيث، وقال: قد خلف هذا بشرا المريسي وكان أبي يكره أن يتكلم في اللفظ بشيء أو يقال مخلوق أو غير مخلوق. (¬3) - وجاء في أصول الاعتقاد: عن محمد بن جرير الطبري قال: وأما ¬

(¬1) الفتاوى (12/ 238). (¬2) السنة لعبد الله بن أحمد (35) والإبانة (1/ 12/342 - 343/ 149). (¬3) السنة لعبد الله بن أحمد (ص.36) والإبانة (1/ 12/342/ 147).

القول في ألفاظ العباد بالقرآن فلا أثر فيه نعلمه عن صحابي مضى، ولا عن تابعي قفا، إلا عن من في قوله الشفا والغناء، وفي اتباعه الرشد والهدى، ومن يقوم لدينا مقام الأئمة الأولى: أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل فإن أبا إسماعيل الترمذي حدثني قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل يقول: اللفظية جهمية قال الله تعالى: {حَتَّى يسمع كَلَامَ اللَّهِ} (¬1) ممن يسمع؟ قال ابن جرير: وسمعت جماعة من أصحابنا لا أحفظ أسماءهم يحكون عنه أنه كان يقول: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع. قال ابن جرير: ولا قول عندنا في ذلك يجوز أن نقوله غير قوله إذ لم يكن لنا إمام نأتم به سواه، وفيه الكفاية والمقنع وهو الإمام المتبع. (¬2) - وفي السنة للخلال: عن أحمد بن حسين بن حسان أن أبا عبد الله سأله الطالقاني عن اللفظية، فقال أحمد: لا يجالسون ولا يكلمون. (¬3) وجاء في السير قال صالح بن أحمد: تناهى إلى أبي أن أبا طالب يحكي أنه يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق. فأخبرت بذلك أبي، فقال: من حدثك؟ قلت: فلان، قال: ابعث إلى أبي طالب، فوجهت إليه، فجاء، وجاء فوران، فقال له أبي: أنا قلت لك: لفظي بالقرآن غير مخلوق؟ وغضب، وجعل يرعد، فقال: قرأت عليك: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد} (¬4). فقلت لي: ليس هذا مخلوق. ¬

(¬1) التوبة الآية (6). (¬2) أصول الاعتقاد (2/ 392/602) والفتاوى (3/ 171) مختصرا والسير (11/ 288). (¬3) السنة للخلال (5/ 144). (¬4) الإخلاص الآية (1).

قال: فلم حكيت عني أني قلت: لفظي بالقرآن غير مخلوق؟ وبلغني أنك كتبت بذلك إلى قوم، فامحه، واكتب إليه أني لم أقله لك. فجعل فوران يعتذر إليه. فعاد أبو طالب، وذكر أنه حكى ذلك، وكتب إلى القوم، يقول: وهمت على أبي عبد الله. قال الذهبي: قلت: الذي استقر الحال عليه، أن أبا عبد الله كان يقول: من قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فهو مبتدع. وأنه قال: من قال لفظي بالقرآن مخلوق، فهو جهمي. فكان رحمه الله لا يقول هذا ولا هذا. وربما أوضح ذلك، فقال: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، يريد به القرآن فهو جهمي (¬1). - قال أحمد بن زنجويه: سمعت أحمد يقول: اللفظية شر من الجهمية. وقال صالح: سمعت أبي يقول: الجهمية ثلاث فرق: فرقة قالت: القرآن مخلوق، وفرقة قالوا: كلام الله وسكتوا، وفرقة قالوا: لفظنا به مخلوق. ثم قال أبي لا يصلى خلف واقفي، ولا لفظي. وقال الذهبي: لأبي عبد الله في مسألة اللفظ نقول عدة، فأول من أظهر مسألة اللفظ حسين بن علي الكرابيسي، وكان من أوعية العلم. ووضع كتابا في المدلسين، يحط على جماعة فيه أن ابن الزبير من الخوارج. وفيه أحاديث يقوي به الرافضة. فأعلم أحمد، فحذر منه، فبلغ الكرابيسي، فتنمر، وقال: لأقولن مقالة حتى يقول ابن حنبل بخلافها فيكفر. فقال: لفظي بالقرآن ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (11/ 288).

مخلوق. فقال المروذي في كتاب 'القصص': فذكرت ذلك لأبي عبد الله أن الكرابيسي، قال: لفظي بالقرآن مخلوق، وأنه قال: أقول: إن القرآن كلام الله غير مخلوق من كل الجهات، إلا أن لفظي به مخلوق. ومن لم يقل: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو كافر. فقال أبو عبد الله: بل هو الكافر، قاتله الله، وأي شيء قالت الجهمية إلا هذا؟ وما ينفعه وقد نقض كلامه الأخير كلامه الأول؟ ثم قال: إيش خبر أبي ثور، أوافقه على هذا؟ قلت: قد هجره. قال: أحسن، لن يفلح أصحاب الكلام. (¬1) - وفيها: وقال أبو بكر المروذي في كتاب 'القصص': ورد علينا كتاب من دمشق: سل لنا أبا عبد الله، فإن هشاما، قال: لفظ جبريل عليه السلام، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن مخلوق. فسألت أبا عبد الله، فقال: أعرفه طَيَّاشًا، لم يجتر الكرابيسي أن يذكر جبريل ولا محمدا. هذا قد تجهم في كلام غير هذا. (¬2) - وجاء في الإبانة عن أبي الحارث، قال: ذهبت أنا وأبو موسى إلى أبي عبد الله، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الله هذا الأمر الذي قد أحدثوه تشمئز منه القلوب، والناس يسألوننا عنه، يقولون: لفظنا بالقرآن مخلوق؟ قال أبو عبد الله بالانتهار منه: هذا كلام سوء رديء خبيث، لا خير فيه. قال له أبو موسى: أليس تقول: القرآن كلام الله ليس مخلوقا على كل حال وبجميع الجهات والمعاني؟ قال: نعم، وكلما تشعب من هذا، فهو رديء خبيث. (¬3) ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (11/ 288 - 289) وطبقات الحنابلة (1/ 62) مختصراً. (¬2) سير أعلام النبلاء (11/ 432). (¬3) الإبانة (1/ 12/334 - 335/ 139).

- وفيها عن أبي طالب، قال: قلت: يا أبا عبد الله إني قد احتججت عليهم بالقرآن والحديث وأحب أن أعرضه عليك، قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (¬1)، أليس من محمد يسمع كلام الله؟ قال الله عز وجل: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (¬3) وقال: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ} (¬4) وقال: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} (¬5) وقال: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} (¬6) وقال: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهتدى} (¬7) أليس يتلو القرآن؟ وقال عز وجل: {فَاقْرَءُوا مَا تيسر مِنَ الْقُرْآَنِ} (¬8)، فعلى كل حال، فهو قرآن، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ¬

(¬1) التوبة الآية (6). (¬2) البقرة الآية (75). (¬3) النحل الآية (98). (¬4) الإسراء الآية (45). (¬5) الأعراف الآية (204). (¬6) الكهف الآية (27). (¬7) النمل الآية (92). (¬8) المزمل الآية (20).

جابر: "إن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي" (¬1) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاوية بن الحكم: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إلا القرآن" (¬2) فالقرآن غير كلام الناس. وقال أبو بكر رضي الله عنه: لا والله ولكنه كلام الله. فقال لي: ما أحسن ما احتججت به، جبريل جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمخلوق، والنبي - صلى الله عليه وسلم - جاء إلى الناس بمخلوق. (¬3) - ونقل الإمام ابن بطة بسنده إلى أبي إسحاق الهاشمي قال: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل، فقلت: إذا قالوا لنا: القرآن بألفاظنا مخلوق، نقول لهم: ليس هو بمخلوق بألفاظنا أو نسكت؟ فقال: اسمع ما أقول لك: القرآن في جميع الوجوه ليس بمخلوق. ثم قال أبو عبد الله: جبريل حين قاله للنبي - صلى الله عليه وسلم - كان منه مخلوقا؟ والنبي حين قاله كان منه مخلوقا؟ هذا من أخبث قول وأشره. ثم قال أبو عبد الله: بلغني عن جهم أنه قال بهذا في بدء أمره. (¬4) - وجاء في الإبانة عن أبي طالب عن أبي عبد الله، قال: قلت له: كتب إلي من طرسوس أن الشراك يزعم أن القرآن كلام الله، فإذا تلوته فتلاوته مخلوقة. قال: قاتله الله، هذا كلام جهم بعينه. قلت: رجل قال في القرآن: ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (3/ 322) وأبو داود (5/ 103/4734) والترمذي (5/ 168/2925) والنسائي في الكبرى (4/ 411/7727) وابن ماجه (1/ 73/201). وصححه ابن حبان (14/ 172 - 174/ 6274) الإحسان، كلهم من حديث جابر .. (¬2) أخرجه: أحمد (5/ 447،448) ومسلم (1/ 381 - 382/ 537) وأبو داود (1/ 570 - 573/ 930) والنسائي (3/ 19 - 22/ 1217). (¬3) الإبانة (1/ 12/335 - 337/ 141). (¬4) الإبانة (1/ 12/337 - 338/ 142).

كلام الله ليس بمخلوق ولكن لفظي هذا به مخلوق؟ قال: هذا كلام سوء، من قال هذا فقد جاء بالأمر كله. قلت: الحجة فيه حديث أبي بكر لما قرأ: {الم (1) غُلِبَتِ الروم} (2) (¬1) فقالوا: هذا جاء به صاحبك؟ قال: لا، ولكنه كلام الله، قال: نعم، هذا وغيره إنما هو كلام الله، إن لم يرجع عن هذا، فاجتنبه ولا تكلمه، هذا مثل ما قال الشراك. قلت: كذا بلغني، قال: أخزاه الله، تدري من كان خاله؟ قلت: لا. قال: كان خاله عبدك الصوفي، وكان صاحب كلام ورأي سوء، وكل من كان صاحب كلام، فليس ينزع إلى خير واستعظم ذلك واسترجع وقال: إلى ما صار أمر الناس؟. (¬2) - وفيها: قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: إن رجلا من أصحابنا زوج أخته من رجل، فإذا هو من هؤلاء اللفظية، يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، وقد كتب الحديث، فقال أبو عبد الله: هذا شر من جهمي. قلت: فتفرق بينهما؟ قال: نعم. قلت: فإن أخاه يفرق بينهما؟ قال: قد أحسن. وقال: أظهروا الجهمية، هذا كلام ينقض آخره أوله. (¬3) - وفيها: عن أبي طالب عن أبي عبد الله قال: سأله يعقوب بن الدورقي عن من قال: لفظنا بالقرآن مخلوق، كيف تقول في هذا؟ قال: لا يكلم هؤلاء ولا يكلم هذا، القرآن كلام الله غير مخلوق على كل جهة، وعلى كل وجه ¬

(¬1) الروم الآيتان (1و2). (¬2) الإبانة (1/ 12/338 - 339/ 143). (¬3) الإبانة (1/ 12/344/ 151).

تصرف، وعلى أي حال كان. قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (¬1) وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يصلح في الصلاة شيء من كلام الناس" (¬2) وقال - صلى الله عليه وسلم -: "حتى أبلغ كلام ربي" (¬3) هذا قول جهم، على من جاء بهذا غضب الله. (¬4) - وفيها أيضا: عن أبي الحسن علي بن مسلم قال: القرآن كلام الله غير مخلوق، هذا قول أبي عبد الله، فبه نقتدي إذ كنا لم ندرك في عصره أحدا تقدمه في العلم والمعرفة والديانة، وكان مقدما عند من أدركنا من علمائنا، فما علمت أن أحدا بلي بمثل ما بلي به فصبر، فهو قدوة وحجة لأهل هذا العصر، ولمن يجيء بعدهم، فنحن متبعون لمقالته وموافقون له، فمن قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فقد أبدع، وليس هو من كلام العلماء، وهذا مما أحدثه أصحاب الكلام المبتدعة وقد صح عندنا أن أبا عبد الله أنكر على من قال ذلك، وغضب منه الغضب الشديد، وقال: ما سمعت عالما قال هذا، فمن خالف أبا عبد الله فيما نهى عنه فنحن غير موافقين له منكرون عليه، وقد أدركنا من علمائنا مثل عبد الله بن المبارك، وهشيم بن بشير، وإسماعيل بن علية، وسفيان بن عيينة، وعباد بن عباد، وعباد بن العوام، وأبي بكر بن عياش، وعبد الله بن إدريس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ويحيى بن زائدة، ويوسف ¬

(¬1) التوبة الآية (6). (¬2) تقدم قريباً. (¬3) تقدم قريباً. (¬4) الإبانة (1/ 12/344 - 345/ 152) ونحوه في السنة (35).

ابن يعقوب بن الماجشون، ووكيع، ويزيد بن هارون وأبي أسامة، وقد أدركوا هؤلاء كلهم التابعين، وسمعوا عنهم ورووا عنهم، ما منهم أحد قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فنحن لهم متبعون، ولما أحدث بعدهم مخالفون. (¬1) - وجاء في طبقات الحنابلة: حدثنا أبو جعفر محمد بن الحسن بن هارون بن بدينا قال: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه، فقلت له: يا أبا عبد الله، أنا رجل من أهل الموصل، والغالب على أهل بلدنا الجهمية، ومنهم أهل سنة، نفر يسير يحبونك، وقد وقعت مسألة الكرابيسي، ففتنهم قول الكرابيسي: لفظي بالقرآن مخلوق، فقال لي أبو عبد الله: إياك وإياك وهذا الكرابيسي، لا تكلمه ولا تكلم من يكلمه، أربع مرار أو خمسا إلا أن في كتابي أربعا، فقلت يا أبا عبد الله فهذا القول عندك، وما شاعت منه يرجع إلى قول جهم قال: هذا كله من قول جهم. (¬2) " التعليق: انظر كيف طغت الجهمية وبدعتها على أهل الموصل، حتى لم يبق منهم إلا نفر يسير من أهل السنة، يحبون الإمام أحمد رضي الله عنه. وانظر كذلك شدة بغض الإمام للمبتدعة حيث كرر مقاطعة الكرابيسي أربع مرات. وقد أصبح العالم الإسلامي منذ قرون بعيدة إلى الآن موصلا، وأهل السنة لا يكادون يذكرون. - وجاء في الإبانة: عن أبي طالب أحمد بن حميد، قال: قلت لأبي ¬

(¬1) الإبانة (1/ 12/347 - 350/ 157). (¬2) طبقات الحنابلة (1/ 288) والإبانة (1/ 12/329 - 330/ 129).

عبد الله: أخبرني ساكني أن رجلا بالرميلة كان يقول بقول الكرابيسي: لفظه بالقرآن مخلوق، ومنعوه يصلي بهم، فجاء فسألك عن الرجل يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، يصلى خلفه؟ فقلت له: لا، فرجع إليهم فأخبرهم بقولك، وقال: إني تائب وأستغفر الله مما قلت. فقالوا له: صل بنا فصلى بهم، قال: هو كان نفسه سألني رجل طويل اللحية بعدما صليت الظهر، فقلت له: لم تكلمون فيما قد نهيتم عنه، لا يصلى خلفه ولا يجالس. (¬1) - وفيها: عن أبي داود، قال: كتبت رقعة فأرسلت بها إلى أبي عبد الله وهو يومئذ متوار، فأخرج إلي جوابه مكتوبا فيه: قلت: رجل يقول: التلاوة مخلوقة وألفاظنا بالقرآن مخلوقة، والقرآن ليس بمخلوق، وما ترى في مجانبته؟ وهل يسمى مبتدعا؟ وعلى ما يكون عقد القلب في التلاوة والألفاظ؟ وكيف الجواب فيه؟ قال: هذا يجانب، وهو قول المبتدع وما أراه إلا جهميا، وهذا كلام الجهمية، القرآن ليس بمخلوق. قالت عائشة: تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} (¬2) .. الآية، قالت: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فاحذروهم، فإنهم هم الذين عنى الله عز وجل" (¬3)، فالقرآن ليس بمخلوق. (¬4) ¬

(¬1) الإبانة (1/ 12/335/ 140). (¬2) آل عمران الآية (7). (¬3) أخرجه: أحمد (6/ 256) والبخاري (8/ 265/4547) ومسلم (4/ 2053/2665) وأبو داود (5/ 6/4598) والترمذي (5/ 207/2993) وابن ماجه (1/ 18 - 19/ 47). (¬4) الإبانة (1/ 12/330 - 331/ 130).

- جاء في جامع بيان العلم وفضله عنه قال: لا يفلح صاحب كلام أبدا، ولا تكاد ترى أحدا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل. (¬1) - وفي الإبانة: بالسند إلى أبي بكر المروذي: سمعت أبا عبد الله رحمه الله يقول: من تعاطى الكلام لم يفلح، ومن تعاطى الكلام لا يخلو من أن يتجهم. (¬2) - وفي تلبيس إبليس: قال السلمي: وتكلم الحارث المحاسبي في شيء من الكلام والصفات، فهجره أحمد بن حنبل، فاختفى إلى أن مات. (¬3) - وجاء في تلبيس إبليس: قال المصنف: وقد ذكر أبو بكر الخلال في كتاب السنة عن أحمد بن حنبل أنه قال: حذروا من الحارث أشد التحذير، الحارث أصل البلية -يعني في حوادث كلام جهم- ذاك جالسه فلان وفلان وأخرجهم إلى رأي جهم، ما زال مأوى أصحاب الكلام حارث بمنزلة الأسد المرابط، انظر أي يوم يثب على الناس. وفي طبقات الحنابلة زيادة: قال المروذي: إن قوما يختلفون إليه؟ قال: نتقدم إليهم لعلهم لايعرفون بدعته. فإن قبلوا وإلا هجروا. ليس للحارث توبة، يشهد عليه ويجحد. إنما التوبة لمن اعترف. (¬4) " التعليق: انظر رحمك الله هذا التعبير البليغ الجامع المانع، وهذه الفراسة القوية، ¬

(¬1) جامع بيان العلم (2/ 942) وفي التلبيس (102) ومجموع الفتاوى (6/ 243) بنحوه ودرء التعارض (1/ 232). (¬2) الإبانة (2/ 3/538 - 539/ 674) وطبقات الحنابلة (1/ 62) والسير (11/ 216) والاعتصام (2/ 846) وإعلام الموقعين (1/ 76). (¬3) التلبيس (207). (¬4) التلبيس (207) وطبقات الحنابلة (1/ 62 - 63).

وكيف لا وقد جمع الله له من السنة ما لم يجمع لغيره في زمنه وبعده. فلا أدري ماذا يقول محبو الحارث الآن في مثل هذه العبارة، هل سيرفضونها أم يقولون: إن الحارث بن أسد تراجع، ونرجو الله له ولغيره ذلك. والمهم عندنا، أن السلف حذروا من جميع البدع، سواء كانت صوفية أو كلامية أو قدرية أو أشعرية أو إرجائية فجزاهم الله خيرا. - جاء في المنهاج قال أحمد بن حنبل: علماء الكلام زنادقة. (¬1) - وجاء في الإبانة: عن أحمد بن حنبل قال: عليكم بالسنة والحديث وما ينفعكم الله به، وإياكم والخوض والجدال والمراء فإنه لا يفلح من أحب الكلام، وكل من أحدث كلاما لم يكن آخر أمره إلا إلى بدعة لأن الكلام لا يدعو إلى خير ولا أحب الكلام ولا الخوض ولا الجدال، وعليكم بالسنن والآثار والفقه الذي تنتفعون به ودعوا الجدال وكلام أهل الزيغ والمراء، أدركنا الناس ولا يعرفون هذا ويجانبون أهل الكلام، وعاقبة الكلام لا تؤول إلى خير أعاذنا الله وإياكم من الفتن وسلمنا وإياكم من كل هلكة. (¬2) - وفيها: قال أبو الحارث: وسمعت أبا عبد الله يقول: إذا رأيت الرجل يحب الكلام فاحذره، وأخبرت عن أبي عمران الأصبهاني، قال: سمعت أحمد ابن حنبل يقول: لا تجالس صاحب كلام وإن ذب عن السنة فإنه لا يؤول ¬

(¬1) المنهاج (2/ 139). (¬2) الإبانة (2/ 3/539/ 676) ونحوه في السير (11/ 291).

موقفه من الخوارج:

أمره إلى خير. (¬1) - وفيها أيضا: عن أبي طالب -أحمد بن حميد- عن أبي عبد الله قلت: قد جاءت جهمية رابعة، قال: ما هي؟، قلت: زعموا أن إنسانا أنت تعرفه، قال: من زعم أن القرآن في صدره، فقد زعم أن في صدره من الإلهية شيئا، قال: ومن قال هذا، فقد قال مثل ما قالت النصارى في عيسى أن كلمة الله فيه. فقال: ما سمعت بمثل هذا قط. قلت: هذه الجهمية. قال: أكثر من الجهمية. من قال هذا؟، قلت: إنسان. قال: لا تكتم علي مثل هذا. قلت: موسى بن عقبة، وأقرأته الكتاب فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. فقال: ليس هذا صاحب حديث، وإنما هو صاحب كلام، لا يفلح صاحب كلام، واستعظم ذلك وقال: هذا أكثر من الجهمية، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ينزع القرآن من صدوركم" (¬2) وقال: في صدورنا وأبنائنا. هذا أكثر من الجهمية. ثم قلت: إنه قد أقر بما كتب به وقال: أستغفر الله، فقال: لا يقبل منه ولا كرامة، يجحد ويحلف ثم يقر، ليته بعد كذا وكذا سنة إذا عرف من الله التوبة يقبل منه، لا يكلم ويجفى، ومن كلمه وقد علم، فلا يكلم. (¬3) موقفه من الخوارج: - جاء في السنة للخلال عن يوسف بن موسى: أن أبا عبد الله قيل له: ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/540/ 679). (¬2) أخرجه: ابن ماجه (2/ 1344/4049) قال في الزوائد: "إسناده صحيح، رجاله ثقات". وأخرجه الحاكم (4/ 473) وقال: "حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". وسكت عنه الذهبي من حديث حذيفة بلفظ: " .. وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة، فلا يبقى منه في الأرض آية". (¬3) الإبانة (1/ 12/355 - 356/ 164).

صلاة الجمعة والعيدين جائزة خلف الأئمة البر والفاجر ما داموا يقيمونها؟ قال: نعم. (¬1) - وفيها عنه قال: الخوارج قوم سوء، لا أعلم في الأرض قوما شرا منهم وقال: صح الحديث فيهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن عشرة وجوه. (¬2) - وفيها عنه أنه قيل له: أكفر الخوارج؟ قال: هم مارقة. قيل: أكفار هم؟ قال: هم مارقة مرقوا من الدين. (¬3) - وفيها عنه أنه سئل عن الحرورية والمارقة: يكفرون؟ قال: اعفني من هذا، وقل كما جاء فيهم الحديث. (¬4) - وفيها عن الأثرم قال: ذكر لأبي عبد الله هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون، فرأوا أن يهدر كل دم أصيب على تأويل القرآن؟ قيل له: مثل الحرورية؟ قال: نعم، قال أبو عبد الله: فأما قاطع طريق فلا. (¬5) - وفيها: عن حرب بن إسماعيل الكرماني قال: قلت لأحمد بن حنبل: الرجل يبيع غلامه من الخوارج؟ قال: لا، قلت، فيبيع منهم الطعام والثياب؟ قال: لا، قلت: فإن أكرهوه؟ فكره ذلك كله، قلت فيشتري منهم؟ قال: لا يشتري ولا يبيع. (¬6) ¬

(¬1) السنة للخلال (1/ 77) والطبقات (1/ 421) بنحوه. (¬2) السنة للخلال (1/ 145). (¬3) السنة للخلال (1/ 145). (¬4) السنة للخلال (1/ 146). (¬5) السنة للخلال (1/ 152). (¬6) السنة للخلال1/ 155).

موقفه من المرجئة:

- وفيها: عن الحسن بن محمد بن الحارث السجستاني أنه سأل أبا عبد الله عن أمر الخوارج عندنا قال: قلت: إنا في المدينة نظهر خلافهم ونصلي في جماعة ونجمع، غير أنهم إن كتبوا إلى الوالي بأمر لم يجد الوالي بدا من أن ينفذه، فقال: يظهرون مخالفتهم؟ قلت: نعم، قال: أكره مجاورتهم، قلت: إذا كانت معيشته فيها؟ يعني في البلد الذي هم فيه، قال: أرجو أن لا يكون به بأس، وإن وجدت محيصا فتخلص. (¬1) - وفيها عن أحمد بن الحسين: أن أبا عبد الله سئل عن الخوارج؟ فقال: لا تكلمهم ولا تصل عليهم. (¬2) - وقال حنبل: اجتمع فقهاء بغداد إلى أبي عبد الله في ولاية الواثق. وشاوروه في ترك الرضا بإمرته وسلطانه. فقال لهم: عليكم بالنكرة في قلوبكم. ولا تخلعوا يدا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين، وذكر الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "إن ضربك فاصبر" (¬3) أمر بالصبر. (¬4) موقفه من المرجئة: - عن أبي بكر المروذي أن أبا عبد الله قيل له: من المرجئي؟ قال: المرجئي الذي يقول الإيمان قول. (¬5) ¬

(¬1) السنة للخلال (1/ 156 - 157). (¬2) السنة للخلال (1/ 157). (¬3) مسلم (3/ 1476/1847 (52)) من حديث حذيفة. (¬4) طبقات الحنابلة (1/ 144 - 145). (¬5) السنة للخلال (3/ 565/960).

- عن أبي داود السجستاني، قال: سمعت أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. قال أحمد: وبلغني أن مالك بن أنس وابن جريج وفضيل بن عياض قالوا: الإيمان قول وعمل. (¬1) - وعن المروذي: سمعت أبا عبد الله سئل عن الإيمان، فقال: قول وعمل يزيد وينقص. قال الله عز وجل: {وأقيموا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزكاة} (¬2) وقال: قال الله عز وجل: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزكاة فَإِخْوَانُكُمْ في الدين} (¬3) ثم قال: هذا من الإيمان، وسمعته يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وقال: الزيادة من العمل وذكر النقصان إذا زنا وسرق. (¬4) - عن الفضل بن زياد، قال: سمعت أبا عبد الله يقول غير مرة: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. قال الفضل: وسمعت أبا عبد الله يقول: إنما الزيادة والنقصان في العمل، كيف تكون حاله إذا قتل النفس، أليس قد أوجب له النار؟ كيف حاله إذا ارتكب الموبقات؟. (¬5) - وعنه أيضا قال: سمعت أبا عبد الله يقول: إذا قال إني مؤمن إن شاء الله، ليس هو بشاك. قيل له: إن شاء الله، ليس هو شكا. قال معاذ الله أليس ¬

(¬1) الإبانة (2/ 813/1115) والشريعة (1/ 289/285). (¬2) البقرة الآية (43). (¬3) التوبة الآية (11). (¬4) الإبانة (2/ 851/1145) والسنة للخلال (3/ 589/1035). (¬5) الإبانة (2/ 851/1146).

قد قال الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} (¬1) وفي علمه أنهم يدخلون، وصاحب القبر إذا قال عليه أبعث إن شاء الله، فأي شك ها هنا. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون". (¬2) - وعن أبي بكر أحمد بن محمد بن هانىء الأثرم، قال: سمعت أبا عبد الله، سئل عن الاستثناء إذا كان يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، فاستثنى مخافة واحتياطا ليس كما يقولون على الشك إنما يستثني للعمل. (¬3) - وعن محمد بن داود في مسائل المروذي، قال: فقيل لأبي عبد الله: إن استثنيت في إيماني، أكن شاكا، قال: لا، ثم قال لأبي عبد الله: الحجاج بن يوسف يكون إيمانه مثل إيمان أبي بكر؟ قال: لا، قال: فيكون إيمانه مثل إيمان النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لا، قال: فالمرجئة يقولون الإيمان قول. (¬4) - قال حنبل: حدثنا الحميدي قال: وأخبرت أن ناسا يقولون: من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئا حتى يموت، ويصلي مستدبر القبلة حتى يموت؛ فهو مؤمن ما لم يكن جاحدا، إذا علم أن تركه ذلك فيه إيمانه إذا كان مقرا بالفرائض واستقبال القبلة، فقلت: هذا الكفر الصراح، وخلاف كتاب الله وسنة رسوله وعلماء المسلمين. قال الله تعالى: ¬

(¬1) الفتح الآية (27). (¬2) الإبانة (2/ 874/1195). (¬3) الإبانة (2/ 875/1199). (¬4) الإبانة (2/ 7/905/ 1271).

{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬1) الآية. وقال حنبل: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: من قال هذا فقد كفر بالله ورد على أمره وعلى الرسول ما جاء به عن الله. (¬2) - وقال أحمد: وأما من زعم أن الإيمان الإقرار، فما يقول في المعرفة؟ هل يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار؟ وهل يحتاج أن يكون مصدقا بما عرف؟ فإن زعم أنه يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار فقد زعم أنه من شيئين، وإن زعم أنه يحتاج أن يكون مقرا ومصدقا بما عرف فهو من ثلاثة أشياء؛ وإن جحد وقال: لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق، فقد قال قولا عظيما، ولا أحسب أحدا يدفع المعرفة والتصديق وكذلك العمل مع هذه الأشياء. (¬3) - ودخل عليه شيخ فسأله عن الإيمان، فقال له: قول وعمل، يزيد وينقص. فقال له: أقول: مؤمن إن شاء الله؟ قال: نعم. فقال له: إنهم يقولون لي أنك شاك؛ قال: بئس ما قالوا، ثم خرج فقال: ردوه فقال: أليس يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص؟ قال: نعم، قال: هؤلاء يستثنون. قال له: كيف يا أبا عبد الله؟ قال: قل لهم: زعمتم أن الإيمان قول وعمل، فالقول قد أتيتم به، والعمل لم تأتوا به، فهذا الاستثناء لهذا العمل، قيل له: يستثني في الإيمان؟ قال: نعم، أقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أستثني على اليقين لا على ¬

(¬1) البينة الآية (5). (¬2) أصول الاعتقاد (5/ 957/1594 - 1595) والسنة للخلال (3/ 586 - 587/ 1027) وانظر مجموع الفتاوى (7/ 209). (¬3) مجموع الفتاوى (7/ 393).

الشك؛ ثم قال: قال الله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} (¬1) فقد أخبر الله تعالى أنهم داخلون المسجد الحرام. (¬2) - وجاء في السير: قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل، يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، البر كله من الإيمان، والمعاصي تنقص الإيمان. (¬3) - وقال حنبل سمعت أبا عبد الله أحمد سئل عن الإيمان فقال: قول وعمل ونية. قيل له: فإذا قال الرجل مؤمن أنت؟ قال: هذا بدعة. قيل له: فما يرد عليه؟ قال: يقول: مؤمن إن شاء الله، إلا أن يستثني في هذا الموضع. ثم قال أبو عبد الله: والإيمان يزيد وينقص، فزيادته بالعمل ونقصانه بترك العمل. قال الله عز وجل: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} (¬4) فهو يزيد وينقص. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل القبور لما أشرف عليهم: "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" (¬5)، فاستثنى، وقد علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ميت فاستثناه. (¬6) - وفي السنة لعبد الله قال: سمعت أبي سئل عن الإرجاء فقال: نحن نقول الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، إذا زنا وشرب الخمر نقص إيمانه. ¬

(¬1) الفتح الآية (27). (¬2) السنة للخلال (3/ 596) وأورده شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (7/ 451 - 452). (¬3) السير (11/ 287). (¬4) الفتح الآية (4). (¬5) أحمد (5/ 353، 359 - 360) ومسلم (2/ 671/975) والنسائي (4/ 399/2039) وابن ماجه (1/ 494/1547) من حديث بريدة. (¬6) أصول الاعتقاد (5/ 1057/1798).

سألت أبي عن رجل يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ولكن لا يستثني. أمرجئ؟ قال أرجو أن لا يكون مرجئا سمعت أبي يقول: الحجة على من لا يستثني قول رسول الله لأهل القبور: "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" (¬1). (¬2) - وفي السنة للخلال: عن المروذي قال: قال لي أبو عبد الله في ابن أبي رزمة المروذي: بلغني أنهم سألوه بمكة عن الإيمان؟ فأبى أن يقول: الإيمان قول وعمل، ولو علمت هذا عنه، ما أذنت له بالدخول علي. وقال لي بعد يومين أو ثلاثة: أي شيء حال ابن أبي رزمة؟ قلت: ليس عندي من خبره شيء، قلت لي: لا أحب أن يذهب إليه أحد من ناحيتي، فلم أذهب إليه، فلما كان بعد، وصلينا عشاء الآخرة، قال: اذهب إليه، فإنه قد كان بيننا وبينه حرمة فقيل له: إن ابن المبارك كان يقول: الإيمان يتفاضل، فذهبت إليه، فقال: قد قلت لهم: إذا قدمت العراق، لقيت أبا عبد الله، فما أمرني من شيء، صرت إليه. ثم جاء، فقال لأبي عبد الله: أعطني حجة إذا قدمت على أهل مرو، أخبرتهم. فعلم أبو عبد الله على هذه الأحاديث، وقال لي: ادفعها إليه. (¬3) - وعن عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي هذا الحديث؛ قال: ولكن المرجئة يكذبون الله عز وجل. (¬4) - وعن حرب بن إسماعيل قال: سمعت أحمد يقول: لا يصلى خلف من ¬

(¬1) تقدم تخريجه. (¬2) السنة لعبد الله بن أحمد (81 - 82). (¬3) السنة للخلال (4/ 33 - 34). (¬4) السنة للخلال (4/ 41).

زعم أن الإيمان قول إذا كان داعية. (¬1) - وقال الخلال: أخبرني علي بن عيسى أن حنبلا حدثهم، قال: قلت لأبي عبد الله رجل زوج ابنته رجلا، وهو لا يعلم، فإذا هو يقول بمقالة رديئة من الإرجاء. فقال: إذا كان يغلي في ذلك، ويدعو إليه، رأيت أن يخلع ابنته ولا يقيم عنده. قلت: فيحرج الأب إذا فعل ذلك؟ قال: أرجو أن لا يحرج إذا علم ذلك منه وتبين له. (¬2) - وعن إسحاق بن منصور، أنه قال لأبي عبد الله: المرجئ إذا كان داعيا، قال: إي والله، يجفى ويقصى. (¬3) - وعن سليمان بن الأشعث، قال: قلت لأبي عبد الله: لنا أقارب بخراسان يرون الإرجاء، فنكتب إلى خراسان نقرئهم السلام؟ قال: سبحان الله، لم لا تقرئهم؟ قلت لأبي عبد الله: فنكلمهم؟ قال: نعم، إلا أن يكون داعيا ويخاصم فيه. (¬4) - عن حمدان بن علي حدثهم قال: سمعت أحمد يقول: الجهمية تقول: إذا عرف ربه بقلبه وإن لم تعمل جوارحه يعني، فهو مؤمن، وهذا كفر إبليس، قد عرف ربه بقلبه، فقال: {رب بما أغويتني} (¬5). (¬6) ¬

(¬1) السنة للخلال (4/ 51). (¬2) السنة للخلال (4/ 55). (¬3) السنة للخلال (4/ 53). (¬4) السنة للخلال (4/ 54). (¬5) الحجر الآية (39). (¬6) السنة للخلال (5/ 122).

موقفه من القدرية:

موقفه من القدرية: - جاء في أصول الاعتقاد عن حنبل قال: سمعت أبا عبد الله يقول: علم الله تعالى في العباد قبل أن يخلقهم سابق، وقدرته ومشيئته في العباد. قال: قد خلق الله آدم وعلم منه قبل أن يخلقه، وكذا علمه سابق محيط بأفاعيل العباد وكل ما هم عاملون. (¬1) - وفيه عن بكر بن محمد عن أبيه عن أبي عبد الله أحمد بن حنبل قال: -وسألته عن القدري يستتاب- وقلت: إن عمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس يريان أن يستتيبوه، فإن تاب وإلا ضربت عنقه. قال أبو عبد الله: أرى أن يستتيبه إذا جحد العلم. قلت: فكيف يجحد علم الله؟ قال: إذا قال لم يكن هذا في علم الله استتبته، فإن تاب وإلا ضربت عنقه. (¬2) - وفيه عن الأثرم عن أحمد قيل له: رجل قدري أعوده؟ قال: إذا كان داعية إلى الهوى فلا. قيل له: أصلي عليه؟ فلم يجب. فقال له إبراهيم بن الحارث العبادي -وأبو عبد الله يسمع-: إذا كان صاحب بدعة فلا تسلم عليه ولا تصل خلفه ولا تصل عليه قال أبو عبد الله: كافأك الله يا أبا إسحاق وجزاك خيرا. (¬3) - وفيه عن محمد بن أحمد المروزي صاحب أحمد بن حنبل قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل في قوله عز وجل: {وإذ أخذنا من النبيين ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 775/1299). (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 785/1319) وبنحوه في السنة للخلال (532 - 533) وطبقات الحنابلة (1/ 223). (¬3) أصول الاعتقاد (4/ 809/1359) والسنة للخلال (561 - 562).

ميثاقهم} (¬1) هو حجة على القدرية قال: {ومنك ومن نوحٍ} قدمه على نوح، هذه حجة عليهم. (¬2) - وجاء في مجموع الفتاوى: قال الخلال: أنبأنا الميموني قال سمعت أبا عبد الله -يعني أحمد بن حنبل- يناظر خالد بن خداش يعني في القدر- فذكروا رجلا فقال أبو عبد الله: إنما أكره من هذا أن يقول أجبر الله. وقال أنبأنا المروذي قلت لأبي عبد الله: رجل يقول إن الله أجبر العباد، فقال: هكذا لا تقل. وأنكر هذا، وقال: يضل من يشاء ويهدي من يشاء. وقال أنبأنا المروذي قال: كتب إلى عبد الوهاب في أمر حسن بن خلف العكبري، وقال: إنه تنزه عن ميراث أبيه، فقال رجل قدري: إن الله لم يجبر العباد على المعاصي، فرد عليه أحمد بن رجاء فقال: إن الله جبر العباد على ما أراد، أراد بذلك إثبات القدر، فوضع أحمد بن علي كتابا: يحتج فيه، فأدخلته على أبي عبد الله، فأخبرته بالقصة فقال: ويضع كتابا وأنكر عليهما جميعا: على ابن رجاء حين قال جبر العباد، وعلى القدري الذي قال لم يجبر، وأنكر على أحمد بن علي في وضعه الكتاب واحتجاجه، وأمر بهجرانه لوضعه الكتاب، وقال لي: يجب على ابن رجاء أن يستغفر ربه لما قال جبر العباد. فقلت لأبي عبد الله فما الجواب في هذه المسئلة؟ قال: يضل الله من يشاء، ويهدي من يشاء. قال المروذي في هذه المسئلة إنه سمع أبا عبد الله لما أنكر على الذي ¬

(¬1) الأحزاب الآية (7). (¬2) أصول الاعتقاد (3/ 627/1009) والسنة للخلال (554).

قال لم يجبر، وعلى من رد عليه جبر، فقال أبو عبد الله: كلما ابتدع رجل بدعة اتسعوا في جوابها، وقال: يستغفر ربه الذي رد عليهم بمحدثة، وأنكر على من رد بشيء من جنس الكلام إذا لم يكن له فيها إمام مقدم. قال المروذي فما كان بأسرع من أن قدم أحمد بن علي من عكبر ومعه مشيخة، وكتاب من أهل عكبر، فأدخلت أحمد بن علي على أبي عبد الله: فقال: يا أبا عبد الله هو ذا الكتاب ادفعه إلى أبي بكر حتى يقطعه، وأنا أقوم على منبر عكبر وأستغفر الله عز وجل. فقال أبو عبد الله لي: ينبغي أن تقبلوا منه فرجعوا إليه. (¬1) - وجاء في السنة للخلال: عن عصمة بن عصام قال: حدثنا حنبل قال: سألت أبا عبد الله قلت: أفاعيل العباد مخلوقة؟ قال: نعم مقدرة عليهم بالشقاء والسعادة، قلت له: الشقاء والسعادة مكتوبان على العبد؟ قال: نعم، سابق في علم الله. وهما في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقه والشقاء والسعادة من الله عز وجل، قال عبد الله: الشقي من شقي في بطن أمه. وقال في موضع آخر الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد بغيره، قال: وكتب الله عز وجل على آدم أنه يصيب الخطيئة قبل أن يخلقه، قلت: فأمر الله عز وجل العباد بالطاعة؟ قال: نعم وكتب عليهم المعصية لإثبات الحجة عليهم ويعذب الله العباد وهو غير ظالم لهم. وقال: قال ليس شيء أشد على القدرية من ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (3/ 325 - 326) ودرء التعارض (1/ 70 - 71).

قول الله عز وجل: {وَمَا ننزله إلا بقدرٍ مَعْلُومٍ} (¬1) وقوله: {إنا كل شيءٍ خلقناه بقدر} (¬2) وفي القرآن في غير موضع إثبات القدر لمن تفهمه وتدبره. (¬3) - وفيها عن جعفر بن محمد النسائي قال: سمعت أبا عبد الله وذكر عنده أن رجلا محدثا قال: ما شاء الله يفعل وما لم يشأ لم يفعل، فقال رجل عنده: ما شاء الله أو لا يشأ الله يفعل، فاستعظم ذاك قلت: يستتاب؟ قال: إيش يستتاب قال: هذا كفر. (¬4) - جاء في السنة لعبد الله: قال عبد الله سمعت أبي رحمه الله يقول: لا تصل خلف القدرية والمعتزلة والجهمية. (¬5) - وقال: سألت أبي مرة أخرى عن الصلاة خلف القدري فقال: إن كان يخاصم فيه ويدعو إليه فلا يصلى خلفه. (¬6) - وجاء في الكفاية: قيل لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله سمعت من أبي قطن القدري؟ قال لم أره داعية، ولو كان داعية لم أسمع منه. (¬7) ¬

(¬1) الحجر الآية (21). (¬2) القمر الآية (49). (¬3) السنة للخلال (536). (¬4) السنة للخلال (558). (¬5) السنة (119) وبنحوه في أصول الاعتقاد (4/ 808/1354). (¬6) السنة (119). (¬7) الكفاية (128).

أبو توبة الحلبي (241 هـ)

أبو تَوْبَة الحلبي (¬1) (241 هـ) الإمام الثقة الحافظ، بقية المشايخ، أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي، نزيل طرسوس (من بلاد الأرمن). مولده في حدود الخمسين ومائة. سمع من معاوية بن سلام، ومحمد بن مهاجر والهيثم بن حميد ويحيى بن حمزة القاضي وشريك القاضي وإسماعيل بن عياش وغيرهم. حدث عنه أبو محمد الدارمي، وأبو حاتم وأبو داود في سننه ويزيد بن جهور الطرسوسي وإبراهيم بن سعيد الجوهري وغيرهم. قال أبو حاتم: ثقة حجة. قال أبو داود: قدم أبو توبة الكوفة ولم يرتحل إلى البصرة وكان يحفظ الطوال يجيء بها ورأيته يمشي حافيا وعلى رأسه الطويلة. توفي سنة إحدى وأربعين ومائتين. موقفه من الجهمية: - جاء في السنة: قال عبد الله حدثني محمد بن هارون الحربي سمعت أبا توبة الحلبي يكفر من قال القرآن مخلوق. (¬2) الحسن بن حَمَّاد -سجادة- (¬3) (241 هـ) الإمام القدوة المحدث الأثري، أبو علي الحسن بن حماد بن كسيب الحضرمي، البغدادي، المعروف بسجادة. حدث عن أبي بكر بن عياش، ¬

(¬1) الجرح والتعديل (3/ 470 - 471) وتهذيب الكمال (9/ 103 - 106) وتهذيب التهذيب (3/ 251 - 252) والسير (10/ 653 - 655). (¬2) السنة لعبد الله (ص.18). (¬3) تاريخ بغداد (7/ 295 - 296) وتهذيب الكمال (6/ 129 - 133) وسير أعلام النبلاء (11/ 392 - 393) وتهذيب التهذيب (2/ 272) وشذرات الذهب (2/ 99).

موقفه من الجهمية:

وحفص بن غياث، ومحمد بن فضيل وعدة. حدث عنه أبو داود، وابن ماجه، وأبو يعلى، وأبو القاسم البغوي، وخلق كثير. سئل عنه أحمد بن حنبل، فقال: صاحب سنة ما بلغني عنه إلا خير. كان رحمه الله من جلة العلماء وثقاتهم في زمانه. قال البخاري: توفي يوم السبت لثمان بقين من رجب سنة إحدى وأربعين ومائتين ببغداد. رحمه الله تعالى. موقفه من الجهمية: - عن أحمد بن عطية قال سمعت الحسن بن حماد -سجادة- قال: سأل رجل محمد بن الحسن عن القرآن مخلوق هو؟ فقال: القرآن كلام الله وليس من الله شيء مخلوق. قال أبو علي -يعني الحسن بن حماد-: وهو الحق عندنا. (¬1) قال الحسن بن الصباح: قيل لأحمد بن حنبل: إن سجادة سئل عن رجل قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا إن كلم زنديقا، فكلم رجلا يقول: القرآن مخلوق. فقال سجادة: طلقت امرأته. فقال أحمد: ما أبعد. وقال علي ابن فيروز: سألت سجادة عن رجل حلف بالطلاق، لا يكلم كافرا، فكلم من يقول: القرآن مخلوق. قال: طلقت امرأته. (¬2) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 298/474). (¬2) السير (11/ 392) والإبانة (2/ 12/61/ 268).

أبو معاذ خلف بن سليمان (241 هـ)

أبو معاذ خلف بن سليمان (241 هـ) موقفه من الجهمية: - عن أبي قدامة السرخسي قال: سمعت خلف بن سليمان البلخي يقول: كان جهم من أهل الكوفة وكان فصيحا لم يكن عنده علم فلقيه ناس من السمنية فكلموه فقالوا له: صف لنا من تعبد. قال: أجلوني فأجلوه. فخرج إليهم قال: هو هذا الهواء مع كل شيء وفي كل شيء. (¬1) - عن أبي قدامة السرخسي قال: سمعت أبا معاذ البلخي -يعني خلف ابن سليمان- بفرغانة قال: كان جهم على معبر ترمذ وكان رجلا كوفي الأصل فصيح اللسان لم يكن له علم ولا مجالسة لأهل العلم كان تكلم كلام المتكلمين وكلمه السمنية فقالوا له: صف لنا ربك الذي تعبده. فدخل البيت لا يخرج كذا وكذا قال ثم خرج عليهم بعد أيام فقال: هو ذا الهواء مع كل شيء وفي كل شيء ولا يخلو منه شيء. قال أبو معاذ: كذب عدو الله، إن الله في السماء على عرشه وكما وصف نفسه. (¬2) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (3/ 423/634). (¬2) أصول الاعتقاد (3/ 423 - 424/ 635).

موقف السلف من ضرار بن عمرو المعتزلي

موقف السلف من ضرار بن عمرو المعتزلي (لم أعثر له على تاريخ وفاته وهو من طبقة الإمام أحمد 241 هـ) بيان اعتزاله: - قال الذهبي: نعم ومن رؤوس المعتزلة ضرار بن عمرو، شيخ الضرارية. فمن نحلته قال: يمكن أن يكون جميع الأمة في الباطن كفارا لجواز ذلك على كل فرد منهم. ويقول: الأجسام إنما هي أعراض مجتمعة، وإن النار لا حر فيها، ولا في الثلج برد، ولا في العسل حلاوة، وإنما يخلق ذلك عند الذوق واللمس. (¬1) - موقف الإمام أحمد بن حنبل منه: وقال المروذي: قال أحمد بن حنبل: شهدت على ضرار بن عمرو عند سعيد بن عبد الرحمن، فأمر بضرب عنقه، فهرب. وقال حنبل: دخلت على ضرار ببغداد، وكان مشوها وبه فالج، وكان معتزليا، فأنكر الجنة والنار، وقال: اختلف فيهما: هل خلقتا بعد أم لا؟ فوثب عليه أصحاب الحديث، وضربوه. وقال أحمد بن حنبل: إنكار وجودهما كفر، قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} (¬2)، قال أحمد: فهرب. قالوا: أخافه يحيى بن خالد حتى مات. (¬3) ¬

(¬1) السير (10/ 544). (¬2) غافر الآية (46). (¬3) السير (10/ 545) وهو في الميزان (2/ 328).

إسحاق بن سليمان الجواز (241 هـ سنة وفاة الإمام أحمد)

- قال ابن حزم: كان ضرار ينكر عذاب القبر. (¬1) - وقال أبو همام السكوني: شهد قوم على ضرار بأنه زنديق، فقال سعيد: قد أبحت دمه، فمن شاء فليقتله. قال: فعزلوا سعيدا من القضاء، فمر شريك القاضي، ورجل ينادي: من أصاب ضرارا، فله عشرة آلاف. فقال شريك: الساعة خلفته عند يحيى البرمكي -أراد شريك أن يعلم أنهم ينادون عليه وهو عندهم. (¬2) إسحاق بن سليمان الجواز (241 هـ سنة وفاة الإمام أحمد) موقفه من الجهمية: - قال مهنا: وسألت أبا يعقوب إسحاق بن سليمان الجواز عن القرآن، فقال: هو كلام الله وهو غير مخلوق، ثم قال لي: إذا كنا نقول: القرآن كلام الله لا نقول مخلوق ولا غير مخلوق، فليس بيننا وبين هؤلاء الجهمية خلاف. فذكرت ذلك لأحمد بن حنبل، فقال أحمد: جزى الله أبا يعقوب خيرا. (¬3) ¬

(¬1) السير (10/ 545). (¬2) السير (10/ 545). (¬3) السنة للخلال (5/ 136).

يحيى بن أكثم التميمي (ابن قطن) (242 هـ)

يحيى بن أَكْثَم التَّمِيمي (¬1) (ابن قُطَن) (242 هـ) الفقيه العلامة، القاضي، أبو محمد يحيى بن أكثم بن محمد بن قطن، التميمي المروزي ثم البغدادي. ولد في خلافة المهدي. وسمع من: عبد العزيز ابن أبي حازم، وابن المبارك، والدراوردي، وابن عيينة، وعدة. وله رحلة ومعرفة. حدث عنه الترمذي، وأبو حاتم، وإسماعيل القاضي، وآخرون. وكان من أئمة الاجتهاد. وله تصانيف منها كتاب 'التنبيه'. قال الحاكم: من نظر في 'التنبيه' له عرف تقدمه في العلوم. قال طلحة الشاهد: كان واسع العلم بالفقه، كثير الأدب حسن العارضة، قائما بكل معضلة، غلب على المأمون، حتى لم يتقدمه عنده أحد مع براعة المأمون في العلم، وكانت الوزراء لا تبرم شيئا حتى تراجع يحيى. سئل عنه الإمام أحمد، فقال: ما عرفناه ببدعة. قال السراج في 'تاريخه': مات بالربذة منصرفه من الحج يوم الجمعة في ذي الحجة سنة اثنتين وأربعين ومائتين. قال ابن أخته: بلغ ثلاثا وثمانين سنة. موقفه من الرافضة: - قال أبو العيناء: حدثنا أحمد بن أبي دؤاد قال: كنا مع المأمون في طريق الشام. فأمر فنودي بتحليل المتعة. فقال يحيى بن أكثم لي ولمحمد بن منصور: بكرا غدا إليه. فإن رأيتما للقول وجها فقولا، وإلا فاسكتا إلى أن أدخل. قال: فدخلنا إليه وهو يستاك، ويقول، وهو مغتاظ: متعتان كانتا على ¬

(¬1) التاريخ الكبير (8/ 263) وتاريخ بغداد (14/ 191 - 204) وطبقات الحنابلة (1/ 410 - 413) وتهذيب الكمال (31/ 207 - 223) والسير (12/ 5 - 12) وتاريخ الإسلام (حوادث 241 - 250/ص.536 - 544) والبداية والنهاية (10/ 330) وتهذيب التهذيب (11/ 179 - 183) وشذرات الذهب (2/ 91؛ 101؛ 102).

عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى عهد أبي بكر، وأنا أنهى عنهما؟ ومن أنت يا أحول حتى تنهى عما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر؟ فأومأمت إلى محمد بن منصور: رجل يقول في عمر بن الخطاب ما يقول، نكلمه نحن؟ فأمسكنا. وجاء يحيى فجلس وجلسنا. فقال المأمون ليحيى: مالي أراك متغيرا؟ فقال: هو غم يا أمير المؤمنين، لما حدث في الإسلام. قال: وما حدث فيه؟ قال: النداء بتحليل الزنا. قال: الزنا؟ قال: نعم، المتعة زنى. قال: ومن أين قلت هذا؟ قال: من كتاب الله، وحديث رسوله - صلى الله عليه وسلم -. قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (2) إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (¬1) يا أمير المؤمنين، زوجة المتعة ملك يمين؟ قال: لا. قال: فهي الزوجة التي عنى الله عز وجل: ترث وتورث، ويلحق بها الولد، ولها شرائطها؟ قال: لا. قال: فقد صار متجاوز هذين من العادين. وهذا الزهري يا أمير المؤمنين روى عن عبد الله والحسن ابني محمد بن الحنفية عن أبيهما محمد عن علي بن أبي طالب قال: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أنادي بالنهي عن المتعة وتحريمها، بعد ¬

(¬1) المؤمنون الآيات (1 - 7).

موقفه من الجهمية:

أن كان أمر بها. (¬1) فالتفت إلينا المأمون. فقال: أمحفوظ هذا من حديث الزهري؟ فقلنا: نعم، يا أمير المؤمنين. رواه جماعة، منهم مالك. فقال: أستغفر الله، نادوا بتحريم المتعة. فنادوا بها. (¬2) موقفه من الجهمية: - عن محمد بن القاسم العتكي، سمعت الفضل الشعراني، سمعت يحيى ابن أكثم يقول: من قال: القرآن مخلوق يستتاب فإن تاب، وإلا ضربت عنقه. (¬3) الحسن بن علي الحُلَوَانِي (¬4) (242 هـ) الإمام الحافظ، الصدوق أبو محمد الحسن بن علي بن محمد الهُذَلِي، الرَّيْحَانِي الخَلاَّل المجاور بمكة والمحدث بها. حدث عن أبي معاوية، وابن الجراح، ومعاذ ابن هشام، وخلق. ورحل إلى عبد الرزاق فأكثر وصنف وتعب في هذا العلم. قال إبراهيم بن أورمة: بقي اليوم في الدنيا ثلاثة: الذهلي بخراسان، وابن الفرات بأصبهان، والحلواني بمكة. حدث عنه الجماعة ¬

(¬1) أحمد (1/ 79) والبخاري (7/ 611/4216) ومسلم (2/ 1027/1407 (29،30،31،32)) والترمذي (3/ 429/1121) والنسائي (6/ 435/3365) وابن ماجه (1/ 630/1961) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه بلفظ مغاير. (¬2) طبقات الحنابلة (1/ 413). (¬3) السير (13/ 319) والطبقات (1/ 412). (¬4) تاريخ بغداد (7/ 365 - 366) وتهذيب الكمال (6/ 259 - 263) وتذكرة الحفاظ (2/ 522) والسير ... (11/ 398 - 400) وتهذيب التهذيب (2/ 302 - 304) وتاريخ الإسلام (حوادث 241 - 250/ص.233 - 234).

موقفه من الجهمية:

سوى النسائي، وأبو بكر بن أبي عاصم، وخلق سواهم. قال يعقوب بن شيبة: كان ثقة ثبتا متقنا. مات رحمه الله تعالى في ذي الحجة سنة اثنتين وأربعين ومائتين. موقفه من الجهمية: - عن أحمد بن أبي عوف قال: سألت الحسن بن علي الحلواني، فقلت له: إن الناس قد اختلفوا عندنا في القرآن، فما تقول رحمك الله؟ قال: القرآن كلام الله، غير مخلوق، ما نعرف غير هذا. (¬1) - وقال أبو زرعة الرازي: قيل للحسن بن علي الحلواني: إنا أخبرنا عنك أنك أظهرت الوقف. فأنكر ذلك إنكارا شديدا وقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، وهل يكون غير ذا أو يقول أحد غير هذا؟ ما شككنا في ذا قط. وسألني رجل بالشام وكان من الواقفة فأحب أن أرخص في الوقف فأبيت. (¬2) محمد بن أَسْلَم الطُّوسي (¬3) (242 هـ) محمد بن أسلم بن سالم بن يزيد الإمام الحافظ الرباني شيخ الإسلام أبو الحسن الكندي مولاهم الخراساني الطوسي. ولد في حدود الثمانين ومائة. سمع يزيد بن هارون والنضر بن شميل وقبيصة ويحيى بن أبي بكير وغيرهم. ¬

(¬1) الشريعة (1/ 219/174). (¬2) أصول الاعتقاد (2/ 359 - 360/ 531). (¬3) الجرح والتعديل (7/ 201) والحلية (9/ 238 - 254) وتذكرة الحفاظ (2/ 532 - 534) والوافي بالوفيات (2/ 204) وشذرات الذهب (2/ 100 - 101) والسير (12/ 195 - 207).

موقفه من المبتدعة:

صنف 'المسند' و'الأربعين' وغير ذلك. حدث عنه إمام الأئمة ابن خزيمة، ومحمد بن وكيع الطوسي، وأبو بكر بن أبي داود، وخلق. وحدث عنه من أقرانه: علي بن الحسن الهلالي، ومحمد بن عبد الوهاب الفراء. قال محمد بن رافع: دخلت على محمد بن أسلم فما شبهته إلا بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. عن الحاكم: سمعت محمد بن أحمد بن بالويه سمعت ابن خزيمة يقول حدثنا من لم تر عيناي مثله أبو عبد الله محمد بن أسلم. قال الحاكم: قام محمد بن أسلم مقام وكيع، وأفضل من مقامه، لزهده وورعه وتتبعه للأثر. قال إسحاق: لم أسمع عالما منذ خمسين سنة كان أشد تمسكا بأثر النبي - صلى الله عليه وسلم - من محمد بن أسلم. توفي لثلاث بقين من المحرم سنة اثنتين وأربعين ومائتين بنيسابور. موقفه من المبتدعة: - جاء في الحلية: عن خادم بن أسلم قال: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: وذكر في حديث رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لا يجمع أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على ضلالة، فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم" (¬1). فقال رجل: يا أبا يعقوب، من السواد الأعظم؟ قال: محمد بن أسلم وأصحابه ومن تبعه، ثم قال: سأل رجل ابن المبارك فقال: يا أبا عبد الرحمن من السواد الأعظم؟ ¬

(¬1) أخرجه: ابن ماجه (2/ 1303/3950) وابن أبي عاصم في السنة (1/ 41/84) عن أبي خلف الأعمى قال: سمعت أنس بن مالك، فذكره. قال البوصيري في الزوائد (2/ 289/1387): "هذا إسناد ضعيف لضعف أبي خلف الأعمى واسمه حازم بن عطار". قال الشيخ الألباني: "الشطر الأول منه صحيح له شواهد ... والشطر الآخر ضعيف". انظر شواهد الحديث في السنة لابن أبي عاصم (1/ 40 - 42). وأخرجه الدولابي في الكنى (1/ 166) بلفظ: "إذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم فإنه لا تجتمع أمتي على ضلالة".

قال: أبو حمزة السكوني. ثم قال إسحاق: في ذلك الزمان يعني أبا حمزة، وفي زماننا محمد بن أسلم ومن تبعه. ثم قال إسحاق: لو سألت الجهال من السواد الأعظم؟ قالوا: جماعة الناس، ولا يعلمون أن الجماعة عالم متمسك بأثر النبي - صلى الله عليه وسلم - وطريقه، فمن كان معه وتبعه فهو الجماعة، ومن خالفه فيه ترك الجماعة. ثم قال إسحاق: لم أسمع عالما منذ خمسين سنة أعلم من محمد بن أسلم. (¬1) " التعليق: الميزان عند السلف هو اتباع الحق الذي يتمثل في التمسك بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأما الكثرة والقلة فليست عندهم بميزان، فليعلم هذا وليكن الميزان عند كل سلفي، فلا عليه إن رفضه المبتدعة مهما تكاثروا ومهما قل أتباعه وأصحابه. - جاء في الحلية عن محمد بن أسلم أنه قال عند موته لمحمد بن القاسم ودخل عليه: قال: يا أبا عبد الله، إن هؤلاء قد كتبوا رأي أبي حنيفة وكتبت أنا الأثر فأنا عندهم على غير طريق، وهم عندي على غير طريق. وقال لي: يا أبا عبد الله أصل الاسلام في هذه الفرائض، وهذه الفرائض في حرفين: ما قال الله ورسوله: افعل؛ فهو فريضة ينبغي أن يفعل. وما قال الله ورسوله: لا تفعل؛ فينبغي أن ينتهى عنه؛ فتركه فريضة. وهذا في القرآن وفي فريضة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم يقرءونه ولكن لا يتفكرون فيه. قد غلب عليهم حب الدنيا. حديث ¬

(¬1) الحلية (9/ 238 - 239) وانظر السير (12/ 196 - 197).

موقفه من الجهمية:

عبد الله بن مسعود: "خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطا فقال: "هذا سبيل الله" ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال: "هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه" ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬1)، وحديث عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن بني إسرائيل افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وأمتي تفترق على ثلاثة وسبعين، كلها في النار إلا واحدة". قالوا: يا رسول الله من هم؟ قال: "ما أنا عليه اليوم وأصحابي" (¬2).اهـ (¬3) موقفه من الجهمية: - جاء في أصول الاعتقاد: عن عبد الله بن محمد بن الفضل الأسدي قال سمعت إسحاق بن داود الشعراني يذكر أنه عرض على محمد بن أسلم كلام رجل تكلم في القرآن فقال محمد بن أسلم: أما أسماء الله التي قد ذكرها فإنها كلها أسماؤه، فإذا قال الإنسان نعبد الله، فإنما يعني الاسم والمعنى شيء واحد فهو موحد. (¬4) - وفيه: عن محمد بن أسلم الطوسي: إن من قال إن القرآن يكون ¬

(¬1) تقدم ضمن مواقف الإمام مالك سنة (179هـ). (¬2) تقدم ضمن مواقف الإمام أحمد سنة (241هـ). (¬3) الحلية (9/ 242) وانظر السير (12/ 200). (¬4) أصول الاعتقاد (2/ 240/353).

مخلوقا بالألفاظ فقد زعم أن القرآن مخلوق. (¬1) - قال أبو نعيم: وأما كلامه في النقض على المخالفين من الجهمية والمرجئة فشائع ذائع. وقد كان رحمه الله من المثبتة لصفات الله أنها أزلية غير محدثة في كتابه المترجم بالرد على الجهمية ذكرت منه فصلا وجيزا من فصوله وهو: ما حدثناه محمد بن جعفر المؤدب حدثنا أحمد بن بطة بن إسحاق حدثنا إسماعيل بن أحمد المديني حدثنا أبو عبد الله بن موسى بمكة وهو عن محمد بن القاسم خادم محمد بن أسلم وصاحبه، قال: سمعت محمد بن أسلم يقول: زعمت الجهمية أن القرآن مخلوق وقد أشركوا في ذلك، وهم لا يعلمون لأن الله تعالى قد بين أن له كلاما فقال: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} (¬2) وقال في آية أخرى {وكلم الله موسى تكليمًا} (¬3) فأخبر أن له كلاما وأنه كلم موسى عليه السلام فقال في تكليمه إياه {يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} (¬4) فمن زعم أن قوله: {يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} خلق وليس بكلامه فقد أشرك بالله، لأنه زعم أن خلقا قال لموسى إني أنا ربك، فقد جعل هذا الزاعم ربا لموسى دون الله. وقول الله أيضا لموسى في تكليمه {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 388/588). (¬2) الأعراف الآية (144). (¬3) النساء الآية (164). (¬4) طه الآيتان (11و12).

موقفه من المرجئة:

أَنَا فَاعْبُدْنِي} (¬1) فقد جعل هذا الزاعم إلها لموسى غير الله. وقال في آية أخرى لموسى في تكليمه إياه: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬2) فمن لم يشهد أن هذا كلام الله وقوله تكلم به والله قاله وزعم أنه خلق فقد عظم شركه وافتراؤه على الله لأنه زعم أن خلقا قال لموسى: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} فقد جعل هذا الزاعم للعالمين ربا غير الله فأي شرك أعظم من هذا؟ فتبقى الجهمية في هذه القصة بين كفرين اثنين إن زعموا أن الله لم يكلم موسى فقد ردوا كتاب الله وكفروا به، وإن زعموا أن هذا الكلام {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} خلق فقد أشركوا بالله، ففي هؤلاء الآيات بيان أن القرآن كلام الله تعالى، وفيها بيان شرك من زعم أن كلام الله خلق، وقول الله خلق، وما أوحى الله إلى أنبيائه خلق. (¬3) - آثاره السلفية: له كتاب الرد على الجهمية: نظر فيه أحمد بن حنبل فتعجب منه، كذا في الحلية. (¬4) موقفه من المرجئة: - جاء في ترجمته في حلية الأولياء: قال أبو نعيم: وأما نقضه رحمه الله ¬

(¬1) طه الآيتان (13و14). (¬2) القصص الآية (30) .. (¬3) حلية الأولياء (9/ 244 - 245) وفي السير (12/ 202). (¬4) (9/ 239).

على المرجئة الكرامية التي زعمت أن الإيمان هو القول باللسان من دون عقد القلب الذي هو التصديق، فقد صنف في الايمان وفي الأعمال الدالة على تصديق القلب وأمارته كتابا جامعا كبيرا. حدثنا أبو الحسين محمد بن محمد بن عبيد الله الجرجاني المقري ثنا محمد ابن زهير الطوسي ثنا عبد الله بن يزيد المقري ثنا كهمس عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر عن عبد الله بن عمر عن عمر أن جبرائيل عليه السلام جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن الإيمان فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر كله خيره وشره" (¬1). الحديث وهذا أول حديث ذكره واستفتح به كتابه وبنى عليه كلامه. قال محمد بن أسلم: فبدء الإيمان من قبل الله فضل منه ورحمة ومن يمن به على من يشاء من عباده، فيقذف في قلبه نورا ينور به قلبه ويشرح به صدره ويزيد في قلبه الإيمان ويحببه إليه، فإذا نور قلبه وزين فيه الإيمان وحببه إليه آمن قلبه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر كله خيره وشره وآمن بالبعث والحساب والجنة والنار حتى كأنه ينظر إلى ذلك، وذلك من النور الذي قذفه الله في قلبه، فإذا آمن قلبه نطق لسانه مصدقا لما آمن به القلب وأقر بذلك وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأن هذه الأشياء التي آمن بها القلب فهي حق. فإذا آمن القلب وشهد اللسان عملت الجوارح، فأطاعت أمر الله عملت بعمل الإيمان وأدت حق الله عليها في فرائضه، وانتهت عن ¬

(¬1) أحمد (1/ 27) ومسلم (1/ 36 - 38/ 8) وأبو داود (5/ 69 - 73/ 4695) والترمذي (5/ 8 - 9/ 2610) والنسائي (8/ 472 - 475/ 5005) وابن ماجه (1/ 24 - 25/ 63) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

محارم الله إيمانا وتصديقا بما في القلب ونطق به اللسان، فإذا فعل ذلك كان مؤمنا. وقد بين الله ذلك في كتابه، وأن بدء الإيمان من قبله فقال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إليكم الإيمان وزينه في قُلُوبِكُمْ} (¬1) وقال: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} (¬2) أفلا يرون أن هذا التزيين وهذا النور من عطية الله ورزقه، يعطي من يشاء كما يشاء أترى أن الناس يمرون؟ وقال في كتابه: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ والإيمان} (¬3) وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للحارث بن مالك: "عَبْدٌ نَوَّرَ الله الإيمان في قلبه" (¬4) وقال: "نور يقذف في القلب فينشرح وينفسح" (¬5) ثم بين الرسول أنه يتبين على المؤمن إيمانه بالعمل حين قيل له هل له علامة يعرف بها قال: "نعم الإنابة إلى ¬

(¬1) الحجرات الآية (7) .. (¬2) الزمر الآية (22). (¬3) الروم الآية (56). (¬4) أخرجه من حديث أنس: البزار (كشف الأستار 1/ 26/32) مطولا، وذكر له قصة. وقال عقبه: "تفرد به يوسف -أي ابن عطية- وهو لين الحديث". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 57) وقال: رواه البزار وفيه يوسف بن عطية لا يحتج به. وأخرجه ابن المبارك في الزهد (1/ 303 - 304/ 299)، وعبد الرزاق (11/ 129/20114) كلاهما عن معمر عن صالح ابن مسمار (زاد عبد الرزاق: وجعفر بن برقان)، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للحارث بن مالك، فذكره مطولا. وهو معضل. وكذلك أخرجه ابن أبي شيبة في الإيمان (115) عن ابن نمير نا مالك بن مغول عن زبيد، معضلا. وقد رويت هذه القصة موصولة عن الحارث نفسه، أخرجها: عبد بن حميد (المنتخب445)، والطبراني (3/ 302/3367) دون ذكر محمل الشاهد. وذكرها الهيثمي في المجمع (1/ 57) وقال: رواه الطبراني في الكبير وفيه ابن لهيعة وفيه من يحتاج إلى الكشف عنه. قال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (5/ 2272/3608): رواه البزار من حديث أنس والطبراني من حديث الحارث بن مالك وكلا الحديثين ضعيف". وانظر كلام الزبيدي عقبه. (¬5) انظر الحديث الآتي بعده ..

دار الخلود والتجافى عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله" (¬1) ألا ترون أنه قد بين أن إيمانه يعرف بالعمل لا بالقول. وقد بين أن الإيمان الذي في القلب ينفعه إذا عمل بعمل الإيمان، فإذا عمل بعمل الإيمان تتبين علامة إيمانه أنه مؤمن. فهذا كلامه الذي عليه ابتناء الكتاب وأنه جعل الأعمال علامة للإيمان، وأن الإيمان هو تصديق القلب، وأن اللسان شاهد يشهد ومعبر يعبر عما في القلب، لا أن الشاهد المعبر نفس الإيمان من دون تصديق القلب على ما زعمت الكرامية. وضمن هذا الكتاب من الآثار المسندة وقول الصحابة والتابعين أحاديث كثيرة. قال محمد بن أسلم: وقال المرجئ: ويتفاضل الناس في الأعمال، خطأ لأنه زعم أن من كان أكثر عملا فهو أفضل من الذي كان أقل عملا، فعلى ¬

(¬1) أخرجه من حديث ابن مسعود: الحاكم (4/ 311) وسكت عنه، وتعقبه الذهبي بقوله: "عدي بن الفضل ساقط". وقال في الميزان (3/ 62): "قال ابن معين وأبو حاتم متروك الحديث". وقال يحيى لا يكتب حديثه، وقال غير واحد: ضعيف. انظر كلام أبي حاتم ويحيى بن معين في الجرح والتعديل (7/ 4). وأخرجه: ابن جرير (8/ 27)، وفي سنده سعيد بن عبد الملك بن واقد الحراني. قال أبو حاتم (4/ 45): "يتكلمون فيه، يقال إنه أخذ كتبا لمحمد بن سلمة فحدث بها، ورأيت فيها حدث أحاديث كذب" هذا أولا. والثاني الانقطاع بين أبي عبيد وأبيه عبد الله بن مسعود، فإنه لم يسمع منه. ورواه ابن جرير (8/ 27) أيضا بسند آخر وفيه محبوب بن الحسن الهاشمي واسمه محمد. قال عنه الحافظ في التقريب: صدوق فيه لين. وفي الباب عن ابن عباس مرفوعا، والحسن البصري وأبي جعفر المدائني كلاهما مرسلا. وقد فصل القول فيها الشيخ الألباني رحمه الله في الضعيفة (2/ 383 - 387) ثم قال: "وجملة القول: أن هذا الحديث ضعيف لا يطمئن القلب لثبوته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لشدة الضعف الذي في جميع طرقه، وبعضها أشد ضعفا من بعض، فليس فيها ما ضعفه يسير يمكن أن ينجبر، خلافا لما ذهب إليه ابن كثير، وإن قلده في ذلك جماعة ممن ألفوا في التفسير، كالشوكاني في فتح القدير (2/ 154) وصديق حسن خان في فتح البيان (2/ 217)، وجزم الآلوسي في روح المعاني بنسبته إليه - صلى الله عليه وسلم -، ومن قبله ابن القيم في الفوائد (ص.27 ط. دار مصر) وعزاه للترمذي فجاء بوهم آخر. والعصمة لله وحده".

زعمه أن من الذي كان بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أفضل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنهم عملوا بعده أعمالا كثيرة من الحج والعمرة والغزو والصلاة والصيام والصدقة والأعمال الجسمية، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل منهم بالاتفاق، ثم من كان بعد أبي بكر الصديق وعمر قد عملوا الأعمال الكثيرة التي لم يعملها عمر ولم يبلغها، وعمر أفضل منهم. ثم من بعد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التابعين قد عملوا أعمالا كثيرة أكثر مما عملته الصحابة، والصحابة أفضل منهم. فأي خطأ أعظم من خطأ هذا المرجئ الذي زعم أن الناس يتفاضلون بالأعمال وإنما الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، يفضل من يشاء من عباده على من يشاء عدلا منه ورحمة، فكل من فضله الله فهو أعظم إيمانا من الذي دونه، لأن الإيمان قسم من الله قسمه بين عباده كيف شاء، كما قسم الأرزاق فاعطى منها كل عبد ما شاء، ألا ترى إلى قول عبد الله بن مسعود (إذا أحب الله تعالى عبدا أعطاه الإيمان) فالإيمان عطية الله يعطيه من يشاء ويفضل من يشاء على من يشاء، وهو قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} (¬1) وقال: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} (¬2) أفلا ترون أن هذا التزيين وهو النور من عطية الله ورزقه، يعطي من يشاء كما يشاء، ألا ترى أن الناس يمرون يوم القيامة على الصراط على قدر نورهم فواحد نوره مثل الجبل، وواحد نوره ¬

(¬1) الحجرات الآية (7). (¬2) الزمر الآية (22) ..

مثل البيت فكم بين الجبل والبيت من الزيادة والنقصان؟ فإذا كان نور من خارج مثل الجبل وآخر مثل البيت، فكذلك نورهما من داخل القلب على قدر ذلك، فالمرجئة والجهمية قياسهما قياس واحد؛ فإن الجهمية زعمت أن الإيمان المعرفة فحسب، بلا إقرار ولا عمل، والمرجئة زعمت أنه قول بلا تصديق قلب ولا عمل. فكلاهما شيعة إبليس وعلى زعمهم إبليس مؤمن، لأنه عرف ربه ووحده حين قال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (¬1) وحين قال: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (¬2) وحين قَالَ {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} (¬3) فأي قوم أبين ضلالة وأظهر جهلا وأعظم بدعة من قوم يزعمون أن إبليس مؤمن؟ فضلوا عن جهة قياسهم يقيسون على الله دينه، والله لا يقاس عليه دينه، فما عبدت الأوثان والأصنام إلا بالقايسين، فاحذروا يا أمة محمد القياس على الله في دينه واتبعوا ولا تبتدعوا فإن دين الله استنان واقتداء واتباع لا قياس وابتداع. قال الشيخ أبو نعيم رحمه الله: اقتصرت من تفاصيله ومعارضته على المرجئة على ما ذكرت، وكتابه يشتمل على أكثر من جزءين مشحونا بالآثار المسندة وقول الصحابة والتابعين. (¬4) ¬

(¬1) ص الآية (82). (¬2) الحشر الآية (16). (¬3) الحجر الآية (39). (¬4) الحلية (9/ 245 - 248).

أحمد بن أبي بكر بن الحارث (242 هـ)

أحمد بن أبي بكر بن الحارث (¬1) (242 هـ) الإمام الثقة، شيخ دار الهجرة، أبو مصعب، أحمد بن أبي بكر القاسم ابن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري المدني الفقيه قاضي المدينة. ولد سنة خمسين ومائة، ولازم مالك بن أنس وتفقه به، وسمع منه 'الموطأ' وأتقنه عنه. وسمع من يوسف بن الماجشون، وابن أبي حازم، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، وطبقتهم. حدث عنه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وإسماعيل القاضي وبقي بن مخلد، وأبو زرعة الرازي وخلق كثير. قال الزبير بن بكار: هو فقيه أهل المدينة غير مدافع. وقال: مات في شهر رمضان سنة اثنتين وأربعين ومائتين وهو على القضاء، وله اثنتان وتسعون سنة. قال أبو إسحاق في 'طبقاته' كان أبو مصعب من أعلم أهل المدينة روي عنه أنه قال: يا أهل المدينة لا تزالون ظاهرين على أهل العراق ما دمت لكم حيا. موقفه من الجهمية: - جاء في أصول الاعتقاد: قال محمد بن مسلم بن واره، قال لي أبو مصعب: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: لا أدري -يعني مخلوق أو غير مخلوق- فهو مثله، ثم قال: بل هو شر منه. (¬2) - وفيه: عن أبي مصعب أحمد بن أبي بكر قال: من وقف في القرآن ¬

(¬1) تهذيب الكمال (1/ 278 - 281) وتذكرة الحفاظ (2/ 482 - 484) وتهذيب التهذيب (1/ 20) والوافي بالوفيات (6/ 269) والسير (11/ 436 - 440). (¬2) أصول الاعتقاد (2/ 358/522).

محمد بن يحيى العدني (243 هـ)

فهو كافر. (¬1) - وفيه: عن عبد الله بن محمد بن الفضل الأسدي الصيداوي قال: أتى قوم أبا مصعب الزهري المديني فقالوا: إن قبلنا ببغداد رجلا يقول: لفظه بالقرآن مخلوق؟ فقال: يا أهل العراق ما يأتينا منكم هناه. ما ينبغي أن نتلقى وجوهكم إلا بالسيوف، هذا كلام نبطي خبيث. (¬2) محمد بن يحيى العَدَنِي (¬3) (243 هـ) الإمام المحدث الحافظ شيخ الحرم، أبو عبد الله محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني، المجاور بمكة. حدث عن فضيل بن عياض، وسفيان بن عيينة، وعبد العزيز بن محمد، ووكيع بن الجراح وخلق كثير. حدث عنه مسلم، والترمذي، وابن ماجه، وبواسطة النسائي، وأبو حاتم، وغيرهم. قال أبو حاتم: صدوق صالح وفيه غفلة. وقال ابن العماد الحنبلي: كان عبدا صالحا خيرا. وقال مسلم وغيره: هو حجة صدوق. روي عن الحسن بن أحمد بن الليث: حدثنا ابن أبي عمر العدني وكان قد حج سبعا وسبعين حجة، وبلغني أنه لم يقعد من الطواف ستين سنة رحمه الله. قال البخاري: مات بمكة لإحدى عشرة بقيت من ذي الحجة سنة ثلاث وأربعين ومائتين. ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 358/521). (¬2) أصول الاعتقاد (2/ 394/609) والسير (11/ 437). (¬3) الجرح والتعديل (8/ 124 - 125) وتهذيب الكمال (26/ 639 - 642) وتذكرة الحفاظ (2/ 501) والعقد الثمين (2/ 422 - 423) وتهذيب التهذيب (9/ 518 - 520) وشذرات الذهب (2/ 104) والسير (12/ 96 - 98).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: - جاء في أصول الاعتقاد عنه قال: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، ومن وقف فهو شر ممن قال مخلوق، لا يصلى خلفهم ولا يناكحون ولا يكلمون، ولا تشهد جنائزهم، ولا يعاد مرضاهم. (¬1) موقفه من المرجئة: - له كتاب 'الإيمان' وهو مطبوع متداول. قال محققه (¬2): لقد سلك ابن أبي عمر في تأليف كتابه الإيمان طريقة أسلافه المحدثين، حيث كانوا يوردون النصوص الشرعية من القرآن الكريم، ومن السنة المطهرة، وأقوال الصحابة، والتابعين، بأسانيدها، للدلالة على إثبات عقيدة أهل السنة والرد على مخالفيهم، إلا أنه كان يسرد الأحاديث سردا بدون تبويب لما تدل عليه، أو مراعاة لذلك، وبدون أن يعلق عليها، أو يذكر وجه الدلالة منها، اكتفاءا بما تدل عليه. حارث بن أبي الحارث المحاسبي (243 هـ) دخل هذا الرجل في خطرات ووساوس وألف في ذلك، ودخل في شيء من الكلام فنقم عليه جمع من السلف كأبي زرعة الرازي وأحمد بن حنبل وله موقف جيد من أبيه لمكان القدر أو الوقف في القرآن. موقفه من الجهمية: - قال الجنيد: خلَّف له أبوه مالا كثيرا فتركه، وقال: لا يتوارث أهل ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 359/530). (¬2) (ص.52).

موقفه من القدرية:

ملتين. وكان أبوه واقفيا. - قال أبو الحسن بن مقسم: أخبرنا أبو علي بن خيران، قال: رأيت المحاسبي متعلقا بأبيه يقول: طلق أمي، فإنك على دين، وهي على غيره. (¬1) موقفه من القدرية: - جاء في أصول الاعتقاد: مات أبو الحارث المحاسبي يوم مات وحارث محتاج إلى أقل من درهم -أو كما قال- لعيال وبنات عليه وترك أبوه مالا وضيعة وأثاثا وأموالا كثيرة نفيسة فلم يقبل منها شيئا. فقيل له في ذلك: فقال: روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أهل ملتين شتى لا يتوارثان" (¬2) أو كما قال. وكان أبوه يقول بالقدر. (¬3) أبو موسى إسحاق بن موسى الخَطْمِي (¬4) (244 هـ) الإمام الحافظ، الثقة القاضي، أبو موسى إسحاق بن موسى بن عبد الله ¬

(¬1) السير (12/ 110). (¬2) أخرجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أحمد (2/ 178،195) وأبو داود (3/ 328 - 329/ 2911) والنسائي في الكبرى (4/ 82/6384) وابن ماجه (2/ 912/2731) وقال شاكر في تحقيقه للمسند (10/ 146): "إسناده صحيح". وللحديث شواهد من حديث جابر وأنس وأسامة بن زيد وغيرهم. (انظر كتابنا فتح البر (12/ 541)). (¬3) أصول الاعتقاد (4/ 812/1367) وجاء في تاريخ بغداد (8/ 214) وتهذيب الكمال (5/ 209) والأنساب (5/ 207): وكان أبوه واقفيا. (¬4) تاريخ بغداد (6/ 355 - 356) وتهذيب الكمال (2/ 480 - 483) وتذكرة الحفاظ (2/ 513) والسير ... (11/ 554 - 555) وتهذيب التهذيب (1/ 251) وشذرات الذهب (2/ 105) وتاريخ الإسلام (حوادث ... 241 - 250/ص.172 - 173).

موقفه من المبتدعة:

ابن موسى بن عبد الله بن يزيد الخطمي الأنصاري المدني، الفقيه نزيل سامراء ثم قاضي نيسابور. سمع سفيان بن عيينة، وعبد السلام بن حرب ومعن ابن عيسى القزاز، وجماعة. حدث عنه مسلم، والترمذي والنسائي، وابن ماجه، وابن مخلد وابن خزيمة، وجعفر الفريابي، وابنه موسى، وآخرون. كان من أئمة السنة، أطنب أبو حاتم في الثناء عليه. توفي بجوسية -بليدة من أعمال حمص- في سنة أربع وأربعين ومائتين. موقفه من المبتدعة: - أخرج الخطيب بسنده إلى أبي حاتم قال: سمعت إسحاق بن موسى الخطمي يقول: ما مكن لأحد من هذه الأمة ما مكن لأصحاب الحديث، لأن الله عز وجل قال في كتابه: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} (¬1). فالذي ارتضاه الله قد مكن لأهله فيه. ولم يمكن لأصحاب الأهواء في أن يقبل منهم حديث واحد عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأصحاب الحديث يقبل منهم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحديث أصحابه. ثم إن كان بينهم رجل أحدث بدعة سقط حديثه، وإن كان من أصدق الناس. (¬2) موقفه من الجهمية: - عن المروذي قال: سألت أبا موسى الأنصاري عن الواقفة، فقال: هم شر من الجهمية. (¬3) ¬

(¬1) النور آية (55). (¬2) شرف أصحاب الحديث (32). (¬3) الإبانة (1/ 12/304/ 91).

محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب الأموي البصري (244 هـ)

محمد بن عبد الملك بن أبي الشَّوَارِب الأُموي البصري (¬1) (244 هـ) الإمام الثقة، المحدث الفقيه الشريف، أبو عبد الله محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب محمد بن عبد الله بن أبي عثمان القرشي الأموي البصري ولد بعد الخمسين ومائة. وحدث عن كثير بن سليم، وكثير بن عبد الله الابلي صاحب أنس ابن مالك، وأبي عوانة، وحماد بن زيد، وخلق سواهم. حدث عنه مسلم والنسائي، والترمذي، والقزويني، وابن أبي الدنيا وأبو حاتم والبغوي وابن جرير وآخرون. وكان من جلة العلماء. قال الصولي: نهى المتوكل عن الكلام في القرآن وأشخص الفقهاء والمحدثين إلى سامراء، منهم ابن أبي الشوارب، وأمرهم أن يحدثوا وأجزل لهم الصلات. ولما تولى ولده الحسن القضاء، تخوف عليه وقال: يا حسن، أعيذ وجهك الحسن من النار. مات في جمادى الأولى سنة أربع وأربعين ومائتين. موقفه من الجهمية: - عن المروذي قال: سألت أبا عبد الله بن أبي الشوارب عن رجل من الواقفة سئل عن وجه الله عز وجل، أمخلوق هو أم غير مخلوق؟ فقال: لا أدري. فقال: هذا من الشاكة، أحب إلي أن يعيد الصلاة، يعني: إذا صلى خلفه. (¬2) ¬

(¬1) تاريخ بغداد (2/ 344 - 345) وتهذيب الكمال (26/ 19 - 21) والسير (11/ 103 - 104) وتهذيب التهذيب (9/ 316 - 317) وشذرات الذهب (2/ 105 - 106) وتاريخ الإسلام (حوادث 241 - 250/ص.449 - 450). (¬2) الإبانة (1/ 12/305/ 93).

أحمد بن منيع أبو جعفر البغوي (244 هـ)

أحمد بن مَنِيع أبو جعفر البغوي (¬1) (244 هـ) الإمام الحافظ، الثقة، أبو جعفر أحمد بن منيع بن عبد الرحمن البغوي ثم البغدادي، وأصله من مرو الروذ رحل وجمع وصنف 'المسند'. حدث عن هشيم وعباد بن العوام وسفيان بن عيينة وابن المبارك وابن أبي حازم وهذه الطبقة فمن بعدهم. حدث عنه الستة لكن البخاري بواسطة، وسبطه مسند وقته أبو القاسم البغوي، وخلق سواهم. كان مولده في سنة ستين ومائة. قال البغوي: أخبرت عن جدي أحمد بن منيع رحمه الله أنه قال: أنا من نحو أربعين سنة أختم في كل ثلاث. وقال: مات جدي في شوال سنة أربع وأربعين ومائتين. موقفه من الجهمية: - قال المروذي: سألت شجاع بن مخلد، وأحمد بن إبراهيم، وأحمد بن منيع، ويحيى بن عثمان عن القرآن، فقالوا: كلام الله وليس بمخلوق. (¬2) أحمد بن حُمَيْد المشكاني (¬3) (244 هـ) أبو طالب أحمد بن حميد المشكاني، صاحب أبي عبد الله أحمد بن حنبل والمتخصص في ذلك. روى عنه مسائل كثيرة، وكان أحمد يكرمه ويعظمه. ¬

(¬1) التاريخ الكبير (2/ 6) وتاريخ بغداد (5/ 160 - 161) وتهذيب الكمال (1/ 495 - 497) والسير ... (11/ 483 - 484) وتذكرة الحفاظ (2/ 481) وتهذيب التهذيب (1/ 84 - 85) وشذرات الذهب (2/ 105) وتاريخ الإسلام (حوادث 241 - 250/ص.149 - 150). (¬2) الإبانة (2/ 12/20/ 211). (¬3) تاريخ بغداد (4/ 122) وطبقات الحنابلة (1/ 39 - 40) وتاريخ الإسلام (حوادث 241 - 250/ص.39 - 40).

موقفه من الجهمية:

روى عنه أبو محمد فوزان، وزكريا بن يحيى وغيرهما. ذكره أبو بكر الخلال، فقال: صحب الإمام أحمد قديما إلى أن مات، وكان أبو عبد الله يكرمه ويقدمه، وكان رجلا صالحا فقيرا صبورا على الفقر، فعلمه أبو عبد الله مذهب القنوع والاحتراف. ومات قديما بالقرب من موت أبي عبد الله. قال ابن قانع: إن أبا طالب صاحب أحمد بن حنبل مات سنة أربع وأربعين ومائتين. موقفه من الجهمية: - عن أبي طالب، قال: قلت لأبي عبد الله: قال لي رجل: لم قلت: من كفر بآية من القرآن، فقد كفر؟ هو كافر مثل اليهودي والنصراني والمجوسي، أو كافر بنعمة، أو كافر بمقالته؟ قلت: لا أقول هو كافر مثل اليهودي والنصراني والمجوسي، ولكن مثل المرتد، أستتيبه ثلاثا، فإن تاب، وإلا قتلته. قال: ما أحسن ما قلت، ما كافر بنعمة، من كفر بآية، فقد كفر. قلت: أليس بمنزلة المرتد إن تاب وإلا قتل؟ قال: نعم. (¬1) قال أبو طالب: وقلت لأبي عبد الله: سألني إنسان عن الجهمي يقول: القرآن مخلوق، فهو كافر؟ قلت: قوم يقولون: حلال الدم والمال، لو لقيته في خلاء لقتلته؟ قال: من هؤلاء؟ هذا المرتد يستتاب ثلاثة أيام قول عمر وأبي موسى، وهذا بمنزلة المرتد يستتاب. (¬2) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 13/77 - 78/ 301). (¬2) الإبانة (2/ 13/78/ 302).

محمد بن أبان حمدويه (244 هـ)

محمد بن أَبَان حَمْدَوِيه (¬1) (244 هـ) الحافظ، الإمام الثقة، أبو بكر محمد بن أبان بن وزير البلخي المستملي، يعرف بحمدويه، مستملي وكيع مدة طويلة نحو بضع عشرة سنة. حدث عن ابن علية، وابن وهب وغندر، وابن عيينة، ويحيى القطان، ووكيع ويزيد، وعبد الرزاق، وخلق كثير. وكتب العالي والنازل وتغرب مدة في الطلب. روى عنه الجماعة سوى مسلم؛ وأبو حاتم، وإسماعيل القاضي، وعبد الله بن أحمد، والبغوي، وابن خزيمة، وآخرون. قال عبد الله بن أحمد: قدم علينا رجل من بلخ يقال له: محمد بن أبان، فسألت أبي عنه فعرفه، وذكر أنه كان معهم عند عبد الرزاق فكتبا عنه. قال ابن حبان: حسن المذاكرة جمع وصنف وكان مستملي وكيع. قال الذهبي: كان ثقة حافظا مصنفا مشهورا. وقال موسى ابن هارون وغيره: مات ببلخ في المحرم سنة أربع وأربعين ومائتين. موقفه من الجهمية: - عن أحمد بن غسان قال: قلت لحمدويه: بأي شيء تعرف الزنادقة؟ قال: الزنادقة ضروب، ولكن من رأيته يقول: إن الله لا يرى وأن القرآن مخلوق، فهو زنديق. (¬2) ¬

(¬1) تاريخ بغداد (2/ 78 - 81) وطبقات الحنابلة (1/ 286) وتهذيب الكمال (24/ 296 - 300) وتذكرة الحفاظ (2/ 498 - 500) والسير (11/ 115 - 117) وتاريخ الإسلام (حوادث 241 - 250/ص.403 - 404) وتهذيب التهذيب (9/ 3 - 4) وشذرات الذهب (2/ 105). (¬2) الإبانة (2/ 12/42/ 234).

أحمد بن نصر (245 هـ)

أحمد بن نصر (¬1) (245 هـ) الإمام القدوة، أحمد بن نصر بن زياد أبو عبد الله، القرشي النيسابوري. حدث عن عبد الله بن نمير، والنضر بن شميل، وابن أبي فديك. روى عنه أبو نعيم، والترمذي، وابن خزيمة. كان مقرئ نيسابور ومفتيها. وقال عنه الحاكم: كان فقيه أهل الحديث في عصره، كثير الرحلة والحديث. وقال عنه أحمد بن سيار: كان صاحب سنة، محبا لأهل الخير، كتب العلم، وجالس الناس. توفي سنة خمس وأربعين ومائتين. موقفه من المبتدعة: - عن محمد بن إسحاق بن خزيمة، قال: قلت لأحمد بن نصر، وحدث بخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنأخذ به؟ فقال: أترى على وسطي زنارا، لا تقل لخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أتأخذ به؟ وقل أصحيح هو ذا؟ فإذا صح الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قلت به شئت أو أبيت. (¬2) هشام بن عمار (¬3) (245 هـ) الإمام الحافظ، العلامة المقرئ، شيخ الإسلام، عالم أهل الشام، أبو ¬

(¬1) السير (12/ 239) وتهذيب الكمال (1/ 501) والجرح والتعديل (2/ 79) وتذكرة الحفاظ (2/ 540). (¬2) ذم الكلام (97). (¬3) طبقات ابن سعد (7/ 473) والتاريخ الكبير (8/ 199) وتهذيب الكمال (30/ 242 - 255) وتذكرة الحفاظ (2/ 451) والسير (11/ 420 - 435) وتاريخ الإسلام (حوادث 241 - 250/ص.520 - 528) والبداية والنهاية (10/ 365) وغاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري (2/ 354) وتهذيب التهذيب (11/ 51 - 54) وشذرات الذهب (2/ 109 - 110).

موقفه من الرافضة:

الوليد هشام بن عمار السلمي ويقال الظفري خطيب دمشق ومقرئها ومحدثها ومفتيها. ولد سنة ثلاث وخمسين ومائة. سمع من مالك، ومسلم الزنجي، وإسماعيل بن عياش، والهيثم بن حميد، وطبقتهم، فأكثر جدا ورحل في طلب العلم. حدث عنه أبو عبيد، والبخاري، وأبو داود، والنسائي، وجعفر الفريابي، وعبدان وأمم سواهم. وعرض القرآن على عراك بن خالد وأيوب بن تميم، وهو راوي ابن عامر الشامي المقرئ. وتصدر للإقراء والاشتغال تلا عليه أبو عبيد مع تقدمه وأحمد بن الحلواني وعدة. كان رحمه الله ثقة كيسا، كبير المحل. روى عنه عبدان، قال: ما أعدت خطبة منذ عشرين سنة. قال محمد بن خريم: سمعت هشاما يقول في خطبته: قولوا الحق ينزلكم الحق منازل أهل الحق يوم لا يقضى إلا بالحق. مات في المحرم سنة خمس وأربعين ومائتين. موقفه من الرافضة: - وقال محمد بن الفيض الغساني: كان هشام بن عمار يربع بعلي، رضي الله عنه. قال الذهبي: خالف أهل بلده، وتابع أئمة الأثر. (¬1) موقفه من الصوفية: - قال محمد بن الفيض: جاء رجل من قرية الحرجلة (¬2) يطلب لعرس أخيه لعابين، فوجد الوالي قد منعهم، فجاء يطلب مغبرين، يعني: مزمزمين ¬

(¬1) السير (11/ 433). (¬2) قرية من قرى دمشق.

أحمد بن عبدة أبو عبد الله الضبي (245 هـ)

يغبرون بالقضيب، قال: فلقيه صوفي ماجن، فأرشده إلى ابن ذكوان، وهو خلف المنبر، فجاءه، وقال: إن السلطان قد منع المخنثين. فقال: أحسن والله، فقال: فنعمل العرس بالمغبرين، وقد دللت عليك، فقال: لنا رفيق، فإن جاء، جئت، وهو ذاك، وأشار إلى هشام بن عمار. فقام الرجل إليه، وهو عند المحراب متكئ، فقال الرجل لهشام: أبو من أنت، فرد عليه ردا ضعيفا، فقال: أبو الوليد، فقال: يا أبا الوليد، أنا من الحرجلة، قال: ما أبالي من أين كنت. قال: إن أخي يعمل عرسه، فقال: فماذا أصنع؟ قال: قد أرسلني أطلب له المخنثين. قال: لا بارك الله فيهم ولا فيك. قال: وقد طلب المغبرين فأرشدت إليك. قال: ومن بعثك؟ قال: هذاك الرجل، فرفع هشام رجله، ورفسه، وقال: قم. وصاح بابن ذكوان: أقد تفرغت لهذا؟ قال: إي والله، أنت رئيسنا، لو مضيت مضينا. (¬1) أحمد بن عبدة أبو عبد الله الضَّبِّي (¬2) (245 هـ) أحمد بن عبدة بن موسى الضبي أبو عبد الله البصري. روى عن حسان ابن إبراهيم الكرماني، وحماد بن زيد، وابن عيينة، وعيسى بن يونس، وفضيل ابن عياض، والقطان، وعدة. روى عنه الجماعة سوى البخاري، وبقي بن مخلد وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وأبو زرعة الرازي، وأبو حاتم وابن خزيمة وعدة. قال أبو حاتم: ثقة. مات في رمضان سنة خمس وأربعين ومائتين. ¬

(¬1) السير (11/ 434) وتاريخ دمشق (27/ 9 - 10). (¬2) تهذيب الكمال (1/ 397 - 399) وتهذيب التهذيب (1/ 59) وشذرات الذهب (2/ 107).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: - روى ابن بطة في الإبانة بسنده إلى محمد بن داود قال: سمعت أبا داود السجستاني، قال: سمعت أحمد بن عبدة يقول: ما أبالي شككت في القرآن غير مخلوق أو شككت في الله عز وجل. (¬1) إسحاق بن أبي إسرائيل (¬2) (245 هـ) إسحاق بن أبي إسرائيل، واسمه إبراهيم بن كَامَجْر المروزي، أبو يعقوب. ولد سنة خمسين ومائة، وقيل إحدى وخمسين. روى عن حماد بن زيد وسفيان بن عيينة وشريك بن عبد الله، وروى عنه البخاري في الأدب وأبو داود وبقي بن مخلد وعبد الله بن أحمد بن حنبل. قال ابن معين: الثقة الصادق المأمون ما زال معروفا بالدين والخير والفضل. قال صالح بن محمد الحافظ: صدوق في الحديث إلا أنه كان يقول القرآن كلام الله ويقف. وقال مصعب بن عبد الله: ناظرني إسحاق بن أبي إسرائيل، فقال: لا أقول كذا، ولا أقول غير ذا -يعني في القرآن- فناظرته فقال: لم أقل على الشك، ولكني أسكت كما سكت القوم قبلي. قال البخاري وغيره: مات سنة خمس وأربعين ومائتين. ¬

(¬1) الإبانة (1/ 12/298/ 76). (¬2) تاريخ بغداد (6/ 356 - 362) وتهذيب الكمال (2/ 398 - 407) وتاريخ الإسلام (حوادث 241 - 250/ص.169 - 172) وسير أعلام النبلاء (11/ 476 - 478) وتهذيب التهذيب (1/ 223 - 225).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: - جاء في السنة لعبد الله: عن يحيى بن معين سمعت إسحاق بن أبي إسرائيل ونحن في مسجد في الزبيدية يقول القرآن كلام الله وهو غير مخلوق. (¬1) محمد بن سليمان لُوَيْن (¬2) (245 هـ) محمد بن سليمان بن حبيب الحافظ الصدوق الإمام شيخ الثغر، أبو جعفر الأسدي البغدادي نزيل المصيصة، المعروف بلوين، كوفي الأصل. سمع مالك بن أنس، وسليمان بن بلال، وإبراهيم بن سعد، وعبد الله بن المبارك، وابن عيينة، وحماد ابن زيد وطائفة. حدث عنه أبو داود، والنسائي، وأحمد ابن العباس البيروتي، وعبد الله بن أحمد بن حنبل وابن أبي الدنيا، وأبو حاتم الرازي وطائفة. توفي سنة خمس وأربعين ومائتين. موقفه من الجهمية: - جاء في الإبانة: عن أحمد بن محمد بن صدقة قال: سمعت لوينا يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، ما أنا قلته، ولكن ابن عباس قاله، حدثنا هشيم، قال: حدثنا منصور بن زاذان عن الحكم عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: إن أول ما خلق الله القلم. قال لوين: فأخبر ابن عباس أن أول ما خلق الله القلم. وقال الله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذا أردناه أَنْ نَقُولَ لَهُ ¬

(¬1) السنة لعبد الله (34). (¬2) الجرح والتعديل (7/ 268) وتاريخ بغداد (5/ 282 - 296) وتهذيب الكمال (25/ 297 - 301) وتهذيب التهذيب (9/ 198 - 199) والوافي بالوفيات (3/ 123) والسير (11/ 500 - 502).

ذو النون المصري الصوفي (245 هـ)

كُنْ فيكون} (¬1)، فإنما خلق القلم بـ"كن"، وكلامه قبل الخلق. قال أبو بكر بن صدقة: قال الفضل بن زياد: فدخلت على أحمد بن حنبل وقد كنت حضرت مجلس لوين، فقال لي: يا أبا العباس حضرت مجلس هذا الشيخ؟ قلت: نعم، قال: وسمعت منه ما احتج في القرآن؟ قلت: نعم. قال: سبحان الله كأنما كان على وجهي غطاء فكشفته عنه، أما سمعت قوله: إن أول الخلق القلم، وإنما خلق القلم بكلامه، وكان كلامه قبل خلقه. ثم قال لي: تعلم أن واحد الكوفيين واحد -يعني: أن لوينا أصله كوفي-. (¬2) - وفيها: عن الحسين بن البزاز قال: قيل لأبي عبد الله: إن لوينا قال: إن أول ما خلق الله القلم، فأول الخلق القلم، وكلام الله قبل خلق القلم، فاستحسنه أبو عبد الله وقال: أبلغ منهم بما حدث. (¬3) - وجاء في أصول الاعتقاد: عنه قال: القرآن كلام الله غير مخلوق وما رأيت أحدا يقول القرآن مخلوق أعوذ بالله. (¬4) ذو النون المصري الصوفي (245 هـ) موقفه من المبتدعة: - قال ذو النون المصري: من علامة حب الله متابعة حبيب الله - صلى الله عليه وسلم - في ¬

(¬1) النحل الآية (40). (¬2) الإبانة (2/ 12/22 - 24/ 216) والشريعة (1/ 224 - 225/ 192). (¬3) الإبانة (2/ 12/24 - 25/ 217). (¬4) أصول الاعتقاد (2/ 294/460) والسنة لعبد الله (33).

أخلاقه وأفعاله وأوامره وسنته. (¬1) - وقال: إنما دخل الفساد على الخلق في ستة أشياء: الأول: ضعف النية بعمل الآخرة، والثاني: صارت أبدانهم مهيئة لشهواتهم، والثالث: غلبهم طول الأمل مع قصر الأجل، والرابع: آثروا رضاء المخلوقين على رضاء الله، والخامس: اتبعوا أهواءهم ونبذوا سنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، والسادس: جعلوا زلات السلف حجة لأنفسهم ودفنوا أكثر مناقبهم. (¬2) - وقال لرجل أوصاه: ليكن آثر الأشياء عندك وأحبها إليك: إحكام ما افترض الله عليك، واتقاء ما نهاك عنه، فإن ما تعبد الله به خير لك مما تختاره لنفسك من أعمال البر التي لا تجب عليك وأنت ترى أنها أبلغ لك فيما تريد، كالذي يؤدب نفسه بالفقر والتقلل وما أشبه ذلك، وإنما للعبد أن يراعي أبدا ما وجب عليه من فرض يحكمه على تمام حدوده، وينظر إلى ما نهي عنه فيتقيه على إحكام ما ينبغي، فإن الذي قطع العباد عن ربهم، وقطعهم عن أن يذوقوا حلاوة الإيمان، وأن يبلغوا حقائق الصدق، وحجب قلوبهم عن النظر إلى الآخرة: تهاونهم بأحكام ما فرض عليهم في قلوبهم، وأسماعهم، وأبصارهم، وألسنتهم، وأيديهم، وأرجلهم، وبطونهم، وفروجهم، ولو وقفوا على هذه الأشياء وأحكموها، لأدخل عليهم البر إدخالا تعجز أبدانهم وقلوبهم عن حمل ما رزقهم الله من حسن معونته وفوائد كرامته، ولكن أكثر القراء والنساك حقروا محقرات الذنوب، وتهاونوا بالقليل مما هم ¬

(¬1) الاعتصام (1/ 121). (¬2) الاعتصام (1/ 121 - 122).

موقفه من الرافضة:

فيه من العيوب، فحرموا ثواب لذة الصادقين في العاجل. (¬1) - وعنه قال: من أعلام البصر بالدين معرفة الأصول لتسلم من البدع والخطأ، والأخذ بالأوثق من الفروع احتياطا لتأمن. (¬2) موقفه من الرافضة: - عن أبي الفيض ذي النون بن إبراهيم قال: ثلاث من أعلام السنة: المسح على الخفين، والمحافظة على صلوات الجمع، وحب السلف رحمهم الله. (¬3) أبو تراب النخشبي عسكر بن الحصين الصوفي (245 هـ) موقفه من الصوفية: - جاء في السير عنه قال: إذا رأيت الصوفي قد سافر بلا ركوة، فاعلم أنه قد عزم على ترك الصلاة. (¬4) ¬

(¬1) الاعتصام (1/ 122). (¬2) جامع بيان العلم وفضله (1/ 785). (¬3) جامع بيان العلم وفضله (2/ 1179). (¬4) السير (11/ 545).

أبو عمر الدوري الضرير (246 هـ)

أبو عمر الدوري الضَّرِير (¬1) (246 هـ) الإمام العالم الكبير، شيخ المقرئين، أبو عمر حفص بن عمر بن عبد العزيز بن صهبان ويقال: صهيب الأزدي، مولاهم الدوري الضرير، نزيل سامراء. ولد سنة بضع وخمسين ومائة في دولة المنصور. حدث عن أحمد بن حنبل، وإسماعيل بن عياش، وسفيان بن عيينة، وعلي الكسائي المقرئ، ووكيع بن الجراح، وعدة. تلا على إسماعيل بن جعفر، وسليم بن عيسى الحنفي، وشجاع بن أبي نصر الخراساني، وعلي بن حمزة الكسائي، وأبي محمد اليزيدي. روى عنه ابن ماجه، وأبو زرعة عبيد الله الرازي، وأبو حاتم الرازي، وحاجب بن أركين، وآخرون. قال أبو داود: رأيت أحمد بن حنبل يكتب عن أبي عمر الدوري. قال ابن النفاح: حدثنا أبو عمر قال: قرأت على إسماعيل بن جعفر بقراءة أهل المدينة ختمة، وأدركت حياة نافع، ولو كان عندي عشرة دراهم لرحلت إليه. قال أبو علي الأهوازي: رحل أبو عمر في طلب القراءات، وقرأ سائر حروف السبعة، وبالشواذ، وسمع من ذلك الكثير، وصنف القراءات، وهو ثقة، وعاش دهرا، وفي آخر عمره ذهب بصره وكان ذا دين. توفي سنة ست وأربعين ومائتين. زاد بعضهم في شوال. موقفه من الجهمية: - جاء في ذم الكلام: قال أحمد بن الوزير القاضي: قلت لأبي عمر ¬

(¬1) الجرح والتعديل (3/ 183 - 184) وتاريخ بغداد (8/ 203 - 204) وتهذيب الكمال (7/ 34 - 37) وتهذيب التهذيب (2/ 408) وميزان الاعتدال (1/ 566) وتذكرة الحفاظ (1/ 406) وشذرات الذهب (2/ 111) والسير (11/ 541 - 543).

أحمد بن إبراهيم الدورقي (246 هـ)

الضرير: الرجل يتعلم شيئا من الكلام يرد به على أهل الجهل. فقال: الكلام كله جهل، وإنك كلما كنت بالجهل أعلم كنت بالعلم أجهل. (¬1) - وفي السير: قال أحمد بن فرح: قلت للدوري: ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله غير مخلوق. (¬2) أحمد بن إبراهيم الدَّوْرَقِي (¬3) (246 هـ) أحمد بن إبراهيم بن كثير الحافظ أبو عبد الله الدورقي نسبة إلى بيع القلانس الدورقية. سمع من: هشيم بن بشير، ويزيد بن زريع، ووكيع. حدث عنه مسلم، وأبو داود، والترمذي. قال أبو حاتم: صدوق. توفي سنة ست وأربعين ومائتين. موقفه من المبتدعة: - قال أحمد بن إبراهيم -الدورقي-: من سمعتموه يذكر أحمد بن حنبل بسوء فاتهموه على الإسلام. (¬4) ¬

(¬1) ذم الكلام (257). (¬2) السير (11/ 542). (¬3) السير (12/ 130 - 133) وتهذيب الكمال (1/ 249 - 252) وتاريخ بغداد (4/ 6 - 7) وتهذيب التهذيب ... (1/ 10 - 11). (¬4) طبقات الحنابلة (1/ 18).

أحمد بن أبي الحواري الصوفي (246 هـ)

أحمد بن أبي الحواري الصوفي (246 هـ) موقفه من المبتدعة: قال سعيد بن عبد العزيز: سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول: من عمل بلا اتباع سنة فعمله باطل. (¬1) موقفه من الجهمية: - عن أبي الدحداح الدمشقي: حدثنا الحسين بن حامد أن كتاب المأمون ورد على إسحاق بن يحيى بن معاذ أمير دمشق: أن أحضر المحدثين بدمشق، فامتحنهم. قال: فأحضر هشام بن عمار، وسليمان بن عبد الرحمن، وابن ذكوان، وابن أبي الحواري، فامتحنهم امتحانا ليس بالشديد، فأجابوا خلا أحمد بن أبي الحواري، فجعل يرفق به، ويقول: أليس السماوات مخلوقة؟ أليس الأرض مخلوقة، وأحمد يأبى أن يطيعه، فسجنه في دار الحجارة، ثم أجاب بعد، فأطلقه. (¬2) عبد الله بن البسري (246 هـ) موقفه من المبتدعة: عن أحمد بن أبي الحواري قال: قال لي عبد الله بن البسري -وكان من الخاشعين ما رأيت قط أخشع منه-: ليس السنة عندنا أن ترد على أهل ¬

(¬1) السير (12/ 88) والاعتصام (1/ 127). (¬2) السير (12/ 92 - 93).

سفيان بن وكيع (247 هـ)

الأهواء ولكن السنة عندنا أن لا تكلم أحدا منهم. (¬1) سفيان بن وكيع (¬2) (247 هـ) سفيان بن وكيع بن الجراح بن مليح أبو محمد الحافظ بن الحافظ، محدث الكوفة الرؤاسي الكوفي. روى عن أبيه وعن جرير بن عبد الحميد، وحفص بن غياث، وطبقتهم فأكثر. روى عنه الترمذي، وابن ماجه، ومحمد ابن جرير وخلق. كان من أوعية العلم على لين لحقه. قال أبو حاتم بن حبان: كان سفيان شيخا فاضلا صدوقا. توفي في ربيع الآخر سنة سبع وأربعين ومائتين. موقفه من الجهمية: - أخرج عبد الله بن أحمد في السنة بسنده إلى سفيان بن وكيع قال: القرآن كلام الله وليس بمخلوق. (¬3) أبو عثمان المازني (¬4) (247 هـ) بكر بن محمد بن حبيب أبو عثمان المازني النحوي إمام العربية صاحب ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/471/ 478). (¬2) السير (12/ 152 - 153) وتهذيب الكمال (11/ 200 - 203) وتهذيب التهذيب (4/ 123 - 125) وميزان الاعتدال (2/ 173) والجرح والتعديل (4/ 231 - 232) وطبقات الحنابلة (1/ 170). (¬3) السنة لعبد الله (21). (¬4) السير (12/ 270 - 272) طبقات النحويين واللغويين (87 - 93) وكشف الظنون (1/ 412) ووفيات الأعيان (1/ 283 - 286) والعبر (1/ 222) وتاريخ بغداد (7/ 93 - 94) وشذرات الذهب (2/ 113 - 114).

موقفه من المشركين:

التصريف. أخذ عن أبي عبيدة، والأصمعي. روى عنه الحارث بن أبي أسامة، وموسى بن سهل الجوني، والمبرد ولازمه وغيرهم. قال المبرد: لم يكن أحد بعد سيبويه أعلم بالنحو من المازني. قال المازني: قرأت القرآن على يعقوب فلما ختمت رمى إلي بخاتمه وقال: خذه ليس لك مثل. قال القاضي بكار بن قتيبة: ما رأيت نحويا يشبه الفقهاء إلا حبان بن هلال والمازني. توفي سنة سبع وأربعين ومائتين. موقفه من المشركين: - ومما رواه المبرد أن بعض أهل الذمة قصده ليقرأ عليه (كتاب) سيبويه وبذل له مائة دينار في تدريسه إياه، فامتنع أبو عثمان من ذلك، قال: فقلت له: جعلت فداك، أترد هذه المنفعة مع فاقتك وشدة إضاقتك؟ فقال: إن هذا الكتاب يشتمل على ثلثمائة وكذا وكذا آية من كتاب الله عز وجل، ولست أرى أن أمكن منها ذميا غيرة على كتاب الله وحمية له. وفي معجم الأدباء: فلم يمض على ذلك مديدة حتى أرسل الواثق في طلبه، وأخلف الله عليه أضعاف ما تركه لله. (¬1) موقفه من الجهمية: - قال المبرد: كان المازني إذا ناظر أهل الكلام لم يستعن بالنحو، وإذا ناظر النحاة لم يستعن بالكلام. (¬2) ¬

(¬1) وفيات الأعيان (1/ 284)، السير (12/ 271)، ومعجم الأدباء (7/ 111). (¬2) السير (12/ 271).

أبو كريب (247 هـ)

أبو كُرَيْب (¬1) (247 هـ) أبو كريب محمد بن العلاء بن كريب الحافظ الثقة الإمام شيخ المحدثين. ولد سنة إحدى وستين ومائة. حدث عن أبي بكر بن عياش، وهشيم، ويحيى ابن أبي زائدة، وابن المبارك، وخلق كثير. روى عنه الجماعة الستة وأبو زرعة، وأبو حاتم وعدة. قال محمد بن عبد الله بن نمير: ما بالعراق أكثر حديثا من أبي كريب، ولا أعرف بحديث بلدنا منه. قال إبراهيم بن أبي طالب: قال لي محمد بن يحيى الذهلي: من أحفظ من رأيت بالعراق؟ قلت: لم أر بعد أحمد بن حنبل أحفظ من أبي كريب. وثقه النسائي وغيره وقال أبو حاتم: صدوق. مات في جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين ومائتين. موقفه من الجهمية: - قال المروذي: وسألت ابن نمير وأبا بكر بن أبي شيبة، وأبا عامر بن نزار الأشعري، وأبا كريب، وسفيان ابن وكيع، ومسروق بن المرزبان، وابن عبدة بن سليمان، وهارون بن إسحاق، وأبا سعيد بن الأشج، وأبا هاشم الرفاعي بالكوفة، وسريج بن يونس، وأبا عثمان سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي، وعبد الواحد النطري، وعباسا النرسي، فقالوا: القرآن كلام الله وليس بمخلوق. (¬2) ¬

(¬1) السير (11/ 394 - 398) وتهذيب الكمال (26/ 243 - 248) وتهذيب التهذيب (9/ 385 - 386) وطبقات ابن سعد (6/ 414) وشذرات الذهب (2/ 119). (¬2) الإبانة (2/ 12/20 - 21/ 212).

الحسين بن عيسى (247 هـ)

الحسين بن عيسى (¬1) (247 هـ) الحسين بن عيسى بن حُمْران الطائي، أبو علي الخُراساني القُومِسي، البسطامي، الدَّامَغَاني، سكن بنيسابور ومات بها. روى عن أحمد بن أبي طيبة الجرجاني، وأبي ضمرة أنس بن عياض الليثي، وجعفر بن عون، وأبي أسامة حماد بن أسامة وغيرهم. روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وأبو حاتم الرازي وأبو بكر بن خزيمة. وقال الحاكم أبو عبد الله: من كبار المحدثين وثقاتهم من أئمة أصحاب العربية. قال البخاري وابن حبان: مات سنة سبع وأربعين ومائتين. موقفه من الصوفية: - جاء في تلبيس إبليس: وأنكر أهل بسطام على أبي يزيد البسطامي ما كان يقول، حتى إنه ذكر للحسين بن عيسى أنه يقول: لي معراج كما كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - معراج، فأخرجوه من بسطام، وأقام بمكة سنتين، ثم رجع إلى جرجان، فأقام بها إلى أن مات الحسين بن عيسى ثم رجع إلى بسطام. (¬2) " التعليق: الله أكبر، إذا خلت البلاد من علماء السلف سلط الله عليها جميع البلايا، فهذا الإمام الحسين بن عيسى طرد هذا اللعين الذي ادعى لنفسه كل بلاء فقال: "سبحاني سبحاني ما أعظم شاني"، حلولي خبيث. ولكن لما مات عالم السلف فتح الباب للضلال على مصراعيه، وهكذا وقع في جميع بلاد ¬

(¬1) الجرح والتعديل (3/ 60) وتهذيب التهذيب (2/ 363) وتهذيب الكمال (6/ 460 - 462). (¬2) التلبيس (207).

أمير المؤمنين جعفر المتوكل (247 هـ)

المسلمين قديما وحديثا. أمير المؤمنين جعفر المتوكل (¬1) (247 هـ) الخليفة، أبو الفضل، جعفر بن المعتصم بالله محمد بن الرشيد هارون بن المهدي بن المنصور، القرشي العباسي البغدادي. ولد سنة خمس ومائتين وقيل سبع ومائتين، وبويع عند موت أخيه الواثق في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين. حكى عن أبيه، ويحيى بن أكثم. وكان أسمر جميلا، مليح العينين، نحيف الجسم، خفيف العارضين، ربعة، وأمه اسمها شجاع. قال خليفة بن خياط: استخلف المتوكل، فأظهر السنة، وتكلم بها في مجلسه، وكتب إلى الآفاق برفع المحنة، وبسط السنة، ونصر أهلها. وكان قاضي البصرة إبراهيم بن محمد التيمي يقول: الخلفاء ثلاثة: أبو بكر يوم الردة، وعمر بن عبد العزيز في رد المظالم من بني أمية، والمتوكل في محو البدع وإظهار السنة. وقال يزيد بن محمد المهلبي: قال لي المتوكل: إن الخلفاء كانت تتصعب على الناس ليطيعوهم، وأنا ألين لهم ليحبوني ويطيعوني. قتل ليلة الأربعاء أول الليل لأربع خلت من شوال من سنة سبع وأربعين ومائتين بالمتوكلية وهي الماحوزة. وله من العمر أربعون سنة وكانت مدة خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وثلاثة أيام، رحمه الله. ¬

(¬1) تاريخ بغداد (7/ 165 - 173) والكامل لابن الأثير (7/ 95) ووفيات الأعيان (1/ 350 - 356) وفوات الوفيات (1/ 290 - 292) والبداية والنهاية (10/ 364 - 367) وشذرات الذهب (2/ 114 - 116) والسير (12/ 30 - 41).

موقفه من المشركين:

موقفه من المشركين: - جاء في السير: وفيها -أي سنة إحدى وأربعين ومائتين- خرج ملك البجاة، وسار المصريون لحربه، فحملوا على البجاة، فنفرت جمالهم، وكانوا يقاتلون، ثم تمزقوا وقتل خلق، وجاء ملكهم بأمان إلى المتوكل، وهم يعبدون الأصنام (¬1). - وفي تاريخ ابن جرير: وفيها -أي سنة ست وثلاثين ومائتين- أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي، وهدم ما حوله من المنازل والدور، وأن يحرث ويبذر ويسقى موضع قبره، وأن يمنع الناس من إتيانه، فذكر أن عامل صاحب الشرطة نادى في الناحية: من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة بعثنا به إلى المطبق، فهرب الناس وامتنعوا من المصير إليه وحرث ذلك الموضع وزرع ما حواليه. (¬2) " التعليق: لكن ما لبث أن تولى بعده ابنه المنتصر بالله أبو جعفر فأحيى القبورية من جديد والله المستعان. جاء في السير: وذكر المسعودي أنه أزال عن الطالبيين ما كانوا فيه من الخوف والمحنة من منعهم من زيارة تربة الحسين الشهيد، ورد فدك إلى آل علي، وفي ذلك يقول البحتري: وإن عليا لأولى بكم ... وأزكى يدا عندكم من عمر وكل له فضله والحجو ... ل يوم التراهن دون الغرر ¬

(¬1) السير (12/ 37). (¬2) تاريخ الطبري (5/ 312).

موقفه من الرافضة:

وقال يزيد المهلبي: ولقد بررت الطالبية بعدما ... دفوا زمانا بعدها وزمانا ورددت ألفة هاشم فرأيتهم ... بعد العداوة بينهم إخوانا (¬1) قال ابن كثير في البداية: وفيها -أي سنة خمس وثلاثين ومائتين- خرج رجل يقال له محمود بن الفرج النيسابوري، وهو ممن كان يتردد إلى خشبة بابك وهو مصلوب فيقعد قريبا منه، وذلك بقرب دار الخلافة بسر من رأى، فادعى أنه نبي، وأنه ذو القرنين وقد اتبعه على هذه الضلالة ووافقه على هذه الجهالة جماعة قليلون، وهم تسعة وعشرون رجلا، وقد نظم لهم كلاما في مصحف له قبحه الله، زعم أن جبريل جاءه به من الله، فأخذ فرفع أمره إلى المتوكل فأمر فضرب بين يديه بالسياط، فاعترف بما نسب إليه وما هو معول عليه، وأظهر التوبة من ذلك والرجوع عنه، فأمر الخليفة كل واحد من أتباعه التسعة والعشرين أن يصفعه فصفعوه عشر صفعات، فعليه وعليهم لعنة رب الأرض والسماوات. ثم اتفق موته في يوم الأربعاء لثلاث خلون من ذي الحجة من هذه السنة. (¬2) موقفه من الرافضة: - جاء في تاريخ بغداد: عن علي بن أبي طالب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيد حسن وحسين فقال: من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معي ¬

(¬1) السير (12/ 43 - 44). (¬2) البداية والنهاية (10/ 327).

في درجتي يوم القيامة (¬1). قال أبو عبد الرحمن عبد الله: لما حدث بهذا الحديث نصر بن علي، أمر المتوكل بضربه ألف سوط، فكلمه جعفر بن عبد الواحد، وجعل يقول له: هذا الرجل من أهل السنة، ولم يزل به حتى تركه. وكان له أرزاق، فوفرها عليه موسى. قال أبو بكر الخطيب عقبه: إنما أمر المتوكل بضربه، لأنه ظنه رافضيا فلما علم أنه من أهل السنة تركه. (¬2) - وفي البداية والنهاية: وفيها -أي سنة إحدى وأربعين ومائتين- أمر الخليفة المتوكل على الله بضرب رجل من أعيان أهل بغداد، يقال له: عيسى ابن جعفر بن محمد بن عاصم، فضرب ضربا شديدا مبرحا، يقال: أنه ضرب ألف سوط حتى مات، وذلك أنه شهد عليه سبعة عشر رجلا عند قاضي الشرقية: أبى حسان الزيادي، أنه يشتم أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة رضي الله عنهم، فرفع أمره إلى الخليفة، فجاء كتاب الخليفة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين نائب بغداد، يأمره أن يضربه بين الناس حد السب، ثم يضرب بالسياط حتى يموت ويلقى في دجلة، ولا يصلى عليه ليرتدع بذلك أهل الإلحاد والمعاندة، ففعل معه ذلك قبحه الله ولعنه، ومثل هذا يكفر ان كان قد قذف عائشة بالإجماع، وفي من قذف سواها من أمهات المؤمنين قولان، والصحيح أن يكفر أيضا، لأنهن أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي ¬

(¬1) أحمد (1/ 77)، الترمذي (5/ 599 - 600/ 3727) وقال: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث جعفر بن محمد إلا من هذا الوجه". والحديث ضعفه الشيخ الألباني في ضعيف الترمذي. (¬2) تاريخ بغداد (13/ 287 - 288) والسير (12/ 135).

موقفه من الجهمية:

عنهن. (¬1) " التعليق: رحمك الله يا خليفة المسلمين، لقد عرفت خبث الروافض وما انطووا عليه من الشر والكفر، وعلمت أن هؤلاء المجوس لم يكن قصدهم كما يدعون حب آل البيت، ولكنه هدم الإسلام بكامله، وإقامة الحكومة الفرسية المجوسية مكانه. موقفه من الجهمية: مر معنا في هذا البحث المبارك ما لقيه علماء السلف من المأمون والمعتصم والواثق من المحن التي نرجو الله أن تغفر بها ذنوبهم وترفع بها درجاتهم، وكما قال الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (¬2) وبعد الشدة يأتي الفرج سنة الله في ذلك، هذا وقد ادخر الله هذه الحسنة لجعفر المتوكل، فرفع المحنة، وأطلق من كان مسجونا بالظلم، وجزى الظلمة بما يستحقون. - جاء في سير أعلام النبلاء: وفي سنة أربع وثلاثين ومائتين أظهر المتوكل السنة، وزجر عن القول بخلق القرآن وكتب بذلك إلى الأمصار، واستقدم المحدثين إلى سامراء وأجزل صِلاتِهم، ورووا أحاديث الرؤية ¬

(¬1) البداية والنهاية (10/ 338). (¬2) الشرح الآيتان (5و6).

والصفات. (¬1) - ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وكان في أيام المتوكل قد عز الإسلام، حتى ألزم أهل الذمة بالشروط العمرية وألزموا الصغار، فعزت السنة والجماعة، وقمعت الجهمية والرافضة ونحوهم. وكذلك في أيام المعتضد، والمهدي والقادر وغيرهم من الخلفاء الذين كانوا أحمد سيرة، وأحسن طريقة من غيرهم، وكان الإسلام في زمنهم أعز، وكانت السنة بحسب ذلك. (¬2) - وقال أيضا: ثم إن الله تعالى كشف الغمة عن الأمة، في ولاية المتوكل على الله، الذي جعل الله عامة خلفاء بني العباس من ذريته دون ذرية الذين أقاموا المحنة لأهل السنة. فأمر المتوكل برفع المحنة وإظهار الكتاب والسنة، وأن يُروى ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين، من الإثبات النافي للتعطيل. (¬3) - وفي السير: وغضب المتوكل على أحمد بن أبي دؤاد، وصادره، وسجن أصحابه، وحمل ستة عشر ألف ألف درهم وافتقر هو وآله. وولى يحيى بن أكثم القضاء، وأطلق من تبقى في الاعتقال ممن امتنع من القول بخلق القرآن، وأنزلت عظام أحمد بن نصر الشهيد ودفنها أقاربه. (¬4) - وفيها: قال إبراهيم نفطويه: في سنة أربع وثلاثين ومئتين أشخص ¬

(¬1) السير (12/ 34). (¬2) الفتاوى (4/ 21 - 22). (¬3) مجموع الفتاوى (11/ 479). (¬4) السير (12/ 36) والبداية (10/ 329).

المتوكل الفقهاء والمحدثين، فكان فيهم مصعب بن عبد الله الزبيري، وإسحاق ابن أبي إسرائيل، وإبراهيم بن عبد الله الهروي، وأبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة، وكانا من الحفاظ، فقسمت بينهم الجوائز، وأمرهم المتوكل أن يحدثوا بالأحاديث التي فيها الرد على المعتزلة والجهمية، قال: فجلس عثمان في مدينة المنصور، واجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفا، وجلس أبو بكر في مسجد الرصافة، وكان أشد تقدما من أخيه، اجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفا. (¬1) - وفيها: وأخذ القاضي الأصم، وحلقت لحيته، وضرب بالسياط، وطيف به على حمار. وكان جهميا ظلوما. (¬2) - قال ابن كثير في البداية: وفي عيد الفطر منها -سنة سبع وثلاثين ومائتين- أمر المتوكل بإنزال جثة أحمد بن نصر الخزاعي والجمع بين رأسه وجسده وأن يسلم إلى أوليائه، ففرح الناس بذلك فرحا شديدا، واجتمع في جنازته خلق كثير جدا، وجعلوا يتمسحون بها وبأعواد نعشه، وكان يوما مشهودا. ثم أتوا إلى الجذع الذي صلب عليه فجعلوا يتمسحون به، وأرهج العامة بذلك فرحا وسرورا، فكتب المتوكل إلى نائبه يأمره بردعهم عن تعاطي مثل هذا وعن المغالاة في البشر، ثم كتب المتوكل إلى الآفاق بالمنع من الكلام في مسألة الكلام والكف عن القول بخلق القرآن، وأن من تعلم علم الكلام لو تكلم فيه فالمطبق مأواه إلى أن يموت. وأمر الناس أن لا يشتغل أحد إلا بالكتاب والسنة لا غير، ثم أظهر إكرام الإمام أحمد بن حنبل واستدعاه ¬

(¬1) السير (11/ 125). (¬2) السير (11/ 163).

أحمد بن صالح (248 هـ)

من بغداد إليه، فاجتمع به فأكرمه وأمر له بجائزة سنية فلم يقبلها، وخلع عليه خلعة سنية من ملابسه فاستحيا منه أحمد كثيرا فلبسها إلى الموضع الذي كان نازلا فيه ثم نزعها نزعا عنيفا وهو يبكي رحمه الله تعالى. وجعل المتوكل في كل يوم يرسل إليه من طعامه الخاص ويظن أنه يأكل منه، وكان أحمد لا يأكل لهم طعاما بل كان صائما مواصلا طاويا تلك الأيام، لأنه لم يتيسر له شيء يرضى أكله، ولكن كان ابنه صالح وعبد الله يقبلان تلك الجوائز وهو لا يشعر بشيء من ذلك، ولولا أنهم أسرعوا الأوبة إلى بغداد لخشي على أحمد أن يموت جوعا، وارتفعت السنة جدا في أيام المتوكل عفا الله عنه، وكان لا يولي أحدا إلا بعد مشورة الإمام أحمد، وكان ولاية يحيى بن أكثم قضاء القضاة موضع ابن أبي دؤاد عن مشورته، وقد كان يحيى بن أكثم هذا من أئمة السنة، وعلماء الناس، ومن المعظمين للفقه والحديث واتباع الأثر. (¬1) أحمد بن صالح (¬2) (248 هـ) أحمد بن صالح الإمام الكبير، حافظ زمانه بالديار المصرية أبو جعفر المصري المعروف بابن الطبري، ولد بمصر سنة سبعين ومائة. روى عن ابن وهب وسفيان ابن عيينة وعبد الرزاق وأبي نعيم وعفان وخلق سواهم. روى عنه البخاري، وأبو داود، وأبو زرعة الرازي، والدمشقي، والدارمي، ¬

(¬1) البداية (10/ 329 - 330). (¬2) السير (12/ 160 - 177) وتهذيب الكمال (1/ 340 - 354) وتهذيب التهذيب (1/ 39 - 42) وتاريخ بغداد (4/ 195 - 202) وتذكرة الحفاظ (2/ 495 - 496) والوافي بالوفيات (6/ 424) وشذرات الذهب (2/ 117).

موقفه من المبتدعة:

وغيرهم. قال أبو زرعة الدمشقي: قدمت العراق فسألني أحمد بن حنبل من خلفت بمصر؟ قلت: أحمد بن صالح فسر بذكره وذكر خيرا ودعا الله له. قال صالح جزرة: لم يكن بمصر من يحسن الحديث غيره وكان جامعا يعرف الفقه والحديث والنحو يدري ذلك. وقال محمد بن عبد الله بن نمير: إذا جاوزت الفرات فليس أحد مثل أحمد بن صالح. قال العجلي فيه: ثقة صاحب سنة. قال البخاري: ما رأيت أحدا يتكلم فيه بحجة. وقال حافظ بن وارة: الإمام أحمد ببغداد، والنفيلي بحران، وابن نمير بالكوفة، وأحمد بن صالح بمصر هؤلاء أركان الدين. توفي في ذي القعدة سنة ثمان وأربعين ومائتين. موقفه من المبتدعة: - قال صالح بن محمد جزرة الحافظ: حضرت مجلس أحمد بن صالح، فقال: حرج على كل مبتدع وماجن أن يحضر مجلسي. (¬1) موقفه من الجهمية: - قال أبو داود: سألت أحمد بن صالح عن من قال: القرآن مخلوق، فقال: كافر. (¬2) - وقال أبو داود أيضا: سألت أحمد بن صالح المصري عن من يقول القرآن كلام الله ولا يقول مخلوق ولا غير مخلوق. قال: هذا شاك والشاك كافر. (¬3) ¬

(¬1) السير (12/ 173). (¬2) الإبانة (2/ 12/60/ 265). (¬3) السنة للخلال (5/ 141) والإبانة (1/ 12/300/ 80) والشريعة (1/ 233/205).

قال الذهبي معلقا: ومن سكت تورعا لا ينسب إليه قول، ومن سكت شاكا مزريا على السلف فهذا مبتدع. (¬1) - عن أبي داود قال: سمعت أحمد بن صالح ذكر اللفظية، فقال: هؤلاء أصحاب بدعة ويكثر عليهم أكثر من البدعة. (¬2) - وقال محمد بن موسى المصري: سألت أحمد بن صالح، فقلت: إن قوما يقولون: إن لفظنا بالقرآن غير الملفوظ، فقال: لفظنا بالقرآن هو الملفوظ، والحكاية هي المحكي، وهو كلام الله غير مخلوق، من قال: لفظي به مخلوق فهو كافر. " التعليق: قال الذهبي: إن قال: لفظي، وعنى به القرآن، فنعم، وإن قال لفظي، وقصد به تلفظي وصوتي وفعلي أنه مخلوق، فهذا مصيب، فالله تعالى خالقنا، وخالق أفعالنا وأدواتنا. ولكن الكف عن هذا هو السنة، ويكفي المرء أن يؤمن بأن القرآن العظيم كلام الله ووحيه وتنزيله على قلب نبيه، وأنه غير مخلوق، ومعلوم عند كل ذي ذهن سليم أن الجماعة إذا قرؤوا السورة، أنهم جميعهم قرؤوا شيئا واحدا، وأن أصواتهم وقراءاتهم، وحناجرهم أشياء مختلفة، فالمقروء كلام ربهم، وقراءتهم وتلفظهم ونغماتهم متابينة، ومن لم يتصور الفرق بين التلفظ وبين الملفوظ، فدعه وأعرض عنه. (¬3) ¬

(¬1) السير (12/ 177). (¬2) الإبانة (1/ 12/332/ 134). (¬3) السير (12/ 177).

هارون بن موسى بن حيان القزويني (248 هـ)

هارون بن موسى بن حيان القزويني (¬1) (248 هـ) هارون بن موسى بن حيان التميمي أبو موسى القزويني وقد ينسب إلى جده. روى عن إبراهيم بن موسى الفراء والحسن بن يوسف وعبد الرحمن بن عبد الله بن سعد الدشتكي وجماعة. روى عنه ابن ماجه وسعيد بن عمرو البرذعي وابنه موسى وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيان وغيرهم. قال عنه الحافظ أبو يعلى الخليل: مشهور بالديانة والعلم والإمامة، مات سنة ثمان وأربعين ومائتين. موقفه من الجهمية: - قال أحمد بن أبي عوف: وسمعت هارون القزويني يقول: لم أسمع أحدا من أهل العلم بالمدينة، وأهل السنن، إلا وهم ينكرون على من قال: القرآن مخلوق، ويكفرونه. قال هارون: وأنا أقول بهذه السنة. وقال لنا أحمد بن أبي عوف: وأنا أقول بمثل ما قال هارون. - قال ابن أبي عوف، وسمعت هارون يقول: من وقف على القرآن بالشك، ولم يقل غير مخلوق، فهو كمن قال: هو مخلوق. (¬2) ¬

(¬1) تهذيب الكمال (30/ 112 - 113) وتاريخ بغداد (14/ 32) وتهذيب التهذيب (11/ 13) وتاريخ الإسلام (حوادث 241 - 250/ص.517) والجرح والتعديل (9/ 88). (¬2) الشريعة (1/ 219/175).

الحسين الكرابيسي أبو علي (248 هـ)

الحسين الكرابيسي أبو علي (248 هـ) بيان جهميته: - جاء في السير: وكان من بحور العلم -ذكيا فطنا فصيحا لسنا. تصانيفه في الفروع والأصول تدل على تبحره، إلا أنه وقع بينه وبين الإمام أحمد، فهجر لذلك، وهو أول من فتق اللفظ، ولما بلغ يحيى بن معين، أنه يتكلم في أحمد قال: ما أحوجه إلى أن يضرب، وشتمه. قال حسين في القرآن: لفظي به مخلوق، فبلغ قوله أحمد فأنكره، وقال: هذه بدعة، فأوضح حسين المسألة، وقال: تلفظك بالقرآن يعني: غير الملفوظ. وقال في أحمد: أي شيء نعمل بهذا الصبي؟ إن قلنا: مخلوق: قال: بدعة، وإن قلنا: غير مخلوق. قال: بدعة. فغضب لأحمد أصحابه، ونالوا من حسين. (¬1) - وفيها: قال ابن عدي: سمعت محمد بن عبد الله الصيرفي الشافعي، يقول لتلامذته: اعتبروا بالكرابيسي، وبأبي ثور، فالحسين في علمه وحفظه لا يعشره أبو ثور، فتكلم فيه أحمد بن حنبل في باب مسألة اللفظ، فسقط، وأثنى على أبي ثور، فارتفع للزومه للسنة. " التعليق: قال الذهبي: ولا ريب أن ما ابتدعه الكرابيسي، وحرره في مسألة التلفظ، وأنه مخلوق هو حق، لكن أباه الإمام أحمد لئلا يتذرع به إلى القول بخلق القرآن، فسد الباب، لأنك لا تقدر أن تفرز التلفظ من الملفوظ الذي ¬

(¬1) السير (12/ 80 - 81).

الحسن بن الصباح بن محمد (249 هـ)

هو كلام الله إلا في ذهنك. (¬1) الحسن بن الصباح بن محمد (¬2) (249 هـ) الحسن بن الصباح بن محمد الإمام الحافظ الحجة أبو علي البغدادي المعروف بابن البزار. حدث عن سفيان بن عيينة، وأبي معاوية، ووكيع. روى عنه البخاري، وأبو داود، والترمذي. قال عنه أبو حاتم: صدوق، كانت له جلالة ببغداد. وكان أحمد بن حنبل يرفع من قدره ويجله، ويقول: ما يأتي على ابن البزار يوم إلا وهو يعمل فيه خيرا، ولقد كنا نختلف إلى فلان، فكنا نقعد نتذاكر إلى خروج الشيخ، وابن البزار قائم يصلي. وقال عنه أيضا: ثقة صاحب سنة. وقال ابن السراج: كان من خيار الناس ببغداد. توفي سنة تسع وأربعين ومائتين. موقفه من المبتدعة: - قال أبو العباس السراج: سمعت الحسن بن الصباح يقول: أدخلت على المأمون ثلاث مرات: رفع إليه أول مرة أنه يأمر بالمعروف - قال: وكان نهى أن يأمر أحد بمعروف فأخذت، فأدخلت عليه، فقال لي: أنت الحسن البزار؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: وتأمر بالمعروف؟ قلت: لا ولكني أنهى عن المنكر، قال: فرفعني على ظهر رجل، وضربني خمس درر وخلى سبيلي. وأدخلت المرة الثانية عليه، رفع إليه أني أشتم عليا رضي الله عنه، ¬

(¬1) السير (12/ 82). (¬2) السير (12/ 192) وتهذيب الكمال (6/ 191) وتاريخ بغداد (7/ 330) وتهذيب التهذيب (2/ 289).

عبد بن حميد (249 هـ)

فأدخلت، فقال: تشتم عليا؟ فقلت: صلى الله على مولاي وسيدي علي، يا أمير المؤمنين، أنا لا أشتم يزيد لأنه ابن عمك، فكيف أشتم مولاي وسيدي؟ قال: خلوا سبيله. وذهبت مرة إلى أرض الروم إلى البذندون في المحنة، فدفعت إلى أشناس. قال: فلما مات خلي سبيلي. (¬1) عبد بن حُمَيْد (¬2) (249 هـ) هو الإمام الحافظ الحجة الجوال، أبو محمد عبد بن حميد بن نصر الكِسِّي، ويقال له: الكَشِّى، يقال اسمه عبد الحميد. ولد بعد السبعين ومائة. وحدث عن علي بن عاصم الواسطي، ويزيد بن هارون وعبد الرزاق، وزيد ابن الحباب وخلق كثير. حدث عنه مسلم والترمذي، والبخاري تعليقا في دلائل النبوة، وشريح بن أبي عبد الله النسفي الزاهد، وغيرهم كثير. قال أبو حاتم البستي في كتاب 'الثقات': عبد الحميد بن حميد بن نصر الكشي، وهو الذي يقال له: عبد بن حميد، وكان ممن جمع وصنف، مات سنة تسع وأربعين ومائتين. وقال السمعاني: إمام جليل القدر ممن جمع وصنف، وكان إليه الرحلة في أقطار الأرض. وقال ياقوت: صاحب المسند وأحد أئمة الحديث. قال ابن ناصر الدين: كان من الأئمة الثقات، له التفسير والمسند وغيرهما. ¬

(¬1) السير (12/ 193). (¬2) تهذيب الكمال (18/ 524 - 527) وتهذيب التهذيب (6/ 455 - 457) وشذرات الذهب (2/ 120) والسير (12/ 235 - 239) والبداية والنهاية (11/ 5).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: - آثاره السلفية: التفسير: ذكره شيخ الإسلام وهو من التفاسير التي اعتنت بنقل مذهب السلف وعقيدتهم، ذكر ذلك في درء التعارض وغيره. (¬1) علي بن الجهم (¬2) (249 هـ) علي بن الجهم بن بدر أبو الحسن السامي الخراساني الأصل البغدادي الشاعر المشهور صاحب الديوان المعروف. قيل كان يرجع إلى دين وخير وبراعة في ضروب الشعر وله اختصاص زائد بالمتوكل. وكان جيد الشعر عالما بفنونه وكان متدينا فاضلا مطبوعا مقتدرا على الشعر عذب الألفاظ. رماه المسعودي بالنصب والانحراف عن علي رضي الله عنه، وما أوردنا له من الأبيات يوهي دعوة المسعودي، وأنها ليست بشيء. غضب عليه المتوكل فنفاه إلى خراسان وأمر نائبه بها أن يضربه مجردا ففعل به ذلك، ثم قدم الشام فلما عاد قاصدا العراق حين جاوز حلب ثار عليه أناس من بني كلب فقاتلهم فجرح جرحا بليغا فكان فيه حتفه، و ... ذلك سنة تسع وأربعين ومائتين. موقفه من الرافضة: - جاء في أصول الاعتقاد: عن إبراهيم بن صالح الشيرازي قال: نزل ¬

(¬1) درء التعارض (2/ 22). (¬2) تاريخ الإسلام (وفيات 241 - 250 ص 355 - 357) وتاريخ بغداد (11/ 367 - 369) وفيات الأعيان (3/ 355 - 358) وطبقات الحنابلة (1/ 223) والبداية والنهاية (11/ 5 - 6).

علي بن الجهم بشيراز فقال لي: أخصك بحديث؟ فقلت: افعل قال: قال لي المتوكل: يا علي هذا الحديث الذي يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: العشرة من قريش في الجنة أي حديث هو؟ قلت يا أمير المؤمنين أصح حديث، قال: فمن رواه؟ قلت: رواه سفيان الثوري عن منصور عن هلال بن يساف عن عبد الله بن ظالم عن سعيد بن زيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عشرة في الجنة (¬1): فقال: ما أحسنه قلت يا أمير المؤمنين وقد حضرني شيء فأقوله: قال: قل: فقلت: محمد خير بني النضر ... حكاه بالعدل أبو بكر صديق خير الخلق لا وانيا ... في نصره في العسر واليسر وثالث القوم الذي بعدهم ... يخلفهم في البر والبحر ذاك أبو حفص مثله ... يكون حتى آخر الدهر سبحان من أكرمهم بالتقى ... وصير الأبرار في قبر هذا هو الفخر ولا غيره ... ما بعد ذلك الرمس من فخر ورابع القوم إمام الهدى ... عثمان ذو النورين أبو عمر كفى رسول الله ما همه ... وجيش الجيش لدى العسر يخمسهم ابن أبي طالب ... إمام عدل ظاهر النصر صاحب صفين وما قبلها ... إلى حنين والى بدر وطلحة الخير لهم سادس ... أنقذه الله من الكفر وسابع القوم الزبير الذي ... كان حليف الشفع والوتر ¬

(¬1) أحمد (1/ 187) وأبو داود (5/ 39/4649) والترمذي (5/ 609/3757) وقال: "حديث حسن صحيح"، والنسائي في الكبرى (5/ 55/8190) وابن ماجه (1/ 48/133) من طرق عن سعيد بن زيد رضي الله عنه.

عبد الوهاب بن عبد الحكم الوراق (250 هـ)

هذا وسعد لهم ثامن ... مع ابن عوف طيب النثر وحمزة السيد في قومه ... على وجوه القوم كالبدر وسيد الخلق فلا تمتري ... أبو الملوك السادة الزهر فالملك فيهم أبدا ثابت ... من أول الدهر إلى الحشر قال: فضحك وأخرج ذلك اليوم مالا عظيما يعني فقسمه على بني هاشم وقريش والأنصار وأبناء المهاجرين وأعطاني منه صدرا صالحا. (¬1) عبد الوهاب بن عبد الحكم الورَّاق (¬2) (250 هـ) ابن نافع الإمام القدوة الرباني الحجة، أبو الحسن البغدادي الوراق صاحب أحمد بن حنبل وخاصته، ويقال: ابن الحكم أيضا، وهو نسائي الأصل. سمع أبا ضمرة الليثي، ويحيى بن سليم الطائفي، ومعاذ بن معاذ وطبقتهم. وروى عنه أبو داود، والترمذي، والنسائي، والبغوي، وابن صاعد، والمحاملي وعدة. قال المروذي: سمعت أحمد بن حنبل يقول: عبد الوهاب الوراق رجل صالح مثله يوفق لإصابة الحق. قال ابنه الحسن: ما رأيت أبي مازحا قط، ولا ضاحكا إلا تبسما. كان كبير الشأن من خواص الإمام أحمد. قال أبو بكر الخطيب: كان ثقة صالحا ورعا زاهدا. قال أبو بكر ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (8/ 1496 - 1498/ 2720). (¬2) تاريخ بغداد (11/ 25 - 28) والجرح والتعديل (6/ 74) وتذكرة الحفاظ (2/ 526 - 527) وتهذيب التهذيب (6/ 448) وتهذيب الكمال (18/ 497 - 501) وطبقات الحنابلة (1/ 209 - 212) والسير (12/ 323 - 324) وطبقات الحفاظ (229/ 230) والثقات لأبي حاتم البستي (8/ 411).

موقفه من المبتدعة:

بن محمد بن عبد الخالق: مات سنة خمسين ومائتين، سنة الفتنة وصلي عليه خارج الباب بعدما صلى عليه أبو أحمد الموفق ودفن بباب البردان. وقال عمر ابن أحمد بن شاهين: وجدت في كتاب جدي توفي عبد الوهاب الوراق في ذي القعدة سنة إحدى وخمسين ومائتين. موقفه من المبتدعة: - قال أبو الحسن الوراق: لا يصل العبد إلى الله إلا بالله، وبموافقة حبيبه - صلى الله عليه وسلم - في شرائعه، ومن جعل الطريق إلى الوصول في غير الاقتداء، يضل من حيث إنه مهتد. وقال: الصدق: استقامة الطريق في الدين، واتباع السنة في الشرع. وقال: علامة محبة الله متابعة حبيبه - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) موقفه من الجهمية: - جاء في الإبانة: قال أبو بكر بن صالح: سئل عبد الوهاب -يعني الوراق- عن رجل حلف بالطلاق أن لا يكلم كافرا، فكلم رجلا يقول: القرآن مخلوق، فقال: حنث. وقال: إذا حلف بالقرآن فحنث، فعليه بكل آية يمين، ففي هذا حجة قوية على الجهمية. (¬2) - وجاء في السنة عنه قال: القرآن كلام الله وليس بمخلوق. (¬3) - قال عبد الله بن أحمد: وسمعت عبد الوهاب يقول: الجهمية كفار ¬

(¬1) الاعتصام (1/ 124). (¬2) الإبانة (2/ 12/62/ 270). (¬3) السنة لعبد الله (21).

الحارث بن مسكين (250 هـ)

زنادقة مشركون. (¬1) - قال محمد بن داود: فسمعت عبد الوهاب الوراق ذكر يعقوب بن شيبة وابن الثلاج، فقال: جهمية زنادقة. (¬2) - قال أبو داود السجستاني: سألت عبد الوهاب الوراق عن الشكاك، فقال: الشكاك مرتابون. (¬3) - قال أبو جعفر محمد بن داود: وسمعت عبد الوهاب -يعني: ابن الحكم الوراق- يقول: الواقفة واللفظية والله جهمية، حلف عليها غير مرة. (¬4) - وقال: ومن زعم أن الله هاهنا فهو جهمي خبيث، إن الله فوق العرش، وعلمه محيط بالدنيا والآخرة، صح ذلك عنه. (¬5) الحارث بن مسكين (¬6) (250 هـ) الحافظ الفقيه، عالم الديار المصرية وقاضيها، أبو عمر الحارث بن مسكين بن محمد بن يوسف الأموي، مولى زبان بن عبد العزيز بن مروان الأموي. ولد سنة أربع وخمسين ومائة. رأى الليث بن سعد وسأله، وتفقه ¬

(¬1) الإبانة (2/ 13/83/ 316). (¬2) الإبانة (2/ 13/112/ 368). (¬3) الإبانة (1/ 12/306/ 95). (¬4) الإبانة (1/ 12/345/ 153). (¬5) اجتماع الجيوش الإسلامية (212) ونحوه في تذكرة الحفاظ (2/ 527). (¬6) تاريخ بغداد (8/ 216 - 218) وتهذيب الكمال (5/ 281 - 285) وسير أعلام النبلاء (12/ 54 - 58) وتاريخ الإسلام (حوادث 241 - 250/ص.210 - 215) والوافي بالوفيات (11/ 257) وتهذيب التهذيب (2/ 156 - 158) وشذرات الذهب (2/ 121).

موقفه من الرافضة:

بابن وهب وابن القاسم وروى عنهما، وعن ابن عيينة وأشهب وبشر الزهراني وعدة. وروى عنه أبو داود والنسائي وابنه أحمد بن الحارث وعبد الله ابن أحمد بن حنبل وأبو بكر بن أبي داود وأبو يعلى الموصلي. كان ثقة ثبتا في الحديث، فقيها على مذهب الإمام مالك. امتحن في فتنة خلق القرآن فلم يجب، فسجنه المأمون في بغداد، فما أطلق سراحه حتى ولي المتوكل، فكتب إليه بعهده على قضاء مصر من سنة سبع وثلاثين ومائتين إلى أن استعفي. قال ابن نصر: عرفت الحارث أيام ابن وهب على طريقة زهادة وورع وصدق حتى مات. وسئل عنه الإمام أحمد، فقال فيه قولا جميلا، وقال: ما بلغني عنه إلا خير. قال الذهبي رحمه الله: كان مع تبحره في العلم، قوالا بالحق، عديم النظير. توفي رحمه الله ليلة الأحد لثلاث بقين من شهر ربيع الأول سنة خمسين ومائتين. موقفه من الرافضة: جاء في السير: قال ابن قديد: أتاه -يعني الحارث- في سنة سبع وثلاثين كتاب توليه القضاء وهو بالأسكندرية، فامتنع فلم يزل به إخوانه حتى قبل، فقدم مصر وجلس للحكم، وضرب الحد في سب عائشة أم المؤمنين. (¬1) موقفه من الجهمية: جاء في تاريخ بغداد: قال الخطيب رحمه الله: وكان فقيها على مذهب ¬

(¬1) السير (12/ 57).

البزي (250 هـ)

مالك بن أنس، وكان ثقة في الحديث، ثبتا. حمله المأمون إلى بغداد في أيام المحنة، وسجنه لأنه لم يجب إلى القول بخلق القرآن، فلم يزل ببغداد محبوسا إلى أن ولي جعفر المتوكل، فأطلقه وأطلق جميع من كان في السجن. (¬1) البَزِّي (¬2) (250 هـ) أحمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن أبي بَزَّة أبو الحسن مقرئ مكة ومؤذنها. ولد سنة سبعين ومائة. وتلا على عكرمة بن سليمان وأبي الإخريط وابن زياد عن تلاوتهم على إسماعيل القسط صاحب ابن كثير. سمع من ابن عيينة ومالك بن سعير والمقرئ وطائفة. وعنه البخاري في التاريخ ومضر الأسدي وغيرهما. وتلا عليه خلق منهم: أبو ربيعة محمد بن إسحاق وإسحاق الخزاعي وابن الحباب وآخرون. وهو من القراء المشهورين. قال فيه ابن الجزري: أستاذ محقق ضابط متقن. توفي سنة خمسين ومائتين وكان دينا عالما صاحب سنة. موقفه من الجهمية: قال ابن أبي بزة: من قال: القرآن مخلوق، أو وقف، ومن قال: لفظي بالقرآن مخلوق، أو شيء من هذا، فهو على غير دين الله تعالى، ودين رسوله ¬

(¬1) تاريخ بغداد (8/ 216) وتذكرة الحفاظ (2/ 514). (¬2) السير (12/ 50 - 51) وميزان الاعتدال (1/ 144 - 145) وغاية النهاية في طبقات القراء (1/ 119 - 120) والبداية والنهاية (11/ 8) وشذرات الذهب (2/ 120 - 121).

أحمد بن عمرو (250 هـ)

حتى يتوب. (¬1) أحمد بن عمرو (¬2) (250 هـ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السَّرح الأُموي أبو طاهر المصري الفقيه. روى عن إبراهيم بن أبي المليح، وخالد بن نزار وسفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح وغيرهم. وعنه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم. وكان ثقة ثبتا صالحا. قال أبو سعيد بن يونس: وكان فقيها من الصالحين الأثبات. توفي يوم الاثنين لأربع عشرة خلت من ذي القعدة سنة خمسين ومائتين وصلى عليه بكار بن قتيبة. موقفه من القدرية: جاء في الإبانة: قال ابن السرح: الكلام في القدر أبو جاد الزندقة. (¬3) الرواجني الرافضي المبتدع عباد بن يعقوب أبو سعيد الأسدي (250 هـ) بيان رفضه: - جاء في السير: روى علي بن محمد الحبيبي، عن صالح جزرة، قال: ¬

(¬1) الشريعة (1/ 234). (¬2) تهذيب الكمال (1/ 415 - 417) وتهذيب التهذيب (1/ 64) والبداية والنهاية (11/ 8) وشذرات الذهب (2/ 120) والجرح والتعديل (2/ 65) والسير (12/ 62 - 63). (¬3) الإبانة (2/ 10/221/ 1797).

كان عباد يشتم عثمان، رضي الله عنه، وسمعته، يقول: الله أعدل من أن يدخل طلحة والزبير الجنة، قاتلا عليا بعد أن بايعاه. وقال ابن جرير: سمعته يقول: من لم يبرأ في صلاته كل يوم من أعداء آل محمد، حشر معهم. قلت -أي الذهبي-: هذا الكلام مبدأ الرفض، بل نكف، ونستغفر للأمة، فإن آل محمد في إيَّاهم قد عادى بعضهم بعضا واقتتلوا على الملك وتمت عظائم، فمن أيهم نبرأ؟. (¬1) - وفيها: قال محمد بن المظفر الحافظ، حدثنا القاسم المطرِّز، قال: دخلت على عباد بالكوفة، وكان يمتحن الطلبة، فقال: من حفر البحر؟ قلت: الله. قال: هو كذاك، ولكن من حفره؟ قلت: يذكر الشيخ، قال: حفره علي، فمن أجراه؟ قلت: الله. قال: هو كذاك. ولكن من أجراه؟ قلت: يفيدني الشيخ، قال: أجراه الحسين، وكان ضريرا، فرأيت سيفا وحجفة. فقلت: لمن هذا؟ قال: أعددته لأقاتل به مع المهدي. فلما فرغت من سماع ما أردت، دخلت عليه، فقال: من حفر البحر؟ قلت: حفره معاوية، رضي الله عنه، وأجراه عمرو بن العاص، ثم وثبت وعدوت فجعل يصيح: أدركوا الفاسق عدو الله، فاقتلوه. قال الذهبي رحمه الله: إسنادها صحيح. وما أدري كيف تسمحوا في الأخذ عمن هذا حاله؟ وإنما وثقوا بصدقه. (¬2) ¬

(¬1) السير (11/ 537 - 538). (¬2) السير (11/ 538) والكفاية (131 - 132).

محمد بن سهل بن عسكر (251 هـ)

محمد بن سهل بن عسكر (¬1) (251 هـ) محمد بن سهل بن عسكر بن عمارة بن دويد، ويقال ابن عسكر بن مستور التميمي، مولاهم أبو بكر البخاري، سكن بغداد. روى عن آدم بن أبي إياس، وأصبغ بن الفرج، وعبد الرزاق بن همام، ومحمد بن يوسف الفريابي وغيرهم. وروى عنه مسلم، والترمذي، والنسائي، وإبراهيم الحربي، وابن أبي عاصم، وابن أبي الدنيا، والبغوي، والطبري، وخلق آخرون. سكن بغداد. قال النسائي وأبو محمد بن عدي: ثقة. مات بها في شعبان سنة إحدى وخمسين ومائتين. موقفه من الجهمية: - قال أبو بكر: سمعت أبا بكر بن سهل بن عسكر يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق حيث تصرف، والقرآن من علم الله، ومن زعم أنه ليس من علم الله، فهو كافر، ومن قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو جهمي كافر بالله، ومن قال: إن لفظي بالقرآن غير مخلوق، فلم أر أحدا من العلماء قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، ونحن متبعون لأحمد بن حنبل في هذه المسألة، فمن خالفه، فنحن منه بريئون في الدنيا والآخرة. (¬2) ¬

(¬1) تاريخ بغداد (5/ 312) وتاريخ الإسلام (حوادث 251 - 260/ص.291) وتهذيب الكمال (25/ 325 - 327). (¬2) الإبانة (1/ 12/351 - 352/ 160).

أبو الحسن السري السقطي الصوفي (251 هـ)

أبو الحسن السري السقطي الصوفي (251 هـ) موقفه من المبتدعة: قال: عمل قليل في سنة، خير من كثير مع بدعة. كيف يقل مع عمل تقوى. (¬1) الدَّوْرَقِي (¬2) (252 هـ) يعقوب بن إبراهيم بن كثير بن زيد بن أفلح بن منصور بن مزاحم، الحافظ الإمام الحجة، أبو يوسف العبدي، القيسي مولاهم، الدورقي. ولد سنة ست وستين ومائة. حدث عن عبد العزيز بن أبي حازم وهشيم، وسفيان ابن عيينة، وعبد العزيز الدراوردي وغيرهم. وحدث عنه الستة وأخوه، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وابن خزيمة، وغيرهم. قال الخطيب: كان ثقة حافظا متقنا، صنف 'المسند'. وقال الذهبي: كان من أئمة الحديث. مات سنة اثنتين وخمسين ومائتين. موقفه من الجهمية: قال أبو بكر: سمعت يعقوب الدورقي يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، فمن زعم أنه مخلوق فهو كافر، ومن قال: لفظه بالقرآن مخلوق، فهو جهمي، ومن قال: لفظه بالقرآن غير مخلوق، فهو مبتدع محدث، يهجر ولا ¬

(¬1) الباعث (219). (¬2) طبقات ابن سعد (7/ 360) وتاريخ بغداد (14/ 277 - 280) وطبقات الحنابلة (1/ 414 - 415) وسير أعلام النبلاء (12/ 141 - 143) وتهذيب الكمال (32/ 311 - 314).

محمد بن بشار (بندار) (252 هـ)

يكلم ولا يجالس، لأن القرآن فيه صفات الله وأسماؤه، والقرآن كلام الله حيث تصرف غير مخلوق، ومن حكى عني أني رجعت عن تبديع من قال هذا، فهو كذاب. (¬1) محمد بن بشار (بُنْدَار) (¬2) (252 هـ) محمد بن بشار بن عثمان بن داود بن كيسان الإمام الحافظ، راوية الإسلام، أبو بكر العبدي البصري بندار، لقب بذلك لأنه كان بندار الحديث في عصره ببلده، والبندار الحافظ. ولد سنة سبع وستين ومائة. وحدث عن غندر ويحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، ويزيد بن هارون، ووكيع وخلق سواهم. روى عنه الستة في كتبهم، وأبو زرعة وأبو حاتم، وإبراهيم الحربي، وبقي بن مخلد، وخلق سواهم. جمع حديث البصرة ولم يرحل برا بأمه ثم رحل بعدها. قال عبد الله بن جعفر بن خاقان المروزي: سمعت بندارا يقول: أردت الخروج -يعني الرحلة- فمنعتني أمي فأطعتها فبورك لي فيه. قال ابن خزيمة: سمعت بندارا يقول: اختلفت إلى يحيى القطان -ذكر أكثر من عشرين سنة- ولو عاش بعد لكنت أسمع منه شيئا كثيرا. وقال أبو عبيد الآجري: سمعت أبا داود يقول: كتبت عن بندار نحوا من خمسين ألف ¬

(¬1) الإبانة (1/ 12/351/ 159). (¬2) تاريخ بغداد (2/ 101 - 105) والجرح والتعديل (7/ 214) وتهذيب الكمال (24/ 511 - 518) وشذرات الذهب (2/ 126) وتذكرة الحفاظ (2/ 511 - 512) وميزان الاعتدال (3/ 490 - 491) البداية والنهاية (11/ 13) وتهذيب التهذيب (9/ 70 - 73) والسير (12/ 144 - 149) والوافي بالوفيات (2/ 249).

موقفه من المبتدعة:

حديث، وكتبت عن أبي موسى شيئا، وهو أثبت من بندار، ولولا سَلاَمَةٌ في بندار تُرِكَ حديثه. قال ابن خزيمة في 'التوحيد': أخبرنا إمام أهل زمانه في العلم والأخبار محمد بن بشار. قال ابن حبان: كان يحفظ حديثه ويقرؤه من حفظه وأبو موسى من أقرانه مولدا ووفاة. مات في رجب سنة ثنتين وخمسين ومائتين. موقفه من المبتدعة: - جاء في ذم الكلام: عنه قال: وليس لأهل البدع غيبة. (¬1) موقفه من الجهمية: - جاء في الإبانة عن بندار -محمد بن بشار- وأبي موسى -محمد بن المثنى- قالا: كنا نقرأ على شيخ ضرير بالبصرة، فلما أحدثوا ببغداد القول بخلق القرآن، قال الشيخ: إن لم يكن القرآن مخلوقا، فمحا الله القرآن من صدري. قال: فلما سمعنا هذا من قوله تركناه وانصرفنا عنه، فلما كان بعد مدة لقيناه فقلنا: يا فلان ما فعل القرآن؟ قال: ما بقي في صدري منه شيء. فقلنا: ولا (قل هو الله أحد)؟ قال: ولا (قل هو الله أحد)، إلا أن أسمعها من غيري أن يقرأها. (¬2) - وفيها: قال محمد بن عمر: سمعت بندارا يقول: كان لنا جار وكان من حفاظ القرآن، فناظره رجل يوما في القرآن، فقال: إن لم يكن القرآن مخلوقا، فمحا الله ما في قلبه من القرآن. قال: فرأيته لا يحفظ من كتاب الله ¬

(¬1) ذم الكلام (176). (¬2) الإبانة (2/ 13/115 - 116/ 377) والشريعة (1/ 245/219).

هارون بن موسى (253 هـ)

شيئا، يسأل عن الآية، فيقول: هاه، هاه، معروف معروف، لا يقدر يرددها. (¬1) هارون بن موسى (¬2) (253 هـ) هارون بن موسى بن أبي علقمة، واسمه عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي فَرْوَة الفَرْوِي، أبو موسى المدني، مولى آل عثمان بن عفان. قال ابن مندة: كان مولده سنة أربع وسبعين ومائة. قال الدارقطني: هو وأبوه ثقتان. قال أبو حاتم: شيخ، قال النسائي لا بأس به. روى عن إسحاق بن محمد الفروي، وأبي ضمرة أنس بن عياض الليثي، وعبد الله بن الحارث الجمحي، وعبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون وغيرهم كثير. روى عنه الترمذي والنسائي، وأبو بكر إبراهيم بن محمد بن إسحاق بن أبي الجحيم البصري، وابنه أبو علقمة عبيد الله بن هارون بن موسى الفروي وغيرهم. قال أبو القاسم مات سنة اثنتين ويقال ثلاث وخمسين ومائتين. وقال ابن حجر: قال مسلمة: ثقة توفي سنة ثلاث وخمسين. موقفه من الجهمية: - جاء في السنة لعبد الله: عن هارون الفروي قال: القرآن كلام الله ليس بمخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر ومن شك في الواقفة فهو كافر. ¬

(¬1) الإبانة (2/ 13/116/ 378). (¬2) الجرح والتعديل (9/ 95) وتهذيب التهذيب (11/ 13 - 14) وتهذيب الكمال (30/ 113 - 115) وتاريخ الإسلام (حوادث 251 - 260/ص.360 - 361).

خشيش بن أصرم النسائي (253 هـ)

قلت لهارون: اللفظية؟ قال: هؤلاء مبتدعة ضلال. (¬1) - وجاء في أصول الاعتقاد: عن هارون بن موسى الفروي، أنه سئل عمن يقف في القرآن، فقال: مثل من يقول القرآن مخلوق. وعنه: من وقف في القرآن بالشك فهو كافر. ومن وقف بغير شك فهو مبتدع. (¬2) خُشَيْش بن أَصْرَم النسائي (¬3) (253 هـ) خشيش بن أصرم بن الأسود أبو عاصم النسائي، الحافظ الحجة، الإمام، كان صاحب سنة واتباع. روى عن روح بن عبادة، وأبي عاصم الضحاك بن مخلد النبيل، وعبد الرزاق، وعبد الله بن بكر السهمي، وطبقتهم. روى عنه أبو داود والنسائي، وأحمد بن عبد الوارث العسال، وأبو بكر بن أبي داود، ومحمد بن أحمد الهروي وآخرون. وثقه النسائي. وله رحلة واسعة إلى الحرمين ومصر والشام واليمن والعراق. توفي في رمضان سنة ثلاث وخمسين ومائتين بمصر رحمه الله تعالى. موقفه من المبتدعة: - له كتاب: الاستقامة في الرد على أهل الأهواء والبدع. (¬4) ¬

(¬1) السنة لعبد الله (40). (¬2) أصول الاعتقاد (2/ 359/528و529). (¬3) تهذيب الكمال (8/ 251 - 253) وتذكرة الحفاظ (2/ 551) وتهذيب التهذيب (3/ 142) والسير ... (12/ 250 - 251) وشذرات الذهب (2/ 129). (¬4) انظر تذكرة الحفاظ (2/ 551) وتهذيب الكمال (8/ 251) والسير (12/ 250).

موقفه من الصوفية:

وهو من مرويات ابن سليمان الروداني في كتابه صلة السلف بموصول الخلف (¬1). وقد أخذ منه الملطى في كتابه الحوادث. موقفه من الصوفية: جاء في دائرة المعارف الاسلامية: وخشيش بن أصرم وأبو زرعة وهما ممن تتلمذ لابن حنبل، يجعلان المتصوفة طائفة من الزنادقة. (¬2) " التعليق: فالصوفية لما لهم من خطر على العقيدة الاسلامية، حاربهم المتقدمون والمتأخرون. أحمد بن سعيد الدارمي (¬3) (253 هـ) الإمام العلامة الفقيه الحافظ الثبت، أبو جعفر أحمد بن سعيد بن صخر ابن سليمان الدارمي السَّرْخَسِي، خراساني ولد بسرخس سنة نيف وثمانين ومائة، ونشأ بنيسابور، ثم كان أكثر أوقاته في الرحلة لسماع الحديث. سمع من النضر بن شميل وأبي عاصم الطويل وعبد الصمد بن عبد الوارث وأحمد بن إسحاق الحضرمي، ووهب بن جرير وطبقتهم. وأكثر التطواف وتوسع في العلم وبعد صيته. حدث عنه الجماعة الستة سوى النسائي، وابن خزيمة ¬

(¬1) (ص.112). (¬2) دائرة المعارف الإسلامية (9/ 331). (¬3) تاريخ بغداد (4/ 166 - 169) وتهذيب الكمال (1/ 314 - 317) والسير (12/ 233 - 234) والجرح والتعديل (2/ 53) والبداية والنهاية (11/ 14) وشذرات الذهب (2/ 127) وتهذيب التهذيب (1/ 31 - 32) والوافي بالوفيات (6/ 390).

موقفه من الجهمية:

وخلق، وقد حدث عنه من القدماء محمد ابن المثنى الزَّمِن. أقدمه أمير خراسان عبد الله بن طاهر إلى نيسابور ليحدث بها فأقام بها مليا، ثم ولي قضاء سرخس ثم رد إلى نيسابور وبها مات. قال أبو عمرو المستملي: دخلنا عليه في مرضه فأوصى بعشرة آلاف درهم وبغلة يتصدق بها، وقال إن مت فرقيقي عنبر وفتح وحمدان وعلان أحرار لوجه الله. قال الإمام أحمد بن حنبل: ما قدم علينا خراساني أفقه بدنا من أحمد بن سعيد الدارمي. توفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وخمسين ومائتين. موقفه من الجهمية: جاء في أصول الاعتقاد عنه قال: من زعم أن لفظه بالقرآن مخلوق: فهو كافر. (¬1) يوسف بن موسى القَطَّان (¬2) (253 هـ) هو يوسف بن موسى بن راشد، الإمام المحدث، أبو يعقوب الكوفي القطان، نزيل بغداد. حدث عن جرير بن عبد الحميد، وسفيان بن عيينة، وأبي بكر بن عياش، وأحمد بن يونس وغيرهم. وحدث عنه البخاري، وأبو داود والترمذي، وابن ماجه، والنسائي خارج سننه، وخلق سواهم. كان من أوعية العلم، كتب عنه يحيى بن معين والكبار. توفي في صفر سنة ثلاث ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 389/591). (¬2) تاريخ بغداد (14/ 304 - 305) وسير أعلام النبلاء (12/ 221 - 222) وطبقات الحنابلة (1/ 421) وتهذيب الكمال (32/ 465 - 467).

موقفه من الجهمية:

وخمسين ومائتين. موقفه من الجهمية: قال الحسن بن ناصح في رواية ابن مخلد عنه: فحدثت بهذا الحديث (يعني قصة قتل خالد القسري للجعد بن درهم) يوسف القطان، فقال لي: تعرف الجعد بن درهم؟ قلت: لا. قال: هو جد جهم الذي شك في الله أربعين صباحا. (¬1) إسحاق بن حنبل أبو يعقوب (¬2) (253 هـ) هو إسحاق بن حنبل بن هلال بن أسد، أبو يعقوب الشيباني، وهو عم أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل. سمع: يزيد بن هارون، والحسين بن محمد المروذي. وروى عنه ابنه حنبل، ومحمد بن يوسف الجوهري وغيرهما. قال الخطيب: ثقة. مات سنة ثلاث وخمسين ومائتين وهو ابن أربع وتسعين. موقفه من الجهمية: قال أبو بكر المروذي: قال إسحاق بن حنبل: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو جهمي، ومن زعم أن لفظه بالقرآن غير مخلوق، فقد ابتدع، فقد نهى أبو عبد الله عن هذا، وغضب منه وقال: ما سمعت عالما قال هذا. أدركت العلماء، مثل هشيم، وأبي بكر بن عياش، وسفيان بن عيينة، فما سمعتهم قالوا هذا، وأبو عبد الله أعلم الناس بالسنة في زمانه، لقد ذب عن دين ¬

(¬1) الإبانة (2/ 13/121/ 387). (¬2) تاريخ بغداد (6/ 369) وتاريخ الإسلام (حوادث 251 - 260/ص.79).

يحيى بن المغيرة المخزومي (253 هـ)

الله، وأوذي في الله، وصبر على السراء والضراء. قال أبو يوسف: فمن حكى عن أبي عبد الله أنه قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فقد كذب، ما سمعت أبا عبد الله قال هذا، إنما قال أبو عبد الله: اللفظية جهمية. وأبو عبد الله أعلم الناس بالسنة في زمانه. (¬1) يحيى بن المغيرة المَخْزُومِي (¬2) (253 هـ) يحيى بن المغيرة بن إسماعيل بن أيوب، أبو سلمة القرشي المدني المخزومي. روى عن أنس بن عياض الليثي، وعبد الملك بن عبد العزيز الماجشون، وخالد بن عبد الرحمن المخزومي، وغيرهم. وروى عنه الترمذي، وأحمد بن أبي عون، وزكريا الساجي، وغيرهم. قال أبو حاتم: صدوق ثقة. مات سنة ثلاث وخمسين ومائتين. موقفه من الجهمية: قال يحيى -ما أدركت أحدا من علمائنا إلا وهو يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق فمن قال مخلوق فهو كافر. فهذا إجماع أهل المدينة. (¬3) ¬

(¬1) الإبانة (1/ 12/350 - 351/ 158). (¬2) تهذيب الكمال (31/ 568 - 570) وتاريخ الإسلام (حوادث 251 - 260/ص.376) وتهذيب التهذيب (11/ 288 - 289). (¬3) أصول الاعتقاد (2/ 302/480).

أبو أحمد المرار بن حمويه (254 هـ)

أبو أحمد المَرَّار بن حَمُّويَه (¬1) (254 هـ) المرار بن حمويه بن منصور أبو أحمد الثقفي الهَمَذاني. سمع من أبي نعيم، وأبي الوليد الطيالسي، والقعنبي، وطبقتهم. وحدث عنه ابن ماجه في سننه، وموسى بن هارون، وأبو عروبة الحراني، وآخرون. قال الحافظ أبو شجاع شيرويه: نزل أبو حاتم على المرار وكتب عنه، وهو قديم الموت، جليل الخطر، سأله جمهور النهاوندوي عن مسائل، وهي مدونة عنه، من نظر فيها علم محل المرار من العلم الواسع، والحفظ والإتقان والديانة. قتل المرار لما أظهر مخالفته للشيعة، في سنة أربع وخمسين ومائتين، وله أربع وخمسون سنة. موقفه من الرافضة: - قال الذهبي في سيره: وقيل: لما وقعت فتنة المعتز والمستعين كان على همذان الأميران جباخ وجغلان من قبل المعتز، فاستشار أهل همذان المرار والجرجاني في محاربتهما، فأمراهم بلزوم منازلهم، فلما أغار أصحابهما على دار سلمة بن سهل وغيرها، ورموا رجلا بسهم، أفتياهم في الحرب، وتقلد المرار سيفا، فخرج معهم، فقتل عدد كثير من الفريقين، ثم طلب مفلح المرار، فاعتصم بأهل قم. وهرب معه إبراهيم بن مسعود المحدث. فأما إبراهيم فهازلهم وقاربهم فسلم، وأما المرار، فأظهر مخالفتهم في التشيع، وكاشفهم، فأوقعوا به وقتلوه رحمه الله. (¬2) ¬

(¬1) تاريخ الإسلام (حوادث 251 - 260/ص.349 - 350) وسير أعلام النبلاء (12/ 308 - 311) وتهذيب الكمال (27/ 351 - 355) وتهذيب التهذيب (10/ 80 - 81) وشذرات الذهب (2/ 129). (¬2) السير (12/ 310).

زياد بن يحيى الحساني (254 هـ)

زياد بن يحيى الحَسَّانِي (¬1) (254 هـ) زياد بن يحيى بن زياد بن حسان، أبو الخطاب الحساني النُّكْرِي العَدَنِي، ثم البصري. روى عن سفيان بن عيينة، وأبي داود سليمان بن داود الطيالسي، ومعتمر بن سليمان، ونوح بن قيس. وروى عنه الستة، وابن أبي عاصم، وابن خزيمة، وزكريا الساجي، ومحمد بن جرير الطبري، وخلق غيرهم. وثقه أبو حاتم والنسائي. توفي رحمه الله سنة أربع وخمسين ومائتين. موقفه من القدرية: - جاء في الإبانة: عن زياد بن يحيى الحساني قال: ما فشت القدرية بالبصرة حتى فشا من أسلم من النصارى. (¬2) محمد بن منصور الطُّوسي (¬3) (254 هـ) الإمام الحافظ محمد بن منصور بن داود بن إبراهيم الطوسي أبو جعفر العابد، نزيل بغداد. روى عن أحمد بن حنبل وإسماعيل بن علية وسفيان بن عيينة، ويحيى القطان، ومعاذ بن معاذ، وآخرين. وروى عنه أبو داود، والنسائي، وأبو حاتم الرازي، وأبو عبد الله المحاملي، ومحمد بن هارون الحضرمي، وابن صاعد. قال عبد الله بن أبي داود: حدثنا محمد بن منصور ¬

(¬1) تهذيب الكمال (9/ 523) وتاريخ الإسلام (حوادث 251 - 260/ص.146 - 147) وتهذيب التهذيب (3/ 388). (¬2) الإبانة (2/ 10/219/ 1793). (¬3) حلية الأولياء (10/ 216) وتاريخ بغداد (3/ 247) وطبقات الحنابلة (1/ 318) والوافي بالوفيات (5/ 70) والمنتظم (12/ 75 - 76) وسير أعلام النبلاء (12/ 212) وتهذيب الكمال (26/ 499).

موقفه من الجهمية:

الطوسي، وكان من الأخيار. وقال أبو بكر المروذي: سألت أبا عبد الله عن محمد بن منصور الطوسي قال: لا أعلم إلا خيرا، صاحب صلاة. وقال ابن الجوزي: كان ثقة خيرا صالحا. توفي رحمه الله سنة أربع وخمسين ومائتين. موقفه من الجهمية: - قال محمد بن منصور الطوسي قال: قدم علي بن مضاء مولى لخالد القسري. حدثنا هشام بن بهرام سمعت معافى بن عمران يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق. قال هشام: وأنا أقول كما قال المعافى قال علي: وأنا أقول كما قال -يعني هشاما- قال أبو جعفر الطوسي: وأنا أقول: القرآن كلام الله غير مخلوق. (¬1) يحيى بن عثمان الحِمْصِي (¬2) (255 هـ) يحيى بن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار القرشي، أبو سليمان الرجل الصالح، أخو عمرو بن عثمان. روى عن بقية بن الوليد، ووكيع، والوليد بن مسلم، وجماعة. وروى عنه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وأبو عروبة، وأبو حاتم الرازي، وأبو بشر الدولابي وآخرون. قال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أحمد بن حنبل يقول: يحيى بن عثمان نعم الشيخ هو. وقال محمد بن عوف، رأيت أحمد بن حنبل يجله ويقدمه في الصلاة. وقال أبو حاتم: كان ¬

(¬1) السنة لعبد الله (67). (¬2) تهذيب الكمال (31/ 459) وسير أعلام النبلاء (12/ 306 - 307) وتاريخ الإسلام ... (حوادث 251 - 260/ص.371) وتهذيب التهذيب (11/ 255).

موقفه من الجهمية:

رجلا صالحا صدوقا. توفي رحمه الله تعالى سنة خمس وخمسين ومائتين. موقفه من الجهمية: - قال المروذي: سألت شجاع بن مخلد، وأحمد بن إبراهيم وأحمد بن منيع، ويحيى بن عثمان عن القرآن فقالوا: كلام الله وليس بمخلوق. (¬1) الإمام الدَّارِمِي (¬2) (255 هـ) عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام بن عبد الله، الحافظ الإمام، أحد الأعلام، أبو محمد التميمي، ثم الدارمي السمرقندي، ودارم هو ابن مالك بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم، طوف أبو محمد الأقاليم وصنف التصانيف. قال إسحاق بن إبراهيم الوراق، سمعت عبد الله بن عبد الرحمن يقول: ولدت في سنة مات ابن المبارك سنة إحدى وثمانين ومائة. حدث عن يزيد بن هارون، ويعلى بن عبيد، وجعفر بن عون والنضر بن شميل، ومسلم، وخلق كثير. وحدث عنه مسلم وأبو داود والترمذي وعبد بن حميد ومحمد ابن بشار بندار، وبقي بن مخلد وأبو زرعة وأبو حاتم وغيرهم. قال عبد الصمد بن سليمان البلخي سألت أحمد بن حنبل عن يحيى الحماني، فقال: تركناه لقول عبد الله بن عبد الرحمن، لأنه إمام. وقال محمد بن عبد الله ¬

(¬1) الإبانة (2/ 12/20/ 211). (¬2) الجرح والتعديل (5/ 99) وتاريخ بغداد (10/ 29 - 32) الأنساب (2/ 441 - 442) والسير (12/ 224 - 232) وتذكرة الحفاظ (2/ 534 - 536) وطبقات الحنابلة (1/ 188) وشذرات الذهب (2/ 130) وتهذيب الكمال (15/ 210 - 217) وتهذيب التهذيب (5/ 294 - 296) وطبقات الحفاظ (235).

موقفه من المبتدعة:

المخرّمي: يا أهل خراسان ما دام عبد الله بن عبد الرحمن بين أظهركم فلا تشتغلوا بغيره. وقال أبو حاتم بن حبان: كان الدارمي من الحفاظ المتقنين، وأهل الورع في الدين ممن حفظ وجمع، وتفقه، وصنف وحدث، وأظهر السنة ببلده، ودعا إليها، وذب عن حريمها، وقمع من خالفها. قال أبو بكر الخطيب: كان أحد الرحالين في الحديث والموصوفين بحفظه وجمعه والإتقان له، مع الثقة والصدق، والورع، والزهد، واستقضي على سمرقند، فأبى، فألح السلطان عليه حتى يقلده، وقضى قضية واحدة ثم استعفى، فأعفي، وكان على غاية العقل، ونهاية الفضل، يضرب به المثل في الديانة والحلم والرزانة، والاجتهاد والعبادة، والزهادة والتقلل وصنف المسند والتفسير والجامع. مات في سنة خمس وخمسين ومائتين يوم التروية بعد العصر ودفن يوم عرفة يوم الجمعة وهو ابن خمس وسبعين سنة. موقفه من المبتدعة: - دفاعه عن العقيدة السلفية: 'السنن' لأبي محمد الدارمي من أجود كتب السنة، وعدها بعض المحدثين سادس الكتب الستة لأهميتها في هذا الفن، وكان أول ما بدأ به أبو محمد الدارمي، كتابه 'السنن' مقدمة مهمة، بين فيها شتى المسائل من سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وطلب العلم، وكيفية ذلك، وما يتعلق بالفتوى، وركز فيها على الرد على المبتدعة واتباع السنة، فساق من الآثار عن السلف ما فيه قناعة لمن يريد الحق. فرحمة الله عليه رحمة واسعة.

موقف السلف من محمد بن كرام (255 هـ)

موقف السلف من محمد بن كرام (255 هـ) بيان إرجائه: - جاء في البداية: أقام ببيت المقدس أربع سنين، وكان يجلس للوعظ عند العمود الذي عند مشهد عيسى عليه السلام واجتمع عليه خلق كثير ثم تبين لهم أنه يقول: إن الإيمان قول بلا عمل فتركه أهلها ونفاه متوليها إلى غور زغر فمات بها، ونقل إلى بيت المقدس. مات في صفر من هذه السنة. (¬1) - وقال محمد بن أسلم الطوسي: لم تعرج كلمة إلى السماء أعظم ولا أخبث من ثلاث: أولهن قول فرعون حيث قال: أنا ربكم الأعلى، والثانية: قول بشر المريسي حيث قال: القرآن مخلوق. والثالثة: قول محمد بن كرام حيث قال: المعرفة ليست من الإيمان. (¬2) - وقال أبو العباس السراج: شهدت أبا عبد الله البخاري، ودفع إليه كتاب من محمد بن كرام يسأله عن أحاديث منها: الزهري، عن سالم، عن أبيه، رفعه: (الإيمان لا يزيد ولا ينقص). فكتب على ظهر كتابه: من حدث بهذا استوجب الضرب الشديد والحبس الطويل. (¬3) وللحسين بن إبراهيم الجوزقاني موقف طيب منه سيأتي ذكره في سنة (543هـ). ¬

(¬1) البداية والنهاية (11/ 23). (¬2) الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير للجوزقاني (ص.138). (¬3) تاريخ الإسلام للذهبي حوادث ووفيات (251 - 260/ 314).

موقف السلف من الجاحظ المعتزلي وبيان سوء عقيدته (255 هـ)

موقف السلف من الجاحظ المعتزلي وبيان سوء عقيدته (255 هـ) بيان اعتزاله: - جاء في البداية والنهاية: وإليه تنسب الفرقة الجاحظية (¬1)، لجحوظ عينيه، ويقال له: الحدقى. وكان شنيع المنظر، سيء المخبر رديء الاعتقاد. ينسب إلى البدع والضلالات، وربما جاز به بعضهم إلى الانحلال، حتى قيل في المثل: يا ويح من كفره الجاحظ. (¬2) الإمام البخاري (¬3) (256 هـ) محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبَه (وقيل بذدزبه) وقيل ابن الأحنف الجعفي مولاهم، أبو عبد الله بن أبي الحسن البخاري الإمام الحافظ الحجة إمام هذا الشأن والمقتدى به فيه والمعول على كتابه بين أهل الإسلام. رحل في طلب الحديث إلى سائر محدثي الأمصار، وكتب بخراسان والجبال ومدن العراق كلها، وبالحجاز والشام ومصر. روى عن عدة منهم إبراهيم بن حمزة الزبيري، وأحمد ابن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وعلي بن المديني، وابن دكين وكتب عن أكثر من ألف ¬

(¬1) فرقة من فرق المعتزلة. (¬2) البداية والنهاية (11/ 22). (¬3) تهذيب الكمال (24/ 430 - 467) وتاريخ بغداد (2/ 4 - 33) والجرح والتعديل (7/ 191) ووفيات الأعيان (4/ 188 - 191) وشذرات الذهب (2/ 134 - 136) وتذكرة الحفاظ (2/ 555 - 556) والسير (12/ 391 - 471) والبداية (11/ 27 - 31) والوافي بالوفيات (2/ 206 - 209).

موقفه من المبتدعة:

شيخ. روى عنه الكثير جاوز المائة منهم من روى الصحيح وغيره. فروى عنه الترمذي، وإبراهيم الحربي، والحسين المحاملي وأبو حاتم الرازي وابن خزيمة وأبو أحمد محمد بن سليمان بن فارس راوية 'التاريخ الكبير' والنسائي وغيرهم كثير، وروى عنه مسلم في غير الصحيح. أثنى عليه كل العلماء في جميع البلدان وقدموه على أنفسهم. وكان شيخا نحيف الجسم ليس بالطويل ولا بالقصير ولد يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر شوال سنة أربع وتسعين ومائة، وتوفي ليلة السبت عند صلاة العشاء ليلة الفطر، ودفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر يوم السبت لغرة شوال من سنة ست وخمسين ومائتين، عاش اثنتين وستين سنة إلا ثلاثة عشر يوما. قال أحمد بن سيار: أبو عبد الله طلب العلم وجالس الناس ورحل في الحديث ومهر فيه وأبصر وكان حسن المعرفة حسن الحفظ وكان يتفقه. ألف التاريخ والصحيح والأجزاء منها: القراءة خلف الإمام، خلق أفعال العباد، الأدب المفرد، وغيرها. قال يعقوب الدورقي: محمد ابن إسماعيل فقيه هذه الأمة. قال حاتم بن مالك الوراق: سمعت علماء مكة يقولون: محمد بن إسماعيل إمامنا وفقيهنا وفقيه خراسان. قال أبو بكر ابن خزيمة: ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحفظ له من محمد ابن إسماعيل. نالته محنة في أواخر أيامه، وقصته مع محمد بن يحيى الذهلي مشهورة ومعروفة، رحم الله الجميع، وغفر لنا ولهم. موقفه من المبتدعة: من قرأ كتب أبي عبد الله الإمام البخاري رضي الله عنه، يحس بنفس

قوي، وعزيمة عظيمة، مع ما أوتيه من العلم الواسع والنظر الدقيق تجاه مبتدعة أهل زمانه. فالقارئ له يحس أن الإمام يكاد قلبه يتفطر من كثرة تلبيساتهم وتلاعبهم بدين الله. وقد ترك رحمه الله تراثا عظيما خالدا يعرفه أهل المشرق والمغرب. ألف البخاري كتابه 'الصحيح'، ولم يخله من بيان العقيدة السلفية الصحيحة، والرد على المبتدعة على اختلاف أنواعهم. فعقد ثاني كتاب من صحيحه وهو 'كتاب الإيمان'، للرد على المرجئة، وجعله مكونا من اثنين وأربعين بابا فيها من الأحاديث والآثار السلفية والاستنباطات الفقهية ما يدل على علم غزير، واطلاع واسع وفهم ثاقب. بين دخول الأعمال في الإيمان، ولولا خشية الإطالة لذكرتها بابا بابا، ملخصا لذلك، وموضحا. وأكتفي بالإشارة إلى ذلك. والكتاب الثاني، وهو السادس والتسعون من كتب البخاري وهو كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، جعله مكونا من ثمانية وعشرين بابا، وهذا الكتاب وما يحتوي عليه من الأبواب يصلح ردا على جميع المبتدعة. وقد أبان فيه البخاري على غزارة علم، واستنباط عجيب، مما لو قرأه طالب الحق لوجد منشودته فيه ولكن المبتدعة لا يقرءون مثل هذه الكتب، وإن قرءوها فعلى سبيل التبرك وان وجد منهم من عنده بعض العلم حرفها. وأما الكتاب الثالث فهو الكتاب السابع والتسعون من كتاب البخاري وهو الأخير من كتب صحيح البخاري سماه 'كتاب التوحيد والرد على الجهمية'، مكونا من ثمانية وخمسين بابا رد فيها على جميع شبه الجهمية

وفروخهم، وقد لخصه العلامة ابن القيم في كتابه العظيم: 'اجتماع الجيوش الإسلامية'. وهذه الطريقة الحميدة، لم يتفرد بها البخاري رحمه الله وحده، بل شاركه إخوانه من المحدثين، من أصحاب الكتب الستة وغيرهم، ما من أحد منهم إلا وساق في كتابه من الأحاديث، ما يرد به على المبتدعة، فمنهم من أفرد كتبا خاصة، ومنهم من ساقها تبعا. وسنبين عند ذكر كل واحد منهم مقدار دفاعه عن العقيدة السلفية ووقوفه ضد المبتدعة. وأما كتاب 'خلق أفعال العباد'، فهو كتاب عظيم جليل، اتخذه الناس مرجعا لهم في كتبهم، وقد نقل البيهقي في الأسماء والصفات معظمه، وغيره ممن جاء بعده، وقد طبع الكتاب، ولله الحمد طبعات متعددة، إما منفردا أو مع مجموعة من عقائد السلف. من أقواله رضي الله عنه في الرد على المبتدعة: - جاء في السير: وقال محمد بن أبي حاتم: سمعته يقول: لا أعلم شيئا يحتاج إليه إلا وهو في الكتاب والسنة. فقلت له: يمكن معرفة ذلك كله؟ قال نعم. (¬1) " التعليق: وقد حاول الإمام البخاري تطبيق هذه القولة في كتابه الصحيح، فقد حاول أن يذكر فيه أغرب المسائل التي اختلف فيها الفقهاء، واستعملوا في ¬

(¬1) السير (12/ 412).

أدلتها غير نصي القرآن والسنة، فجذب لها هو من الأدلة والآثار السلفية ما يراه حجة، وبوب أبوابا حيرت قرونا كثيرة، طبقها على القرآن والسنة، وقد صرح ابن خلدون في مقدمته، أن كتاب البخاري ما يزال دينا على المسلمين - يعني شرحه والكشف عن غوامضه. وقد خصت تراجم كتابه بمؤلفات مستقلة، لأهميتها الفقهية ولغموضها في الاستنباط من الكتاب والسنة. ومحاولة الحافظ ابن حجر كانت موفقة جدا، ساعده سعة اطلاعه والاستنارة بشروح غيره. وقد حمل لواء هذا القول: الحافظ الإمام الكبير أبو محمد بن حزم في كتابه الإيصال. ومختصره المحلى نموذج لذلك. جاء في كتاب الاعتصام من صحيح البخاري: (باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين والبدع). (¬1) - وفيه: باب: {وكذلك جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسطًا} (¬2): وما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلزوم الجماعة وهم أهل العلم. (¬3) - وفي شرف أصحاب الحديث: بالسند إلى محمد بن إسماعيل البخاري وذكر حديث موسى بن عقبة عن أبي الزبير عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تزال طائفة من أمتي ... " (¬4) فقال البخاري يعني أصحاب الحديث. (¬5) ¬

(¬1) الفتح (13/ 275). (¬2) البقرة الآية (143). (¬3) الفتح (13/ 316). (¬4) أحمد (4/ 244) والبخاري (13/ 542/7459) ومسلم (3/ 1523/1921) من حديث المغيرة بن شعبة. وفي الباب عن ثوبان ومعاوية وجابر بن سمرة وجابر بن عبد الله وعقبة بن عامر وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين. (¬5) شرف أصحاب الحديث (27).

موقفه من الرافضة:

- قال ابن القيم في الصواعق: قال البخاري: كان الصحابة إذا جلسوا يتذاكرون كتاب ربهم وسنة نبيهم ولم يكن بينهم رأي ولا قياس. (¬1) موقفه من الرافضة: - قال البخاري في خلق أفعال العباد: ما أبالي صليت خلف الجهمي أو الرافضي أو صليت خلف اليهود والنصارى ولا يسلم عليهم ولا يعادون ولا يناكحون ولا يشهدون ولا تؤكل ذبائحهم. (¬2) موقفه من الصوفية: - جاء في مجموع الفتاوى: وسئل البخاري عن الخضر وإلياس: هل هما في الأحياء؟ فقال: كيف يكون هذا وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو على وجه الأرض أحد" (¬3)؟. (¬4) موقفه من الجهمية: الإمام البخاري ودفاعه عن العقيدة السلفية: - جاء في أصول الاعتقاد عنه قال: لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم، أهل الحجاز ومكة والمدينة والكوفة والبصرة وواسط وبغداد والشام ومصر، لقيتهم كرات قرنا بعد قرن ثم قرنا بعد قرن أدركتهم وهم متوافرون منذ أكثر من ست وأربعين سنة، أهل الشام ومصر والجزيرة مرتين، والبصرة ¬

(¬1) مختصر الصواعق (ص.512). (¬2) خلق أفعال العباد (ص.16). (¬3) أحمد (2/ 88) والبخاري (1/ 281 - 282/ 116) ومسلم (4/ 1965/2537) وأبو داود (4/ 516/4348) والترمذي (4/ 451/2251) والنسائي في الكبرى (3/ 441/5871) من حديث ابن عمر. (¬4) الفتاوى (4/ 337 (.

أربع مرات، في سنين ذوي عدد، بالحجاز ستة أعوام، ولا أحصي كم دخلت الكوفة وبغداد مع محدثي أهل خراسان، منهم: المكي بن إبراهيم، ويحيى بن يحيى، وعلي بن الحسن بن شقيق وقتيبة بن سعيد وشهاب بن معمر. وبالشام: محمد بن يوسف الفريابي وأبا مسهر عبد الأعلى بن مسهر وأبا المغيرة عبد القدوس بن الحجاج، وأبا اليمان الحكم بن نافع ومن بعدهم عدة كثيرة. وبمصر: يحيى بن كثير وأبا صالح كاتب الليث بن سعد وسعيد بن أبي مريم وأصبغ بن الفرج ونعيم بن حماد. وبمكة عبد الله بن يزيد المقري، والحميدي وسليمان بن حرب قاضي مكة وأحمد بن محمد الأزرقى. وبالمدينة: إسماعيل بن أبي أويس ومطرف بن عبد الله وعبد الله بن نافع الزبيري، وأحمد بن أبي بكر أبا مصعب الزهري وإبراهيم بن حمزة الزبيري وإبراهيم بن المنذر الحزامي. وبالبصرة أبا عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني، وأبا الوليد هشام بن عبد الملك، والحجاج بن المنهال، وعلي بن عبد الله بن جعفر بن المديني. وبالكوفة: أبا نعيم الفضل بن دكين وعبيد الله بن موسى وأحمد بن يونس وقبيصة بن عقبة وابن نمير وعبد الله وعثمان ابنا أبي شيبة. وببغداد: أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبا معمر وأبا خيثمة وأبا عبيد القاسم بن سلام.

ومن أهل الجزيرة: عمرو بن خالد الحراني. وبواسط: عمرو بن عون وعاصم بن علي بن عاصم. وبمرو: صدقة بن الفضل وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي. واكتفينا بتسمية هؤلاء، كي يكون مختصرا وأن لا يطول ذلك فما رأيت واحدا منهم يختلف في هذه الأشياء: إن الدين قول وعمل، وذلك لقول الله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (¬1). وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، لقوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} (¬2). قال أبو عبد الله محمد بن إسماعيل قال ابن عيينة: فبين الله الخلق من الأمر لقوله: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬3). ¬

(¬1) البينة الآية (5). (¬2) الأعراف الآية (54). (¬3) الأعراف الآية (54).

وأن الخير والشر بقدر الله لقوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} (¬1) ولقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (¬2) ولقوله: {إنا كل شيءٍ خلقناه بقدر} (¬3) ولم يكونوا يكفرون أحدا من أهل القبلة بالذنب لقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬4). وما رأيت فيهم أحدا يتناول أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، قالت عائشة: أمروا أن يستغفروا لهم وذلك لقوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (¬5). وكانوا ينهون عن البدع ما لم يكن عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ ولا تَفَرَّقُوا} (¬6) ولقوله: {وَإِنْ تطيعوه ¬

(¬1) الفلق الآيتان (1و2). (¬2) الصافات الآية (96). (¬3) القمر الآية (49). (¬4) النساء الآية (48). (¬5) الحشر الآية (10). (¬6) آل عمران الآية (103).

تهتدوا} (¬1) ويحثون على ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه لقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬2). وأن لا ننازع الأمر أهله، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، وطاعة ولاة الأمر، ولزوم جماعتهم، فان دعوتهم تحيط من ورائهم" (¬3) ثم أكد في قوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (¬4) وأن لا يرى السيف على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقال الفضيل: لو كانت لي دعوة مستجابة لم أجعلها إلا في إمام، لأنه إذا صلح الإمام أمن البلاد والعباد. قال ابن المبارك: يا معلم الخير، من يجترئ على هذا غيرك. (¬5) " التعليق: هؤلاء الذين ذكرهم البخاري في هذه العقيدة، هم حملة الحديث والعلم والفقه بحيث لو هلكوا جميعا ما بقي من يقول قال الله وقال رسوله ¬

(¬1) النور الآية (54). (¬2) الأنعام الآية (153). (¬3) أخرجه: أحمد (5/ 183) وابن ماجه (1/ 84/230) وابن حبان (1/ 270/67) من حديث زيد بن ثابت. وأخرجه أبو داود (4/ 68 - 69/ 3660) والترمذي (5/ 33/2656) والنسائي في الكبرى (3/ 431/5847) دون ذكر موضع الشاهد. (¬4) النساء الآية (59). (¬5) أصول الاعتقاد (1/ 193 - 197/ 320).

ولكن الله تكفل بحفظ دينه، فكان كل واحد منهم عمدة في مصره ومرجعا في فتواه وتعليمه. ولم يبق إلا شذاذ المبتدعة الذين حملوا اتجاهات مختلفة، إما اتجاه شيعي رافضي وإما جهمي هالك غارق في ضلاله، وإما قدري متحير زائغ، وإما مخرف صوفي، فضل ما عند الهنود والفرس والرهبان النصارى. فيرمي الإمام البخاري في هذا السرد إلى ما ذكرنا والله يجزيه ويثيبه ويسكنه أفضل جنانه وجامع هذه المعلومات وقارئها. - جاء في أصول الاعتقاد: عن محمد بن يوسف بن مطر قال: سألت محمد ابن إسماعيل البخاري فقال: القرآن كلام الله غير مخلوق فمن قال مخلوق فهو كافر. (¬1) - وفيه: عن إبراهيم بن محمد قال: أنا توليت دفن محمد بن إسماعيل البخاري لما مات بخرتنك فأردت حمله إلى سمرقند أن أدفنه بها فلم يتركني صاحب لنا من أهل (شكخشكت) فدفناه بها فلما أن أفرغنا ورجعت إلى المنزل الذي كنت فيه قال لي صاحب القصر سألته أمس فقلت يا أبا عبد الله: ما تقول في القرآن؟ فقال: القرآن كلام الله غير مخلوق. فقلت له: إن الناس يزعمون أنك تقول: ليس في المصحف قرآن ولا في صدور الناس. فقال: أستغفر الله أن تشهد علي بما لم تسمعه مني. إني أقول كما قال الله: ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 296/468).

{وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} (¬1). أقول: في المصاحف قرآن وفي صدور الرجال قرآن فمن قال غير هذا، يستتاب فإن تاب وإلا سبيله سبيل الكفر. (¬2) - وفيه: عن أحمد بن نصر بن إبراهيم النيسابوري -المعروف بالخفاف- ببخارى قال: كنا يوما عند أبي إسحاق القرشي ومعنا محمد بن نصر المروزي فجرى ذكر محمد بن إسماعيل فقال محمد بن نصر: سمعته يقول: من زعم أني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب فإني لم أقله. فقلت له يا أبا عبد الله: فقد خاض الناس في هذا وأكثروا فيه. فقال: ليس إلا ما أقول وأحكي لك عنه. قال أبو عمرو الخفاف: فأتيت محمد بن إسماعيل فناظرته في شيء من الحديث حتى طابت نفسه. فقلت له: يا أبا عبد الله هاهنا رجل يحكي عنك أنك قلت هذه المقالة؟ فقال لي: يا أبا عمرو احفظ ما أقول: من زعم من أهل نيسابور وقومس والري وهمذان وحلوان وبغداد والكوفة والمدينة ومكة والبصرة أني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب فإني لم أقل هذه المقالة إلا أني قلت: أفعال العباد مخلوقة. (¬3) - قال البخاري في صحيحه: باب قول الله تعالى: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا ¬

الطور الآيتان (1 - 2). (¬2) أصول الاعتقاد (2/ 395 - 396/ 610) وتاريخ بغداد (2/ 32) والطبقات (1/ 278). (¬3) أصول الاعتقاد (2/ 396 - 397/ 611) وتاريخ بغداد (2/ 32).

مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (¬1) ولم يقل ماذا خلق ربكم. (¬2) - قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وصرح البخاري بأن أصوات العباد مخلوقة وأن أحمد لا يخالف ذلك، فقال في كتاب خلق أفعال العباد ما يدعونه عن أحمد ليس الكثير منه بالبين ولكنهم لم يفهموا مراده ومذهبه، والمعروف عن أحمد وأهل العلم أن كلام الله تعالى غير مخلوق، وما سواه مخلوق لكنهم كرهوا التنقيب عن الأشياء الغامضة وتجنبوا الخوض فيها والتنازع إلا ما بينه الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم نقل عن بعض أهل عصره أنه قال: القرآن بألفاظنا وألفاظنا بالقرآن شيء واحد، فالتلاوة هي المتلو والقراءة هي المقروء، قال: فقيل له إن التلاوة فعل التالي، فقال: ظننتها مصدرين، قال: فقيل له أرسل إلى من كتب عنك ما قلت؟ فاسترده فقال: كيف وقد مضى؟ انتهى. (¬3) - قال محمد بن إسماعيل البخاري: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: أنا رجل مبتلى، قد ابتليت أن لا أقول لك، ولكن أقول: فإن أنكرت شيئا فردني عنه: القرآن من أوله إلى آخره كلام الله، ليس شيء منه مخلوق. ومن قال: إنه مخلوق، أو شيء منه مخلوق: فهو كافر. ومن زعم أن لفظه ¬

(¬1) سبأ الآية (23). (¬2) الفتح (13/ 452). (¬3) الفتح (13/ 493).

بالقرآن مخلوق: فهو جهمي كافر؟ قال: نعم. (¬1) - وقال الحافظ أيضا: قال البخاري والقرآن كلام الله غير مخلوق، ثم ساق الكلام على ذلك إلى أن قال: سمعت عبيد الله بن سعيد يقول سمعت يحيى بن سعيد يعني القطان يقول مازلت أسمع أصحابنا يقولون إن أفعال العباد مخلوقة، قال البخاري حركاتهم وأصواتهم وأكسابهم وكتابتهم مخلوقة، فأما القرآن المتلو المبين المثبت في المصاحف المسطور المكتوب الموعى في القلوب فهو كلام الله ليس بخلق قال: وقال إسحاق بن إبراهيم يعني ابن راهويه فأما الأوعية فمن يشك في خلقها، قال البخاري فالمداد والورق ونحوه خلق، وأنت تكتب الله فالله في ذاته هو الخالق وخطك من فعلك وهو خلق لأن كل شيء دون الله هو بصنعه، ثم ساق حديث حذيفة رفعه: إن الله يصنع كل صانع وصنعته (¬2)، وهو حديث صحيح. (¬3) - وقال أيضا: قال البخاري في كتاب 'خلق أفعال العباد': خلق الله الخلق بأمره، لقوله تعالى: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بعد} (¬4) ولقوله: {إِنَّمَا ¬

(¬1) الطبقات (1/ 278). (¬2) أخرجه: البخاري في خلق أفعال العباد (92) وابن أبي عاصم في السنة (1/ 158/357 - 358)، البزار "البحر الزخار" (7/ 258/2837)، الحاكم (1/ 31 - 32) من حديث حذيفة مرفوعا، وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي. وصححه ابن حجر في الفتح (13/ 609) وقال الهيثمي في المجمع (7/ 197): "رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير أحمد بن عبد الله أبي الحسين بن الكردي وهو ثقة". (¬3) الفتح (13/ 498). (¬4) الروم الآية (4).

{قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬1) ولقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} (¬2) قال: وتواترت الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن القرآن كلام الله وأن أمر الله قبل مخلوقاته، قال ولم يذكر عن أحد من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان خلاف ذلك وهم الذين أدوا إلينا الكتاب والسنة قرنا بعد قرن، ولم يكن بين أحد من أهل العلم في ذلك خلاف إلى زمان مالك والثوري وحماد وفقهاء الأمصار ومضى على ذلك من أدركنا من علماء الحرمين والعراقين والشام ومصر وخراسان. (¬3) - قال شيخ الإسلام رحمه الله: وكذلك البخاري صاحب 'الصحيح' وسائر الأئمة أنكروا ذلك أيضا (أي مسئلة أن الله لم يتكلم بصوت)، وروى البخاري في آخر 'الصحيح' وفي 'كتاب خلق الأفعال' ما جاء في ذلك من الآثار، وبين الفرق بين صوت الله الذي يتكلم به وبين أصوات العباد بالقرآن. (¬4) - وجاء في شرح السنة: قال محمد بن إسماعيل الجعفي البخاري: نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس، فما رأيت قوما أضل في كفرهم ¬

(¬1) النحل الآية (40). (¬2) الروم الآية (25). (¬3) الفتح (13/ 533). (¬4) مجموع الفتاوى (12/ 369).

موقفه من الخوارج:

من الجهمية، وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم. (¬1) موقفه من الخوارج: ضمن صحيحه كتابا حافلا أسماه 'استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم'، وأورد فيه بابين في الخوارج. - فقال: باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم، وقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} (¬2) وكان ابن عمر يراهم شرار خلق الله، وقال: إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين. أورد ضمنهم حديث علي في قتال الخوارج وحديث أبي سعيد الخدري وحديث عبد الله بن عمرو. (¬3) - وقال أيضا: باب من ترك قتال الخوارج للتألف ولئلا ينفر الناس عنه. حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا هشام أخبرنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي سعيد قال: بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسم جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل؟ قال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنقه. قال: دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق ¬

(¬1) شرح السنة للبغوي (1/ 228) وخلق أفعال العباد (13) والفتاوى الكبرى (5/ 47). (¬2) التوبة الآية (115). (¬3) الفتح (12/ 350/6930 - 6932).

السهم من الرمية، ينظر في قذذه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في نضيه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم. آيتهم رجل إحدى يديه -أو قال ثدييه- مثل ثدي المرأة، أو قال: مثل البضعة تدردر. يخرجون على حين فرقة من الناس. قال أبو سعيد: أشهد سمعت من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن عليا قتلهم وأنا معه، جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: فنزلت فيه {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} (¬1) قال الحافظ: قال الإسماعيلي: الترجمة في ترك قتال الخوارج والحديث في ترك القتل للمنفرد والجميع إذا أظهروا رأيهم ونصبوا للناس القتال وجب قتالهم، وإنما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل المذكور لأنه لم يكن أظهر ما يستدل به على ما وراءه، فلو قتل من ظاهره الصلاح عند الناس قبل استحكام أمر الإسلام ورسوخه في القلوب لنفرهم عن الدخول في الإسلام، وأما بعده - صلى الله عليه وسلم - فلا يجوز ترك قتالهم إذا هم أظهروا رأيهم وتركوا الجماعة وخالفوا الأئمة مع القدرة على قتالهم. قلت: وليس في الترجمة ما يخالف ذلك، إلا أنه أشار إلى أنه لو اتفقت حالة مثل حالة المذكور فاعتقدت فرقة مذهب الخوارج مثلا ولم ينصبوا حربا أنه يجوز للإمام الإعراض عنهم إذا رأى المصلحة في ذلك كأن يخشى أنه لو تعرض للفرقة المذكورة لأظهر من يخفي مثل اعتقادهم أمره وناضل عنهم فيكون ذلك سببا لخروجهم ونصبهم القتال للمسلمين مع ما ¬

(¬1) التوبة (58).

موقفه من المرجئة:

عرف من شدة الخوارج في القتال وثباتهم وإقدامهم على الموت، ومن تأمل ما ذكر أهل الأخبار من أمورهم تحقق ذلك، وقد ذكر ابن بطال عن المهلب قال: التألف إنما كان في أول الإسلام إذ كانت الحاجة ماسة لذلك لدفع مضرتهم، فأما إذ أعلى الله الإسلام فلا يجب التألف إلا أن تنزل بالناس حاجة لذلك فلإمام الوقت ذلك. (¬1) موقفه من المرجئة: - عن محمد بن يوسف بن مطر قال: سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن الإيمان فقال: قول وعمل بلا شك. (¬2) - عن الحسين بن محمد بن الوضاح ومكي بن خلف بن عفان قالا: سمعنا محمد بن إسماعيل يقول: كتبت عن ألف نفر من العلماء وزيادة ولم أكتب إلا عن من قال: الإيمان قول وعمل ولم أكتب عن من قال: الإيمان قول. (¬3) - وقال رحمه الله في عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد: كان يرى الإرجاء، كان الحميدي يتكلم فيه. (¬4) - وكتاب الإيمان من صحيحه إنما وضعه رحمه الله ردا على المرجئة، فركز في جملة أبوابه على دخول الأعمال في مسمى الإيمان. وأول ما افتتح به ¬

(¬1) الفتح (12/ 360 - 361). (¬2) أصول الاعتقاد (5/ 959/1598). (¬3) أصول الاعتقاد (5/ 959/1597). (¬4) تهذيب الكمال (18/ 274).

كتاب الإيمان قوله: باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بني الإسلام على خمس" (¬1). وهو قول وفعل، ويزيد وينقص. قال الله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} (¬2) {وزدناهم هدًى} (¬3) {ويزيد الله الذين اهتدوا هدًى} (¬4) {وَالَّذِينَ اهتدوا زادهم هدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} (¬5) {ويزداد الَّذِينَ آَمَنُوا إيمانًا} (¬6) وقوله: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} (¬7) وقوله جل ذكره: {فَاخْشَوْهُمْ فزادهم إيمانًا} (¬8) وقوله تعالى: {وما زادهم إلا إيمانًا وتسليمًا} (¬9). والحب في الله والبغض في الله من الإيمان. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي: إن للإيمان فرائض وشرائع وحدودا وسننا، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان. فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمت فما ¬

(¬1) أحمد (2/ 143) والبخاري (1/ 67 - 68/ 8) ومسلم (1/ 45/16) والترمذي (5/ 7/2609) والنسائي ... (8/ 481 - 482/ 5016) عن ابن عمر. (¬2) الفتح الآية (4). (¬3) الكهف الآية (13). (¬4) مريم الآية (76). (¬5) محمد الآية (17). (¬6) المدثر الآية (31). (¬7) التوبة الآية (124). (¬8) آل عمران الآية (173). (¬9) الأحزاب الآية (22).

أنا على صحبتكم بحريص (¬1). وقال إبراهيم: {وَلَكِنْ ليطمئن قَلْبِي} (¬2). وقال معاذ: اجلس بنا نؤمن ساعة (¬3). وقال ابن مسعود: اليقين الإيمان كله (¬4). وقال ابن عمر: لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك في الصدر (¬5). وقال مجاهد: {شرع لكم ... } (¬6): أوصيناك يا محمد وإياه دينا واحدا. وقال ابن عباس: {شرعةً وَمِنْهَاجًا} (¬7): سبيلا وسنة (¬8). (¬9) - وقال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية: فإن كتاب الإيمان الذي افتتح به الصحيح قرر مذهب السنة والجماعة، وضمنه الرد على المرجئة، فإنه كان من القائمين بنصرة السنة والجماعة، مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان. (¬10) ¬

(¬1) وصله ابن أبي شيبة في كتاب الإيمان (135) وفي المصنف (6/ 166/30384) وابن بطة (2/ 9/123/ 1166) وأصول الاعتقاد (4/ 926/1572) والخلال في السنة (4/ 57/1162) وأحمد في الإيمان كما في الفتح (1/ 65). (¬2) البقرة الآية (260). (¬3) تقدم في مواقف معاذ سنة (18هـ). (¬4) قال الحافظ في الفتح (1/ 66): "وصله الطبراني (9/ 104/8544) بسند صحيح، وبقيته "والصبر نصف الإيمان"". وأخرجه أبو نعيم في الحلية (5/ 34) والبيهقي في الزهد من حديثه مرفوعا، ولا يثبت رفعه. اهـ (¬5) قال الحافظ ابن رجب في كتابه 'فتح الباري' له (1/ 16): "هذا الأثر لم أقف عليه إلى الآن في غير كتاب البخاري)، وقال الحافظ ابن حجر: "لم أره موصولا إلى الآن". قال: قد ورد معنى قول ابن عمر عند مسلم (4/ 1980/2553) من حديث النواس بن سمعان مرفوعا. (¬6) الشورى الآية (13). (¬7) المائدة الآية (48). (¬8) أخرجه عبد الرزاق في التفسير (1/ 193) وصحح إسناده الحافظ في الفتح (1/ 67). (¬9) فتح الباري (1/ 63). (¬10) مجموع الفتاوى (7/ 351).

موقفه من القدرية:

- وقال أبو العباس السراج: شهدت أبا عبد الله البخاري، ودفع إليه كتاب من محمد بن كرام يسأله عن أحاديث منها: الزهري، عن سالم، عن أبيه، رفعه: (الإيمان لا يزيد ولا ينقص). فكتب على ظهر كتابه: من حدث بهذا استوجب الضرب الشديد والحبس الطويل. (¬1) موقفه من القدرية: - له كتاب 'خلق أفعال العباد': مطبوع متداول وهو رد على القدرية. - قال ابن تيمية رحمه الله: وأنكر الأئمة من أصحاب أحمد وغيرهم من علماء السنة من قال: إن أصوات العباد وأفعالهم غير مخلوقة، وصنف البخاري في ذلك مصنفا. (¬2) - وعقد في الصحيح كتابا سماه: (كتاب القدر). المهتدي بالله (¬3) (256 هـ) الخليفة الصالح، أمير المؤمنين، محمد بن هارون، أبو إسحاق، وقيل: أبو عبد الله بن الواثق بالله. ولد في خلافة جده، وبويع بعد خلع المعتز بالله سنة خمس وخمسين، وله بضع وثلاثون سنة. قال الخطيب: كان المهتدي بالله من أحسن الخلفاء مذهبا وأجملهم طريقة، وأظهرهم ورعا وأكثرهم عبادة. وكان ¬

(¬1) تاريخ الإسلام للذهبي حوادث ووفيات (251 - 260/ 314). (¬2) مجموع الفتاوى (8/ 407). (¬3) تاريخ بغداد (4/ 347) وسير أعلام النبلاء (12/ 535) وتاريخ الإسلام (حوادث 251 - 260/ص.326) والوافي بالوفيات (5/ 144) وفوات الوفيات (4/ 50 - 52) وتاريخ الخلفاء (361).

موقفه من الرافضة:

المهتدي بالله أسمر رقيقا، مليح الوجه، ورعا، عادلا، صالحا، متعبدا بطلا، شجاعا، قويا في أمر الله. قال الخطيب: قال أبو موسى العباسي: لم يزل صائما منذ ولي إلى أن قتل. قال نفطويه: أخبرنا بعض الهاشميين أنه وجد للمهتدي صفط فيه جبة صوف، وكساء كان يلبسه في الليل، ويصلي فيه، وكان قد اطرح الملاهي، وحرم الغناء، وحسم أصحاب السلطان عن الظلم، وكان شديد الإشراف على أمر الدواوين، يجلس بنفسه، ويجلس بين يديه الكتاب، يعملون الحساب، ويلزم الجلوس يومي الخميس والاثنين، وقد ضرب جماعة من الكبار. توفي رحمه الله مقتولا من طرف الأتراك سنة ست وخمسين ومائتين، وقام بعده المعتمد على الله. موقفه من الرافضة: - جاء في السير: قال نفطويه، أخبرنا بعض الهاشميين عن المهتدي أنه نفى جعفر بن محمود إلى بغداد لرفض فيه. (¬1) علي بن خَشْرَم (¬2) (257 هـ) علي بن خشرم بن عبد الرحمن بن عطاء بن هلال، أبو الحسن المَرْوَزِي. ولد سنة ستين ومائة. وسمع من إسماعيل بن علية وسفيان بن عيينة وعيسى ابن يونس وعبد الله بن وهب وهشيم بن بشير. روى عنه مسلم، والترمذي، ¬

(¬1) السير (12/ 537). (¬2) تهذيب الكمال (20/ 421) وسير أعلام النبلاء (11/ 552) وتاريخ الإسلام (حوادث 251 - 260/ص.212) وتهذيب التهذيب (7/ 316 - 317).

موقفه من الجهمية:

والنسائي، وابن خزيمة، وأبو حامد أحمد بن حمدون الأعمش، وابن أبي داود. وثقه النسائي وغيره. توفي رحمه الله سنة سبع وخمسين ومائتين. موقفه من الجهمية: - عن علي بن خشرم المروزي قال: من قال القرآن، أو لفظي بالقرآن أو القرآن بقراءتي أو قراءتي للقرآن -قدم أو أخر- فهو واحد. وقال: ما أُحسِنُ هذا الكلام ليس بينهما فرق فجعل يتعجب ممن يفرق بينهما ويقول: من قال من اللفظية كلامه فإنه يخرج إلى كلام الروحانية - صنف من الزنادقة. (¬1) عبد الحميد بن عصام الجُرْجَانِي (¬2) (257 هـ) الإمام الحافظ، عبد الحميد بن عصام، أبو عبد الله الجرجاني، نزيل همذان. سمع سفيان بن عيينة، ويزيد بن هارون، وأبا داود الطيالسي، وجماعة. وعنه يحيى بن عبد الله الكرابيسي، وأبو حاتم، وآخرون. قال صالح ابن أحمد: كان أحد العلماء والفقهاء، ثقة صدوقا. وعن ابن حمويه قال: ما رأت عيناي قط مثل عبد الحميد بن عصام الجرجاني. توفي سنة سبع وخمسين ومائتين. ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 388 - 389/ 590). (¬2) الجرح والتعديل (6/ 16 - 17) والثقات (8/ 402) وتاريخ جرجان (251 - 252) وتاريخ الإسلام (حوادث 251 - 260/ص.190) وسير أعلام النبلاء (12/ 181 - 182).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: - قال الذهبي في سيره: ولما وقعت المحنة في اللفظ، سكت الجرجاني، فخرج عليه أصحاب الحديث، فسمعت أبي يقول: ذهبت مع صالح بن حمويه أخي المرار، فوقف على مجلس الجرجاني، فقال: ما تقول في اللفظ بالقرآن؟ فسكت حتى سأله الثالثة، فقال: أراه محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. (¬1) الرِّيَاشِيُّ (¬2) (257 هـ) العلامة الحافظ عباس بن الفرج، أبو الفضل الرياشي البصري النحوي. مولى محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس. ولد بعد الثمانين ومائة. روى عن أبي داود الطيالسي ووهب بن جرير ومعمر بن المثنى ومحمد ابن سلام الجمحي وأشهل بن حاتم وخلق كثير. وروى عنه أبو داود قوله في تفسير أسنان الإبل وإبراهيم الحربي وابنه محمد بن العباس ومحمد بن خزيمة وأبو العباس المبرد وغيرهم. قال أبو سعيد السيرافي: كان عالما باللغة والشعر، كثير الرواية عن الأصمعي، وروى أيضا عن غيره. - وقال الخطيب: قدم بغداد، وحدث بها، وكان ثقة، وكان من ¬

(¬1) السير (12/ 182). (¬2) تاريخ بغداد (12/ 138) والمنتظم (12/ 132 - 134) وفيات الأعيان (3/ 27 - 28) وتهذيب الكمال (14/ 234 - 238) والسير (12/ 372 - 376) وشذرات الذهب (2/ 136).

موقفه من المشركين:

الأدب وعلم النحو بمحل عال، وكان يحفظ كتب أبي زيد، وكتب الأصمعي كلها، وقرأ على أبي عثمان المازني 'كتاب سيبويه'. وكان المازني يقول: قرأ علي الرياشي 'الكتاب' وهو أعلم به مني. قال ابن دريد: قتلته الزنج بالبصرة سنة سبع وخمسين ومائتين. موقفه من المشركين: - جاء في السير: وقال علي بن أبي أمية: لما كان من دخول الزنج البصرة ما كان، وقتلهم بها من قتلوا، وذلك في شوال سنة سبع، بلغنا أنهم دخلوا على الرياشي المسجد بأسيافهم، والرياشي قائم يصلي الضحى، فضربوه بالأسياف وقالوا: هات المال، فجعل يقول: أي مال، أي مال؟ حتى مات. فلما خرجت الزنج عن البصرة، دخلناها، فمررنا ببني مازن الطحانين -وهناك كان ينزل الرياشي- فدخلنا مسجده، فإذا به ملقى وهو مستقبل القبلة، كأنما وجه إليها. وإذا بشملة تحركها الريح وقد تمزقت، وإذا جميع خلقه صحيح سوي لم ينشق له بطن، ولم يتغير له حال، إلا أن جلده قد لصق بعظمه ويبس، وذلك بعد مقتله بسنتين رحمه الله. قال الذهبي: فتنة الزنج كانت عظيمة، وذلك أن بعض الشياطين الدهاة، كان طرقيا أو مؤدبا، له نظر في الشعر والأخبار، ويظهر من حاله الزندقة والمروق، ادعى أنه علوي، ودعا إلى نفسه، فالتف عليه قطاع طريق، والعبيد السود من غلمان أهل البصرة، حتى صار في عدة، وتحيلوا وحصلوا سيوفا وعصيا، ثم ثاروا على أطراف البلد، فبدعوا وقتلوا، وقووا، وانضم إليهم كل مجرم، واستفحل الشر بهم، فسار جيش من العراق لحربهم،

زهير بن محمد بن قمير (257 هـ)

فكسروا الجيش، وأخذوا البصرة، واستباحوها، واشتد الخطب، وصار قائدهم الخبيث في جيش وأهبة كاملة، وعزم على أخذ بغداد، وبنى لنفسه مدينة عظيمة، وحار الخليفة المعتمد في نفسه، ودام البلاء بهذا الخبيث المارق ثلاث عشرة سنة، وهابته الجيوش، وجرت معه ملاحم ووقعات يطول شرحها. قد ذكرها المؤرخون إلى أن قتل. فالزنج هم عبارة عن عبيد البصرة الذين ثاروا معه. لا بارك الله فيهم. (¬1) زهير بن محمد بن قُمَيْر (¬2) (257 هـ) الإمام زهير بن محمد بن قمير بن شعبة المروزي، نزيل بغداد. كنيته أبو محمد وقيل أبو عبد الرحمن. روى عن الإمام أحمد وروح بن عبادة وأبي نعيم الفضل بن دكين وعبد الرزاق بن همام وغيرهم، وروى عنه ابن ماجه وأحمد ابن عبد الله البزاز ويحيى بن صاعد وأبو عبد الله المحاملي وعمر بن بجير وآخرون. قال محمد بن إسحاق الثقفي: ثقة مأمون، وقال الخطيب: كان ثقة صادقا ورعا زاهدا، وانتقل في آخر عمره من بغداد إلى طرسوس فرابط بها إلى أن مات. توفي رحمه الله في آخر سنة سبع وخمسين ومائتين، وقيل سنة ثمان ¬

(¬1) السير (12/ 374 - 375). (¬2) تاريخ بغداد (8/ 484) طبقات الحنابلة (1/ 159) وتهذيب الكمال (9/ 411 - 414) والسير (12/ 360 - 361) وتهذيب التهذيب (3/ 347 - 348) وشذرات الذهب (2/ 136).

موقفه من المشركين:

وخمسين. موقفه من المشركين: - قال البغوي: ما رأيت بعد أحمد بن حنبل أفضل منه، سمعته يقول: أشتهي لحما من أربعين سنة، ولا آكله حتى أدخل الروم، فآكل من مغانم الروم. (¬1) أحمد بن الفُرَات (¬2) (258 هـ) أحمد بن الفرات بن خالد، الشيخ الإمام الحافظ الكبير الحجة محدث أصبهان، أبو مسعود الضَّبِّي الرازي نزيل أصبهان. ولد سنة نيف وثمانين ومائة في خلافة هارون الرشيد. وطلب العلم في الصغر وعد من الحفاظ، وهو شاب أمرد، وارتحل إلى العراق والشام والحجاز واليمن ولحق الكبار. سمع عبد الله بن نمير، وعبد الله بن مسلمة القعنبي، وعبد الرزاق بن همام، ويزيد ابن هارون، وأكثر الترحال في لقي الرجال. قال إبراهيم بن محمد الطيان، سمعت أبا مسعود يقول: كتبت عن ألف وسبعمائة شيخ، وكتبت ألف ألف حديث وخمسمائة ألف فعملت من ذلك في تواليفي خمسمائة ألف حديث. وألف المسند والكتب الكثيرة. روى عنه أبو داود وأبو بكر بن أبي عاصم، ¬

(¬1) السير (12/ 361) وتاريخ بغداد (8/ 485). (¬2) الجرح والتعديل (2/ 67) وتاريخ بغداد (4/ 343 - 344) وتهذيب الكمال (1/ 422 - 425) وتذكرة الحفاظ (2/ 544 - 545) وميزان الاعتدال (1/ 127 - 128) والوافي بالوفيات (7/ 280) وشذرات الذهب (2/ 138) والسير (12/ 480 - 488).

موقفه من الرافضة:

وجعفر الفريابي. قال أحمد بن حنبل: ما أظن بقي أحد أعرف بالمسندات من ابن الفرات. وقال أيضا: ما تحت أديم السماء أحفظ لأخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبي مسعود الرازي. قال أبو أحمد بن عدي: لا أعلم لأبي مسعود الرازي رواية منكرة وهو من أهل الصدق والحفظ. توفي في شعبان سنة ثمان وخمسين ومائتين. موقفه من الرافضة: - جاء في السير: عن أحمد بن محمود بن صبيح: سمعت أبا مسعود الرازي يقول: وددت أني أقتل في حب أبي بكر وعمر (¬1). موقفه من الجهمية: من له إلمام بتواريخ العالم الإسلامي وطبقات علمائهم، يعرف ما كان عليه هذا البلد المبارك -يعني أصبهان-، فقد خرج منه أكابر العلماء الذين كان لهم إسهام كبير في السنة عموما وفي العقيدة السلفية خصوصا. ومنهم هذا العلامة، له: 'كتاب السنة'. - ومن مواقفه الطيبة ما جاء في أصول الاعتقاد: عن أبي مسعود أحمد ابن الفرات أنه قال: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي. (¬2) ¬

(¬1) السير (12/ 484). (¬2) أصول الاعتقاد (2/ 389/595).

الذهلي (258 هـ)

الذُّهْلِي (¬1) (258 هـ) محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس بن ذؤيب، الإمام العلامة الحافظ البارع، شيخ الإسلام، وعالم أهل المشرق، وإمام أهل الحديث بخراسان، أبو عبد الله الذهلي مولاهم، النيسابوري. مولده سنة بضع وسبعين ومائة. سمع من عبد الرحمن بن مهدي، وأسباط بن محمد وأبي داود الطيالسي وعبد الرزاق وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وخلائق بالحرمين والشام ومصر والعراق والري وخراسان واليمن والجزيرة وبرع في هذا الشأن. حدث عنه الجماعة سوى مسلم، وأبو زرعة وابن خزيمة وأبو حاتم وأبو عوانة الاسفراييني وخلق كثير، وانتهت إليه مشيخة العلم بخراسان مع الثقة والصيانة والدين ومتابعة السنن. عن محمد بن عسكر قال: كنا عند أحمد بن حنبل فدخل محمد بن يحيى الذهلي فقام إليه أحمد وتعجب منه الناس ثم قال لبنيه وأصحابه: اذهبوا إلى أبي عبد الله واكتبوا عنه. قال أبو بكر بن زياد: وهو عندي إمام في الحديث. قال أبو سعيد المؤذن: سمعت زنجويه بن محمد يقول: كنت أسمع مشايخنا يقولون: الحديث الذي لا يعرفه محمد بن يحيى لا يعبأ به. قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: كتب عنه أبي بالري، وهو ثقة صدوق إمام من أئمة المسلمين، سئل أبي عنه فقال: ثقة. قال الحافظ أبو بكر الخطيب: كان أحد الأئمة العارفين، والحفاظ المتقنين، والثقات المأمونين، صنف حديث الزهري وجوده، وقدم بغداد ¬

(¬1) تاريخ بغداد (3/ 415 - 420) وتهذيب الكمال (26/ 617 - 631) وتذكرة الحفاظ (2/ 530 - 532) والوافي بالوفيات (5/ 186 - 187) والبداية والنهاية (11/ 31) وشذرات الذهب (2/ 138) والسير (12/ 273 - 285).

موقفه من الجهمية:

وجالس شيوخها وحدث بها وكان أحمد بن حنبل يثني عليه وينشر فضله. مات سنة ثمان وخمسين ومائتين وبلغ ستا وثمانين سنة. موقفه من الجهمية: - جاء في تاريخ الخطيب بالسند إلى محمد بن يحيى الذهلي يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق من جميع جهاته، وحيث يتصرف، فمن لزم هذا استغنى عن اللفظ وعما سواه من الكلام في القرآن، ومن زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر وخرج عن الإيمان وبانت منه امرأته يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه وجعل ماله فيئا بين المسلمين ولم يدفن في مقابر المسلمين. ومن وقف وقال: لا أقول مخلوق أو غير مخلوق فقد ضاهى الكفر ومن زعم أن لفظي بالقرآن مخلوق فهذا مبتدع لا يجالس ولا يكلم. (¬1) - وفي أصول الاعتقاد عنه قال: من وقف في القرآن فمحله محل من زعم أن القرآن مخلوق. (¬2) - وفيه عنه قال: إن من قال إن القرآن يكون مخلوقا بالألفاظ فقد زعم أن القرآن مخلوق. وقال هو مبتدع وأمر بمباينته ومجانبته. (¬3) ¬

(¬1) تاريخ بغداد (2/ 31 - 32) والسير (12/ 289). (¬2) أصول الاعتقاد (2/ 362/540). (¬3) أصول الاعتقاد (2/ 388/589).

هارون بن إسحاق الهمداني (258 هـ)

هارون بن إسحاق الهمداني (¬1) (258 هـ) الإمام الحافظ هارون بن إسحاق بن محمد بن مالك بن زبيد الهمداني، أبو القاسم الكوفي. روى عن سفيان بن عيينة وعبد الله بن نمير وعبد الرزاق بن همام ووكيع بن الجراح وحفص بن غياث وطبقتهم. وروى عنه الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وعبد الرحمن بن أبي حاتم، وخلق كثير. قال علي بن الحسين بن الجنيد: كان محمد بن عبد الله بن نمير يبجله. وقال أبو بكر بن خزيمة: كان من خيار عباد الله. وقال الذهبي: ثقة متعبد. توفي رحمه الله سنة ثمان وخمسين ومائتين. موقفه من الجهمية: - عن المروذي قال: سألت هارون بن إسحاق الهمذاني عن الواقفة فقال: هم شر من الجهمية. (¬2) يحيى بن معاذ الرازي (¬3) (258 هـ) يحيى بن معاذ أبو زكريا الرازي الواعظ، حكيم أهل زمانه. سمع إسحاق بن سليمان الرازي ومكي بن إبراهيم البلخي وعلي بن محمد الطنافسي. وعنه الفقيه أبو نصر بن سلام، وأبو عثمان الحيري الزاهد وعلي ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (12/ 126 - 127) وتاريخ الإسلام (حوادث 251 - 260/ص.358) وتهذيب الكمال (30/ 75) وتهذيب التهذيب (11/ 2). (¬2) الإبانة (1/ 12/303 - 304/ 90). (¬3) حلية الأولياء (10/ 51 - 70) وتاريخ بغداد (14/ 208) والمنتظم (12/ 148 - 149) والكامل (7/ 258) ووفيات الأعيان (6/ 165 - 168) وسير أعلام النبلاء (13/ 15 - 16) وتاريخ الإسلام (وفيات 251 - 260/ص373).

موقفه من المبتدعة والمشركين:

بن محمد القباني ومشايخ الري وهمدان وبلخ ومرو. كان قد انتقل عن الري، وسكن نيسابور إلى أن مات بها وقدم بغداد واجمتع إليه مشايخ الصوفية. قال عنه ابن الأثير: كان عابدا صالحا. وقال ابن خلكان: أبو زكريا يحيى بن معاذ الرازي الواعظ، أحد رجال الطريقة، ذكره أبو القاسم القشيري في 'الرسالة' وعده من جملة المشايخ. توفي سنة ثمان وخمسين مائتين بنيسابور، رحمه الله تعالى. موقفه من المبتدعة والمشركين: - وقال يحيى بن معاذ الرازي: اختلاف الناس كلهم يرجع إلى ثلاثة أصول، فلكل واحد منها ضد، فمن سقط عنه وقع في ضده: التوحيد وضده الشرك، والسنة وضدها البدعة، والطاعة وضدها المعصية. (¬1) - روى ابن بطة بسنده إلى علي بن الحسين بن هذيل القطان، قال: سمعت يحيى بن معاذ الرازي، يقول: الناس خمس طبقات فاجتنب أربعا والزم واحدة، فأما الأربع الذين يجب عليك أن تجتنبهن. فذكر ثلاث طبقات، اختصرت أنا الكلام بترك وصفهم لكثرته، ثم قال: والطبقة الرابعة: فهم المتعمقون في الدين الذين يتكلمون في العقول ويحملون الناس على قياس أفهامهم، قد بلغ من فتنة أحدهم وتمكن الشك من قلبه أنك تراه يحتج على خصمه بحجة قد خصمه بها، وهو نفسه من تلك الحجة في شك، ليس ¬

(¬1) الاعتصام (1/ 122 - 123).

يعتقدها ولا يجهل ضعفها، ولا ديانة له فيها، إن عرضت له من غيره حجة هي ألطف منها انتقل إليها، فدينه محمول على سفينة الفتن يسير بها في بحور المهالك، يسوقها الخطر ويسوسها الحيرة، وذلك حين رأى عقله أملى بالدين وأضبط له وأغوص على الغيب، وأبلغ لما يراد من الثواب من أمر الله إياه ونهيه وفرائضه الملجمة للمؤمنين عن اختراق السدود، والتنقير عن غوامض الأمور، والتدقيق الذي قد نهيت هذه الأمة عنه، إذ كان ذلك سبب هلاك الأمم قبلها وعلة ما أخرجها من دين ربها، وهؤلاء هم الفساق في دين الله المارقون منه التاركون لسبيل الحق المجانبون للهدى، الذين لم يرضوا بحكم الله في دينه حتى تكلفوا طلب ما قد سقط عنهم طلبه، ومن لم يرض بحكم الله في المعرفة حكما لم يرض بالله ربا، ومن لم يرض بالله ربا كان كافرا، وكيف يرضون بحكم الله في الدين وقد بين لنا فيه حدودا وفرض علينا القيام عليها والتسليم بها فجاء هؤلاء بعد قلة عقولهم وجور فطنهم وجهل مقاييسهم يتكلمون في الدقائق ويتعمقون، فكفى بهم خزيا سقوطهم من عيون الصالحين يقتصر فيهم على ما قد لزمهم في الأمة من قالة السوء وألبسوا من أثواب التهمة واستوحش منهم المؤمنون ونهى عن مجالستهم العلماء وكرهتهم الحكماء واستنكرتهم الأدباء وقامت منهم فراسة البصراء، شكاكون جاهلون ووسواسون متحيرون فإذا رأيت المريد يطيف بناحيتهم فاغسل يدك منه ولا تجالسه.

موقفه من الجهمية:

(¬1) وقال يحيى بن معاذ الرازي: إن ربنا تعالى أبدى شيئا وأخفى أشياء وإن المحفوظين بولاية الإيمان حفظوا ما أبدى وتركوا ما أخفى وذهب آخرون يطلبون علم ما أخفى فهتكوا فهلكوا فأداهم الترك لأمره إلى حدود الضلال فكانوا زائغين. (¬2) موقفه من الجهمية: - قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى: وروى أيضا -أي ابن أبي حاتم- عن يحيى بن معاذ الرازي أنه قال: إن الله على العرش بائن من الخلق، وقد أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، لا يشك في هذه المقالة إلا جهمي رديء ضليل، وهالك مرتاب، يمزج الله بخلقه، ويخلط منه الذات بالأقذار والأنتان. (¬3) موقفه من القدرية: - جاء في الإبانة: عن أبي محمد الإسكاف: سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول: من أحب أن يفرح بالله ويتمتع بعبادة الله؛ فلا يسألن عن سر الله يعني القدر. (¬4) ¬

(¬1) الإبانة (1/ 2/404 - 406/ 309). (¬2) الإبانة (1/ 2/419). (¬3) مجموع الفتاوى (5/ 49). (¬4) الإبانة (1/ 8/243/ 1282).

الجوزجاني (259 هـ)

الجَوْزَجَانيّ (¬1) (259 هـ) الحافظ، إمام الجرح والتعديل، إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق السعدي، أبو إسحاق الجوزجاني، سكن دمشق. روى عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وسعيد بن أبي مريم، ويزيد بن هارون وخلق، روى عنه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وأبو بشر الدولابي وآخرون. قال أبو بكر الخلال: إبراهيم بن يعقوب جليل جدا، كان أحمد بن حنبل يكاتبه ويكرمه إكراما شديدا. قال الدارقطني: كان من الحفاظ المصنفين والمخرجين الثقات. وقال ابن حبان: كان حريزي المذهب، ولم يكن بداعية إليه، وكان صلبا في السنة حافظا للحديث إلا أن من صلابته كان يتعدى طوره. وقال الحافظ ابن حجر: ثقة حافظ، رمي بالنصب. توفي رحمه الله سنة تسع وخمسين ومائتين. موقفه من القدرية: - قال الجوزجاني: كان قوم يتكلمون في القدر، احتمل الناس حديثهم لما عرفوا من اجتهادهم في الدين والصدق والأمانة، ولم يتوهم عليهم الكذب، وإن بلوا بسوء رأيهم، منهم معبد الجهني، وقتادة، ومعبد رأسهم. (¬2) ¬

(¬1) تاريخ دمشق (7/ 278 - 282) وطبقات الحنابلة (1/ 98) وتهذيب الكمال (2/ 244 - 248) وميزان الاعتدال (1/ 75 - 76) وتاريخ الإسلام (حوادث 251 - 260/ص.71 - 72) وتهذيب التهذيب (1/ 181 - 183). (¬2) سير أعلام النبلاء (4/ 186).

أحمد بن سنان (259 هـ)

أحمد بن سِنَان (¬1) (259 هـ) أحمد بن سنان بن أسد بن حبان الإمام الحافظ المجود، أبو جعفر الواسطي القطان، ولد بعد السبعين ومائة. سمع من وكيع وأبي معاوية الضرير، وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى القطان، ويزيد بن هارون، وهذه الطبقة، وصنف 'المسند'. حدث عنه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي في حديث مالك، وابنه جعفر بن أحمد وابن خزيمة وعبد الرحمن بن أبي حاتم وخلق سواهم. قال النسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: ثقة صدوق. وقال ابنه عبد الرحمن: إمام أهل زمانه. وقال إبراهيم بن أورمة: أعدنا عليه ما سمعناه من بندار وأبي موسى يعني: لإتقانه وضبطه. توفي رحمه الله سنة تسع وخمسين ومائتين. موقفه من المبتدعة: - جاء في الإبانة: قال أبو حاتم: سمعت أحمد بن سنان يقول: لأن يجاورني صاحب طنبور، أحب إلي من أن يجاورني صاحب بدعة؛ لأن صاحب الطنبور أنهاه وأكسر الطنبور، والمبتدع يفسد الناس والجيران والأحداث. (¬2) - وفيها أيضا قال أبو حاتم: سمعت أحمد بن سنان يقول: إذا جاور الرجل صاحب بدعة أرى له أن يبيع داره إن أمكنه وليتحول وإلا أهلك ¬

(¬1) الجرح والتعديل (2/ 53) وتهذيب الكمال (1/ 322 - 323) وتهذيب التهذيب (1/ 34 - 35) وتذكرة الحفاظ (2/ 521) والوافي بالوفيات (6/ 407) وشذرات الذهب (2/ 137) والسير (12/ 244 - 246). (¬2) الإبانة (2/ 3/469/ 473).

ولده وجيرانه، فنزع ابن سنان بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سمع منكم بالدجال فلينأ عنه قالها ثلاثا، فإن الرجل يأتيه وهو يرى أنه كاذب فيتبعه لما يرى من الشبهات" (¬1).اهـ (¬2) " التعليق: وأين نسكن الآن في هذا الزمان، وقد ملأ الأرض المبتدعة إلا ما شاء الله من البقاع التي لم تنجس بنجاسة البدع والمبتدعة. - وجاء في ذم الكلام: عن جعفر بن أحمد بن سنان الواسطي قال: سمعت أحمد بن سنان يقول: ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث، وإذا ابتدع الرجل بدعة نزعت حلاوة الحديث من قلبه. (¬3) " التعليق: وهو كذلك، فتصبح صناعة الحديث عنده لتغطية بدعته وللرياء والسمعة وللتحريف الباطل والتضليل نسأل الله العافية. - جاء في شرف أصحاب الحديث: بالسند إلى أبي حاتم قال: سمعت أحمد بن سنان وذكر حديث: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ... " (¬4) ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (4/ 431) وأبو داود (4/ 495/4319) والحاكم (4/ 531) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه" وسكت عنه الذهبي. (¬2) الإبانة (2/ 3/469/ 474). (¬3) ذم الكلام (77) والسير (12/ 245) وتذكرة الحفاظ (2/ 521) وشرف أصحاب الحديث (73). (¬4) تقدم تخريجه. انظر مواقف يزيد بن هارون سنة (206هـ).

الحسن بن محمد بن الصباح (260 هـ)

فقال: هم أهل العلم وأصحاب الآثار. (¬1) " التعليق: وهو كذلك، لأنهم هم ورثته في علمه وعقيدته وسنته، وهم النجوم التي يهتدى بها، وعن اختفائها تتلاطم أمواج البدع والإلحاد والخرافات وجميع الضلالات، وهذا هو الواقع في غالب البلدان، إلا التي استنارت بنور الحق وهدي الطائفة المنصورة. الحسن بن محمد بن الصَّبَّاح (¬2) (260 هـ) الحسن بن محمد بن الصباح الزَّعْفَرَانِي، أبو علي البغدادي، كان يسكن درب الزعفراني ببغداد، فنسب إليه. روى عن سعيد بن منصور، وسفيان بن عيينة وعلي ابن المديني، وأبي نعيم، والشافعي، ووكيع بن الجراح، ويزيد بن هارون. وروى عنه الجماعة سوى مسلم، وأبو القاسم البغوي، وابن خزيمة، وأبو عوانة، ومحمد ابن مخلد، وخلق. قال ابن حبان: كان أحمد بن حنبل وأبو ثور يحضران عند الشافعي، وكان الحسن الزعفراني هو الذي يتولى القراءة. وقال أحمد بن محمد بن الجراح: سمعت الحسن الزعفراني يقول: لما قرأت كتاب 'الرسالة' على الشافعي قال لي: من أي العرب أنت؟ قلت: ما أنا بعربي، وما أنا إلا من قرية يقال لها الزعفرانية، قال: فأنت سيد هذه ¬

(¬1) شرف أصحاب الحديث (27). (¬2) تاريخ بغداد (7/ 407) وطبقات الحنابلة (1/ 138) وتهذيب الكمال (6/ 310 - 313) وسير أعلام النبلاء (12/ 262 - 265) وتهذيب التهذيب (2/ 318 - 319).

موقفه من المبتدعة:

القرية. وقال ابن عبد البر: يقال إنه لم يكن في وقته أفصح منه ولا أبصر باللغة، ولذلك اختاروه لقراءة كتب الشافعي، وكان يذهب إلى مذهب أهل العراق فتركه وتفقه للشافعي، وكان نبيلا ثقة مأمونا. توفي رحمه الله سنة ستين ومائتين. موقفه من المبتدعة: - عن إبراهيم بن يحيى قال: سمعت الزعفراني يقول: ما على وجه الأرض قوم أفضل من أصحاب هذه المحابر، يتبعون آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويكتبونها لكي لا تدرس. (¬1) أبو شعيب السُّوسِي (¬2) (261 هـ) هو صالح بن زياد بن عبد الله بن إسماعيل، الرُّسْتبي السوسي، أبو شعيب المقرئ شيخ الرَّقَّة وعالمها ومقرئها. قرأ القرآن على يحيى اليزيدي صاحب أبي عمرو. وسمع بالكوفة من عبد الله بن نمير، وأسباط بن محمد وجماعة. وبمكة من ابن عيينة وغيره. وحدث عنه أبو بكر بن أبي عاصم، وأبو عروبة الحراني والحافظ أبو علي محمد بن سعيد. قال أبو حاتم: صدوق. توفي في أول سنة إحدى وستين ومائتين، وقد قارب التسعين. ¬

(¬1) ذم الكلام (99). (¬2) طبقات الحنابلة (1/ 176 - 177) وتهذيب الكمال (13/ 50 - 52) وسير أعلام النبلاء (12/ 380 - 381) وتاريخ الإسلام (حوادث 261 - 270/ص.108 - 109) والوافي بالوفيات (16/ 258).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: - قال عنه الذهبي في سيره: وكان صاحب سنة، دعا له الإمام لما بلغه، أن ختنه تكلم في القرآن، فقام أبو شعيب عليه ليفارق بنته. (¬1) علي بن إِشْكَاب (¬2) (261 هـ) هو أبو الحسن علي بن الحسين بن إبراهيم بن الحر بن زعلان البغدادي، كان أسن من أخيه محمد بن إشكاب. سمع إسماعيل بن علية، وإسحاق الأزرق، وأبا معاوية، وحجاج بن محمد وخلقا. وعنه أبو داود، وابن ماجه، وابن أبي حاتم وغيرهم. وطال عمره، وتزاحم عليه الطلاب. وثقه النسائي وغيره. مات في شوال سنة إحدى وستين ومائتين، وله بضع وثمانون سنة. موقفه من الجهمية: - قال أبو بكر المروذي: سمعت علي بن أشكاب يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال: إنه مخلوق، فهو كافر. (¬3) ¬

(¬1) السير (12/ 381). (¬2) تاريخ بغداد (11/ 392 - 394) وسير أعلام النبلاء (12/ 352 - 353) وتاريخ الإسلام (حوادث261 - 270/ص.135) وتهذيب الكمال (20/ 379 - 381). (¬3) الإبانة (2/ 12/72/ 296).

الأثرم (261 هـ)

الأَثْرَم (¬1) (261 هـ) الإمام الحافظ العلامة، أبو بكر أحمد بن محمد بن هانئ، الإِسْكَافِي الأثرم الطائي، وقيل الكلبي، أحد الأعلام، ومصنف 'السنن' وتلميذ الإمام أحمد، خراساني الأصل. كان من أهل إسكاف بني الجنيد وبها مات. ولد في دولة الرشيد، وسمع من أحمد بن إسحاق الحضرمي، وأبي نعيم، وعفان، والقعنبي، ومسدد بن مسرهد، وأحمد بن حنبل، وابن أبي شيبة، وخلق. حدث عنه النسائي، وموسى بن هارون، ويحيى بن صاعد، وعلي بن أبي طاهر القزويني وغيرهم. وله مصنف في علل الحديث. قال أبو بكر الخلال: كان الأثرم جليل القدر، حافظا وكان عاصم بن علي لما قدم بغداد طلب رجلا يخرج له فوائد يمليها فلم يجد في ذلك الوقت غير أبي بكر الأثرم، فكأنه لما رآه لم يقع منه موقعا لحداثة سنه، فقال له أبو بكر: أخرج كتابك، فجعل يقول له: هذا الحديث خطأ وهذا غلط، وهذا كذا. قال: فسر عاصم بن علي به وأملى قريبا من خمسين مجلسا، وكان يعرف الحديث ويحفظ فلما صحب أحمد بن حنبل ترك ذلك، وأقبل على مذهب أحمد. وكان معه تيقظ عجيب. وكان عالما بتواليف ابن أبي شيبة، لازمه مدة. توفي رحمه الله سنة إحدى وستين ومائتين. موقفه من المبتدعة: - قال الأثرم: كنت عند خلف البزاز يوم جمعة، فلما قمنا من المجلس ¬

(¬1) الجرح والتعديل (2/ 72) وتهذيب الكمال (1/ 476 - 480) وتذكرة الحفاظ (2/ 570 - 572) وتهذيب التهذيب (1/ 78 - 79) وشذرات الذهب (2/ 141 - 142) والسير (12/ 623 - 628) وتاريخ بغداد (5/ 110 - 112).

صرت إلى قرن الصراة. فأردت أن أغتسل للجمعة. فغرقت. فلم أجد شيئا أتقرب به إلى الله جل ثناؤه أكثر عندي من أن قلت: اللهم إن تحيني لأتوبن من صحبة حارث -يعني المحاسبي. (¬1) كتابه إلى الثغر: - قال الأثرم في أثناء كتاب إلى الثغر: أعاذنا الله وإياكم من كل موبقة، وأنقذنا وإياكم من كل مهلكة. وسلمنا وإياكم من كل شبهة، ومسكنا وإياكم بصالح ما مضى عليه أسلافنا وأئمتنا. كتابي إليكم -ونحن في نعم متواصلة. نسأل الله تمامها، ونرغب إليه في الزيادة من فضله، والعون على بلوغ رضاه- إن في كثير من الكلام فتنة، وبحسب الرجل ما بلغ به من الكلام حاجته. ولقد حكي لنا أن فضلا كان يتلاكن في كلامه، فإن في السكوت لسَعَة، وربما كان من الأمور ما يطيق عنه السكوت. وذلك لما أوجب الله من النصيحة، وندب العلماء من القيام بها للخاصة والعامة، ولولا ذلك كان ما دعا إليه من الخمول أصوب في دهر قل فيه من يستراح إليه، ونشأ فيه من يرغب عنه. ونحن في موضع انقطاع عن الأمصار، فربما انتهى إلينا الخبر الذي يزعجنا، فنحرص على الصبر. فنخاف وجوب الحجة من العلم. ولقد تبين عند أهل العلم عظم المصيبة بما فقدنا من شيخنا رضي الله عنه، أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل إمامنا ومعلمنا، ومعلم من كان قبلنا ¬

(¬1) طبقات الحنابلة (1/ 68).

منذ أكثر من ستين سنة. وموت العالم مصيبة لا تجبر، وثلمة لا تسد. وما عالم كعالم، إنهم يتفاضلون ويتباينون بونا بعيدا. فقد ظننت أن عدو الله وعدو المسلمين إبليس وجنوده قد أعدوا من الفتن أسبابا، انتظروا بها فقده، لأنه كان يقمع باطلهم، ويزهق أحزابهم. وكانت أول بدعة علمتها فاشية من الفتن المضلة، ومن العماية بعد الهدى. وقد رأيت قوما في حياة أبي عبد الله كانوا لزموا البيت على أسباب من النسك، وقلة من العلم. فأكرمهم الناس ببعض ما ظهر لهم من حبهم للخير، فدخلهم العجب مع قلة العلم. فكان لا يزال أحدهم يتكلم بالأمر العجيب. فيدفع الله ذلك بقول الشيخ، جزاه الله أفضل ما جزى من تعلمنا منه، ولا يكون من أحد منهم من ذلك شيء إلا كان سبب فضيحته، وهتك ما مضى من ستره. فأنا حافظ من ذلك لأشياء كثيرة. وإنما هذا من مكايد إبليس مع جنوده. يقول لأحدهم: أنت أنت، ومن مثلك؟ فقل، قد قال غيرك، ثم يلقي في قلبه الشيء. وليس هناك سعة في علم، فيزين عنده: أن يبتدئه ليشمت به. وإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. وقد ظننت أن آخرين يلتمسون الشهرة، ويحبون أن يذكروا. وقد ذكر قبلهم قوم بألوان من البدع فافتضحوا، ولأن يكون الرجل تابعا في الخير خير من أن يكون رأسا في الشر. وقد قال ابن مسعود: (اتبعوا، ولا تبتدعوا، فقد كفيتم كل بدعة ضلالة). وقال: (أيها الناس إنكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالأمر الأول) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "البركة مع

أكابركم" (¬1) وقال ابن مسعود: (لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم) وقال ابن عمر: (كل بدعة ضلالة، وإن رآها الناس حسنة) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألا هلك المتنطعون" (¬2) وقال الصديق رضي الله عنه: (أي أرض تقلني؟ وأي سماء تظلني؟ إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم) وقال علي: (ما أبردها على الكبد إذا سئل الرجل عما لا يعلم: أن يقول: لا أعلم) وقال أبو موسى: (من علمه الله علما فليعلمه الناس، وإياه أن يقول ما لا علم له به، فيصير من المتكلفين، ويمرق من الدين) وقال ابن مسعود: (إذا سئل أحدكم عما لا يعلم، فليقر، ولا يستحي) وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث أنه قال: "من أحدث حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" (¬3) ... وقال الشعبي: (ما حدثوك عن رأيهم فألقه في الحش). وقال عمر بن عبد العزيز: إياك وما أحدث المحدثون. فإنه لم تكن بدعة إلا وقد مضى قبلها ما هو دليل عليها، وعبرة منها، فعليك بلزوم السنة. فإنها لك بإذن الله عصمة. وإن السنة إنما سنها من قد علم ما جاء في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق. وارض لنفسك بما رضي به القوم لأنفسهم. فإنهم عن علم وقفوا وببصر ناقد كفوا، ولهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وبفضل -لو كان فيها- أحرى. إنهم لهم السابقون. فلئن كان الهدى ¬

(¬1) أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (1/ 57/36 - 37) والطبراني في الأوسط (9/ 456 - 457/ 8986) وأبو نعيم في الحلية (8/ 171،172) وابن حبان (الإحسان 2/ 319/559) والحاكم (1/ 62) وقال: "صحيح على شرط البخاري" ووافقه الذهبي. كلهم عن ابن عباس. (¬2) أخرجه أحمد (1/ 386) ومسلم (4/ 2055/2670) وأبو داود (5/ 15/4608) من حديث عبد الله بن مسعود. (¬3) تقدم تخريجه. انظر مواقف علي رضي الله عنه سنة (40هـ).

ما أنتم عليه فقد سبقتموهم إليه، وإن قلتم: حدث حدث بعدهم، ما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم. ولقد تكلموا منه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي. فما دونهم مقصر ولا فوقهم محسر. لقد قصر دونهم أقوام فجفوا، وطمح آخرون عنهم فغلوا. وإنهم مع ذلك لعلى هدى مستقيم. وقال القاسم بن محمد: (لأن يعيش الرجل جاهلا خير له من أن يقول على الله ما لا يعلم). وقال ابن مسعود: (إن من العلم: إذا سئل الرجل عما لا يعلم: أن يقول: الله أعلم). وقال ابن عمر: (العلم ثلاث: آية محكمة، وسنة ماضية. ولا أدري). وقال الشعبي: (لا أدري: نصف العلم). وقال الربيع بن خثيم: (إياك أن يقول الرجل: حرم هذا، ونهى عن هذا. فيقول الله له: كذبت). وقال أحمد بن عبد الرحمن الحميري: (لأن أرده مغبة أحب إلي أن أتكلفه). وقال الشعبي: (والله ما أبالي سئلت عما أعلم، أو عما لا أعلم). يقول: إنه يسهل علَيّ أن أقول: لا أعلم. وقال عبد الله بن عتبة بن مسعود: (إنك لن تخطئ الطريق ما دمت على الأثر). وقال ابن عباس: (عليك بالاستقامة، وإياك والبدع والتبدع). وقال معاذ بن جبل: (إياكم والتبدع والتنطع، وعليكم بالعتيق). وقال ابن عباس: (لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض. فإن ذلك يوقع الشك في قلوبكم). وقال إبراهيم: (ما جعل الله في هذه الأهواء مثقال ذرة من خير. وما هي إلا زينة من الشيطان. وما الأمر إلا الأمر الأول. وقد جعل الله على الحق نورا يكشف به العلماء، ويصرف به

شبهات الخطأ. وإن الباطل لا يقوم للحق. قال الله عز وجل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (¬1) فهذه لكل واصف كذب إلى يوم القيامة. وإن أعظم الكذب أن تكذب على الله). وإن أبا عبد الله، وإن كان قريبا موته: فقد تقدمت إمامته، ولم يخلف فيكم شبهة. وإنما أبقاه الله لينفع به. فعاش ما عاش حميدا. ومات بحمد الله مغبوطا. يشهد له خيار عباد الله الذين جعلهم الله شهداء في أرضه. ويعرفون له ورعه وتقواه، واجتهاده وزهده، وأمانته في المسلمين وفضل علمه. ولقد انتهى إلينا أن الأئمة الذين لم ندركهم كان منهم من ينتهي إلى قوله، ويسأله. ومنهم من يقدمه ويصفه. ولقد أخبرت أن وكيع بن الجراح كان ربما سأله، وأن عبد الرحمن بن مهدي كان يحكي عنه ويحتج به. ويقدمه في العلم ويصفه. وذلك نحو ستين سنة. وأخبرت أن الشافعي كانت أكثر معرفته بالحديث مما تعلم منه. ولقد أخبرت أن إسماعيل بن علية كان يهابه. وقال لي شيخ مرة: ضحكنا من شيء، وثم أحمد بن حنبل، فجئنا بعد إلى إسماعيل فوجدناه غضبان. فقال: تضحكون وعندي أحمد بن حنبل؟ وأخبرت أن يزيد بن هارون ذكره فبكى. وأخبرت أن يزيد عاده في منزله. وأخبرت أن أبا عاصم قال: ما جاءنا مثله. ¬

(¬1) الأنبياء الآية (18).

موقفه من الرافضة والقدرية:

وكم بلغنا مثل هذا. وذكر تمام الرسالة بطولها. (¬1) موقفه من الرافضة والقدرية: - قال شيخ الإسلام في الصارم المسلول: قال أبو بكر بن هاني: لا تؤكل ذبيحة الروافض والقدرية كما لا تؤكل ذبيحة المرتد، مع أنه تؤكل ذبيحة الكتابي؛ لأن هؤلاء يقامون مقام المرتد، وأهل الذمة يقرون على دينهم، وتؤخذ منهم الجزية. (¬2) موقفه من الجهمية: - هو من أكبر أئمة أصحاب الإمام أحمد وله من الآثار في العقيدة السلفية كتاب السنة. وقد ذكره غير واحد ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية. (¬3) أحمد بن عبد الله العِجْلِي (¬4) (261 هـ) الإمام الحافظ، الأوحد الزاهد، أبو الحسن، أحمد بن عبد الله بن صالح ابن مسلم، العجلي الكوفي، نزيل مدينة طرابلس المغرب. ولد بالكوفة في سنة اثنتين وثمانين ومائة. سمع من حسين الجعفي، وشبابة بن سوار، ومحمد بن يوسف الفريابي ووالده الإمام عبد الله بن صالح المقرئ وطبقتهم. حدث عنه ولده صالح بن أحمد، وسعيد بن عثمان الأعناقي، وسعيد بن إسحاق، وولده ¬

(¬1) طبقات الحنابلة (1/ 68 - 72). (¬2) الصارم (572). (¬3) انظر درء التعارض (7/ 108) والذهبي في السير (12/ 624). (¬4) تاريخ بغداد (4/ 214 - 215) وتذكرة الحفاظ (2/ 560 - 561) والوافي بالوفيات (7/ 79 - 80) وشذرات الذهب (2/ 141) والسير (12/ 505 - 507).

موقفه من الرافضة والجهمية:

صالح الذي روى عنه كتابه في الجرح والتعديل، المعروف بـ 'معرفة الثقات' وله مؤلف آخر هو 'التاريخ'. قال عنه عباس بن محمد الدوري: كنا نعده مثل أحمد بن حنبل ويحيى بن معين. وقال عنه يحيى بن معين: ثقة ابن ثقة ابن ثقة. وقد فر إلى المغرب ونزل طرابلس لما ظهر الامتحان بخلق القرآن فاستوطنها وولد له بها. وقيل إنما سكن بها للتفرد والعبادة. ولم يكن له بالمغرب شبيه ولا نظير في زمانه في معرفة الغريب وإتقانه وفي زهده وورعه. توفي رحمه الله سنة إحدى وستين ومائتين. موقفه من الرافضة والجهمية: - جاء في السير: ومن كلام أحمد بن عبد الله قال: من آمن برجعة علي رضي الله عنه فهو كافر ومن قال القرآن مخلوق فهو كافر. (¬1) الإمام مسلم (¬2) (261 هـ) الإمام الكبير الحافظ المجود الحجة الصادق، أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري صاحب التصانيف أشهرها 'الصحيح' ولد سنة أربع ومائتين، وأول سماعه سنة ثمان عشرة ومائتين فأكثر عن يحيى بن يحيى التميمي، والقعنبي وسمع كذلك من أحمد بن يونس وسعيد ¬

(¬1) السير (12/ 506) والتذكرة (2/ 561). (¬2) الجرح والتعديل (8/ 182 - 183) وتاريخ بغداد (13/ 100 - 104) وتهذيب الكمال (27/ 499 - 507) والسير (12/ 557 - 580) وطبقات الحنابلة (1/ 337 - 339) والأنساب (5/ 503) وتذكرة الحفاظ (2/ 588 - 590) والمنتظم (12/ 171 - 172) ووفيات الأعيان (5/ 194 - 196) وشذرات الذهب (2/ 144 - 145).

موقفه من المبتدعة:

بن منصور، وأحمد بن حنبل وخلق كثير، وعدتهم مائتان وعشرون رجلا. أخرج عنهم في 'الصحيح' وشيوخ آخرين في غيره، روى عنه الترمذي، وإبراهيم بن محمد الفقيه وعبد الرحمن بن أبي حاتم، وأحمد بن سلمة الحافظ، وابن خزيمة، والحافظ أبو عوانة ونصر بن أحمد الحافظ، وغيرهم. قال أحمد ابن سلمة: رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما. وقال أبو قريش الحافظ: حفاظ الدنيا أربعة: أبو زرعة بالري، ومسلم بنيسابور وعبد الله الدارمي بسمرقند، ومحمد بن إسماعيل ببخارى. وقال الحسين بن محمد الماسرجسي: سمعت أبي يقول: سمعت مسلما يقول: صنفت هذا 'المسند الصحيح' من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة. وقد صنف رحمه الله الكثير من المصنفات الحديثية منها: 'الأسماء والكنى' و'العلل' و'الطبقات' وغيرها. توفي رحمه الله في شهر رجب سنة إحدى وستين ومائتين بنيسابور عن بضع وخمسين سنة. موقفه من المبتدعة: - لقد أبدى مسلم في صحيحه، براعة فائقة في الرد على المبتدعة، فكان أول كتاب افتتح به صحيحه بعد المقدمة التي ضمنها مدخلا لدراسة السنة عموما، وكتابه على الخصوص، كتاب (الإيمان)، ساق فيه من الأحاديث ما فيه رد على المرجئة والجهمية والخوارج والمعتزلة. فساق من الأحاديث الكثيرة ما يدل على زيادة الإيمان ونقصانه. وساق من أحاديث الشفاعة وعذاب القبر ودخول عصاة الموحدين إلى الجنة، ما يرد به على الخوارج والمعتزلة ومن أحاديث إثبات الرؤية لله عز وجل يوم القيامة، كما

ساق في ثنايا الكتاب من أحاديث الصفات ما يرد به على الجهمية وأفراخهم، خالية من التأويل والتحريف الذي هو منهج الجهمية. وعقد كتابا كبيرا في ذكر فضائل أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - عموما، والصديق وعمر على الخصوص وما يرد به على الشيعة الذين شغلهم إبليس بسب خيار الأمة. - بعد ما ذكر الإمام مسلم رحمه الله جماعة من الضعفاء والكذابين في الحديث قال: وأشباه ما ذكرنا من كلام أهل العلم في متهمي رواة الحديث وإخبارهم عن معايبهم كثير يطول الكتاب بذكره، على استقصائه، وفيما ذكرنا كفاية لمن تفهم وعقل مذهب القوم فيما قالوا من ذلك وبينوا. وإنما ألزموا أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث وناقلي الأخبار وأفتوا بذلك حين سئلوا لما فيه من عظيم الخطر؛ إذ الأخبار في أمر الدين إنما تأتي بتحليل، أو تحريم أو أمر، أو نهي، أو ترغيب، أو ترهيب، فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن للصدق والأمانة، ثم أقدم على الرواية عنه من قد عرفه ولم يبين ما فيه لغيره ممن جهل معرفته، كان آثما بفعله ذلك، غاشا لعوام المسلمين، إذ لا يؤمن على بعض من سمع تلك الأخبار أن يستعملها، أو يستعمل بعضها ولعلها أو أكثرها أكاذيب لا أصل لها، مع أن الأخبار الصحاح من رواية الثقات وأهل القناعة أكثر من أن يضطر إلى نقل من ليس بثقة ولا مقنع. ولا أحسب كثيرا ممن يعرج من الناس على ما وصفنا من هذه الأحاديث الضعاف والأسانيد المجهولة، ويعتد بروايتها بعد معرفته بما فيها من التوهن والضعف، إلا أن الذي يحمله على روايتها والاعتداد بها إرادة التكثر بذلك عند العوام، ولأن يقال: ما أكثر ما جمع فلان من الحديث وألف من

موقفه من القدرية:

العدد. ومن ذهب في العلم هذا المذهب، وسلك هذا الطريق فلا نصيب له فيه وكان بأن يسمى جاهلا أولى من أن ينسب إلى علم. (¬1) " التعليق: في هذه الكلمة الذهبية فوائد جمة تنبيء عن خبرة واسعة، وعن نصيحة صادقة، وعن إخلاص مستميت وكأنه معاين ما نعانيه من أهل العصر الذين قل علمهم وكثر جهلهم وجهالاتهم، وغشهم للأمة وعدم النصح لها، فجزى الله إمام أهل الحديث خيرا على هذه النصيحة الغالية والتي يستفاد منها: 1 - وجوب بيان الحق وتحريم السكوت عن الباطل. 2 - بيان بطلان مذهب المستكثرين بالباطل. 3 - خطر التساهل في تلقي المعلومات كيف ما كان نوعها في تحريم أو تحليل أو أمر أو نهي أو ترغيب أو ترهيب، وشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - لا تخرج عن هذا. 4 - وجوب النصيحة لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بقدر الاستطاعة وبقدر الإمكان. موقفه من القدرية: - عقد في صحيحه كتابا سماه: (كتاب القدر). ¬

(¬1) انظر مقدمة مسلم (1/ 28).

أبو زيد عمر بن شبة النميري (262 هـ)

أبو زيد عمر بن شَبَّة النُّمَيْرِي (¬1) (262 هـ) العلامة الأخباري عمر بن شبة بن عبيدة بن زيد بن رائطة النميري، أبو زيد البصري النحوي، نزيل بغداد. ولد سنة ثلاث وسبعين ومائة. روى عن يحيى بن سعيد القطان وعلي بن عاصم ويزيد بن هارون وغندر ومعاذ بن معاذ، وطائفة. وروى عنه ابن ماجه وأحمد بن يحيى ثعلب وابن صاعد وابن أبي الدنيا ومحمد بن أحمد الأثرم وعبد الرحمن بن أبي حاتم، وخلق سواهم. قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: كتبت عنه مع أبي وهو صدوق، صاحب عربية وأدب. وقال ابن حبان: مستقيم الحديث، وكان صاحب أدب وشعر وأخبار ومعرفة بأيام الناس. وقال الخطيب: كان ثقة، عالما بالسير وأيام الناس، وله تصانيف كثيرة، وكان قد نزل في آخر عمره سر من رأى، وتوفي بها. وذلك سنة اثنتين وستين ومائتين. موقفه من الجهمية: - جاء في تاريخ بغداد عن أبي علي العنزي قال: امتحن عمر بن شبة بسر من رأى بحضرتي. فقال: القرآن كلام الله ليس بمخلوق. فقالوا له: فتقول من وقف فهو كافر. فقال: لا أكفر أحدا، فقالوا له أنت كافر ومزقوا كتبه، فلزم بيته وحلف أن لا يحدث شهرا، وكان ذلك حدثان قدومه من بغداد بعد الفتنة. (¬2) ¬

(¬1) تاريخ بغداد (11/ 208 - 210) والمنتظم (12/ 184) والكامل لابن الأثير (7/ 306) ووفيات الأعيان (3/ 440) وتهذيب الكمال (21/ 386 - 390) والسير (12/ 369 - 372) وشذرات الذهب (2/ 146). (¬2) تاريخ بغداد (11/ 209).

موقف السلف من يعقوب بن شيبة (262 هـ)

موقف السلف من يعقوب بن شيبة (262 هـ) بيان جهميته: - جاء في السير: قال أحمد بن كامل القاضي: وكان يقف في القرآن. قال الذهبي: أخذ الوقف عن شيخه أحمد المذكور، وقد وقف علي بن الجعد، ومصعب الزبيري، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وجماعة، وخالفهم نحو من ألف إمام، بل سائر أئمة السلف والخلف على نفي الخليقة عن القرآن، وتكفير الجهمية. نسأل الله السلامة في الدين. (¬1) - وفيها: وقد كان المتوكل أمر عبد الرحمن بن يحيى بن خاقان أن يسأل أحمد بن حنبل عمن يقلد القضاء. قال عبد الرحمن: فسألته عن يعقوب بن شيبة، فقال: مبتدع صاحب هوى. قال الخطيب: وصفه أحمد بذلك لأجل الوقف. (¬2) محمد بن أحمد بن حفص بن الزِّبْرِقان (¬3) (264 هـ) مولى بني عجل، عالم ما وراء النهر، شيخ الحنفية، أبو عبد الله البخاري. تفقه بوالده العلامة أبي حفص. قال أبو عبد الله بن مندة: كان عالم أهل بخارى وشيخهم. وكان قد ارتحل، وسمع من أبي الوليد الطيالسي، ¬

(¬1) السير (12/ 478). (¬2) السير (12/ 478) وتاريخ بغداد (14/ 282). (¬3) السير (12/ 617) وتاريخ الإسلام (حوادث 261 - 270/ص.153 - 154).

موقفه من الجهمية:

والحميدي، وأبي نعيم عارم، ويحيى بن يحيى، وعبد الله بن رجاء وطبقتهم. وروى عنه أبو عصمة أحمد بن محمد اليشكري، وعبدان بن يوسف، وعلي ابن حسن بن عبدة، وطائفة، آخرهم وفاة أحمد بن خالد البخاري. رافق البخاري في الطلب مدة، وله كتاب 'الأهواء والاختلاف' وكان ثقة إماما ورعا زاهدا ربانيا، صاحب سنة واتباع، لقي أبا نعيم وهو أكبر شيوخه، وكان يقول بتحريم النبيذ المسكر، وكان أبوه من كبار تلامذة محمد ابن الحسن انتهت إليه رئاسة الأصحاب ببخارى، وإلى ابنه أبي عبد الله هذا. وتفقه عليه أئمة. قال أبو القاسم بن مندة: توفي أبو عبد الله في رمضان سنة أربع وستين ومائتين رحمه الله. موقفه من الجهمية: له كتاب: 'الرد على اللفظية'. (¬1) أبو حفص الحداد الصوفي (264 هـ) موقفه من المبتدعة: - وقال أبو حفص الحداد: من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة، ولم يتهم خواطره، فلا تعده في ديوان الرجال. (¬2) - وسئل عن البدعة؟ فقال: التعدي في الأحكام، والتهاون في السنن، ¬

(¬1) السير (12/ 617 - 618). (¬2) الاعتصام (1/ 127) والسير (12/ 512).

أبو زرعة الرازي (264 هـ)

واتباع الآراء والأهواء، وترك الاتباع والاقتداء. (¬1) أبو زُرْعَة الرازي (¬2) (264 هـ) الإمام سيد الحفاظ أحد الأئمة المشهورين، والأعلام المذكورين، والجوالين المكثرين، والحفاظ المتقنين، عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد بن فروخ مولى عياش بن مطرف القرشي، أبو زرعة الرازي. جالس الإمام أحمد مدة. وسمع أبا نعيم وقبيصة وخلاد بن يحيى ومسلم بن إبراهيم والقعنبي، وطبقتهم بالحرمين والعراق والشام والجزيرة وخراسان ومصر. وكان من أفراد الدهر حفظا وذكاء ودينا وإخلاصا وعلما وعملا. حدث عنه مسلم وابن خالته أبو حاتم، والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو عوانة وابن أبي حاتم وآخرون. قال البخاري: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: نزل أبو زرعة عندنا فقال لي أبي: يا بني قد اعتضت عن نوافلي بمذاكرة هذا الشيخ. قال صالح بن محمد: سمعت أبا زرعة يقول كتبت عن ابن أبي شيبة مائة ألف حديث، وعن إبراهيم بن موسى الرازي مائة ألف، قلت: تقدر أن تملي علي ألف حديث من حفظك؟ قال: لا ولكني إذا ألقي علي عرفت. قال ابن أبي شيبة: ما رأيت أحفظ من أبي زرعة. قال أبو يعلى الموصلي: ما سمعنا بذكر ¬

(¬1) ذم الكلام (273) وانظر الاعتصام (1/ 127). (¬2) تهذيب الكمال (19/ 89 - 104) وتذكرة الحفاظ (2/ 557 - 559) والأنساب (3/ 24) وشذرات الذهب (2/ 148) وتاريخ بغداد (10/ 326 - 337) والسير (13/ 65 - 85) والجرح والتعديل (1/ 328 - 349) وتهذيب التهذيب (7/ 30 - 34).

موقفه من المبتدعة والصوفية:

أحد في الحفظ، إلا كان اسمه أكبر من رؤيته، إلا أبا زرعة الرازي، فإن مشاهدته كانت أعظم من اسمه وكان قد جمع حفظ الأبواب والشيوخ والتفسير، كتبنا بانتخابه بواسط ستة آلاف حديث. قال إسحاق بن راهويه: كل حديث لا يعرفه أبو زرعة الرازي فليس بحديث. قال يونس بن عبد الأعلى: ما رأيت أكثر تواضعا من أبي زرعة، هو وأبو حاتم إماما خراسان. ومناقبه وسيرته رحمه الله أكبر من أن تذكر في سطور. مات بالري يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء سلخ ذي الحجة سنة أربع وستين ومائتين. موقفه من المبتدعة والصوفية: - قال الحافظ سعيد بن عمرو البردعي: شهدت أبا زرعة -وقد سئل عن الحارث المحاسبي وكتبه- فقال للسائل: إياك وهذه الكتب، هذه كتب بدع وضلالات؛ عليك بالأثر؛ فإنك تجد فيه ما يغنيك. قيل له: في هذه الكتب عبرة. فقال: من لم يكن له في كتاب الله عبرة فليس له في هذه الكتب عبرة، بلغكم أن سفيان ومالكا والأوزاعي صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس؟ ما أسرع الناس إلى البدع. (¬1) " التعليق: قال الذهبي: مات الحارث سنة ثلاث وأربعين ومائتين. وأين مثل الحارث؟ فكيف لو رأى أبو زرعة تصانيف المتأخرين كالقوت لأبي طالب؟ وأين مثل القوت؟ كيف لو رأى بهجة الأسرار لابن جهضم، وحقائق ¬

(¬1) تاريخ بغداد (8/ 215) والسير (12/ 112).

التفسير للسلمي؟ لطار لبه، كيف لو رأى تصانيف أبي حامد الطوسي في ذلك على كثرة ما في الإحياء من الموضوعات؟ كيف لو رأى الغنية للشيخ عبد القادر؟ كيف لو رأى فصوص الحكم والفتوحات المكية؟ بلى لما كان الحارث لسان القوم في ذلك العصر، كان معاصره ألف إمام في الحديث، فيهم مثل أحمد بن حنبل، وابن راهويه؛ ولما صار أئمة الحديث مثل ابن الدخميسي، وابن شحانة كان قطب العارفين كصاحب الفصوص، وابن سفيان. نسأل الله العفو والمسامحة آمين. (¬1) قلت: في جواب الإمام أبي زرعة تكميم لأفواه الخراصين الذين يولدون مثل هذه الأسئلة السمجة التي تنم عن جهل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وجهل بما خصهما الله به من الهداية. قال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ ¬

(¬1) ميزان الاعتدال (1/ 431).

يَتَوَكَّلُونَ}، وقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}. - عن عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار وما يعتقدان من ذلك؟ فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار -حجازا وعراقا وشاما ويمنا- فكان من مذهبهم: الإيمان: قول وعمل، يزيد وينقص. والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته. والقدر خيره وشره من الله عز وجل. وخير هذه الأمة بعد نبيها عليه الصلاة والسلام أبو بكر الصديق ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب عليهم السلام، وهم الخلفاء الراشدون المهديون، وأن العشرة الذين سماهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشهد لهم بالجنة على ما شهد به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقوله الحق. والترحم على جميع أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - والكف عما شجر بينهم. وأن الله عز وجل على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - بلا كيف، أحاط بكل شيء علما {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬1)، وأنه تبارك وتعالى يرى في ¬

(¬1) الشورى الآية (11).

الآخرة؛ يراه أهل الجنة بأبصارهم ويسمعون كلامه كيف شاء وكما شاء. والجنة حق والنار حق، وهما مخلوقان لا يفنيان أبدا، والجنة ثواب لأوليائه والنار عقاب لأهل معصيته، إلا من رحم الله عز وجل. والصراط حق والميزان حق له كفتان توزن فيه أعمال العباد حسنها وسيئها حق، والحوض المكرم به نبينا حق، والشفاعة حق، والبعث من بعد الموت حق. وأهل الكبائر في مشيئة الله عز وجل، ولا نكفر أهل القبلة بذنوبهم ونكل أسرارهم إلى الله عزوجل، ونقيم فرض الجهاد والحج مع أئمة المسلمين في كل دهر وزمان، ولا نرى الخروج على الأئمة ولا القتال في الفتنة، ونسمع ونطيع لمن ولاه الله عز وجل أمرنا ولا ننزع يدا من طاعة ونتبع السنة والجماعة ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة. وأن الجهاد ماض مذ بعث الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة مع أولي الأمر من أئمة المسلمين لا يبطله شيء. والحج كذلك ودفع الصدقات من السوائم إلى أولي الأمر من أئمة المسلمين، والناس مؤمنون في أحكامهم ومواريثهم ... والمرجئة المبتدعة ضلال، والقدرية المبتدعة ضلال. فمن أنكر منهم أن الله عز وجل لا يعلم ما لم يكن قبل أن يكون فهو كافر. وأن الجهمية كفار وأن الرافضة رفضوا الإسلام والخوارج مراق. ومن زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم كفرا ينقل عن الملة. ومن شك في كفره ممن يفهم فهو كافر، ومن شك في كلام الله عز وجل فوقف شاكا فيه يقول لا أدري مخلوق أو غير مخلوق فهو جهمي. ومن وقف في القرآن جاهلا علم وبدع

موقفه من الرافضة:

ولم يكفر. ومن قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي أو القرآن بلفظي مخلوق فهو جهمي ... - قال أبو محمد: وسمعت أبي وأبا زرعة يأمران بهجران أهل الزيغ والبدع يغلظان في ذلك أشد التغليظ وينكران وضع الكتب برأي في غير آثار. وينهيان عن مجالسة أهل الكلام والنظر في كتب المتكلمين ويقولان لا يفلح صاحب كلام أبدا. (¬1) موقفه من الرافضة: جاء في الكفاية: عن أحمد بن محمد بن سليمان التستري قال: سمعت أبا زرعة يقول: إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعلم أنه زنديق وذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندنا حق والقرآن حق وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة. (¬2) - وروى ابن عساكر عن أبي زرعة الرازي أنه قال له رجل: إني أبغض معاوية، فقال له: ولم؟ قال: لأنه قاتل عليا، فقال له أبو زرعة: ويحك إن رب معاوية رحيم، وخصم معاوية خصم كريم، فإيش دخولك أنت بينهما؟ رضي الله عنهما. (¬3) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (1/ 197 - 201/ 321و322) واجتماع الجيوش الإسلامية (213) ومجموع الفتاوى (3/ 222 - 223) مختصرا. والأثر الأخير أخرجه الهروي في ذم الكلام (269). (¬2) الكفاية (49) وتاريخ دمشق (38/ 32 - 33). (¬3) البداية والنهاية (8/ 133) وفتح الباري (13/ 86).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: - جاء في أصول الاعتقاد: قال عبد الرحمن: سئل أبو زرعة عن أفعال العباد فقال: مخلوقة. فقيل له: لفظنا بالقرآن من أفعالنا؟ قال: لا يقال هذا. (¬1) -قال شيخ الإسلام: وروي عن أبي زرعة الرازي أنه لما سئل عن تفسير قوله: {الرحمن على العرش استوى} (¬2) فقال: تفسيره كما يقرأ، هو على العرش، وعلمه في كل مكان، ومن قال غير هذا فعليه لعنة الله. (¬3) - عن أبي زرعة، قال: إن الذي عندنا أن القوم لم يزالوا يعبدون خالقا كاملا لصفاته ومن زعم أن الله كان ولا علم ثم خلق علما فعلم بخلقه، أو لم يكن متكلما فخلق كلاما ثم تكلم به، أو لم يكن سميعا بصيرا ثم خلق سمعا وبصرا، فقد نسبه إلى النقص، وقائل هذا كافر. لم يزل الله كاملا بصفاته لم يحدث فيه صفة، ولا تزول عنه صفة قبل أن يخلق الخلق وبعد ما خلق الخلق كاملا بصفاته، فمن وجه أن الرب تبارك وتعالى يتكلم كيف يتكلم بشفتين ولسان ولهوات، فهذه السماوات والأرض قال لهما: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (¬4) أفهاهنا شفتان ولسان ولهوات. (¬5) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 390/597). (¬2) طه الآية (5). (¬3) مجموع الفتاوى (5/ 50). (¬4) فصلت الآية (11). (¬5) الفتاوى الكبرى (5/ 63 - 64).

المزني (264 هـ)

- وجاء في الميزان: قال أبو زرعة الرازي: بشر المريسي زنديق. (¬1) المُزَنِي (¬2) (264 هـ) الإمام العلامة، فقيه الملة، علم الزهاد، أبو إبراهيم، إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن مسلم المزني المصري، تلميذ الشافعي، مولده في سنة موت الليث بن سعد سنة خمس وسبعين ومائة. حدث عن الشافعي، وعن علي بن معبد بن شداد، ونعيم بن حماد، وغيرهم. حدث عنه إمام الأئمة أبو بكر بن خزيمة، وأبو جعفر الطحاوي وأبو نعيم بن عدي، وعبد الرحمن بن أبي حاتم، وخلق كثير من المشارقة والمغاربة. وامتلأت البلاد بمختصره في الفقه، وشرحه عدة من الكبار، بحيث يقال: كانت البكر يكون في جهازها نسخة من مختصر المزني. قال الفقيه أبو إسحاق: فأما الشافعي رحمه الله فقد انتقل فقهه إلى أصحابه، فمنهم أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، مات بمصر. قال: وكان زاهدا عالما مناظرا محجاجا غواصا على المعاني الدقيقة صنف كتبا كثيرة: 'الجامع الكبير'، و'الجامع الصغير' و'المنثور' و'المسائل المعتبرة' و'الترغيب في العلم' وكتاب 'الوثائق'. قال الشافعي: المزني ناصر مذهبي. وعن عمرو بن عثمان المكي، قال: ما رأيت أحدا من المتعبدين في كثرة من لقيت منهم أشد اجتهادا من المزني، ولا أدوم على العبادة منه، وما ¬

(¬1) الميزان (1/ 323). (¬2) الجرح والتعديل (2/ 204) ووفيات الأعيان (1/ 217 - 219) والسير (12/ 492 - 497) وطبقات الشافعية (1/ 238 - 249) والبداية والنهاية (11/ 40) وشذرات الذهب (2/ 148).

موقفه من المبتدعة:

رأيت أحدا أشد تعظيما للعلم وأهله منه، وكان من أشد الناس تضييقا على نفسه في الورع، وأوسعه في ذلك على الناس، وكان يقول: أنا خلق من أخلاق الشافعي. وبه انتشر مذهب الإمام الشافعي. وكان يغسل الموتى تعبدا واحتسابا، وهو القائل: تعانيت غسل الموتى ليرق قلبي فصار لي عادة، وهو الذي غسل الشافعي رحمه الله. توفي في رمضان لست بقين من سنة أربع وستين ومائتين. وله تسع وثمانون سنة. موقفه من المبتدعة: - قال شيخ الإسلام: وفي مختصر المزني لما ذكر أنه اختصره من مذهب الشافعي لمن أراد معرفة مذهبه قال: مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره من العلماء. (¬1) - قال ابن عبد البر: وقد احتج جماعة من الفقهاء وأهل النظر على من أجاز التقليد بحجج نظرية عقلية بغير ما تقدم، فأحسن ما رأيت من ذلك قول المزني رحمه الله، وأنا أورده، قال: يقال لمن حكم بالتقليد: هل لك من حجة فيما حكمت به؟ فإن قال: 'نعم' أبطل التقليد لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد. وإن قال: 'حكمت فيه بغير حجة ' قيل له: فلم أرقت الدماء وأبحت الفروج وأتلفت الأموال وقد حرم الله ذلك إلا بحجة؟ قال الله عز وجل: {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} (¬2) أي من حجة بها. فإن قال: 'أنا ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (20/ 211). (¬2) يونس الآية (68).

موقفه من الجهمية:

أعلم أني قد أصبت وإن لم أعرف الحجة لأني قلدت كبيرا من العلماء وهو لا يقول إلا بحجة خفيت علي' قيل له: إذا جاز تقليد معلمك لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عليك فتقليد معلم معلمك أولى لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت على معلمك، كما لم يقل معلمك إلا بحجة خفيت عليك، فإن قال: 'نعم' ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه، وكذلك من هو أعلى حتى ينتهي الأمر إلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن أبى ذلك نقض قوله، وقيل له: كيف تجوز تقليد من هو أصغر وأقل علما ولا تجوز تقليد من هو أكبر وأكثر علما وهذا تناقض؟ فإن قال: ' لأن معلمي وإن كان أصغر فقد جمع علم من هو فوقه إلى علمه فهو أبصر بما أخذ وأعلم بما ترك' قيل له: وكذلك من تعلم من معلمك فقد جمع علم معلمك وعلم من فوقه إلى علمه، فيلزمك تقليده وترك تقليد معلمك، وكذلك أنت أولى أن تقلد نفسك من معلمك؛ لأنك جمعت علم معلمك وعلم من هو فوقه إلى علمك، فإنفاذ (¬1) قولِه جعلُ الأصغر ومن يحدث من صغار العلماء أولى بالتقليد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك الصاحب عنده يلزمه تقليد التابع، والتابع من دونه في قياس قوله، والأعلى للأدنى أبدا وكفى بقول يؤول إلى هذا قبحا وفسادا. (¬2) موقفه من الجهمية: - جاء في أصول الاعتقاد: عن محمد بن هارون بن حفص قال: سمعت عبد السلام بن شنقار المصري يقول: جاء كتاب من المحلة إلى المزني يسأل عن ¬

(¬1) في الأصل: فإن (فاد)، وفي المطبوع (2/ 143): أعاد، وفي إعلام الموقعين: قلد. ولعل الصواب ما أثبتناه .. (¬2) جامع بيان العلم (2/ 992 - 993) وهو في إعلام الموقعين (2/ 196 - 197).

رجل قال: ورب يس لا فعلت كذا، ففعل فحنث؟ قال المزني: لا شيء عليه، ومن قال حانث يقول: القرآن مخلوق. (¬1) - وفيه: عن يوسف بن موسى قال: كنا عند أبي إبراهيم المزني فتقدمت أنا وأصحاب لنا إليه فقلنا: نحن قوم من خراسان وقد نشأ عندنا قوم يقولون: القرآن مخلوق ولسنا ممن نخوض في الكلام ولا نستفتيك في هذه المسألة إلا لديننا ولمن عندنا لنخبرهم عنك -ثم كتبنا عنه- فقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، فمن قال القرآن مخلوق فهو كافر. (¬2) - وفي الفتاوى الكبرى: قال محمد بن عقيل بن الأزهر الفقيه: جاء رجل إلى المزني فسأله عن شيء من الكلام، فقال: إني أكره هذا بل أنهى عنه كما نهى عنه الشافعي. (¬3) - وفي السير: قال عمرو بن تميم المكي: سمعت محمد بن إسماعيل الترمذي قال: سمعت المزني يقول: لا يصح لأحد توحيد حتى يعلم أن الله تعالى على العرش بصفاته. قلت له: مثل أي شيء؟ قال: سميع بصير عليم. (¬4) - وفي ذم الكلام عنه قال: القرآن كلام الله غير مخلوق، وما دنت بغير هذا قط، ومن قال مخلوق، فهو كافر، ولكن الشافعي كان ينهى عن الكلام. (¬5) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 294 - 295/ 464). (¬2) أصول الاعتقاد (2/ 295/465). (¬3) الفتاوى الكبرى (5/ 244). (¬4) السير (12/ 494). (¬5) ذم الكلام (269).

موقفه من المرجئة:

- وفيه: عن أحمد بن محمد بن عمر المنكدري قال: سمعت أبا إبراهيم بن يحيى المزني في علته التي توفي فيها يقول: جعلت الناس كلهم في حل إلا من ذكر أني تكلمت في شيء من القرآن. لفظ أو وقف. كنت رجلا من العرب من أولاد المهاجرين، فكرهت أن أسلم نفسي للصبيان أن يلعبوا بي، سألوني عن القرآن فأمسكت تعجبا، وما أجبت فيه بشيء ولا يتعلق أحد من الناس أني قلت شيئا. (¬1) آثاره السلفية: - وله كتاب السنة: وهي رسالة نقلها الإمام ابن القيم في 'اجتماع الجيوش'، أسلوبها رائع وهي غزيرة المعاني كثيرة الفوائد. (¬2) موقفه من المرجئة: - عن أبي سعيد الفريابي قال: سألت المزني في مرضه الذي توفي فيه عن الإيمان -وهو يومئذ ثقيل من المرض يغمى عليه مرة ويفيق مرة، وقد كانوا صرخوا عليه تلك الليلة وظنوا أنه قد مات- فقلت له: أنت إمامي بعد كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - قولك في الإيمان: إن الناس قد اختلفوا فيه: فمنهم من زعم: أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص. ومنهم من قال: قول وعمل يزيد، ومنهم من قال قول والعمل شرائعه. فقال مجيبا بسؤال ثقيل: من الذي يقول: قول وعمل؟ قلت: مالك والليث بن سعد وابن جريج وذكرت له جماعة فقال: لا يعجبني أو لا أحبه أن يكفر أحد إنما قال سلني عن الاسم أو معنى الاسم فتعجبت من سؤاله إيايي مع ما هو فيه وهو يغمى عليه فيما بين ¬

(¬1) ذم الكلام (269). (¬2) اجتماع الجيوش الإسلامية (155 - 158).

موقفه من القدرية:

ذلك. ثم قال: من أخطأ في الاسم ليس كمن أخطأ في المعنى، الخطأ في المعنى أصعب. ثم قال: فيما يقول هذا القائل فيمن جهل بعض الأعمال؟ هو مثل من جهل المعرفة -يريد التوحيد كله- ثم قال: هذا باب لم أعمل فيه فكري ولكن انظر لك فيه. فلما قال لي ذلك أغمي عليه فقبلت جبينه ولم يعلم بذلك وما شعر بي وذلك أني قبلت في ذلك [المجلس يده] فمد يدي فقبلها فلما كان بعد العصر من يومي ذلك رجعت إليه فقال لي ابن أخيه عتيق: إنه سأل عنك، وقال: قل له: الإيمان: قول وعمل فقعدت عنده حذاء وجهه ففتح عينه ثقيلا فقال لي: الفريابي؟ قلت نعم أكرمك الله. قال: لا خلاف بين الناس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف بالبيت قال: (إيمانا بك وتصديقا بكتابك) وهذا دليل على أن جميع الأعمال من الإيمان. قال أبو سعيد: هذا آخر مسألة سألت المزني عنها ومات بعد هذا بثلاثة أيام. (¬1) موقفه من القدرية: - جاء في أصول الاعتقاد: عن عصام بن منصور الرازي قال: سألت المزني عن معنى حديث ابن مسعود عندما قال: إن يك صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان؟ قال المزني: يحتمل عندي أن ذلك من محبته لأنه عدو الله يحب الخطأ ويكره الصواب فأضاف إلى الشيطان لأن الشيطان كان له في ذلك صنع. وقد قال الله عز وجل: {لا تعبدوا الشيطان} (¬2) لا أنهم ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (5/ 957 - 959/ 1596). (¬2) يس الآية (60).

قصدوه بالعبادة ولكن لما عملوا بالمعاصي التي نهاهم الله عنها جعل ذلك عبادة للشيطان لأن ذلك من شأنه فأضاف ذلك إليه لا أنهم قصدوا عبادته ولا إجلاله ولا إعظامه وقال الله عز وجل {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (¬1). قال في التفسير: لم يعبدوهم ولكنهم كانوا إذا حرموا شيئا حرموه وإذا أحلوا أحلوه لا أنهم اتخذوهم أربابا ولكن أطاعوهم فسموا بذلك. وقال صاحب الخضر: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} وقال: {وَأَضَلَّهُمُ السامري} (¬3) وقال: {قل يتوفاكم ملك الموت} (¬4) وقال: {اللَّهُ يتوفى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} (¬5) فالله الخالق لكل ذلك وإن أضيفت الأسباب إلى من يدعو إليها والله الخالق لا غير الله وأفعال العباد مخلوقة لا يقدر أحد أن يشاء شيئا إلا أن يشاء الله وقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬6).اهـ (¬7) - وفيه: عن عصام بن الفضل: سمعت المزني يقول سألت الشافعي عن ¬

(¬1) التوبة الآية (31). (¬2) الكهف الآية (63). (¬3) طه الآية (85). (¬4) السجدة الآية (11). (¬5) الزمر الآية (42). (¬6) التكوير الآية (29). (¬7) أصول الاعتقاد (4/ 777 - 778/ 1306).

عبد الله بن أيوب المخرمي (265 هـ)

قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ستة لعنهم الله ... فذكر المكذب بالقدر" (¬1) فقلت له من القدرية؟ فقال: نعم هم الذين زعموا أن الله لا يعلم المعاصي حتى تكون. قال المزني: هذا عندي كفر. (¬2) عبد الله بن أيوب المُخَرِّمي (¬3) (265 هـ) الإمام المحدث أبو محمد عبد الله بن محمد بن أيوب بن صبيح البغدادي سمع من سفيان بن عيينة، ويحيى بن سليمان، وعبد المجيد بن عبد العزيز. وروى عنه علي ابن حسنويه القطان، ويحيى بن محمد، وإسماعيل بن محمد الصفار. قال عنه محمد بن سليمان الباغندي: خرج توقيع الخليفة بتقليده القضاء، فانحدرت في الحال من سرمن رأى إلى بغداد فدققت عليه الباب فخرج إلي، فقلت له: البشرى، فقال: بشرك الله بخير، وما هي؟ قال: قلت: خرج توقيع السلطان بتقليدك القضاء، قال: فأطبق الباب وقال: بشرك الله بالنار. وجاء أصحاب السلطان إليه فلم يظهر إليهم فانصرفوا. توفي سنة خمس وستين ومائتين. ¬

(¬1) أخرجه من حديث عائشة: الترمذي (4/ 397 - 398/ 2154) والحاكم في موضعين (1/ 36) وصححه ووافقه الذهبي، و (4/ 90) وصححه وخالفه الذهبي فقال: "والحديث منكر بمرة ". وابن حبان (13/ 60/5749) وابن أبي عاصم (1/ 24 - 25/ 44). وضعفه الشيخ الألباني رحمه الله في تخريج السنة لابن أبي عاصم. (¬2) أصول الاعتقاد (4/ 779/1307). (¬3) الثقات لابن حبان (8/ 362) والأنساب للسمعاني (5/ 225) وتاريخ بغداد (10/ 81 - 82) والسير (12/ 359) والمنتظم (12/ 200).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: - عن أبي بكر: سمعت عبد الله بن أيوب المخرمي يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال: إنه مخلوق؛ فقد أبطل الصوم والحج والجهاد وفرائض الله، ومن أبطل واحدة من هذه الفرائض؛ فهو كافر بالله العظيم، ومن قال: إن لفظي بالقرآن غير مخلوق؛ فهو ضال مبتدع، أدركت ابن عيينة، ويحيى بن سليم، ووكيع بن الجراح، وعبد الله بن نمير وجماعة من علماء الحجاز والبصرة والكوفة ما سمعت أحدا منهم قال: لفظي بالقرآن مخلوق، ولا غير مخلوق. وقد صح عندنا أن أبا عبد الله -أحمد بن حنبل- نهى أن يقال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فمن قال بخلاف ما قال أبو عبد الله؛ فقد صحت بدعته. (¬1) علي بن حرب بن محمد (¬2) (265 هـ) علي بن حرب بن محمد، الإمام المحدث، الثقة الأديب أبو الحسن الموصلي. ولد بأذربيجان سنة خمس وسبعين ومائة. سمع سفيان بن عيينة، وحفص بن غياث، وعبد الله بن إدريس. وحدث عنه النسائي، وابن أبي حاتم، وأبو عوانة. قال يزيد بن محمد: رحل علي مع أبيه وسمع وصنف وخرج المسند، وكان عالما بأخبار العرب وأنسابها، أديبا شاعرا. توفي رحمه الله في شوال سنة ¬

(¬1) الإبانة (1/ 12/352 - 353/ 161). (¬2) السير (12/ 251) وتاريخ بغداد (11/ 418) وتهذيب الكمال (20/ 363) وتهذيب التهذيب (7/ 294).

موقفه من المبتدعة:

خمس وستين ومائتين بالموصل. موقفه من المبتدعة: - قال علي بن حرب: من قدر أن لا يكتب الحديث إلا عن صاحب سنة فإنهم يكذبون، كل صاحب هوى يكذب ولا يبالي. (¬1) محمد بن سَحْنُون (¬2) (265 هـ) أبو عبد الله محمد بن سحنون بن سعيد التَّنُوخِي الفقيه المالكي القَيْرَواني. كان حافظا خبيرا بمذهب مالك، عالما بالآثار. تفقه بأبيه، وسمع من ابن أبي حسان، وموسى بن معاوية، وعبد العزيز بن كاسب. وسمع من سلمة بن شبيب. كان الغالب عليه الفقه والمناظرة، وكان يحسن الحجة والذب عن أهل السنة والمذهب، والرد على أهل الأهواء. واشتهر بالتأليف، ألف كتابه المشهور 'الجامع' جمع فيه فنون العلم والفقه، وكتاب السير وكتاب التاريخ وكتاب الزهد والأمانة وكتاب تحريم المسكر ورسالة فيمن سب النبي - صلى الله عليه وسلم - ورسالة في السنة وكتاب 'الحجة على القدرية' وكتاب 'الحجة على النصارى' وكتاب 'الرد على البكرية' وكتاب 'الإيمان والرد على أهل الشرك' وكتاب 'الرد على أهل البدع'. توفي سنة خمس وستين ومائتين، بعد موت أبيه بست عشرة سنة، وكانت وفاته بالساحل، وجيء به إلى القيروان، فدفن بها. ¬

(¬1) الكفاية (ص.123). (¬2) ترتيب المدارك (1/ 424 - 433) والديباج المذهب (2/ 169 - 173) والوافي بالوفيات (3/ 86) وشجرة النور الزكية (1/ 70) ورياض النفوس (1/ 443 - 458) وسير أعلام النبلاء (13/ 60 - 63) وشذرات الذهب (2/ 150).

موقفه من المشركين:

موقفه من المشركين: - وقال محمد بن سحنون: أجمع العلماء على أن شاتم النبي - صلى الله عليه وسلم - والمتنقص له كافر والوعيد جار عليه بعذاب الله له، وحكمه عند الأمة القتل ومن شك في كفره وعذابه كفر. (¬1) محمد بن عبد الله بن عبد الحكم (¬2) (268 هـ) الإمام الحافظ شيخ الإسلام فقيه عصره أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد الحكم بن أعين بن ليث المصري الفقيه. ولد سنة اثنتين وثمانين ومائة. سمع من: عبد الله بن وهب بعناية أبيه به، وأبي ضمرة الليثي وابن أبي فديك، وأشهب بن عبد العزيز، ووالده عبد الله بن عبد الحكم، وأبي عبد الرحمن المقرئ، والإمام الشافعي، وطائفة. وعنه النسائي وابن خزيمة، وأبو جعفر الطحاوي وعبد الرحمن بن أبي حاتم وخلق كثير. وكان عالم الديار المصرية في عصره مع المزني. وقال ابن خزيمة: ما رأيت في فقهاء الإسلام أعلم بأقاويل الصحابة والتابعين من محمد بن عبد الله بن عبد الحكم. وقال: كان أعلم من رأيت على أديم الأرض بمذهب مالك، وأحفظهم له، سمعته يقول: كنت أتعجب ممن يقول في المسائل: لا أدري. قال ابن الحارث: كان من العلماء ¬

(¬1) الصارم (9). (¬2) الجرح والتعديل (7/ 300 - 301) والسير (12/ 497 - 501) ووفيات الأعيان (4/ 193 - 194) والوافي بالوفيات (3/ 338 - 339) وتهذيب الكمال (25/ 497 - 500) وتذكرة الحفاظ (2/ 546 - 548) والديباج المذهب (2/ 163 - 165) وشذرات الذهب (2/ 154) طبقات الشافعية لابن كثير (1/ 155).

موقفه من المبتدعة:

الفقهاء، مبرزا من أهل النظر والمناظرة والحجة، فيما يتكلم فيه، ويتقلد من مذهبه، وإليه كانت الرحلة من المغرب والأندلس في العلم والفقه. له تصانيف كثيرة منها: 'الرد على الشافعي' و'أحكام القرآن' و'الرد على فقهاء العراق' وغيرها. قال أبو عمر بن عبد البر: كان فقيها نبيلا جميلا وجيها في زمنه. قال سعيد بن عثمان: وكان عالما متواضعا ثقة كان أهل مصر لا يعدلون به أحدا. توفي رحمه الله تعالى يوم الأربعاء سنة ثمان وستين ومائتين. موقفه من المبتدعة: - عن ابن عبد الحكم، قال: ما رأت عيني قط مثل الشافعي، قدمت المدينة، فرأيت أصحاب عبد الملك بن الماجشون يغلون بصاحبهم، يقولون: صاحبنا الذي قطع الشافعي، قال: فلقيت عبد الملك، فسألته عن مسألة، فأجابني، فقلت: الحجة؟ قال: لأن مالكا قال كذا وكذا، فقلت في نفسي: هيهات، أسألك عن الحجة، وتقول: قال معلمي. وإنما الحجة عليك وعلى معلمك. (¬1) موقفه من الجهمية: روى اللالكائي بسنده إلى أحمد بن محمد بن الحسين قال: سئل محمد ابن عبد الله بن عبد الحكم هل يرى الخلق كلهم ربهم يوم القيامة: المؤمنون والكفار؟ فقال محمد: ليس يراه إلا المؤمنون. قال محمد: وسئل الشافعي عن الرؤية؟ فقال: يقول الله عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ ربهم يومئذٍ ¬

(¬1) السير (10/ 53 - 54).

الربيع بن سليمان المرادي (270 هـ)

لَمَحْجُوبُونَ} (¬1) ففي هذا دليل على أن المؤمنين لا يحجبون عن الله عز وجل. (¬2) - وفي السير: عن أبي إسحاق الشيرازي، قال: حمل محمد في محنة القرآن إلى ابن أبي دؤاد، ولم يجب إلى ما طلب منه، ورد إلى مصر، وانتهت إليه الرئاسة في مصر، يعني: في العلم. وذكر غيره أن ابن عبد الحكم ضرب، فهرب واختفى. وقد نالته محنة أخرى صعبة. (¬3) الربيع بن سليمان المُرَادِي (¬4) (270 هـ) الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل، الإمام المحدث الفقيه الكبير، بقية الأعلام، أبو محمد المرادي، مولاهم المصري المؤذن. صاحب الإمام الشافعي، وناقل علمه، وشيخ المؤذنين بجامع الفسطاط ومستملي مشايخ وقته. مولده في سنة أربع وسبعين ومائة أو قبلها بعام. سمع عبد الله بن وهب، وبشر بن بكر التنيسي، وأيوب بن سويد الرملي، وأسد السنة، وعددا كثيرا. ولم يكن صاحب رحلة، وحدث عنه أبو داود، وابن ماجه، والنسائي وأبو عيسى بواسطة في كتبهم، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وأبو جعفر الطحاوي، ¬

(¬1) المطففين الآية (15). (¬2) أصول الاعتقاد (3/ 519/810). (¬3) السير (12/ 500). (¬4) تهذيب الكمال (9/ 87 - 89) والسير (12/ 587 - 591) والجرح والتعديل (3/ 464) ووفيات الأعيان (2/ 291) وشذرات الذهب (2/ 159) وتهذيب التهذيب (3/ 245 - 246).

موقفه من الجهمية:

وخلق كثير من المشارقة والمغاربة، وروى عنه الترمذي إجازة. وطال عمره واشتهر اسمه، وازدحم عليه أصحاب الحديث ونعم الشيخ كان، أفنى عمره في العلم ونشره. قال النسائي وغيره: لا بأس به. وروي عن الشافعي أنه قال للربيع: لو أمكنني أن أطعمك العلم لأطعمتك. وقال أيضا: الربيع راوية كتبي. قال أبو جعفر الطحاوي: مات الربيع مؤذن جامع الفسطاط في يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء لإحدى وعشرين ليلة خلت من شوال سنة سبعين ومائتين وصلى عليه الأمير خُمَارويه صاحب مصر. موقفه من الجهمية: - جاء في أصول الاعتقاد: قال محمد بن حمدان الطرائفي البغدادي: قال: سألت الربيع بن سليمان، عن القرآن، فقال: كلام الله غير مخلوق، فمن قال غير هذا، فإن مرض فلا تعودوه، وإن مات فلا تشهدوا جنازته، كافر بالله العظيم. (¬1) " التعليق: هكذا كان أصحاب الإمام الشافعي على عقيدة السلف، وأما الآن، فهم بين صوفية خرافية وبين أشعرية كلامية إلا من رحم الله. إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل (¬2) (270 هـ) الإمام الحافظ، أبو إسحاق، إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن سهل ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 356/520). (¬2) تاريخ دمشق (8/ 373 - 375/ 712) وسير أعلام النبلاء (13/ 159) والجرح والتعديل (2/ 158).

موقفه من الرافضة:

القرشي، مولاهم الكوفي نزيل مصر. يعرف بترنجة. حدث عن جعفر بن عون، وسعيد بن أبي مريم، وأبي نعيم، وطلق بن غنام وخلق. وروى عنه ابن خزيمة، والطحاوي، وابن زياد النيسابوري، وعبد الرحمن بن أبي حاتم وقال: هو صدوق. مات في جمادى الأولى سنة سبعين ومائتين، وكان قد فلج وثقل لسانه قبل موته بيسير. موقفه من الرافضة: - عن عبد الله بن محمد بن زياد قال: سمعت القاسم بن محمد أبا محمد الأشيب يقول لإسماعيل بن إسماعيل: أتي المأمون بالرقة برجلين شتم أحدهما فاطمة والآخر عائشة فأمر بقتل الذي شتم فاطمة وترك الآخر فقال: إسماعيل، ما حكمهما إلا أن يقتلا لأن الذي شتم عائشة رد القرآن. (¬1) محمد بن إسحاق الصَّاغَانِي (¬2) (270 هـ) محمد بن إسحاق بن جعفر، أبو بكر الصاغاني البغدادي، ولد في حدود الثمانين ومائة. كان ذا معرفة واسعة ورحلة شاسعة، بارعا في العلل والرجال. سمع من عبد الوهاب بن عطاء، ويعلى بن عبيد، وسعيد بن أبي مريم. وعنه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، وأبو عوانة، وابن أبي حاتم. قال الخطيب: كان أحد الأثبات المتقنين ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (7/ 1343 - 1344/ 2396)، وذكره ابن تيمية في الصارم المسلول (ص.568). (¬2) تاريخ بغداد (1/ 240 - 241) وتهذيب الكمال (24/ 396 - 399) والوافي بالوفيات (2/ 195) وتاريخ الإسلام (حوادث 261 - 270/ص.157 - 158) وسير أعلام النبلاء (12/ 592 - 594).

موقفه من الجهمية:

مع صلابة في الدين، واشتهار بالسنة، واتساع في الرواية، رحل في طلب العلم، وكتب عن أهل بغداد، والبصرة والكوفة والمدينة ومكة والشام ومصر. توفي في سابع صفر سنة سبعين ومائتين. موقفه من الجهمية: - عن أبي بكر المروذي: قال: وسمعت محمد بن إسحاق الصاغاني يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، فمن قال إنه مخلوق، فهو كافر. (¬1) شاه الكرماني الصوفي (270 هـ) موقفه من المبتدعة: - قال شاه الكرماني: من غض بصره عن المحارم، وأمسك نفسه عن الشبهات، وعمر باطنه بدوام المراقبة وظاهره باتباع السنة، وعود نفسه أكل الحلال، لم تخطئ له فراسة. (¬2) الحسن بن زيد الداعي (270 هـ) موقفه من الرافضة: جاء في أصول الاعتقاد عن أبي السائب عتبة بن عبد الله الهمداني قاضي القضاة قال: كنت يوما بحضرة الحسن بن زيد الداعي بطبرستان وكان يلبس الصوف ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويوجه في كل سنة بعشرين ألف ¬

(¬1) الإبانة (2/ 12/72/ 298). (¬2) الاعتصام (1/ 129).

موقف السلف من خبيث الزنج (270 هـ)

دينار إلى مدينة السلام تفرق على صغاير ولد الصحابة وكان بحضرته رجل ذكر عائشة بذكر قبيح من الفاحشة فقال: يا غلام اضرب عنقه فقال له العلويون هذا رجل من شيعتنا فقال: معاذ الله هذا رجل طعن على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الله عز وجل: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (¬1) فإن كانت عائشة خبيثة فالنبي - صلى الله عليه وسلم - خبيث فهو كافر فاضربوا عنقه فضربوا عنقه وأنا حاضر. (¬2) موقف السلف من خبيث الزنج (270 هـ) بيان فتنته: قال الذهبي: وكاد الخبيث أن يملك الدنيا، وكان كذابا ممخرقا ماكرا شجاعا داهية، ادعى أنه بعث إلى الخلق، فرد الرسالة. وكان يدعي علم الغيب، لعنه الله. ودخلت سنة تسع، فعرض الموفق جيشه بواسط، وأما الخبيث فدخل البطائح، وبثق حوله الأنهار وتحصن، فهجم عليه الموفق، وأحرق وقتل فيهم، واستنقذ من السبايا، ورد إلى بغداد، فسار خبيث الزنج إلى الأهواز، فوضع ¬

(¬1) النور الآية (26). (¬2) أصول الاعتقاد (7/ 1345/2402).

السيف، وقتل نحوا من خمسين ألفا، وسبى أربعين ألفا، فسار لحربه موسى بن بغا فتحاربا بضعة عشر شهرا، وذهب تحت السيف خلائق من الفريقين. فإنا لله، وإنا إليه راجعون (¬1). قتال الموفق له: وفي سنة سبع كروا على واسط وعثروا أهلها، فجهز الموفق ولده أبا العباس الذي صار خليفة، فقتل وأسر، وغرق سفنهم. ثم تجمع جيش الخبيث، والتقوا بالعباس فهزمهم، ثم التقوا ثالثا فهزمهم، ودام القتال شهرين، ورغبوا في أبي العباس، واستأمن إليه خلق منهم، ثم حاربهم حتى دوخ فيهم، ورد سالما غانما، وبقي له وقع في النفوس، وسار إليهم الموفق في جيش كثيف في الماء والبر، ولقيه ولده، والتقوا الزنج، فهزموهم أيضا. وخارت قوى الخبيث، وألح الموفق في حربهم، ونازل طهثيا، وكان عليها خمسة أسوار، فأخذها، واستخلص من أسر الخبثاء عشرة آلاف مسلمة، وهدمها. وكان المهلبي القائد مقيما بالأهواز في ثلاثين ألفا من الزنج، فسار الموفق لحربه، فانهزم وتفرق عسكره، وطلب خلق منهم الأمان، فأمنهم، ورفق بهم، وخلع عليهم، ونزل الموفق بتستر، وأنفق في الجيش، ومهد البلاد، وجهز ابنه المعتضد أبا العباس لحرب الخبيث، فجهز له سفنا فاقتتلوا، وانتصر أبو العباس، وكتب كتابا إلى الخبيث يهدده، ويدعوه إلى التوبة مما فعل، فعتا وتمرد، وقتل الرسول، فسار الموفق إلى مدينة الخبيث بنهر أبي الخصيب، ¬

(¬1) السير (12/ 542).

ونصب السلالم ودخلوها، وملكوا السور، فانهزمت الزنج، ولما رأى الموفق حصانتها اندهش، واسمها المختارة، وهاله كثرة المقاتلة بها، لكن استأمن إليه عدة، فأكرمهم. ونقلت تفاصيل حروب الزنج في 'تاريخ الإسلام' فمن ذلك لما كان في شعبان سنة سبع برز الخبيث وعسكره فيما قيل في ثلاث مئة ألف ما بين فارس وراجل، فركب الموفق في خمسين ألفا، وحجز بينهم النهر، ونادى الموفق بالأمان، فاستأمن إليه خلق، ثم إن الموفق بنى بإزاء المختارة مدينة على دجلة سماها الموفقية، وبنى بها الجامع والأسواق، وسكنها الخلق، واستأمن إليه في شهرٍ خمسة آلاف. وتمت ملحمة في شوال، ونصر الموفق. وفي ذي الحجة عبر الموفق بجيشه إلى ناحية المختارة، وهرب الخبيث، لكنه رجع، وأزال الموفق عنها. واستولى أحمد الخجستاني على خراسان وكرمان وسجستان، وعزم على قصد العراق. وفي سنة ثمان وستين تتابع أجناد الخبيث في الخروج إلى الموفق، وهو يحسن إليهم. وأتاه جعفر السجان صاحب سر الخبيث، فأعطاه ذهبا كثيرا، فركب في سفينة حتى حاذى قصر الخبيث فصاح إلى متى تصبرون على الخبيث الكذاب؟ وحدثهم بما اطلع عليه من كذبه وكفره، فاستأمن خلق. ثم زحف الموفق على البلد، وهد من السور أماكن، ودخل العسكر من أقطارها، واغتروا، فكر عليهم الزنج، فأصابوا منهم، وغرق خلق. ورد الموفق إلى بلده حتى رم شعثه، وقطع الجلب عن الخبيث، حتى أكل أصحابه الكلاب والميتة، وهرب خلق، فسألهم الموفق، فقالوا: لنا سنة لم نر الخبز،

وقتل بهبود أكبر أمراء الخبيث، وقتل الخبيث ولده لكونه هم أن يخرج إلى الموفق، وشد على أحمد الخجستاني غلمانه فقتلوه، وغزا الناس مع خلف التركي، فقتلوا من الروم بضعة عشر ألفا. وفي سنة تسع دخل الموفق المختارة عنوة، ونادى الأمان، وقاتل حاشية الخبيث دونه أشد قتال، وحاز الموفق خزائن الخبيث، وألقى النار في جوانب المدينة، وجرح الموفق بسهم، فأصبح على الحرب، وآلمه جرحه، وخافوا، فخرجوا حتى عوفي، ورمَّ الخبيث بلده. وفي السنة خرج المعتمد من سامراء ليلحق بصاحب مصر أحمد بن طولون، وكان بدمشق، فبلغ ذلك الموفق، فأغرى بأخيه إسحاق بن كنداج، فلقي المعتمد بين الموصل والحديثة، وقال: يا أمير المؤمنين، ما هذا؟ فأخوك في وجه العدو وأنت تخرج من مقر عزك، ومتى علم بهذا ترك مقاومة عدوك، وتغلب الخارجي على ديار آبائك. وهذا كتاب أخيك يأمرني بردك. فقال: أنت غلامي أو غلامه؟ قال: كلنا غلمانك ما أطعت الله، وقد عصيت بخروجك وتسليطك عدوك على المسلمين. ثم قام، ووكل به جماعة، ثم إنه بعث إليه يطلب منه ابن خاقان وجماعة ليناظرهم، فبعث بهم، فقال لهم: ما جنى أحد على الإمام والإسلام جنايتكم. أخرجتموه من دار ملكه في عدة يسيرة، وهذا هارون الشاري بإزائكم في جمع كثير، فلو ظفر بالخليفة، لكان عارا على الإسلام، ثم رسم أيضا عليهم، وأمر المعتمد بالرجوع، فقال: فاحلف لي أنك تنحدر معي ولا تسلمني، فحلف، وانحدر إلى سامراء. فتلقاه كاتب الموفق صاعد، فأنزله في دار أحمد بن الخصيب، ومنعه من نزول دار

الخلافة، ووكل به خمس مئة نفس، ومنع من أن يجتمع به أحد. وبعث الموفق إلى ابن كنداج بخلع وذهب عظيم. قال الصولي: تحيل المعتمد من أخيه، فكاتب ابن طولون. ومما قال: أليس من العجائب أن مثلي ... يرى ما قل ممتنعا عليه وتؤكل باسمه الدنيا جميعا ... وما من ذاك شيء في يديه؟ ولقب الموفق صاعد بن مخلد ذا الوزارتين، ولقب ابن كنداج ذا السيفين. فلما علم ابن طولون جمع الأعيان، وقال: قد نكث الموفق بأمير المؤمنين، فاخلعوه من العهد فخلعوه سوى القاضي بكار بن قتيبة. فقال لابن طولون: أنت أريتني كتاب أمير المؤمنين بتوليته العهد، فأرني كتابه بخلعه. قال: إنه محجور عليه، قال: لا أدري. قال: أنت قد خرفت وحبسه، وأخذ منه عطاءه على القضاء عشرة آلاف دينار، وأمر الموفق بلعنة أحمد بن طولون على المنابر. وسار ابن طولون، فحاصر المصيصة، وبها خادم، فسلط الخادم على جيش أحمد بثوق النهر، فهلك منهم خلق، وترحلوا، وتخطفهم أهل المدينة، ومرض أحمد، ومات مغبونا. وفي شوال كانت الملحمة الكبرى بين الخبيث والموفق. ثم وقعت الهزيمة على الزنج، وكانوا في جوع شديد وبلاء، لا خفف الله عنهم، وخامر عدة من قواد الخبيث وخواصه، وأدخل المعتمد في ذي القعدة إلى واسط، ثم التقى الخبيث والموفق، فانهزمت الزنج أيضا، وأحاط الجيش، فحصروا الخبيث في دار الإمارة، فانملس منها إلى دار المهلبي أحد قواده، وأسرت حرمه، فكان النساء نحو مئة، فأحسن إليهن الموفق، وأحرقت الدار، ثم جرت ملحمة بين

الموفق والخبيث في أول سنة سبعين، ثم وقعة أخرى قتل فيها الخبيث، لا رحمه الله. وكان قد اجتمع من الجند، ومن المطوعة مع الموفق نحو ثلاث مئة ألف. وفي آخر الأمر شد الخبيث وفرسانه، فأزالوا الناس عن مواقفهم فحمل الموفق، فهزمهم، وساق وراءهم إلى آخر النهر، فبينا الحرب تستعر إذ أتى فارس إلى الموفق وبيده رأس الخبيث، فما صدق، وعرضه على جماعة، فقالوا: هو هو فترجل الموفق والأمراء، وخروا ساجدين لله، وضجوا بالتكبير، وبادر أبو العباس بن الموفق في خواصه، ومعه رأس الخبيث على قناة إلى بغداد، وعملت قباب الزينة، وكان يوما مشهودا، وشرع الناس يتراجعون إلى المدائن التي أخذها الخبيث، وكانت أيامه خمس عشرة سنة. قال الصولي: قد قتل من المسلمين ألف ألف وخمس مئة. قلت: وكذا عدد قتلى بابك. قال: وكان يصعد على منبره بمدينته، ويسب عثمان وعليا وطلحة وعائشة كمذهب الأزارقة، وكان ينادي على المسبية العلوية في عسكره بدرهمين. وكان عند الزنجي الواحد نحو عشر علويات، يفترشهن ويخدمن امرأته. وفي شعبان أعادوا المعتمد إلى سامراء في أبهة تامة. وظهر بالصعيد أحمد بن عبد الله الحسني، فحاربه عسكر مصر غير مرة، ثم أسر وقتل. وفيها أول ظهور دعوة العبيدية، وذلك باليمن. وفيها نازلت الروم في مئة ألف طرسوس، فبيتهم يازمان الخادم، فقيل: قتل منهم سبعون ألفا، وقتل ملكهم، وأخذ منهم صليب الصلبوت.

أبو الفضل العباس بن محمد الدوري (271 هـ)

فالحمد لله على هذا النصر العزيز الذي لم يسمع بمثله، مع تمام المنة على الإسلام بمصرع الخبيث. (¬1) أبو الفضل العباس بن محمد الدُّوري (¬2) (271 هـ) الإمام الحافظ، الثقة الناقد، أبو الفضل، عباس بن محمد بن حاتم بن واقد الدوري، ثم البغدادي، مولى بني هاشم أحد الأثبات المصنفين. ولد سنة خمس وثمانين ومائة. سمع حسين بن علي الجعفي ومحمد بن بشر، وأبا داود الطيالسي، ويحيى بن أبي بكر، وخلقا كثيرا، ولازم يحيى بن معين وتخرج به وسأله عن الرجال وهو في مجلد كبير. حدث عنه أرباب السنن الأربعة، وأبو عوانة، وابن صاعد، وأبو العباس الأصم، وخلق. قال إسماعيل الصفار: سمعت عباسا الدوري، يقول: كتب لي يحيى بن معين وأحمد بن حنبل إلى أبي داود الطيالسي كتابا فقالا فيه: إن هذا فتى يطلب الحديث. توفي في صفر سنة إحدى وسبعين ومائتين. موقفه من الجهمية: - قال رحمه الله: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال: إنه مخلوق، فهو كافر. (¬3) ¬

(¬1) السير (12/ 545 - 550). (¬2) تاريخ بغداد (12/ 144 - 146) وطبقات الحنابلة (1/ 236 - 239) وتهذيب الكمال (14/ 245 - 249) والسير (12/ 522 - 524) وتذكرة الحفاظ (2/ 579 - 580) وتاريخ الإسلام (حوادث 271 - 280/ص.371 - 372) وتهذيب التهذيب (5/ 129 - 130) وشذرات الذهب (2/ 161). (¬3) الإبانة (2/ 12/72/ 297).

محمد بن عبد الرحمن بن الحكم (273 هـ)

محمد بن عبد الرحمن بن الحكم (¬1) (273 هـ) محمد بن عبد الرحمن بن الحكم الأموي، صاحب الأندلس، كان عالما فاضلا عاقلا، محبا للعلم، مؤثرا لأصحاب الحديث، مكرما لهم. وكان يخرج إلى الجهاد ويوغل في بلاد الكفار السنة والسنتين، وهو صاحب وقعة وادي سليط وهي من الوقائع المشهورة لم يعرف قبلها مثلها في الأندلس، وهو الذي نصر بقي بن مخلد الحافظ على أهل الرأي. وقال عنه بقي: ما كلمت أحدا من الملوك أكمل عقلا، ولا أبلغ لفظا من الأمير محمد ولقد دخلت عليه يوما في مجلس خلافته، فافتتح الكلام بحمد الله، والصلاة على نبيه، ثم ذكر الخلفاء فحلى كل واحد بحليته وصفته، وذكر مآثره بأفصح لسان حتى انتهى إلى نفسه، فحمد الله على ما قدره ثم سكت. توفي سنة ثلاث وسبعين ومائتين. موقفه من المبتدعة: - قال ابن حزم: كان محمد بن عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس محبا للعلوم عارفا بها؛ فلما دخل بقي بن مخلد الأندلس بمصنف ابن أبي شيبة وقرئ عليه أنكر جماعة من أهل الرأي ما فيه من الخلاف واستبشعوه، وقام جماعة من العامة عليه، ومنعوه من قراءته، فاستحضره الأمير محمد وإياهم، وتصفح الكتاب جزءا جزءا حتى أتى على آخره، ثم قال لخازن كتبه: هذا الكتاب لا تستغني خزانتنا عنه، فانظر في نسخه لنا، وقال لبقي: انشر ¬

(¬1) السير (8/ 262 - 263) والوافي بالوفيات (3/ 224 - 225) وتاريخ ابن الوردي (1/ 331) والكامل في التاريخ (7/ 424) وتاريخ الإسلام (حوادث 271 - 280/ص.451 - 452) وشذرات الذهب (2/ 164 - 165).

علمك، وارو ما عندك، ونهاهم أن يتعرضوا له. (¬1) " التعليق: يقال في المثل: (رُبَّ ضارة نافعة) وقال الله تعالى في قصة عائشة: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (¬2) وقال الله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (¬3)، والله تعالى له حكم تجري لا مبدل لها ولا مغير. ومن حكمته تبارك وتعالى أن يهيأ أسبابا للخير قد يراها الإنسان شرا وهي في واقعها خير له ولدينه، ومثل قصة هذا الأمير كثيرة في تاريخ الإسلام، فبقدر ما يحارب الحق وتحارب السنة والآثار والعقيدة الصحيحة بقدر ما تنتشر السنة وينتشر الحق وتنتشر الآثار، وإن شئت فخذ على سبيل المثال شيخ الإسلام رحمه الله؛ فإن الذي نشر كتبه وجعلها تتأصل ويحتفظ بها التاريخ وتتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل هي محاربة أهل البدع لها وتحذيرهم منها، وقد كان الأمير عبد القادر الجزائري يشتري كتب الشيخ بأثمان غالية ويحرقها، وهكذا كتاب ابن حزم المحلى كم حاربه من محارب وهاهو الآن أحد أصول الإسلام ومراجعها الذي يرجع إليه في كل الملمات العلمية والفقهية، وهكذا لو تتبعنا السلسلة التاريخية لسودنا بذلك صحائف كثيرة، فلا غرابة أن يعترض جماعة من الفقهاء الجامدين على المذهب على مصدر ¬

(¬1) نفح الطيب (2/ 519)، وفي السير (13/ 288). (¬2) النور الآية (11). (¬3) البقرة الآية (216).

موقفه من المشركين:

علمي كبير حوى بين دفتيه فقه السلف وآثارهم وفتاواهم وأقوالهم التي يستنير بها كل طالب حق ومتبع للدليل والآثار، فما في كتب المتأخرين مثل التمهيد والمغني والمحلى والمجموع وغيرها من كتب العلم من الآثار إلا وهي في أو من هذا المصدر العظيم الذي لو ضربت له أكباد الإبل من المغرب إلى المشرق لكان رخيصا فيه، ولو كتب بماء الذهب ولو كانت مجلداته محلاة بالحرير والديباج لكان كل ذلك لا يقارن بما فيه من العلم والفقه، وهذا السرطان الذي كان في الأندلس قد انتقل إلى كثير من الأمصار وابتليت به، حتى ردوا بسببه القرآن والسنن فضلا عن الآثار السلفية لما هم عليه من الأهواء والبدع والجمود الفكري والمذهبي، الذي اتخذه وصولية المرتزقة سلما لإرضاء ساداتهم وكبرائهم ولقضاء مآربهم والله المستعان. فاللهم اكف المسلمين شرهم بما شئت وكيف شئت. موقفه من المشركين: - قال أبو المظفر ابن الجوزي: هو صاحب وقعة سليط. وهي ملحمة مشهورة لم يعهد قبلها بالأندلس مثلها، يقال: قتل فيها ثلاث مائة ألف كافر. وهذا شيء لم نسمع بمثله. قال: وللشعراء فيه مدائح كثيرة. (¬1) حنبل بن إسحاق بن حنبل (¬2) (273 هـ) حنبل بن إسحاق بن حنبل، الإمام الحافظ، أبو علي الشيباني ابن عم ¬

(¬1) السير (8/ 263). (¬2) السير (13/ 51 - 53) وطبقات الحنابلة (1/ 143) وتاريخ بغداد (8/ 286) والنجوم الزاهرة (3/ 70).

موقفه من الخوارج:

الإمام أحمد. ولد قبل المائتين. سمع من محمد بن عبد الله الأنصاري، وسليمان ابن حرب، والحميدي. حدث عنه ابن صاعد، وأبو بكر الخلال، ومحمد بن مخلد. وكان زاهدا عابدا. قال عنه أحمد بن ثابت: كان ثقة ثبتا. توفي سنة ثلاث وسبعين ومائتين. موقفه من الخوارج: موقفه من إمام المسلمين: عن عصمة بن عصام قال: ثنا حنبل في هذه المسألة قال: وإني لأدعو له بالتسديد والتوفيق في الليل والنهار والتأييد، وأرى له ذلك واجبا علي. (¬1) الإمام ابن ماجه (¬2) (273 هـ) الحافظ الكبير الحجة المفسر، أبو عبد الله محمد بن يزيد الربعي مولاهم، أبو عبد الله ابن ماجه القزويني، ذو التصانيف النافعة والرحلة الواسعة. ولد سنة تسع ومائتين سمع بخراسان، والعراق والحجاز، ومصر، والشام، وغيرها من البلاد جماعةً يطول ذكرهم. روى عن علي بن محمد الطنافسي وجبارة ابن المغلس، ومصعب بن عبد الله الزبيري وعبد الله معاوية الجمحي، وأبي بكر ابن أبي شيبة وخلق كثير مذكورين في 'سننه' وتآليفه. حدث عنه محمد بن ¬

(¬1) السنة للخلال (1/ 83). (¬2) الوافي بالوفيات (5/ 220) وتذكرة الحفاظ (2/ 636 - 637) ووفيات الأعيان (4/ 279) والمنتظم (12/ 258) وتهذيب الكمال (27/ 40 - 42) والسير (13/ 277 - 281) وشذرات الذهب (2/ 164) وتهذيب التهذيب (9/ 530 - 532).

موقفه من المبتدعة:

عيسى الأبهري، وأبو عمرو أحمد بن روح البغدادي، وأبو الحسن القطان ومحمد بن عيسى الصفار وآخرون. صنف 'السنن' و'التاريخ' و'التفسير'. قال ابن ماجه: عرضت هذه 'السنن' على أبي زرعة الرازي فنظر فيه، وقال: أظن إن وقع هذا في أيدي الناس تعطلت هذه الجوامع أو أكثرها، ثم قال: لعل لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثا مما في إسناده ضعف أو نحو ذا. قال أبو يعلى الخليلي: ابن ماجه ثقة كبير متفق عليه محتج به، له معرفة وحفظ وارتحل إلى العراقين ومكة والشام ومصر والري لكتب الحديث. مات في رمضان سنة ثلاث وسبعين ومائتين. وقيل سنة خمس، قال الذهبي: والأول أصح، وعاش أربعا وستين سنة. موقفه من المبتدعة: لقد صنف الإمام ابن ماجه كتابه السنن وهو سادس الكتب الست المشهورة المعتمدة عند جميع المسلمين. ولسلفية هذا الإمام وغيرته عليها، اهتم اهتماما بالغا في إثبات العقيدة السلفية، والرد على المبتدعة المخالفين لها، فاستهل كتابه المبارك بمقدمة مفيدة، بين فيها وجوب اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتباع السلف، وفي مقدمتهم الخلفاء الأربعة رضي الله عن الجميع، ثم عقد بابا جيدا ذكر ما ورد فيه من التحذير من البدع والجدل، ثم ذكر بابا آخر في اجتناب الرأي والقياس، ثم عقد بابا للرد على المرجئة سماه الإيمان، ثم القدر للرد على القدرية، ثم فضائل الصحابة للرد على الروافض، ثم عقد بابا للرد على الخوارج أعداء الله، ثم عقد بابا للرد على الجهمية، ذكر فيه أحاديث متنوعة في الصفات كالرؤية والكلام والضحك واليد والقدم

موقفه من الخوارج:

واليمين. موقفه من الخوارج: - أورد ضمن المقدمة: باب في ذكر الخوارج. (¬1) موقفه من المرجئة: - بوب ضمن مقدمة سننه: بابا في الإيمان (¬2) أسند فيه عدة أحاديث تدل على أن الأعمال تدخل في الإيمان، وعلى أن الإيمان يزيد وينقص. موقفه من القدرية: - عقد في مقدمة سننه بابا في القدر. غلامُ خليل (¬3) (275 هـ) الشيخ، العالم، الزاهد، الواعظ، شيخ بغداد، أبو عبد الله أحمد بن محمد ابن غالب بن خالد بن مرداس، الباهلي البصري، غلام خليل. سكن بغداد، وكان له جلالة عجيبة، وصولة مهيبة، وأمر بالمعروف، وأتباع كثير، وصحة معتقد. روى عن قرة بن حبيب، وسهل بن عثمان، وشيبان، وسليمان الشاذكوني. حدث عنه محمد بن مخلد، وعثمان السماك، وأحمد بن كامل وطائفة. قال ابن أبي حاتم: سئل أبي عنه فقال: رجل صالح لم يكن عندي ¬

(¬1) (1/ 59 - 62). (¬2) (1/ 22 - 28). (¬3) الجرح والتعديل (2/ 73) وتاريخ بغداد (5/ 78 - 80) والمنتظم (12/ 265 - 267) والسير (13/ 282 - 285) وميزان الاعتدال (1/ 141 - 142) واللسان (1/ 272 - 274).

موقفه من الصوفية:

ممن يفتعل الحديث. قال أحمد بن كامل القاضي: سنة خمس وسبعين ومائتين توفي أبو عبد الله أحمد بن محمد بن غالب بن مرداس غلام خليل ببغداد في رجب منها، وحمل في تابوت إلى البصرة وغلقت أسواق مدينة السلام، وخرج الرجال والنساء والصبيان لحضوره والصلاة عليه، فأدرك ذلك بعض الناس وفات بعضهم لسرعة السير به ودفن بالبصرة، وكان فصيحا يعرب الكلام، ويحفظ علما عظيما، ويخضب بالحناء خضابا قانيا، ويقتات بالباقلا صرفا. موقفه من الصوفية: قد تكلم المحدثون في روايته للحديث وهذا أمر مهم بالنسبة للرواية ونحن يهمنا موقفه العقدي الذي وقفه، لا رواية فيه ولا نقل، وهو منه مباشرة. وقد أجمع المؤرخون على هذا الموقف الذي وقفه. - جاء في السير: قال ابن الأعرابي: قدم من واسط غلام خليل، فذكرت له هذه الشناعات -يعني خوض الصوفية- ودقائق الأحوال التي يذمها أهل الأثر، وذكر له قولهم بالمحبة، ويبلغه قول بعضهم: نحن نحب ربنا ويحبنا فأسقط عنا خوفه بغلبة حبه، فكان ينكر هذا الخطأ بخطأ أغلظ منه حتى جعل محبة الله بدعة وكان يقول: الخوف أولى بنا قال: وليس كما توهم بل المحبة والخوف أصلان لا يخلو المؤمن منهما فلم يزل يقص بهم ويحذر منهم ويغري بهم السلطان والعامة ويقول: كان عندنا بالبصرة قوم يقولون بالحلول وقوم يقولون بالإباحة، وقوم يقولون كذا، فانتشر في الأفواه أن ببغداد قوما يقولون بالزندقة، وكانت تميل إليه والدة الموفق، وكذلك الدولة والعوام

أبو داود السجستاني (275 هـ)

لزهده وتقشفه فأمرت المحتسب أن يطيع غلام خليل، فطلب القوم وبث الأعوان في طلبهم وكتبوا فكانوا نيفا وسبعين نفسا، فاختفى عامتهم وبعضهم خلصته العامة وحبس منهم جماعة مدة. (¬1) " التعليق: الذي يغلب على الظن أن ما قيل في غلام خليل من أنه قال المحبة بدعة، أمر لا يصح، لأن هذا رجل درس الكتاب والسنة، فيستبعد أن يصدر منه هذا، ويكون هذا من تلفيق الصوفية عليه، لما علمت من وقوفه ضدهم. فجزاه الله خيرا. أبو داود السِّجِسْتَانِي (¬2) (275 هـ) الإمام الثبت سيد الحفاظ شيخ السنة سليمان بن الأشعث بن شداد بن عمرو بن عامر، أبو داود الأزدي السجستاني محدث البصرة. ولد سنة اثنتين ومائتين ورحل وجمع وصنف وبرع في هذا الشأن وكتب عن العراقيين والخراسانيين والشاميين والمصريين. سمع سليمان بن حرب وابن راهويه وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين وأمما سواهم. حدث عنه أبو عيسى الترمذي والنسائي، وابنه أبو بكر وأبو عوانة وأبو بشر ¬

(¬1) السير (13/ 284). (¬2) الجرح والتعديل (4/ 101 - 102) وتاريخ بغداد (9/ 55 - 59) والمنتظم (12/ 268 - 270) والسير ... (13/ 203 - 221) ووفيات الأعيان (2/ 404 - 405) وتذكرة الحفاظ (2/ 591 - 593) والوافي بالوفيات (15/ 353 - 354).

موقفه من المبتدعة:

الدولابي. قال محمد بن إسحاق الصاغاني: لين لأبي داود الحديث كما لين لداود الحديد. وقال الحافظ موسى بن هارون: ما رأيت أفضل منه. وقيل كان أبو داود يشبه بأحمد بن حنبل. قال الحاكم أبو عبد الله: أبو داود إمام أهل الحديث في عصره بلا مدافعة. قال أبو بكر الخلال: أبو داود الإمام المقدم في زمانه، رجل لم يسبقه إلى معرفته بتخريج العلوم، وتبصره بمواضعه أحد في زمانه، رجل ورع مقدم. قال أحمد بن محمد بن ياسين: كان أبو داود أحد حفاظ الإسلام لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلمه وعلله وسنده، في أعلى درجة النسك والعفاف، والصلاح والورع من فرسان الحديث. قال أبو حاتم بن حبان: أبو داود أحد أئمة الدنيا فقها وعلما وحفظا ونسكا وورعا وإتقانا جمع وصنف وذب عن السنن. قال أبو عبيد الآجري: توفي أبو داود في سادس عشر شوال سنة خمس وسبعين ومائتين. موقفه من المبتدعة: - دفاعه عن العقيدة السلفية: لقد ذكر أبو داود في سننه كتابا عظيما، مكونا من اثنين وثلاثين بابا، مشتملا على سبعة وسبعين حديثا ومائة حديث، بين فيها الإمام السنة ورد على جميع المبتدعة من: مرجئة وجهمية وخوارج وشيعة. فأورد ما يدل على زيادة الإيمان وأورد أحاديث الصفات، وذكر الشفاعة وعذاب القبر، وأورد فضل الصحابة عموما والشيخين خصوصا، والتحذير من سب الصحابة رضوان الله عليهم. كما أورد أحاديث عامة تشمل التحذير من جميع أهل الأهواء والبدع. فأبو داود يعتبر من الذين وقفوا ضد المبتدعة ودافعوا عن العقيدة السلفية.

موقفه من الرافضة:

موقفه من الرافضة: - قال أبو داود -في عبد الرحمن بن صالح الأزدي الشيعي-: ألف كتابا في مثالب الصحابة رجل سوء. (¬1) موقفه من الصوفية: - جاء في البداية والنهاية: وهي رابعة بنت إسماعيل مولاة آل عتيك العدوية البصرية العابدة المشهورة، ذكرها أبو نعيم في 'الحلية' و'الرسائل'، وابن الجوزي في 'صفة الصفوة' والشيخ شهاب الدين السهروردي في المعارف، والقشيري، وأثنى عليها أكثر الناس وتكلم فيها أبو داود السجستاني واتهمها بالزندقة فلعله بلغه عنها أمر. (¬2) موقفه من الجهمية: - روى أبو داود بسنده إلى ابن عباس، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوذ الحسن والحسين "أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة" (¬3) ثم يقول: كان أبوكم يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق. وقال أبو داود: هذا دليل على أن القرآن ليس بمخلوق. (¬4) - وروى أيضا بسنده إلى أبي يونس سليم بن جبير مولى أبي هريرة، ¬

(¬1) الميزان (2/ 569). (¬2) البداية والنهاية (10/ 193). (¬3) أخرجه: أحمد (1/ 236) والبخاري (6/ 503/3371) وأبو داود (5/ 104 - 105/ 4737) والترمذي ... (4/ 346 - 347/ 2060) والنسائي في الكبرى (6/ 250/10845) وابن ماجه (2/ 1164 - 1165/ 3525). (¬4) سنن أبي داود (5/ 104 - 105).

موقفه من الخوارج:

قال: سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} إلى قوله تعالى: {سَمِيعًا بَصِيرًا} (¬1) قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع إبهامه على أذنيه والتي تليها على عينه (¬2)، قال أبو هريرة: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها ويضع إصبعيه، قال ابن يونس: قال المقريء: يعني أن الله سميع بصير يعني أن لله سمعا وبصرا. قال أبو داود: وهذا رد على الجهمية. (¬3) - وروى ابن بطة في الإبانة بسنده إلى أبي يحيى الساجي، قال: سمعت أبا داود السجستاني يقول: بين في هذا الحديث أن القرآن كلام الله غير مخلوق، لقول آدم لموسى: أنت موسى نبي بني إسرائيل الذي كلمك الله من وراء حجاب، ولم يجعل بينك وبينه رسولا من خلقه؟ فقال المعتزلة: بل أحدث كلاما في شجرة سمعه موسى. قال: فيقال لهم: وقد أحدث الله كلاما لنبينا - صلى الله عليه وسلم - في ذراع شاة، فقد استويا في الكلام. (¬4) موقفه من الخوارج: - أورد في كتاب السنة من السنن (¬5) بابين في قتال الخوارج ضمنها ¬

(¬1) النساء الآية (58). (¬2) أخرجه: أبو داود (5/ 96 - 97/ 4728) وصححه ابن حبان (1/ 498/265) والحاكم (1/ 24) وقال: "حديث صحيح ولم يخرجاه، وقد احتج مسلم بحرملة بن عمران وأبي يونس والباقون متفق عليهم". ووافقه الذهبي. وقال الحافظ في الفتح (13/ 461): سنده قوي على شرط مسلم. (¬3) سنن أبي داود (5/ 96 - 97). (¬4) الإبانة (2/ 14/310/ 476). (¬5) (5/ 118 - 127).

موقفه من المرجئة:

ثلاث عشرة حديثا. موقفه من المرجئة: - عقد ضمن كتاب السنة من سننه بابين في الرد على المرجئة ضمنها أحاديث، وهما: باب (15) في رد الإرجاء. باب (16) الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه. (¬1) وقال رحمه الله في عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد: وكان مرجئا داعية للإرجاء، وما فسد عبد العزيز حتى نشأ ابنه عبد المجيد. وأهل خراسان لا يحدثون عنه. (¬2) موقفه من القدرية: - عن أبي عبد الله المتوثي قال: سمعت أبا داود السجستاني يقول: كان غيلان نصرانيا. (¬3) - وعقد بابا طويلا في كتاب (السنة)، من السنن في الرد على القدرية. ¬

(¬1) (5/ 55 - 66/ 4676 - 4690). (¬2) تهذيب الكمال (18/ 274). (¬3) الإبانة (2/ 10/217).

بقي بن مخلد (276 هـ)

بَقِيُّ بن مَخْلَد (¬1) (276 هـ) الإمام الحافظ القدوة شيخ الإسلام أبو عبد الرحمن القرطبي بقي بن مخلد ابن يزيد، صاحب 'التفسير' و'المسند' اللذين لا نظير لهما. مولده في رمضان سنة إحدى ومائتين، وسمع يحيى بن يحيى الليثي ويحيى بن عبد الله بن بكير وأبا مصعب الزهري وإبراهيم بن المنذر الحزامي، وابن أبي شيبة وبندارا، وطوف الشرق والغرب، وشيوخه مائتان وثمانون ونيف، وروى عن أحمد بن حنبل مسائل وفوائد ولم يرو له شيئا مسندا لكونه كان قد قطع الحديث. وعني بهذا الشأن عناية لا مزيد عليها، وأدخل جزيرة الأندلس علما جما، وبه وبمحمد بن وضاح صارت تلك الناحية دار حديث، وكان مجاب الدعوة. حدث عنه ابنه أحمد، وأيوب بن سليمان المري وأحمد بن عبد الله الأموي وأحمد بن عبد العزيز وعبد الواحد بن حمدون، وهشام بن الوليد الغافقي وآخرون. وكان إماما مجتهدا صالحا ربانيا صادقا مخلصا، رأسا في العلم والعمل، عديم المثل، منقطع القرين يفتي بالأثر، ولا يقلد أحدا. قال ابن أبي خيثمة: ما كنا نسميه إلا المكنسة وهل يحتاج بلد فيه بقي أن يأتي منه إلينا أحد؟ وعن بقي قال: لما رجعت من العراق أجلسني يحيى بن بكير إلى جنبه وسمع مني سبعة أحاديث. وقد تعصبوا على بقي لإظهاره مذهب أهل الأثر فدفعهم عنه أمير الأندلس محمد بن عبد الرحمن المرواني واستنسخ كتبه وقال ¬

(¬1) الصلة (1/ 116 - 119) والسير (13/ 285 - 296) والوافي بالوفيات (10/ 182 - 183) والمنتظم ... (12/ 274 - 275) وتذكرة الحفاظ (2/ 629 - 631) والبداية والنهاية (11/ 60 - 61) وشذرات الذهب (2/ 169) وتاريخ دمشق (10/ 354 - 359).

موقفه من المبتدعة:

لبقي: انشر علمك. قال ابن حزم: كان بقي ذا خاصة من أحمد بن حنبل وجاريا في مضمار البخاري ومسلم والنسائي. وعن بقي قال: كل من رحلت إليه فماشيا على قدمي. توفي لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ست وسبعين ومائتين. ومن مناقبه أنه كان من كبار المجاهدين في سبيل الله، يقال شهد سبعين غزوة. موقفه من المبتدعة: - وقال أبو الوليد بن الفرضي في تاريخه: ملأ بقي بن مخلد الأندلس حديثا، فأنكر عليه أصحابه الأندلسيون: أحمد بن خالد، ومحمد بن الحارث وأبو زيد، ما أدخله من كتب الاختلاف، وغرائب الحديث، فأغروا به السلطان وأخافوه به، ثم إن الله أظهره عليهم، وعصمه منهم، فنشر حديثه وقرأ للناس روايته. ثم تلاه ابن وضاح، فصارت الأندلس دار حديث وإسناد. ومما انفرد به، ولم يدخله سواه مصنف أبي بكر بن أبي شيبة بتمامه، وكتاب الفقه للشافعي بكماله يعني الأم وتاريخ خليفة، وطبقات خليفة، وكتاب سيرة عمر بن عبد العزيز لأحمد بن إبراهيم الدورقي ... وليس لأحد مثل مسنده. (¬1) - قال أسلم بن عبد العزيز: وكان بقي أول من كثر الحديث بالأندلس ونشره، وهاجم به شيوخ الأندلس، فثاروا عليه، لأنهم كان علمهم بالمسائل ومذهب مالك، وكان بقي يفتي بالأثر، فشذ عنهم شذوذا عظيما، فعقدوا ¬

(¬1) السير (13/ 287).

موقفه من الجهمية:

عليه الشهادات، وبدعوه، ونسبوا إليه الزندقة، وأشياء نزهه الله منها. وكان بقي يقول: لقد غرست لهم بالأندلس غرسا لا يقلع إلا بخروج الدجال. (¬1) موقفه من الجهمية: - جاء في تاريخ علماء الأندلس: عن أحمد بن فقي قال: سمعت أبا عبيدة يقول: حضرت الشيخ يعني بقيا وقد أتاه خليل (¬2) فقال له بقي: أسألك عن أربع، فقال: ما هي؟ قال: ما تقول في الميزان؟ قال: عدل الله، ونفى أن تكون له كفتان، قال: ما تقول في الصراط؟ فقال: الطريق، يريد الإسلام، فمن استقام عليه نجا. فقال له: ما تقول في القرآن؟ فلجلج ولم يقل شيئا، وكأنه ذهب إلى أنه مخلوق، فقال له: فما تقول في القدر؟ فقال: أقول إن الخير من عند الله، والشر من عند الرجل، فقال له بقي: والله لولا حالك لأشرت بسفك دمك، ولكن قم، فلا أراك في مجلسي بعد هذا الوقت. (¬3) القاسم بن محمد البَيَّانِي (¬4) (276 هـ) الإمام المجتهد، الحافظ عالم الأندلس أبو محمد القاسم بن محمد بن القاسم بن محمد ابن يسار مولى الخليفة بن عبد الملك، الأموي الأندلسي ¬

(¬1) السير (13/ 290 - 291). (¬2) وهو خليل بن عبد الملك بن كليب المعتزلي القدري، كان صديقا لابن وضاح فلما تبين له أمره هجره. فلما مات قام جماعة من الفقهاء منهم أبو مروان بن أبي عيسى بإخراج كتبه وإحراقها. انظر تاريخ علماء الأندلس (1/ 165 - 166). (¬3) تاريخ علماء الأندلس (1/ 165). (¬4) الديباج المذهب (2/ 143 - 144) والسير (13/ 327 - 330) والتذكرة (2/ 648) وترتيب المدارك (4/ 446 - 448) والشذرات (2/ 170) وتاريخ علماء الأندلس (1/ 355 - 357).

موقفه من المبتدعة:

القرطبي البياني أحد الأعلام. شيخ الفقهاء والمحدثين بالأندلس. غطى معرفتَه بالحديث براعتُه في الفقه والمسائل، وفاق أهل العصر وضرب بإمامته المثل، وصار إماما مجتهدا لا يقلد أحدا، مع قوة ميله إلى مذهب الشافعي وبصره به، فإنه لازم التفقه على الإمامين أبي إبراهيم المزني، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم. مولده بعد سنة عشرين ومائتين. روى عن إبراهيم بن محمد الشافعي، وأبي الطاهر بن السرح، وإبراهيم ابن المنذر الحزامي، والحارث بن مسكين، ويونس بن عبد الأعلى، والربيع، وخلق. تفقه به علماء قرطبة، وحدث عنه سعيد بن عثمان الأعناقي، ومحمد ابن عمر بن لبابة، وابنه محمد بن قاسم، ومحمد بن عبد الملك بن أيمن، وآخرون. قال أحمد بن الجباب: ما رأيت مثل قاسم في الفقه ممن دخل الأندلس من أهل الرحل. قال ابن عبد الحكم: لم يقدم علينا من الأندلس أحد أعلم من قاسم بن محمد، ولقد عاتبته حين رجوعه إلى الأندلس، قلت: أقم عندنا، فإنك تعتقد هنا رئاسة، ويحتاج الناس إليك، فقال: لا بد من الوطن. قال ابن عبد البر: لم يكن أحد ببلدنا أفقه من قاسم بن محمد، وأحمد بن الجباب. قال ابن الفرضي: وكان يلي وثائق الأمير محمد -ملك الأندلس- طول أيامه. مات رحمه الله في آخر سنة ست وسبعين ومائتين، هو وبقي بن مخلد في عام، وما خلفا مثلهما. موقفه من المبتدعة: - قال ابن الفرضي: وذهب مذهب الحجة، والنظر وعلم الاختلاف.

ابن قتيبة (276 هـ)

وكان يميل لمذهب الشافعي، ولم يكن بالأندلس مثل قاسم في حسن النظر والبصر بالحجة. - وقال أيضا: ألف قاسم كتابا في الرد على ابن مزين، والعتبي، وعبد الله بن خالد سماه الرد على المقلدة وكتابا آخر في خبر الواحد. (¬1) قال الذهبي: قلت: وصنف كتاب 'الإيضاح' في الرد على المقلدين. وكان ميالا إلى الآثار. (¬2) " التعليق: قال جامعه: لعل ظاهرة التقليد المذهبي، كانت فاشية في زمانه، فحاربها وألف هذا الكتاب، ولعلنا نظفر به فنعرف قيمته العلمية. ابن قُتَيْبَة (¬3) (276 هـ) العلامة الكبير، ذو الفنون، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، وقيل المروزي، الكاتب صاحب التصانيف. نزل بغداد وصنف وجمع وبعد صيته. حدث عن إسحاق بن راهويه، ومحمد بن زياد بن عبيد الله الزيادي، وزياد بن يحيى الحساني، وأبي حاتم السجستاني وطائفة. حدث عنه ابنه القاضي أحمد بن عبد الله بديار مصر وعبيد الله السكري، وعبيد الله بن ¬

(¬1) الديباج المذهب (2/ 143 - 144). (¬2) السير (13/ 327 - 329) بتصرف، وتذكرة الحفاظ (2/ 648). (¬3) تاريخ بغداد (10/ 170 - 171) والسير (13/ 296 - 302) والمنتظم (12/ 276 - 277) ووفيات الأعيان (3/ 42 - 44) وتذكرة الحفاظ (2/ 633) والبداية والنهاية (11/ 52) وميزان الاعتدال (2/ 503) واللسان (3/ 357 - 359) وشذرات الذهب (2/ 169 - 170).

موقفه من المبتدعة:

أحمد بن بكر، وعبد الله بن جعفر بن درستويه النحوي. قال أبو بكر الخطيب: كان ثقة دينا فاضلا وهو صاحب التصانيف المشهورة، والكتب المعروفة منها: 'غريب القرآن'، 'غريب الحديث'، 'مشكل القرآن'، 'مشكل الحديث'، 'أدب الكاتب'، 'عيون الأخبار'، 'كتاب المعارف'، 'إعراب القرآن' وغير ذلك. وقد ولي قضاء الدينور، وكان رأسا في علم اللسان العربي والأخبار وأيام الناس. قال السلفي: ابن قتيبة من الثقات وأهل السنة. قال الذهبي: والرجل ليس بصاحب حديث، وإنما هو من كبار العلماء المشهورين، عنده فنون جمة وعلوم مهمة. مات رحمه الله في شهر رجب -أول ليلة منه- سنة ست وسبعين ومائتين. موقفه من المبتدعة: - قال في كتابه 'تأويل مختلف الحديث': من اعتصم بكتاب الله عز وجل، وتمسك بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد استضاء بالنور، واستفتح باب الرشد، وطلب الحق من مظانه. وليس يدفع أصحاب الحديث عن ذلك إلا ظالم، لأنهم لا يردون شيئا من أمر الدين إلى استحسان، ولا إلى قياس ونظر، ولا إلى كتب الفلاسفة المتقدمين، ولا إلى أصحاب الكلام المتأخرين. (¬1) - وقال: فأما أصحاب الحديث فإنهم التمسوا الحق من وجهته، وتتبعوه من مظانه، وتقربوا من الله تعالى، باتباعهم سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وطلبهم لآثاره وأخباره، برا وبحرا، وشرقا وغربا. يرحل الواحد منهم راجلا ¬

(¬1) تأويل مختلف الحديث (86).

موقفه من المشركين:

مقويا في طلب الخبر الواحد، أو السنة الواحدة حتى يأخذها من الناقل لها مشافهة ثم لم يزالوا في التنقير عن الأخبار والبحث لها، حتى فهموا صحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، وعرفوا من خالفها من الفقهاء إلى الرأي. فنبهوا على ذلك حتى نجم الحق بعد أن كان عافيا، وبسق بعد أن كان دارسا، واجتمع بعد أن كان متفرقا، وانقاد للسنن من كان عنها معرضا، وتنبه عليها من كان عنها غافلا، وحكم بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن كان يحكم بقول فلان وفلان وإن كان فيه خلاف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد يعيبهم الطاعنون بحملهم الضعيف، وطلبهم الغرائب وفي الغريب الداء. ولم يحملوا الضعيف والغريب، لأنهم رأوهما حقا، بل جمعوا الغث والسمين، والصحيح والسقيم، ليميزوا بينهما، ويدلوا عليهما، وقد فعلوا ذلك. (¬1) موقفه من المشركين: - قال رحمه الله: ولم يأت أهل التكذيب بهذا وأشباهه، إلا لردهم الغائب عنهم، إلى الحاضر عندهم، وحملهم الأشياء على ما يعرفون من أنفسهم، ومن الحيوان والموات، واستعمالهم حكم ذوي الجثث في الروحانيين. فإذا سمعوا بملائكة، على كواهلها العرش، وأقدامها في الأرض السفلى، استوحشوا من ذلك، لمخالفة ما شاهدوا -وقالوا: كيف تخرق جثث هؤلاء، السموات وما بينهما، والأرضين وما فوقها، من غير أن نرى لذلك أثرا؟ وكيف يكون خلق، له هذه العظمة؟ وكيف تكون أرواحا ولها ¬

(¬1) تأويل مختلف الحديث (73 - 74).

كواهل وأقدار. وإذا سمعوا بأن جبريل عليه السلام، مرة أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة أعرابي، ومرة في صورة دحية الكلبي، ومرة في صورة شاب، ومرة سد بجناحيه ما بين المشرق والمغرب. قالوا: كيف يتحول من صورة إلى صورة. وكيف يكون مرة، في غاية الصغر، ومرة في غاية الكبر: من غير أن يزاد في جسمه ولا جثته، وأعراضه؟ لأنهم لا يعاينون إلا ما كان كذلك. وإذا سمعوا بأن الشيطان يصل إلى قلب ابن آدم، حتى يوسوس له ويخنس. قالوا: من أين يدخل؟ وهل يجتمع روحان في جسم؟ وكيف يجري مجرى الدم؟ قال أبو محمد: ولو اعتبروا ما غاب عنهم، بما رأوه من قدرة الله جل وعز، لعلموا أن الذي قدر على أن يفجر مياه الأرض كلها إلى البحر، منذ خلق الله الأرض وما عليها، فهي تفضي إليه من غير أن يزيد فيه أو ينقص منه. ولو جعل لنهر منها مثل "دجلة" أو "الفرات" أو "النيل" سبيل إلى ما على وجه الأرض من المدائن والقرى والعمارات والخراب، شهرا، لم يبق على ظهرها شيء إلا هلك، هو الذي قدر على ما أنكروا. -وأن الذي قدر أن يحرك هذه الأرض، على عظمها وكثافتها، وبحارها، وأطوادها، وأنهارها حتى تتصدع الجبال، وحتى تغيض المياه، وحتى ينتقل جبل من مكان إلى مكان، هو الذي لطف لما قدر. وأن الذي وسع إنسان العين، مع صغره وضعفه، لإدراك نصف الفلك، على عظمه، حتى رأى النجم من المشرق، ورقيبه من المغرب، وما بينهما، وحتى خرق من الجو، مسيرة خمسمائة عام هو الذي خلق ملكا، ما بين

موقفه من الرافضة:

شحمة أذنه إلى عاتقه، مسيرة خمسمائة عام. فهل ما أنكر إلا بمنزلة ما عرف؟ وهل ما رأى إلا بمنزلة ما لم يره؟ فتعالى الله أحسن الخالقين؟. (¬1) موقفه من الرافضة: - جاء في تأويل مختلف الحديث: قال أبو محمد: ثم نصير إلى هشام بن الحكم فنجده رافضيا غاليا. ويقول في الله تعالى بالأقطار والحدود، والأشبار، وأشياء يتحرج من حكايتها وذكرها، لا خفاء على أهل الكلام بها. ويقول بالإجبار الشديد، الذي لا يبلغه القائلون بالسنة. وسأله سائل فقال: أترى الله تعالى -مع رأفته ورحمته وحكمته وعدله- يكلفنا شيئا، ثم يحول بيننا وبينه، ويعذبنا؟ فقال: قد -والله- فعل، ولكنا لا نستطيع أن نتكلم. وقال له رجل: يا أبا محمد (¬2)، هل تعلم أن عليا خاصم العباس في فدك إلى أبي بكر؟ قال: نعم. قال: فأيهما كان الظالم؟ قال: لم يكن فيهما ظالم. قال: سبحان الله، وكيف يكون هذا؟ قال: هما كالملكين المختصمين إلى داود عليه السلام، لم يكن فيهما ظالم، إنما أراد أن يعرفاه خطأه وظلمه. كذلك أراد هذان، أن يعرفا أبا بكر خطأه وظلمه. (¬3) - قال أبو محمد في هارون بن سعد العجلي: وهو جلد جفر، ادعوا أنه كتب فيه لهم الإمام، كل ما يحتاجون إلى علمه، وكل ما يكون إلى يوم ¬

(¬1) تأويل مختلف الحديث (127 - 128). (¬2) هو هشام بن الحكم. (¬3) تأويل مختلف الحديث (48).

القيامة. فمن ذلك قولهم في قول الله عز وجل: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} (¬1) أنه الإمام، وورث النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه. وقولهم في قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (¬2) أنها عائشة رضي الله عنها. وفي قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} (¬3) أنه طلحة والزبير. وقولهم في الخمر والميسر: إنهما أبو بكر وعمر، رضي الله عنهما والجبت والطاغوت: إنهما معاوية وعمرو بن العاص، مع عجائب أرغب عن ذكرها، ويرغب من بلغه كتابنا هذا، عن استماعه ... قال أبو محمد: ولا نعلم في أهل البدع والأهواء أحدا ادعى الربوبية لبشر غيرهم. فإن عبد الله بن سبأ ادعى الربوبية لعلي، فأحرق علي أصحابه بالنار، وقال في ذلك: لما رأيت الأمر أمرا منكرا ... أججت ناري ودعوت قنبرا ولا نعلم أحدا ادعى النبوة لنفسه غيرهم. فإن المختار بن أبي عبيد، ادعى النبوة لنفسه وقال: إن جبريل وميكائيل، يأتيان إلى جهته، فصدقه قوم واتبعوه، وهم الكيسانية. (¬4) ¬

(¬1) النمل الآية (16). (¬2) البقرة الآية (67). (¬3) البقرة الآية (73). (¬4) تأويل مختلف الحديث (71 - 73).

ذكر بعض طعون النظام على الصحابة رضي الله عنهم ورد ابن قتيبة عليه: - قال أبو محمد: وذكر -أي النظام- قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لو كان هذا الدين بالقياس، لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره) فقال كان الواجب على عمر، العمل بمثل ما قال في الأحكام كلها. وليس ذلك بأعجب من قوله أجرؤكم على الجد أجرؤكم على النار ثم قضى في الجد بمائة قضية مختلفة. وذكر قول أبي بكر رضي الله تعالى عنه، حين سئل عن آية من كتاب الله تعالى، فقال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، أم أين أذهب؟ أم كيف أصنع إذا أنا قلت في آية من كتاب الله تعالى، بغير ما أراد الله. ثم سئل عن الكلالة، فقال: أقول فيها برأيي فإن كان صوابا، فمن الله، وإن كان خطأ فمني، هي ما دون الولد والوالد. قال: وهذا خلاف القول الأول ومن استعظم القول بالرأي ذلك الاستعظام، لم يقدم على القول بالرأي هذا الإقدام حتى ينفذ عليه الأحكام. وذكر قول علي كرم الله وجهه، حين سئل عن بقرة قتلت حمارا، فقال: أقول فيها برأيي، فإن وافق رأيي قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذاك، وإلا فقضائي رذل فسل. قال: وقال: من أحب أن يتقحم جراثيم جهنم، فليقل في الجد. ثم قضى فيه بقضايا مختلفة. وذكر قول ابن مسعود في حديث، بِرَوْع بنت واشق، أقول فيها برأيي، فإن كان خطأ فمني، وإن كان صوابا، فمن الله تعالى. قال: وهذا هو الحكم بالظن، والقضاء بالشبهة، وإذا كانت الشهادة بالظن حراما، فالقضاء

بالظن أعظم. قال: ولو كان ابن مسعود بدل نظره في الفتيا، نظر في الشقي كيف يشقى، والسعيد كيف يسعد، حتى لا يفحش قوله على الله تعالى، ولا يشتد غلطه، لقد كان أولى به. قال: وزعم أن القمر انشق، وأنه رآه. وهذا من الكذب الذي لا خفاء به، لأن الله تعالى لا يشق القمر له وحده، ولا لآخر معه وإنما يشقه ليكون آية للعالمين، وحجة للمرسلين، ومزجرة للعباد، وبرهانا في جميع البلاد. فكيف لم تعرف بذلك العامة، ولم يؤرخ الناس بذلك العام -ولم يذكره شاعر، ولم يسلم عنده كافر، ولم يحتج به مسلم على ملحد؟ قال: ثم جحد من كتاب الله تعالى سورتين، فهبه لم يشهد قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - بهما، فهلا استدل بعجيب تأليفهما، وأنهما على نظم سائر القرآن المعجز للبلغاء أن ينظموا نظمه، وأن يحسنوا مثل تأليفه. قال: وما زال يطبق في الركوع إلى أن مات، كأنه لم يصل مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو كان غائبا. وشتم زيد ابن ثابت بأقبح الشتم، لما اختار المسلمون قراءته لأنها آخر العرض. وعاب عثمان رضي الله عنه، حين بلغه أنه صلى بـ "منى" أربعا، ثم تقدم، فكان أول من صلى أربعا فقيل له في ذلك فقال: الخلاف شر والفرقة شر، وقد عمل بالفرقة في أمور كثيرة ولم يزل يقول في عثمان القول القبيح، منذ اختار قراءة زيد. ورأى قوما من الزط، فقال هؤلاء أشبه من رأيت بالجن، ليلة الجن، ذكر ذلك سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي. وذكر داود عن الشعبي عن علقمة قال: قلت لابن مسعود: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن؟ فقال ما شهدها منا أحد، وذكر حذيفة بن اليمان فقال: جعل يحلف لعثمان

على أشياء بالله تعالى ما قالها، وقد سمعوه قالها. فقيل له في ذلك فقال: إني أشتري ديني بعضه ببعض، مخافة أن يذهب كله رواه مسعر بن كدام، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن سبرة. وذكر أبا هريرة، فقال أكذبه عمر، وعثمان، وعلي، وعائشة رضوان الله عليهم. وروى حديثا في المشي في الخف الواحد، فبلغ عائشة، فمشت في خف واحد وقالت: لأخالفن أبا هريرة. وروى أن الكلب والمرأة والحمار، تقطع الصلاة. فقالت عائشة رضي الله عنها: ربما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وسط السرير، وأنا على السرير معترضة بينه وبين القبلة. قال: وبلغ عليا أن أبا هريرة يبتدئ بميامنه في الوضوء، وفي اللباس. فدعا بماء فتوضأ، فبدأ بمياسره، وقال: لأخالفن أبا هريرة. وكان من قوله حدثني خليلي، وقال خليلي ورأيت خليلي. فقال له علي: متى كان النبي خليلك، يا أبا هريرة؟ قال: وقد روى "من أصبح جنبا، فلا صيام له" فأرسل مروان في ذلك إلى عائشة وحفصة، يسألهما، فقالتا: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصبح جنبا من غير احتلام، ثم يصوم. فقال للرسول: اذهب إلى أبي هريرة، حتى تعلمه. فقال أبو هريرة: إنما حدثني بذلك الفضل بن العباس. فاستشهد ميتا، وأوهم الناس أنه سمع الحديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يسمعه. قال أبو محمد: هذا قوله في جِلة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم كأنه لم يسمع بقول الله عز وجل في كتابه الكريم: {محمد رسول الله

وَالَّذِينَ مَعَهُ} (¬1) إلى آخر السورة. ولم يسمع بقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} (¬2) ولو كان ما ذكرهم به حقا، لا مخرج منه ولا عذر فيه، ولا تأويل له، إلا ما ذهب إليه، لكان حقيقا بترك ذكره والإعراض عنه، إذ كان قليلا يسيرا، مغمورا في جنب محاسنهم، وكثير مناقبهم، وصحبتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبذلهم مهجهم وأموالهم، في ذات الله تعالى. قال أبو محمد: ولا شيء أعجب عندي من ادعائه على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قضى في الجد بمائة قضية مختلفة، وهو من أهل النظر وأهل القياس. فهلا اعتبر هذا ونظر فيه، ليعلم أنه يستحيل أن يقضي عمر في أمر واحد بمائة قضية مختلفة. فأين هذه القضايا؟ وأين عشرها ونصف عشرها؟ أما كان في حملة الحديث من يحفظ منها خمسا أو ستا؟ ولو اجتهد مجتهد أن يأتي من القضاء في الجد بجميع ما يمكن فيه، من قول ومن حيلة، ما كان يتيسر له أن يأتي فيه بعشرين قضية. وكيف لم يجعل هذا الحديث، إذ كان مستحيلا، مما ينكر من الحديث ويدفع مما قد أتى به الثقات، وما ذاك إلا لضغن يحتمله على عمر رضي الله عنه وعداوة. قال أبو محمد: وأما طعنه على أبي بكر رضي الله عنه بأنه سئل عن آية من كتاب الله تعالى، فاستعظم أن يقول فيها شيئا، ثم قال في الكلالة برأيه. ¬

(¬1) الفتح الآية (29). (¬2) الفتح الآية (18).

فإن أبا بكر رضي الله عنه سئل عن شيء من متشابه القرآن العظيم، الذي لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم، فأحجم عن القول فيه، مخافة أن يفسره بغير مراد الله تعالى. وأفتى في الكلالة برأيه، لأنه أمر ناب المسلمين، واحتاجوا إليه في مواريثهم، وقد أبيح له اجتهاد الرأي فيما لم يؤثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء، ولم يأت له في الكتاب شيء كاشف، وهو إمام المسلمين ومفزعهم فيما ينوبهم، فلم يجد بدا من أن يقول. وكذلك قال عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد رضي الله عنهم، حين سئلوا، وهم الأئمة والمفزع إليهم عند النوازل. فماذا كان ينبغي له أن يفعلوا عنده، أيدعون النظر في الكلالة وفي الجد، إلى أن يأتي هو وأشباهه، فيتكلموا فيهما. ثم طعنه على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بقوله: إن القمر انشق، وأنه رأى ذلك، ثم نسبه فيه إلى الكذب. وهذا ليس بإكذاب لابن مسعود، ولكنه بخس لعلم النبوة وإكذاب للقرآن العظيم، لأن الله تعالى يقول: {اقتربت السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} (¬1). فإن كان القمر لم ينشق في ذلك الوقت، وكان مراده: سينشق القمر فيما بعد، فما معنى قوله: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} (¬2) بعقب هذا الكلام؟ أليس فيه دليل على أن قوما رأوه منشقا فقالوا: "هذا سحر مستمر" من سحره، وحيلة من حيله كما قد كانوا يقولون في غير ذلك من أعلامه وكيف صارت الآية ¬

(¬1) القمر الآية (1). (¬2) القمر الآية (2).

من آيات النبي - صلى الله عليه وسلم - والعلم من أعلامه لا يجوز عنده أن يراها الواحد والاثنان والنفر دون الجميع. أو ليس قد يجوز أن يخبر الواحد والاثنان والنفر والجميع، كما أخبر مكلم الذئب، بأن ذئبا كلمه، وأخبر آخر بأن بعيرا شكا إليه، وأخبر آخر أن مقبورا لفظته الأرض. وطعنه عليه لجحده سورتين من القرآن العظيم، يعني "المعوذتين" فإن لابن مسعود في ذلك سببا، والناس قد يظنون ويزلون، وإذا كان هذا جائزا على النبيين والمرسلين، فهو على غيرهم أجوز. وسببه في تركه، إثباتهما في مصحفه أنه كان يرى النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوذ بهما الحسن والحسين، ويعوذ غيرهما، كما كان يعوذهما بـ "أعوذ بكلمات الله التامة" فظن أنهما ليستا من القرآن، فلم يثبتهما في مصحفه. وبنحو هذا السبب أثبت أبي بن كعب في مصحفه، افتتاح دعاء القنوت، وجعله سورتين لأنه كان يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يدعو بهما في الصلاة، دعاء دائما، فظن أنه من القرآن. وأما التطبيق فليس من فرض الصلاة، وإنما الفرض، الركوع والسجود، لقول الله عز وجل: {اركعوا واسجدوا} (¬1). فمن طبق فقد ركع، ومن وضع يديه على ركبتيه، فقد ركع. وإنما وضع اليدين على الركبتين، أو التطبيق من آداب الركوع. وقد كان الاختلاف في آداب الصلاة. فكان منهم من يقعي، ومنهم من يفترش، ومنهم من يتورك. وكل ذلك لا يفسد الصلاة وإن اختلف. وأما نسبته إياه إلى الكذب في حديثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد ¬

(¬1) الحج الآية (77).

من سعد في بطن أمه" (¬1). فكيف يجوز أن يكذب ابن مسعود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مثل هذا الحديث الجليل المشهور، ويقول حدثني الصادق المصدوق، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون، ولا ينكره أحد منهم؟ ولأي معنى يكذب مثله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمر لا يجتذب به إلى نفسه نفعا، ولا يدفع عنه ضرا، ولا يدنيه من سلطان ولا رعية، ولا يزداد به مالا إلى ماله؟ وكيف يكذب في شيء، قد وافقه على روايته، عدد منهم أبو أمامة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سبق العلم، وجف القلم، وقضي القضاء، وتم القدر بتحقيق الكتاب، وتصديق الرسل بالسعادة لمن آمن واتقى، والشقاء لمن كذب وكفر". وقال عز وجل: "ابن آدم بمشيئتي كنت. أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبإرادتي كنت. أنت الذي تريد لنفسك ما تريد، وبفضلي ورحمتي أديت إلى فرائضي، وبنعمتي قويت على معصيتي". وهذا الفضل بن عباس بن عبد المطلب يروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال له: "يا غلام، احفظ الله يحفظك، وتوكل عليه تجده أمامك، وتعرف إليه في الرخاء، يعرفك في ¬

(¬1) أخرجه: ابن أبن عاصم في السنة (1/ 79/178) والقضاعي في مسند الشهاب (1/ 79 - 80/ 76) بلفظ: "ألا إنما الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره". قال الشيخ الألباني رحمه الله: "ضعيف مرفوعا، وإسناده كلهم ثقات رجال مسلم غير أن أبا إسحاق وهو عمرو بن عبد الله السبيعي كان اختلط ثم هو إلى ذلك مدلس، وقد عنعنه. والمحفوظ أنه موقوف على ابن مسعود. قلت: الموقوف أخرجه: مسلم (4/ 2037/2645) وابن حبان: الإحسان (14/ 52 - 53/ 6177). والحديث أخرجه بلفظ الباب من حديث أبي هريرة مرفوعا: البزار (مختصر زوائد البزار (2/ 151/1600))، والطبراني في الصغير (ص 289/ح 760)، والآجري (2/ 368 - 369/ 405) واللالكائي (4/ 658/1057)، قال الهيثمي في المجمع (7/ 193): "رواه البزار والطبراني في الصغير ورجال البزار رجال الصحيح"، وقال ابن حجر في مختصر زوائد البزار: صحيح. وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو. أخرجه ابن أبي عاصم (1/ 83/188).

الشدة، واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن القلم قد جف بما هو كائن إلى يوم القيامة" (¬1). وكيف يكذب ابن مسعود في أمر يوافقه عليه الكتاب. يقول الله تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} (¬2). أي جعل في قلوبهم الإيمان كما قال في الرحمة: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (¬3) الآية: أي سأجعلها. ومن جعل الله تعالى في قلبه الإيمان، فقد قضى له بالسعادة. وقال عز وجل لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (¬4). ولا يجوز أن يكون: إنك لا تسمي من أحببت هاديا، ولكن الله يسمي من يشاء هاديا. وقال: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (¬5) كما قال: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى} (¬6) ولا يجوز أن يكون سمى فرعون قومه ضالين، وما سماهم مهتدين. وقال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ ¬

(¬1) رواه عبد بن حميد في مسنده (635) عن المثنى بن الصباح عن عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن عباس به، وليس الفضل. قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/ 460): "إسناده ضعيف". أما اللفظ الثابت عن ابن عباس فقد أخرجه: أحمد (1/ 293) والترمذي (4/ 275 - 276/ 2516) وقال: "حسن صحيح". (¬2) المجادلة الآية (22). (¬3) الأعراف الآية (156). (¬4) القصص الآية (56). (¬5) النحل الآية (93). (¬6) طه الآية (79).

يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (¬1). وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (¬2) وأشباه هذا في القرآن والحديث، يكثر ويطول. ولم يكن قصدنا في هذا الموضع، الاحتجاج على القدرية، فنذكر ما جاء في الرد عليهم، ونذكر فساد تأويلاتهم واستحالتها، وقد ذكرت هذا في غير موضع، من كتبي في القرآن. وكيف يكذب ابن مسعود في أمر توافقه عليه العرب في الجاهلية والإسلام قال بعض الرجاز: يا أيها المضمر هما لا تهم ... إنك إن تقدر لك الحمى تحم ولو علوت شاهقا من العلم ... كيف توقيك وقد جف القلم وقال آخر: هي المقادير فلمني أو فذر ... إن كنت أخطأت فما أخطا القدر وقال لبيد: إن تقوى ربنا خير نفل ... وبأمر الله ريثي وعجل من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل وقال الفرزدق: ¬

(¬1) الأنعام الآية (125). السجدة الآية (13).

ندمت ندامة الكسعي لما ... غدت مني مطلقة نوار وكانت جنة فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضرار ولو ضنت يداي بها ونفسي ... لكان علي للقدر الخيار وقال النابغة: وليس امرؤ نائلا من هوا ... هـ شيئا إذا هو لم يكتب وكيف يكذب ابن مسعود رضي الله عنه في أمر توافقه عليه كتب الله تعالى ... (¬1) قال أبو محمد: وأما حديثه الآخر الذي نسبه فيه إلى الكذب، فقال رأى قوما من الزط، فقال: هؤلاء أشبه من رأيت بالجن ليلة الجن ثم سئل عن ذلك فقيل له: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن؟ فقال ما شهدها منا أحد. فادعى في الحديث الأول أنه شهدها، وأنكر ذلك في الحديث الآخر وتصحيحه الخبرين عنه فكيف يصح هذا عن ابن مسعود، مع ثاقب فهمه، وبارع علمه، وتقدمه في السنة، الذين انتهى إليهم العلم بها، واقتدت بهم الأمة مع خاصته برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولطف محله. وكيف يجوز عليه أن يقر بالكذب، هذا الإقرار، فيقول: اليوم شهدت ويقول غدا: لم أشهد؟ ولو جهد عدوه، أن يبلغ منه ما بلغه من نفسه، ما قدر ولو كان به خبل، أو عته، أو آفة، ما زاد على ما وسم به نفسه. وأصحاب الحديث لا يثبتون حديث الزط (¬2). وما ذكر من حضوره مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن، وهم القدوة عندنا في المعرفة بصحيح ¬

(¬1) تأويل مختلف الحديث (20 - 29). (¬2) أخرجه الترمذي (5/ 134/2861) وقال: "حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه".

الأخبار وسقيمها، لأنهم أهلها والمعتنون بها وكل ذي صناعة أولى بصناعته. غير أنا لا نشك في بطلان أحد الخبرين لأنه لا يجوز على عبد الله بن مسعود، أنه يخبر الناس عن نفسه بأنه قد كذب، ولا يسقط عندهم مرتبته. ولو فعل ذلك، لقيل له: فلم خبرتنا أمس بأنك شهدت. فإن كان الأمر على ما قال أصحاب الحديث، فقد سقط الخبر الأول، وإن كان الحديثان جميعا صحيحين، فلا أرى الناقل للخبر الثاني إلا وقد أسقط منه حرفا، وهو (غيري) يدلك على ذلك أنه قال: قيل له، أكنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن؟ فقال: ما شهدها أحد منا غيري. فأغفل الراوي (غيري) إما بأنه لم يسمعه، أو بأنه سمعه فنسيه أو بأن الناقل عنه أسقطه. وهذا وأشباهه قد يقع ولا يؤمن. ومما يدل على ذلك، أنه قال له: هل كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن؟ فقال: "ما شهدها أحد منا". وليس هذا جوابا لقوله: "هل كنت"؟ وإنما هو جواب لقول السائل: "هل كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن". وإذا كان قول السائل: هل كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن؟ حسن أن يكون الجواب: "ما شهدها أحد منا غيري" يؤكد ذلك ما كان من متقدم قوله. وأما ما حكاه عن حذيفة أنه حلف على أشياء لعثمان، ما قالها، وقد سمعوه قالها، فقيل له في ذلك. فقال: إني أشتري ديني بعضه ببعض، مخافة أن يذهب كله. فكيف حمل الحديث على أقبح وجوهه، ولم يتطلب له العذر والمخرج، وقد أخبر به وذلك قوله: "أشتري ديني بعضه ببعض". أفلا تفهم عنه معناه، وتدبر قوله؟ ولكن عداوته لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما احتمله

من الضغن عليهم، حال بينه وبين النظر، والعداوة والبغض، يعميان ويصمان، كما أن الهوى يعمي ويصم. واعلم رحمك الله أن الكذب والحنث في بعض الأحوال، أولى بالمرء، وأقرب إلى الله من الصدق في القول والبر في اليمين. ألا ترى أن رجلا لو رأى سلطانا ظالما وقادرا قاهرا، يريد سفك دم امرئ مسلم أو معاهد بغير حق، أو استباحة حرمه، أو إحراق منزله، فتخرص قولا كاذبا ينجيه به، أو حلف يمينا فاجرة، كان مأجورا عند الله، مشكورا عند عباده؟. (¬1) وقال أبو محمد: وليس يخلو حذيفة في قوله لعثمان رضي الله عنه، ما قال من تورية إلى شيء في يمينه، وقوله، ولم يحك لنا الكلام فنتناوله، وإنما جاء مجملا. وسنضرب له مثلا كأن حذيفة قال: والناس يقولون عند الغضب، أقبح ما يعلمون، وعند الرضا أحسن ما يعلمون. إن عثمان خالف صاحبيه، ووضع الأمور غير مواضعها، ولم يشاور أصحابه في أموره، ودفع المال إلى غير أهله، هذا وأشباهه. فوشى به إلى عثمان رضي الله عنه واش، فغلظ القول وقال: ذكر أنك تقول: إني ظالم خائن، هذا وما أشبهه. فحلف حذيفة، بالله تعالى ما قال ذلك، وصدق حذيفة أنه لم يقل: إن عثمان خائن ظالم وأراد بيمينه، استلال سخيمته، وإطفاء سورة غضبه وكره أن ينطوي على سخطه عليه. وسخط الإمام على رعيته، كسخط الوالد على ولده، والسيد على عبده، والبعل على زوجه. بل سخط الإمام أعظم من ¬

(¬1) تأويل مختلف الحديث (31 - 34).

ذلك حوبا، فاشترى الأعظم من ذلك بالأصغر، وقال: "أشتري بعض ديني ببعض". وأما طعنه على أبي هريرة بتكذيب عمر وعثمان وعلي وعائشة له. فإن أبا هريرة صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نحوا من ثلاث سنين، وأكثر الرواية عنه وعمر بعده نحوا من خمسين سنة. وكانت وفاته، سنة تسع وخمسين، وفيها توفيت أم سلمة، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتوفيت عائشة رضي الله عنها، قبلهما بسنة. فلما أتى من الرواية عنه، ما لم يأت بمثله من صحبه من جلة أصحابه والسابقين الأولين إليه، اتهموه، وأنكروا عليه، وقالوا: كيف سمعت هذا وحدك؟ ومن سمعه معك؟ وكانت عائشة رضي الله عنها، أشدهم إنكارا عليه، لتطاول الأيام بها وبه. وكان عمر أيضا، شديدا على من أكثر الرواية، أو أتى بخبر في الحكم، لا شاهد له عليه. وكان يأمرهم بأن يقلوا الرواية، يزيد بذلك: أن لا يتسع الناس فيها، ويدخلها الشوب، ويقع التدليس والكذب، من المنافق والفاجر والأعرابي. وكان كثير من جلة الصحابة، وأهل الخاصة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأبي بكر، والزبير، وأبي عبيدة، والعباس بن عبد المطلب، يقلون الرواية عنه. بل كان بعضهم لا يكاد يروي شيئا، كسعيد ابن زيد بن عمرو بن نفيل، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة. وقال علي رضي الله عنه: كنت إذا سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثا، نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه محدث، استحلفته، فإن حلف لي صدقته وأن أبا بكر حدثني، وصدق أبو بكر. ثم ذكر الحديث. أفما ترى تشديد القوم في الحديث وتوقي من أمسك، كراهية التحريف، أو الزيادة في الرواية، أو

النقصان، لأنهم سمعوه عليه السلام يقول: "من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار" (¬1). وهكذا روي عن الزبير أنه رواه وقال: أراهم يزيدون فيه "متعمدا" والله ما سمعته قال "متعمدا". وروى مطرف بن عبد الله، أن عمران بن حصين قال: والله، إن كنت لأرى لو شئت لحدثت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يومين متتابعين، ولكن بطأني عن ذلك أن رجالا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعوا كما سمعت، وشهدوا كما شهدت، ويحدثون أحاديث ما هي كما يقولون، وأخاف أن يشبه لي كما شبه لهم، فأعلمك أنهم كانوا يغلطون لا أنهم كانوا يتعمدون. فلما أخبرهم أبو هريرة بأنه كان ألزمهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لخدمته وشبع بطنه، وكان فقيرا معدما، وأنه لم يكن ليشغله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غرس الودى ولا الصفق بالأسواق، يعرض أنهم كانوا يتصرفون في التجارات ويلزمون الضياع في أكثر الأوقات، وهو ملازم له لا يفارقه، فعرف ما لم يعرفوا، وحفظ ما لم يحفظوا -أمسكوا عنه وكان مع هذا يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا، وإنما سمعه من الثقة عنده، فحكاه. وكذلك كان ابن عباس يفعل، وغيره من الصحابة، وليس في هذا كذب -بحمد الله- ولا على قائله -إن لم يفهمه السامع- جناح، إن شاء الله. وأما قوله: "قال خليلي، وسمعت خليلي". يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأن عليا رضي الله عنه، قال له: "متى كان خليلك؟ ". فإن الخلة بمعنى الصداقة والمصافاة، وهي درجتان، إحداهما ألطف من الأخرى. كما أن الصحبة درجتان، إحداهما ألطف من الأخرى. ألا ترى ¬

(¬1) الحديث صحيح متواتر فاق رواته الستين راويا. أخرجه: أحمد (3/ 98) والبخاري (1/ 268/108) ومسلم في مقدمته (1/ 10/2) والترمذي (5/ 2661/35) وابن ماجه (1/ 32/13) من طرق عن أنس بن مالك.

أن القائل: أبو بكر صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا يريد بهذا القول معنى صحبة أصحابه له، لأنهم جميعا صحابة، فأية فضيلة لأبي بكر رضي الله عنه في هذا القول؟ وإنما يريد أنه أخص الناس به. وكذلك الأخوة التي جعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه، هي ألطف من الأخوة التي جعلها الله بين المؤمنين، فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (¬1) وهكذا الخلة. فمن الخلة التي هي أخص، قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} (¬2). وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو كنت متخذا من هذه الأمة خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا" (¬3). يريد لاتخذته خليلا، كما اتخذ الله إبراهيم خليلا. وأما الخلة، التي تعم، فهي الخلة التي جعلها الله تعالى بين المؤمنين فقال: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (¬4). فلما سمع علي أبا هريرة يقول: "خليلي، وسمعت قال خليلي" وكان سيء الرأي فيه، قال: "متى كان خليلك؟ ". يذهب إلى الخلة التي لم يتخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جهتها- خليلا، وأنه لو فعل ذلك بأحد، لفعله بأبي بكر رضي الله عنه. وذهب أبو هريرة إلى الخلة التي جعلها الله تعالى بين المؤمنين، والولاية، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذه ¬

(¬1) الحجرات الآية (10). (¬2) النساء الآية (125). (¬3) مسلم (1/ 377/532) من حديث جندب بن عبد الله، وفي الباب حديث ابن مسعود وابن عباس وأبي سعيد وغيرهم. (¬4) الزخرف الآية (67).

الجهة- خليل كل مؤمن، وولي كل مسلم. وإلى مثل هذا، يذهب في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كنت مولاه، فعلي مولاه" (¬1) يريد أن الولاية بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين المؤمنين، ألطف من الولاية التي بين المؤمنين بعضهم مع بعض، فجعلها لعلي رضي الله عنه. ولو لم يرد ذلك، ما كان لعلي في هذا القول فضل، ولا كان في القول دليل على شيء، لأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض. ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولي كل مسلم ولا فرق بين ولي ومولي. وكذلك قول الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} (¬2) وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أية امرأة نكحت، بغير أمر مولاها، فنكاحها باطل باطل" (¬3). فهذه أقاويل النظام، قد بيناها، وأجبناه عنها. وله أقاويل في أحاديث يدعي عليها، أنها مناقضة للكتاب، وأحاديث يستبشعها من جهة حجة العقل. وذكر أن جهة حجة العقل، قد تنسخ الأخبار، وأحاديث ينقض بعضها بعضا. وسنذكرها فيما بعد إن شاء الله. (¬4) قال أبو محمد: قالوا حديث يحتج به الروافض في إكفار أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - تسليما: قالوا: رويتم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليردن علي الحوض أقوام، ثم ليختلجن دوني، فأقول: يا رب، أصيحابي أصيحابي. فيقال لي: إنك لا ¬

(¬1) تقدم تخريجه ضمن مواقف الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي سنة (145هـ). (¬2) محمد الآية (11). (¬3) أحمد (6/ 47و165 - 166) وأبو داود (2/ 566/2083) والترمذي (3/ 407 - 408/ 1102) والنسائي في الكبرى (3/ 285/5394) وابن ماجه (1/ 605/1879) وابن حبان (9/ 384/4074 الإحسان) قال الترمذي: "هذا حديث حسن". من طرق عن عائشة رضي الله عنها. (¬4) تأويل مختلف الحديث (37 - 43).

تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم" (¬1). قالوا: وهذه حجة للروافض في إكفارهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا عليا وأبا ذر، والمقداد، وسلمان وعمار بن ياسر، وحذيفة. قال أبو محمد ونحن نقول: إنهم لو تدبروا الحديث، وفهموا ألفاظه، لاستدلوا على أنه لم يرد بذلك إلا القليل. يدلك على ذلك قوله: "ليردن علي الحوض أقوام". ولو كان أرادهم جميعا إلا من ذكروا لقال: "لتردن علي الحوض، ثم لتختلجن دوني". ألا ترى أن القائل إذا قال: "أتاني اليوم أقوام من بني تميم، وأقوام من أهل الكوفة" فإنما يريد قليلا من كثير؟ ولو أراد أنهم أتوه إلا نفرا يسيرا قال: "أتاني بنو تميم، وأتاني أهل الكوفة" ولم يجز أن يقول قوم لأن القوم، هم الذين تخلفوا. ويدلك أيضا قوله: "يارب، أصيحابي" بالتصغير، وإنما يريد بذلك تقليل العدد، كما تقول: "مررت بأبيات متفرقة"، و"مررت بجميعة". ونحن نعلم أنه قد كان يشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشاهد، ويحضر معه المغازي المنافق لطلب المغنم، والرقيق الدين، والمرتاب، والشاك. وقد ارتد بعده أقوام، منهم عيينة بن حصن، ارتد ولحق بطليحة بن خوليد، حين تنبأ وآمن به، فلما هزم طليحة، هرب، فأسره خالد ابن الوليد، وبعث به إلى أبي بكر رضي الله عنه في وثاق، فقدم به المدينة فجعل غلمان المدينة ينخسونه بالجريد، ويضربونه ويقولون: "أي عدو الله، كفرت بالله بعد إيمانك؟ ". فيقول عدو الله: والله ماكنت آمنت. فلما كلمه ¬

(¬1) أحمد (1/ 235و253) والبخاري (8/ 363/4625) ومسلم (4/ 2194/2860) واللفظ لمسلم. والترمذي (4/ 532/2423) والنسائي (4/ 423/2086) من طرق عن ابن عباس رضي الله عنهما.

أبو بكر رضي الله عنه رجع إلى الإسلام، فقبل منه، وكتب له أمانا، ولم يزل بعد ذلك رقيق الدين حتى مات. وهو الذي كان أغار على لقاح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالغابة، فقال له الحارث بن عوف: ما جزيت محمدا - صلى الله عليه وسلم -، أسمنت في بلاده، ثم غزوته؟ فقال: هو ما ترى. وفيه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا الأحمق المطاع". ولعيينة بن حصن أشباه، ارتدوا حين ارتدت العرب، فمنهم من رجع وحسن إسلامه. ومنهم من ثبت على النفاق وقد قال الله تبارك وتعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} (¬1) الآية. فهؤلاء هم الذين يختلجون دونه. وأما جميع أصحابه -إلا الستة الذين ذكروا- فكيف يختلجون؟ وقد تقدم قول الله تبارك وتعالى فيهم {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (¬2) إلى آخر السورة. وقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (¬3). قال أبو محمد: وحدثني زيد بن أخزم الطائي، قال: أنا أبو داود، قال: نا قرة بن خالد، عن قتادة قال: قلت لسعيد بن المسيب، كم كانوا في بيعة الرضوان؟ قال: خمس عشرة مائة. قال قلت: فإن جابر بن عبد الله قال: كانوا أربع عشرة مائة. قال أوهم رحمه الله -هو الذي حدثني، أنهم كانوا خمس ¬

(¬1) التوبة الآية (101). (¬2) الفتح الآية (29). (¬3) الفتح الآية (18).

موقفه من الجهمية:

عشرة مائة. فكيف يجوز أن يرضى الله عز وجل عن أقوام، ويحمدهم ويضرب لهم مثلا في التوارة والإنجيل، وهو يعلم أنهم يرتدون على أعقابهم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلا أن يقولوا: إنه لم يعلم، وهذا هو شر الكافرين. (¬1) موقفه من الجهمية: كان أبو محمد من خيار الناس وعلمائهم، وكان له الباع الطويل في الكتابة ومعرفة أحوال الناس. ترك آثارا تدل على ذلك، وكتبه 'تأويل مختلف الحديث' و'الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية' تدل على أن الرجل من كبار أهل السنة، واسمع ما قاله فيه الإمام الذهبي. - جاء في السير: وقد أنبأني أحمد بن سلامة عن حماد الحراني أنه سمع السلفي ينكر على الحاكم في قوله: لا تجوز الرواية عن ابن قتيبة ويقول: ابن قتيبة من الثقات وأهل السنة ثم قال: لكن الحاكم قصده لأجل المذهب. قال الذهبي: عهدي بالحاكم، يميل إلى الكرامية، ثم ما رأيت لأبي محمد في كتاب 'مشكل الحديث' ما يخالف طريقة المثبتة والحنابلة، ومن أن أخبار الصفات تمر ولا تتأول فالله أعلم. (¬2) من مواقفه المشرفة ما جاء في تأويل مختلف الحديث: - قال أبو محمد: وقد تدبرت -رحمك الله- مقالة أهل الكلام فوجدتهم يقولون على الله مالا يعلمون، ويفتنون الناس بما يأتون، ويبصرون القذى في عيون الناس، وعيونهم تطرف على الأجذاع ويتهمون غيرهم في ¬

(¬1) تأويل مختلف الحديث (233 - 235). (¬2) السير (13/ 299).

النقل، ولا يتهمون آراءهم في التأويل. ومعاني الكتاب والحديث، وما أودعاه من لطائف الحكمة وغرائب اللغة، لا يدرك بالطفرة والتولد والعرض والجوهر، والكيفية والكمية والآينية. ولو ردوا المشكل منهما، إلى أهل العلم بهما، وضح لهم المنهج، واتسع لهم المخرج. ولكن يمنع من ذلك طلب الرياسة، وحب الأتباع، واعتقاد الإخوان بالمقالات. والناس أسراب طير يتبع بعضها بعضا. ولو ظهر لهم من يدعي النبوة -مع معرفتهم بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء، أو من يدعي الربوبية- لوجد على ذلك أتباعا وأشياعا. وقد كان يجب -مع ما يدعونه من معرفة القياس وإعداد آلات النظر- أن لا يختلفوا كما لا يختلف الحساب والمساح، والمهندسون، لأن آلتهم لا تدل إلا على عدد واحد، وإلا على شكل واحد وكما لا يختلف حذاق الأطباء في الماء وفي نبض العروق لأن الأوائل قد وقفوهم من ذلك على أمر واحد فما بالهم أكثر الناس اختلافا، لا يجتمع اثنان من رؤسائهم على أمر واحد في الدين. فـ"أبو الهذيل العلاف" يخالف "النظام" و"النجار" يخالفهما، و"هشام ابن الحكم" يخالفهم، وكذلك "ثمامة" و"مويس" و"هاشم الأوقص" و"عبيد الله ابن الحسن" و"بكر العمى" و"حفص" و"قبة" وفلان وفلان. ليس منهم واحد إلا وله مذهب في الدين، يدان برأيه، وله عليه تبع. - قال أبو محمد: ولو كان اختلافهم في الفروع والسنن، لاتسع لهم العذر عندنا، -وإن كان لا عذر لهم، مع ما يدعونه لأنفسهم- كما اتسع لأهل الفقه، ووقعت لهم الأسوة بهم. ولكن اختلافهم، في التوحيد، وفي صفات الله تعالى، وفي قدرته، وفي نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار،

وعذاب البرزخ، وفي اللوح، وفي غير ذلك من الأمور التي لا يعلمها نبي إلا بوحي من الله تعالى. ولن يَعدِم هذا مَن رَدَّ مثل هذه الأصول إلى استحسانه ونظره وما أوجبه القياس عنده، لاختلاف الناس في عقولهم وإراداتهم واختياراتهم، فإنك لا تكاد ترى رجلين متفقين حتى يكون كل واحد منهما يختار ما يختاره الآخر، ويرذل ما يرذله الآخر، إلا من جهة التقليد والذي خالف بين مَناظِرهم وهيئاتهم وألوانهم ولغاتهم وأصواتهم وخطوطهم وآثارهم، حتى فرق القائف بين الأثر والأثر، وبين الأنثى والذكر هو الذي خالف بين آرائهم. والذي خالف بين الآراء هو الذي أراد الاختلاف لهم. ولن تكمل الحكمة والقدرة إلا بخلق الشيء وضده ليُعرف كل واحد منهما بصاحبه. فالنور يعرف بالظلمة، والعلم يعرف بالجهل، والخير يعرف بالشر، والنفع يعرف بالضر، والحلو يعرف بالمر لقول الله تبارك وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} (¬1) والأزواج الأضداد والأصناف كالذكر والأنثى، واليابس والرطب، وقال تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} (¬2) ولو أردنا -رحمك الله- أن ننتقل عن أصحاب الحديث ونرغب عنهم إلى أصحاب الكلام، ونرغب فيهم، لخرجنا من اجتماع إلى تشتت، وعن نظام ¬

(¬1) يس الآية (36). (¬2) النجم الآية (45).

إلى تفرق، وعن أنس إلى وحشة، وعن اتفاق إلى اختلاف، لأن أصحاب الحديث كلهم مجمعون على أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لا يكون. وعلى أنه خالق الخير والشر، وعلى أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وعلى أن الله تعالى يرى يوم القيامة، وعلى تقديم الشيخين وعلى الإيمان بعذاب القبر لا يختلفون في هذه الأصول ومن فارقهم في شيء منها، نابذوه وباغضوه وبدعوه وهجروه. وإنما اختلفوا في اللفظ بالقرآن، لغموض وقع في ذلك وكلهم مجمعون على أن القرآن، بكل حال -مقروءا ومكتوبا، ومسموعا، ومحفوظا- غير مخلوق، فهذا الإجماع. (¬1) - قال أبو محمد: فإذا نحن أتينا أصحاب الكلام، لما يزعمون أنهم عليه من معرفة القياس، وحسن النظر، وكمال الإرادة وأردنا أن نتعلق بشيء من مذاهبهم. ونعتقد شيئا من نحلهم، وجدنا "النظام" شاطرا من الشطار، يغدو على سكر، ويروح على سكر، ويبيت على جرائرها ويدخل في الأدناس ويرتكب الفواحش والشائنات وهو القائل: ما زلت آخذ روح الزق في لطف ... وأستبيح دما من غير مجروح حتى انثنيت ولي روحان في جسدي ... والزق مطرح جسم بلا روح ثم نجد أصحابه يعدون من خطئه قوله إن الله عز وجل يحدث الدنيا وما فيها، في كل وقت من غير إفنائها. قالوا فالله في قوله يحدث الموجود، ولو جاز إيجاد الموجود، لجاز إعدام المعدوم. وهذا فاحش في ضعف الرأي، ¬

(¬1) تأويل مختلف الحديث (13 - 16).

وسوء الاختيار. وحكوا عنه أنه قال: قد يجوز أن يجمع المسلمون جميعا على الخطأ. قال: ومن ذلك إجماعهم على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى الناس كافة دون جميع الأنبياء وليس كذلك وكل نبي في الأرض بعثه الله تعالى، فإلى جميع الخلق بعثه، لأن آيات الأنبياء -لشهرتها- تبلغ آفاق الأرض، وعلى كل من بلغه ذلك أن يصدقه ويتبعه. فخالف الرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "بعثت إلى الناس كافة، وبعثت إلى الأحمر والأسود وكان النبي يبعث إلى قومه" (¬1) وأول الحديث. وفي مخالفة الرواية وحشة، فكيف بمخالفة الرواية والإجماع لما استحسن. (¬2) قال أبو محمد: وفسروا القرآن بأعجب تفسير، يريدون أن يردوه إلى مذاهبهم، ويحملوا التأويل على نحلهم. فقال فريق منهم في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (¬3) أي علمه، وجاءوا على ذلك بشاهد لا يعرف، وهو قول الشاعر: ولا يُكَرْسيُّ علمَ الله مخلوقُ كأنه عندهم: ولا يعلم علم الله مخلوق. والكرسي غير مهموز، و"يكرسئ" مهموز، يستوحشون أن يجعلوا لله تعالى كرسيا، أو سريرا، ويجعلون العرش شيئا آخر. والعرب لا تعرف العرش ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (3/ 304) والبخاري (1/ 574/335) ومسلم (1/ 370 - 371/ 521) والنسائي (1/ 229 - 231/ 430) من حديث جابر رضي الله عنه. (¬2) تأويل مختلف الحديث (17 - 19). (¬3) البقرة الآية (255).

إلا السرير، وما عُرِش من السقوف والآبار. يقول الله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} (¬1) أي على السرير. وأمية بن أبي الصلت يقول: مجدوا الله وهو للمجد أهل ... ربنا في السماء أمسى كبيرا بالبناء الأعلى الذي سبق النا ... س وسوى فوق السماء سريرا شرجعا ما يناله بصر العين ... ترى دونه الملائك صورا (¬2) - قال أبو محمد: وقالوا في قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} (¬3) إن اليد، ههنا، النعمة لقول العرب "لي عند فلان يد" أي نعمة ومعروف. وليس يجوز أن تكون اليد ههنا، النعمة لأنه قال: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} معارضة عما قالوه فيها ثم قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}. ولا يجوز أن يكون أراد "غلت نعمهم، بل نعمتاه مبسوطتان" لأن النعم لا تغل، ولأن المعروف لا يكنى عنه باليدين، كما يكنى عنه باليد، إلا أن يريد جنسين من المعروف، فيقول: لي عنده يدان. ونعم الله تعالى أكثر من أن يحاط بها. (¬4) - قال أبو محمد: قالوا: رويتم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته". (¬5) ¬

(¬1) يوسف الآية (100). (¬2) تأويل مختلف الحديث (67). (¬3) المائدة الآية (64). (¬4) تأويل مختلف الحديث (70). (¬5) انظر تخريجه في مواقف عبد العزيز الماجشون سنة (164هـ).

والله تعالى يقول: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (¬1) ويقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (¬2). قالوا: وليس يجوز في حجة العقل، أن يكون الخالق يشبه المخلوق، في شيء من الصفات، وقد قال موسى عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} (¬3). قالوا: فإن كان هذا الحديث صحيحا، فالرؤية فيه بمعنى العلم، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} (¬4) وقال: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬5). قال أبو محمد: ونحن نقول: إن هذا الحديث صحيح، لا يجوز على مثله الكذب، لتتابع الروايات عن الثقات به، من وجوه كثيرة: ولو كان يجوز أن يكون مثله كذبا، جاز أن يكون كل ما نحن عليه من أمور ديننا في التشهد، الذي لم نعلمه إلا بالخبر، وفي صدقة النعم، وزكاة الناض من الأموال، والطلاق، والعتاق، وأشباه ذلك من الأمور التي وصل إلينا علمها بالخبر، ولم يأت لها بيان في الكتاب - باطلا. ¬

(¬1) الأنعام الآية (103). (¬2) الشورى الآية (11). (¬3) الأعراف الآية (143). (¬4) الفرقان الآية (45). (¬5) البقرة الآية (106) وفي الأصل: "ألم تر" والصواب ما أثبتناه.

وأما قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} وقول موسى عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} فليس ناقضا لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ترون ربكم يوم القيامة" لأنه أراد -جل وعز- بقوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} في الدنيا. وقال لموسى عليه السلام: "لن تراني" يريد: في الدنيا، لأنه -جل وعز- احتجب عن جميع خلقه في الدنيا، ويتجلى لهم يوم الحساب، ويوم الجزاء والقصاص، فيراه المؤمنون كما يرون القمر في ليلة البدر، ولا يختلفون فيه، كما لا يختلفون في القمر. ولم يقع التشبيه بها على كل حالات القمر، في التدوير، والمسير، والحدود وغير ذلك. وإنما وقع التشبيه بها، على أنا ننظر إليه -عز وجل- كما ننظر إلى القمر ليلة البدر لا يختلف في ذلك، كما لا يختلف في القمر. والعرب، تضرب المثل بالقمر في الشهرة والظهور، فيقولون: "هذا أبين من الشمس، ومن فلق الصبح، وأشهر من القمر" قال ذو الرمة: وقد بهرت فما تخفى على أحد ... إلا على أحد لا يعرف القمرا وقوله في الحديث: "لا تضامون في رؤيته" دليل لأن التضام من الناس يكون في أول الشهر عند طلبهم الهلال، فيجتمعون، ويقول واحد: "هو ذاك هو ذاك" ويقول آخر: "ليس به وليس القمر كذلك" لأن كل واحد يراه بمكانه، ولا يحتاج إلى أن ينضم إلى غيره لطلبه.

وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاض على الكتاب، ومبين له. فلما قال الله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} الْأَبْصَارُ وجاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصحيح من الخبر "ترون ربكم تعالى في القيامة" لم يخف على ذي فهم ونظر ولب وتمييز، أنه في وقت دون وقت. وفي قول موسى عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} أبين الدلالة، على أنه يرى في القيامة. ولو كان الله تعالى لا يرى في حال من الأحوال، ولا يجوز عليه النظر، لكان موسى عليه السلام قد خفي عليه من وصف الله تعالى ما علموه. ومن قال بأن الله تعالى يدرك بالبصر يوم القيامة، فقد حده عندهم، ومن كان الله تعالى عنده، محدودا، فقد شبهه بالمخلوقين، ومن شبهه عندهم بالخلق، فقد كفر. فما يقولون في موسى عليه السلام فيما بين أن الله تعالى نبأه، وكلمه من الشجرة إلى الوقت الذي قال له فيه: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} أيقضون عليه بأنه كان مشبها لله محددا؟ لا، لعمر الله، لا يجوز أن يجهل موسى عليه السلام، من الله عز وجل مثل هذا، لو كان على تقديرهم. ولكن موسى عليه السلام، علم أن الله تعالى، يرى يوم القيامة، فسأل الله عز وجل أن يجعل له في الدنيا، ما أجله لأنبيائه وأوليائه يوم القيامة.

فقال له: {لَنْ تَرَانِي} يعني في الدنيا {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} (¬1). أعلمه أن الجبل لا يقوم لتجليه حتى يصير دكا، وأن الجبال إذا ضعفت عن احتمال ذلك، فابن آدم أحرى أن يكون أضعف إلى أن يعطيه الله تعالى يوم القيامة ما يقوى به على النظر، ويكشف عن بصره الغطاء الذي كان في الدنيا. والتجلي: هو الظهور، ومنه يقال: "جلوت العروس" إذا أبرزتها و"جلوت المرآة والسيف" إذا أظهرتهما من الصدأ. وأما قولهم: إن الرؤية في قوله: (ترون ربكم يوم القيامة)، بمعنى العلم كما قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ على كُلِّ شَيْءٍ قديرٍ} (¬2). يريد "ألم تعلم" فإنه يستحيل، لأنا نعلمه في الدنيا أيضا - فأي فائدة في هذا الخبر إذا كان الأمر في يوم القيامة، وفي الدنيا واحدا. وقرأت في الإنجيل أن المسيح عليه السلام حين فتح فاه بالوحي قال: "طوبى للذين يرحمون، فعليهم تكون الرحمة، طوبى للمخلصة قلوبهم، فإنهم الذين يرون الله تبارك وتعالى" والله تبارك وتعالى يقول: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (¬3). ¬

(¬1) الأعراف الآية (143). (¬2) البقرة الآية (106) وفي الأصل: "ألم تر" والصواب ما أثبتناه. (¬3) القيامة الآيتان (22و23).

ويقول في قوم سخط عليهم: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} (¬1). أفما في هذا القول، دليل على أن الوجوه الناضرة، التي هي إلى ربها ناظرة، هي التي لا تحجب إذا حجبت هذه الوجوه؟ فإن قالوا لنا: كيف ذلك النظر والمنظور إليه؟ قلنا: نحن لا ننتهي في صفاته -جل جلاله- إلا إلى حيث انتهى إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا ندفع ما صح عنه، لأنه لا يقوم في أوهامنا، ولا يستقيم على نظرنا، بل نؤمن بذلك من غير أن نقول فيه بكيفية أو حد، أو أن نقيس على ما جاء، ما لم يأت- ونرجو أن يكون في ذلك من القول والعقد، سبيل النجاة، والتخلص من الأهواء كلها غدا، إن شاء الله تعالى. (¬2) - قال أبو محمد: قالوا رويتم أن قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الله عز وجل (¬3). فإن كنتم أردتم بالأصابع ههنا، النعم، وكان الحديث صحيحا، فهو مذهب. وإن كنتم أردتم الأصابع بعينها، فإن ذلك يستحيل لأن الله تعالى لا يوصف بالأعضاء، ولا يشبه بالمخلوقين. وذهبوا في تأويل الأصابع إلى أنه النعم لقول العرب: "ما أحسن إصبع فلان على ماله" يريدون أثره، وقال الراعي في وصف إبله: ¬

(¬1) المطففين الآيتان (15و16). (¬2) تأويل مختلف الحديث (204 - 208). (¬3) انظر تخريجه في مواقف سفيان بن عيينة سنة (198هـ) والشافعي سنة (204هـ).

ضعيف العصا بادي العروق ترى له ... عليها إذا ما أمحل الناس أصبعا أي: ترى له عليها أثرا حسنا. قال أبو محمد: ونحن نقول: إن هذا الحديث صحيح، وإن الذي ذهبوا إليه في تأويل الإصبع لا يشبه الحديث، لأنه عليه السلام قال في دعائه: "يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك" فقالت له إحدى أزواجه: "أو تخاف -يا رسول الله- على نفسك؟ " فقال: "إن قلب المؤمن، بين أصبعين من أصابع الله عز وجل" (¬1). فإن كان القلب عندهم بين نعمتين من نعم الله تعالى، فهو محفوظ بتينك النعمتين، فلأي شيء دعا بالتثبيت، ولم احتج على المرأة التي قالت له: "أتخاف على نفسك" بما يؤكد قولها، وكان ينبغي أن لا يخاف إذا كان القلب محروسا بنعمتين. فإن قال لنا: ما الإصبع عندك ههنا؟ قلنا، هو مثل قوله في الحديث الآخر يحمل الأرض على أصبع (¬2)، وكذا على أصبعين. ولا يجوز أن تكون الإصبع -ههنا- نعمة. وكقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (¬3) ولم يجز ذلك. ولا نقول أصبع كأصابعنا، ولا يد كأيدينا، ولا قبضة كقبضاتنا، لأن كل شيء منه -عز وجل- لا يشبه شيئا منا. (¬4) ¬

(¬1) انظر تخريجه في مواقف سفيان بن عيينة سنة (198هـ) والشافعي سنة (204هـ). (¬2) انظر تخريجه في مواقف وكيع بن الجراح سنة (196هـ). (¬3) الزمر الآية (67). (¬4) تأويل مختلف الحديث (208 - 210).

قال أبو محمد: قالوا: رويتم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن" (¬1). وينبغي أن تكون الريح عندكم غير مخلوقة، لأنه لا يكون من الرحمن، جل وعز، شيء مخلوق. قال أبو محمد: ونحن نقول: إنه لم يرد بالنفس، ما ذهبوا إليه، وإنما أراد أن الريح من فرج الرحمن -عز وجل- وروحه. يقال: اللهم نفس عني الأذى، وقد فرج الله عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالريح يوم الأحزاب. وقال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} (¬2). وكذلك قوله: "إني لأجد نفس ربكم من قبل اليمن" (¬3). ¬

(¬1) أخرجه: الترمذي (4/ 451 - 452/ 2252) وقال: "حسن صحيح" والنسائي في الكبرى (6/ 231/10769) وعبد الله بن أحمد في زوائده على المسند (5/ 123) والطحاوي في المشكل (2/ 380/918) من طرق عن أبي بن كعب مرفوعاً بلفظ: "لا تسبوا الريح فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا ... " الحديث. وأخرجه النسائي في الكبرى (6/ 232/10771) والحاكم (2/ 272) وصححه ووافقه الذهبي عن أبي موقوفا بلفظ "لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن" وانظر الصحيحة (2756). (¬2) الأحزاب الآية (9). (¬3) رواه أحمد (2/ 541) من طريق شبيب أبي روح أن أعرابياً أتى أبا هريرة فقال: يا أبا هريرة حدثنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث فقال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إن الإيمان يمان والحكمة يمانية وأجد نفس ربكم من قبل اليمن ... " قال العراقي في تخريج الإحياء (1/ 253): "أخرجه أحمد ورجاله ثقات"، وقال الهيثمي في المجمع (10/ 56): "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير شبيب وهو ثقة". قلت: ثقة عند ابن حبان فلم يوثقه غيره، وذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل: ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلاً. وخالف شبيبا هذا جمع من الثقات، بل والأئمة الحفاظ كمحمد بن سيرين والأعرج وأبي سلمة بن عبد الرحمن والعلاء بن عبد الرحمن وسالم أبي الغيث وسعيد بن المسيب وأبي صالح السمان، كلهم رووا الحديث عن أبي هريرة دون ذكر: (وأجد نفس ربكم من قبل اليمن). ولهذا قال الشيخ الألباني عنها في الضعيفة (3/ 217): "هي عندي منكرة أو على الأقل شاذة". تنبيه: والحديث دون ذكر هذه الزيادة في الصحيحين.

قال أبو محمد: وهذا من الكناية، لأن معنى هذا، أنه قال: كنت في شدة وكرب وغم من أهل مكة، ففرج الله عني بالأنصار. يعني: أنه يجد الفرج من قبل الأنصار، وهم من اليمن. فالريح من فرج الله تعالى وروحه، كما كان الأنصار من فرج الله تعالى. قال أبو محمد: وقد بينت هذا في كتاب 'غريب الحديث' بأكثر من هذا البيان، ولم أجد بدا من ذكره ههنا، ليكون الكتاب جامعا للفن الذي قصدوا له. (¬1) - قال أبو محمد: قالوا: رويتم "أن كلتا يديه يمين" (¬2)، وهذا يستحيل إن كنتم أردتم باليدين العضوين، وكيف تعقل يدان كلتاهما يمين؟ قال أبو محمد: ونحن نقول: إن هذا الحديث صحيح وليس هو مستحيلا وإنما أراد بذلك معنى التمام والكمال، لأن كل شيء فمياسره تنقص عن ميامنه في القوة والبطش، والتمام. وكانت العرب تحب التيامن، وتكره التياسر، لما في اليمين من التمام، وفي اليسار من النقص، ولذلك قالوا: "اليمن والشؤم" فاليمن من اليد: اليمنى، والشؤم من اليد: الشؤمى، وهي اليد اليسرى، وهذا وجه بين. ويجوز أن يريد: العطاء باليدين جميعا، لأن اليمنى هي المعطية. فإذا كانت اليدان يمينين كان العطاء بهما، وقد روي في حديث آخر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) تأويل مختلف الحديث (212). (¬2) أخرجه: أحمد (2/ 160) ومسلم (3/ 1458/1827) والنسائي (8/ 612 - 613/ 5394) من طريق عمرو بن أوس عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

قال: "يمين الله سحاء لا يغيضها شيء الليل والنهار" (¬1) أي تصب العطاء ولا ينقصها ذلك، وإلى هذا ذهب المرار، حين قال: وإن على الأوانة من عقيل ... فتى كلتا اليدين له يمين (¬2) - قال أبو محمد: والذي عندي -والله تعالى أعلم- أن الصورة ليست بأعجب من اليدين، والأصابع، والعين، وإنما وقع الإلف لتلك، لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذه، لأنها لم تأت في القرآن. ونحن نؤمن بالجميع، ولا نقول في شيء منه، بكيفية ولا حد. (¬3) - قال أبو محمد: قالوا: رويتم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تسبوا الدهر، فإن الله تعالى هو الدهر" (¬4) فوافقتم في هذه الرواية، الدهرية. - قال أبو محمد: ونحن نقول: إن العرب في الجاهلية كانت تقول: "أصابني الدهر في مالي بكذا، ونالتني قوارع الدهر وبواثقه ومصايبه. ويقول الهرم "حناني الدهر" فينسبون كل شيء تجري به أقدار الله عز وجل -عليهم، من موت أو سقم، أو ثكل، أو هرم، إلى الدهر. ويقولون: لعن الله هذا الدهر، ويسمونه المنون، لأنه جالب المنون عليهم عندهم، والمنون: المنية، قال أبو ذؤيب: أَمِنَ المنون وريبه تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (2/ 313) والبخاري (8/ 449/4686) ومسلم (2/ 690 - 691/ 993) والترمذي (5/ 234/3045) وابن ماجه (1/ 71/197) من حديث أبي هريرة بلفظ: "يمين الله ملأى لا يغيضها شيء سحاء الليل والنهار". (¬2) تأويل مختلف الحديث (210 - 211). (¬3) تأويل مختلف الحديث (221). (¬4) أخرجه: أحمد (2/ 395) ومسلم (4/ 1763/2246 [5]) والنسائي في الكبرى (6/ 457/11687) من حديث أبي هريرة.

قال أبو محمد: هكذا أنشدنيه الرياشي عن الأصمعي، عن ابن أبي طرفة الهذلي، عن أبي ذؤيب. والناس يروونه "وريبها تتوجع" ويجعلون المنون: المنية، وهذا غلط. ويدلك على ذلك قوله "والدهر ليس بمعتب من يجزع" كأنه قال: "أمن الدهر وريبه تتوجع" والدهر ليس بمعتب من يجزع" وقال الله عز وجل: {نتربص به ريب الْمَنُونِ} (¬1) أي ريب الدهر وحوادثه. وكانت العرب تقول: "لا ألقاك آخر المنون" أي آخر الدهر. وقد حكى الله عز وجل عن أهل الجاهلية، ما كانوا عليه من نسب أقدار الله عز وجل وأفعاله إلى الدهر فقال: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} (¬2). فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسبوا الدهر إذا أصابتكم المصايب، ولا تنسبوها إليه، فإن الله، عز وجل، هو الذي أصابكم بذلك، لا الدهر، فإذا سببتم الفاعل، وقع السب بالله عز وجل" ألا ترى أن الرجل منهم إذا أصابته نائبة، أو جائحة في مال، أو ولد، أو بدن، فسب فاعل ذلك به، وهو ينوي الدهر، أن المسبوب هو الله عز وجل. وسأمثل لهذا الكلام مثالا أقرب به عليك ما تأولت، وإن كان -بحمد الله تعالى قريبا- كأن رجلا يسمى "زيدا" أمر عبدا له يسمى "فتحا" أن يقتل رجلا، فقتله، فسب الناس فتحا ولعنوه. فقال لهم قائل: "لا تسبوا فتحا، فإن زيدا هو فتح". يريد أن زيدا هو القاتل، لأنه هو الذي أمره كأنه قال: إن القاتل زيد، لا فتح. ¬

(¬1) الطور الآية (30). (¬2) الجاثية الآية (24).

وكذلك الدهر تكون فيه المصايب والنوازل، وهي بأقدار الله عز وجل، فيسب الناس الدهر، لكون تلك المصايب والنوازل فيه، وليس له صنع، فيقول قائل: "لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر". (¬1) - قال أبو محمد: قالوا: رويتم أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل، فيقول: "هل من داع فأستجيب له؟ أو مستغفر فأغفر له؟ " (¬2) وينزل عشية عرفة إلى أهل عرفة (¬3)، وينزل في ليلة النصف من شعبان (¬4). وهذا خلاف لقوله تعالى: {مَا يكون من نجوى ¬

(¬1) تأويل مختلف الحديث (222 - 224). (¬2) انظر تخريجه في مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ). (¬3) أخرجه من حديث جابر - رضي الله عنه -: ابن خزيمة في صحيحه (4/ 263/2840) وابن حبان (9/ 164/3853 الإحسان)، البغوي في شرح السنة (7/ 159/1931) وأبو يعلى (4/ 69/2090) والبزار "الكشف" (2/ 28/1128)، وذكره الهيثمي في موضعين: (3/ 253) وقال: "رواه أبو يعلى وفيه محمد بن مروان العقيلي وثقه ابن معين وابن حبان وفيه بعض كلام وبقية رجاله رجال الصحيح". و (4/ 17) وقال: "رواه البزار وإسناده حسن ورجاله ثقات". قال الشيخ الألباني في الضعيفة (2/ 126): "قلت إنما علة الحديث أبو الزبير فإنه مدلس، وقد عنعنه في جميع الطرق عنه". (¬4) أخرجه من حديث عائشة رضي الله عنها: أحمد (6/ 238) والترمذي (3/ 116/739) وابن ماجه (1/ 444/1389) كلهم من طريق حجاج بن أرطأة عن يحيى بن أبي كثير عن عروة عن عائشة، وفيه قصة فقدها النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة. قال الترمذي عقب الحديث: "حديث عائشة لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث الحجاج، وسمعت محمدا يضعف هذا الحديث، وقال: يحيى بن أبي كثير لم يسمع من عروة، والحجاج بن أرطأة لم يسمع من يحيى بن أبي كثير. وللحديث شواهد كثيرة يتقوى بها، انظرها في الصحيحة (3/ 135 - 139/ 1144) ثم قال عقبها رحمه الله: "وجملة القول إن الحديث بمجموع هذه الطرق صحيح بلا ريب، والصحة تثبت بأقل منها عددا، ما دامت سالمة من الضعف الشديد كما هو الشأن في هذا الحديث، فما نقله الشيخ القاسمي رحمه الله في إصلاح المساجد (ص.107) عن أهل التعديل والتجريح أنه ليس في فضل ليلة النصف من شعبان حديث يصح، فليس مما ينبغي الاعتماد عليه، ولئن كان أحد منهم أطلق مثل هذا القول فإنما أوتي من قبيل التسرع وعدم وسع الجهد لتتبع الطرق على هذا النحو الذي بين يديك، والله تعالى الموفق".

ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (¬1) وقوله جل وعز: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} (¬2) وقد أجمع الناس على أنه بكل مكان، ولا يشغله شأن عن شأن. قال أبو محمد: ونحن نقول في قوله: {ما يكون من نجوى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا}: إنه معهم بالعلم بما هم عليه، كما تقول للرجل وجهته إلى بلد شاسع، ووكلته بأمر من أمورك: "احذر التقصير والإغفال لشيء مما تقدمت فيه إليك فإني معك" تريد، أنه لا يخفى علي تقصيرك أو جدك، للإشراف عليك، والبحث عن أمورك". وإذا جاز هذا في المخلوق الذي لا يعلم الغيب، فهو في الخالق الذي يعلم الغيب أجوز. وكذلك "هو بكل مكان" يراد: لا يخفى عليه شيء، مما في الأماكن، فهو فيها بالعلم بها والإحاطة. وكيف يسوغ لأحد أن يقول: إنه بكل مكان على الحلول مع قوله: {الرحمن على العرش استوى} (¬3) أي: استقر كما ¬

(¬1) المجادلة الآية (7). (¬2) الزخرف الآية (84). (¬3) طه الآية (5).

قال: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} (¬1) أي استقررت. ومع قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (¬2). وكيف يصعد إليه شيء هو معه؟ أو يرفع إليه عمل، وهو عنده؟ وكيف تعرج الملائكة والروح إليه يوم القيامة؟ وتعرج بمعنى تصعد -يقال: عرج إلى السماء إذا صعد، والله عز وجل "ذو المعارج" و"المعارج" الدرج. فما هذه الدرج؟ وإلى من تؤدي الأعمال الملائكة، إذا كان بالمحل الأعلى، مثله بالمحل الأدنى؟ ولو أن هؤلاء رجعوا إلى فطرهم وما ركبت عليه خلقتهم من معرفة الخالق سبحانه، لعلموا أن الله تعالى هو العلي، وهو الأعلى، وهو بالمكان الرفيع، وأن القلوب عند الذكر تسمو نحوه، والأيدي ترفع بالدعاء إليه. ومن العلو يرجى الفرج، ويتوقع النصر، وينزل الرزق. وهنالك الكرسي والعرش والحجب والملائكة. يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} (¬3) وقال في الشهداء: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (¬4) وقيل لهم شهداء، لأنهم يشهدون ملكوت الله تعالى، وأحدهم "شهيد" كما يقال: "عليم" و"علماء" و"كفيل" و"كفلاء". وقال تعالى: {لَوْ أردنا أن نتخذ لهوًا ¬

(¬1) المؤمنون الآية (28). فاطر الآية (10). (¬3) الأنبياء الآيتان (19 - 20). (¬4) آل عمران الآية (169).

لاتخذناه مِنْ لَدُنَّا} (¬1) أي: لو أردنا أن نتخذ امرأة وولدا، لاتخذنا ذلك عندنا لا عندكم، لأن زوج الرجل وولده، يكونان عنده وبحضرته، لا عند غيره. والأمم كلها -عربيها وعجميها- تقول: إن الله تعالى في السماء ما تركت على فطرها، ولم تنقل عن ذلك بالتعليم. وفي الحديث إن رجلا أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمة أعجمية للعتق، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أين الله تعالى؟ ". فقالت: في السماء، قال: "فمن أنا" قالت: أنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال عليه الصلاة والسلام "هي مؤمنة" وأمره بعتقها (¬2) -هذا أو نحوه وقال أمية بن أبي الصلت: مجدوا الله وهو للمجد أهل ... ربنا في السماء أمسى كبيرا بالبناء الأعلى الذي سبق النا ... س. وسوى فوق السماء سريرا شرجعا ما يناله بصر العيـ ... ـن ترى دونه الملائك صورا و"صور" جمع "أصور" وهو المائل العنق. (¬3) - قال أبو محمد: ثم نصير إلى الجاحظ، وهو آخر المتكلمين، والمعاير على المتقدمين، وأحسنهم للحجة استثارة، وأشدهم تلطفا، لتعظيم الصغير، حتى يعظم، وتصغير العظيم حتى يصغر، ويبلغ به الاقتدار إلى أن يعمل الشيء ونقيضه، ويحتج لفضل السودان على البيضان. وتجده يحتج مرة للعثمانية على الرافضة، ومرة للزيدية على العثمانية وأهل السنة. ومرة يفضل عليا رضي الله ¬

(¬1) الأنبياء الآية (17). (¬2) سيأتي تخريجه في مواقف أبي عمرو السهروردي سنة (458هـ). (¬3) تأويل مختلف الحديث (270 - 273).

عنه، ومرة يؤخره، ويقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويتبعه قال الجماز، وقال إسماعيل بن غزوان: كذا وكذا من الفواحش. ويجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أن يذكر في كتاب ذكرا فيه فكيف في ورقة، أو بعد سطر وسطرين؟ ويعمل كتابا، يذكر فيه حجج النصارى على المسلمين. فإذا صار إلى الرد عليهم، تجوز في الحجة، كأنه إنما أراد تنبيههم على مالا يعرفون، وتشكيك الضعفة من المسلمين. وتجده يقصد في كتبه للمضاحيك والعبث، يريد بذلك، استمالة الأحداث، وشراب النبيذ. ويستهزئ من الحديث استهزاء، لا يخفى على أهل العلم. كذكره كبد الحوت، وقرن الشيطان، وذكر الحجر الأسود وأنه كان أبيض فسوده المشركون، وقد كان يجب أن يبيضه المسلمون حين أسلموا. ويذكر الصحيفة التي كان فيها المنزل في الرضاع، تحت سرير عائشة، فأكلتها الشاة. وأشياء من أحاديث أهل الكتاب في تنادم الديك والغراب، ودفن الهدهد أمه في رأسه، وتسبيح الضفدع، وطوق الحمامة وأشباه هذا، مما سنذكره فيما بعد، إن شاء الله. وهو -مع هذا- من أكذب الأمة وأوضعهم لحديث، وأنصرهم لباطل. (¬1) - قال أبو محمد: وقالوا في قوله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلاً} (¬2) أي فقيرا إلى رحمته، وجعلوه من "الخلة" بفتح الخاء، استيحاشا من أن يكون الله تعالى، خليلا لأحد من خلقه واحتجوا بقول زهير: ¬

(¬1) تأويل مختلف الحديث (59 - 60). (¬2) النساء الآية (125).

موقفه من الخوارج:

وإن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم أي إن أتاه فقير. فأي فضيلة في هذا القول لإبراهيم - صلى الله عليه وسلم -؟ أما تعلمون أن الناس جميعا، فقراء إلى الله تعالى؟ وهل إبراهيم في "خليل الله" إلا كما قيل "موسى كليم الله". و"عيسى روح الله"؟. (¬1) موقفه من الخوارج: - قال أبو محمد: ثم نصير إلى "بكر" صاحب البكرية، وهو من أحسنهم حالا في التوقي. فنجده يقول: من سرق حبة من خردل، ثم مات غير تائب من ذلك، فهو خالد في النار، مخلد أبدا، مع اليهود والنصارى. وقد وسع الله تعالى للمسلم أن يأكل من مال صديقه، وهو لا يعلم. ووسع لداخل الحائط أن يأكل من ثمره، ولا يحمل. ووسع لابن السبيل إذا مر في سفره بغنم وهو عطشان أن يصيب من رسلها. فكيف يعذب من أخذ حبة من خردل، لا قدر لها، ويخلده في النار أبدا؟. وأي ذنب هو أخذ حبة من خردل، حتى يكون منه توبة، أو يقع فيه إصرار؟ وقد يأخذ الرجل الخلال من حطب أخيه، والمدر من مدره، ويشرب الماء من حوضه، وهذا أعظم قدرا من الحبة. وكان يقول: إن الأطفال لا تألم. فإذا سئل، فقيل له: فما باله يبكي إذا قرص أو وقعت عليه شرارة. قال: إنما ذلك عقوبة لأبويه والله تعالى أعدل من أن يؤلم طفلا لا ذنب له. فإذا سئل عن البهيمة وألمها، وهي لا ذنب لها، ¬

(¬1) تأويل مختلف الحديث (69 - 70).

موقفه من القدرية:

قال: إنما آلمها الله تعالى لمنفعة ابن آدم لتنساق ولتقف، ولتجري إذا احتاج إلى ذلك منها. وكان من العدل -عنده- أن يؤلمها لنفع غيرها وربما قال بغير ذلك، وقد خلطوا في الرواية عنه. وكان يقول: شرب نبيذ السقاء الشديد، من السنة، وكذلك أكل الجدي، والمسح على الخفين. والسنة إنما تكون في الدين لا في المأكول والمشروب. ولو أن رجلا لم يأكل البطيخ بالرطب، دهره، وقد أكله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو لم يأكل القرع، وقد كان يعجب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل إنه ترك السنة (¬1). موقفه من القدرية: - قال رحمه الله: ثم نصير إلى عبيد الله بن الحسن وقد كان ولي قضاء البصرة -فتهجم- من قبيح مذاهبه، وشدة تناقض قوله على ما هو أولى بأن يكون تناقضا، مما أنكروه. وذلك أنه كان يقول: إن القرآن يدل على الاختلاف. فالقول بالقدر صحيح، وله أصل في الكتاب. والقول بالإجبار صحيح، وله أصل في الكتاب. ومن قال بهذا، فهو مصيب ومن قال بهذا، فهو مصيب. لأن الآية الواحدة، ربما دلت على وجهين مختلفين، واحتملت معنيين متضادين. وسئل يوما، عن أهل القدر وأهل الإجبار، فقال: كل مصيب، هؤلاء قوم عظموا الله، وهؤلاء قوم نزهوا الله. (¬2) ¬

(¬1) تأويل مختلف الأحاديث (46 - 47). (¬2) تأويل مختلف الحديث (44 - 45).

- وقال: وقد يحمل بعضهم الحمية على أن يقول: الجبرية، هم القدرية. ولو كان هذا الاسم يلزمهم، لاستغنوا به عن الجبرية. ولو ساغ هذا لأهل القدر، لساغ مثله للرافضة، والخوارج، والمرجئة وقال كل فريق منهم لأهل الحديث، مثل الذي قالته القدرية. والأسماء لا تقع غير مواقعها، ولا تلزم إلا أهلها. ويستحيل أن تكون الصياقلة، هم الأساكفة، والنجار هو الحداد. والفطرة التي فطر الناس عليها، والنظر، يبطل ما قذفوهم به. أما الفطر، فإن رجلا لو دخل المصر، واستدل على القدرية فيه، أو المرجئة، لدله الصبي والكبير، والمرأة والعجوز، والعامي والخاصي، والحشوة والرعاع، على المسمين بهذا الاسم. ولو استدل على أهل السنة، لدلوه على أصحاب الحديث. ولو مرت جماعة فيهم القدري، والسني، والرافضي، والمرجئي، والخارجي، فقذف رجل القدرية، أو لعنهم، لم يكن المراد بالشتم أو اللعن عندهم، أصحاب الحديث. هذا أمر، لا يدفعه دافع، ولا ينكره منكر. وأما النظر، فإنهم أضافوا القدر إلى أنفسهم، وغيرهم يجعله لله تعالى، دون نفسه. ومدعي الشيء لنفسه، أولى بأن ينسب إليه، ممن جعله لغيره. ولأن الحديث جاءنا، بأنهم مجوس هذه الأمة، وهم أشبه قوم بالمجوس، لأن المجوس تقول بإلهين، وإياهم أراد الله بقوله: {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (¬1). وقالت القدرية: نحن نفعل مالا يريد الله تعالى، ونقدر على ما لا ¬

(¬1) النحل الآية (51).

يقدر. (¬1) - وقال: قالوا: رويتم أن موسى عليه السلام كان قدريا، وحاج آدم عليه السلام فحجه وأن أبا بكر كان قدريا، وحاج عمر، فحجه عمر. قال أبو محمد ونحن نقول: إن هذا تخرص وكذب على الخبر، ولا نعلم أنه جاء في شيء من الحديث أن موسى عليه السلام كان قدريا، ولا أن أبا بكر رضي الله عنه، كان قدريا. حدثنا أبو الخطاب، قال: نا بشر بن المفضل، قال: نا داود بن أبي هند عن عامر عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لقي موسى آدم - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أنت آدم أبو البشر، الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة؟ قال: نعم. فقال: ألست موسى الذي اصطفاك الله على الناس برسالاته وبكلامه؟ قال: بلى. قال: أفليس تجد فيما أنزل عليك أنه سيخرجني منها قبل أن يدخلنيها؟ قال: بلى، قال: فخصم آدم موسى صلى الله عليهما وسلم" (¬2). قال أبو محمد: فأي شيء في هذا القول يدل على أن موسى عليه السلام كان قدريا، ونحن نعلم أن كل شيء بقدر الله وقضائه، غير أنا ننسب الأفعال إلى فاعليها، ونحمد المحسن على إحسانه، ونلوم المسيء بإساءته، ونعتد على المذنب بذنوبه. وأما قولهم: "إن أبا بكر رضي الله عنه كان ¬

(¬1) تأويل مختلف الحديث (81 - 82). (¬2) أخرجه: أحمد (2/ 287 و314) والبخاري (11/ 618/6614) ومسلم (4/ 2042 - 2043/ 2652) وأبو داود (5/ 76 - 78/ 4701) والترمذي (4/ 386 - 387/ 2134) والنسائي في الكبرى (6/ 284 - 285/ 10985 - 10986) وابن ماجه (1/ 31 - 32/ 80).

ابن أبي العوام (276 هـ)

قدريا" فهو أيضا تحريف وزيادة في الحديث. وإنما تنازعا في القدر، وهما لا يعلمان، فلما علما كيف ذلك؟ اجتمعا فيه على أمر واحد، كما كانا لا يعلمان أمورا كثيرة من أمر الدين، وأمر التوحيد، حتى أعلمهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونزل الكتاب وحدّت السنن، فعلما بعد ذلك. على أن الحديث عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما عند أهل الحديث ضعيف، يرويه إسماعيل بن عبد السلام، عن زيد بن عبد الرحمن، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. ويرويه رجل من أهل خراسان، عن مقاتل بن حيان، عن عمرو بن شعيب، وهؤلاء لا يعرف أكثرهم. (¬1) ابن أبي العوَّام (¬2) (276 هـ) المحدث الإمام، أبو بكر وأبو جعفر محمد بن أحمد بن يزيد بن أبي العوام الرياحي. سمع يزيد بن هارون وعبد الوهاب بن عطاء العقدي، وقريش ابن أنس، وأبا عامر العقدي وجماعة. روى عنه أبو العباس بن عقدة، وإسماعيل الصفار، وأبو بكر الشافعي وابن الهيثم وأبو عبد الله المحاملي وآخرون. قال عبد الله بن أحمد: صدوق ما علمت منه إلا خيرا. مات رحمه الله تعالى لأيام خلون من رمضان سنة ست وسبعين ومائتين. ¬

(¬1) تأويل مختلف الحديث (235 - 237). (¬2) تاريخ بغداد (1/ 372) وطبقات الحنابلة (1/ 263 - 264) وسير أعلام النبلاء (13/ 7) وتاريخ الإسلام (حوادث 271 - 280/ص.423 - 424) والأنساب للسمعاني (3/ 111).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: قال ابن أبي العوام: اشهدوا علي أن ديني الذي أدين الله عز وجل به أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن من زعم أن القرآن مخلوق، فهو كافر، وهذه كانت مقالة أبي. (¬1) مصعب بن سعيد أبو خيثمة الضرير المصيصي الحراني (¬2) (277 هـ سنة وفاة أبي حاتم) صاحب حديث. سمع زهير بن معاوية، وابن المبارك، وعيسى بن يونس وغيرهم. وعنه أبو حاتم وأبو الدرداء بن منيب، والحسن بن سفيان وخلق. قال أبو حاتم: كان صدوقا. قال ابن عدي: يحدث عن الثقات بالمناكير ويصحف. وهو حراني نزل المصيصة. وذكره ابن حبان في الثقات. موقفه من الجهمية: - قال أبو خيثمة: الجهمي يفرق بينه وبين امرأته ولا أورثه. (¬3) ¬

(¬1) الإبانة (1/ 12/246/ 19). (¬2) الجرح والتعديل (8/ 309) والكامل لابن عدي (6/ 364) وميزان الاعتدال (4/ 119) والثقات لابن حبان (9/ 175) ولسان الميزان (6/ 43 - 44). (¬3) الإبانة (2/ 13/101/ 314).

هشام بن عبيد (277 هـ سنة وفاة أبي حاتم)

هشام بن عبيد (277 هـ سنة وفاة أبي حاتم) موقفه من الجهمية: - حدثنا حفص بن عمر، قال: سمعت أبا حاتم الرازي، يقول: قيل لهشام بن عبيد حين أدخل على المأمون كلم بِشْراً المريسي، فقال: أصلح الله الخليفة لا أحسن كلامه والعالم بكلامه عندنا جاهل. (¬1) أبو عقيل المروزي (277 هـ سنة وفاة أبي حاتم) موقفه من الجهمية: - وحدثنا أبو القاسم -حفص بن عمر- قال: حدثنا أبو حاتم، قال: حدثنا أبو عقيل المعروف بشاه المروزي، وقدم علينا من البصرة يريد خراسان، أخبرني أنه رأى بالبصرة رجلا كان يقول: القرآن مخلوق، فالتقى مع رجل من أهل السنة، فابتهلا جميعا، فقال هذا: إن لم يكن القرآن مخلوقا، فمحا الله القرآن من صدري. وقال السني: إن كان هذا القرآن مخلوقا، فمحا الله القرآن من صدري، فأصبح الجهمي وهو يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، فإذا أراد أن يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، لم يجر لسانه، وقال: هيهات هيهات، وأصبح السني قارئا للقرآن كما كان. (¬2) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/536/ 699). (¬2) الإبانة (2/ 13/116 - 117/ 379).

يعقوب بن سفيان الفسوي (277 هـ)

يعقوب بن سفيان الفَسَوي (¬1) (277 هـ) الإمام، الحافظ، الحجة، الرحال، محدث إقليم فارس، أبو يوسف يعقوب بن سفيان بن جوان الفارسي، من أهل مدينة فسا. ويقال له يعقوب ابن أبي معاوية. مولده في حدود عام تسعين ومائة في دولة الرشيد. وله تاريخ كبير جم الفوائد و"مشيخته" في مجلد. سمع أبا عاصم النبيل وعبيد الله بن موسى، والأنصاري، ومكي بن إبراهيم وسعيد بن منصور، وصفوان بن صالح، وطبقتهم. حدث عنه الترمذي، والنسائي، والحسن بن سفيان الفسوي وابن خزيمة، وأبو عوانة الإسفراييني، وغيرهم كثير. روي عن الحافظ أبي عبد الرحمن النهاوندي أنه سمع الفسوي يقول: كتبت عن ألف شيخ وكسر، كلهم ثقات. قال أبو زرعة الدمشقي: قدم علينا رجلان من نبلاء الرجال أحدهما وأجلهما يعقوب بن سفيان أبو يوسف، يعجز أهل العراق أن يروا مثله رجلا، ثم ذكر الثاني: حرب بن إسماعيل الكرماني. مات رحمه الله بفسا في سنة سبع وسبعين ومائتين. موقفه من المبتدعة: هذا الإمام الكبير هو صاحب المعرفة والتاريخ كان شديدا على المبتدعة كما وصفه ابن حبان. - قال فيه: كان ممن جمع وصنف وأكثر مع الورع والنسك والصلابة ¬

(¬1) الجرح والتعديل (9/ 208) والسير (13/ 180 - 184) وتهذيب الكمال (32/ 324 - 335) وتذكرة الحفاظ (2/ 582 - 583) والبداية والنهاية (11/ 63 - 64) وطبقات الحنابلة (1/ 416) وتهذيب التهذيب (11/ 385 - 389) وشذرات الذهب (2/ 171).

موقفه من المرجئة:

في السنة. (¬1) - وذكر محقق كتاب: 'المعرفة والتاريخ': "أن اللالكائي اقتبس منه جملة في كتابه أصول اعتقاد أهل السنة قال وأحسبها من كتاب السنة ليعقوب - على أنه يتابع في عقيدته السلف وأهل الحديث، حيث خرج أحاديث في أن القرآن كلام الله ليس بمخلوق، وفي إثبات رؤية الله يوم القيامة، وذم أهل البدع والأهواء والقول بأن الإيمان قول وعمل وأنه يزيد وينقص". (¬2) - وقد ذكر المحقق نفسه في الجزء الثالث من كتاب 'المعرفة والتاريخ' نصوصا في العقيدة السلفية، قال: وأحسبها من كتاب السنة. (¬3) - وللشيخ رحمه الله كتاب 'السنة'. (¬4) قال في السير: وله تاريخ كبير جم الفوائد. (¬5) - وقال فيها أيضا: وما علمت يعقوب الفسوي إلا سلفيا، وقد صنف كتابا صغيرا في السنة. (¬6) موقفه من المرجئة: - عن أبي يوسف يعقوب بن سفيان قال: الإيمان عند أهل السنة: ¬

(¬1) الثقات (9/ 287). (¬2) (1/ 17). (¬3) (3/ 385 - 416). (¬4) (1/ 18). (¬5) السير (13/ 180). (¬6) السير (13/ 183).

الإخلاص لله بالقلوب والألسنة والجوارح، وهو قول وعمل يزيد وينقص، على ذلك وجدنا كل من أدركنا من عصرنا بمكة والمدينة والشام والبصرة والكوفة. منهم: أبو بكر الحميدي وعبد الله بن يزيد المقري في نظائرهم بمكة. وإسماعيل بن أبي أويس وعبد الملك بن عبد العزيز الماجشون ومطرف بن عبد الله اليسارى في نظرائهم بالمدينة. ومحمد بن عبد الله الأنصاري والضحاك ابن مخلد وسليمان بن حرب وأبو الوليد الطنافسي وأبو النعمان وعبد الله بن مسلمة في نظرائهم بالبصرة. وعبيد الله بن موسى وأبو نعيم وأحمد بن عبد الله ابن يونس في نظرائهم كثير بالكوفة. وعمر بن عون بن أويس وعاصم بن علي بن عاصم في نظرائهم بواسط. وعبد الله بن صالح كاتب الليث وسعيد ابن أبي مريم والنضر بن عبد الجبار ويحيى بن عبد الله بن بكير وأحمد بن صالح وأصبغ بن الفرج في نظرائهم بمصر. وابن أبي إياس في نظرائهم بعسقلان. وعبد الأعلى بن مسهر وهشام بن عمار وسليمان بن عبد الرحمن وعبد الرحمن ابن إبراهيم في نظائرهم بالشام. وأبو اليمان الحكم بن نافع وحيوة بن شريح في نظرائهم بحمص. ومكي بن إبراهيم وإسحاق بن راهوية وصدقة بن الفضل في نظرائهم بخراسان كلهم يقولون: الإيمان القول والعمل ويطعنون على المرجئة وينكرون قولهم. (¬1) ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (5/ 1035 - 1036/ 1753).

أبو حاتم الرازي (277 هـ)

أبو حاتم الرازي (¬1) (277 هـ) الإمام الحافظ الناقد شيخ المحدثين الثبت محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران الحنظلي الغطفاني من تميم بن حنظلة بن يربوع وقيل عرف بالحنظلي لأنه كان يسكن في درب حنظلة بمدينة الري. كان من بحور العلم طوف البلاد وبرع في المتن والإسناد، وجمع وصنف وجرح وعدل وصحح وعلل. كان أحد الأئمة الحفاظ الأثبات، مشهورا بالعلم مذكورا بالفضل. مولده سنة خمس وتسعين ومائة وأول كتابه للحديث كان في سنة تسع ومائتين. وهو من نظراء البخاري ومن طبقته ولكنه عمر بعده أزيد من عشرين عاما. سمع محمد بن عبد الله الأنصاري وأبا زيد النحوي وأبا اليمان الحمصي وآدم بن أبي إياس وأبا نعيم وأبا توبة الحلبي وخلقا كثيرا. ويتعذر استقصاء سائر مشايخه فقد قال الخليلي: قال لي أبو حاتم اللبان الحافظ قد جمعت من روى عنه أبو حاتم الرازي فبلغوا قريبا من ثلاثة آلاف. حدث عنه ولده عبد الرحمن، ويونس بن عبد الأعلى وأبو زرعة الرازي والدمشقي، وإبراهيم الحربي وابن أبي الدنيا، والبخاري -فيما قيل- وأبو داود والنسائي والاسفراييني وخلق كثير. قال الخليلي: كان أبو حاتم عالما باختلاف الصحابة وفقه التابعين ومن بعدهم، سمعت جدي وجماعة سمعوا علي بن إبراهيم القطان يقول: ما رأيت مثل أبي حاتم فقلنا له: قد رأيت إبراهيم ¬

(¬1) الجرح والتعديل (1/ 349 - 375) والسير (13/ 247 - 263) وتهذيب الكمال (24/ 381 - 391) وتاريخ بغداد (2/ 773) وطبقات الحنابلة (1/ 284 - 286) والوافي بالوفيات (2/ 183) وتذكرة الحفاظ (2/ 567 - 569) والمنتظم (12/ 284 - 285) وشذرات الذهب (2/ 171) وتاريخ دمشق (52/ 3 - 16).

موقفه من المبتدعة:

الحربي وإسماعيل القاضي، قال: ما رأيت أجمع من أبي حاتم ولا أفضل منه. قال ابن أبي حاتم: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: أبو زرعة وأبو حاتم إماما خراسان، ودعا لهما، وقال بقاؤهما صلاح للمسلمين. قال الحافظ ابن خراش: كان أبو حاتم من أهل الأمانة والمعرفة. ويحكي رحمه الله عن نفسه الكثير أثناء طلبه للعلم ورحلته من أجله، فمن ذلك قوله: أول سنة خرجت في طلب الحديث أقمت سبع سنين -أحصيت ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ، ثم تركت العدد بعد ذلك، وخرجت من البحرين إلى مصر ماشيا ثم إلى الرملة ماشيا ثم إلى دمشق ثم أنطاكية وطرسوس ثم رجعت إلى حمص ثم إلى الرقة ثم ركبت إلى العراق كل هذا في سفري الأول وأنا ابن عشرين سنة خرجت من الري فدخلت الكوفة في رمضان سنة ثلاث عشرة وجاءنا نعي المقرئ وأنا بالكوفة ثم رحلت ثانيا سنة اثنتين وأربعين ثم رجعت إلى الري سنة خمس وأربعين وحججت رابع حجة في سنة خمس وخمسين. ومناقبه كثيرة رحمه الله تعالى. قال أبو الحسين بن المنادي وغيره مات الحافظ أبو حاتم في شعبان سنة سبع وسبعين ومائتين. وقيل عاش ثلاثا وثمانين سنة. موقفه من المبتدعة: - عن عبد الرحمن بن حمدان بن المرزبان، قال: قال لي أبو حاتم الرازي: إذا رأيت البغدادي يحب أحمد بن حنبل، فاعلم أنه صاحب سنة، وإذا رأيته يبغض يحيى بن معين، فاعلم أنه كذاب. (¬1) ¬

(¬1) السير (11/ 83) وطبقات الحنابلة (1/ 403).

- قال اللالكائي في أصول الاعتقاد: ووجدت في بعض كتب أبي حاتم محمد بن إدريس ابن المنذر الحنظلي الرازي رحمه الله، مما سمع منه يقول: مذهبنا واختيارنا اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين ومن بعدهم بإحسان وترك النظر في موضع بدعهم، والتمسك بمذهب أهل الأثر مثل: أبي عبد الله أحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم وأبي عبيد القاسم بن سلام والشافعي، ولزوم الكتاب والسنة والذب عن الأئمة المتبعة لآثار السلف واختيار ما اختاره أهل السنة من الأئمة في الأمصار مثل: مالك بن أنس في المدينة، والأوزاعي بالشام، والليث بن سعد بمصر، وسفيان الثوري وحماد بن زياد بالعراق، من الحوادث مما لا يوجد فيه رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين. وترك رأي الملبسين المموهين المزخرفين الممخرقين الكذابين. وترك النظر في كتب الكرابيسي ومجانبة من يناضل عنه من أصحابه، وشاجرديه (¬1) مثل: داود الأصبهاني وأشكاله ومتبعيه. والقرآن كلام الله وعلمه وأسماؤه وصفاته وأمره ونهيه وليس بمخلوق بجهة من الجهات. ومن زعم أنه مخلوق مجعول فهو كافر بالله كفرا ينقل عن الملة. ومن شك في كفره ممن يفهم ولا يجهل فهو كافر. والواقفة واللفظية جهمية. جهمهم أبو عبد الله أحمد بن حنبل. والاتباع للأثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة والتابعين بعدهم ¬

(¬1) هكذا بالأصل.

بإحسان. وترك كلام المتكلمين وترك مجالستهم وهجرانهم وترك مجالسة من وضع الكتب بالرأي بلا آثار. واختيارنا أن الإيمان: قول وعمل إقرار باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالأركان، مثل الصلاة والزكاة لمن كان له مال، والحج لمن استطاع إليه سبيلا. وصوم شهر رمضان وجميع فرائض الله التي فرض على عباده: العمل به من الإيمان. والإيمان يزيد وينقص. ونؤمن بعذاب القبر. وبالحوض المكرم به النبي - صلى الله عليه وسلم -. ونؤمن بالمساءلة في القبر. وبالكرام الكاتبين. وبالشفاعة المخصوص بها النبي - صلى الله عليه وسلم -. ونترحم على جميع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا نسب أحدا منهم لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (¬1). والصواب نعتقد ونزعم أن الله على عرشه بائن من خلقه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬2). ولا نرى الخروج على الأئمة ولا نقاتل في الفتنة ونسمع ونطيع لمن ولاه الله عز وجل أمرنا. ونرى الصلاة والحج والجهاد مع الأئمة ودفع صدقات المواشي إليهم. ونؤمن بما جاءت به الآثار الصحيحة بأنه يخرج قوم ¬

(¬1) الحشر الآية (10). (¬2) الشورى الآية (11).

من النار من الموحدين بالشفاعة. ونقول: إنا مؤمنون بالله عز وجل. وكره سفيان الثوري أن يقول: أنا مؤمن حقا عند الله ومستكمل الإيمان، وكذلك قول الأوزاعي أيضا. وعلامة أهل البدع: الوقيعة في أهل الأثر. وعلامة الجهمية: أن يسموا أهل السنة مشبهة ونابتة. وعلامة القدرية: أن يسموا أهل السنة مجبرة. وعلامة الزنادقة: أن يسموا أهل الأثر حشوية، ويريدون إبطال الآثار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفقنا الله وكل مؤمن لما يحب ويرضى من القول والعمل وصلى الله على محمد وآله وسلم. (¬1) " التعليق: قال أبو عثمان الصابوني رحمه الله: وكل ذلك عصبية، ولا يلحق أهل السنة إلا اسم واحد، وهو أصحاب الحديث. قلت: أنا رأيت أهل البدع في هذه الأسماء التي لقبوا بها أهل السنة، سلكوا معهم مسلك المشركين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم اقتسموا القول فيه: فسماه بعضهم ساحرا، وبعضهم كاهنا، وبعضهم شاعرا، وبعضهم مجنونا، وبعضهم مفتونا، وبعضهم مفتريا مختلقا كذابا، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - من تلك المعائب بعيدا بريئا، ولم يكن إلا رسولا مصطفى نبيا، قال الله عز وجل: {انْظُرْ كيف ضربوا لَكَ الْأَمْثَالَ ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (1/ 202 - 204/ 323).

فضلوا فلا يستطيعون سبيلاً} (¬1). اهـ (¬2) - قال أبو حاتم: وأخبرت عن بعض أهل العلم أول ما افترق من هذه الأمة الزنادقة والقدرية والمرجئة والرافضة والحرورية، فهذا جماع الفرق وأصولها ثم تشعبت كل فرقة من هذه الفرق على فرق، وكان جماعها الأصل واختلفوا في الفروع، فكفر بعضهم بعضا، وجهل بعضهم بعضا، فافترقت الزنادقة على إحدى عشرة فرقة، وكان منها المعطلة، ومنها المنانية، وإنما سموا المنانية برجل كان يقال له ماني، كان يدعو إلى الاثنين فزعموا أنه نبيهم وكان في زمن الأكاسرة، فقتله بعضهم. ومنهم: المزدكية لأن رجلا ظهر في زمن الأكاسرة يقال له مزدك. ومنهم العبدكية وإنما سموا العبدكية لأن عبدك هو الذي أحدث لهم هذا الرأي ودعاهم إليه. ومنهم الروحانية وسموا الفكرية، ومنهم الجهمية وهم صنف من المعطلة، وهم أصناف وإنما سموا الجهمية لأن جهم بن صفوان كان أول من اشتق هذا الكلام من كلام السمنية وهم صنف من العجم كانوا بناحية خراسان، وكانوا شككوه في دينه وفي ربه حتى ترك الصلاة أربعين يوما لا يصلي، فقال: لا أصلي لمن لا أعرف ثم اشتق هذا الكلام، ومنهم السبئية، وهم صنف من العجم يكونون بناحية خراسان وذكر فرقا أخر بصفات مقالاتهم. ومنهم الحرورية وافترقوا ¬

(¬1) الإسراء الآية (48). (¬2) عقيدة السلف (ص.305 - 306).

على ثماني عشرة فرقة وإنما سموا الحرورية لأنهم خرجوا بحروراء أول ما خرجوا، فصنف منهم يقال لهم الأزارقة، وإنما سموا الأزارقة بنافع بن الأزرق، ومنهم النجدية، وإنما سموا النجدية بنجدة، ومنهم الإباضية وإنما سموا الإباضية بعبد الله بن أباض، ومنهم الصفرية، وإنما سموا الصفرية بعبيدة الأصفر، ومنهم: الشمراخية، وإنما سموا الشمراخية بأبي شمراخ رأسهم، ومنهم السرية، وإنما سموا السرية لأنهم زعموا أن دماء قومهم وأموالهم في دار التقية في السر حلال، ومنهم الوليدية، ومنهم العذرية، وسموا بأبي عذرة رأسهم، ومنهم العجردية، وسموا بأبي عجرد رأسهم، ومنهم الثعلبية، سموا بأبي ثعلبة رأسهم، ومنهم الميمونية، سموا بميمون رأسهم، ومنهم الشكية، ومنهم الفضيلية، سموا بفضيل رأسهم، ومنهم الحرانية، ومنهم البيهسية، وسموا بهيصم أبي بيهس رأسهم، ومنهم الفديكية، سموا بأبي فديك وهم اليوم بالبحرين واليمامة ومنهم العطوية سموا بعطية، ومنهم الجعدية، سموا بأبي الجعد، ومنهم الرافضة وافترقوا على ثلاث عشرة فرقة، فمنهم البيانية، سموا ببيان رأسهم وكان يقول إلي أشار الله بقوله: {هذا بيانٌ لِلنَّاسِ} (¬1) ومنهم السبائية، تسموا بعبد الله بن سبأ، ومنهم المنصورية، سموا بمنصور الكسف، وكان يقول: إلي أشار الله بقوله: {وَإِنْ يروا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ ساقطًا} (¬2)، ومنهم الإمامية، ومنهم المختارية، سموا بالمختار، ومنهم الكاملية، ومنهم ¬

(¬1) آل عمران الآية (138). (¬2) الطور الآية (44).

المغيرية، ومنهم الخطابية، سموا بأبي الخطاب، ومنهم الخشبية، ومنهم الزيدية، وذكر فرقا بصفات مقالاتهم ومنهم القدرية، افترقوا على ست عشرة فرقة، ومنهم المفوضة، ومنهم المعتزلة، وذكر صفات مقالاتهم حتى عد ست عشرة فرقة، ومنهم المرجئة وافترقوا على أربع عشرة فرقة فذكر صفات مقالاتهم فرقة فرقة. قال ابن بطة: فهذا يا أخي رحمك الله ما ذكره هذا العالم رحمه الله من أسماء أهل الأهواء وافتراق مذاهبهم وعداد فرقتهم وإنما ذكر من ذلك ما بلغه ووسعه وانتهى إليه علمه، لا من طريق الاستقصاء والاستيفاء وذلك لأن الإحاطة بهم لا يقدر عليها والتقصي للعلم بهم لا يدرك، وذلك أن كل من خالف الجادة وعدل عن المحجة واعتمد من دينه على ما يستحسنه فيراه ومن مذهبه على ما يختاره ويهواه عدم الاتفاق والائتلاف وكثر عليه أهلها لمباينة الاختلاف لأن الذي خالف بين الناس في مناظرهم وهيآتهم وأجسامهم وألوانهم ولغاتهم وأصواتهم وحظوظهم كذلك خالف بينهم في عقولهم وآرائهم وأهوائهم وإراداتهم واختياراتهم وشهواتهم، فإنك لا تكاد ترى رجلين متفقين اجتمعا جميعا في الاختيار والإرادة حتى يختار أحدهما ما يختاره الآخر ويرذل ما يرذله إلا من كان على طريق الاتباع واقتفى الأثر والانقياد للأحكام الشرعية والطاعة الديانية، فإن أولئك من عين واحدة شربوا فعليها يردون وعنها يصدرون قد وافق الخلف الغابر للسلف الصادر. (¬1) ¬

(¬1) الإبانة (1/ 2/380 - 386).

موقفه من الجهمية:

- عن أبي حاتم الرازي قال: نشر العلم حياته، والبلاغ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحمة، يعتصم به كل مؤمن، ويكون حجة على كل مصر به وملحد. (¬1) موقفه من الجهمية: تقدم نقل عقيدته مع أخيه أبي زرعة فمن شاءها، رجع إلى أبي زرعة في السنة الرابعة والستين بعد المائتين. - وعن أبي زرعة وأبي حاتم قالا: من قال إن لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي. (¬2) - ذكر عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: سمعت أبي يقول: أول من أتى بخلق القرآن جعد بن درهم وقاله في سنة نيف وعشرين ومائة. (¬3) - قال عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية له: حدثنا أبي وأبو زرعة قال: كان بالبصرة رجل، وأنا مقيم سنة ثلاثين ومئتين، فحدثني عثمان بن عمرو بن الضحاك عنه، أنه قال: إن لم يكن القرآن مخلوقا فمحا الله ما في صدري من القرآن. وكان من قراء القرآن. فنسي القرآن، حتى كان يقال له: قل: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم} (1) فيقول: معروف، معروف. ولا يتكلم به. قال أبو زرعة: فجهدوا به أن أراه، فلم أره. (¬4) ¬

(¬1) شرف أصحاب الحديث (17). (¬2) أصول الاعتقاد (2/ 389 - 390/ 596). (¬3) أصول الاعتقاد (3/ 425/641). (¬4) السير (13/ 259 - 260).

موقفه من المرجئة:

موقفه من المرجئة: - قال أبو حاتم: هذا مذهبنا واختيارنا، وما نعتقده وندين الله به ونسأله السلامة في الدين والدنيا: أن الإيمان قول وعمل، وتصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، مثل الصلاة، والزكاة لمن كان له مال، والحج لمن استطاع إليه سبيلا، وصوم شهر رمضان، وجميع فرائض الله التي فرض على عباده العمل بها من الإيمان، والإيمان يزيد وينقص. (¬1) أبو عيسى الترمذي (¬2) (279 هـ) الإمام الحافظ العلم البارع أبو عيسى محمد بن عيسى بن سَوْرَة السُّلَمِي الترمذي الضرير مصنف الجامع والعلل وغير ذلك. ولد في حدود سنة عشر ومائتين، وارتحل فسمع بخراسان والعراق والحرمين ولم يرحل إلى مصر والشام. حدث عن قتيبة بن سعيد وابن راهويه، وإسماعيل بن موسى الفزاري وأبي مصعب الزهري وطبقتهم. وتفقه في الحديث بالبخاري، وقد كتب عنه البخاري حديثا واحدا. حدث عنه مكحول بن الفضل ومحمد بن محمود بن عنبر وأبو العباس محمد بن أحمد بن محبوب راوي 'الجامع' والهيثم ابن كليب الشاشي الحافظ راوي 'الشمائل' عنه وآخرون. ذكره ابن حبان ¬

(¬1) طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/ 286). (¬2) الأنساب (3/ 45) ووفيات الأعيان (4/ 278) وتهذيب الكمال (26/ 250 - 252) والسير (13/ 270 - 277) وميزان الاعتدال (3/ 678) والبداية والنهاية (11/ 71 - 72) والوافي بالوفيات (4/ 294 - 296) وتذكرة الحفاظ (2/ 633 - 635) وشذرات الذهب (2/ 174 - 175).

موقفه من الجهمية:

في كتاب 'الثقات' وقال: كان ممن جمع وصنف وحفظ وذاكر. قال أبو سعد الإدريسي: كان أبو عيسى يضرب به المثل في الحفظ. وقال الحاكم: سمعت عمر بن علك يقول: مات البخاري فلم يخلف بخراسان مثل أبي عيسى، في العلم والحفظ والورع والزهد بكى حتى عمي، وبقي ضريرا سنين. قال أبو عيسى: صنفت هذا الكتاب وعرضته على علماء الحجاز والعراق وخراسان فرضوا به، ومن كان هذا الكتاب يعني 'الجامع' في بيته فكأنما في بيته نبي يتكلم. توفي رحمه الله في ثالث عشر رجب سنة تسع وسبعين ومائتين بترمذ. موقفه من الجهمية: دفاعه عن العقيدة السلفية: لقد ألف أبو عيسى الترمذي كتابه العظيم، وساق في ثناياه من الأحاديث ما يرد به على جميع المبتدعة، وتكلم على بعضها، فخصص كتابا كبيرا من سننه للرد على القدرية، وآخر للرد على المرجئة سماه كتاب الإيمان، وعقد في الأخير كتابا للمناقب ذكر فيه جملة من الأحاديث في فضائل الصحابة عموما، والشيخين على الخصوص، رادا فيه على الرافضة أعداء الله. نموذج من كلام الإمام الترمذي في سننه: - قال رحمه الله عند حديث: "إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه، فيربيها لأحدكم كما يربى أحدكم مهره. حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد" (¬1) ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (2/ 331) والبخاري (3/ 354/1410) ومسلم (2/ 702/1014) والترمذي (3/ 49/661) والنسائي (5/ 60 - 61/ 2524) وابن ماجه (1/ 590/1842) من حديث أبي هريرة.

وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} (¬1) {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (¬2). من كتاب الزكاة تحت باب: (ما جاء في فضل الصدقة). قال أبو عيسى: "هذا حديث حسن صحيح". وقد روي عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا. وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبه هذا من الروايات من الصفات، ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، قالوا: قد تثبت الروايات في هذا، ويؤمن بها ولا يتوهم ولا يقال كيف؟. هكذا روي عن مالك وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك، أنهم قالوا في هذه الأحاديث: أمروها بلا كيف، وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة. وأما الجهمية، فأنكرت هذه الروايات، وقالوا: هذا تشبيه. وقد ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه: اليد والسمع والبصر، فتأولت الجهمية هذه الآيات، ففسروها على غير ما فسر أهل العلم، وقالوا: إن الله لم يخلق آدم بيده، وقالوا: إن معنى اليد هاهنا القوة. وقال إسحاق بن إبراهيم: إنما يكون التشبيه، إذا قال: يد كيد أو مثل يد، أو سمع كسمع أو مثل سمع. فإذا قال سمع كسمع أو مثل سمع فهذا التشبيه. ¬

(¬1) التوبة الآية (104). (¬2) البقرة الآية (276).

موقفه من الخوارج:

وأما إذا قال كما قال الله تعالى: يد وسمع وبصر، ولا يقول: كيف، ولا يقول: مثل سمع ولا كسمع، فهذا لا يكون تشبيها، وهو كما قال الله تعالى في كتابه:} § {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬1). (¬2) - وقال عند حديث أبي هريرة الطويل من كتاب التفسير وفيه: "والذي نفس محمد بيده، لو أنكم دليتم رجلا بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله". (¬3) وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقالوا: إنما هبط على علم الله وقدرته وسلطانه. علم الله وقدرته وسلطانه في كل مكان، وهو على العرش كما وصف في كتابه. (¬4) موقفه من الخوارج: - قال عقب حديث ابن مسعود: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" (¬5): ومعنى هذا الحديث قتاله كفر ليس به كفرا مثل الارتداد عن الإسلام. والحجة في ذلك ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من قتل متعمدا ¬

(¬1) الشورى الآية (11). (¬2) سنن الترمذي (3/ 50 - 51). (¬3) جزء من حديث أخرجه: أحمد (2/ 370) والترمذي (5/ 376 - 377/ 3298) وابن أبي عاصم في السنة ... (1/ 254/578) والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 287 - 288/ 849) كلهم من طريق قتادة عن الحسن عن أبي هريرة مرفوعا. قال الترمذي: "هذا حديث غريب من هذا الوجه ويروى عن أيوب ويونس بن عبيد وعلي بن زيد قالوا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة". وقال البيهقي: "وفي رواية الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه انقطاع ولا ثبت سماعه من أبي هريرة". (¬4) سنن الترمذي (5/ 377). (¬5) البخاري (1/ 147/48) ومسلم (1/ 81/64) والترمذي (5/ 22/2635).

موقفه من المرجئة:

فأولياء المقتول بالخيار، إن شاءوا قتلوا وإن شاءوا عفوا، ولو كان القتل كفرا لوجب ... (¬1) وقد روي عن ابن عباس وطاووس وعطاء، وغير واحد من أهل العلم قالوا: كفر دون كفر، وفسوق دون فسوق. (¬2) موقفه من المرجئة: عقد رحمه الله كتابا حافلا في الإيمان أورد فيه الأحاديث الدالة على بيان معتقده السلفي، وقد أوضح ذلك بتبويباته لها منها: باب ما جاء في إضافة الفرائض إلى الإيمان (5/ 9). باب ما جاء في استكمال الإيمان وزيادته ونقصانه (5/ 10). باب ما جاء أن الحياء من الإيمان (5/ 12). باب ما جاء في ترك الصلاة (5/ 14). قال عقب أحد أحاديثه: سمعت أبا مصعب المدني يقول: من قال: الإيمان قول يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه (14/ 15). باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله. قال رحمه الله معلقا على حديث "من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله حرم الله عليه النار" (¬3): "ووجه هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن أهل التوحيد سيدخلون الجنة، وإن عذبوا بذنوبهم فإنهم لا يخلدون في النار. ¬

(¬1) بياض بالأصل بمقدار ست كلمات. (¬2) السنن (5/ 22). (¬3) مسلم (1/ 57 - 58/ 29) والترمذي (5/ 23 - 24/ 2638).

موقفه من القدرية:

موقفه من القدرية: - عقد رحمه الله كتابا في جامعه سماه (كتاب القدر): ذكر فيه أبوابا في ذكر القدر والرضا به، والرد على القدرية المكذبين بالقدر. (¬1) موقف السلف من أبي سعيد أحمد بن عيسى الخراز (279 هـ) بيان تصوفه: كما قدمنا غير ما مرة، أن هناك طائفة من أهل الحق، تذب عن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن عقيدته التي بعث من أجل إبلاغها للناس، فهذا نموذج من أولئك إن شاء الله. - جاء في تلبيس إبليس: وقال السراج: وأنكر جماعة من العلماء على أبي سعيد أحمد ابن عيسى الخراز، ونسبوه إلى الكفر بألفاظ وجدوها في كتاب صنفه وهو كتاب: 'السر' ومنه قوله: عبد طائع ما أذن له فلزم التعظيم لله فقدس الله نفسه. (¬2) - قال الذهبي: ويقال: إنه أول من تكلم في علم الفناء والبقاء، فأي سكتة فاتته، قصد خيرا، فولد أمرا كبيرا، تشبث به كل اتحادي ضال به. (¬3) ¬

(¬1) السنن (4/ 386 - 399). (¬2) التلبيس (210). (¬3) السير (13/ 420).

عثمان بن سعيد الدارمي (280 هـ)

- ومن كلامه: كل باطن يخالفه ظاهر، فهو باطل. (¬1) عثمان بن سعيد الدارمي (¬2) (280 هـ) الإمام العلامة الحجة الحافظ الناقد شيخ تلك الديار عثمان بن سعيد بن خالد بن سعيد أبو سعيد التميمي الدارمي، السجستاني صاحب 'المسند' الكبير والتصانيف محدث هراة وتلك البلاد. ولد قبل المائتين بيسير، وطوف الأقاليم في طلب الحديث. سمع نعيم بن حماد وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني، وإسحاق بن راهويه، وأبا بكر بن أبي شيبة وخلقا كثيرا بالحرمين والشام ومصر والعراق والجزيرة وبلاد العجم. وأخذ علم الحديث وعلله عن علي ويحيى وأحمد، وفاق أهل زمانه، وكان لهجا بالسنة بصيرا بالمناظرة جذعا في أعين المبتدعة. صنف كتابا في 'الرد على بشر المريسي' و'الرد على الجهمية' و'المسند' وغيرها. حدث عنه أبو عمرو أحمد بن محمد الحيري ومحمد بن يوسف الهروي وأبو النصر محمد بن محمد الفقيه وخلق كثير من أهل هراة ونيسابور. قال الحاكم: سمعت محمد بن العباس الضبي سمعت أبا الفضل يعقوب ابن إسحاق القراب يقول: ما رأيت مثل عثمان بن سعيد ولا رأى عثمان مثل نفسه أخذ الأدب عن ابن الأعرابي والفقه عن أبي يعقوب البويطي ¬

(¬1) السير (13/ 420). (¬2) الجرح والتعديل (6/ 153) وتذكرة الحفاظ (2/ 621 - 622) والسير (13/ 319 - 326) وطبقات الحنابلة (1/ 221) وشذرات الذهب (2/ 176).

موقفه من الجهمية:

والحديث عن ابن معين وابن المديني وتقدم في هذه العلوم رحمه الله. قال محمد بن المنذر شكر: سمعت أبا زرعة الرازي وسألته عن عثمان بن سعيد، فقال: ذاك رزق حسن التصنيف. وقال أبو الفضل الجارودي: كان عثمان ابن سعيد إماما يقتدى به في حياته وبعد مماته. قال الحسن بن صاحب الشاشي: سألت أبا داود السجستاني عن عثمان بن سعيد فقال: منه تعلمنا الحديث. قال أبو إسحاق أحمد بن محمد بن يونس: توفي عثمان الدارمي في ذي الحجة سنة ثمانين ومائتين. رحمه الله تعالى. موقفه من الجهمية: هذا الإمام، كان شوكة في حلق المعطلة، أفحمهم بالمعقول والمنقول سجل ذلك في كتبه التي أصبحت مرجعا لمن جاء بعده، فمن قرأ ما كتبه هذا الإمام تبين له دعوى الكذب على شيخ الإسلام، وأنه هو الذي وضع القواعد للأسماء والصفات، وإن كان وقع للشيخ بعض الهفوات في الإثبات، فسبحان من تنزه عن النقص، ولعلو كعب هذا الإمام في العقيدة السلفية حط عليه الشيخ النجدي الكوثري عليه ما يستحق من ربه في مقالاته وتعاليقه، وشق ثيابه ونتف شعوره ولطم وجهه وخدوده، يوم أن سمع بطبع كتب هذا الإمام وغيره من أئمة السلف، فرفع إلى الأزهر شكوى يلوم فيها الأزهر على السماح بطبع مثل هذه الكتب. يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون. وللشيخ رحمه الله: 1 - رد على بشر المريسي.

2 - الرد على الجهمية، أكثر من النقل منهما شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم في كتبهم. وقد طبعا ولله الحمد. وقد ألف بعض الباحثين رسالة علمية في جامعة أم القرى بعنوان: 'الدارمي ودفاعه عن العقيدة السلفية'. من درر مواقفه وغوالي أقواله: - قال رحمه الله في كتابه المعروف بـ 'نقض عثمان بن سعيد على بشر المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله في التوحيد' قال: وادعى المعارض أيضا: أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يمضي ثلث الليل فيقول: هل من مستغفر؟ هل من تائب؟ هل من داع؟ " (¬1). قال: فادعى أن الله لا ينزل بنفسه، إنما ينزل أمره ورحمته، وهو على العرش، وبكل مكان من غير زوال، لأنه الحي القيوم، والقيوم بزعمه من لا يزول. قال: فيقال لهذا المعارض: وهذا أيضا من حجج النساء والصبيان، ومن ليس عنده بيان، ولا لمذهبه برهان، لأن أمر الله ورحمته ينزل في كل ساعة ووقت وأوان، فما بال النبي - صلى الله عليه وسلم - يحد لنزوله الليل دون النهار، ويؤقت من الليل شطره أو الأسحار؟ أفأمره ورحمته يدعوان العباد إلى الاستغفار، أو يقدر الأمر والرحمة أن يتكلما دونه فيقولا: هل من داع فأجيب؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطي؟ فإن قررت مذهبك لزمك أن تدعي أن الرحمة والأمر هما اللذان يدعوان إلى الإجابة والاستغفار بكلامهما دون الله، وهذا ¬

(¬1) انظر تخريجه في مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ).

محال عند السفهاء، فكيف عند الفقهاء؟ قد علمتم ذلك، ولكن تكابرون، وما بال رحمته وأمره ينزلان من عنده شطر الليل، ثم لا يمكثان إلا إلى طلوع الفجر، ثم يرفعان؟ لأن رفاعة يرويه يقول في حديثه: "حتى ينفجر الفجر" (¬1). قد علمتم إن شاء الله، أن هذا التأويل أبطل باطل، لا يقبله إلا كل جاهل. وأما دعواك أن تفسير "القيوم" الذي لا يزول عن مكانه ولا يتحرك، فلا يقبل منك هذا التفسير إلا بأثر صحيح مأثور عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو عن بعض أصحابه أو التابعين، لأن الحي القيوم يفعل ما يشاء، ويتحرك إذا شاء، ويهبط ويرتفع إذا شاء، ويقبض ويبسط، ويقوم ويجلس إذا شاء، لأن أمارة ما بين الحي والميت التحرك، كل حي متحرك لا محالة، وكل ميت غير متحرك لا محالة، ومن يلتفت إلى تفسيرك وتفسير صاحبك مع تفسير نبي الرحمة ورسول رب العزة إذ فسر نزوله مشروحا منصوصا، ووقت لنزوله وقتا مخصوصا، لم يدع لك ولا لأصحابك فيه لبسا ولا عويصا. (¬2) وقال عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب 'الرد على الجهمية': ما الجهمية عندنا من أهل القبلة، بل هؤلاء الجهمية أفحش زندقة، وأظهر كفرا، وأقبح تأويلا لكتاب الله ورد صفاته، من الزنادقة الذين قتلهم علي وحرقهم ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (4/ 16) وابن ماجه (1/ 435/1367) والدارمي (1/ 347) والآجري (2/ 98 - 99/ 753) والطيالسي (1291) كلهم من طريق يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار عن رفاعة رضي الله عنه. قال الشيخ الألباني في الإرواء (2/ 198): "وهذا سند صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين وصرح يحيى بالتحديث في رواية الآجري". (¬2) درء التعارض (2/ 49 - 51).

بالنار. (¬1) - وقال أيضا: أخبر الله أن القرآن كلامه، وادعت الجهمية أنه خلقه، وأخبر الله تبارك وتعالى أنه كلم موسى تكليما، وقال هؤلاء: لم يكلمه الله بنفسه، ولم يسمع موسى نفس كلام الله، إنما سمع كلاما خرج إليه من مخلوق، ففي دعواهم دعا مخلوق موسى إلى ربوبيته فقال: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} (¬2) فقال له موسى في دعواهم: صدقت، ثم أتى فرعون يدعوه إلى ربوبية مخلوق كما أجاب موسى في دعواهم، فما فرق بين موسى وفرعون في الكفر إذا؟ فأي كفر أوضح من هذا؟ وقال الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬3) وقال هؤلاء: ما قال لشيء قط -قولا وكلاما- كن فكان، ولا يقوله أبدا، ولم يخرج منه كلام قط، ولا يخرج، ولا هو يقدر على الكلام في دعواهم، فالصنم في دعواهم والرحمن بمنزلة واحدة في الكلام. (¬4) - جاء في السير: قال محمد بن إبراهيم الصرام: سمعت عثمان بن سعيد يقول: لا نكيف هذه الصفات، ولا نكذب بها، ولا نفسرها. (¬5) - وفيها: ومن كلام عثمان -رحمه الله- في كتاب 'النقض' له: اتفقت ¬

(¬1) درء التعارض (5/ 302 - 303). (¬2) طه الآية (12). (¬3) النحل الآية (40). (¬4) درء التعارض (2/ 65 - 66). (¬5) السير (13/ 324).

حرب بن إسماعيل الكرماني (280 هـ)

الكلمة من المسلمين أن الله تعالى فوق عرشه، فوق سماواته. قلت (أي الذهبي): أوضح شيء في هذا الباب قوله عز وجل: {الرحمن على العرش استوى} (¬1). فليمر كما جاء، كما هو معلوم من مذهب السلف، وينهى الشخص عن المراقبة والجدال، وتأويلات المعتزلة، {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ} (¬2). (¬3) - وفيها: قال يعقوب القراب: سمعت عثمان بن سعيد الدارمي يقول: قد نويت أن لا أحدث عن أحد أجاب إلى خلق القرآن، قال: فتوفي قبل ذلك. قلت (أي الذهبي): من أجاب تقية، فلا بأس عليه، وترك حديثه لا ينبغي. (¬4) حرب بن إسماعيل الكَرْمَانِيّ (¬5) (280 هـ) الإمام العلامة الفقيه الحافظ أبو محمد حرب بن إسماعيل بن خلف الحنظلي الكرماني تلميذ الإمام أحمد وصاحبه. رحل وطلب العلم، وأخذ عن ¬

(¬1) طه الآية (5). (¬2) آل عمران الآية (53). (¬3) السير (13/ 325). (¬4) السير (13/ 322). (¬5) الجرح والتعديل (3/ 253) والسير (13/ 244 - 245) وتذكرة الحفاظ (2/ 613) وشذرات الذهب (2/ 176) وطبقات الحنابلة (1/ 145 - 146).

موقفه من الجهمية:

أبي الوليد الطيالسي وأبي بكر الحميدي وأبي عبيد وسعيد بن منصور، وإسحاق بن راهويه وطبقتهم. روى عنه القاسم بن محمد الكرماني نزيل طرسوس، وعبد الله بن إسحاق النهاوندي، وعبد الله بن يعقوب الكرماني، وأبو حاتم الرازي رفيقه وأبو بكر الخلال وآخرون. ومسائله من أنفس كتب الحنابلة، وهو كبير في مجلدين ونقل الكثير من المسائل عن أحمد بن حنبل. قال الخلال: كان رجلا جليلا حثني المروذي على الخروج إليه. قال ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة: كان حرب فقيه البلد وكان السلطان قد جعله على أمر الحكم وغيره في البلد. توفي رحمه الله في سنة ثمانين ومائتين. وقد عمر وقارب التسعين. موقفه من الجهمية: - وقال أبو محمد حرب بن إسماعيل الكرماني في مسائله المعروفة -التي نقلها عن أحمد وإسحاق وغيرهما، وذكر معها من الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة وغيرهم ما ذكر وهو كتاب كبير صنفه على طريقة 'الموطأ' ونحوه من المصنفات- قال في آخره في الجامع: "باب القول في المذهب: هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المعروفين بها المقتدى بهم فيها، وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق والحجاز والشام وغيرهم عليها، فمن خالف شيئا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع، خارج عن الجماعة، زائل عن منهج السنة وسبيل الحق، وهو مذهب أحمد وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد وعبد الله بن الزبير الحميدي وسعيد بن منصور وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم" وذكر

الكلام في الإيمان والقدر والوعيد والإمامة وما أخبر به الرسول من أشراط الساعة وأمر البرزخ والقيامة وغير ذلك -إلى أن قال: "وهو سبحانه بائن من خلقه لا يخلو من علمه مكان، ولله عرش، وللعرش حملة يحملونه، وله حد، والله أعلم بحده، والله على عرشه عز ذكره وتعالى جده ولا إله غيره، والله تعالى سميع لا يشك، بصير لا يرتاب، عليم لا يجهل، جواد لا يبخل، حليم لا يعجل، حفيظ لا ينسى، يقظان لا يسهو، رقيب لا يغفل، يتكلم ويتحرك ويسمع ويبصر وينظر ويقبض ويبسط ويفرح ويحب ويكره ويبغض ويرضى ويسخط ويغضب، ويرحم ويعفو ويغفر ويعطي ويمنع، وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا، كيف شاء، وكما شاء، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬1) " -إلى أن قال-: "ولم يزل الله متكلما عالما فتبارك الله أحسن الخالقين". (¬2) - جاء في اجتماع الجيوش: وله مسائل بالسند إليه قال: والماء فوق السماء السابعة والعرش على الماء والله على العرش - قال ابن القيم: قلت هذا لفظه في مسائله وحكاه إجماعا لأهل السنة من سائر أهل الأمصار. (¬3) - وجاء في أصول الاعتقاد: قال عبد الرحمن كتب إلي حرب بن ¬

(¬1) الشورى الآية (11). (¬2) درء التعارض (2/ 22). (¬3) اجتماع الجيوش (ص.214).

عثمان بن خرزاد (281 هـ)

إسماعيل الكرماني الحنظلي إن الحق والصواب الواضح المستقيم الذي أدركنا عليه أهل العلم أن من زعم أن ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا مخلوقة فهو جهمي مبتدع خبيث. (¬1) عثمان بن خُرَّزَاد (¬2) (281 هـ) الحافظ الحجة الثبت شيخ الإسلام، أبو عمرو بن أبي أحمد وهو عثمان ابن عبد الله بن محمد بن خرزاد الطبري ثم البصري نزيل أنطاكية وعالمها. ولد قبل المائتين. سمع من عفان بن مسلم، وقرة بن حبيب وأبي الوليد الطيالسي وسعيد بن منصور والحكم بن موسى ومسدد وعدة وجمع وصنف. حدث عنه النسائي وأبو حاتم الرازي مع تقدمه- وأبو عوانة في صحيحه ومحمد بن المنذر شكر، وأبو القاسم الطبراني بالإجازة وخلق كثير. قال ابن أبي حاتم: كان رفيق أبي في كتابة الحديث في بعض الجزيرة والشام وهو صدوق أدركته ولم أسمع منه. وقال أبو بكر الأهوازي: أحفظ من رأيت عثمان بن خرزاد. قال ابن منده: كان أحد الحفاظ، وقال الحاكم: ثقة مأمون. قال عثمان رحمه الله: يحتاج صاحب الحديث إلى خمس، فإذا عدمت واحدة فهي نقص يحتاج إلى عقل جيد، ودين، وضبط لما يقول وحذاقة بالصناعة مع أمانة تعرف منه. توفي رحمه الله في ذي الحجة سنة إحدى وثمانين ومائتين. ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 389/594). (¬2) تهذيب الكمال (19/ 417 - 422) وتذكرة الحفاظ (2/ 623 - 624) والسير (13/ 378 - 381) وشذرات الذهب (2/ 177) وتهذيب التهذيب (7/ 131 - 132).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: - جاء في أصول الاعتقاد عنه قال: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فقد أعظم الفرية على الله. (¬1) عبد الجبار بن خالد السرتي (¬2) (281 هـ) الشيخ عبد الجبار بن خالد بن عمران السرتي. سمع من سحنون، ويعد من أكابر أصحابه، وصحب حمديس بن القطان. وسمع منه أبو العرب وابن اللباد وغيرهما. قال أبو العرب: كان صالحا، متعبدا، طويل الصلاة، كثير الدعاء، مجتهدا، وكان من عقلاء شيوخ إفريقية. وقال حمديس القطان: ما رأيت أورع من عبد الجبار. وقال أبو عياش: عبد الجبار عالم واسع العلم، فهم نطاق بالحكمة. من كلامه رحمه الله: من كان همه في الله قل في الدنيا والآخرة غمه. وكان يقول: من سكت سلم، ومن تكلم بذكر الله غنم، ومن خاض أثم. توفي رحمه الله سنة إحدى وثمانين ومائتين، وصلى عليه صاحبه حمديس. وكان مولده سنة أربع وتسعين ومائة. موقفه من المبتدعة: - قال عبد الجبار: من ترك رأيه واتبع السنن والآثار رجي له أن يلحق ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 388/587). (¬2) رياض النفوس (1/ 463 - 470) وترتيب المدارك (4/ 384 - 389) وشجرة النور الزكية (1/ 71).

سهل بن عبد الله التستري الصوفي (283 هـ)

غدا بالأبرار، ومن تبع رأيه وترك السنن والآثار خفت غدا أن يكون مأواه النار. (¬1) سهل بن عبد الله التستري الصوفي (283 هـ) موقفه من المبتدعة: هذا الرجل ممن دخل في خزعبلات المتصوفة يأتي التنبيه عليها، إلا أن له أقوالا وافقت ما عليه السلف منها: - أنه سئل عن شرائع الإسلام، فقال: وقال العلماء في ذلك وأكثروا ولكن نجمعه كله بكلمتين: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬2). ثم نجمعه كله في كلمة واحدة: {مَنْ يطع الرسول فقد أَطَاعَ اللَّهَ} (¬3)، فمن يطع الرسول في سنته فقد أطاع الله في فريضته. (¬4) - عن أبي القاسم عبد الجبار بن شيراز بن يزيد العبدي، صاحب سهل ابن عبد الله، قال: سمعت سهل بن عبد الله يقول: وقيل له متى يعلم الرجل أنه على السنة والجماعة؟ ¬

(¬1) معالم الإيمان (2/ 191). (¬2) الحشر الآية (7). (¬3) النساء الآية (80). (¬4) الإبانة (1/ 1/222).

قال: إذا عرف من نفسه عشر خصال: لا يترك الجماعة. ولا يسب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولا يخرج على هذه الأمة بالسيف. ولا يكذب بالقدر. ولا يشك في الإيمان. ولا يماري في الدين. ولا يترك الصلاة على من يموت من أهل القبلة بالذنب. ولا يترك المسح على الخفين. ولا يترك الجماعة خلف كل وال جار أو عدل. (¬1) " التعليق: هذه الأوصاف التي ذكرها سهل بن عبد الله التستري هي أصول أهل السنة والجماعة، وبدراستها ودراسة تفاصيلها فيها الرد على كثير من الطوائف الضالة، ولا سيما الخوارج الذين عثوا في الأرض فسادا، والذين هم في هذا الزمان شوكة في حلق نشر السنة، لأنهم ملئوا الأمة شغبا وزلازل وقلاقل، فشغلوا الأمة بالفتن وظنوها شجاعة وجهادا، وهي لعمر الله إفسادا وتخريبا وإساءة للإسلام وأهله وإحراجا للدعوة والدعاة، مع ما في الأصول من رد على الرافضة قبحهم الله والمرجئة القاعدين عن الأعمال والخيرات، والمثبطين لكل داع إلى الطاعات، والمعتذرين لكل زنديق خبيث تارك الأوامر والنواهي، مزهدين في الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. - وفي الحلية بالسند إليه قال: أصولنا ستة: التمسك بالقرآن، والاقتداء بالسنة، وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب الآثام، والتوبة وأداء ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (1/ 205/324).

موقفه من المشركين:

الحقوق. (¬1) - وفي ذم الكلام عنه: قال في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا على البر والتقوى} على الإيمان والسنة {ولا تَعَاوَنُوا على الْإِثْمِ والعدوان} (¬2) قال: الكفر والبدعة. (¬3) - وفيه: عنه قال: مثل السنة في الدنيا مثل الجنة في الآخرة، من دخل الجنة في الآخرة سلم، ومن دخل السنة في الدنيا سلم. (¬4) - عن التستري: {قصد السبيل}: طريق السنة. {وَمِنْهَا جائرٌ} يعني: إلى النار، وذلك الملل والبدع. (¬6) - قال سهل التستري: كل فعل يفعله العبد بغير اقتداء -طاعة كان أو معصية- فهو عيش النفس -يعني: باتباع الهوى- وكل فعل يفعله العبد بالاقتداء، فهو عتاب على النفس -يعني: لأنه لا هوى له فيه-. (¬7) موقفه من المشركين: - ونقل عنه الذهبي في السير: إنما سمي الزنديق زنديقا، لأنه وزن دق ¬

(¬1) الحلية (10/ 190) والسير (13/ 332). (¬2) المائدة الآية (2). (¬3) ذم الكلام (272). (¬4) ذم الكلام (273). (¬5) النحل الآية (9). (¬6) الاعتصام (1/ 78). (¬7) الاعتصام (1/ 126) وهو في الاستقامة (1/ 249).

موقفه من الجهمية:

الكلام بمخبول عقله وقياس هوى طبعه، وترك الأثر والاقتداء بالسنة، وتأول القرآن بالهوى، فسبحان من لا تكيفه الأوهام، في كلام نحو هذا. (¬1) بيان صوفيته: جاء في تلبيس إبليس: قال السلمي: وحكى رجل عن سهل بن عبد الله التستري أنه يقول إن الملائكة والجن والشياطين يحضرونه وإنه يتكلم عليهم فأنكر ذلك عليه العوام حتى نسبوه إلى القبائح فخرج إلى البصرة فمات بها (¬2). " التعليق: والغالب على الظن، أن الذين أنكروا عليه سلفيون، تربوا على عقيدة السلف، وبغضت إليهم البدع والشركيات. هذا في ذلك الزمان، وأما اليوم فلو ادعى أنه يجتمع مع الله ألف مرة في اليوم والنبي - صلى الله عليه وسلم - خادمه والصحابة عبيده، لوجد مصدقين به ومؤيدين له والله المستعان. وبالمقابل، له كلام من قرأه مجردا عما يروى عنه من الخزعبلات يجده من أحسن ما يكون، ويحكم على صاحبه أنه كان من أئمة السلف، وقد تقدم بعضه، وإليك بقيته. موقفه من الجهمية: - جاء في السير: قال إسماعيل بن علي الأبلي: سمعت سهل بن عبد الله بالبصرة في سنة ثمانين ومائتين يقول: العقل وحده لا يدل على قديم أزلي فوق عرش محدث، نصبه الحق دلالة وعلما لنا، لتهتدي القلوب به إليه، ولا ¬

(¬1) السير (13/ 332). (¬2) التلبيس (ص 207).

موقفه من المرجئة:

تتجاوز ولم يكلف القلوب علم ماهية هويته، فلا كيف لاستوائه عليه، ولا يجوز أن يقال: كيف الاستواء لمن أوجد الاستواء؟ وإنما على المؤمن الرضا والتسليم، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنه على عرشه" (¬1). (¬2) - وفي أصول الاعتقاد: عنه قال: من قال القرآن مخلوق، فهو كافر بالربوبية لا كافر النعمة. (¬3) موقفه من المرجئة: - سئل سهل بن عبد الله التستري عن الإيمان ما هو؟ فقال: هو قول ونية وعمل وسنة، لأن الإيمان إذا كان قولا بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولا وعملا بلا نية فهو نفاق، وإذا كان قولا وعملا ونية بلا سنة فهو بدعة. (¬4) موقفه من القدرية: - جاء في الإبانة: عن سهل بن عبد الله التستري قال: ليس في حكم الله عز وجل أن يملك علم الضر والنفع إلا الله عز وجل، ولكن حكم العدل في الخلق إنكار فعل غيرهم من الضر والنفع، وهو حجة الله علينا، أمرنا بما لا ¬

(¬1) أخرجه: الدارمي في الرد على الجهمية (ص.26 - 27) تخريج الألباني، وابن خزيمة في التوحيد (1/ 242 - 243/ 149) والطبراني في الكبير (9/ 202/8987) والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن مسعود موقوفا (2/ 290/851) وقال الهيثمي في المجمع (1/ 86): "رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح". وفي الباب أحاديث كثيرة عن جمع من الصحابة بعضها في الصحيحين كلها تفيد أن الله عز وجل فوق العرش. (¬2) السير (13/ 331 - 332). (¬3) أصول الاعتقاد (2/ 296/469). (¬4) الإبانة (2/ 6/814/ 1116).

نقدر عليه إلا بمعونته، ونهانا عما لا نقدر على تركه والانصراف عنه إلا بعصمته، وألزمنا بالحركة بالمسألة، له المعونة على طاعته وترك مخالفته في إظهار الفقر والفاقة إليه، والتبري من كل سبب واستطاعة دونه؛ فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (¬1)؛ قال فخرجت أفعال العباد في سرهم وظاهرهم على ما سبق من علمه فيهم من غير إجبار منه لهم في ذلك أو في شيء منه، ولا قسر ولا إكراه ولا تعبد ولا أمر، بل بقضاء سابق ومشيئة وتخلية منه لمن شاء كيف شاء لما شاء؛ فله الحجة على الخلق أجمعين؛ قال سهل: فأفعال الخلق وأعمالهم كلها من الله مشيئة، فيها معنيان: فما كان من خير؛ فالله أراد ذلك منهم وأمرهم به ولم يكرههم على فعله، بل وفقهم له وأعانهم عليه، وتولى ذلك الفعل منهم وأثابهم عليه، وما كان من فعل شر؛ فالله عز وجل نهى عنه، ولم يجبر عليه ولم يتول ذلك الفعل، بل أراد العبد به والتخلية بينه وبينه، وشاء كون ذلك قبيحا فاسدا ليكون ما نهى ولا يكون ما أمر، ويظهر العلم السابق فيه فمنهم شقي وسعيد، فهو من الله مشيئة ومن الشيطان تزيين، ومن العبد فعل. (¬2) - وجاء في أصول الاعتقاد عن سهل بن عبد الله قال: من قال إن الله لا يعلم الشيء حتى يكون فهو كافر ومن قال أنا مستغن عن الله عز وجل فهو كافر ومن قال إن الله ظالم للعباد فهو كافر. (¬3) ¬

(¬1) فاطر الآية (15). (¬2) الإبانة (2/ 11/292 - 293/ 1942). (¬3) أصول الاعتقاد (4/ 786/1320).

ابن خراش الرافضي (283 هـ)

- وفيه عن محمد بن علي بن حيدرة قال: حدثنا أبو هارون الابلي -وكان ممن صحب سهل بن عبد الله وكان رجلا صالحا وكان يقرينا القرآن في المسجد الجامع- قال: سئل سهل بن عبد الله عن القدر؟ فقال: الإيمان بالقدر فرض والتكذيب به كفر والكلام فيه بدعة والسكوت عنه سنة. (¬1) ابن خراش الرافضي (283 هـ) بيان رفضه: - قال أبو زرعة محمد بن يوسف الحافظ: خرج ابن خراش مثالب الشيخين، وكان رافضيا. (¬2) إبراهيم الحربي (¬3) (285 هـ) الشيخ، الحافظ أبو إسحاق، إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم بن بشير البغدادي الحربي. ولد سنة ثمان وتسعين ومائة، وطلب العلم وهو حدث، فسمع من أبي نعيم وعبد الله ابن صالح العجلي وعاصم بن علي وأبي عبيد القاسم بن سلام، وتفقه على الإمام أحمد بن حنبل، وكان من أجل أصحابه. وحدث عنه ابن صاعد، وأبو بكر النجاد، وأبو بكر الشافعي وأبو بكر ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 786/1321). (¬2) السير (13/ 509). (¬3) تاريخ بغداد (6/ 27 - 40) وطبقات الحنابلة (1/ 86 - 93) والمنتظم (12/ 379 - 386) وسير أعلام النبلاء (13/ 356 - 372) وتاريخ الإسلام (حوادث 281 - 290/ص.101).

موقفه من المبتدعة:

القطيعي، وعثمان بن السماك، وخلق كثير. قال أبو بكر الخطيب: كان إماما في العلم، رأسا في الزهد، عارفا بالفقه، بصيرا بالأحكام حافظا للحديث، مميزا لعلله، قيما بالأدب، جَمَّاعة للغة. وقال الحاكم: سمعت محمد بن صالح القاضي يقول: لا نعلم أن بغداد أخرجت مثل إبراهيم الحربي في الأدب والفقه والحديث والزهد. وقال السلمي: سألت الدارقطني عن إبراهيم الحربي، فقال: كان يقاس بأحمد بن حنبل في زهده وعلمه وورعه. وقال الحسن بن فهم: لا ترى عيناك مثل الحربي، إمام الدنيا، لقد رأيت وجالست العلماء، فما رأيت رجلا أكمل منه. توفي رحمه الله سنة خمس وثمانين ومائتين. موقفه من المبتدعة: - قال محمد بن مخلد العطار: سمعت إبراهيم الحربي يقول: لا أعلم عصابة خيرا من أصحاب الحديث، إنما يغدو أحدهم، ومعه محبرة، فيقول: كيف فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وكيف صلى، إياكم أن تجلسوا إلى أهل البدع، فإن الرجل إذا أقبل ببدعة ليس يفلح. (¬1) موقفه من الجهمية: - قال القاضي أبو المطرف بن فطيس: سمعت أبا الحسن المقرئ، سمعت محمد بن جعفر بن محمد بن بيان البغدادي، سمعت إبراهيم الحربي -ولم يكن في وقته مثله- يقول: وقد سئل عن الاسم والمسمى: لي مذ أجالس أهل العلم ¬

(¬1) السير (13/ 358).

موقفه من القدرية:

سبعون سنة، ما سمعت أحدا منهم يتكلم في الاسم والمسمى. (¬1) - قال أبو ذر الهروي سمعت أبا طاهر المخلص سمعت أبي: سمعت إبراهيم الحربي، وكان وعدنا أن يمل علينا مسألة في الاسم والمسمى، وكان يجتمع في مجلسه ثلاثون ألف محبرة، وكان إبراهيم مقلا، وكانت له غرفة، يصعد، فيشرف منها على الناس، فيها كوة إلى الشارع، فلما اجتمع الناس، أشرف عليها، فقال لهم: قد كنت وعدتكم أن أملي عليكم في الاسم والمسمى، ثم نظرت فإذا لم يتقدمني في الكلام فيها إمام يقتدى به، فرأيت الكلام فيه بدعة، فقام الناس، وانصرفوا، فلما كان يوم الجمعة، أتاه رجل، وكان إبراهيم لا يقعد إلا وحده، فسأله عن هذه المسألة، فقال، ألم تحضر مجلسنا بالأمس؟ قال: بلى. فقال: أتعرف العلم كله؟ قال: لا. قال: فاجعل هذا مما لم تعرف. (¬2) موقفه من القدرية: - جاء في السير عن إبراهيم بن إسحاق قال: أجمع عقلاء كل ملة أنه من لم يجر مع القدر لم يتهنأ بعيشه. (¬3) ¬

(¬1) السير (13/ 359). (¬2) السير (13/ 361). (¬3) سير أعلام النبلاء (13/ 367).

أحمد بن أصرم (285 هـ)

أحمد بن أصرم (¬1) (285 هـ) أحمد بن أصرم بن خزيمة بن عباد بن عبد الله بن حسان بن الصحابي عبد الله بن مغفل. حدث عن أحمد بن حنبل وابن معين وعبد الأعلى بن حماد. روى عنه أبو عوانة في صحيحه وابن أبي حاتم والقاسم بن أبي صالح. أثنى عليه أهل العلم لتمسكه بالسنة ودفاعه عنها. قال ابن أبي حاتم: كتبت عنه مع أبي، وسمعت موسى بن اسحاق القاضي يعظم شأنه، ويرفع منزلته. توفي سنة خمس وثمانين ومائتين. موقفه من المبتدعة: - وقال صالح بن أحمد الحافظ: كان ثبتا، شديدا على أصحاب البدع. (¬2) محمد بن وَضَّاح (¬3) (286 هـ) الإمام الحافظ محدث الأندلس مع بقي، أبو عبد الله محمد بن وضاح بن بَزِيع المَرْوَانِي، مولى صاحب الأندلس عبد الرحمن بن معاوية الداخل. ولد سنة تسع وتسعين ومائة بقرطبة. وسمع يحيى بن يحيى ومحمد بن خالد بالأندلس وإسماعيل بن أبي أويس وأصبغ بن الفرج، وزهير بن عباد، ¬

(¬1) السير (13/ 384) وتاريخ بغداد (4/ 44) وطبقات الحنابلة (1/ 22). (¬2) السير (13/ 385). (¬3) تذكرة الحفاظ (2/ 646 - 648) وميزان الاعتدال (4/ 59) والوافي بالوفيات (5/ 174) واللسان (5/ 416 - 417) وشذرات الذهب (2/ 194) والسير (13/ 445 - 446).

موقفه من المبتدعة:

وحرملة، ويعقوب بن كاسب وطبقتهم. وقيل إنه ارتحل قبل ذلك في حياة آدم بن أبي إياس فلم يسمع شيئا وقد ارتحل إلى العراق والشام ومصر، وجمع فأوعى. روى عنه أحمد بن خالد الجباب، وقاسم بن أصبغ، ومحمد بن أيمن وأحمد بن عبادة، ومحمد بن المسور، وخلق. قال ابن الفرضي: كان عالما بالحديث، بصيرا بطرقه وعلله، كثير الحكاية عن العباد، ورعا زاهدا، صبورا على نشر العلم، متعففا، نفع الله أهل الأندلس به، وكان ابن الجباب يعظمه، ويصف عقله وفضله ولا يقدم عليه أحدا، غير أنه ينكر رده لكثير من الحديث. قال: وله خطأ كثير محفوظ عنه، ويغلط ويصحف ولا علم له بالعربية ولا بالفقه. وقال أيضا: رحل إلى المشرق رحلتين فسمع في الثانية خلقا كثيرا من البغداديين والكوفيين والبصريين والشاميين والمصريين والقزوينيين، وعدة شيوخه مائة وستون رجلا، وبه وببقي بن مخلد صارت الأندلس دار حديث. توفي رحمه الله سنة ست وثمانين ومائتين. موقفه من المبتدعة: هذا الإمام الكبير، كان له الأثر البالغ في الأوساط العلمية في عصره، وبعده، واتخذ الناس كتابه مرجعا في دفع البدع. وقد نقل العالم الكبير أبو إسحاق الشاطبي الشيء الكثير من كتابه 'الحوادث والبدع' ومن غيره مما نقله هذا الإمام عن أئمة السلف، وخصوصا مالك وأصحابه. وكذلك شيخ

موقفه من التثويب:

الإسلام ابن تيمية. (¬1) وله رحمه الله في العقيدة السلفية: 1 - 'ما جاء في البدع' وقد طبع مرارا ولله الحمد. وأحسن هذه الطبعات بتحقيق بدر بن عبد الله البدر. (¬2) 2 - 'النظر إلى الله' مخطوط في مكتبة حسن حسني. (¬3) موقفه من التثويب: - قال ابن وضاح: وإنما أحدث هذا بالعراق. قلت (¬4) لابن وضاح: من أول من أحدثه؟ فقال: لا أدري، قلت له: فهل يعمل به بمكة أو بالمدينة أو بمصر أو غيرها من الأمصار؟ فقال: ما سمعته إلا عند بعض الكوفيين والإباضيين، وكان بعضهم يثوب، عند المغرب، كان يؤذن إذا غابت الشمس ثم يؤخر الصلاة حتى تظهر النجوم ثم يثوب وبعضهم يؤذن إذا غابت الحمرة ويؤخر الصلاة حتى يغيب البياض ثم يثوب ويصلي، وبعضهم يؤذن إذا زالت الشمس ويؤخر الصلاة ثم يثوب ويصلي، وكان وكيع هو يفعل ذلك عند صلاة العشاء. (¬5) - قال ابن وضاح: فعليكم بالاتباع لأئمة الهدى المعروفين، فقد قال ¬

(¬1) انظر درء التعارض (1/ 19). (¬2) لعل هذا هو الصواب في تسمية هذا الكتاب، لا ما سماه به شيخ الإسلام، فإن 'الحوادث والبدع' للإمام الطرطوشي. (¬3) انظر الأعلام للزركلي (7/ 133). (¬4) لعل القائل: هو أصبغ بن مالك راوي الكتاب عنه. (¬5) ابن وضاح (89).

موقفه من الجهمية:

بعض من مضى: كم من أمر هو اليوم معروف عند كثير من الناس كان منكرا عند من مضى ومتحبب إليه بما يبغضه عليه ومتقرب إليه بما يبعده منه، وكل بدعة عليها زينة وبهجة. (¬1) - وقال محمد بن وضاح: إنما هلكت بنو إسرائيل على يدي قرائهم وفقهائهم، وستهلك هذه الأمة على يدي قرائهم وفقهائهم. (¬2) - قال أصبغ بن مالك: وسمعت محمد بن وضاح يقول غير مرة: كتاب الله قد بدل، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد غيرت، ودماء قد سفكت، وكرائم قد سبيت، وحدود قد عطلت، وترأس أهل الباطل، وتكلم في الدين من ليس من أهل الدين، وخاف البريء وأمن النطيف، وحكم في أمر المسلمين وسود فيهم من هو مسخوط فيهم. (¬3) موقفه من الجهمية: - قال ابن وضاح: ولا يسع أحدا أن يقول: كلام الله قط حتى يقول: ليس بخالق ولا مخلوق ولا ينفعه علم حتى يعلم ويوقن أن القرآن كلام الله ليس بخالق ولا مخلوق، منه عز وجل بدأ وإليه يعود، ومن قال بغير هذا فقد كفر بالله العظيم. (¬4) ¬

(¬1) ابن وضاح (92). (¬2) ابن وضاح (126). (¬3) ابن وضاح (175). (¬4) رياض الجنة بتخريج أصول السنة لابن أبي زمنين (86).

ابن أبي عاصم (287 هـ)

ابن أبي عاصم (¬1) (287 هـ) أبو بكر أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني الزاهد حافظ كبير، إمام بارع متبع للآثار كثير التصانيف قدم أصبهان على قضائها، ونشر بها علمه. قالت بنته عاتكة: ولد أبي في شوال سنة ست ومائتين، فسمعته يقول: ما كتبت الحديث حتى صار لي سبع عشرة سنة، وذلك أني تعبدت وأنا صبي، فسألني إنسان عن حديث، فلم أحفظه، فقال لي: ابن أبي عاصم لا تحفظ حديثا؟ فاستأذنت أبي، فأذن لي، فارتحلت. وأمه هي أسماء بنت الحافظ موسى بن إسماعيل التبوذكي فسمع من جده التبوذكي، ومن والده، قاضي حمص. شيوخه: أبو الوليد الطيالسي، وعمرو بن مرزوق، ومحمد بن كثير وهشام بن عمار وأبو بكر بن أبي شيبة، وعبد الأعلى بن حماد وطبقتهم. حدث عنه ابنته أم الضحاك عاتكة، والقاضي أبو أحمد العسال وأحمد بن بندار الشعار، وأبو الشيخ وأبو بكر القباب، وأبو عبد الله محمد بن أحمد الكسائي وغيرهم. قال أحمد بن محمد المديني البزاز: قدمت البصرة وأحمد بن حنبل حي، فسألت عن أفقههم، فقالوا: ليس بالبصرة أفقه من أحمد بن عمرو بن أبي عاصم. ومن تصانيفه: 'المسند الكبير' نحو خمسين ألف حديث. والآحاد والمثاني، نحو عشرين ألف حديث، و'المختصر من المسند'. مات رحمه الله سنة سبع وثمانين ومائتين ليلة الثلاثاء لخمس خلون من ربيع الأول. موقفه من المبتدعة والرافضة والجهمية والخوارج والمرجئة: ¬

(¬1) الجرح والتعديل (2/ 67) وتذكرة الحفاظ (2/ 640 - 641) والوافي بالوفيات (7/ 269 - 270) واللسان (6/ 349 - 350) وشذرات الذهب (2/ 195 - 196) والسير (13/ 430 - 439).

كتابه 'السنة' ودفاعه عن العقيدة السلفية: وهو من أكبر المراجع في العقيدة السلفية، رد فيه على جميع المبتدعة بما فيهم الخوارج والقدرية والجهمية والمرجئة والمعتزلة وغيرهم وقد كتب الله ولله الحمد أن يطبع وأن يشرف المكتبات الإسلامية العامة والخاصة وكان من حسن حظه أن تولى تخريج أحاديثه -إلا أنه لم يُتمَّه- عالم سلفي لم ينجسه بتعاليق باطلة مغرضة كما وقع لغيره من الكتب التي تولى تحقيقها مبتدعة هذا العصر، فياليت السلفيين ينتبهون من نومهم ويتسابقون إلى تحقيق مثل هذه الكتب، فجزى الله خيرا شيخنا الألباني على ما قام به، وقد قام الشيخ باسم الجوابرة بتحقيق الكتاب تحقيقا علميا وأتم تخريج أحاديثه وطبع في جزءين فجزاه الله خيرا. - قال أبو بكر بن أبي عاصم رحمه الله: سألت عن السنة ما هي؟ والسنة اسم جامع لمعان كثيرة في الأحكام وغير ذلك ومما اتفق أهل العلم على أن نسبوه إلى السنة القول بإثبات القدر، وإن الاستطاعة مع الفعل للفعل والإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره وكل طاعة من مطيع فبتوفيق الله له، وكل معصية من عاص فبخذلان الله السابق منه وله، والسعيد من سبقت له السعادة، والشقي من سبقت له الشقاوة، والأشياء غير خارجة من مشيئة الله وإرادته، وأفعال العباد من الخير والشر فعل لهم، خلق لخالقهم، والقرآن كلام الله تبارك وتعالى تكلم الله به ليس بمخلوق ومن قال مخلوق ممن قامت عليه الحجة فكافر بالله العظيم، ومن قال من قبل أن تقوم عليه الحجة فلا شيء عليه، والإيمان قول وعمل يزيد وينقص وإثبات رؤية الله عزوجل يراه أولياؤه

في الآخرة نظر عيان كما جاءت الأخبار، وأبو بكر الصديق أفضل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعده وهو الخليفة خلافة النبوة بويع يوم بويع وهو أفضلهم وهو أحقهم بها، ثم عمر بن الخطاب بعده على مثل ذلك، ثم عثمان بن عفان بعده على مثل ذلك، ثم علي بعده على مثل ذلك رحمة الله عليهم جميعا. وأبو بكر الصديق أعلمهم عندي بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفضلهم وأزهدهم وأشجعهم وأسخاهم. ومن الدليل على ذلك قوله في أهل الردة وقد نازله أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن يقبل منهم بعضا فأبى إلا كل ما أوجب الله عليهم أو يقاتلهم ورأى أن الكفر ببعض التنزيل يحل دماءهم فعزم على قتالهم، فعلم أنه الحق. ومن شجاعته كونه مع النبي عليه السلام في الغار وهجرته معه معرضا نفسه لقريش وسائر العرب مع قصد المشركين وطلبهم له وما بذلوا فيه من الرغائب، ثم ما ظهر في رأيه ونبله وسخائه أن كان ماله في الجاهلية أربعين ألف أوقية ففرق كله في الإسلام. ومن زهده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ندب إلى الصدقة فجاء أبو بكر بجميع ماله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما أبقيت لأهلك؟ قال: الله ورسوله. (¬1) ولم يفعل هذا أحد منهم، وقال في قصة الكتاب الذي أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب لهم: يأبى الله ويدفع بالمؤمنين، وسماه الله من السماء الصديق وبويع واتفق المسلمون على بيعته. وعلموا أن الصلاح فيها فسموه خليفة رسول الله وخاطبوه بها. ثم عمر بن الخطاب رحمة الله عليه على مثل سبيل أبي بكر، وما ¬

(¬1) أخرجه: أبو داود (2/ 312 - 313/ 1678) والترمذي (5/ 574/3675) وقال: "هذا حديث حسن صحيح".

وصفنا به مع شدته واستقامته وسياسته. ومن ذلك قوله لعيينة والأقرع: إنما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتألفكما والإسلام قليل. قد أغنى الله عنكما، وذكر سير عمر وسياسته كثر. ثم عثمان بن عفان من أعلمهم وأشجعهم وأسخاهم وأجودهم جودا، ومن علمه أن عليا وعبد الرحمن رحمة الله عليهما أشارا في إقامة الحد على أمة حاطب فرأى عمر ذلك معهم. قال: يا أبا عمرو ما تقول؟ قال: لا أرى عليها حدا لأنها تستهل (أو تستحل) به وإنما الحد على من عمله. فقال عمر بعد أن فهم ذلك عنه: صدقت والله إنما الحد على من عمله. وتزوج ابنتي النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يجتمع ذلك لأحد قط، ثم أذهنهم ذهنا وأظهرهم عبادة حفظ القرآن على كبر سنه في قلة مدة فكان يقوم به في ليلة واحدة (¬1). ومن سخائه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ندب إلى جيش العسرة فجاء بألف دينار ثم ألف ثم ألف ثم جهز جيش العسرة بأجمع جهازهم. (¬2) ثم علي رحمة الله عليه مثل ذلك في كماله وزهده وعلمه وسخائه. ومن زهده أنه اشتغل في سنة أربعين ألف دينار ففرقها وقميص كرابيس سنبلاني. قال محمد بن كعب القرظي: سمعت عليا يقول: بلغت صدقة مالي أربعين ألف دينار. ومن فضائله التي أبانه الله بها تزويجه بفاطمة وولده الحسن والحسين رحمة الله عليهما وحمله باب خيبر وقتله مرحبا وأشياء يكثر ذكرها. ¬

(¬1) صح النهي عن قراءة القرءان في أقل من ثلاث، وما يروى عن بعض الأئمة من قراءته في أقل من ثلاث يعوزه صحة السند، وعلى فرض صحة السند فالعبرة بموافقة السنة. والله أعلم. (¬2) أخرجه: أحمد (1/ 59) والترمذي (5/ 583 - 584/ 3699) وقال: "حسن صحيح غريب"، والنسائي ... (6/ 545 - 546/ 3611) وصححه ابن حبان (15/ 348/6916) وهو عند البخاري معلقا (5/ 510/2778).

موقفه من القدرية:

ثم لكل واحد من أهل الشورى فضائل يكثر ذكرها. ومما قد ينسب إلى السنة وذلك عندي إيمان نحو عذاب القبر. ومنكر ونكير. والشفاعة. والحوض. والميزان. وحب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعرفة فضائلهم وترك سبهم والطعن عليهم وولايتهم والصلاة على من مات من أهل التوحيد. والترحم على من أصاب ذنبا والرجاء للمذنبين، وترك الوعيد ورد العباد إلى مشيئة الله والخروج من النار يخرج الله من يشاء منها برحمته. والصلاة خلف كل أمير جائر. والصلاة في جماعة والغزو مع كل أمير. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون. (¬1) - وكان ابن أبي عاصم يقول: لا أحب أن يحضر مجلسي مبتدع ولا مدع ولا طعان ولا لعان ولا فاحش ولا بذيء، ولا منحرف عن الشافعي وأصحاب الحديث. (¬2) موقفه من القدرية: - أورد في كتابه القيم 'السنة' أبوابا في ذكر القدر والرضا به، والاحتجاج على القدرية ببعض النصوص، جريا على منهج أئمة أهل السنة في الرد على الفرق الضالة المنحرفة عن الجادة، من لدن الصحابة والتابعين وهلم جرّا. (¬3) ¬

(¬1) السنة لابن أبي عاصم (2/ 645 - 647). (¬2) البداية والنهاية (11/ 90). (¬3) السنة له (1/ 55 وما بعدها).

المعتضد بالله (289 هـ)

المعتضد بالله (¬1) (289 هـ) الخليفة، أبو العباس، أحمد بن الموفق بالله ولي العهد أبي أحمد طلحة بن المتوكل جعفر بن المعتصم محمد بن الرشيد الهاشمي العباسي. ولد في أيام جده سنة اثنتين وأربعين ومائتين. ودخل دمشق سنة إحدى وسبعين لحرب ابن طولون، واستخلف بعد عمه المعتمد في رجب سنة تسع. وكان ملكا مهيبا، شجاعا، جبارا شديد الوطأة، من رجال العالم يقدم على الأسد وحده، وكان أسمر نحيفا، معتدل الخلق، كامل العقل، وكان ذا سياسة عظيمة. قال: والله ما سفكت دما حراما منذ وليت الخلافة. وقد حارب الزنج وله مواقف مشهودة، وفي دولته سكنت الفتنة وكان فتاه بدر على شرطته، وعبيد الله بن سليمان على وزارته ومحمد بن شاه على حرسه، وأسقط المكس، ونشر العدل، وقلل من الظلم، وكان يسمى السفاح الثاني، أحيا رميم الخلافة التي ضعفت من مقتل المتوكل. حارب القرامطة، وغيرهم من الفرق، وكل من خرج عليه .. تزوج قطر الندى أسماء بنت خمارويه بن أحمد بن طولون. ومات في يوم الجمعة تاسع عشر شهر ربيع الآخر وقيل مات ليلة الاثنين لسبع بقين من شهر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين وكانت خلافته أقل من عشر سنين وعاش ستا وأربعين سنة. موقفه من المبتدعة: - جاء في البداية والنهاية: وفيها -أي سنة تسع وسبعين ومائتين- ¬

(¬1) تاريخ بغداد (4/ 403 - 407) والمنتظم (13/ 7 - 8) والكامل لابن الأثير (7/ 444 - 452) والوافي بالوفيات (6/ 428 - 430) والبداية والنهاية (11/ 70 - 92) وشذرات الذهب (2/ 199 - 201) والسير (13/ 463 - 479).

موقفه من المشركين:

نودي ببغداد أن لا يمكن أحد من القصاص والطرقية والمنجمين ومن أشبههم من الجلوس في المساجد ولا في الطرقات، وأن لا تباع كتب الكلام والفلسفة والجدل بين الناس. وذلك بهمة أبي العباس المعتضد سلطان الإسلام. (¬1) " التعليق: جزى الله خيرا هذا الخليفة الذي أعطى هذا الأمر السامي الذي قضى به على كتب البدع. وأما اليوم فقد حظيت هذه الكتب بالتعظيم والتقدير والرواج الكبير. إذ لا توجد مكتبة صغيرة ولا كبيرة، عامة أو خاصة إلا وهي مليئة بهذه الكتب إلا ما شاء الله، بل اتخذت منهجا يدرس للناشئة الغافلة. وأما القرآن وعلومه فخص بأصحاب القبور والتمائم والحروز. وأما الحديث وعلومه فلا ذكر له بين الناس. هذا هو الواقع السائد الآن في العالم الإسلامي إلا ما شاء الله. موقفه من المشركين: - جاء في البداية والنهاية: وقد أورد ابن الجوزي بإسناده أن المعتضد اجتاز في بعض أسفاره بقرية فيها مقثاة فوقف صاحبها صائحا مستصرخا بالخليفة، فاستدعى به فسأله عن أمره فقال: إن بعض الجيش أخذوا لي شيئا من القثاء وهم من غلمانك. فقال: أتعرفهم؟ فقال نعم. فعرضهم عليه فعرف منهم ثلاثة فأمر الخليفة بتقييدهم وحبسهم، فلما كان الصباح نظر الناس ثلاثة أنفس مصلوبين على جادة الطريق، فاستعظم الناس ذلك واستنكروه ¬

(¬1) البداية والنهاية (11/ 69).

وعابوا ذلك على الخليفة وقالوا: قتل ثلاثة بسبب قثاء أخذوه؟ فلما كان بعد قليل أمر الخواص -وهو مسامره- أن ينكر عليه ذلك ويتلطف في مخاطبته في ذلك والأمراء حضور، فدخل عليه ليلة وقد عزم على ذلك ففهم الخليفة ما في نفسه من كلام يريد أن يبديه، فقال له: إني أعرف أن في نفسك كلاما فما هو؟ فقال: يا أمير المؤمنين وأنا آمن؟ قال: نعم. قلت له: فإن الناس ينكرون عليك تسرعك في سفك الدماء. فقال: والله ما سفكت دما حراما منذ وليت الخلافة إلا بحقه. فقلت له: فعلام قتلت أحمد بن الطيب وقد كان خادمك ولم يظهر له خيانة؟ فقال: ويحك إنه دعاني إلى الإلحاد والكفر بالله فيما بيني وبينه، فلما دعاني إلى ذلك قلت له: يا هذا أنا ابن عم صاحب الشريعة، وأنا منتصب في منصبه فأكفر حتى أكون من غير قبيلته. فقتلته على الكفر والزندقة. فقلت له: فما بال الثلاثة الذين قتلتهم على القثاء؟ فقال: والله ما كان هؤلاء الذين أخذوا القثاء، وإنما كانوا لصوصا قد قتلوا وأخذوا المال فوجب قتلهم، فبعثت فجئت بهم من السجن فقتلتهم وأريت الناس أنهم الذين أخذوا القثاء، وأردت بذلك أن أرهب الجيش لئلا يفسدوا في الأرض ويتعدوا على الناس ويكفوا عن الأذى. ثم أمر بإخراج أولئك الذين أخذوا القثاء فأطلقهم بعدما استتابهم وخلع عليهم وردهم إلى أرزاقهم. (¬1) - روى أبو العباس بن سريج، عن إسماعيل القاضي قال: دخلت مرة على المعتضد، فدفع إلي كتابا، فنظرت فيه، فإذا قد جمع له فيه الرخص من ¬

(¬1) البداية (11/ 92 - 93) والسير (13/ 464)، وأصل الخبر في المنتظم (12/ 307 - 308).

زلل العلماء، فقلت: مصنف هذا زنديق. فقال: ألم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: بلى، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء، وما من عالم إلا وله زلة، ومن أخذ بكل زلل العلماء ذهب دينه. فأمر بالكتاب فأحرق. (¬1) الذهبي يحكي أخبار الفتن من عهد الصحابة إلى عهد المعتضد: وفي سنة ثمان وسبعين: كان أول شأن القرامطة. ولا ريب أن أول وهن على الأمة قتل خليفتها عثمان صبرا، فهاجت الفتنة، وجرت وقعة الجمل بسببها، ثم وقعة صفين، وجرت سيول الدماء في ذلك. ثم خرجت الخوارج، وكفرت عثمان وعليا، وحاربوا، ودامت حروب الخوارج سنين عدة. ثم هاجت المسودة بخراسان، ومازالوا حتى قلعوا دولة بني أمية، وقامت الدولة الهاشمية بعد قتل أمم لا يحصيهم إلا الله. ثم اقتتل المنصور وعمه عبد الله. ثم خذل عبد الله، وقتل أبو مسلم صاحب الدعوة. ثم خرج ابنا حسن، وكادا أن يتملكا، فقتلا. ثم كان حرب كبير بين الأمين والمأمون، إلى أن قتل الأمين. وفي أثناء ذلك قام غير واحد يطلب الإمامة: فظهر بعد المئتين بابك الخرمي زنديق بأذربيجان، وكان يضرب بفرط شجاعته الأمثال، فأخذ عدة مدائن، وهزم الجيوش إلى أن أسر بحيلة، وقتل. ولما قتل المتوكل غيلة، ثم قتل المعتز، ثم المستعين والمهتدي، وضعف شأن الخلافة توثب ابنا الصفار إلى أن أخذا خراسان، بعد أن كانا يعملان في ¬

(¬1) السير (13/ 465).

النحاس، وأقبلا لأخذ العراق وقلع المعتمد. وتوثب طرقي داهية بالزنج على البصرة، وأباد العباد ومزق الجيوش، وحاربوه بضع عشرة سنة إلى أن قتل. وكان مارقا، بلغ جنده مئة ألف. فبقي يتشبه بهؤلاء كل من في رأسه رئاسة، ويتحيل على الأمة ليرديهم في دينهم ودنياهم، فتحرك بقرى الكوفة رجل أظهر التعبد والتزهد، وكان يسف الخوص ويؤثر، ويدعو إلى إمام أهل البيت، فتلفق له خلق وتألهوه إلى سنة ست وثمانين، فظهر بالبحرين أبو سعيد الجنابي، وكان قماحا، فصار معه عسكر كبير، ونهبوا وفعلوا القبائح، وتزندقوا، وذهب الأخوان يدعوان إلى المهدي بالمغرب، فثار معهما البربر، إلى أن ملك عبد الله الملقب بالمهدي غالب المغرب، وأظهر الرفض، وأبطن الزندقة، وقام بعده ابنه، ثم ابن ابنه، ثم تملك المعز وأولاده مصر والمغرب واليمن والشام دهرا طويلا فلا حول ولا قوة إلا بالله. وفي سنة ثمانين: أخذ المعتضد محمد بن سهل من قواد الزنج فبلغه أنه يدعو إلى هاشمي، فقرره، فقال: لو كان تحت قدمي ما رفعتها عنه. فقتله. وعاثت بنو شيبان، فسار المعتضد، فلحقهم بالسن، فقتل وغرق، ومزقهم، وغنم العسكر من مواشيهم ما لا يوصف، حتى أبيع الجمل بخمسة دراهم، وصان نساءهم وذراريهم، ودخل الموصل، فجاءته بنو شيبان، وذلوا فأخذ منهم رهائن، وأعطاهم نساءهم، ومات في السجن المفوض إلى الله، وقيل: كان المعتضد ينادمه في السر. قيل: كان لتاجر على أمير مال، فمطله ثم جحده، فقال له صاحب له: قم معي، فأتى بي خياطا في مسجد. فقام معنا إلى الأمير، فلما رآه، هابه،

ووفاني المال، فقلت للخياط: خذ مني ما تريد، فغضب، فقلت له: فحدثني عن سبب خوفه منك، قال: خرجت ليلة، فإذا بتركي قد صاد امرأة مليحة، وهي تتمنع منه وتستغيث، فأنكرت عليه، فضربني، فلما صليت العشاء جمعت أصحابي، وجئت بابه، فخرج في غلمانه، وعرفني، فضربني وشجني، وحملت إلى بيتي، فلما تنصف الليل، قمت فأذنت في المنارة، لكي يظن أن الفجر طلع، فيخلي المرأة، لأنها قالت: زوجي حالف علي بالطلاق أنني لا أبيت عن بيتي، فما نزلت حتى أحاط بي بدر وأعوانه، فأدخلت على المعتضد، فقال: ما هذا الأذان؟ فحدثته بالقصة، فطلب التركي، وجهز المرأة إلى بيتها، وضرب التركي في جوالق حتى مات، ثم قال لي: أنكر المنكر، وما جرى عليك فأذن كما أذنت، فدعوت له، وشاع الخبر، فما خاطبت أحدا في خصمه إلا أطاعني وخاف. وفيها: ولد بسلمية القائم محمد بن المهدي العبيدي، الذي تملك هو وأبوه المغرب ... وفيها: سار المعتضد إلى الدينور ورجع. ثم قصد الموصل لحرب حمدان ابن حمدون، جد بني حمدان، وكانت الأعراب والأكراد قد تحالفوا وخرجوا، فالتقاهم المعتضد، فهزمهم، فكان من غرق أكثر. ثم قصد ماردين، فهرب منه حمدان، فحاصر ماردين، وتسلمها، ثم ظفر بحمدان، فسجنه، ثم حاصر قلعة للأكراد وأميرهم شداد، فظفر به، وهدمها. وهدم دار الندوة بمكة، وصيرها مسجدا. وفي سنة اثنتين وثمانين: أبطل المعتضد وقيد النيران وشعار النيروز ...

وفيها: قتل خمارويه صاحب مصر والشام غلمانه، لأنه راودهم، ثم أخذوا، وصلبوا، وتملك ابنه جيش، فقتلوه بعد يسير، وملكوا أخاه هارون، وقرر على نفسه أن يحمل إلى المعتضد في العام ألف ألف دينار، وخمس مئة ألف دينار. وفيها: قتل المعتضد عمه محمدا، لأنه بلغه أنه يكاتب خمارويه. وفي سنة ثلاث وثمانين ومئتين: سار المعتضد إلى الموصل، لأجل هارون الشاري، وكان قد عاث وأفسد، وامتدت أيامه، فقال الحسين بن حمدان للمعتضد: إن جئتك به فلي ثلاث حوائج. قال: سمها. قال: تطلق أبي، والحاجتان: أذكرهما إذا أتيت به. قال: لك ذلك، قال: وأريد أن أنتقي ثلاث مئة بطل. قال: نعم. ثم خرج الحسين في طلب هارون، فضايقه في مخاضةٍ، والتقوا، فانهزم أصحاب هارون، واختفى هو، ثم دل عليه أعراب، فأسره الحسين وقدم به، وخلع المعتضد على الحسين، وطوقه وسوره، وعملت الزينة، وأركب هارون فيلا، وازدحم الخلق، حتى سقط كرسي جسر بغداد، وغرق خلق ووصلت تقادم الصفار منها مئتا حمل مال، وكتبت الكتب إلى الأمصار بتوريث ذوي الأرحام. وفيها: غلب رافع بن هرثمة على نيسابور، وخطب بها لمحمد بن زيد العلوي، فأقبل الصفار، وحاصره، ثم التقوا، فهزمه الصفار، وساق خلفه إلى خوارزم، فأسر رافعا، وقتله، وبعث برأسه إلى المعتضد، وليس هو بولد لهرثمة ابن أعين، بل ابن زوجته. من زلاته: قال ابن جرير: وفي سنة أربع وثمانين ومائتين: عزم المعتضد على لعنة

معاوية على المنابر، فخوفه الوزير، فلم يلتفت، وحسم مادة اجتماع الشيعة وأهل البيت، ومنع القصاص من الكلام جملة، وتجمع الخلق يوم الجمعة لقراءة ما كتب في ذلك، وكان من إنشاء الوزير، فقال يوسف القاضي: راجع أمير المؤمنين. فقال: يا أمير المؤمنين تخاف الفتنة؟ فقال: إن تحركت العامة وضعت السيف فيهم. قال: فما تصنع بالعلوية الذين هم في كل قطر قد خرجوا عليك؟ فإذا سمع الناس هذا من مناقبهم كانوا إليهم أميل وأبسط ألسنة. فأعرض المعتضد عن ذلك. وعقد المعتضد لابنه علي المكتفي، فصلى بالناس يوم النحر. وفي سنة ست: سار المعتضد بجيوشه، فنازل آمد، وقد عصى بها ابن الشيخ، فطلب الأمان، فآمنه وفي وسط العام جاء الحمل من الصفار، فمن ذلك أربعة آلاف ألف درهم. وفيها: تحارب الصفار وابن أسد صاحب سمرقند، وجرت أمور ثم ظفر ابن أسد بالصفار أسيرا فرفق به، واحترمه، وجاءت رسل المعتضد تحث في إنفاذه، فنفذ، وأدخل بغداد أسيرا على جمل، وسجن بعد مملكة العجم عشرين سنة. ومبدؤه: كان هو وأخوه يعقوب صانعين في ضرب النحاس، وقيل: بل كان عمرو يكري الحمير، فلم يزل مكاريا حتى عظم شأن أخيه يعقوب، فترك الحمير، ولحق به، وكان الصفار يقول: لو شئت أن أعمل على نهر جيحون جسرا من ذهب لفعلت، وكان مطبخي يحمل على ست مئة جمل، وأركب في مئة ألف، ثم صيرني الدهر إلى القيد والذل. فيقال: إنه خنق عند وفاة المعتضد. وبنى المعتضد على البصرة سورا وحصنها.

وظهر بالبحرين رأس القرامطة أبو سعيد الجنابي، وكثرت جموعه، وانضاف إليه بقايا الزنج، وكان كيالا بالبصرة، فقيرا يرفوا الأعدال، وهم يستخفون به، ويسخرون منه، فآل أمره إلى ما آل، وهزم عساكر المعتضد مرات، وفعل العظائم، ثم ذبح في حمام قصره. فخلفه ابنه سليمان الذي أخذ الحجر الأسود، وقتل الحجيج حول الكعبة، وهو جد أبي علي الذي غلب على الشام، وهلك بالرملة في سنة خمس وستين وثلاث مئة. وفي سنة سبع: استفحل شأن القرامطة، وأسرفوا في القتل والسبي، والتقى الجنابي وعباس الأمير، فأسره الجنابي، وأسر عامة عسكره، ثم قتل الجميع سوى عباس، فجاء إلى المعتضد وحده في أسوء حال. ووقع الفناء بأذربيجان، حتى عدمت الأكفان جملة، فكفنوا في اللبود. واعتل المعتضد في ربيع الآخر، ثم تماثل، وانتكس، فمات في الشهر، وقام المكتفي لثمان بقين من الشهر، وكان غائبا بالرقة، فنهض بالبيعة له الوزير القاسم بن عبيد الله. وعن وصيف الخادم، قال: سمعت المعتضد يقول عند موته: تمتع من الدنيا فإنك لا تبقى ... وخذ صفوها ما إن صفت ودع الرنقا ولا تأمنن الدهر إني أمنته ... فلم يبق لي حالا ولم يرع لي حقا قتلت صناديد الرجال فلم أدع ... عدوا ولم أمهل على ظنة خلقا وأخليت دور الملك من كل بازل ... وشتتهم غربا ومزقتهم شرقا فلما بلغت النجم عزا ورفعة ... ودانت رقاب الخلق أجمع لي رقا رماني الردى سهما فأخمد جمرتي ... فها أنا ذا في حفرتي عاجلا ملقى

فأفسدت دنياي وديني سفاهة ... فمن ذا الذي مني بمصرعه أشقى فيا ليت شعري بعد موتي ما أرى ... إلى رحمة لله أم ناره ألقى؟ (¬1) " التعليق: قال جامعه: هذا الخليفة كان سيفا مسلولا على الزنادقة بجميع أنواعهم، ففي عهده كانت وقائع الزنج والقرامطة الذين تصدى لهم، والشيعة على اختلاف ألوانهم والجهمية وغيرهم من المبتدعة. - جاء في السير: السرخسي المسمى أحمد بن محمد، كان مؤدب المعتضد، ثم صار نديمه وصاحب سره ومشورته، وله رئاسة وجلالة كبيرة ... ثم إن المعتضد انتخى لله، وقتل السرخسي لفلسفته وخبث معتقده، فقيل: إنه تنصل إليه وقال: قد بعت كتب الفلسفة والنجوم والكلام وما عندي سوى كتب الفقه والحديث. فلما خرج، قال المعتضد: والله إني لأعلم أنه زنديق فعل ما زعم رياء. (¬2) " التعليق: هكذا كان يفعل خلفاء بني العباس بالزنادقة الذين زندقتهم الفلسفة وعلومها. وأما بعض أهل هذا الزمان فأمثال هؤلاء الزنادقة هم أحبابهم وأصدقاؤهم، بل بنوا لهذا الإلحاد كليات، وأعطوا لمن تخرج منها شهادات عليا. برزتهم لنشر إلحادهم في كل مكان باسم أنهم دكاترة وأساتذة ¬

(¬1) السير (13/ 468 - 477). (¬2) السير (13/ 449).

موقفه من الخوارج:

جامعيون، ونشروا الإلحاد في البلاد، وسخروا من الطيبين وطردوهم من المدارس والكليات وكل من يشم فيه رائحة الإسلام والتمسك بالسنة يطرد ويبعد سواء كان طالبا أو أستاذا والله المستعان. موقفه من الخوارج: - قال ابن كثير: خرج المعتضد من بغداد قاصدا بلاد الموصل لقتال هارون الشاري الخارجي فظفر به وهزم أصحابه وكتب بذلك إلى بغداد، فلما رجع الخليفة إلى بغداد أمر بصلب هارون الشاري وكان صفريا. فلما صلب قال: لا حكم إلا لله ولو كره المشركون. (¬1) يحيى بن عمر الكِنَانِي (¬2) (289 هـ) يحيى بن عمر بن يوسف بن عامر الإمام شيخ المالكية، أبو زكريا الكناني الأندلسي الفقيه. ولد بالأندلس سنة ثلاث عشرة ومائتين، وهو من أهل جيان. قال ابن الفرضي: ارتحل وسمع بإفريقية من سحنون وأبي زكريا الحفري، وعون بن يوسف صاحب الدراوردي. وسمع بمصر من يحيى بن بكير وحرملة، وبالمدينة من أبي مصعب وطائفة. وكان حافظا للفروع، ثقة ضابطا لكتبه، وكانت الرحلة إليه في وقته، ¬

(¬1) البداية والنهاية (11/ 78). (¬2) اللسان (6/ 270 - 272) وترتيب المدارك (4/ 357 - 364) والسير (13/ 462 - 463) والديباج المذهب ... (2/ 354) وتاريخ ابن الفرضي (2/ 181) والأعلام (8/ 160) ومعجم المؤلفين (13/ 217).

موقفه من الصوفية:

سكن سوسة في آخر عمره وبها مات. روى عنه سعيد بن عثمان الأعناقي وإبراهيم بن نصر ومحمد بن مسرور وطائفة. قال القاضي أبو الوليد: كان فقيها، حافظا للرأي، ثقة ضابطا لكتبه. قال ابن حارث: كان يحيى متقدما في الحفظ، وسكن القيروان، فشرفت بها منزلته عند العامة والخاصة ورحل الناس إليه لا يروون المدونة والموطأ إلا عنه. قال ابن اللباد: كان من أهل الصيام والقيام، مجاب الدعوة. وقال أبو العباس الأبياني: ما رأيت مثل يحيى بن عمر في علمه وزهده ودعائه وبكائه، فالوصف -والله- يقصر عن ذكر فضله. قال يحيى الكانشي: أنفق يحيى بن عمر في طلب العلم ستة آلاف دينار. من مؤلفاته: 'الرد على الشافعي' و'المنتخبة اختصار المستخرجة' و'الميزان' و'الرؤية' و'الرد على الشكوكية' و'الرد على المرجئة' وغيرها كثير. توفي رحمه الله تعالى في ذي الحجة سنة تسع وثمانين ومائتين، وعمره ست وسبعون سنة. موقفه من الصوفية: - جاء في معالم الإيمان: كان هناك مسجد في مكان قرب القيروان يسمى "مسجد السبت" لأن المتصوفة كانوا يجتمعون فيه في كل سبت، ويذكرون فيه الذكر البدعي، وينشدون الأشعار الصوفية ويخشعون بزعمهم. وكان هذا الإمام شديد الإنكار عليهم ويقول: يا قوم هذا القرآن يتلى والأحاديث النبوية ولا متعظ، ويسمع بيتا من شعر فيبكي، هذا عجب.

أبو جعفر حمديس القطان (289 هـ)

وتبعه على هذا الانكار العالم المشهور أبو عمران الفاسي القابسي. (¬1) - وجاء في الحقيقة التاريخية: إلا أن يحيى بن عمر، اعتبر اجتماعهم للذكر والإنشاد بدعة، وأنكر عليهم الإنكار الشديد، وكان يرى هدم المسجد أنفع من وجوده مع البدعة، وقد ألف كتابا في بدعة مسجد السبت، فتصدى الصوفية لإذايته ومشاغبته في حلقات دروسه. (¬2) أبو جعفر حَمْدِيس القطَّان (¬3) (289 هـ) أحمد بن محمد أبو جعفر حمديس القطان. قرأ على سحنون بن سعيد، ورحل إلى مصر والمدينة فلقي أصحاب ابن القاسم، وأشهب، وابن وهب وغيرهم. وكان من أهل العلم المعروفين بإظهار السنة، والذين لا يخافون في الله لومة لائم، مع الورع والتقوى والصلاح. وقال ابن حارث: كان علما في الفضل، ومثلا في الخير، مع شدة في مذهب أهل السنة. وقال أبو عياش: كان حمديس ورعا، كاملا ثقة مأمونا. قال أبو بكر المالكي: كان فضله أكثر من أن يحمله هذا الكتاب. توفي سنة تسع وثمانين ومائتين. موقفه من المبتدعة: - جاء في المعالم: وكان لا يسلم على أحد من أهل الأهواء، كثير ¬

(¬1) معالم الإيمان (2/ 238). (¬2) الحقيقة التاريخية (153). (¬3) معالم الإيمان (2/ 201) ورياض النفوس (1/ 488 - 490) وترتيب المدارك (1/ 518 - 520).

موقف السلف من الجنيد (289 هـ)

التجنب للسلطان. (¬1) - وقيل لحمديس: فلو أن إماما دعا إلى البدعة وأمر بها وبات بالدار؟ قال نجاهده. (¬2) موقف السلف من الجنيد (289 هـ) بيان صوفيته: قدمنا أن علماء السلف كانوا ولله الحمد سدا منيعا في وجوه المبتدعة، وما تركوا لهم كبيرة ولا صغيرة إلا وكسروها وأحرقوها وهذا الموقف الذي سنذكره منها. - جاء في تلبيس إبليس: قال السراج: وكم من مرة قد أخذ الجنيد مع علمه، وشهد عليه بالكفر والزندقة، وكذلك أكثرهم. (¬3) - ومن سقطاته ما جاء في تلبيس إبليس عنه قال: ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، لكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات، لأن التصوف من صفاء المعاملة مع الله سبحانه وتعالى وأصله التفرق عن الدنيا. (¬4) ¬

(¬1) معالم الإيمان (2/ 202). (¬2) معالم الإيمان (2/ 204). (¬3) التلبيس (210). (¬4) التلبيس (208).

موقف السلف من أبي حمزة الحلولي (289 هـ)

" التعليق: هذا ما نقل عنه وكم له من الأقوال لو أردنا أن نستقصي كلامه الباطل لطال بنا المقال. وبالمقابل تجد عنده كلاما من أروع ما يكون، من قرأه مجردا عن بدعهم، يحسبهم من علماء السلف، وكما قلت في سهل، فلا أدري إن كان تاب هؤلاء وكان هذا آخر كلامهم أو هو تناقض أو تغطية على بدعهم فالله أعلم. - ومنه ما قال في ذم الكلام: أقل ما في الكلام سقوط هيبة الرب من القلب، والقلب إذا عري عن الهيبة من الله عز وجل عري من الإيمان. (¬1) - ومنه في تلبيس إبليس: عنه قال: مذهبنا هذا مقيد بالأصول: الكتاب والسنة وقال أيضا علمنا منوط بالكتاب والسنة من لم يحفظ الكتاب ويكتب الحديث ولم يتفقه لا يقتدى به. (¬2) " التعليق: إذا كان هذا صحيحا فما الحاجة إلى الأوهام والوساوس؟. موقف السلف من أبي حمزة الحلولي (289 هـ) بيان زندقته: - جاء في حلية الأولياء: عن أبي عبد الله الرملي قال: تكلم أبو حمزة في ¬

(¬1) ذم الكلام (271) وفي السير (14/ 68) والاستقامة (1/ 111). (¬2) التلبيس (ص 208).

أبو الآذان (290 هـ)

جامع طرسوس، فقبلوه، فبينا هو ذات يوم يتكلم إذ صاح غراب على سطح الجامع، فزعق أبو حمزة، وقال: لبيك لبيك، فنسبوه إلى الزندقة وقالوا: حلولي زنديق فشهدوا وأخرج وبيع فرسه بالمناداة على باب الجامع هذا فرس الزنديق. فذكر أبو عمرو البصري قال اتبعته والناس وراءه يخرجونه من باب الشام فرفع رأسه إلى السماء وقال: لك من قلبي المكان المصون ... كل صعب علي فيك يهون (¬1) أبو الآذان (¬2) (290 هـ) الحافظ عمر بن إبراهيم بن سليمان البغدادي، أبو بكر المعروف بأبي الآذان، جزري الأصل. روى عن محمد بن المثنى الزَّمِن، ويحيى بن حكيم المقوم وإسماعيل بن مسعود الجحدري ومحمد بن علي بن خلف العطار. وروى عنه النسائي في سننه وابن قانع والطبراني ومظفر بن يحيى وعبد الله بن إسحاق الخراساني وعدة. قال أبو يعلى الخليلي: ثقة، مشهور بالحفظ. وأثنى عليه أبو بكر الإسماعيلي. وقال ابن حجر: ثقة حافظ. توفي رحمه الله سنة تسعين ومائتين وله ثلاث وستون سنة. موقفه من المشركين: - جاء في السير: قال البرقاني حدثنا أبو بكر الإسماعيلي قال: حكي أن ¬

(¬1) الحلية (10/ 321). (¬2) تاريخ بغداد (11/ 215 - 216) وتهذيب الكمال (21/ 267) وسير أعلام النبلاء (14/ 81 - 82) وتاريخ الإسلام (حوادث 281 - 290/ص.231 - 232) وتهذيب التهذيب (7/ 424 - 425).

عبد الله بن الإمام أحمد (290 هـ)

أبا الآذان طالت خصومة بينه وبين يهودي أو غيره، فقال له: أدخل يدك ويدي في النار، فمن كان محقا لم تحترق يده، فذكر أن يده لم تحترق، وأن يد اليهودي احترقت. (¬1) عبد الله بن الإمام أحمد (¬2) (290 هـ) الإمام الحافظ الناقد الحجة محدث بغداد عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل أبو عبد الرحمن ابن شيخ العصر إمام العلماء أبي عبد الله الذهلي الشيباني المروزي ثم البغدادي. ولد سنة ثلاث عشرة ومائتين. روى عن أبيه شيئا كثيرا من جملته 'المسند' كله و'الزهد' وعن يحيى بن عبدويه صاحب شعبة والهيثم بن خارجة ومحمد بن أبي بكر المقدمي وشيبان بن فروخ وطبقتهم ومنعه أبوه من السماع من علي بن الجعد، وأخذ عن ابن معين. حدث عنه النسائي والبغوي وأبو عوانة والمحاملي وقاسم بن أصبغ وأبو بكر الشافعي وخلق كثير. قال عباس الدوري: كنت عند أحمد بن حنبل فدخل ابنه عبد الله فقال لي أحمد: يا عباس إن أبا عبد الرحمن قد وعى علما كثيرا. قال ابن أبي حاتم: كتب إلي عبد الله بمسائل أبيه وبعلل الحديث. قال ابن المنادي: لم يكن في الدنيا أحد أروى عن أبيه من عبد الله بن أحمد، لأنه سمع منه المسند وهو ¬

(¬1) السير (14/ 82). (¬2) الجرح والتعديل (5/ 7) وتاريخ بغداد (9/ 375 - 376) وتهذيب الكمال (14/ 285 - 292) والمنتظم (13/ 17) وتذكرة الحفاظ (2/ 665 - 666) والبداية والنهاية (11/ 103) وتهذيب التهذيب (5/ 141 - 143) وشذرات الذهب (2/ 203 - 204) والسير (13/ 516 - 526) طبقات الحنابلة (1/ 180 - 188).

موقفه من المبتدعة:

ثلاثون ألفا والتفسير وهو مائة ألف وعشرون ألفا سمع منه ثمانين ألفا والباقي وِجَادَةً وسمع الناسخ والمنسوخ والتاريخ وحديث شعبة والمقدم والمؤخر في كتاب الله، وجواب القرآن والمناسك الكبير والصغير وغير ذلك من التصانيف وحديث الشيوخ. قال: وما زلنا نرى أكابر شيوخنا يشهدون له بمعرفة الرجال وعلل الحديث والأسماء والكنى والمواظبة على طلب الحديث في العراق وغيرها. قال الذهبي: ما رأينا أحدا أخبرنا عن وجود هذا التفسير ولا بعضه. قال ابن عدي: نبل عبد الله بن أحمد بأبيه وله في نفسه محل في العلم أحيى علم أبيه من مسنده. قال بدر البغدادي: عبد الله بن أحمد جهبذ ابن جهبذ. قال الخطيب: كان ثقة ثبتا فهما. مات رحمه الله سنة تسعين ومائتين يوم الأحد، لتسع ليال بقين من جمادى الآخرة. موقفه من المبتدعة: سبحان الله، نية الإمام أحمد الصادقة وإخلاصه لعقيدته السلفية، لم يقف الذكر الحسن والثناء المجمع عليه على شخصه المبجل، ولكن تعدى ذلك إلى الذرية الصالحة، فكان هذا الابن البار خير خلف لسلفه، فكان شوكة في حلق المبتدعة، فنفع الله به، وجعله من أعلام رواة السنة، ومسند أبيه أكبر شاهد على ذلك، رغم ما قاله بعض المحدَثين فيه. وأما أعداء العقيدة السلفية، فيفرحون بكل جرح قيل في أئمة السلف، فلا تسأل عما يقوله الشيخ النجدي الشعوبي الجركسي الكوثري، اقرأ مقالاته وتعليقاته إن استطعت لذلك صبرا، فقراءة كلام اليهود والنصارى أهون من قراءة كلامه. نسأل الله العافية. ولهذا الإمام كتاب من أعظم المصادر السلفية في تتبع المبتدعة، وقد نفعنا الله به في هذا البحث المبارك، فأخذنا منه الشيء الكثير فيما ناسبنا، فرحمة الله عليه، ألا وهو كتاب: 'السنة'. موقفه من الجهمية: - قال الذهبي في سيره: ولعبد الله كتاب: 'الرد على الجهمية'. (¬1) - وقال: وامتنع من الأخذ عن علي بن الجعد لوقفه في مسألة القرآن. (¬2) قال محقق السير: وهذا من تشدداته التي ورثها من أبيه. قلت: ليس هذا تشددا بل هذا هو الواجب إزاء هؤلاء المبتدعة ومن يصف الإمام أحمد بالتشدد فهو صاحب هوى نسأل الله السلامة والعافية. ¬

(¬1) السير (13/ 523). (¬2) السير (13/ 517)

موقفه من القدرية:

موقفه من القدرية: أورد في كتابه 'السنة' فصلا ماتعا عن القدرية وما جاء فيهم من كلام الأئمة الكاشف لكثير من ضلالهم وانحرافهم عن أهل السنة. (¬1) أبو العباس الأَبَّار (¬2) (290 هـ) الحافظ المتقن أحمد بن علي بن مسلم، أبو العباس الأبار النخشبي، من علماء الأثر ببغداد. حدث عن مسدد وأمية بن بسطام وعلي بن الجعد ¬

(¬1) السنة له (ص 119 - 153). (¬2) تاريخ بغداد (4/ 306 - 307) وطبقات الحنابلة (1/ 52) وتاريخ دمشق (5/ 72 - 75) وتذكرة الحفاظ ... (2/ 639 - 640) والسير (13/ 443 - 444) وتاريخ الإسلام (حوادث 281 - 290/ص.73 - 74).

موقفه من المبتدعة:

وهشام بن عمار وهدبة، وخلق. وحدث عنه ابن صاعد وأبو بكر القطيعي وأبو بكر النجاد ودعلج وأبو سهل بن زياد وغيرهم. قال الخطيب البغدادي: كان ثقة حافظا متقنا، حسن المذهب. قال جعفر الخلدي: كان الأبار من أزهد الناس، استأذن أمه في الرحلة إلى قتيبة، فلم تأذن له، ثم ماتت، فخرج إلى خراسان، ثم وصل إلى بلخ، وقد مات قتيبة، فكانوا يعزونه على هذا، فقال: هذا ثمرة العلم، إني اخترت رضى الوالدة. توفي رحمه الله يوم نصف شعبان سنة تسعين ومائتين. موقفه من المبتدعة: وقال أحمد بن جعفر بن سلم: سمعت الأبار يقول: كنت بالأهواز، فرأيت رجلا قد حف شاربه وأظنه قال: قد اشترى كتبا وتعين للفتيا، فذكر له أصحاب الحديث، فقال: ليسوا بشيء، وليس يسوون شيئا. فقلت: أنت لا تحسن تصلي. قال: أنا؟ قلت: نعم، أيش تحفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا افتتحت ورفعت يديك؟ فسكت، قلت: فما تحفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سجدت؟ فسكت، فقلت: ألم أقل إنك لا تحسن تصلي؟ فلا تذكر أصحاب الحديث. (¬1) عباد بن بشار (290 هـ سنة وفاة محمد بن زكريا الغلابي) موقفه من الرافضة: قال الآجري في الشريعة أنشدنا أبو سعيد أحمد بن محمد الأعرابي مما ¬

(¬1) السير (13/ 444) والكفاية (4 - 5).

قرأناه عليه قال: أنشدنا محمد بن زكريا الغلابي، قال: أنشدنا عباد بن بشار: حتى متى عبرات العين تنحدر ... والقلب من زفرات الشوق يستعر والنفس طائرة والعين ساهرة ... كيف الرقاد لمن يعتاده السهر يا أيها الناس إني ناصح لكم ... كونوا على حذر قد ينفع الحذر إني أخاف عليكم أن يحل بكم ... من ربكم غير ما فوقها غير ما للرافض أضحت بين أظهركم ... تسير آمنة ينزو بها البطر تؤذي وتشتم أصحاب النبي وهم ... كانوا الذين بهم يستنزل المطر مهاجرون لهم فضل بهجرتهم ... وآخرون هم آووا وهم نصروا كيف القرار على من قد تنقصهم ... ظلما وليس لهم في الناس منتصر إنا إلى الله من ذل أراده بكم ... ولا مرد لأمر ساقه القدر حتى رأيت رجالا لا خلاق لهم ... من الروافض قد ضلوا وما شعروا إني أحاذر أن ترضوا مقالتهم ... أولا فهل لكم عذر فتعذروا رأى الروافض شتم المهتدين فما ... بعد الشتيمة أمر ليس يغتفر لا تقبلوا أبدا عذرا لشاتمهم ... إن الشتيمة أمر ليس يغتفر ليس الإله براض عنهم أبدا ... ولا الرسول ولا يرضى به البشر الناقضون عرى الإسلام ليس لهم ... عند الحقائق إيراد ولا صدر والمنكرون لأهل الفضل فضلهم ... والمفترون عليهم كلما ذكروا قد كان عن ذا لهم شغل بأنفسهم ... لو أنهم نظروا فيما به أمروا لكن لشقوتهم والحين يصرعهم ... قالوا ببدعتهم قولا به كفروا قالوا وقلنا وخير القول أصدقه ... والحق أبلج والبهتان منشمر

وفي علي وما جاء الثقات به ... من قوله عبر لو أغنت العبر قال الأمير علي فوق منبره ... والراسخون به في العلم قد حضروا خير البرية من بعد النبي أبو ... بكر وأفضلهم من بعده عمر والفضل بعد إلى الرحمن ... يجعله فيمن أحب فإن الله مقتدر هذا مقال علي ليس ينكره ... إلا الخليع وإلا الماجن الأشر فارضوا مقالته أولا فموعدكم ... نار توقد لا تبقي ولا تذر وإن ذكرت لعثمان فضائله ... فلن يكون من الدنيا لها خطر وما جهلت عليا في قرابته ... وفي منازل يعشو دونها البصر إن المنازل أضحت بين أربعة ... هم الأئمة والأعلام والغرر أهل الجنان كما قال الرسول لهم ... وعدا عليه فلا خلف ولا غدر وفي الزبير حواري النبي إذا ... عدت مآثره زلفى ومفتخر واذكر لطلحة ما قد كنت ذاكره ... حسن البلاء وعند الله مدكر إن الروافض تبدي من عداوتها ... أمرا تقصر عنه الروم والخزر ليست عداوتها فينا بضائرة ... لا بل لها وعليها الشين والضرر لا يستطيع شفا نفس فيشفيها ... من الروافض إلا الحية الذكر ما زال يضربها بالذل خالقها ... حتى تطاير عن أفحاصها الشعر داو الروافض بالإذلال إن لها ... داء الجنون إذا هاجت بها المرر كل الروافض حمر لا قلوب لها ... صم وعمي فلا سمع ولا بصر ضلوا السبيل أضل الله سعيهم ... بئس العصابة إن قلوا أو إن كثروا شين الحجيج فلا تقوى ولا ورع ... إن الروافض فيها الداء والدبر

محمد بن حبيب البزار (291 هـ)

لا يقبلون لذي نصح نصيحته ... فيها الحمير وفيها الإبل والبقر والقوم في ظلم سود فلا طلعت ... مع الأنام لهم شمس ولا قمر لا يأمنون وكل الناس قد أمنوا ... ولا أمان لهم ما أورق الشجر لا بارك الله فيهم لا ولا بقيت ... منهم بحضرتنا أنثى ولا ذكر (¬1) محمد بن حبيب البَزَّار (¬2) (291 هـ) أبو عبد الله محمد بن حبيب البزار، أحد الفقهاء. روى عن أحمد بن حنبل وشجاع ابن مخلد، وعنه الحسن بن أبي العنبر وغيره. وقد أثنى عليه أبو بكر الخلال الحنبلي. توفي رحمه الله سنة إحدى وتسعين ومائتين. موقفه من الرافضة: قال ابن حبيب: ومن قال الحسنى في أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد برئ من النفاق. (¬3) البُوشَنْجِي (¬4) (291 هـ) أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعيد بن عبد الرحمن بن موسى العبدي، الفقيه المالكي، البوشنجي، شيخ أهل الحديث في عصره. ولد في سنة أربع ¬

(¬1) الشريعة (3/ 571 - 573/ 2092). (¬2) تاريخ بغداد (2/ 278 - 279) وطبقات الحنابلة (1/ 293) وتاريخ الإسلام (حوادث 291 - 300/ص.259). (¬3) الشريعة (3/ 23/1291). (¬4) تهذيب الكمال (24/ 308 - 314) والسير (13/ 581 - 589) والجرح والتعديل (7/ 187) والمنتظم (6/ 48) وتذكرة الحفاظ (2/ 657 - 659) والوافي بالوفيات (1/ 342) وشذرات الذهب (2/ 205) والتقريب (2/ 50).

موقفه من الجهمية:

ومائتين. وارتحل شرقا وغربا، ولقي الكبار وجمع وصنف وسار ذكره وبعد صيته. روى عن إبراهيم بن حمزة الزبيري، وإبراهيم بن المنذر الحزامي، وأحمد ابن حنبل وغيرهم. وروى عنه محمد بن إسحاق الصاغاني، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وهما أكبر منه، وأبو حامد بن الشرقي، وأبو بكر بن إسحاق الصبغي، وابن خزيمة وغيرهم. قال دعلج: حدثني فقيه من أصحاب داود بن علي أن أبا عبد الله دخل عليهم يوما، وجلس في أخريات الناس، ثم إنه تكلم مع داود فأعجب به، وقال: لعلك أبو عبد الله البوشنجي؟ قال: نعم، فقام إليه وأجلسه إلى جنبه، وقال: قد حضركم من يفيد ولا يستفيد. وقال ابن حجر: ثقة حافظ فقيه. توفي في غرة المحرم سنة إحدى وتسعين ومائتين. وصلى عليه ابن خزيمة. موقفه من الجهمية: - قال إسحاق بن أبي إسحاق بسمرقند: سمعت أبا عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي حين سئل عن الإيمان فقال: الواجب على جميع أهل العلم والإسلام أن يلزموا القصد للاتباع، وأن يجعلوا الأصول التي نزل بها القرآن وأتت بها السنن من الرسول - صلى الله عليه وسلم - غايات العقول، ولا يجعلوا العقول غايات الأصول، فإن الله جل وعز ورسوله - صلى الله عليه وسلم - قد يفرق بين المشتبهين ويباين بين المجتمعين في المعقول تعبدا وبلوى ومحنة، ومتى ورد على المرء وارد من وجوه العلم لا يبلغه عقله أو تنفر منه نفسه، وينأى عنه فهمه وتبعد عنه معرفته، وقف عنده واعترف بالتقصير عن إدراك علمه وبالجسور عن كنه معرفته، ويعلم أن الله عز وجل ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لو كشف عن علة ذلك الحادث، وأبان

وأوضح عن سببه وعن المراد من مخرجه لأدركته عقولنا، ولو كان أتى به الحكم من الله عز وجل والأمر بتعبده إيانا مكشوفا بيانه موضوحة علته، لم يكن للعباد بلوى ولا محنة، وإنما المحن الغلاظ والبلوى الشديدة الأمور والفروض التي لا تكشف عللها ليسلم العباد لها تسليما، ويقفوا عندها إيمانا، ولولا ما وصفناه كان الذي سبق إليه فكر العقول منا، أن واجبا في كل ما سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربه عز وجل أن يجيبه وأن ينزل عليه فيه شفاءه ليزداد الناس به علما ولملكوته فهما. ولسنا نرى الأمر كذلك، فقد سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربه عز وجل عن الروح، فما أجابه قال الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (¬1) وعلى ذلك خالف ربنا بين ما أنزل من شرايعه وأعلام دينه ومعالم فروضه وعباداته في الأمم الخوالي، فأحل لطائفة ما حرمه على أمة، وحرم على أمة ما أطلقه لغيرها من أمته وحظر على آخرين ما أباحه لسواهم، وكذلك الأمر فيما أنزل من كتبه، وخالف بينهما في أحكامها كالتوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وصحف من مضى من الرسل ليسلم الموفق منهم لأمره ونهيه، فينكفئ المخذول منهم على عقبيه نفارا من التفريق بين المجتمعين، ومن الجمع بين المفترقين، وعلموا أن السلامة فيما أنزل عليهم من الاتباع والتقليد لما أمروا به، والإعراض عن طلب التكييف فيما أحل لهم وعن الغلو والإيغال في التماس نهاياتها للوقوع على أقصى مداخلها، ¬

(¬1) الإسراء الآية (85) ..

إذ كان ذلك لا يبلغ أبدا فإن دون كل بيان بيانا، وفوق كل متعلق أغمض منه، وإذ كان الأمر كذلك فالواجب الوقوف عند المستبهم منه، ومن أجل ذلك أثنى الله عز وجل على الراسخين في العلم بأنهم إذا أفضى ببعضهم الأمر إلى ما جهلوه، آمنوا به ووكلوه إلى الله عز وجل، ومن أجل ذلك ذم الله عز وجل للغالين في طلب ما زوى عنهم علمه وطوى علمه وطوى عنهم خبره فقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زيغٌ} إلى قوله: {وَمَا يذكر إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (¬1). ومن أجل بعض ما ذكرنا اشتدت الخلفاء المهديون على ذوي الجدل والكلام في الدين، وعلى ذوي المنازعات والخصومات في الإسلام والإيمان، ومتى نجم منهم ناجم في زمن أطفأوه وأخمدوا ذكره ولقوه عقوبته، فمنهم من سيره إلى طرف ومنهم من ألزمه قعر محبس إشفاقا على الدين من فتنته وحذرا على المسلمين من خدعات شبهته، كما فعله الإمام الموفق عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين سأله صبيغ عن الذاريات ذروا وأشباهه، فسَيَّره إلى الشام وزجر الناس عن مجالسته. وفعله علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعبد الله بن سبأ، فسيره إلى المداين. ولقد أتى محمد بن سيرين رجل من أهل الكلام فقال، ائذن لي أحدثك بحديث، قال لا أفعل، قال فأتلو عليك آية من كتاب الله، قال ولا هذا، فقيل له في ذلك فقال ابن سيرين لم آمن أن يذكر لي ذكرا يقدح به قلبي، وقد بين الله ما بالعباد إليه حاجة في عاجلهم ومعادهم، وأوضح لهم سبيل النجاة والهلكة، وأمر ونهى ¬

(¬1) آل عمران الآية (7).

وأحل وحرم وفرض وسن، فما أمر العباد من أمر سلموا بائتماره والعمل عليه، ما نهوا عنه من شيء سلموا بتركه وكذبه، ومتى عتوا عن ظاهر ما أمروا به ونهوا عنه ليبلغوا القصوى من غاية علم أمره ونهيه، لم يؤمن عليه الحيرة ولا غلبة الشبهة على قلبه وفهمه، ومن أجل ذلك قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: وما أنت بمحدث قوما حديثا لا يبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة. ولقد سأل سائل ابن عباس رضي الله عنهما عن آية من كتاب الله فقال: ما يؤمنك أن أخبرك بها فتكفر، وقال أيوب السختياني لا تحدثوا الناس بما يجهلون فتضروهم، وما منع الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - البيان عن بعض ما سأله إلا وقد علم أن ذلك المنع إعطاء، وأن المنع أجدى على الأمة وأسلم لهم في بدئهم وعاقبتهم، ولولا ذلك لكان من سلف من المشركين والأمم الكافرين برسلهم وأنبيائهم والمنكرين للآيات وصنوف العجائب والبينات معذورين، ولكانت الرسل في ترك إسعاف أممهم مذمومين، ولكان كل ما سألوه من آية دونها آية وفوقها أخرى حتى أفضى بعضهم إلى أن سألوا أن يروا ربهم جهرة، وسأل بعضهم رسولنا من الدليل على أمره تفجير الأنهار والينابيع فقالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} (¬1)، وما ختمت الآيات فلو كان الأمر في ذلك على عقول البشر، لقد كانوا يرون أن منعهم الدليل على صدق ما أتت به أنبياؤهم ورسلهم من غير نظر لهم، لأن زيادة البيان إلى البيان تسكين النفوس عن نظارها، وطمأنينة القلوب ¬

(¬1) الإسراء الآية (90) ..

وطيب طباع الإيمان، غير أن الله منعهم ما سألوا إذ فوق ما سألوا آيات لا يوقف على منشأها فلم يكن يجب أن لو كان ذلك كذلك إيمان على أحد، حتى يبلغ من غاية معرفة بأمور الله عز وجل، ما أحاط به علم الله. ولقد ذكر يونس بن عبد الأعلى عن الشافعي رحمه الله أنه قال: ما من ذنب يلقى الله به عبد بعد الشرك بالله أعظم من أن يلقاه بهذا الكلام قال، فقلت له فإن صاحبنا الليث بن سعد كان يقول: لو رأيت رجلا من أهل الكلام يمشي على الماء فلا تركن إليه، وذكر يونس عن الشافعي قال: مذهبي في أهل الكلام مذهب عمر في صبيغ، نقنع رؤوسهم بالسياط ويسيروا في البلاد. (¬1) - جاء في ذم الكلام: عنه قال: وهذه الفرقة، فتنتهم أقرب إلى بعض قلوب العباد، فلم يؤمن أن يستعينوا بهذه الشبه، ويستغووا بها أمثالهم من المخذولين، من أجل ذلك وجب أن يتشدد على هذه الفرق الخسيسة في التحذير عنهم والنهي عن مجالستهم وعن مجاورتهم وعن الصلاة خلفهم، وعن مخالطتهم، تنكيلا كما فعلت الأئمة الهداة مثل عمر بن الخطاب وعلي ابن أبي طالب وهلم جرا، من نفي أمثالهم وحسم رأيهم عن الأمة، والأمر بتسييرهم عن البلاد وتقنيع رؤوسهم بالسياط، وهذه فرقة مستحقة لمثله. فأما ركون أو إصغاء إلى استفتائهم، وأخذ حديث عنهم، فهو عندي من عظائم أمور الدين. (¬2) ¬

(¬1) ذم الكلام (266 - 268). (¬2) ذم الكلام (ص.268).

أبو العباس ثعلب أحمد بن يحيى (291 هـ)

" التعليق: انظر كلام خبير بأهل الضلال، يعرفهم ويعرف شبههم وأباطيلهم وأخطارهم على أمة الإسلام، اقرأ هذه الأحكام الصادرة من هذا الإمام وقارن بينها وبين ما يقوله دعاة اليوم، من أن الكلام في بيان أحوال المبتدعة يفرق الكلمة ويشتت الشمل. وكأن هؤلاء الأئمة لم تكن عندهم كلمة ولا شمل، أو كانوا مغفلين لا يعرفون شيئا عن جمع الكلمة أو تشتيتها. والله المستعان. أبو العباس ثعلب أحمد بن يحيى (¬1) (291 هـ) أحمد بن يحيى بن يزيد، أبو العباس الشيباني، العلامة، إمام الكوفيين في النحو، المشهور بثعلب. ولد سنة مئتين، وسمع من محمد بن زياد بن الأعرابي وسلمة بن عاصم والزبير بن بكار ومحمد بن سلام الجمحي. وعنه نفطويه وابن الأنباري والأخفش الصغير، ومحمد بن العباس اليزيدي وأبو عمرو الزاهد غلام ثعلب. قال الخطيب: وكان ثقة حجة، دينا صالحا، مشهورا بالحفظ وصدق اللهجة، والمعرفة بالغريب ورواية الشعر القديم، مقدما عند الشيوخ مذ هو حدث. وعن الرياشي -وسئل لما رجع من بغداد- فقال: ما رأيت أعلم من الغلام المنبز، يعني ثعلبا. توفي رحمه الله سنة إحدى وتسعين ¬

(¬1) طبقات النحويين للزبيدي (3/ 141) وتاريخ بغداد (5/ 204 - 212) طبقات الحنابلة (1/ 83 - 84) وسير أعلام النبلاء (14/ 5 - 7) وتاريخ الإسلام (حوادث 291 - 300/ص.81 - 84) غاية النهاية لابن الجزري ... (1/ 148 - 149).

موقفه من الجهمية:

ومائتين. موقفه من الجهمية: - قال اللالكائي في أصول الاعتقاد: وجدت بخط أبي الحسن الدارقطني رحمه الله عن إسحاق الهادي قال: سمعت أبا العباس ثعلب يقول: استوى أقبل عليه وإن لم يكن معوجا. {ثُمَّ استوى إلى السَّمَاءِ} (¬1): أقبل. {ثُمَّ استوى على الْعَرْشِ} (¬2): علا. واستوى وجهه: اتصل. واستوى القمر: امتلأ. واستوى زيد وعمرو: تشابها واستوى فعلهما وإن لم تتشابه شخوصهما. هذا الذي يعرف من كلام العرب. (¬3) موقفه من القدرية: - جاء في أصول الاعتقاد: قال أحمد بن يحيى بن ثعلب: القدرية من يزعم أنه يقدر. ونحن نقول: لا نقدر إلا بقدر الله وبعون الله وتوفيق الله وإن لم يفعل ذلك بنا لم نقدر فكيف يكون القدري من زعم أنه لا يقدر؟ هذا محال ضد. قال: ولا أعلم عربيا قدريا. فقيل له: يقع في قلوب العرب القدر؟ قال: معاذ الله ما في العرب إلا مثبت القدر خيره وشره أهل الجاهلية والإسلام ذلك في أشعارهم وكلامهم كثير بين ثم أنشد: تجري المقادير على غرز الإبر ... ما تنفذ الإبرة إلا بقدر ¬

(¬1) البقرة الآية (29). (¬2) الأعراف الآية (54). (¬3) أصول الاعتقاد (3/ 443/668).

إبراهيم الخواص الصوفي (291 هـ)

قال وأنشد لامرئ القيس: إن الشقاء على الأشقين مكتوب ... ............................. ثم ذكر الشيخ أبو القاسم الحافظ شواهد ذلك فقال: وقال ذو الأصبع العدواني: وليس المرء في الشيء من الإبرام والنقض ... إذا يقضي أمر إخاله يقضى ولا يقضى وقال لبيد: إن تقوى ربنا خير نفل ... وبإذن الله ريثي وعجل من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل أحمد الله ولا ند له ... بيده الخير ما شاء فعل وقال بعض رجاز الجاهلية: هي المقادير فلمني أو فذر ... إن كنت أخطأت فما أخطا القدر (¬1) إبراهيم الخواص الصوفي (¬2) (291 هـ) إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل الخواص أبو إسحاق. أحد شيوخ الصوفية له كتب مصنفة، صاحب أبا عبيد الله المغربي، وروى عنه أبو جعفر الخالدي وغيره. كان أحد المذكورين بالتوكل والسياحات. مات سنة إحدى وتسعين ومائتين. موقفه من المبتدعة: - قال إبراهيم الخواص: ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما العالم من اتبع ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 780/1309). (¬2) تاريخ بغداد (6/ 7 - 10) والأعلام (1/ 28) ومعجم المؤلفين (1/ 4).

موقفه من الجهمية:

العلم، واستعمله، واقتدى بالسنن، وإن كان قليل العلم. (¬1) - وسئل عن العافية فقال: العافية أربعة أشياء: دين بلا بدعة، وعمل بلا آفة، وقلب بلا شغل، ونفس بلا شهوة. وقال: الصبر: الثبات على أحكام القرآن والسنة. (¬2) موقفه من الجهمية: - جاء في ذم الكلام: عنه قال: ما كانت زندقة ولا كفر ولا بدعة ولا جرأة في الدين، إلا من قبل الكلام، والجدال والمراء والعجب، فكيف يجترئ الرجل على الجدال والمراء والله تعالى يقول: {مَا يجادل في آيات اللَّهِ إِلًّا الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬3).اهـ (¬4) " التعليق: وكيف يجترأ على سلوك وأسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان لم يعرفها الشرع ولا فتحت اللغة لها قاموسا؟ وإنما هو التمحل في إلحاق اشتقاق لها، كابن الزنا، كل واحد يتبرأ منه ولا يلصقه به إلا العقيم الذي يريد أن يتستر به، على أنه ذو ولد، والواقع أنه عقيم. وكذلك اسم الصوفية، لا تجد له اشتقاقا ولا جامدا أي لا مشتق له ولا جامد. وإنما هي وسوسة الهند ورهبنة النصارى. ¬

(¬1) الاعتصام (1/ 129). (¬2) الاعتصام (1/ 129). (¬3) غافر الآية (4). (¬4) ذم الكلام (ص.277).

موقف السلف من القاسم بن عبيد الله الوزير الزنديق (291 هـ)

موقف السلف من القاسم بن عبيد الله الوزير الزنديق (291 هـ) بيان زندقته: - قال النوفلي: كنت أبغضه لكفره، ولمكروه نالني منه. (¬1) - قال ابن النجار: كان جوادا ممدحا، إلا أنه كان زنديقا. (¬2) - جاء في السير: قال الصولي: حدثنا شادي المغني قال: كنت عند القاسم وهو يشرب، فقرأ عليه ابن فراس من عهد أردشير، فأعجبه، فقال له ابن فراس: هذا والله -وأومأ إلي- أحسن من بقرة هؤلاء وآل عمرانهم. وجعلا يتضاحكان. قال الصولي: وأخبرنا ابن عبدون: حدثني الوزير عباس ابن الحسن قال: كنت عند القاسم بن عبيد الله، فقرأ قارئ: {كُنْتُمْ خير أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ} (¬3) فقال ابن فراس: بنقصان ياء، فوثبت فزعا، فردني القاسم وغمزه، فسكت. الصولي: أخبرنا علي بن العباس النوبختي قال: انصرف ابن الرومي الشاعر من عند القاسم بن عبيد الله، فقال لي: ما رأيت مثل حجة أوردها اليوم الوزير في قدم العالم، وذكر أبياتا. قال الذهبي: هذه أمور مؤذنة بشقاوة هذا المعثر، نسأل الله خاتمة ¬

(¬1) السير (14/ 19). (¬2) السير (14/ 19). (¬3) آل عمران الآية (110).

عمرو بن عثمان الصوفي (291 هـ)

خير. (¬1) عمرو بن عثمان الصوفي (¬2) (291 هـ) عمرو بن عثمان بن كرب بن غصص شيخ الصوفية أبو عبد الله المكي. لقي أبا عبد الله النباجي وأبا سعيد الخراز. وروى الحديث عن محمد بن إسماعيل البخاري ويونس بن عبد الأعلى ومن في طبقتهما. وروى عنه محمد بن أحمد الأصبهاني وأبو الشيخ وجعفر الخلدي. قيل كان من أئمة الفقه، ولما ولي قضاء جدة هجره الجنيد، وكان ينكر عن الحلاج ويذمه. ومن كلامه: اعلم أن العلم قائد، والخوف سائق، والنفس بين ذلك حرون جموح خداعة رواغة، فاحذرها وراعها بسياسة العلم، وتتبعها بتهديد الخوف يتم لك ما تريد. توفي سنة إحدى وتسعين ومائتين ببغداد. موقفه من المشركين: فضحه للحلاج الزنديق: جاء في تلبيس إبليس: عن محمد بن يحيى الرازي قال: سمعت عمرو بن عثمان يلعن الحلاج ويقول: لو قدرت عليه لقتلته بيدي، فقلت: بأي شيء وجد عليه الشيخ؟ فقال: قرأت آية من كتاب الله عز وجل، فقال: يمكنني أن أقول أو أؤلف مثله وأتكلم به. (¬3) ¬

(¬1) السير (14/ 19 - 20). (¬2) الحلية (10/ 291 - 296) وتاريخ بغداد (12/ 223 - 225) والمنتظم (6/ 93) والعقد الثمين (6/ 114) والشذرات (2/ 225) والسير (14/ 57 - 58). (¬3) تلبيس إبليس (212) والسير (14/ 330).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: - قال عمرو بن عثمان المكي في كتابه الذي سماه 'التعرف بأحوال العباد والمتعبدين' قال: (باب ما يجيء به الشيطان للتائبين) وذكر أنه يوقعهم في القنوط، ثم في الغرور وطول الأمل ثم في التوحيد. فقال: من أعظم ما يوسوس في "التوحيد" بالتشكيل أو في صفات الرب بالتمثيل والتشبيه، أو بالجحد لها والتعطيل وقال بعد ذكر حديث الوسوسة: واعلم رحمك الله أن كلما توهمه قلبك، أو سنح في مجاري فكرك، أو خطر في معارضات قلبك، من حسن أو بهاء، أو ضياء أو إشراق أو إجمال، أو سنح مسائل أو شخص متمثل: فالله تعالى بغير ذلك، بل هو تعالى أعظم وأجل، وأكبر ألا تسمع لقوله:} {ليس كمثله شيءٌ} (¬1) وقوله: {وَلَمْ يكن لَهُ كُفُوًا أحدٌ} (¬2) أي لا شبيه ولا نظير ولا مساوي ولا مثل، أو لم تعلم أنه لما تجلى للجبل تدكدك لعظم هيبته؟ وشامخ سلطانه؟ فكما لا يتجلى لشيء إلا اندك، كذلك لا يتوهمه أحد إلا هلك. فرد بما بين الله في كتابه من نفسه عن نفسه التشبيه والمثل، والنظير والكفؤ. فإن اعتصمت بها وامتنعت منه أتاك من قبل التعطيل لصفات الرب -تعالى وتقدس- في كتابه وسنة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقال لك: إذا كان موصوفا بكذا أو وصفته أوجب له التشبيه فأكذبه، لأنه اللعين إنما يريد أن يستزلك ويغويك، ويدخلك في صفات الملحدين، ¬

(¬1) الشورى الآية (11). (¬2) الإخلاص الآية (4).

الزائغين، الجاحدين لصفة الرب تعالى. واعلم -رحمك الله- أن الله تعالى واحد، لا كالآحاد، فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد -إلى أن قال- خلصت له الأسماء السنية فكانت واقعة في تقديم الأزل بصدق الحقائق، لم يستحدث تعالى صفة كان منها خليا، واسما كان منه بريا، تبارك وتعالى، فكان هاديا سيهدي، وخالقا سيخلق ورازقا سيرزق، وغافرا سيغفر، وفاعلا سيفعل، ولم يحدث له الاستواء إلا وقد كان في صفة أنه سيكون ذلك الفعل، فهو يسمى به في جملة فعله. كذلك قال الله تعالى: {وَجَاءَ ربك وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (¬1) بمعنى أنه سيجيء، فلم يستحدث الاسم بالمجيء، وتخلف الفعل لوقت المجيء، فهو جاء سيجيء، ويكون المجيء منه موجودا بصفة لا تلحقه الكيفية ولا التشبيه، لأن ذلك فعل الربوبية، فيستحسر العقل، وتنقطع النفس عند إرادة الدخول في تحصيل كيفية المعبود، فلا تذهب في أحد الجانبين، لا معطلا ولا مشبها، وارض لله بما رضي به لنفسه، وقف عند خبره لنفسه مسلما، مستسلما، مصدقا، بلا مباحثة التنفير ولا مناسبة التنقير. إلى أن قال: فهو تبارك وتعالى القائل: أنا الله لا الشجرة، الجائي قبل أن يكون جائيا، لا أمره، المتجلي لأوليائه في المعاد، فتبيض به وجوههم، وتفلج به على الجاحدين حجتهم، المستوي على عرشه بعظمة جلاله فوق كل مكان -تبارك وتعالى- الذي كلم موسى تكليما. وأراه من آياته، فسمع موسى كلام الله لأنه قربه نجيا. تقدس أن يكون كلامه مخلوقا ¬

(¬1) الفجر الآية (22).

صالح بن محمد جزرة (293 هـ)

أو محدثا أو مربوبا، الوارث بخلقه لخلقه، السميع لأصواتهم، الناظر بعينه إلى أجسامهم، يداه مبسوطتان، وهما غير نعمته، خلق آدم ونفخ فيه من روحه -وهو أمره- تعالى وتقدس أن يحل بجسم أو يمازج أو يلاصق به، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، الشائي، له المشيئة، العالم، له العلم، الباسط يديه بالرحمة، النازل كل ليلة إلى سماء الدنيا ليتقرب إليه خلقه بالعبادة، وليرغبوا إليه بالوسيلة، القريب في قربه من حبل الوريد، البعيد في علوه من كل مكان بعيد، ولا يشبه بالناس. إلى أن قال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (¬1) القائل: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} (¬2) تعالى وتقدس أن يكون في الأرض كما هو في السماء جل عن ذلك علوا كبيرا. (¬3) صالح بن محمد جَزَرَة (¬4) (293 هـ) صالح بن محمد بن عمرو بن حبيب بن حسان بن المنذر بن أبي ¬

(¬1) فاطر الآية (10). (¬2) الملك الآيتان (16و17) .. (¬3) مجموع الفتاوى (5/ 62 - 65). (¬4) تاريخ بغداد (9/ 322) وسير أعلام النبلاء (14/ 23 - 33) والوافي بالوفيات (16/ 269 - 270) وشذرات الذهب (2/ 216) وتاريخ الإسلام (حوادث 291 - 300/ 161 - 167).

موقفه من الرافضة:

الأشرس، الإمام الحافظ، أبو علي الأسدي البغدادي، الملقب بجزرة. ولد سنة خمس ومائتين ببغداد. سمع من سعيد بن سليمان وعلي بن الجعد وأحمد بن حنبل وأبي خيثمة وأبي نصر التمار ويحيى بن معين، وطبقتهم. وحدث عنه مسلم بن الحجاج خارج الصحيح، وأحمد بن سهل والهيثم بن كليب وأبو النضر محمد بن محمد الفقيه وآخرون. قال الدارقطني: كان ثقة حافظا عارفا. وقال الخطيب: وكان حافظا عارفا من أئمة الحديث، وممن يرجع إليه في علم الآثار ومعرفة نقلة الأخبار. وقال أبو سعيد الإدريسي: الحافظ صالح بن محمد جزرة ما أعلم في عصره بالعراق وخراسان في الحفظ مثله، دخل ما وراء النهر، فحدث مدة من حفظه، وما أعلم أخذ عليه مما حدث خطأ، ورأيت أبا أحمد بن عدي يضخم أمره ويعظمه. توفي رحمه الله سنة ثلاث وتسعين ومائتين، وله بضع وثمانون سنة. موقفه من الرافضة: - جاء في السير: قال بكر بن محمد الصيرفي: سمعت صالحا يقول: كان عبد الله بن عمر بن أبان يمتحن أصحاب الحديث، وكان غاليا في التشيع، فقال لي: من حفر بئر زمزم؟ قلت: معاوية، قال: فمن نقل ترابها؟ قلت: عمرو بن العاص، فصاح في وقام. (¬1) - وفيها: قال علي بن محمد المروزي: حدثنا صالح بن محمد: سمعت عباد بن يعقوب -هو الرواجني الخبيث- يقول: الله أعدل من أن يدخل ¬

(¬1) السير (14/ 28).

محمد بن نصر المروزي (294 هـ)

طلحة والزبير الجنة. قلت: ويلك. ولم؟ قال: لأنهما قاتلا عليا بعد أن بايعاه. (¬1) محمد بن نصر المروزي (¬2) (294 هـ) الإمام الحافظ محمد بن نصر بن الحجاج، أبو عبد الله المروزي. ولد ببغداد سنة اثنتين ومائتين، ونشأ بنيسابور، ومسكنه سمرقند. سمع من يحيى بن يحيى وإسحاق بن راهويه وعلي بن حجر ومحمد بن عبد الله بن نمير وهدبة ومحمد بن مهران، وجماعة. وحدث عنه ولده إسماعيل بن محمد بن نصر ومحمد بن إسحاق السمرقندي وأبو العباس السراج وأبو عبد الله محمد بن الأخرم، وخلق كثير. قال الحاكم: هو الفقيه العابد العالم، إمام أهل الحديث في عصره بلا مدافعة. وقال الخطيب: كان من أعلم الناس باختلاف الصحابة ومن بعدهم. وقال ابن حزم: أعلم الناس من كان أجمعهم للسنن، وأضبطهم لها وأذكرهم لمعانيها ولأحوال الصحابة، ولا نعلم هذه الصفة أتم منها في محمد بن نصر المروزي. فلو قال قائل: ليس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث ولا لأصحابه إلا وهو عند محمد بن نصر، لما بعد عن الصدق. وقال الحافظ ابن حجر: ثقة حافظ، إمام جبل. توفي رحمه الله بسمرقند في المحرم سنة أربع وتسعين ومائتين. موقفه من المبتدعة: ¬

(¬1) السير (14/ 29). (¬2) تاريخ بغداد (3/ 315 - 318) وطبقات الشافعية (2/ 20 - 23) وسير أعلام النبلاء (14/ 33 - 40) وتهذيب التهذيب (9/ 489 - 490) وشذرات الذهب (2/ 216 - 217).

- قال رحمه الله معلقا على حديث أبي رقية تميم بن أوس الداري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" (¬1): وأما النصيحة لكتاب الله: فشدة حبه، وتعظيم قدره إذ هو كلام الخالق، وشدة الرغبة في فهمه، ثم شدة العناية في تدبره، والوقوف عند تلاوته لطلب معاني ما أحب مولاه أن يفهمه عنه، ويقوم له به بعد ما يفهمه، وكذلك الناصح من القلب، يتفهم وصية من ينصحه، وإن ورد عليه كتاب منه عُنِيَ بفهمه، ليقوم عليه بما كتب به فيه إليه، فكذلك الناصح لكتاب الله يعني يفهمه ليقوم لله بما أمر به كما يحب ويرضى، ثم ينشر ما فهم من العباد، ويديم دراسته بالمحبة له، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه. وأما النصيحة للرسول - صلى الله عليه وسلم - في حياته: فبذل المجهود في طاعته، ونصرته، ومعاونته، وبذل المال إذا أراده، والمسارعة إلى محبته. وأما بعد وفاته فالعناية بطلب سنته، والبحث عن أخلاقه، وآدابه وتعظيم أمره، ولزوم القيام به، وشدة الغضب والإعراض عن من يدين بخلاف سنته، والغضب على من ضيعها لأثرة دنيا، وإن كان متدينا بها، وحب من كان منه بسبيل من قرابة أو صهر أو هجرة، أو نصرة أو صحبة ساعة من ليل أو نهار على الإسلام والتشبه به في زيه، ولباسه. (¬2) - وقال رحمه الله في كتابه 'السنة' في معرض كلامه عن مسألة النسخ، ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (4/ 102) ومسلم (1/ 55) وأبو داود (5/ 233 - 234/ 4944) والنسائي (7/ 176/4208) عن تميم الداري. والحديث ذكره البخاري تعليقا (1/ 182). (¬2) تعظيم قدر الصلاة (2/ 693).

وذكر أقوال أهل العلم: فقالت هذه الطائفة: بين الله تبارك وتعالى أنه أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يعلم الناس الكتاب والحكمة، فالحكمة غير الكتاب، وهي: ما سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما لم يذكر في الكتاب، وكل فرض لا افتراق بينهما، لأن مجيئهما واحد، وكل أمر الله نبيه بتعليمه الخلق، فأوجب عليه الأخذ بالسنة والعمل بها، كما أوجب عليهم العمل بالكتاب فكان معنى كل واحد منهما معنى الآخر، وقد أوجب الله عز وجل طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فجعلها مفترضة على خلقه كافتراض طاعته عليهم لا فرقان بينهما في الوجوب، فما أنكرتم أن ينسخ أحدهما بالآخر، لأنه إذا نسخ القرآن بالقرآن، فإنما نسخ ما أمر به بأمره، وكذلك إذا نسخ حكما في القرآن بالسنة، فإنما ينسخ ما أمر به في كتابه بأمره على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -. ومن فرق بين ذلك، فقد قصر علمه فإن كان إنما يحملهم على ذلك تعظيم القرآن أن ينسخ أحكامه بالسنة، فالقرآن عظيم أعظم من كل شيء، لأنه كلام الله، وليس ينسخ الله كلامه فيبطله، جل عن ذلك، وإنما ينسخ المأمور به بكلامه بمأمور به في سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فالمأمور بهما متساويان، لأنهما حكمان، والقرآن أعظم من السنة، ولو جاز لمن عظم القرآن، وهو أهل أن يعظم، أن ينكر أن ينسخ الله حكما فيه بحكم في سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، لجاز له أن ينكر أن يفسر القرآن بالسنة، ويوجب أنه لا يجوز أن يترجم القرآن إلا بقرآن منزل مثله، فإن جاز هذا جاز هذا، ففي إقرارهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترجم القرآن وفسره بسنته، حجة عليهم أنهم ساووا بين القرآن والسنة في هذا المعنى، بل جعلوا السنة أعلى منه وأرفع في قياسهم، إذ كان القرآن لا يعلم بنفسه، وإنما يعلم بالسنة، لأن السنة لا تحتاج أن تفسر

موقفه من المرجئة:

بالقرآن، واحتاج العباد في القرآن إلى أن فسره لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بسنته، فقد أقروا بمثل ما أنكروا، لأنهم زعموا أنه لو كان القرآن تنسخه السنة لكان ليس بحجة، إذ كان غيره ينسخه، وإن الله عظم شأنه فقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جميعًا ولا تَفَرَّقُوا} (¬1) وجعله شفاء لما في الصدور، فأنكروا إذ عظمه الله أن تنسخه سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ثم أقروا أن عامة أحكام الله فيه وأخباره ومدحه لا تعرف إلا بالسنة. قالوا: وأما قول من خالفنا: إنه لو جاز أن ينسخ القرآن بالسنة، لجاز أن ينسخ كل أحكامه، فلا يكون لله فيه حكم يلزم، فإنه يلزمه أعظم من ذلك إذا أقر أنه لم يعرف جمل فرائض الله إلا بتفسير السنة، فكان جائزا أن يجمل الله كل فرض فيه، فلا ينقص منه شيئا حتى يجعل الله النبي - صلى الله عليه وسلم - هو المفسر لكل فرض فيه، فلا يكون لله فيه حكم يعرف إلا بالسنة، فقد أقروا بمثل ما قاسوا على من خالفهم، وزادوا معنى هو أكثر، قالوا: لأنا قلنا: إنما ينسخ الله بسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - بعض أحكام القرآن، ولا تنسخ أخباره ولا مدحه، وأقروا أن كثيرا من أخبار الله ومدحه فسرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بسنته، فهذا أكثر في المعنى مما قلنا. (¬2) موقفه من المرجئة: - حدثنا إسحاق بن منصور، ثنا أحمد بن حنبل، ثنا أبو سلمة الحراني، قال: قال مالك وشريك وأبو بكر بن عياش وعبد العزيز بن أبي سلمة وحماد ¬

(¬1) آل عمران الآية (103). (¬2) السنة (109 - 110).

ابن سلمة وحماد بن زيد: الإيمان المعرفة والإقرار والعمل، إلا أن حماد بن زيد يفرق بين الإيمان والإسلام، يجعل الإيمان خاصا والإسلام عاما. قال أبو عبد الله: قالوا: فلنا في هؤلاء أسوة وبهم قدوة، مع ما يثبت ذلك من النظر، وذلك أن الله جعل اسم المؤمن اسم ثناء وتزكية ومدحة أوجب عليه الجنة، فقال: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} (¬1) وقال: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (¬2) وقال: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} الآية (¬3) وقال: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} (¬4) وقال: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (¬5) وقال: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (¬6). قال: ثم أوجب الله النار على الكبائر، فدل بذلك على أن اسم الإيمان ¬

(¬1) الأحزاب الآيتان (43و44). (¬2) يونس الآية (2). (¬3) الحديد الآية (12). (¬4) التحريم الآية (8). (¬5) البقرة الآية (257). (¬6) التوبة الآية (72).

زائل عن من أتى كبيرة، قالوا: ولم نجد الله أوجب الجنة باسم الإسلام، فثبت أن اسم الإسلام له ثابت على حاله، واسم الإيمان زائل عنه. فإن قيل لهم في قولهم هذا: ليس الإيمان ضد الكفر. قالوا: الكفر ضد لأصل الإيمان، لأن للإيمان أصلا وفرعا، فلا يثبت الكفر حتى يزول أصل الإيمان الذي هو ضد الكفر. فإن قيل لهم: فالذي زعمتم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أزال عنه اسم الإيمان، هل فيه من الإيمان شيء؟!. قالوا: نعم، أصله ثابت، ولولا ذلك لكفر، ألم تسمع إلى ابن مسعود أنكر على الذي شهد أنه مؤمن، ثم قال: لكنا نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، يخبرك أنه قد آمن من جهة أنه قد صدق، وأنه لا يستحق اسم المؤمن إذ كان يعلم أنه مقصر، لأنه لا يستحق هذا الاسم عنده إلا من أدى ما وجب، وانتهى عما حرم عليه من الموجبات للنار التي هي الكبائر. قالوا: فلما أبان الله أن هذا الاسم يستحقه من قد استحق الجنة، وأن الله قد أوجب الجنة عليه، وعلمنا أنا قد آمنا وصدقنا، لأنه لا يخرج من التكذيب إلا بالتصديق، ولسنا بشاكين ولا مكذبين، وعلمنا أنا له عاصون مستوجبون للعذاب، وهو ضد الثواب الذي حكم الله به للمؤمنين على اسم الإيمان، علمنا أنا قد آمنا، وأمسكنا عن الاسم الذي أثبت الله عليه الحكم بالجنة، وهو من الله اسم ثناء وتزكية، وقد نهانا الله أن نزكي أنفسنا، وأمرنا بالخوف على أنفسنا، وأوجب لنا العذاب بعصياننا، فعلمنا أنا لسنا بمستحقين بأن نتسمى مؤمنين، إذ أوجب الله على اسم الإيمان الثناء والتزكية

والرحمة والرأفة والمغفرة والجنة، وأوجب على الكبائر النار، وهذان حكمان يتضادان. فإن قيل: فكيف أمسكتم عن اسم الإيمان أن تسموا به، وأنتم تزعمون أن أصل الإيمان في قلوبكم، وهو التصديق بأن الله حق، وما قاله صدق؟!. قالوا: إن الله ورسوله وجماعة المسلمين سموا الأشياء بما غلب عليها من الأسماء، فسموا الزاني فاسقا، والقاذف فاسقا، وشارب الخمر فاسقا، ولم يسموا واحدا من هؤلاء متقيا، ولا ورعا، وقد أجمع المسلمون أن فيه أصل التقى والورع، وذلك أنه يتقي أن يكفر أو يشرك بالله شيئا، وكذلك يتقي الله أن يترك الغسل من الجنابة أو الصلاة، ويتقي أن يأتي أمه، فهو في جميع ذلك متق، وقد أجمع المسلمون من المخالفين والموافقين أنهم لا يسمونه متقيا، ولا ورعا، إذا كان يأتي بالفجور، فلما أجمعوا أن أصل التقى والورع ثابت فيه، وأنه قد يزيد فيه فروعا بعد الأصل كتورعه عن إتيان المحارم، ثم لا يسمونه متقيا ولا ورعا مع إتيانه بعض الكبائر، وسموه فاسقا وفاجرا مع علمهم أنه قد أتى بعض التقى والورع، فمنعهم من ذلك أن اسم التقى اسم ثناء وتزكية، وأن الله قد أوجب عليه المغفرة والجنة. قالوا: فكذلك لا نسميه مؤمنا ونسميه فاسقا زانيا، وإن كان أصل في قلبه اسم الإيمان، لأن الإيمان اسم أثنى الله به على المؤمنين وزكاهم به، فأوجب عليه الجنة، فمن ثم قلنا: "مسلم" ولم نقل: "مؤمن". قالوا: ولو كان أحد من المسلمين الموحدين يستحق أن لا يكون في قلبه إيمان، ولا إسلام من الموحدين، لكان أحق الناس بذلك أهل النار الذين

دخلوها، فلما وجدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - يخبر أن الله يقول: "أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان" ثبت أن شر المسلمين في قلبه إيمان، ولما وجدنا الأمة يحكم عليهم بالأحكام التي ألزمها الله المسلمين، ولا يكفرونهم ولا يشهدون لهم بالجنة، ثبت أنهم مسلمون، إذ أجمعوا أن يمضوا عليهم أحكام المسلمين، وأنهم لا يستحقون أن يسموا مؤمنين، إذ كان الإسلام ثبتا للملة التي يخرج بها المسلم من جميع الملل، فتزول عنه أسماء الملل، إلا اسم الإسلام، وتثبت أحكام الإسلام عليه، وتزول عنه أحكام جميع الملل. فإن قال لهم قائل: لم لم تقولوا: كافرون إن شاء الله، تريدون به كمال الكفر، كما قلتم: مؤمنين ان شاء الله، تريدون به كمال الإيمان؟!. قالوا: لأن الكافر منكر للحق، والمؤمن أصلي الإقرار، والإنكار لا أول له ولا آخر، فينتظر به الحقائق. والإيمان أصله التصديق، والإقرار ينتظر به حقائق الأداء لما أقر، والتحقيق لما صدق، ومثل ذلك كمثل رجلين عليهما حق لرجل، فسأل أحدهما حقه، فقال: ليس لك عندي حق، فأنكر وجحد، فلم تبق له منزلة يحقق بها ما قال إذ جحد وأنكر. وسأل الآخر حقه، فقال: نعم، لك علي كذا وكذا، فليس إقراره بالذي يصل إليه بذلك حقه دون أن يوفيه وهو منتظر له أن يحقق ما قال إلا بأداءه، ويصدق إقراره بالوفاء ولو أقر، ثم لم يؤد حقه كان كمن جحده في المعنى، إذا استويا في الترك للأداء، فتحقيق ما قال: أن يؤدي إليه حقه، فإن أدى جزءا منه حقق بعض ما قال، ووفى ببعض ما أقر به، وكلما أدى جزءا ازداد تحقيقا لما أقر به، وعلى المؤمن الأداء أبدا لما

موقف السلف من زكرويه القرمطي (294 هـ)

أقر به حتى يموت، فمن ثم قلنا مؤمن إن شاء الله ولم يقل كافر إن شاء الله (¬1). موقف السلف من زكرويه القرمطي (294 هـ) بيان فضائحه وتسلطه: - قال ابن كثير: ثم دخلت سنة أربع وتسعين ومائتين. في المحرم من هذه السنة اعترض زكرويه في أصحابه إلى الحجاج من أهل خراسان وهم قافلون من مكة فقتلهم عن آخرهم وأخذ أموالهم وسبى نساءهم فكان قيمة ما أخذه منهم ألفي ألف دينار، وعدة من قتل عشرين ألف إنسان، وكانت نساء القرامطة يطفن بين القتلى من الحجاج وفي أيديهن الآنية من الماء يزعمن أنهن يسقين الجريح العطشان، فمن كلمهن من الجرحى قتلنه وأجهزن عليه، لعنهن الله ولعن أزواجهن. ذكر مقتل زكرويه لعنه الله: لما بلغ الخليفة خبر الحجيج وما أوقع بهم الخبيث جهز إليه جيشا كثيفا فالتقوا معه فاقتتلوا قتالا شديدا جدا، قتل من القرامطة خلق كثير ولم يبق منهم إلا القليل، وذلك في أول ربيع الأول منها. وضرب رجل زكرويه بالسيف في رأسه فوصلت الضربة إلى دماغه، وأخذ أسيرا فمات بعد خمسة أيام، فشقوا بطنه وصبروه وحملوه في جماعة من رؤوس أصحابه إلى بغداد، واحتوى عسكر الخليفة على ما كان بأيدي القرامطة من الأموال والحواصل، ¬

(¬1) تعظيم قدر الصلاة (2/ 512 - 517).

المكتفي بالله (295 هـ)

وأمر الخليفة بقتل أصحاب القرمطي، وأن يطاف برأسه في سائر بلاد خراسان، لئلا يمتنع الناس عن الحج. وأطلق من كان بأيدي القرامطة من النساء والصبيان الذين أسروهم. (¬1) المكتفي بالله (¬2) (295 هـ) الخليفة، أبو محمد علي بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الموفق طلحة بن المتوكل العباسي. ولد سنة أربع وستين ومائتين، وكان يضرب المثل بحسنه في زمانه، وكان رجلا ربعة ليس بالطويل ولا بالقصير، معتدل الجسم، حسن الخلق، جميل الوجه، أسود الشعر، وافر اللحية عريضها. بويع بالخلافة عند موت والده سنة تسع وثمانين، فاستخلف ستة أعوام ونصفا. قال الصولي: سمعت المكتفي يقول في علته: والله ما آسى إلا على سبعمائة ألف دينار صرفتها من مال المسلمين في أبنية ما احتجت إليها، وكنت مستغنيا عنها، أخاف أن أسأل عنها، وإني أستغفر الله منها. مات المكتفي شابا في ذي القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين. موقفه من المشركين: - قال ابن كثير: فيها -أي سنة إحدى وتسعين ومائتين-: جرت وقعة عظيمة بين القرامطة وجند الخليفة فهزموا القرامطة وأسروا رئيسهم الحسين ¬

(¬1) البداية والنهاية (11/ 107 - 108) والسير (13/ 484). (¬2) تاريخ بغداد (11/ 316 - 318) والمنتظم (13/ 77) وسير أعلام النبلاء (13/ 479 - 485) وتاريخ الإسلام (حوادث 291 - 300/ص.204 - 205) وتاريخ الخلفاء للسيوطي (376).

ابن زكرويه، ذا الشامة، فلما أسر حمل إلى الخليفة في جماعة كثيرة من أصحابه من رؤوسهم، وأدخل بغداد على فيل مشهور، وأمر الخليفة بعمل دفة مرتفعة فأجلس عليها وجيء بأصحابه فجعل يضرب أعناقهم بين يديه وهو ينظر، وقد جعل في فمه خشبة معرتضة مشدودة إلى قفاه، ثم أنزل فضرب مائتي سوط ثم قطعت يداه ورجلاه، وكوي، ثم أحرق وحمل رأسه على خشبة وطيف به في أرجاء بغداد، وذلك في ربيع الأول منها. (¬1) - جاء في السير: وسار يحيى بن زكرويه القرمطي، وحاصر دمشق، وبها طغج، فضعف عن القرامطة، فقتل يحيى في الحصار، وقام بعده أخوه الحسين، وسار المكتفي بجيوشه إلى الموصل، وتقدمه إلى حلب أبو الأغر، فبيتهم القرمطي، فقتل من المسلمين تسعة آلاف، ووصل المكتفي إلى الرقة، وعظم البلاء بالقرامطة، ثم أوقع بهم العسكر، وهربوا إلى البادية يعيثون وينهبون، وتبعهم الحسين بن حمدان وعدة أمراء يطردونهم، وكان يحيى المقتول يدعي أنه حسيني. رماه بربري بحربة، ثم قتل أخوه الحسين صاحب الشامة. (¬2) - وقال ابن كثير في حوادث سنة ثلاث وتسعين ومائتين فيها التف على أخي الحسين القرمطي المعروف بذي الشامة الذي قتل في التي قبلها خلائق من القرامطة بطريق الفرات، فعاث بهم في الأرض فسادا، ثم قصد طبرية فامتنعوا منه فدخلها قهرا فقتل بها خلقا كثيرا من الرجال، وأخذ شيئا ¬

(¬1) البداية (11/ 104). (¬2) السير (13/ 481 - 482).

الحكم الخزاعي (295 هـ)

كثيرا من الأموال، ثم كر راجعا إلى البادية، ودخلت فرقة أخرى منهم إلى هيت فقتلوا أهلها إلا القليل، وأخذوا منها أموالا جزيلة حملوها على ثلاثة آلاف بعير، فبعث إليهم المكتفي جيشا فقاتلوهم وأخذوا رئيسهم فضربت عنقه. ونبغ رجل من القرامطة يقال له الداعية باليمن، فحاصر صنعاء فدخلها قهرا وقتل خلقا من أهلها، ثم سار إلى بقية مدن اليمن فأكثر الفساد وقتل خلقا من العباد، ثم قاتله أهل صنعاء فظفروا به وهزموه، فأغار على بعض مدنها، وبعث الخليفة إليها مظفر بن حجاج نائبا، فسار إليها فلم يزل بها حتى مات. وفي يوم عيد الأضحى دخلت طائفة من القرامطة إلى الكوفة فنادوا: يا ثارات الحسين -يعنون المصلوب في التي قبلها ببغداد- وشعارهم: يا أحمد يا محمد -يعنون الذين قتلوا معه- فبادر الناس الدخول من المصلى إلى الكوفة فدخلوا خلفهم فرمتهم العامة بالحجارة فقتلوا منهم نحو العشرين رجلا، ورجع الباقون خاسئين. (¬1) الحَكَم الخُزَاعِي (¬2) (295 هـ) الحكم بن معبد بن أحمد الخزاعي، الحنفي، أبو عبد الله، فقيه محدث، من أهل أصبهان، صنف كتاب السنة. روى عن محمد بن حميد الرازي، ومحمد ابن المثنى، ونصر بن علي الجهضمي ومحمد بن يحيى بن أبي عمر العدني. ¬

(¬1) البداية والنهاية (11/ 106 - 107). (¬2) تاريخ أصبهان (1/ 301 - 351) والجواهر المضية في طبقات الحنفية (2/ 143) وشذرات الذهب (2/ 218) ومعجم المؤلفين (4/ 71).

موقفه من المبتدعة:

وروى عنه أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر المعروف بأبي الشيخ، وأبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد الحافظ. تفقه على مذهب الكوفيين، صاحب أدب وغريب، ثقة. توفي سنة خمس وتسعين ومائتين. موقفه من المبتدعة: - له من الآثار السلفية كتاب السنة ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في درء التعارض وغيره من كتبه. (¬1) وهذا الإمام من أهل أصبهان، وأهل أصبهان كانت لهم مواقف مشرفة من المبتدعة. محمد بن أحمد الترمذي (¬2) (295 هـ) هو الإمام العلامة شيخ الشافعية بالعراق في وقته، أبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر الترمذي. ولد سنة إحدى ومائتين. سكن بغداد وحدث بها عن يحيى بن بكير المصري وغيره، وكان من أهل العلم والزهد، وسمع أيضا يوسف بن عدي وإبراهيم ابن المنذر وعبيد الله القواريري. وحدث عنه أحمد ابن كامل، وأبو القاسم الطبراني، وأبو بكر بن خلاد وغيرهم. قال الدارقطني: ثقة مأمون ناسك. وكان قد اختلط في آخر عمره اختلاطا عظيما ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (17/ 223) وسماه "الرد على الجهمية"، وشذرات الذهب (2/ 218) والجواهر المضية (2/ 533) وكشف الظنون (2/ 1426) ومعجم المؤلفين (4/ 71). (¬2) طبقات الشافعية (1/ 288) وتاريخ بغداد (1/ 365 - 366) والمنتظم (13/ 77 - 78) ووفيات الأعيان (2/ 195 - 196) والوافي بالوفيات (2/ 70) واللسان (5/ 46) وشذرات الذهب (2/ 220 - 221) والسير (13/ 545 - 547).

موقفه من الرافضة:

ولم يكن للشافعية فقيه بالعراق أرأس منه، ولا أشد ورعا، وكان من التقلل على حالة عظيمة يعني في المطعم، فقرا وورعا وصبرا على الفقر، وكان لا يسأل أحدا شيئا. توفي لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرم سنة خمس وتسعين ومائتين. موقفه من الرافضة: - جاء في طبقات الشافعية: له في المقالات كتاب سماه: 'كتاب اختلاف أهل الصلاة في الأصول' وقف عليه ابن الصلاح وانتقى منه فقال: ومن خطه نقلت أن أبا جعفر قال: ما تعرض في هذا الكتاب لما يختار هو وأنه روى في أوله حديث: تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة (¬1)، عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأنه بالغ في الرد على من فضل الغنى على الفقر، وأنه نقل أن فرقة من الشيعة قالوا: أبو بكر وعمر أفضل الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، غير أن عليا أحب إلينا. قال أبو جعفر: فلحقوا بأهل البدع، حيث ابتدعوا خلاف من مضى. (¬2) موقفه من الجهمية: - قال والد أبي حفص بن شاهين: حضرت أبا جعفر، فسئل عن ¬

(¬1) أحمد (2/ 322) وأبو داود (5/ 4/4596) والترمذي (5/ 25/2640) وقال: "حديث حسن صحيح". وابن ماجه (2/ 1321/3991) وابن حبان (14/ 140/6247) و (15/ 125/6731) والحاكم (1/ 128) من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة به وقال: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي. وقال الشيخ الألباني في الصحيحة (1/ 403): "فيه نظر، فإن محمد بن عمرو فيه كلام، ولذلك لم يحتج به مسلم وإنما روى له متابعة، وهو حسن الحديث". (¬2) طبقات الشافعية (1/ 288).

عبد الله بن المعتز (296 هـ)

حديث النزول (¬1)، فقال: النزول معقول، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. (¬2) عبد الله بن المعتز (¬3) (296 هـ) الأمير الهاشمي العباسي عبد الله بن المعتز بن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد بن المهدي، أبو العباس البغدادي الأديب الشاعر. ولد سنة تسع وأربعين ومائتين، وتأدب بالمبرد وثعلب وغيرهما، وروى عنه مؤدبه ومحمد بن يحيى الصولي. قال ابن خلكان: كان أديبا بليغا شاعرا مطبوعا مقتدرا على الشعر قريب المأخذ سهل اللفظ جيد القريحة، حسن الإبداع للمعاني، مخالطا للعلماء والأدباء معدودا من جملتهم. وقال صلاح الدين الصفدي: وكان سني العقيدة منحرفا عن العلويين. وفي سنة ست وتسعين خلع المقتدر بالله وبويع لعبد الله بن المعتز، فقال: على شرط أن لا يقتل بسببي رجل مسلم، وكان حول المقتدر خواصه، فلبسوا السلاح، فتفرق عن ابن المعتز جمعه، وخاف، فاختفى، ثم قبض عليه، وقتل سرا في ربيع الآخر سنة ست وتسعين ومائتين، ودفن في خرابة بإزاء داره رحمه الله. ومن شعره: يا نفس صبرا لعل الخير عقباك مرت بنا سحرا طير، فقلت لها لكن هو الدهر فألقيه على حذر ... خانتك من بعد طول الأمن دنياك ¬

(¬1) انظر تخريجه في مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ). (¬2) السير (13/ 547). (¬3) تاريخ بغداد (10/ 95 - 101) والمنتظم (13/ 84 - 90) ووفيات الأعيان (3/ 76 - 80) والسير (14/ 42 - 44) والبداية والنهاية (11/ 115 - 117) والوافي بالوفيات (17/ 447 - 467).

موقفه من المبتدعة:

طوباك يا ليتني إياك، طوباك فرب مثلك تنزو بين أشراك ومن كلامه: "العلماء غرباء لكثرة الجهال بينهم". "النصح بين الملإ تقريع". "لا تستبطئ الإجابة للدعاء وقد سددت طريقه بالذنوب". موقفه من المبتدعة: قال عبد الله بن المعتز: لا فرق بين بهيمة تقاد وإنسان يقلد. (¬1) محمد بن داود (¬2) (297 هـ) محمد بن داود بن علي الظاهري أبو بكر الفقيه البغدادي. حدث عن أبيه وعباس الدوري وأبي قلابة الرقاشي وأحمد بن أبي خيثمة وطبقتهم. وحدث عنه نفطويه والقاضي أبو عمر محمد بن يوسف وجماعة. كان عالما بارعا أديبا شاعرا فقيها ماهرا وله بصر تام بالحديث، وبأقوال الصحابة كان يجتهد ولا يقلد أحدا. توفي في شهر رمضان سنة سبع وتسعين ومائتين رحمه الله تعالى. موقفه من الصوفية: جاء في تلبيس إبليس: عن أبي القاسم يوسف بن يعقوب النعماني قال: سمعت والدي يقول: سمعت أبا بكر محمد بن داود الفقيه الأصبهاني يقول: إن ¬

(¬1) جامع بيان العلم وفضله (2/ 989). (¬2) تاريخ بغداد (5/ 256 - 263) والسير (13/ 109 - 116) والوافي بالوفيات (3/ 58 - 61) والبداية والنهاية (11/ 117 - 118).

محمد بن أبي شيبة (297 هـ)

كان ما أنزل الله عزوجل على نبيه - صلى الله عليه وسلم - حقا، فما يقوله الحلاج باطل وكان شديدا عليه. (¬1) محمد بن أبي شَيْبَة (¬2) (297 هـ) محمد بن عثمان بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان، أبو جعفر مولى بني عبس من أهل الكوفة. سكن بغداد، وحدث بها عن أبيه وعميه أبي بكر والقاسم، وعن أحمد بن يونس اليربوعي، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، ونحوهم. وكان كثير الحديث واسع الرواية ذا معرفة وفهم، وجمع وصنف وله تاريخ كبير، ولم يرزق حظا، بل نالوا منه. روى عنه محمد بن محمد الباغندي، ويحيى بن محمد بن صاعد، وابن السماك، وأبو القاسم الطبراني، والإسماعيلي، وغيرهم. قال أبو الحسين بن المنادي: كنا نسمع الشيوخ يقولون: مات حديث الكوفة لموت محمد بن أبي شيبة ومطين وموسى بن إسحاق وعبيد بن غنام. وقال الذهبي: اتفق موت الأربعة في عام. مات ابن أبي شيبة في جمادى الأولى سنة سبع وتسعين ومائتين وقد قارب التسعين. موقفه من الجهمية: وهو غير أبي بكر صاحب المصنف وله كتاب 'العرش' وهو من خيرة الكتب التي في هذا الباب، وقد أخذ منه شيخ الإسلام الشيء الكثير، وشن ¬

(¬1) التلبيس (ص 213). (¬2) البداية والنهاية (11/ 118 - 119) والسير (14/ 21 - 23) وتاريخ بغداد (3/ 42 - 47) وتذكرة الحفاظ (2/ 661 - 662) وميزان الاعتدال (3/ 642 - 643) واللسان (5/ 280 - 281) وشذرات الذهب (2/ 226) والمنتظم (13/ 102).

عليه حملة شعواء حامل راية الجهمية الشيخ النجدي الشعوبي الجركسي المسمى "زاهد الكوثري" وهو زاهد في السنة والسلف الصالح، في كثير من مقالاته وتعاليقه. وقد حقق الكتاب رسالة علمية في الجامعة الإسلامية. - قال في كتاب العرش: ذكروا أن الجهمية يقولون ليس بين الله عز وجل وبين خلقه حجاب وأنكروا العرش وأن يكون الله هو فوقه، وفوق السموات، وقالوا: إن الله في كل مكان، وإنه لا يتخلص من خلقه، ولا يتخلص الخلق منه إلا أن يفنيهم أجمع، فلا يبقى من خلقه شيء، وهو مع الآخر، والآخر من خلقه ممتزج به، فإذا أفنى خلقه تخلص منهم وتخلصوا منه تبارك وتعالى عما يقولون علوا كبيرا. ومن قال بهذه المقالة فإلى التعطيل يرجع قولهم. وقد علم العالمون أن الله قبل أن يخلق خلقه قد كان متخلصا من خلقه بائنا منهم، فكيف دخل فيهم؟ تبارك وتعالى أن يوصف بهذه الصفة. بل هو فوق العرش كما قال، محيط بالعرش، متخلص من خلقه، بائن منه. علمه في خلقه لا يخرجون من علمه، وقد أخبرنا عز وجل أن العرش كان قبل خلق السموات والأرض على الماء، وأخبرنا عز وجل أنه صار من الأرض إلى السماء ومن السماء إلى العرش فاستوى على العرش، قال عز وجل: {وكان عَرْشُهُ على الْمَاءِ} (¬1)، وقال: {قُلْ أئنكم لَتَكْفُرُونَ ¬

(¬1) هود الآية (7).

بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (¬1). ثم قال جل وعز: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} (¬2). وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ} (¬3). ففسرت العلماء قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} يعني: علمه. وقال عز وجل: {الرحمن على العرش استوى} (¬4)، فالله تعالى استوى على العرش يرى كل شيء في السموات والأرضين، ويعلم ويسمع كل ذلك بعينه وهو فوق العرش، لا الحجب التي احتجب بها عن خلقه ¬

(¬1) فصلت الآيات (9 - 11). (¬2) المجادلة الآية (7). (¬3) الحديد الآية (4). (¬4) طه الآية (5).

تحجبه من أن يرى ويسمع ما في الأرض السفلى، ولكنه خلق الحجب وخلق العرش كما خلق الخلق لما شاء كيف شاء ما يحمله إلا عظمته فقال: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} (¬1)، وقال جل وعز: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (¬2)، وقال عز وجل: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬3)، وقال: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (¬4). وأجمع الخلق جميعا أنهم إذا دعوا الله جميعا رفعوا أيديهم إلى السماء، فلو كان الله عز وجل في الأرض السفلى ما كانوا يرفعون أيديهم إلى السماء وهو معهم على الأرض. ثم توافرت الأخبار على أن الله تعالى خلق العرش فاستوى عليه بذاته ثم خلق الأرض والسماوات، فصار من الأرض إلى السماء، ومن السماء إلى العرش. فهو فوق السماوات وفوق العرش بذاته متخلصا من خلقه بائنا منهم، ¬

(¬1) السجدة الآية (5). (¬2) فاطر الآية (10). (¬3) آل عمران الآية (55). (¬4) النساء الآيتان (157و158).

محمد بن يحيى المروزي (298 هـ)

علمه في خلقه لا يخرجون من علمه. (¬1) محمد بن يحيى المروزي (¬2) (298 هـ) محمد بن يحيى بن سليمان المروزي ثم البغدادي أبو بكر الشيخ المحدث. سمع عاصم بن علي وأبا عبيد القاسم بن سلام وعلي بن الجعد وغيرهم. وروى عنه النجاد وأبو بكر الشافعي والطبراني وآخرون. قال عنه ابن الجزري: مقرئ محدث مشهور روى القراءة عرضا عن محمد بن سعدان وغيره. وقال الدارقطني: صدوق. مات في شوال سنة ثمان وتسعين ومائتين. موقفه من الجهمية: قال الذهبي في السير في ترجمة مصعب بن عبد الله بن مصعب: وثقه الدارقطني. ومنهم من تكلم فيه لأجل وقفه في مسألة القرآن. قال أبو بكر المروزي: كان من الواقفة، فقلت له: قد كان وكيع وأبو بكر بن عياش، يقولان: القرآن غير مخلوق، قال: أخطأ وكيع وأبو بكر. قلت: فعندنا عن مالك أنه قال: غير مخلوق، قال: أنا لم أسمعه، قلت: يحكيه إسماعيل بن أبي أويس. قال الحسين بن قهم: كان مصعب إذا سئل عن القرآن، يقف ويعيب من لا يقف. (¬3) ¬

(¬1) كتاب العرش (276 - 292). (¬2) السير (14/ 48 - 49) وتاريخ بغداد (3/ 422 - 423) وتهذيب الكمال (26/ 612 - 614) وتهذيب التهذيب (9/ 510) وغاية النهاية في طبقات القراء (2/ 276 - 277) وشذرات الذهب (2/ 231). (¬3) السير (11/ 30).

أبو عثمان الحيري الصوفي (298 هـ)

أبو عثمان الحيري الصوفي (¬1) (298 هـ) الشيخ المحدث أبو عثمان سعيد بن إسماعيل بن سعيد النيسابوري الحيري الصوفي. ولد سنة ثلاثين ومائتين بالري فسمع بها من محمد بن مقاتل الرازي وموسى بن نصر وبالعراق من حميد بن الربيع ومحمد بن إسماعيل الأحمسي وعدة. سمع من أبي جعفر بن حمدان صحيحه المخرج على مسلم بلفظه وكان إذا بلغ سنة لم يستعملها وقف عندها حتى يستعملها. حدث عنه أبو عمرو أحمد بن نصر وأبو عمرو بن مطر وإسماعيل بن نجيد وعدة. قال أبو الحسين أحمد بن أبي عثمان توفي أبي لعشر بقين من ربيع الاخر سنة ثمان وتسعين ومائتين وصلى عليه الأمير أبو صالح. موقفه من المبتدعة: قال أبو عمرو بن حمدان: سمعته يقول: من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه، نطق بالبدعة، قال تعالى: {وَإِنْ تطيعوه تهتدوا} (¬2). اهـ (¬3) قال الذهبي عقبه: وقال تعالى: {ولا تَتَّبِعِ الهوى فيضلك عن ¬

(¬1) السير (14/ 62 - 66) ووفيات الأعيان (2/ 369 - 370) والحلية (10/ 244 - 246) والأنساب (2/ 298 - 299) وتاريخ بغداد (9/ 99 - 102). (¬2) النور الآية (54). (¬3) السير (14/ 63 - 64) ومجموع الفتاوى (11/ 210).

موقف السلف من ابن الراوندي الزنديق الكبير (298 هـ)

سبيل اللَّهِ} (¬1). موقف السلف من ابن الراوندي الزنديق الكبير (298 هـ) بيان زندقته: -جاء في البداية والنهاية: أحد مشاهير الزنادقة، كان أبوه يهوديا فأظهر الإسلام، ويقال إنه حرف التوراة كما عادى ابنه القرآن بالقرآن، وألحد فيه، وصنف كتابا في الرد على القرآن سماه 'الدامغ'. وكتابا في الرد على الشريعة والاعتراض عليها سماه 'الزمردة'، وكتابا يقال له 'التاج' في معنى ذلك وله كتاب 'الفريد' وكتاب 'إمامة المفضول الفاضل' وقد انتصب للرد على كتبه هذه جماعة منهم: الشيخ أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي، شيخ المعتزلة في زمانه وقد أجاد في ذلك وكذلك ولده أبو هاشم عبد السلام ابن أبي علي، قال الشيخ أبو علي: قرأت كتاب هذا الملحد الجاهل السفيه ابن الراوندي، فلم أجد فيه إلا السفه والكذب والافتراء قال: وقد وضع كتابا في قدم العالم ونفي الصانع وتصحيح مذهب الدهرية والرد على أهل التوحيد، ووضع كتابا في الرد على محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سبعة عشر موضعا، ونسبه إلى الكذب يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - وطعن على القرآن ووضع كتابا لليهود والنصارى وفضل دينهم على المسلمين والإسلام، يحتج لهم فيها على إبطال نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، إلى غير ذلك من الكتب التي تبين خروجه عن ¬

(¬1) ص الآية (26).

الإسلام. نقل ذلك ابن الجوزي عنه. وقد أورد ابن الجوزي في منتظمه طرفا من كلامه وزندقته، وطعنه على الآيات والشريعة، ورد عليه في ذلك وهو أقل وأخس وأذل من أن يلتفت إليه وإلى جهله وكلامه وهذيانه وسفهه وتمويهه. وقد أسند إليه حكايات من المسخرة والاستهتار والكفر والكبائر، منها ما هو صحيح عنه ومنها ما هو مفتعل عليه ممن هو مثله، وعلى طريقه ومسلكه في الكفر والتستر في المسخرة يخرجونها في قوالب مسخرة وقلوبهم مشحونة بالكفر والزندقة، وهذا كثير موجود فيمن يدعي الإسلام وهو منافق، يتمسخرون بالرسول ودينه وكتابه، وهؤلاء ممن قال الله تعالى فيهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (¬1). وقد كان أبو عيسى الوراق مصاحبا لابن الراوندي قبحهما الله، فلما علم الناس بأمرهما طلب السلطان أبا عيسى فأودع السجن حتى مات، وأما ابن الراوندي فهرب، فلجأ إلى ابن لاوي اليهودي، وصنف له في مدة مقامه عنده كتابه الذي سماه 'الدامغ للقرآن' فلم يلبث بعده إلا أياما يسيرة حتى مات لعنه الله. ويقال إنه أخذ وصلب. قال أبو الوفاء بن عقيل: ورأيت في كتاب محقق أنه عاش ستا وثلاثين سنة مع ما انتهى إليه من التوغل في ¬

(¬1) التوبة الآيتان (65و66).

المخازي في هذا العمر القصير لعنه الله وقبحه، ولا رحم عظامه. (¬1) جاء في السير في ترجمته: الملحد، عدو الدين، أبو الحسين أحمد بن يحيى ابن إسحاق الريوندي، صاحب التصانيف في الحط على الملة، وكان يلازم الرافضة والملاحدة، فإذا عوتب قال: إنما أريد أن أعرف أقوالهم. ثم إنه كاشف وناظر، وأبرز الشبه والشكوك. (¬2) قال ابن الجوزي: وقد كنت أسمع عنه بالعظائم حتى رأيت ما لم يخطر مثله على قلب أن يقوله عاقل، ووقعت على كتبه فمنها: كتاب 'نعت الحكمة'، وكتاب 'قضيب الذهب'، وكتاب 'الزمرد' وكتاب 'التاج'، وكتاب 'الدامغ'، وكتاب 'الفريد'، وكتاب 'إمامة المفضول'. وقد نقض عليه هذه الكتب جماعة فأما كتاب نعت الحكمة، وكتاب قضيب الذهب، وكتاب التاج، وكتاب الزمرد والدامغ فنقضها عليه أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي، وقد نقض عليه أيضا كتاب الزمرد أبو الحسين عبد الرحيم بن محمد الخياط، ونقض عليه أيضا كتاب إمامة المفضول. (¬3) - قال ابن عقيل: عجبي كيف لم يقتل وقد صنف الدامغ يدمغ به القرآن، والزمردة يزري فيه على النبوات. (¬4) - قال ابن الجوزي: وقد نظرت في كتاب الزمرد فرأيت فيه من ¬

(¬1) البداية والنهاية (11/ 120 - 121). (¬2) السير (14/ 59). (¬3) المنتظم (13/ 108 - 109). (¬4) السير (14/ 60).

الهذيان البارد الذي لا يتعلق بشبهه، حتى أنه لعنه الله قال فيه: نجد في كلام أكثم بن صيفي أحسن من {إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَرَ} (¬1) في نظائر لهذا. وفيه أن الأنبياء وقعوا بطلسمات. (¬2) - قال أبو العباس ابن القاص الفقيه: كان ابن الراوندي لا يستقر على مذهب ولا نحلة، حتى صنف لليهود كتاب النصرة على المسلمين لدراهم أعطيها من يهود. فلما أخذ المال، رام نقضها، فأعطوه مئتي درهم حتى سكت. (¬3) قال البلخي: لم يكن في نظراء ابن الراوندي مثله في المعقول، وكان أول أمره حسن السيرة، كثير الحياء، ثم انسلخ من ذلك لأسباب، وكان علمه فوق عقله. (¬4) قال ابن الجوزي: وقد ذكر في كتاب 'الدامغ' من الكفر أشياء تقشعر منها الجلود، غير أني آثرت أن أذكر منها طرفا ليعرف مكان هذا الملحد من الكفر، ويستعاذ بالله سبحانه من الخذلان فمن ذلك أنه قال عن الخالق تعالى عن ذلك: من ليس عنده من الدواء إلا القتل فعل العدو الحنق الغضوب، فما حاجته إلى كتاب ورسول؟ وهذا قول جاهل بالله سبحانه لأنه لا يوصف بالحنق ولا بالحاجة وما عاقب حتى أنذر. وقال لعنه الله ووجدناه يزعم أنه ¬

(¬1) الكوثر الآية (1). (¬2) المنتظم (13/ 110). (¬3) السير (14/ 61). (¬4) السير (14/ 61).

يعلم الغيب، فيقول: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ ورقةٍ إِلًّا يعلمها} (¬1) ثم يقول: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عليها إِلًّا لِنَعْلَمَ} (¬2). وهذا جهل منه بالتفسير ولغة العرب، وإنما المعنى ليظهر ما علمناه، ومثله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ} (¬3) أي نعلم ذلك واقعا. وقال بعض العلماء: حتى يعلم أنبياؤنا والمؤمنون به. وقال في قوله: {إِنَّ كيد الشيطان كَانَ ضعيفًا} (¬4) أي أضعف له، وقد أخرج آدم وأزل خلقا. وهذا تغفل منه، لأن كيد إبليس تسويل بلا حجة والحجج ترده، ولهذا كان ضعيفا، فلما مالت الطباع إليه آثر وفعل. وقال: من لم يقم بحساب ستة تكلم بها في الجملة فلما صار إلى التفاريق وجدناه قد غلط فيها باثنين وهو قوله: {خَلَقَ الأرض في يومين} (¬5) ثم قال: {وقدر فيها أَقْوَاتَهَا في أربعة أيامٍ} (¬6) ثم قال: {فقضاهن سبع سموات في يومين} (¬7)، فعدها هذا المغفل ثمانية ولو نظر في أقوال العلماء لعلم أن المعنى في تتمة أربعة أيام. وقال: في قوله: {إِنَّ لَكَ ألا تَجُوعَ ولا تعرى} (¬8) وقد جاع ¬

(¬1) الأنعام الآية (59). (¬2) البقرة الآية (143). (¬3) محمد الآية (31). (¬4) النساء الآية (76). (¬5) فصلت الآية (9). (¬6) فصلت الآية (10). (¬7) فصلت الآية (12). (¬8) طه الآية (118) ..

وعري وهذا المغفل الملعون ما فهم أن الأمر مشروط بالوفاء بما عوهد عليه من قوله: {ولا تَقْرَبَا هذه الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} (¬1) وقال في قوله: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يفقهوه} (¬2) ثم قال: {وربك الغفور ذو الرحمة} (¬3) فأعظم الخطوب ذكره الرحمة مضموما إلى إهلاكهم. وهذا الأبله الملعون ما علم أنه لما وصف نفسه بالمعاقبة للمذنبين فانزعجت القلوب ضم إلى ذلك ذكر الرحمة بالحلم عن العصاة والإمهال والمسامحة في أكثر الكسب ... قال الملعون: ومن الكذب قوله: {ولقد خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صورناكم ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسجدوا لأدم} (¬4) وهذا كان قبل تصوير آدم. وهذا الأحمق الملعون لو طالع أقوال العلماء وفهم سعة اللغة علم أن المعنى خلقنا آدم وصورناه كقوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ} (¬5). وقال: من فاحش ظلمه قوله: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها} (¬6) فعذب جلودا لم تعصه. وهذا الأحمق الملعون لا يفهم أن الجلد آلة للتعذيب، فهو كالحطب يحرق لانضاج غيره، ولا يقال أنه معذب، وقد قال العلماء: ¬

(¬1) البقرة الآية (35). (¬2) الإسراء الآية (46). (¬3) الكهف الآية (58). (¬4) الأعراف الآية (11). (¬5) الحاقة الآية (11). (¬6) النساء الآية (56).

إن الجلود الثانية هي الأولى أعيدت كما يعاد الميت بعد البلى. قال: وقوله: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أشياء إِنْ تبد لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (¬1) وإنما يكره السؤال رديء السلعة لئلا تقع عليه عين التاجر فيفتضح. فانظروا إلى عامية هذا الأحمق الملعون وجهله، أتراه قال: لا تسألوا عن الدليل على صحة قولي؟ إنما كانوا يسألون فيقول قائلهم: من أبي؟ فقال: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أشياء} يعني من هذا الجنس، فربما قيل للرجل أبوك فلان وهو غير أبيه الذي يعرف فيفتضح. قال: ولما وصف الجنة، قال: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} (¬2) وهو الحليب، ولا يكاد يشتهيه إلا الجياع، وذكر العسل ولا يطلب صرفا، والزنجبيل وليس من لذيذ الأشربة، والسندس يفرش ولا يلبس، وكذلك الاستبرق الغليظ، قال: ومن تخايل أنه في الجنة يلبس هذا الغليظ ويشرب الحليب والزنجبيل صار كعروس الأكراد والنبط. فانظروا إلى لعب هذا الملعون المستهزئ وجهله ومعلوم أن الخطاب إنما هو للعرب وهم يؤثرون ما وصف، كما قال: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} (¬3)، ثم إنما وصف أصول الأشياء المتلذذ بها، فالقدرة قد تكون من اللبن أشياء كالمطبوخات وغيرها ومن العسل أشياء يتحلى بها، ثم قال عز وجل: {وفيها ¬

(¬1) المائدة الآية (101). (¬2) محمد الآية (15). (¬3) الواقعة الآيتان (28و29).

ما تشتهيه الأنفس وتلذ الْأَعْيُنُ} (¬1) وقال: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" (¬2) فوصف ما يعرف ويشتهى وضمن ما لا يعرف؛ وقال: إنما أهلك ثمودا لأجل ناقة، وما قدر ناقة؟ وهذا جهل منه الملعون. فإنه إنما أهلكهم لعنادهم وكفرهم في مقابلة المعجزة، لا لإهلاك ناقة. قال: وقال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} (¬3) ثم قال: {لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} (¬4). ولو فهم أن الإسراف الأول في الخطايا دون الشرك، والثاني في الشرك، وما يتعلق بكل آية يكشف معناها. قال: ووجدناه يفتخر بالفتنة التي ألقاها بينهم كقوله: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} (¬5) {ولقد فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (¬6)، ثم أوجب للذين فتنوا المؤمنين عذاب الأبد. وهذا الجاهل الملعون لا يدري أن الفتنة كلمة يختلف معناها في القرآن، فالفتنة معناها: الابتلاء، كالآية الأولى، والفتنة الإحراق كقوله: {فَتَنُوا ¬

(¬1) الزخرف الآية (71). (¬2) أحمد (2/ 313) والبخاري (8/ 661/4779) ومسلم (4/ 2174/2824) والترمذي (5/ 323/3197) وابن ماجه (2/ 1447/4328) من حديث أبي هريرة. (¬3) الزمر الآية (53) .. (¬4) غافر الآية (28). (¬5) الأنعام الآية (53). (¬6) العنكبوت الآية (3).

الْمُؤْمِنِينَ} (¬1). وقال: وقوله: {وَلَهُ أسلم مَنْ في السَّمَاوَاتِ والأرض} (¬2) خبر محال، لأنه ليس كل الناس مسلمين، وكذلك قوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلًّا يسبح بحمده} (¬3) وقوله: {وَلِلَّهِ يسجد ما في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأرض} (¬4) ولو أن هذا الزنديق الملعون طالع التفسير وكلام العرب لما قال هذا، إنما يتكلم بعاميته وحمقه، وإنما المعنى وله أسلم استسلم والكل منقاد لما قضى به وكل ذليل لأمره، وهو معنى السجود؛ ثم قد تطلق العرب لفظ الكل وتريد البعض كقوله: {تدمر كُلَّ شَيْءٍ} (¬5) وقد ذكر الملعون أشياء من هذا الجنس مزجها بسوء الأدب، والانبساط القبيح، والذكر للخالق سبحانه وتعالى بما لا يصلح أن يذكر به أحد العوام، وما سمعنا أن أحدا عاب الخالق وانبسط كانبساط هذا اللعين قبله ويلومه، لو جحد الخالق كان أصلح له من أن يثبت وجوده، ثم يخاصمه ويعيبه وليس له في شيء مما قاله شبهة، فضلا عن حجة فتذكر ويجاب عنها، وإنما هو خذلان فضحه الله تعالى به في الدنيا، والله تعالى يقابله يوم القيامة مقابلة تزيد على مقابلة إبليس، وإن خالف، لكنه ¬

(¬1) البروج الآية (10). (¬2) آل عمران الآية (83). (¬3) الإسراء الآية (44). (¬4) النحل الآية (49). (¬5) الأحقاف الآية (25) ..

احترم في الخطاب كقوله: {فبعزتك} (¬1) ولم يواجه بسوء أدب كما واجه هذا اللعين، جمع الله بينهما، وزاد هذا من العذاب. وقد حكينا عن الجبائي أن ابن الريوندي مرض ومات، ورأيت بخط ابن عقيل أنه صلبه بعض السلاطين والله أعلم. (¬2) فائدة: قال الحافظ ابن كثير: وقد ذكره ابن خلكان في الوفيات وقلس عليه ولم يجرحه بشيء، ولا كأن الكلب أكل له عجينا، على عادته في العلماء والشعراء، فالشعراء يطيل تراجمهم، والعلماء يذكر لهم ترجمة يسيرة، والزنادقة يترك ذكر زندقتهم. (¬3) " التعليق: وهذا الذي يبكي عليه الإمام ابن كثير وابن الجوزي وابن عقيل، وما فعله هذا السلطان الذي لم نحظ باسمه، وكان التقصير مني في التنقيب عليه، ولعل الله يوفق لذلك في فسحة من العمر. نحن الآن نعايشه وأصبح أهله أكثر من الذباب والحشرات المؤذية، وأكثرها من نوع الأفاعي الصحراوية المسمومة سما خاصا بطيئا فيها. ومعاملة أكثر أهل هذا الزمان -الذين يدعون أنهم حماة الإسلام- لهؤلاء الزنادقة من أحسن ما يكون، المساعدة المادية واللقاءات الشخصية المصحوبة بالابتسامة وتهليل سرائر الوجه، كأنه مذهبة ¬

(¬1) ص الآية (82). (¬2) المنتظم (13/ 112 - 117). (¬3) البداية والنهاية (11/ 121).

ابن كيسان (299 هـ)

وإعطاؤهم كل ما يحتاجون إليه من رخص لفتح أي مشروع يريدونه لنشر زندقتهم وإلحادهم -جرائد مجلات مطبعات نوادي وكل ما يريدون- فليقارن العاقل اللبيب بين الأمس واليوم، يجد الفرق واضحا والله المستعان. ابن كَيْسَان (¬1) (299 هـ) هو أبو الحسن البغدادي محمد بن أحمد بن كيسان النحوي أحد حفاظه والمكثرين منه كان يحفظ طريقة البصريين والكوفيين معا، قال ابن مجاهد: كان ابن كيسان أنحى من الشيخين المبرد وثعلب، وهما من شيوخه له تصانيف في القراءات والغريب والنحو. وكان من جلة النحويين. توفي سنة تسع وتسعين ومائتين. موقفه من الجهمية: - قال أبو عمر: وسمعت ابن كيسان وسأله رجل، فقال له: ما تقول في القرآن؟ فقال له ابن كيسان: أقول: إن الله أمر وهو الخالق، وأقول: إن العبد مأمور وهو مخلوق، وأقول: إن القرآن أمره لا خالق ولا مخلوق. ثم قال ابن كيسان: هذا مذهب العلماء أهل الإسلام وهو مذهب أحمد بن حنبل وثعلب وأصحاب الحديث. (¬2) ¬

(¬1) طبقات النحويين واللغويين (153) والبداية والنهاية (11/ 125) وشذرات الذهب (2/ 232) والوافي بالوفيات (2/ 31 - 32) وتاريخ بغداد (1/ 335). (¬2) الإبانة (2/ 14/292 - 293/ 462).

ابن البرذون (299 هـ)

ابن البرذون (¬1) (299 هـ) إبراهيم بن محمد بن البرذون الضبي أبو إسحاق الإمام المفتي. روى عن أبي عثمان ابن الحداد وعيسى بن مسكين ويحيى بن عمر وجماعة. قال القاضي عياض: كان يقول: إني أتكلم في تسعة عشر فنا من العلم، قال الخراط: كان ابن البرذون بارعا في العلم يذهب مذهب النظر لم يكن في شباب عصره أقوى على الجدل وإقامة الحجة منه. لما جرد للقتل قيل: أترجع عن مذهبك؟ قال: أعن الإسلام أرجع؟ ثم صلب من طرف الشيعة في سنة تسع وتسعين ومائتين. موقفه من الرافضة: - جاء في السير: وكان مناقضا للعراقيين، فدارت عليه دوائر في أيام عبيد الله، وضرب بالسياط، ثم سعوا به عند دخول الشيعي إلى القيروان، وكانت الشيعة تميل إلى العراقيين لموافقتهم لهم في مسألة التفضيل ورخصة مذهبهم، فرفعوا إلى أبي عبد الله الشيعي: أن ابن البرذون وأبا بكر بن هذيل يطعنان في دولتهم، ولا يفضلان عليا. فحبسهما، ثم أمر متولي القيروان أن يضرب ابن هذيل خمس مئة سوط، ويضرب عنق ابن البرذون، فغلط المتولي فقتل ابن هذيل، وضرب ابن البرذون، ثم قتله من الغد. وقيل لابن البرذون لما جرد للقتل: أترجع عن مذهبك؟ قال: أعن الإسلام أرجع؟ ثم صلبا في سنة تسع وتسعين ومئتين. وأمر الشيعي الخبيث أن لا يفتى بمذهب مالك، ولا ¬

(¬1) السير (14/ 215 - 217) ومعالم الإيمان (2/ 261 - 265) والديباج المذهب (1/ 266 - 267) وترتيب المدارك (5/ 117 - 121) ورياض النفوس (2/ 47 - 51).

موقفه من الجهمية:

يفتى إلا بمذهب أهل البيت، ويرون إسقاط طلاق البتة، فبقي من يتفقه لمالك إنما يتفقه خفية. (¬1) موقفه من الجهمية: - جاء في 'معالم الإيمان' للدباغ: وكان فقيها بارعا في العلم، يذهب مذهب النظر من رجال أبي عثمان سعيد بن الحداد، لم يكن في شباب عصره أقوى على الجدل والمناظرة وإقامة الحجة على المخالفين منه. قلت: ما ذكر هو لفظ المالكي، وكان يقول: نتكلم في تسعة عشر فنا من العلم، وكان شديد التحنك للعراقيين والمناظرة، فدارت عليه بذلك دوائر في دولتهم، ضربه مرة بالسياط محمد بن أسود الصديني إذ كان قاضيا وكان الصديني يصرح بخلق القرآن، ثم سعى عليه العراقيون عند دخول الشيعي القيروان لموافقتهم إياه في مسألة التفضيل ورخصة مذهبهم. (¬2) " التعليق: هذه البدعة المشئومة لم تترك مكانا إلا ودخلته، وأفسدت أهله، ووجدت من ينصرها ويتعاون مع سلالة اليهود في ضرب علماء المسلمين، فلذا المبتدعة على جميع أنواعهم يؤمنون بالتعاون مع أي إنسان أو فرقة ضالة أو ديانة خارج الإسلام ففي هذه المواقف عبرة لمن اعتبر. ¬

(¬1) السير (14/ 216). (¬2) معالم الإيمان للدباغ (261 - 262).

أبو بكر بن هذيل (299 هـ)

أبو بكر بن هُذَيْل (¬1) (299 هـ) الفقيه أبو بكر بن هذيل. سمع من عيسى بن مسكين ويحيى بن عمر وجبلة بن حمود وغيرهم. كان فقيها زاهدا صالحا متقشفا. قال أبو الحسن القابسي: كان أبو بكر بن هذيل من المتورعين، وإنما كان عيشه من غزل امرأته، كانت تشتري الكتان، فتغزله، وتنسج منه أبدانا، فتبيعها، فما كان فيها من فضل تقوتا به، واشتريا برأس المال كتانا، فمن ذلك كان عيشهما. قتل ابن أبي خنزير أبا بكر بن هذيل بأمر من أبي عبد الله الشيعي مع أبي إسحاق ابن البرذون، وذلك سنة تسع وتسعين ومائتين. موقفه من الرافضة: - جاء في معالم الإيمان: قال المالكي: قال أبو عبد الله محمد بن خراسان: لما وصل عبد الله إلى رقادة أرسل إلى القيروان من أتاه بابن البرذون وابن هذيل فلما وصلا إليه وجداه على سرير ملكه جالسا وعن يمينه أبو عبد الله الشيعي وعن يساره أبو العباس أخوه، فلما وقفا بين يديه قال لهما أبو عبد الله وأبو العباس: أشهد أن هذا رسول الله وأشار إلى عبيد الله، فقالا جميعا بلفظ واحد: والله الذي لا إله إلا هو لو جاءنا هذا والشمس عن يمينه والقمر عن يساره، يقولان إنه رسول الله ما قلنا إنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمر عبيد الله بذبحهما حينئذ جميعا وأمر بربطهما إلى أذناب البغال. (¬2) ¬

(¬1) رياض النفوس (2/ 49 - 51) ومعالم الإيمان (2/ 266 - 269) وترتيب المدارك (5/ 121 - 123). (¬2) معالم الإيمان (2/ 263) والسير (14/ 216 - 217).

جبلة بن حمود بن عبد الرحمن (299 هـ)

وفيها: قتل ابن أبي خنزير أبا بكر بن هذيل بأمر أبي عبد الله الشيعي مع أبي إسحاق ابن البرذون، وذلك أنه أشاع الحجة التي احتج بها ابن البرذون في الناس، من أن عليا كان يقيم الحدود بين يدي عمر رضي الله عنهما حتى فهم منه الشيعي أنه قصد نقص علي بذلك هو وابن البرذون، ومذهب أبي العباس الشيعي، مذهب الإمامية، تفضيل علي على سائر الصحابة ويرى أن من تنقصه أو أحدا من نسل فاطمة رضي الله عنها فإنه مباح الدم، فلأجل ذلك قتلهما معا وربطهما إلى أذناب البغال سنة تسع وتسعين كما تقدم. (¬1) جبلة بن حمود بن عبد الرحمن (¬2) (299 هـ) جبلة بن حمود بن عبد الرحمن الكوفي أبو يوسف. أسلم جده على يد عثمان بن عفان رضي الله. سمع من سحنون وعون وأبي إسحاق البرقي وغيرهم من الإفريقيين والمصريين. وروى عن سحنون المدونة والموطأ والمختلطة. روى عنه أبو العرب وهبة الله بن أبي عقبة وعبد الله بن سعد. وكان من أهل الخير البين والعبادة الظاهرة والورع والزهد. وقال فيه سحنون: إن عاش هذا الشاب فسيكون له نبأ. وتوفي سنة تسع وتسعين ومائتين وصلى عليه محمد بن محمد بن سحنون في مصلى العيد لكثرة من اجتمع من الناس، ومولده رحمه الله سنة ¬

(¬1) معالم الإيمان (2/ 268 - 269). (¬2) شجرة النور الزكية (1/ 74) وترتيب المدارك (2/ 513 - 517) والديباج المذهب (1/ 323 - 324).

موقفه من الرافضة:

عشر ومائتين. موقفه من الرافضة: - جاء في معالم الايمان: كان رحمه الله لا تأخذه في الله تعالى لومة لائم، ولما دخل عبيد الله الشيعي إفرقية ونزل "رقادة" ترك جبلة سكن الرباط ونزل القيروان فكلم في ذلك فقال: كنا نحرس عدوا بيننا وبينه البحر والآن حل هذا العدو بساحتنا وهو أشد علينا من ذلك فكان إذا أصبح وصلى الصبح خرج إلى طرف القيروان من ناحية "رقادة" معه سيفه وترسه وفرسه وسهامه وجلس محاذيا لرقادة إلى غروب الشمس ثم يرجع إلى داره ويقول: احرس عورات المسلمين منهم فإن رأيت شيئا حركت المسلمين عليهم. وكان ينكر على من يخرج من القيروان إلى سوسة ونحوها من الثغور ويقول: جهاد هؤلاء أفضل من جهاد الشرك. قال المالكي: ولم يكن في وقته رحمه الله أكثر اجتهادا منه في مجاهدة عبيد الله وشيعته فسلمه الله عز وجل منهم. قال: واتصل به أن بعض أهل القيروان خرجوا ليتلقوا عبيد الله الشيعي تقية من شره ومداراة له فقال جبلة: اللهم لا تسلم من خرج يسلم عليه، واغتم لذلك غما شديدا، فلما انتهوا إلى وادي أبي كريب جردوا وأخذت ثيابهم، فلما عرفوا جبلة بذلك قال: ما غمني فيهم إلا رجل واحد فيه خير لا دنيا له، والرجل هو حماس بن مروان القاضي. ولما دخل عبيد الله القيروان وخطب أول جمعة وجبلة جالس عند المنبر، فلما سمع كفرهم قام قائما وكشف عن رأسه حتى رآه الناس، وخرج يمشي إلى آخر الجامع وهو يقول: قطعوها قطعهم الله، فما حضرها أحد من أهل

إبراهيم بن الحارث العبادي (الطبقة الثانية عشرة)

العلم بعد ذلك. (¬1) " التعليق: رحمك الله يا عالم القيروان، ما أطيب نفسك وأغزر علمك بهؤلاء الأخباث الذين عثوا في الأرض الفساد في وقتكم الذي كان يزخر بمثلك من العلماء، وأما الآن فلا علماء ولا عامة ولا غيرة على العقيدة والذين يمثلون اتجاه الإصلاح يغنون للشيعة ويطبلون ويرون إمامة طاغوتهم واجبة على المسلمين. ويعقدون التجمعات والندوات في ما سمي بالتقريب بين السنة والشيعة وهو أجدر بأن يسمى بالتخريب العقائدي لعقيدة السنة عموما والسلفية خصوصا، ومن كان له همة في تتبع الجرائد والمجلات يعلم ما قلته حق اليقين ومن يعش في بحار الغفلة والجهل فلا نكترث به والله المستعان. إبراهيم بن الحارث العُبَادِي (¬2) (الطبقة الثانية عشرة) الشيخ الإمام إبراهيم بن الحارث بن مصعب بن الوليد بن عبادة بن الصامت الأنصاري العبادي، أبو إسحاق البغدادي، نزيل طَرْسُوس. روى عن إبراهيم بن نصر وأحمد الدورقي وعاصم بن علي الواسطي ويحيى بن معين ومصعب الزبيري بن الصباح، وغيرهم. وروى عنه أبو داود في كتاب المسائل وأبو بكر الأثرم وحرب بن إسماعيل الكرماني وأبو حاتم ¬

(¬1) معالم الإيمان (2/ 272 - 273). (¬2) تاريخ بغداد (3/ 55 - 56) وتهذيب الكمال (2/ 66 - 67) وتهذيب التهذيب (1/ 113) وطبقات الحنابلة (1/ 94) والمقصد الأرشد (1/ 221 - 222) والتقريب (1/ 54).

" موقفه من القدرية:

الرازي وأبو بكر بن أبي داود. قال أبو بكر الخلال: إبراهيم بن الحارث العبادي، رجل من كبار أصحاب أبي عبد الله أحمد بن حنبل، روى عنه أبو بكر الأثرم، وحرب بن إسماعيل، وجماعة من الشيوخ المتقدمين، وكان أبو عبد الله يعظمه ويرفع قدره، ويحتمله في أشياء لايحتمل فيها غيره، يبسطه في الكلام بحضرته، ويتوقف أبو عبد الله عن الجواب في الشيء، فيجيب بحضرة أبي عبد الله، فيعجب أبو عبد الله، ويقول: جزاك الله خيرا يا أبا إسحاق. قال ابن حجر: صدوق من الثانية عشرة. " موقفه من القدرية: روى الخلال بالسند إلى أبي بكر الأثرم قال: قيل لأبي عبد الله أصلي عليه يعني على القدري؟ فلم يجب، فقال العبادي وأبو عبد الله يسمع إذا كان صاحب بدعة فلا يسلم عليه، ولا يصلى خلفه، ولا عليه، فقال أبو عبد الله: عافاك الله يا أبا إسحاق وجزاك خيرا، كالمعجب بقوله. (¬1) عبد الله بن محمّد صاحب الأندلس (¬2) (300 هـ) عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأمير أبو محمد صاحب الأندلس وابن ملوكها تملك بعد أخيه المنذر سنة خمس وسبعين، وامتدت دولته وكان من أمراء العدل مثابراً على الجهاد ملازماً للصلوات في الجامع، له مواقف ¬

(¬1) السنة للخلال (561 - 562). (¬2) السير (14/ 155 - 156) والوافي بالوفيات (17/ 469 - 471) والنجوم الزاهرة (3/ 181) وشذرات الذهب (2/ 233).

موقفه من المشركين:

مشهودة. وكان رحمه الله ذا فقه وأدب. مات في أول ربيع الآخر سنة ثلاثمائة. موقفه من المشركين: ونقل ابن حزم أن الأمير عبد الله استفتى بقي بن مخلد في الزنديق، فأفتى أنه لا يقتل حتى يستتاب، وذكر حديثاً في ذلك. (¬1) موقفه من الخوارج: جاء في السير: له مواقف مشهودة منها ملحمة "بلي" كان ابن حفصون قد حاصر حصن بلي ومعه ثلاثون ألفاً فسار عبد الله في أربعة عشر ألفاً فالتقوا فانهزم ابن حفصون واستحر بجمعه القتل فقل من نجا وكانوا على رأي الخوارج. (¬2) ابن خَيْرُون (¬3) (301 هـ) محمد بن خيرون المعافري الإمام أبو جعفر الأندلسي الفرضي، رحل إلى العراق، وأخذ عن محمد بن نصر، ثم عاد إلى القيروان. جاء في معالم الإيمان: وكان فقيهاً صالحاً عابداً من خيار المسلمين، وكان سبب قتله أنه سعى به القاضي محمد بن عمرو المروذي -قاضي الشيعة- إلى عبيد الله المهدي، فأمر الحسين بن أبي خنزير بقتله، فعذبه إلى أن مات رحمه الله سنة ¬

(¬1) السير (14/ 156). (¬2) السير (14/ 156). (¬3) السير (14/ 217) ومعالم الإيمان (2/ 288 - 292) ورياض النفوس (2/ 52 - 56).

موقفه من الرافضة:

إحدى وثلاثمائة. موقفه من الرافضة: حكى الشيخ أبو الحسن القابسي رحمه الله تعالى قال: أخبرني من أثق به أنه كان جالساً -عند ابن أبي خنزير- إذ دخل عليه شيخ ذو هيئة جميلة- وقد علاه اصفرار مع حسن سمت وخشوع، فلما رآه ابن أبي خنزير بكى، فقال له: ما الذي يبكيك؟ قال: السلطان -يعني عبيد الله- وجه إلي يأمرني بدوس هذا الشيخ حتى يموت -يعني ابن خيرون- ثم أمر به فأدخل إلى مجلس، وبطح على ظهره، وطلع السودان فوق سرير، فقفزوا عليه بأرجلهم حتى مات، وذلك من أجل جهاده على دين الله تعالى، وبغضه لبني عبيد. (¬1) ابن الأخرم (¬2) (301 هـ) الإمام الكبير، الحافظ الأثري، أبو جعفر، محمد بن العباس بن أيوب بن الأخرم الأصبهاني الفقيه. ارتحل، وأخذ عن أبي كريب، والمفضل بن غسان الغلابي، وعلي بن حرب وعمار بن خالد وعدة. وعنه أبو أحمد العسال، وأبو الشيخ وأحمد بن إبراهيم بن أفرجة، وغيرهم. كان من الحفاظ مقدما فيهم شديداً على أهل الزيغ والبدعة، كان ممن يتفقه في الحديث ويفتي به، قطع عن التحديث سنة ست وتسعين لاختلاطه. توفي سنة إحدى وثلاثمائة. ¬

(¬1) المعالم (2/ 289 - 290) وهو في السير (14/ 217). (¬2) تذكرة الحفاظ (2/ 747 - 748) والوافي بالوفيات (3/ 190 - 191) وشذرات الذهب (2/ 234 - 235) والسير (14/ 144 - 145) وتاريخ أصبهان (2/ 194 - 195).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: جاء في سير أعلام النبلاء: وله وصية أكثرها على قواعد السلف يقول فيها: من زعم أن لفظه بالقرآن مخلوق فهو كافر. (¬1) محمد بن مَنْدَه (¬2) (301 هـ) الإمام الحافظ محمد بن يحيى بن منده، أبو عبد الله العبدي الأصبهاني، جد صاحب التصانيف الحافظ أبي عبد الله محمد بن إسحاق. ولد في حدود العشرين ومائتين في حياة جدهم منده. سمع أبا كريب وعبد الله بن معاوية الجمحي وسفيان بن وكيع وموسى بن عبد الرحمن بن مهدي وغيرهم. وحدث عنه أبو أحمد العسال وأبو القاسم الطبراني وأبو الشيخ وخلق كثير. قال أبو الشيخ: هو أستاذ شيوخنا وإمامهم. وقال عنه ابن خلكان: كان أحد الحفاظ الثقات، وهم أهل بيت كبير، خرج منه جماعة من العلماء. وقال الذهبي: كان محمد بن يحيى من أوعية العلم. توفي رحمه الله في رجب سنة إحدى وثلاثمائة. موقفه من الجهمية: جاء في ذم الكلام بالسند إليه قال: ليتق امرؤ، وليعتبر بمن تقدم ممن كان القول باللفظ مذهبه ومقالته، كيف خرج من الدنيا مهجوراً مذموماً ¬

(¬1) السير (14/ 145). (¬2) طبقات المحدثين بأصبهان (3/ 442) وطبقات الحنابلة (1/ 328) ووفيات الأعيان (4/ 289) وسير أعلام النبلاء (14/ 188 - 193) والوافي بالوفيات (5/ 189).

مطروداً من المجالس والبلدان، لاعتقاده القبيح وقوله الشنيع المخالف لدين الله مثل الكرابيسي والشراطي وابن كلاب وابن الأشعري وأمثالهم ممن كان الجدال والكلام طريقه في دين الله عز وجل. (¬1) " التعليق: هؤلاء الذين ذكرهم هذا الإمام هم عمدة العقيدة عند القوم وهم المصدر الأساسي، وإن كان فيهم من فيه سنة ووافق أهل السنة في إثبات الصفات على العموم كابن كلاب وخالف في إثبات الصفات الاختيارية، ونقل عنه أنه أول من أنكرها، وتبعه الأشعري بعد خروجه من الاعتزال، وهذا الأخير صرح بعض أهل العلم أنه رجع إلى مذهب السلف، وهذا فيه تسامح كما بين ذلك ابن تيمية في كثير من كتبه أن معرفته بالسنة معرفة إجمالية، ومعرفته بالكلام وأهله معرفة تفصيلية، فكلام الشيخ فيه أقعد وأضبط على خلاف ما نقل عن ابن كثير كما نقله المرتضى في شرح الإحياء. وأما الكرابيسي فتقدم ما قاله الإمام أحمد فيه وفي كتبه وإن كان تاب كما روى ذلك الخطيب في 'شرف أصحاب الحديث' كما تقدم. والحاصل أن هذا الإمام لعله أخذ من الاثنين الجانب السلبي وهو الجانب الكلامي وما اعتبر ما لهم من الميل إلى السنة والله أعلم. وعلى كل حال فهذا موقف شريف يحتفظ به لهذا الإمام فجزاه الله أحسن الجزاء. ¬

(¬1) ذم الكلام (ص.282).

ابن الحداد المغربي (302 هـ)

ابن الحداد المغربي (¬1) (302 هـ) الإمام شيخ المالكية، أبو عثمان، سعيد بن محمد بن صبيح بن الحداد المغربي، صاحب سحنون، وهو أحد المجتهدين، وكان بحراً في الفروع ورأساً في لسان العرب بصيراً بالسنن. كان يذم التقليد، ويقول: هو من نقص العقول، أو دناءة الهمم وكان من رؤوس السنة. قال عنه المالكي: كان عالماً في الفقه والكلام والذب عن الدين والرد على فرق المخالفين للجماعة، من أذهن الناس وأعلمهم بما قاله الناس. وله مع شيخ المعتزلة الفراء مناظرات بالقيروان، رجع بها عدد من المبتدعة. مال إلى مذهب الشافعي من غير تقليد، وأخذ يسمي المدونة "المدودة" فهجره المالكية ثم أحبوه لما قام على أبي عبد الله الشيعي وناظره ونصر السنة. قال موسى بن عبد الرحمن القطان: لو سمعتم سعيد بن الحداد في تلك المحافل -يعني مناظرته للشيعي- وقد اجتمع له جهارة الصوت، وفخامة المنطق وفصاحة اللسان، وصواب المعاني، لتمنيتم أن لا يسكت. ومن كلامه: قال: من طالت صحبته للدنيا وللناس فقد ثقل ظهره، خاب السالون عن الله المتنعمون بالدنيا، من تحبب إلى العباد بالمعاصي بغضه الله إليهم. وقال: ما صد عن الله مثل طلب المحامد، وطلب الرفعة. مات سنة اثنتين وثلاثمائة. وله ثلاث وثمانون سنة رحمه الله. موقفه من المبتدعة: - هذا الإمام الكبير كانت له مواقف مشرفة مع أكثر المبتدعة الذين ¬

(¬1) الوافي بالوفيات (15/ 179 - 180) والشذرات (2/ 238) والسير (14/ 205 - 214) ومعالم الإيمان (2/ 295 - 315) ورياض النفوس (2/ 57 - 115).

كانوا في عصره، واجههم مواجهة العالم الشجاع بالحجة القاطعة الدامغة، ولم يكن بالضعيف الخائر الخائف، بل كان لا يخاف في الله لومة لائم. وقد ذكر ترجمته ومواقفه غير واحد من المؤرخين والمترجمين، كالقاضي عياض في المدارك وابن خلكان في الوفيات وابن فرحون في الديباج والدباغ في معالم الإيمان والذهبي في كتبه عامة والسير خاصة، فمواقفه من المبتدعة والمقلدة -الذين عششت العنكبوت على عقولهم وفكروا برأي غيرهم- مشرفة نموذجية وإليك بعض ذلك: - مع المقلدة: قال الذهبي: وكان يذم التقليد ويقول: هو من نقص العقول أو دناءة الهمم، وقيل إنه صنف في الرد على المدونة. (¬1) - كلمة عن الشيخ في محاربة البدع في معالم الإيمان: قال: كان يرد على أهل البدع المخالفين للسنة، وله في ذلك مقامات مشهورة وآثار محمودة، ناب عن المسلمين فيها أحسن مناب حتى مثله أهل القيروان بأحمد بن حنبل أيام المحنة، وذلك أن بني عبيد لما ملكوا القيروان أظهروا تبديل مذهب أهل البلد وأجبروا الناس على مذهبهم بطريق المناظرة وإقامة الحجة، وقتلوا رجلين من أصحاب سحنون، فارتاع أهل البلد من ذلك ولجؤوا إلى أبي سعيد (¬2) وسألوه التقية فأبى من التقية وقال: قد أربيت على التسعين ومالي في العيش من حاجة، وقتيل الخوراج خير قتيل، ولا بد ¬

(¬1) السير (14/ 206). (¬2) كذا في الأصل، ولعل الصواب "أبي عثمان".

موقفه من الرافضة:

لي من المناظرة والمناضلة عن الدين وأن أبلغ في ذلك عذراً. ففعل ذلك وصدق وكان هو المعتمد عليه في مناظرة الشيعي. (¬1) موقفه من الرافضة: - جاء في السير: قال أبو بكر بن اللباد: بينا سعيد بن الحداد جالس أتاه رسول عبيد الله، يعني المهدي، قال: فأتيته وأبو جعفر البغدادي واقف فتكلمت بما حضرني فقال: اجلس. فجلست فإذا بكتاب لطيف فقال لأبي جعفر: اعرض الكتاب على الشيخ فإذا حديث غدير خم (¬2) قلت: وهو صحيح وقد رويناه فقال عبيد الله: فما للناس لا يكونون عبيدنا؟ قلت أعز الله السيد لم يرد ولاية الرق، بل ولاية الدين قال: هل من شاهد؟ قلت: قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} (¬3). فلما لم يكن لنبي لم يكن لغيره قال: انصرف لا ينالك الحر. فتبعني البغدادي فقال: اكتم هذا المجلس ... وقيل: إنه سار لتلقي أبي عبد الله الشيعي فقال له: يا شيخ بم كنت تقضي؟ فقال إبراهيم بن يونس: بالكتاب والسنة. قال: فما السنة؟ قال: السنة السنة. قال ابن الحداد: فقلت للشيعي المجلس مشترك أم خاص؟ قال مشترك. فقلت: أصل السنة في كلام العرب المثال، قال الشاعر: ¬

(¬1) معالم الإيمان (2/ 298). (¬2) أحمد (4/ 366 - 367) ومسلم (4/ 1873/2408 (36)) وأبو داود (5/ 255/4973) مختصراً، والترمذي (5/ 622/3788) وقال: "هذا حديث حسن غريب"، والنسائي في الكبرى (5/ 45/8148). (¬3) آل عمران الآية (79).

تريك سنة وجه غير مقرفة ... ملساء ليس بها خال ولا ندب أي صورة وجه ومثاله، والسنة محصورة في ثلاث: الائتمار بما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - والانتهاء عما نهى عنه والائتساء بما فعل. فقال الشيعي: فإن اختلف عليك النقل وجاءت السنة من طرق؟ قلت: أنظر إلى أصح الخبرين كشهود عدول اختلفوا في شهادة قال: فلو استووا في الثبات؟ قلت: يكون أحدهما ناسخاً للآخر قال: فمن أين قلتم بالقياس؟ قلت: من كتاب الله {يحكم به ذوا عدلٍ مِنْكُمْ} (¬1). فالصيد معلومة عينه، فالجزاء أمرنا أن نمثله بشيء من النعم ومثله في تثبيت القياس: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يستنبطونه} (¬2). والاستنباط غير منصوص ثم عطف على موسى القطان فقال: أين وجدتم حد الخمر في كتاب الله تقول: اضربوه بالأردية وبالأيدي ثم بالجريد؟ فقلت أنا: إنما حد قياساً على حد القاذف لأنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فأوجب عليه ما يؤول إليه أمره. قال: أو لم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وأقضاكم علي فساق له موسى تمامه وهو: وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ وأرأفكم أبو بكر وأشدكم في دين الله عمر (¬3) قال: كيف يكون أشدهم وقد هرب بالراية يوم خيبر؟ قال موسى: ما سمعنا بهذا فقلت: إنما تحيز إلى فئة ¬

(¬1) المائدة الآية (95). (¬2) النساء الآية (83). (¬3) أخرجه بغير هذا اللفظ: أحمد (3/ 184) والترمذي (5/ 623/3791) وابن ماجه (1/ 55/154) والحاكم (3/ 422) وصححه ووافقه الذهبي. وابن حبان (الإحسان 16/ 74/7131).

فليس بفار. وقال في {لا تحزن إن اللَّهَ مَعَنَا} (¬1): إنما نهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حزنه لأنه كان مسخوطاً قلت: لم يكن قوله إلا تبشيراً بأنه آمن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى نفسه فقال: أين نظير ما قلت؟ قلت: قوله لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (¬2). فلم يكن خوفهما من فرعون خوفاً بسخط الله. ثم قال: يا أهل البلدة: إنكم تبغضون عليا قلت: على مبغضه لعنة الله. فقال: صلى الله عليه. قلت: نعم ورفعت صوتي: - صلى الله عليه وسلم - لأن الصلاة في خطاب العرب الرحمة والدعاء قال: ألم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" (¬3) قلت: نعم إلا أنه قال: إلا أنه لا نبي بعدي. وهارون كان حجة في حياة موسى، وعلي لم يكن حجة في حياة النبي، وهارون فكان شريكاً أفكان علي شريكاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - في النبوة؟ وإنما أراد التقريب والوزارة والولاية. قال: أو ليس هو أفضل؟ قلت: أليس الحق متفقاً عليه؟ قال: نعم. قلت: قد ملكت مدائن قبل مدينتنا وهي أعظم مدينة واستفاض عنك أنك لم تكره أحداً على مذهبك فاسلك بنا مسلك غيرنا، ونهضنا. قال ابن الحداد: ودخلت يوماً على أبي العباس فأجلسني معه في مكانه وهو يقول لرجل: ¬

(¬1) التوبة الآية (40). (¬2) طه الآية (46). (¬3) أخرجه: أحمد (1/ 185) والبخاري (7/ 89/3706) مختصراً، ومسلم (4/ 1870/2404) والترمذي (5/ 596/3724) مطوّلاً، وابن ماجه (1/ 45/121).

أليس المتعلم محتاجاً إلى المعلم أبداً؟ فعرفت أنه يريد الطعن على الصديق في سؤاله عن فرض الجدة فبدرت وقلت: المتعلم قد يكون أعلم من المعلم وأفقه وأفضل لقوله عليه السلام: رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه (¬1). ثم معلم الصغار القرآن يكبر أحدهم ثم يصير أعلم من المعلم قال: فاذكر من عام القرآن وخاصه شيئاً؟ قلت قال تعالى: {ولا تَنْكِحُوا المشركات} (¬2). فاحتمل المراد بها العام فقال تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (¬3). فعلمنا أن مراده بالآية الأولى خاص أراد: ولا تنكحوا المشركات غير الكتابيات من قبلكم حتى يؤمن قال: ومنهن المحصنات؟ قلت: العفائف قال: بل المتزوجات قلت: الإحصان في اللغة: الإحراز فمن أحرز شيئا فقد أحصنه والعتق يحصن المملوك لأنه يحرزه عن أن يجري عليه ما على المماليك والتزويج يحصن الفرج لأنه أحرزه عن أن يكون مباحاً والعفاف إحصان للفرج. قال: ما عندي الإحصان إلا التزويج، قلت له: منزل القرآن يأبى ذلك قال: {ومريم ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} (¬4) أي: أعفته، ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (5/ 183) وأبو داود (4/ 68 - 69/ 3660) والترمذي (5/ 33/2656) وقال: "حديث حسن" وابن ماجه (1/ 84/230) من حديث زيد بن ثابت. وأخرجه من حديث ابن مسعود: أحمد (1/ 437) والترمذي (5/ 33/2657) وقال: "حديث حسن صحيح"، وابن ماجه (1/ 85/232) وابن حبان (1/ 268/66 الإحسان)، ولفظه: "نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً، فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع". (¬2) البقرة الآية (221). (¬3) المائدة الآية (5). (¬4) التحريم الآية (12).

وقال: {مُحْصَنَاتٍ غير مُسَافِحَاتٍ} (¬1). عفائف: قال فقد قال في الإماء: {فإذا أُحْصِنَّ} وهن عندك قد يكن عفائف. قلت: سماهن بمتقدم إحصانهن قبل زناهن قال تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أزواجكم} (¬2). وقد انقطعت العصمة بالموت يريد اللاتي كن أزواجكم قال: يا شيخ، أنت تلوذ قلت: لست ألوذ أنا المجيب لك وأنت الذي تلوذ بمسألة أخرى وصحت: ألا أحد يكتب ما أقول وتقول. قال: فوقى الله شره. وقال: كأنك تقول: أنا أعلم الناس. قلت: أما بديني فنعم. قال: فما تحتاج إلى زيادة فيه؟ قلت: لا قال: فأنت إذا أعلم من موسى: إذ يقول: {هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَنْ تُعَلِّمَنِ} (¬3). قال: هذا طعن على نبوة موسى، موسى ما كان محتاجاً إليه في دينه كلا إنما كان العلم الذي عند الخضر دنياوياً: سفينة خرقها وغلاماً قتله وجداراً أقامه وذلك كله لا يزيد في دين موسى قال: فأنا أسألك. قلت: أورد علي الإصدار بالحق بلا مثنوية قال: ما تفسير الله؟ قلت: ذو الإلهية قال: وما هي؟ قلت: الربوبية قال: وما الربوبية؟ قلت المالك الأشياء كلها قال: فقريش في جاهليتها كانت تعرف الله؟ قلت: لا قال: فقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ} (¬4). قلت: لما أشركوا معه غيره ¬

(¬1) النساء الآية (25). (¬2) النساء الآية (12). (¬3) الكهف الآية (66). (¬4) الزمر الآية (3).

قالوا وإنما يعرف الله من قال: إنه لا شريك له. وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} (¬1). فلو كانوا يعبدونه ما قال لا أعبد ما تعبدون إلى أن قال: فقلت: المشركون عبدة الأصنام الذين بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم عليا ليقرأ عليهم سورة براءة قال: وما الأصنام قلت: الحجارة قال: والحجارة أتعبد؟ قلت: نعم والعزى كانت تعبد وهي شجرة والشعرى كانت تعبد وهي نجم قال: فالله يقول: {أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى} (¬2). فكيف تقول: إنها الحجارة؟ والحجارة لا تهتدي إذا هديت لأنها ليست من ذوات العقول قلت: أخبرنا الله أن الجلود تنطق وليست بذوات عقول قال: نسب إليها النطق مجازاً. قلت: منزل القرآن يأبى ذلك فقال: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ} (¬3). إلى أن قال: {قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} (¬4). وما الفرق بين جسمنا والحجارة؟ ولو لم يعقلنا لم نعقل وكذا الحجارة إذا شاء أن تعقل عقلت. (¬5) - وجاء في المعالم: روى أبو محمد: عبد الله بن إسحاق بن التبان رحمه الله قال: لما اجتمع أبو عثمان: سعيد بن الحداد بأبي عبد الله الشيعي في مجلس ¬

(¬1) الكافرون الآيتان (1و2). (¬2) يونس الآية (35). (¬3) يس الآية (65). (¬4) فصلت الآية (21). (¬5) السير (14/ 206 - 214).

موقفه من الجهمية:

المناظرة -قال له أبو عبد الله: أنتم تفضلون على الخمسة أصحاب الكساء غيرهم- يعني بأصحاب الكساء محمداً - صلى الله عليه وسلم - تسليماً، والحسن، والحسين، وعلياً، وفاطمة، ويعني بغيرهم أبا بكر. فقال أبو عثمان: أيما أفضل؟ خمسة سادسهم جبريل؟ أو اثنان الله ثالثهما؟ فبهت الشيعي. (¬1) موقفه من الجهمية: قال الذهبي: وله مع شيخ المعتزلة الفراء مناظرات بالقيروان رجع بها عدد من المبتدعة. (¬2) أبو زُرْعَة القاضي (¬3) (302 هـ) الإمام الكبير القاضي أبو زرعة محمد بن عثمان بن إبراهيم بن زرعة. قل ما روى، أخذ عنه أبو علي الحصائري وغيره. وكان حسن المذهب عفيفاً متثبتاً، ولي قضاء الديار المصرية سنة أربع وثمانين ومائتين، ووليَ قضاء دمشق وقد كان قام مع الملك أحمد بن طولون وخلع من العهد أبا أحمد الموفق. قام عند المنبر بدمشق قبل الجمعة، وقال: أيها الناس أشهدكم أني قد خلعت أبا أحمق كما يخلع الخاتم من الأصبع فالعنوه. وكان له مال كثير وضياع كبار بالشام وكان يوفي عن الغرماء الضعفى. بقي على قضاء مصر ثمان سنين ¬

(¬1) معالم الإيمان (2/ 298). (¬2) السير (14/ 206). (¬3) السير (14/ 231 - 233) والوافي بالوفيات (4/ 82 - 83) والبداية والنهاية (11/ 131) والنجوم الزاهرة (3/ 183 - 184) وشذرات الذهب (2/ 239).

موقفه من الخوارج:

فصرف. توفي بدمشق سنة اثنتين وثلاثمائة. موقفه من الخوارج: جاء في السير: عن منصور الفقيه قال: كنت عند القاضي أبي زرعة، فذكر الخلفاء، فقلت: أيجوز أن يكون السفيه وكيلاً؟ قال: لا. قلت: فولياً لامرأة؟ قال: لا. قلت: فخليفة؟ قال: يا أبا الحسن. هذه من مسائل الخوارج. (¬1) النَّسَائي (¬2) (303 هـ) الإمام الحافظ، الثبت أحمد بن شعيب بن علي النسائي أبو عبد الرحمن، شيخ الإسلام ناقد الحديث، صاحب السنن. ولد بنسا سنة خمس عشرة ومائتين، وطلب العلم في صغره. روى عن إسحاق بن راهويه، وهشام بن عمار، وسويد بن نصر وخلق كثير. روى عنه أبو بشر الدولابي، وأبو جعفر الطحاوي، وأبو علي النيسابوري وعدة. قال الذهبي: كان شيخاً مهيباً. وكان أفقه مشايخ مصر في عصره. قال الدارقطني: كان ابن الحداد أبو بكر كثير الحديث، ولم يحدث عن غير النسائي، وقال: رضيت به حجة بيني وبين الله تعالى. قال ابن يونس: كان النسائي إماماً حافظاً ثبتاً. قال أبو عليّ ¬

(¬1) السير (14/ 233). (¬2) السير (14/ 125 - 135) والبداية والنهاية (11/ 131 - 132) ووفيات الأعيان (1/ 77 - 78) وتاريخ الإسلام (حوادث 301 - 310/ص.105 - 109) والوافي بالوفيات (6/ 416 - 417) وتهذيب الكمال (1/ 328 - 340) وشذرات الذهب (2/ 239 - 241).

موقفه من الرافضة:

النيسابوريّ الحافظ: ثنا الإمام في الحديث بلا مدافعة أبو عبد الرحمن النسائيّ. وقال الدارقطني: أبو عبد الرحمن مقدّم على كلّ من يذكر بهذا العلم من أهل عصره. وقال: إنه خرج حاجّاً فامتحن بدمشق، وأدرك الشهادة، فقال: احملوني إلى مكة، فحمل وتوفي بها. وقال محمد بن المظفر: استشهد بدمشق من جهة الخوارج. وقال أبو سعيد يونس: توفي بفلسطين. قال الذهبي: هذا هو الصحيح. وذلك سنة ثلاث وثلاثمائة. موقفه من الرافضة: قال عنه محمد بن موسى الماموني: سمعت قوماً ينكرون على أبي عبد الرحمن كتاب الخصائص لعلي رضي الله عنه وتركه تصنيف فضائل الشيخين، فذكرت له ذلك فقال: دخلت دمشق والمنحرف عن علي بها كثير فصنفت كتاب الخصائص رجوت أن يهديهم الله، ثم إنه صنف بعد ذلك فضائل الصحابة. (¬1) موقفه من الجهمية: قال قاضي مصر أبو القاسم عبد الله بن محمد بن أبي العوام السعدي: حدثنا أحمد بن شعيب النسائي، أخبرنا إسحاق بن راهويه، حدثنا محمد بن أعين، قال: قلت لابن المبارك: إن فلاناً يقول: من زعم أن قوله تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فاعبدني} (¬2) مخلوق، فهو كافر. فقال ابن المبارك: ¬

(¬1) التذكرة (2/ 699). (¬2) طه الآية (14).

موقفه من الخوارج:

صدق، قال النسائي: بهذا أقول. (¬1) موقفه من الخوارج: - قال محمد بن المظفر الحافظ سمعت مشايخنا بمصر يصفون اجتهاد النسائي في العبادة بالليل والنهار وأنه خرج إلى الغزو مع أمير مصر فوصف من شهامته وإقامته السنن المأثورة في فداء المسلمين واحترازه عن مجالس السلطان الذي خرج معه والانبساط في المأكل وأنه لم يزل ذلك دأبه إلى أن استشهد بدمشق من جهة الخوارج. (¬2) موقفه من المرجئة: له تبويبات ضمن كتاب الإيمان وشرائعه من المجتبى، منها: - ذكر شعب الإيمان (8/ 483). - تفاضل أهل الإيمان (8/ 485). - زيادة الإيمان (8/ 486). - علامة الإيمان (8/ 488). أبو نصر بن سلاَّم (¬3) (305 هـ) محمد بن سلاّم أبو نصر البلخي الحنفي. كان فقيهاً مهيباً زاهداً معظماً. له فتاوى واختيارات في الأحكام. توفي رحمه الله سنة خمس ¬

(¬1) السير (14/ 127) والتذكرة (2/ 700). (¬2) التذكرة (2/ 700). (¬3) الفوائد البهية (168) والجواهر المضية (4/ 92 - 93).

موقفه من المشركين:

وثلاثمائة. موقفه من المشركين: روى الخطيب بسنده إلى أبي نصر أحمد بن سهل قال: سمعت أبا نصر ابن سلام الفقيه يقول: ليس شيء أثقل على أهل الإلحاد، ولا أبغض إليهم من سماع الحديث وروايته بإسناده. (¬1) موقف السلف من الجبائي المعتزلي (303 هـ) بيان اعتزاله: موقف أبي الحسن الأشعري منه: قال الذهبي: وأخذ عنه فن الكلام أيضاً أبو الحسن الأشعري، ثم خالفه ونابذه وتسنن. (¬2) أبو خَليفة الفضل بن الحُبَاب (¬3) (305 هـ) الفضل بن الحُبَاب واسم الحباب عمرو بن محمد بن شعيب الجمحي أبو خليفة، الإمام العلامة المحدث الأديب الأخباري، ولد سنة ست ¬

(¬1) شرف أصحاب الحديث (73 - 74). (¬2) السير (14/ 183). (¬3) السير (14/ 7 - 11) والبداية والنهاية (11/ 137) وتذكرة الحفاظ (2/ 670 - 671) وميزان الاعتدال (3/ 350) وطبقات الحنابلة (1/ 249 - 251) والنجوم الزاهرة (3/ 193) وشذرات الذهب (2/ 245).

موقفه من الجهمية:

ومائتين. وعني بهذا الشأن وهو مراهق، فسمع في سنة عشرين ومائتين ولقي الأعلام وكتب علماً جماً. روى عن القعنبي ومسلم بن إبراهيم وسليمان بن حرب وخلق. وروى عنه أبو عوانة، وأبو حاتم بن حبان وأبو القاسم الطبراني وآخرون. وكان ثقة صادقاً مأموناً أديباً فصيحاً مفوهاً رحل إليه من الآفاق. توفي أبو خليفة سنة خمس وثلاثمائة بالبصرة. موقفه من الجهمية: - قال أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الإسفراييني ابن أخت أبي عوانة سمعت أبي يقول لأبي علي النيسابوري الحافظ: دخلت أنا وأبو عوانة البصرة، فقيل: إن أبا خليفة قد هجر، ويدعى عليه أنه قال: القرآن مخلوق. فقال لي أبو عوانة: يا بني لابد أن ندخل عليه. قال: فقال له أبو عوانة: ما تقول في القرآن؟ فاحمر وجهه وسكت، ثم قال: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال: مخلوق، فهو كافر، وأنا تائب إلى الله من كل ذنب إلا الكذب، فإني لم أكذب قط، أستغفر الله. قال: فقام أبو علي إلى أبي، فقبل رأسه. ثم قال أبي: قام أبو عوانة إلى أبي خليفة، فقبل كتفه. (¬1) - وجاء في الطبقات عن علي بن أحمد بن جعفر قال: حضر رجل مجلس أبي خليفة الفضل ابن الحباب الجمحي، فذكر أبا عبد الله أحمد بن محمد ابن حنبل رضي الله عنه، فقال أبو خليفة: على أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضوان الله. فهو إمامنا ومن يقتدى به، ونقول بقوله، الواعي للعلم ¬

(¬1) السير (14/ 10).

قاسم بن زكريا المطرز (305 هـ)

المتقن لروايته، الصادق في حكايته، القيم بدين الله عز وجل، المستن بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إمام المسلمين، والناصح لإخوانه من المؤمنين، فقال له الرجل: يا أبا خليفة، ما تقول في قوله: القرآن كلام الله غير مخلوق؟ فقال: صدق والله في مقالته. وقمع كل بدعي بمعرفته. قوله الصواب، ومذهبه السداد. هو المأمون على كل الأحوال، والمقتدى به في جميع الفعال. فقال له الرجل: يا أبا خليفة، فمن قال القرآن مخلوق؟ قال: ذاك الرجل ضال مبتدع ألعنه ديانة، وأهجره تقرباً إلى الله عز وجل، بذلك قام أبو عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه، مقاما لم يقمه أحد من المتقدمين، ولا من المتأخرين. فجزاه الله عن الإسلام وعن أهله أفضل الجزاء. (¬1) قاسم بن زكريا المُطَرِّز (¬2) (305 هـ) هو الإمام العلامة المقرئ المحدث الثقة، أبو بكر القاسم بن زكريا بن يحيى البغدادي، المعروف بالمُطَرِّز. حدث عن سويد بن سعيد، ومحمد بن الصباح الجرجرائي، وإسحاق بن موسى الأنصاري وطبقتهم. وحدث عنه أبو حفص الزيات وعبد العزيز بن جعفر الخرقي، ومحمد بن المظفر وعدد كثير. صنف المسند والأبواب، وتصدر للإقراء. توفي رحمه الله في صفر سنة خمس وثلاثمائة وهو في عشر التسعين. وكان ثقة مأموناً، أثنى عليه الدارقطني وغيره. ¬

(¬1) طبقات الحنابلة (1/ 250 - 251). (¬2) تاريخ بغداد (12/ 441) وسير أعلام النبلاء (14/ 149 - 150) وتهذيب الكمال (23/ 352 - 353) وشذرات الذهب (2/ 246).

موقفه من الرافضة:

موقفه من الرافضة: سمعت قاسم بن زكريا المطرز يقول: وردت الكوفة وكتبت عن شيوخها كلهم غير عباد بن يعقوب فلما فرغت ممن سواه دخلت عليه وكان يمتحن من يسمع منه فقال لي: من حفر البحر؟ فقلت: الله خلق البحر فقال: هو كذلك، ولكن من حفره؟ فقلت: يذكر الشيخ فقال: حفره علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم قال: من أجراه؟ فقلت: الله مجري الأنهار ومنبع العيون، فقال: هو كذلك ولكن من أجرى البحر؟ فقلت: يفيدني الشيخ فقال: أجراه الحسين بن علي، قال: وكان عباد مكفوفاً ورأيت في داره سيفاً معلقاً وحجفة، فقلت: أيها الشيخ لمن هذا السيف؟ فقال: هذا لي أعددته لأقاتل به مع المهدي، قال: فلما فرغت من سماع ما أردت أن أسمعه منه وعزمت على الخروج من البلد دخلت عليه فسألني كما كان يسألني وقال: من حفر البحر؟ فقلت: حفره معاوية وأجراه عمرو بن العاص ثم وليت من بين يديه وجعلت أعدو وجعل يصيح أدركوا الفاسق عدو الله فاقتلوه أو كما قال. (¬1) ابن مُجَاشِع (¬2) (305 هـ) هو عمران بن موسى بن مجاشع الجرجاني السختياني، أبو إسحاق، الإمام المحدث الحجة الحافظ. سمع من هدبة بن خالد، وشيبان بن فروخ، ¬

(¬1) الكفاية (131 - 132) والسير (11/ 538). (¬2) سير أعلام النبلاء (14/ 136 - 137) وتاريخ جرجان للسهمي (322 - 323) والعبر (1/ 278) وتذكرة الحفاظ (2/ 762 - 763).

موقفه من الجهمية:

وإبراهيم ابن المنذر الحزامي، وابني أبي شيبة، وسويد بن سعيد وطبقتهم. وحدث عنه رفيقه إبراهيم بن يوسف الهسنجاني، والحافظ أبو علي النيسابوري، وأبو بكر الإسماعيلي، وخلق كثير. قال الحاكم: هو محدث ثبت مقبول، كثير التصنيف والرحلة. مات رحمه الله بجرجان في شهر رجب سنة خمس وثلاثمائة، وهو في عشر المائة. موقفه من الجهمية: سمعت يحيى بن محمد العنبري يقول: سمعت عمران بن موسى الجرجاني يقول: سمعت سويد بن سعيد يقول: سمعت مالكاً، وشريكاً، وحماد بن زيد، وابن عيينة، والفضيل بن عياض، ومسلم بن خالد، وابن إدريس، وجميع من حملت عنه العلم يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص. والقرآن كلام الله من صفة ذاته، غير مخلوق، من قال: إنه مخلوق، فهو كافر. قال عمران: بهذا أدين، وما رأيت محدثاً إلا وهو يقوله. (¬1) عَبْدَان عبد الله بن أحمد بن موسى (¬2) (306 هـ) عبدان عبد الله بن أحمد بن موسى، الحافظ الحجة أبو محمد الأهوازي الجواليقي. سمع محمد بن بكار، وأبا بكر بن أبي شيبة، وشيبان بن فروخ. حدث عنه ابن قانع، والطبراني، وأبو بكر الإسماعيلي. قال الحاكم: سمعت أبا ¬

(¬1) السير (14/ 136). (¬2) السير (14/ 168 - 173) وتاريخ بغداد (9/ 378) والنجوم الزاهرة (3/ 195) وتذكرة الحفاظ (2/ 688) وشذرات الذهب (2/ 249).

موقفه من المبتدعة:

علي الحافظ يقول: ما رأيت في المشايخ أحفظ من عبدان. وقال حمزة الكناني: سمعت عبدان يقول: دخلت البصرة ثمان عشرة مرة من أجل حديث أيوب السختياني، وجمعت ما يجمعه أصحاب الحديث -يعني من حديث الكبار-. توفي سنة ست وثلاثمائة. موقفه من المبتدعة: أخرج الخطيب: عن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود كما بدأ". قيل: يا رسول الله ومن الغرباء؟ قال: "النزاع من القبائل" (¬1). قال عبدان: هم أصحاب الحديث الأوائل. (¬2) ابن سُرَيْج (¬3) (306 هـ) الإمام، شيخ الإسلام، فقيه العراقين، أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج البغدادي، القاضي الشافعي، صاحب المصنفات. تفقه على أبي القاسم ¬

(¬1) رواه أحمد وابنه (1/ 398) والترمذي (5/ 19/2629) وقال: "حديث حسن صحيح"، وابن ماجه (2/ 1320/3988) والبغوي في شرح السنة (1/ 118/64) وقال: "حديث صحيح" قال الشيخ الألباني عقبه: "هو كما قال، لولا أن أبا إسحاق وهو السبيعي عمرو بن عبد الله مدلس، وقد عنعنه في جميع الطرق عنه، مع كونه كان اختلط". انظر الصحيحة (3/ 269 - 270). (¬2) شرف أصحاب الحديث (23 - 24). (¬3) تاريخ بغداد (4/ 287 - 290) ووفيات الأعيان (1/ 66 - 67) وتذكرة الحفاظ (3/ 811 - 813) والوافي بالوفيات (7/ 260 - 261) والبداية والنهاية (11/ 129) وشذرات الذهب (2/ 247 - 248) والسير (14/ 201 - 204).

موقفه من الجهمية:

عثمان ابن بشار الأنماطي الشافعي صاحب المزني. سمع من الحسن بن محمد الزعفراني تلميذ الشافعي، ومن علي بن إشكاب وأحمد بن منصور الرمادي وأبي داود السجستاني وغيرهم. وحدث عنه أبو القاسم الطبراني، وأبو الوليد حسان بن محمد الفقيه وأبو أحمد بن الغطريف الجرجاني وغيرهم. قال أبو الوليد الفقيه: سمعت ابن سريج يقول: قل ما رأيت من المتفقهة من اشتغل بالكلام فأفلح، يفوته الفقه ولا يصل إلى معرفة الكلام. كان ابن سريج يلقب بالباز الأشهب، ولي قضاء شيراز وله من المصنفات أربعمائة مصنف. كان يناظر أبا بكر محمد بن داود الظاهري، وحكي أنه قال له أبو بكر يوماً: أبلعني ريقي. فقال له: أبلعتك دجلة، وقال له يوماً: أمهلني ساعة. قال: أمهلتك من الساعة إلى قيام الساعة. وقال له يوماً: أكلمك من الرجل فتجيبني من الرأس. فقال له: هكذا البقر إذا جفت أظلافها دهنت قرونها. توفي سنة ست وثلاث مائة، وله سبع وخمسون سنة وستة أشهر. موقفه من الجهمية: هذا الإمام وأمثاله من الأئمة الذين تشرفوا بنسبتهم إلى الدفاع عن العقيدة السلفية، كان ينبغي أن يكون الاقتداء بهم في هذا الطريق لا بالمتأخرين الذين بعدوا عن السنة، وأصبحت عقائدهم مبنية على طرق كلامية فلسفية وبهؤلاء اقتدى السبكي وابنه عبد الوهاب، حتى أعماهم هذا التقليد العفن وجعلهم يتوهمون ما هم عليه أنه عقيدة أهل الحديث والسلف. ولذا أبرز عبد الوهاب أسنانه في طبقاته وحاول أن يجعل كل سلفي خلفياً كما فعل في ترجمة الإمام الكرجي وغيره وحملاته على الإمام الذهبي في كثير

من المواضع. ونحن بصدد الحديث على هذا الإمام، فنذكر مواقفه: - جاء في ذم الكلام: قيل لأبي العباس بن سريج: ما التوحيد؟ فقال: توحيد أهل العلم وجماعة المسلمين: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتوحيد أهل الباطل: الخوض في الأعراض والأجسام وإنما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بإنكار ذلك. (¬1) " التعليق: رحمك الله يا إمام الشافعية في وقته فهذا الذي تقوله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث لمحاربته هو التوحيد الذي يعترف به علماء اليوم ويَدْرُسُونَه ويُدَرِّسُونَه في مدارسهم والله المستعان. - وجاء في اجتماع الجيوش: ذكر أبو القاسم سعد بن علي بن محمد الزنجاني في جوابات المسائل التي سئل عنها بمكة فقال: الحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً وعلى كل حال وصلى الله على محمد المصطفى وعلى الأخيار الطيبين من الأصحاب والآل، سألت أيدك الله تعالى بتوفيقه بيان ما صح لدي، وتأدى حقيقته إلى من سلك مذهب السلف وصالحي الخلف في الصفات الواردة في الكتاب المنزل والسنة المنقولة بالطرق الصحيحة برواية الثقات الأثبات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بوجيز من القول واقتصار في الجواب. فاستخرت الله سبحانه وتعالى وأجبت عنه بجواب بعض الأئمة الفقهاء ¬

(¬1) ذم الكلام (274).

وهو: أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج رحمه الله تعالى. وقد سئل عن مثل هذا السؤال فقال: أقول وبالله التوفيق: حرام على العقول أن تمثل الله سبحانه وتعالى وعلى الأوهام أن تحده وعلى الظنون أن تقع وعلى الضمائر أن تعمق وعلى النفوس أن تفكر وعلى الأفكار أن تحيط وعلى الألباب أن تصف إلا ما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وقد صح وتقرر واتضح عند جميع أهل الديانة والسنة والجماعة من السلف الماضين والصحابة والتابعين من الأئمة المهتدين الراشدين المشهورين، إلى زماننا هذا، أن جميع الآي الواردة عن الله تعالى في ذاته وصفاته، والأخبار الصادقة الصادرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الله وفي صفاته التي صححها أهل النقل، وقبلها النقاد الأثبات؛ يجب على المرء المسلم المؤمن الموفق الإيمان بكل واحد منه كما ورد، وتسليم أمره إلى الله سبحانه وتعالى كما أمر، وذلك مثل قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} (¬1)، وقوله تعالى: {وَجَاءَ ربك وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (¬2)، وقوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} (¬3)، وقوله تعالى: {والأرض جميعًا ¬

(¬1) البقرة الآية (210). (¬2) الفجر الآية (22). (¬3) طه الآية (5).

قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (¬1)،ونظائرها مما نطق به القرآن كالفوقية والنفس واليدين والسمع والبصر والكلام والعين والنظر والإرادة والرضا والغضب والمحبة والكرامة والعناية والقرب والبعد والسخط والاستحياء، والدنوّ كقاب قوسين أو أدنى وصعود الكلام الطيب إليه، وعروج الملائكة والروح إليه، ونزول القرآن منه، وندائه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقوله للملائكة، وقبضه وبسطه وعلمه ووحدانيته وقدرته ومشيئته وصمدانيته وفردانيته وأوليته وآخريته وظاهريته وباطنيته وحياته وبقائه وأزليته وأبديته ونوره وتجليه والوجه، وخلق آدم عليه السلام بيده ونحو قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} (¬2)، وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} (¬3)، وسماعه من غيره وسماع غيره منه وغير ذلك من صفاته المتعلقة به المذكورة في الكتاب المنزل على نبيه - صلى الله عليه وسلم - وجميع ما لفظ به المصطفى - صلى الله عليه وسلم - من صفاته، كغرسه جنته الفردوس بيده، وشجرة طوبى بيده، وخط التوراة بيده، والضحك والتعجب ووضعه القدم على النار فتقول قط قط، وذكر الأصابع والنزول كل ليلة إلى سماء الدنيا، وليلة الجمعة وليلة النصف من شعبان وليلة القدر، وغيرته وفرحه بتوبة العبد واحتجابه بالنور وبرداء الكبرياء، وأنه ليس ¬

(¬1) الزمر الآية (67) .. (¬2) الملك الآية (16). (¬3) الزخرف الآية (84) ..

بأعور، وأنه يعرض عما يكره ولا ينظر إليه، وأن كلتا يديه يمين، واختيار آدم قبضة اليمنى وحديث القبضة، وله كل يوم كذا وكذا نظرة في اللوح المحفوظ، وأنه يوم القيامة يحثو ثلاث حثيات من جهنم فيدخلهم الجنة، ولما خلق آدم عليه الصلاة والسلام مسح ظهره بيمينه، فقبض قبضة، فقال: هؤلاء للجنة ولا أبالي أصحاب اليمين وقبض قبضة أخرى وقال: هذه للنار ولا أبالي أصحاب الشمال، ثم ردهم في صلب آدم (¬1). وحديث القبضة التي يخرج بها من النار قوماً لم يعملوا خيراً قط، عادوا حمماً فيلقون في نهر من الجنة يقال له نهر الحياة (¬2) وحديث خلق آدم على صورته وقوله: "لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن" (¬3) وإثبات الكلام بالحرف والصوت وباللغات وبالكلمات وبالسورن وكلامه تعالى لجبريل والملائكة ولملك الأرحام والرحم ولملك الموت ولرضوان ولمالك ولآدم ولموسى ولمحمد - صلى الله عليه وسلم - وللشهداء وللمؤمنين عند الحساب، وفي الجنة ونزول القرآن إلى سماء الدنيا وكون القرآن في المصاحف وما أذن الله لشيء كأَذنه لنبي يتغنى بالقرآن ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (4/ 186) من حديث عبد الرحمن بن قتادة، وصححه ابن حبان (2/ 50/338) والحاكم (1/ 31) ووافقه الذهبي، وذكره الهيثمي (7/ 186) وقال: "رواه أحمد ورجاله ثقات وفي الباب عن عدة من الصحابة كأنس وأبي موسى وحكيم بن حزام وأبي سعيد وابن عمر ومعاذ وغيرهم". (¬2) جزء من حديث طويل أخرجه: أحمد (3/ 16 - 17و94 - 95) والبخاري (13/ 517 - 519/ 7439) ومسلم (1/ 167 - 171/ 183) والترمذي (4/ 615/2598) مختصراً، والنسائي (8/ 486 - 487/ 5025) وابن ماجه (1/ 23/60) من طرق عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬3) سيأتي تخريجه في مواقف البربهاري سنة (329هـ) ..

أبو يحيى الساجي (307 هـ)

المتفقهة من اشتغل بالكلام فأفلح، يفوته الفقه ولا يصل إلى معرفة الكلام. قال: وكنا نأتي مجلس ابن سريج سنة ثلاث وثلاث مائة فقام إليه شيخ من أهل العلم فقال: أبشر أيها القاضي فإن الله يبعث على كل مائة سنة من يجدد للأمة دينها، والله تعالى بعث على رأس المائة عمر بن عبد العزيز، وعلى رأس المائتين الشافعي، وبعثك على رأس الثلاث مائة ثم أنشأ يقول: اثنان قد مضيا وبورك فيهما ... عمر الخليفة ثم خلف السودد الشافعي الألمعي محمد ... إرث النبوة وابن عم محمد أبشر أبا العباس إنك ثالث ... من بعدهم سقيا لنوبة أحمد فصاح أبو العباس وبكى وقال: لقد نعى إلي نفسي. قال حسان: فمات القاضي أبو العباس في تلك السنة. كذا في النسخة سنة ثلاث وكأنها سنة ست تصحفت. وقد كان على رأس المائة الرابعة الإمام أبو حامد الإسفراييني ببغداد. (¬1) أبو يحيى السَّاجي (¬2) (307 هـ) الإمام الثبت، الحافظ، محدث البصرة وشيخها ومفتيها، أبو يحيى زكريا ابن يحيى بن عبد الرحمن بن بحر بن عدي. البصري الشافعي. سمع أبا الربيع الزهراني وعبيد الله بن معاذ العنبري وهدبة بن خالد القيسي وخلقا بالبصرة ¬

(¬1) التذكرة (3/ 812). (¬2) الجرح والتعديل (3/ 601) وتذكرة الحفاظ (2/ 709 - 710) وميزان الاعتدال (2/ 79) واللسان (2/ 488 - 489) والبداية والنهاية (11/ 140) وتهذيب التهذيب (3/ 334) وشذرات الذهب (2/ 250 - 251) والسير (14/ 197 - 200).

موقفه من الجهمية:

ولم يرحل. وحدث عنه أبو أحمد بن عدي وأبو بكر الإسماعيلي وأبو القاسم الطبراني وخلق. قال الذهبي: وللساجي مصنف جليل في علل الحديث يدل على تبحره وحفظه، ولم تبلغنا أخباره كما في النفس، وقد هم بمن أدخل عليه، فقال الخليلي، سمعت عبد الرحمن بن أحمد الشيرازي الحافظ يقول: سألت ابن عدي عن إبراهيم بن محمد بن يحيى بن منده فقال: كنا بالبصرة عند زكريا الساجي فقرأ عليه إبراهيم حديثين عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب عن عمه عن مالك، فقلت: هما عن يونس، فأخذ الساجي كتابه فتأمل وقال لي: هو كما قلت، وقال لإبراهيم: ممن أخذت هذا؟ فأحال على بعض أهل البصرة، قال: علي بصاحب الشرطة حتى أسود وجه هذا، فكلموه حتى عفا عنه، ومزق الكتاب. مات بالبصرة سنة سبع وثلاث مائة وهو في عشر التسعين رحمه الله. موقفه من الجهمية: جاء في اجتماع الجيوش الإسلامية عنه قال: القول في السنة التي رأيت عليها أصحابنا أهل الحديث الذين لقيناهم أن الله تعالى على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء ثم ذكر بقية الاعتقاد، ذكره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء وقال أخذ عن الربيع والمزني وله كتاب اختلاف الفقهاء وكتاب علل الحديث وهو شيخ أبي الحسن الأشعري في الفقه والحديث وذكر ما حكاه أبو نصر السجزي عن أهل الحديث قال: وأئمتنا كالثوري ومالك وابن عيينة وحماد بن زيد والفضيل وأحمد وإسحاق متفقون

عروس المؤذن (307 هـ)

على أن الله فوق العرش بذاته وأن علمه بكل مكان. (¬1) عروس المُؤَذِّن (¬2) (307 هـ) الرجل الصالح المتعبد عروس المؤذن. كان يؤذن بمسجد أبي عياش الفقيه، صاحب سحنون، وكان اسمه منيب. قال صاحب معالم الإيمان: وكان زاهداً يطحن بيده ويعيش من عمل الحلفاء. قتل -رحمه الله- سنة سبع وثلاثمائة. موقفه من الرافضة: جاء في معالم الإيمان: وسبب قتله أنه كان يؤذن في مسجد عباس الفقيه صاحب سحنون، فشهد عليه بعض المشارقة أنه لم يقل في آذانه "حي على خير العمل"، فقطع لسانه، وعلق بين عينيه، وطيف به القيروان ثم قتل بالمرضاخ. (¬3) الحسن بن مفرج (¬4) (309 هـ) هو الحسن بن مفرج أبو القاسم مولى مهرية بنت الأغلب بن إبراهيم. كان من العباد الزهاد، ينتحل التوكل، كثير الحج والأسفار والتغريب عن ¬

(¬1) اجتماع الجيوش (ص.226 - 227). (¬2) رياض النفوس (2/ 152) ومعالم الإيمان (3/ 5). (¬3) معالم الإيمان (3/ 5). (¬4) معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان (2/ 353 - 356).

موقفه من الرافضة:

الأوطان. خرج مع جماعة على عبيد الله المهدي، فأخذ وقتل مصلوباً سنة تسع وثلاثمائة. موقفه من الرافضة: جاء في معالم الإيمان: قال: مات أبو القاسم شهيداً قتله عبيد الله المهدي، وكان سبب قتله أنه رأى أموراً لا يحل المقام عليها لمسلم، فخرج مع جماعة على عبيد الله، فأخذ وقتل معه محمد بن عبد الله السدري، وصلبا جميعاً. قال التجيبي: ولما سجن رأى كأنه أتى بقصعة من شهد، فحساها فأصبح يحكيه فقال له رجل: أي شيء هذه الشهادة أتتك؟ فما تضحى نهار ذلك اليوم حتى تقتل فكأنه جزع، فقيل له تكره القدوم إلى الله؟ فوثب كأنه حل من عقال يقول: لبيك لبيك، حتى ضربت عنقه وقال المالكي: قتلا بالرماح وصلبا برملة المهدية. (¬1) موقف السلف من الحلاّج (309 هـ) بيان زندقته: هذا الخبيث هو وأمثاله من زنادقة الصوفية الذين يتسترون بأنهم أهل الولاية وهم الزنادقة ورثة الحلولية والباطنية الذين آلوا على أنفسهم أنهم لا يتركون للإسلام قائمة ولكن الله يحفظ دينه رغم مكائدهم ومن تتبع ما ¬

(¬1) معالم الإيمان (2/ 354).

كتبناه في هذا البحث المبارك ير صدق ذلك في هؤلاء الزنادقة وما فعله المسلمون بهم في كل زمان ومكان، ومهما تستروا يكشف الله أمرهم ويظهروا على حقيقتهم. وهكذا كل مغرض يكون منافقاً مدة ثم ينكشف. وهذا الزنديق قد ساق أخباره غير واحد ممن ألف في التاريخ والطبقات وخصوصاً الذين ألفوا في طبقات الصوفية كأبي عبد الرحمن السلمي والنقاش والشعراني وغيرهم وهم يختلفون فيه ما بين مثبت له وما بين رافض كل حسب مصلحته، وإلا أمثال هؤلاء لا يختلف فيهم اثنان ولا يتناطح فيهم عنزان. وإليك نماذج من زندقته وشعوذته وموقف العلماء والخليفة منه. - جاء في السير: بالسند إلى منجم ماهر قال: بلغني خبر الحلاج فجئته كالمسترشد فخاطبني وخاطبته ثم قال: تشهّ الساعة ما شئت حتى أجيئك به. وكنا في بعض بلدان الجبل التي لا يكون فيها الأنهار فقلت: أريد سمكاً طرياً حياً، فقام فدخل البيت وأغلق بابه وأبطأ ساعة ثم جاءني وقد خاض وحلاً إلى ركبته ومعه سمكة تضطرب، وقال: دعوت الله فأمرني أن أقصد البطائح فجئت بهذه، قال: فعلمت أن هذا حيلة فقلت له: فدعني أدخل البيت فإن لم تنكشف لي حيلة آمنت بك: قال: شأنك، فدخلت البيت وغلقت على نفسي، فلم أجد طريقاً ولا حيلة ثم قلعت من التأزير، ودخلت إلى دار كبيرة فيها بستان عظيم فيه صنوف الأشجار والثمار والريحان، التي هو وقتها وما ليس وقتها مما قد غطي وعتق، واحتيل في بقائه، وإذا الخزائن مفتحة، فيها أنواع الأطعمة وغير ذلك، وإذا بِرْكة كبيرة، فخضتها فإذا رجلي قد سارت بالوحل كرجليه، فقلت: الآن إن خرجت ومعي سمكة قتلني، فصدت سمكة

فلما صرت إلى باب البيت أقبلت أقول: آمنت وصدقت ما ثم حيلة وليس إلا التصديق بك. قال: فخرج وخرجت وعدوت فرأى السمكة معي فعدا خلفي فلحقني فضربت بالسمكة في وجهه وقلت له: أتعبتني حتى مضيت إلى البحر فاستخرجت هذه، فاشتغل بما لحقه من السمكة فلما صرت في الطريق رميت بنفسي لما لحقني من الجزع والفزع فجاء إلي وضاحكني وقال: ادخل فقلت: هيهات. فقال: اسمع والله لئن شئت قتلتك على فراشك، ولكن إن سمعت بهذه الحكاية لأقتلنك. فما حكيتها حتى قتل. (¬1) - وقال ابن كثير: روى الخطيب البغدادي أن الحلاّج بعث رجلاً من خاصة أصحابه وأمره أن يذهب بين يديه إلى بلد من بلاد الجبل، وأن يظهر لهم العبادة والصلاح والزهد، فإذا رآهم قد أقبلوا عليه وأحبوه واعتقدوه أظهر لهم أنه قد عمي، ثم يظهر لهم بعد أيام أنه قد تكسح، فإذا سعوا في مداواته، قال لهم: يا جماعة الخير، إنه لا ينفعني شيء مما تفعلون، ثم يظهر لهم بعد أيام أنه قد رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام وهو يقول له: إن شفاءك لا يكون إلا على يدي القطب، وإنه سيقدم عليك في اليوم الفلاني في الشهر الفلاني، وصفته كذا وكذا. وقال له الحلاج: إني سأقدم عليك في ذلك الوقت. فذهب ذلك الرجل إلى تلك البلاد فأقام بها يتعبد ويظهر الصلاح والتنسك ويقرأ القرآن. فأقام مدة على ذلك فاعتقدوه وأحبوه، ثم أظهر لهم أنه قد عمي فمكث حيناً على ذلك، ثم أظهر لهم أنه قد زمن، فسعوا بمداواته ¬

(¬1) السير (14/ 323 - 324).

بكل ممكن فلم ينتج فيه شيء، فقال لهم: يا جماعة الخير هذا الذي تفعلونه معي لا ينتج شيئاً وأنا قد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام وهو يقول لي: إنّ عافيتك وشفاءك إنما هو على يدي القطب، وإنه سيقدم عليك في اليوم الفلاني في الشهر الفلاني، وكانوا أولاً يقودونه إلى المسجد ثم صاروا يحملونه ويكرمونه [حتى] (¬1) كان في الوقت الذي ذكر لهم، واتفق هو والحلاج عليه، أقبل الحلاج حتى دخل البلد مختفياً وعليه ثياب صوف بيض، فدخل المسجد ولزم سارية يتعبد فيه لا يلتف إلى أحد، فعرفه الناس بالصفات التي وصف لهم ذلك العليل، فابتدروا إليه يسلمون عليه ويتمسحون به، ثم جاؤوا إلى ذلك الزّمِن المتعافى فأخبره بخبره، فقال: صفوه لي، فوصفوه له فقال: هذا الذي أخبرني عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام، وأن شفائي على يديه، اذهبوا بي إليه. فحملوه حتى وضعوه بين يديه فكلمه فعرفه فقال: يا أبا عبد الله إني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام. ثم ذكر له رؤياه، فرفع الحلاج يديه فدعا له ثم تفل من ريقه في كفيه ثم مسح بهما على عينيه ففتحهما كأن لم يكن بهما داء قط فأبصر، ثم أخذ من ريقه فمسح على رجليه فقام من ساعته فمشى كأنه لم يكن به شيء والناس حضور، وأمراء تلك البلاد وكبراؤهم عنده، فضج الناس ضجة عظيمة وكبروا الله وسبحوه وعظموا الحلاج تعظيماً زائداً على ما أظهر لهم من الباطل والزور. ثم أقام عندهم مدة يكرمونه ويعظمونه ويودون لو طلب منهم ما عساه أن يطلب من أموالهم. فلما أراد الخروج ¬

(¬1) زيادة يقتضيها السياق.

عنهم أرادوا أن يجمعوا له مالاً كثيراً فقال: أما أنا فلا حاجة لي بالدنيا، وإنما وصلنا إلى ما وصلنا إليه بترك الدنيا، ولعل صاحبكم هذا أن يكون له إخوان وأصحاب من الأبدال الذين يجاهدون بثغر طرسوس، ويحجون ويتصدقون، محتاجين إلى ما يعينهم على ذلك. فقال ذلك الرجل المتزامن المتعافى: صدق الشيخ، قد رد الله علي بصري ومن الله علي بالعافية، لأجعلن بقية عمري في الجهاد في سبيل الله، والحج إلى بيت الله مع إخواننا الأبدال والصالحين الذين نعرفهم، ثم حثهم على إعطائه من المال ما طابت به أنفسهم. ثم إن الحلاج خرج عنهم ومكث ذلك الرجل بين أظهرهم مدة إلى أن جمعوا له مالاً كثيراً ألوفاً من الذهب والفضة، فلما اجتمع له ما أراد ودعهم وخرج عنهم فذهب إلى الحلاج فاقتسما ذلك المال. (¬1) - وقال أيضاً: كان الحلاج متلوناً تارة يلبس المسوح، وتارة يلبس الدراعة، وتارة يلبس القباء، وهو مع كل قوم على مذهبهم: إن كانوا أهل سنة أو رافضة أو معتزلة أو صوفية أو فساقاً أو غيرهم، ولما أقام بالأهواز جعل ينفق من دراهم يخرجها يسميها دراهم القدرة، فسئل الشيخ أبو علي الجبائي عن ذلك فقال: إن هذا كله مما يناله البشر بالحيلة، ولكن أدخلوه بيتاً لا منفذ له ثم سلوه أن يخرج لكم جرزتين من شوك. فلما بلغ ذلك الحلاج تحول من الأهواز. (¬2) - جاء في السير عن أحمد بن يوسف الأزرق: أن الحلاج لما قدم بغداد ¬

(¬1) البداية (11/ 145 - 146) والسير (14/ 319 - 320). (¬2) البداية (11/ 147 - 148) والسير (14/ 320).

استغوى خلقاً من الناس والرؤساء، وكان طمعه في الرافضة أقوى لدخوله في طريقهم، فراسل أبا سهل بن نوبخت يستغويه، وكان أبو سهل فطناً، فقال لرسوله: هذه المعجزات التي يظهرها يمكن فيها الحيل، ولكني رجل غزل، ولا لذة لي أكبر من النساء، وأنا مبتلى بالصلع، فإن جعل لي شعراً ورد لحيتي سوداء، آمنت بما يدعوني إليه وقلت: إنه باب الإمام، وإن شاء قلت: إنه الإمام، وإن شاء قلت: إنه النبي، وإن شاء قلت: إنه الله. فأيس الحلاج منه وكف. (¬1) - وجاء فيها أيضاً: عن أبي بكر بن سعدان قال: قال لي الحلاج: تؤمن بي حتى أبعث إليك بعصفور أطرح من ذرقها وزن حبة على كذا منا نحاساً فيصير ذهباً؟ فقلت له: بل أنت تؤمن بي حتى أبعث إليك بفيل يستلقي فتصير قوائمه في السماء، فإذا أردت أن تخفيه أخفيته في إحدى عينيك. قال: فبهت وسكت. ويروى أن رجلاً قال للحلاج: أريد تفاحة، ولم يكن وقته، فأومأ بيده إلى الهواء، فأعطاهم تفاحة وقال: هذه من الجنة. فقيل له: فاكهة الجنة غير متغيرة، وهذه فيها دودة. فقال: لأنها خرجت من دار البقاء إلى دار الفناء، فحل بها جزء من البلاء. فانظر إلى ترامي هذا المسكين على الكرامات والخوارق، فنعوذ بالله من الخذلان، فعن عمر رضي الله عنه أنه كان يتعوذ من خشوع النفاق. (¬2) ¬

(¬1) السير (14/ 322 - 323). (¬2) السير (14/ 324 - 325).

- وفيها أيضاً عن زيد القصري قال: كنت بالقدس، إذ دخل الحلاج، وكان يومئذ يشعل فيه قنديل قمامة بدهن البَلَسان، فقام الفقراء إليه يطلبون منه شيئاً، فدخل بهم إلى القمامة، فجلس بين الشمامسة، وكان عليه السواد، فظنوه منهم، فقال لهم: متى يشعل القنديل؟ قالوا: إلى أربع ساعات. فقال: كثير. فأومأ بأصبعه، فقال: الله. فخرجت نار من يده، فأشعلت القنديل، واشتعلت ألف قنديل حواليه، ثم ردت النار إلى أصبعه، فقالوا: من أنت؟ قال: أنا حنيفي، أقل الحنيفيين، تحبون أن أقيم أو أخرج؟ فقالوا: ما شئت. فقال: أعطوا هؤلاء شيئاً. فأخرجوا بدرة فيها عشرة آلاف درهم للفقراء. فهذه الحكاية وأمثالها ما صح منها فحكمه أنه مخدوم من الجن. - قال التنوخي: وحدثني أحمد بن يوسف الأزرق قال: بلغني أن الحلاج كان لا يأكل شيئاً شهراً، فهالني هذا، وكان بين أبي الفرج وبين روحان الصوفي مودة، وكان محدثاً صالحاً، وكان القصري -غلام الحلاج- زوج أخته، فسألته عن ذلك فقال: أما ما كان الحلاج يفعله فلا أعلم كيف كان يتم له، ولكن صهري القصري قد أخذ نفسه، ودرجها، حتى صار يصبر عن الأكل خمسة عشر يوماً، أقل أو أكثر. وكان يتم له ذلك بحيلة تخفى علي، فلما حبس في جملة الحلاجية، كشفها لي، وقال لي: إن الرصد إذا وقع بالإنسان، وطال فلم تنكشف معه حيلة، ضعف عنه الرصد، ثم لا يزال يضعف كلما لم تنكشف حيلته، حتى يبطل أصلاً، فيتمكن حينئذ من فعل ما يريد، وقد رصدني هؤلاء منذ خمسة عشر يوماً، فما رأوني آكل شيئاً بتة، وهذا نهاية صبري، فخذ رطلاً من الزبيب ورطلا من اللوز، فدقهما،

واجعلهما مثل الكسب وابسطه كالورقة، واجعلها بين ورقتين كدفتر، وخذ الدفتر في يدك مكشوفاً مطوياً ليخفى، وأحضره لي خفية لآكل منه وأشرب الماء في المضمضة، فيكفيني ذلك خمسة عشر يوماً أخرى. فكنت أعمل ذلك له طول حبسه. (¬1) نماذج من زندقته: - قال السلمي: وحكي عنه أنه رؤي واقفاً في الموقف، والناس في الدعاء وهو يقول: أنزهك عما قرفك به عبادك، وأبرأ إليك مما وحدك به الموحدون. قال الذهبي رحمه الله: هذا عين الزندقة، فإنه تبرأ مما وحد الله به الموحدون الذين هم الصحابة والتابعون وسائر الأمة، فهل وحدوه تعالى إلا بكلمة الإخلاص التي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قالها من قلبه فقد حرم ماله ودمه" (¬2) وهي شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا برئ الصوفي منها فهو ملعون زنديق وهو صوفي الزي والظاهر متستر بالنسب إلى العارفين، وفي الباطن فهو من صوفية الفلاسفة أعداء الرسل كما كان جماعة في أيام النبي - صلى الله عليه وسلم - منتسبين (¬3) إلى صحبته وإلى ملته، وهم في الباطن من مردة المنافقين، قد لا يعرفهم نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يعلم بهم. قال الله تعالى: {ومن أهل ¬

(¬1) السير (14/ 333 - 335). (¬2) تقدم تخريجه في مواقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه سنة (13هـ). (¬3) في الأصل منتسبون والصواب ما أثبتناه.

الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} (¬1) فإذا جاز على سيد البشر أن لا يعلم ببعض المنافقين وهم معه في المدينة سنوات، فبالأولى أن يخفى حال جماعة من المنافقين الفارغين عن دين الإسلام بعده عليه السلام على العلماء من أمته، فما ينبغي لك يا فقيه أن تبادر إلى تكفير المسلم إلا ببرهان قطعي، كما لا يسوغ لك أن تعتقد العرفان والولاية فيمن قد تبرهن زغله، وانهتك باطنه وزندقته، فلا هذا ولا هذا، بل العدل أن من رآه المسلمون صالحاً محسناً، فهو كذلك، لأنهم شهداء الله في أرضه، إذ الأمة لا تجتمع على ضلالة، وأن من رآه المسلمون فاجراً أو منافقاً أو مبطلاً، فهو كذلك، وأن من كان طائفة من الأمة تضلله، وطائفة من الأمة تثني عليه وتبجله، وطائفة ثالثة تقف فيه وتتورع من الحط عليه، فهو ممن ينبغي أن يعرض عنه، وأن يفوض أمره إلى الله، وأن يستغفر له في الجملة، لأن إسلامه أصلي بيقين، وضلاله مشكوك فيه، فبهذا تستريح ويصفو قلبك من الغل للمؤمنين. ثم اعلم أن أهل القبلة كلهم، مؤمنهم وفاسقهم، وسنيهم ومبتدعهم -سوى الصحابة- لم يجمعوا على مسلم بأنه سعيد ناج، ولم يجمعوا على مسلم بأنه شقي هالك، فهذا الصديق فرد الأمة، قد علمت تفرقهم فيه، وكذلك عمر، وكذلك عثمان، وكذلك علي، وكذلك ابن الزبير، وكذلك الحجاج، وكذلك المأمون، وكذلك بشر المريسي، وكذلك أحمد بن حنبل، ¬

(¬1) التوبة الآية (101) ..

والشافعي، والبخاري، والنسائي، وهلم جراً من الأعيان في الخير والشر إلى يومك هذا، فما من إمام كامل في الخير إلا وثم أناس من جهلة المسلمين ومبتدعيهم يذمونه ويحطون عليه، وما من رأس في البدعة والتجهم والرفض إلا وله أناس ينتصرون له، ويذبون عنه، ويدينون بقوله بهوى وجهل، وإنما العبرة بقول جمهور الأمة الخالين من الهوى والجهل، المتصفين بالورع والعلم، فتدبر -يا عبد الله- نحلة الحلاج الذي هو من رؤوس القرامطة، ودعاة الزندقة، وأنصف وتورع واتق ذلك وحاسب نفسك، فإن تبرهن لك أن شمائل هذا المرء شمائل عدو للإسلام، محب للرئاسة، حريص على الظهور بباطل وبحق، فتبرأ من نحلته، وإن تبرهن لك والعياذ بالله، أنه كان -والحالة هذه- محقاً هادياً مهدياً، فجدد إسلامك واستغث بربك أن يوفقك للحق، وأن يثبت قلبك على دينه، فإنما الهدى نور يقذفه الله في قلب عبده المسلم، ولا قوة إلا بالله، وإن شككت ولم تعرف حقيقته، وتبرأت مما رمي به، أرحت نفسك، ولم يسألك الله عنه أصلاً. (¬1) - ومن زندقته أيضاً قوله: الكفر والإيمان يفترقان من حيث الاسم، فأما من حيث الحقيقة، فلا فرق بينهما. - عن جندب بن زاذان، تلميذ الحسين قال: كتب الحسين إلي: باسم الله المتجلي عن كل شيء لمن يشاء، والسلام عليك يا ولدي، ستر الله عنك ظاهر الشريعة، وكشف لك حقيقة الكفر، فإن ظاهر الشريعة كفر، وحقيقة ¬

(¬1) السير (14/ 342 - 345).

الكفر معرفة جلية، وإني أوصيك أن لا تغتر بالله، ولا تيأس منه ولا ترغب في محبته ولا ترضى أن تكون غير محب ولا تقل بإثباته، ولا تمل إلى نفيه، وإياك والتوحيد، والسلام. (¬1) - وقال الذهبي: قال ابن باكويه: سمعت عيسى بن بزول القزويني يقول: إنه سأل ابن خفيف عن معنى هذه الأبيات: سبحان من أظهر ناسوته ... سر سنا لاهوته الثاقب ثم بدا في خلقه ظاهرا ... في صورة الآكل والشارب حتى لقد عاينه خلقه ... كلحظة الحاجب بالحاجب فقال ابن خفيف: على قائل ذا لعنة الله. قال: هذا شعر الحسين الحلاج. قال: إن كان هذا اعتقاده، فهو كافر فربما يكون مقولا عليه. (¬2) - وقال أيضاً: ذكر ابن حوقل قال: ظهر من فارس الحلاج ينتحل النسك والتصوف، فما زال يترقى طبقاً عن طبق حتى آل به الحال إلى أن زعم: أنه من هذب في الطاعة جسمه، وشغل بالأعمال قلبه، وصبر عن اللذات، وامتنع من الشهوات يترق في درج المصافاة، حتى يصفو عن البشرية طبعه، فإذا صفا حل فيه روح الله الذي كان منه إلى عيسى، فيصير مطاعاً، يقول للشيء: كن، فيكون، فكان الحلاج يتعاطى ذلك ويدعو إلى نفسه حتى استمال جماعة من الأمراء والوزراء، وملوك الجزيرة والجبال والعامة، ويقال: إن يده لما قطعت كتب الدم على الأرض: الله الله. ¬

(¬1) السير (14/ 352 - 353). (¬2) السير (14/ 325).

قلت -أي الذهبي-: ما صح هذا، ويمكن أن يكون هذا من فعله بحركة زنده. (¬1) وقيل: إن الوزير حامداً وجد في كتبه: إذا صام الإنسان وواصل ثلاثة أيام وأفطر في رابع يوم على ورقات هندبا أغناه عن صوم رمضان، وإذا صلى في ليلة ركعتين من أول الليل إلى الغداة أغنته عن الصلاة بعد ذلك، وإذا تصدق بكذا وكذا أغناه عن الزكاة. (¬2) - وفي السير والتلبيس: أن ابنة السمري أدخلت على حامد الوزير، فسألها عن الحلاج فقالت: حملني أبي إليه فقال: قد زوجتك من ابني سليمان، وهو مقيم بنيسابور، فمتى جرى شيء تنكرينه من جهته فصومي يومك واصعدي في آخر النهار إلى السطح، وقومي على الرماد واجعلي فطرك عليه وعلى ملح جريش واستقبليني بوجهك واذكري لي ما أنكرتيه منه فإني أسمع وأرى، قالت: وكنت ليلة نائمة في السطح فأحسست به قد غشيني فانتبهت مذعورة لما كان منه، فقال: إنما جئتك لأوقظك للصلاة، فلما نزلنا قالت ابنته: اسجدي له، فقلت: أو يسجد أحد لغير الله؟! فسمع كلامي، فقال: نعم إله في السماء وإله في الأرض. (¬3) - وفي السير عن إبراهيم بن شيبان قال: سلم أستاذي أبو عبد الله المغربي على عمرو بن عثمان، فجاراه في مسألة، فجرى في عرض الكلام أن ¬

(¬1) السير (14/ 347). (¬2) السير (14/ 347). (¬3) السير (14/ 337 - 338) وتلبيس إبليس (213).

قال: هاهنا شاب على جبل أبي قبيس. فلما خرجنا من عند عمرو صعدنا إليه، وكان وقت الهاجرة، فدخلنا عليه، فإذا هو جالس في صحن الدار على صخرة في الشمس، والعرق يسيل منه على الصخرة، فلما نظر إليه المغربي رجع وأشار بيده: ارجع. فنزلنا المسجد، فقال لي أبو عبد الله: إن عشت ترى ما يلقى هذا، قد قعد بحمقه يتصبر مع الله. فسألنا عنه، فإذا هو الحلاج. (¬1) وفي سنة إحدى وثلاث مئة أدخل الحلاج بغداد مشهوراً على جمل، قبض عليه بالسوس، وحمل إلى الرائشي، فبعث به إلى بغداد، فصلب حياً، ونودي عليه: هذا أحد دعاة القرامطة فاعرفوه. وقال الفقيه أبو علي بن البناء: كان الحلاج قد ادعى أنه إله، وأنه يقول بحلول اللاهوت في الناسوت، فأحضره الوزير علي بن عيسى فلم يجده -إذ سأله- يحسن القرآن والفقه ولا الحديث. فقال: تعلمك الفرض والطهور أجدى عليك من رسائل لا تدري ما تقول فيها. كم تكتب -ويلك- إلى الناس: تبارك ذو النور الشعشعاني؟ ما أحوجك إلى أدب وأمر به فصلب في الجانب الشرقي، ثم في الغربي، ووجد في كتبه: إني مغرق قوم نوح، ومهلك عاداً وثمود. (¬2) - قال أبو علي التنوخي: أخبرني أبو الحسين بن عياش القاضي عمن أخبره: أنه كان بحضرة حامد بن العباس لما قبض على الحلاج، وقد جيء بكتب وجدت في داره من دعاته في الأطراف يقولون فيها: وقد بذرنا لك في كل أرض ما يزكو فيها، وأجاب قوم إلى أنك الباب -يعني الإمام- ¬

(¬1) السير (14/ 317). (¬2) السير (14/ 327).

وآخرون يعنون أنك صاحب الزمان -يعنون الإمام الذي تنتظره الإمامية- وقوم إلى أنك صاحب الناموس الأكبر -يعنون النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقوم يعنون أنك هو هو -يعني الله عز وجل-. قال: فسئل الحلاج عن تفسير هذه الكتب، فأخذ يدفعه ويقول: هذه الكتب لا أعرفها، هذه مدسوسة علي، ولا أعلم ما فيها، ولا معنى هذا الكلام. وجاؤوا بدفاتر للحلاج فيها أن الإنسان إذا أراد الحج فإنه يكفيه أن يعمد إلى بيت ... وذكر القصة. (¬1) - وقال أبو يعقوب الأقطع: زوجت ابنتي من الحسين بن منصور لما رأيت من حسن طريقته واجتهاده، فبان لي بعد مدة يسيرة أنه ساحر، محتال كافر. - وقال أبو يعقوب النعماني: سمعت أبا بكر محمد بن داود الفقيه يقول: إن كان ما أنزل الله على نبيه حقاً، فما يقول الحلاج باطل. وكان شديداً عليه. - السلمي: سمعت علي بن سعيد الواسطي بالكوفة يقول: ما تجرد أحد على الحلاج وحمل السلطان على قتله كما تجرد له ابن داود. وبلغني أنه لما أخرج إلى القتل تغير وجه حامد بن العباس، فقال له بعض الفقهاء: لا تشكن أيها الوزير، إن كان ما جاء به محمد حقاً، فما يقول هذا باطل. - السلمي: سمعت جعفر بن أحمد يقول: سمعت أبا بكر بن أبي سعدان يقول: الحلاج مموه ممخرق. ¬

(¬1) السير (14/ 336).

- السلمي: سمعت أبا بكر بن غالب يقول: سمعت بعض أصحابنا يقول: لما أرادوا قتل الحلاج، أحضر لذلك الفقهاء، فسألوه: ما البرهان؟ قال: شواهد يلبسها الحق لأهل الإخلاص، يجذب في النفوس إليها جاذب القبول. فقالوا بأجمعهم: هذا كلام أهل الزندقة. قال الذهبي: بل من وزن نفسه، وزمها بالكتاب والسنة، فهو صاحب برهان وحجة، فما أخيب سهم من فاته ذلك. - قال ابن الجوزي فيما أنبأوني عنه: إن شيخه أبا بكر الأنصاري أنبأه قال: شهدت أنا وجماعة على أبي الوفاء بن عقيل قال: كنت قد اعتقدت في الحلاج ونصرته في جزء، وأنا تائب إلى الله منه، وقد قتل بإجماع فقهاء عصره، فأصابوا وأخطأ هو وحده. (¬1) ومن شعره في الاتحاد: يا نسيم الريح قولي للرشا ... لم يزدني الورد إلا عطشا روحه روحي وروحي فله ... إن يشا شئت وإن شئت يشا (¬2) - قال الذهبي: قرأت بخط العلامة تاج الدين الفزاري قال: رأيت في سنة سبع وستين وست مئة كتاباً فيه قصة الحلاج، منه: عن إبراهيم الحلواني قال: دخلت على الحسين بن منصور بين المغرب والعتمة، فوجدته يصلي، فجلست كأنه لم يحس بي، فسمعته يقرأ سورة البقرة، فلما ختمها، ركع وقام في الركوع طويلاً، ثم قام إلى الثانية، قرأ الفاتحة وآل عمران، فلما سلم ¬

(¬1) السير (14/ 330 - 331). (¬2) السير (14/ 346).

تكلم بأشياء لم أسمعها، ثم أخذ في الدعاء، ورفع صوته كأنه مأخوذ من نفسه وقال: يا إله الآلهة ورب الأرباب ويا من لا تأخذه سنة رد إلي نفسي لئلا يفتتن بي عبادك، يا من هو أنا وأنا هو ولا فرق بين إنيتي وهويتك إلا الحدث والقدم. ثم رفع رأسه ونظر إلي وضحك في وجهي ضحكات، ثم قال لي: يا أبا إسحاق أما ترى إلى ربي ضرب قدمه في حدثي حتى استهلك حدثي في قدمه، فلم تبق لي صفة إلا صفة القدم، ونطقي من تلك الصفة فالخلق كلهم أحداث ينطقون عن حدث ثم إذا نطقت عن القدم ينكرون علي ويشهدون بكفري، وسيسعون إلى قتلي، وهم في ذلك معذورون، وبكل ما يفعلون مأجورون. (¬1) - قال أبو الفرج بن الجوزي: جمعت كتابا سميته: 'القاطع بمحال المحاج بحال الحلاج'. وبلغ من أمره أنهم قالوا: إنه إله، وإنه يحيي الموتى. (¬2) - قال ابن باكويه: سمعت ابن خفيف يسأل: ما تعتقد في الحلاج؟ قال: أعتقد أنه رجل من المسلمين فقط. فقيل له: قد كفره المشايخ وأكثر المسلمين. فقال: إن كان الذي رأيته منه في الحبس لم يكن توحيداً، فليس في الدنيا توحيد. قال الذهبي: هذا غلط من ابن خفيف، فإن الحلاج عند قتله ما زال يوحد الله ويصيح: الله الله في دمي، فأنا على الإسلام. وتبرأ مما سوى الإسلام. والزنديق فيوحد الله علانية، ولكن الزندقة في سره. والمنافقون فقد ¬

(¬1) السير (14/ 351 - 352). (¬2) السير (14/ 346 - 347).

كانوا يوحدون ويصومون ويصلون علانية، والنفاق في قلوبهم، والحلاج فما كان حماراً حتى يظهر الزندقة بإزاء ابن خفيف وأمثاله، بل كان يبوح بذلك لمن استوثق من رباطه، ويمكن أن يكون تزندق في وقت، ومرق وادعى الإلهية، وعمل السحر والمخاريق الباطلة مدة، ثم لما نزل به البلاء ورأى الموت الأحمر أسلم ورجع إلى الحق، والله أعلم بسره، ولكن مقالته نبرأ إلى الله منها، فإنها محض الكفر، نسأل الله العفو والعافية، فإنه يعتقد حلول البارئ -عز وجل- في بعض الأشراف، تعالى الله عن ذلك. (¬1) - قال ابن زنجي: وحملت دفاتر من دور أصحاب الحلاج فأمرني حامد أن أقرأها والقاضي أبو عمر حاضر، والقاضي أبو الحسين بن الأشناني، فمن ذلك أن الإنسان إذا أراد الحج أفرد في داره بيتاً وطاف به أيام الموسم، ثم جمع ثلاثين يتيماً وكساهم قميصاً قميصاً وعمل لهم طعاماً طيباً، فأطعمهم وخدمهم وكساهم، وأعطى لكل واحد سبعة دراهم أو ثلاثة، فإذا فعل ذلك قام له ذلك مقام الحج. فلما قرأ ذلك الفصل التفت القاضي أبو عمر إلى الحلاج وقال له: من أين لك هذا؟ قال: من كتاب الإخلاص للحسن البصري. قال: كذبت يا حلال الدم، قد سمعنا كتاب الإخلاص وما فيه هذا. فلما قال أبو عمر كذبت يا حلال الدم، قال له حامد: اكتب بهذا، فتشاغل أبو عمر بخطاب الحلاج، فألح عليه حامد وقدم له الدواة فكتب بإحلال دمه، وكتب بعده من حضر المجلس، فقال: الحلاج: ظهري حمى ¬

(¬1) السير (14/ 351).

ودمي حرام، وما يحل لكم أن تتأولوا علي واعتقادي الإسلام ومذهبي السنة، فالله الله في دمي ولم يزل يردد هذا القول وهم يكتبون خطوطهم، ثم نهضوا ورد الحلاج إلى الحبس وكتب إلى المقتدر بخبر المجلس، فأبطأ الجواب يومين، فغلظ ذلك على حامد وندم وتخوف فكتب رقعة إلى المقتدر في ذلك ويقول: إن ما جرى في المجلس قد شاع ومتى لم تتبعه قتل هذا افتتن به الناس، ولم يختلف عليه اثنان فعاد الجواب من الغد من جهة مفلح: إذا كان القضاة قد أباحوا دمه فليحضر محمد بن عبد الصمد صاحب الشرطة، ويتقدم بتسليمه وضربه ألف سوط، فإن هلك وإلا ضربت عنقه. فسر حامد وأحضر صاحب الشرطة، وأقرأه ذلك، وتقدم إليه بتسليم الحلاج، فامتنع وذكر أنه يتخوف أن ينتزع منه، فبعث معه غلمانه حتى يصيروه إلى مجلسه ووقع الاتفاق على أن يحضر بعد عشاء الآخرة، ومعه جماعة من أصحابه وقوم على بغال موكفة مع سياس فيحمل على واحد منها، ويدخل في غمار القوم، وقال حامد له: إن قال لك: أجري لك الفرات ذهباً فلا ترفع عنه الضرب. فلما كان بعد العشاء، أتى محمد بن عبد الصمد إلى حامد ومعه الرجال والبغال، فتقدم إلى غلمانه بالركوب معه إلى داره، وأخرج له الحلاج فحكى الغلام: أنه لما فتح الباب عنه وأمره بالخروج قال: من عند الوزير؟ قال: محمد ابن عبد الصمد قال: ذهبنا والله. وأخرج فأركب بغلاً، واختلط بجملة الساسة وركب غلمان حامد حوله حتى أوصلوه، فبات عند ابن عبد الصمد ورجاله حول المجلس، فلما أصبح أخرج الحلاج إلى رحبة المجلس وأمر الجلاد

بضربه واجتمع خلائق فضرب تمام ألف سوط وما تأوه، بلى لما بلغ ستمائة سوط قال لابن عبد الصمد: ادع بي إليك فإن عندي نصيحة تعدل فتح قسطنطينية، فقال له محمد: قد قيل لي إنك ستقول أكبر من هذا وليس لي إلى رفع الضرب سبيل. ثم قطعت يده، ثم رجله ثم حز رأسه، وأحرقت جثته، وحضرت في هذا الوقت راكباً والجثة تقلب على الجمر، ونصب الرأس يومين ببغداد ثم حمل إلى خراسان وطيف به. (¬1) " التعليق: فرحمة الله عليك يا حامد يا سيد الوزراء، لقد أدركت خطر زندقة الصوفية وفهمت ما هم عليه من الدجل والسحر والشعوذة، فقلت للمسؤول عن الشرطة: لو قال لك يقلب لك الفرات ذهباً لا تثق به، أو ما هذا معناه، ورحم الله قضاة أمير المؤمنين حيث لم يغتروا بترهات هذا الزنديق ودعواته الكاذبة ورحم الله أمير المؤمنين حيث لم يبال بشعبية هذا الزنديق الذي غرهم بترهاته ودعواته الكاذبة، وكم لنا في هذا الوقت من حلاج، ولكن لا مقتدر ولا حامد ولا أبا عمر ولا أبا الحسين بن الأشناني والله المستعان. - قال السلمي: وسمعت أبا علي الهمذاني يقول: سألت إبراهيم بن شيبان عن الحلاج، فقال: من أحب أن ينظر إلى ثمرات الدعاوي الفاسدة ¬

(¬1) السير (14/ 339 - 341).

فلينظر إلى الحلاج وما صار إليه. (¬1) - وقال أبو عمر بن حيويه: لما أخرج الحلاج ليقتل، مضيت وزاحمت حتى رأيته، فقال لأصحابه: لا يهولنكم، فإني عائد إليكم بعد ثلاثين يوماً. فهذه حكاية صحيحة توضح لك أن الحلاج ممخرق كذاب، حتى عند قتله. وقيل: إنه لما أخرج للقتل أنشد: طلبت المستقر بكل أرض ... فلم أر لي بأرض مستقرا أطعت مطامعي فاستعبدتني ... ولو أني قنعت لكنت حرا (¬2) - وعن عثمان بن معاوية -قيم جامع الدينور- قال: بات الحسين بن منصور في هذا الجامع ومعه جماعة، فسأله واحد منهم فقال: يا شيخ ما تقول فيما قال فرعون؟ قال: كلمة حق. قال: فما تقول فيما قال موسى عليه السلام؟ قال: كلمة حق، لأنهما كلمتان جرتا في الأبد كما أجريتا في الأزل. (¬3) - وقال أبو عبد الرحمن السلمي عن عمرو بن عثمان المكي: أنه قال: كنت أماشي الحلاج في بعض أزقة مكة وكنت أقرأ القرآن فسمع قراءتي فقال: يمكنني أن أقول مثل هذا، ففارقته. (¬4) - وفي السير عنه قال: لو قدرت عليه لقتلته بيدي. (¬5) ¬

(¬1) السير (14/ 317). (¬2) السير (14/ 346) والبداية والنهاية (11/ 152 - 153). (¬3) السير (14/ 352). (¬4) البداية (11/ 144 - 145). (¬5) السير (14/ 330).

- قال النديم: قرأت بخط عبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر: كان الحلاج مشعبذاً محتالاً، يتعاطى التصرف، ويدعي كل علم، وكان صفراً من ذلك، وكان يعرف في الكيمياء، وكان مقداماً جسوراً على السلاطين، مرتكباً للعظائم، يروم إقلاب الدول، ويدعي عند أصحابه الإلهية، ويقول بالحلول، ويظهر التشيع للملوك، ومذاهب الصوفية للعامة، وفي تضاعيف ذلك يدعي أن الإلهية حلت فيه، تعالى الله وتقدس عما يقول. (¬1) - وكان يقول للواحد من أصحابه: أنت نوح ولآخر: أنت موسى. ولآخر: أنت محمد. وقال: من رست قدمه في مكان المناجاة، وكوشف بالمباشرة، ولوطف بالمجاورة، وتلذذ بالقرب، وتزين بالأنس، وترشح بمرأى الملكوت، وتوشح بمحاسن الجبروت، وترقى بعد أن توقى، وتحقق بعد أن تمزق، وتمزق بعد أن تزندق وتصرف بعد أن تعرف وخاطب وما راقب وتدلل بعد أن تذلل، ودخل وما استأذن، وقرب لما خرب، وكلم لما كرم، ما قتلوه وما صلبوه. (¬2) - وجاء في السير: قال أبو بكر بن ممشاذ: حضر عندنا بالدينور رجل معه مخلاة، ففتشوها، فوجدوا فيها كتاباً للحلاج عنوانه: من الرحمن الرحيم إلى فلان بن فلان. فوجه إلى بغداد فأحضر وعرض عليه، فقال: هذا خطي وأنا كتبته. فقالوا: كنت تدعي النبوة صرت تدعي الربوبية؟ قال: لا، ولكن هذا عين الجمع عندنا، هل الكاتب إلا الله وأنا؟ فاليد فيه آلة. فقيل: هل ¬

(¬1) السير (14/ 318). (¬2) السير (14/ 327).

معك أحد؟ قال: نعم، ابن عطاء، وأبو محمد الجريري، والشبلي. فأحضر الجريري وسئل، فقال: هذا كافر يقتل من يقول هذا. وسئل الشبلي، فقال: من يقول هذا يمنع. وسئل ابن عطاء، فوافق الحلاج، فكان سبب قتله. قال الذهبي: أما أبو العباس بن عطاء فلم يقتل، وكلم الوزير بكلام غليظ لما سأله وقال: ما أنت وهذا، اشتغلت بظلم الناس. فعزره. وقال السلمي: حدثنا محمد بن عبد الله بن شاذان قال: كان الوزير حين أحضر الحلاج للقتل حامد بن العباس، فأمره أن يكتب اعتقاده، فكتب اعتقاده، فعرضه الوزير على الفقهاء ببغداد، فأنكروه، فقيل لحامد: إن ابن عطاء يصوب قوله. فأمر به. فعرض على ابن عطاء، فقال: هذا اعتقاد صحيح، ومن لم يعتقد هذا فهو بلا اعتقاد. فأحضر إلى الوزير، فجاء، وتصدر في المجلس، فغاظ الوزير ذلك، ثم أخرج ذلك الخط فقال: أتصوب هذا؟ قال: نعم، مالك ولهذا؟ عليك بما نصبت له من المصادرة والظلم، مالك وللكلام في هؤلاء السادة؟ فقال الوزير: فَكَّيْهِ. فضُرِب فكاه، فقال أبو العباس: اللهم إنك سلطت هذا علي عقوبة لدخولي عليه. فقال الوزير: خفه يا غلام. فنزع خفه. فقال: دماغَه. فما زال يضرب دماغَه حتى سال الدم من منخريه. ثم قال: الحبس. فقيل: أيها الوزير؟ يتشوش العامة. فحمل إلى منزله. (¬1) ضلال أصحاب الحلاج وفساد عقيدتهم ومحاولتهم إغواء الناس بعده: - وروى أبو إسحاق البرمكي، عن أبيه، عن جده قال: حضرت بين ¬

(¬1) السير (14/ 328 - 329).

يدي أبي الحسن بن بشار، وعنده أبو العباس الأصبهاني، فذاكره بقصة الحلاج، وأنه لما قتل كتب ابن عطاء إلى ابن الحلاج كتاباً يعزيه عن أبيه، وقال: رحم الله أباك، ونسخ روحه في أطيب الأجساد. فدل هذا على أنه يقول بالتناسخ، فوقع الكتاب في يد حامد، فأحضر أبا العباس بن عطاء وقال: هذا خطك؟ قال: نعم. قال: فإقرارك أعظم. قال: فشيخ يكذب؟ فأمر به، فصفع فقال أبو الحسن بن بشار: إني لأرجو أن يدخل الله حامد بن العباس الجنة بذلك الصفع. (¬1) - قال أبو علي التنوخي: أخبرني أبو الحسن أحمد بن يوسف التنوخي قال: أخبرني جماعة أن أهل مقالة الحلاج يعتقدون أن اللاهوت الذي كان فيه حالٌّ في ابن له بِتُسْتر، وأن رجلاً فيها هاشم يقال له: أبو عمارة محمد بن عبد الله قد حلت فيه روح محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو يخاطب فيهم بسيدنا. (¬2) - قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وما يحكى عن الحلاج من ظهور كرامات له عند قتله، مثل كتابة دمه على الأرض: الله، الله، وإظهار الفرح بالقتل أو نحو ذلك: فكله كذب. فقد جمع المسلمون أخبار الحلاج في مواضع كثيرة، كما ذكر ثابت بن سنان في أخبار الخلفاء -وقد شهد مقتله- وكما ذكر إسماعيل بن علي الحطفي في تاريخ بغداد -وقد شهد قتله- وكما ذكر الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخه وكما ذكر القاضي أبو يعلى في المعتمد، وكما ذكر القاضي أبو بكر بن الطيب، وأبو محمد بن حزم ¬

(¬1) السير (14/ 329). (¬2) السير (14/ 332).

وغيرهم، وكما ذكر أبو يوسف القزويني وأبو الفرج بن الجوزي؛ فيما جمعا من أخباره. وقد ذكر الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية: أن أكثر المشايخ أخرجوه عن الطريق، ولم يذكره أبو القاسم القشيري في رسالته من المشايخ؛ الذين عدهم من مشايخ الطريق. وما نعلم أحداً من أئمة المسلمين ذكر الحلاج بخير، لا من العلماء ولا من المشايخ؛ ولكن بعض الناس يقف فيه؛ لأنه لم يعرف أمره، وأبلغ من يحسن به الظن يقول: إنه وجب قتله في الظاهر فالقاتل مجاهد والمقتول شهيد، وهذا أيضا خطأ. وقول القائل: إنه قتل ظلماً قول باطل، فإن وجوب قتله على ما أظهره من الإلحاد أمر واجب باتفاق المسلمين؛ لكن لما كان يظهر الإسلام ويبطن الإلحاد إلى أصحابه: صار زنديقاً، فلما أخذ وحبس أظهر التوبة، والفقهاء متنازعون في قبول توبة الزنديق فأكثرهم لا يقبلها، وهو مذهب مالك وأهل المدينة، ومذهب أحمد في أشهر الروايتين عنه، وهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة، ووجه في مذهب الشافعي؛ والقول الآخر تقبل توبته. وقد اتفقوا على أنه إذا قتل مثل هذا لا يقال قتل ظلماً. (¬1) ¬

(¬1) الفتاوى (2/ 483 - 484).

محمد بن جرير الطبري (310 هـ)

محمد بن جرير الطبري (¬1) (310 هـ) هو محمد بن جرير بن يزيد بن كثير، الإمام العلم المجتهد أبو جعفر الطبري، عالم العصر، كان ثقة صادقاً حافظاً، إماماً في التفسير والفقه والإجماع والاختلاف، علامة في التاريخ وأيام الناس، عارفاً بالقراءات وباللغة. له مصنفات بديعة، قل أن ترى العيون مثله. ولد سنة أربع وعشرين ومائتين، ورحل من آمل طبرستان لما ترعرع وحفظ القرآن. واستقر في أواخر أمره ببغداد. سمع إسماعيل بن موسى السدي، ومحمد بن حميد الرازي، وأحمد بن منيع وغيرهم. حدث عنه أبو القاسم الطبراني وأبو بكر الشافعي وأبو أحمد بن عدي وأحمد بن كامل القاضي وغيرهم. قال الذهبي: وكان ممن لا تأخذه في الله لومة لائم مع عظيم ما يلحقه من الأذى والشناعات، من جاهل وحاسد وملحد، فأما أهل الدين والعلم فغير منكرين علمه، وزهده في الدنيا، ورفضه لها، وقناعته -رحمه الله- بما كان يرد عليه من حصة من ضيعة خلفها له أبوه بطبرستان يسيرة. توفي رحمه الله عشية الأحد ليومين بقيا من شوال سنة ثلاثمائة وعشرة. قلت: هذا الإمام من الذين بارك الله لهم في عمرهم، فكتبوا من الكتب ما يعجز عن قراءته القارئ المجتهد، فضلاً عن كتابة مثل ما كتب هؤلاء، وقد ترك هذا الإمام تراثاً سلفياً شكره عليه الأولون والآخرون ومن أهم ذلك التراث: ¬

(¬1) تاريخ بغداد (2/ 162 - 169) ووفيات الأعيان (14/ 191 - 192) وتذكرة الحفاظ (2/ 710 - 716) وميزان الاعتدال (3/ 498 - 499) والوافي بالوفيات (2/ 284 - 286) واللسان (5/ 100 - 103) والسير (14/ 267 - 282).

موقفه من المبتدعة:

- تفسيره الكبير المسمى 'جامع البيان عن تأويل آي القرآن' وقد أبدى فيه المؤلف عقيدة سلفية بنفس طويل بينت ذلك في كتابي 'المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات' (¬1) وقد نفع الله به ولله الحمد والمنة. - 'صريح السنة' وقد رواه أبو القاسم اللالكائي في 'أصول الاعتقاد' وقد نشر مع مجموعة الشيخ ابن حميد، وهو عبارة عن عقيدة الشيخ، وقد حقق رسالة علمية في الجامعة الإسلامية في مرحلة الإجازة وقد طبع التحقيق. - 'تبصير أولي النهى ومعالم الهدى': توجد منه نسخة في دار الكتب المصرية في 39 ورقة، وهو في جامعة سعود رقم 330. وقد طبع الكتاب تحت عنوان: 'التبصير في معالم الدين'. - وقد ألفت عن الإمام ابن جرير رسالة علمية في جامعة أم القرى في مرحلة الدكتوراه في قسم العقيدة. موقفه من المبتدعة: له رحمه الله مواقف جليلة في نصر السنة وقمع البدعة، منها ما جاء في السير: وقيل: إن المكتفي أراد أن يحبس وقفاً تجتمع عليه أقاويل العلماء، فأحضر له ابن جرير، فأملى عليهم كتاباً لذلك، فأخرجت له جائزة، فامتنع من قبولها، فقيل له: لابد من قضاء حاجة. قال: أسأل أمير المؤمنين أن يمنع السؤال يوم الجمعة، ففعل ذلك. (¬2) ¬

(¬1) (2/ 519 - 569). (¬2) السير (14/ 270).

موقفه من الرافضة:

" التعليق: لم يكن همه رحمه الله في نيل الجاه والمال من السلطان وإنما همه نصر السنة وإزالة البدعة. موقفه من الرافضة: - جاء في السير: عن محمد بن علي بن سهل قال: سمعت محمد بن جرير وهو يكلم ابن صالح الأعلم، وجرى ذكر علي رضي الله عنه، ثم قال محمد بن جرير: من قال: إن أبا بكر وعمر ليسا بإمامي هدى، إيش هو؟ قال: مبتدع. فقال ابن جرير إنكاراً عليه: مبتدع مبتدع. هذا يقتل. (¬1) - قال الطبري: لم يكن في أهل الإسلام أحد له من المنزلة في الدين والهجرة والسابقة والعقل والعلم والمعرفة بالسياسة ما للستة الذين جعل عمر الأمر شورى بينهم، فإن قيل كان بعض هؤلاء الستة أفضل من بعض وكان رأي عمر أن الأحق بالخلافة أرضاهم ديناً، وأنه لا تصح ولاية المفضول مع وجود الفاضل، فالجواب أنه لو صرح بالأفضل منهم لكان قد نص على استخلافه، وهو قصد أن لا يتقلد العهدة في ذلك، فجعلها في ستة متقاربين في الفضل، لأنه يتحقق أنهم لا يجتمعون على تولية المفضول، ولا يألون المسلمين نصحا في النظر والشورى، وأن المفضول منهم لا يتقدم على الفاضل، ولا يتكلم في منزلة وغيره أحق بها منه، وعلم رضا الأمة بمن رضي به الستة. (¬2) ¬

(¬1) السير (14/ 275). (¬2) الفتح (13/ 198).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: - قال في صريح السنة: حدثنا أحمد بن كامل قال: سمعت أبا جعفر محمد بن جرير الطبري ما لا أحصي يقول: من قال القرآن مخلوق معتقداً له فهو كافر حلال الدم والمال ولا يرثه ورثته من المسلمين، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه فقلت له: عمن لا يرثه ورثته من المسلمين؟ قال: عن يحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي. قيل للقاضي ابن كامل: فلمن يكون ماله؟ قال: فيئاً للمسلمين. (¬1) - قال ابن جرير في كتاب 'التبصير في معالم الدين': القول فيما أدرك علمه من الصفات خبراً، وذلك نحو إخباره تعالى أنه سميع بصير، وأن له يدين بقوله: {بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (¬2) وأن له وجهاً بقوله: {ويبقى وَجْهُ ربك} (¬3) وأنه يضحك بقوله في الحديث: "لقي الله وهو يضحك إليه" (¬4) و"أنه ينزل إلى سماء الدنيا" (¬5) لخبر رسوله بذلك، وقال عليه السلام: "ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن" (¬6) إلى أن قال: فإن هذه المعاني التي وصفت ونظائرها مما وصف الله نفسه ورسوله ما لا يثبت حقيقة علمه ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (2/ 353 - 354/ 514) وانظر صريح السنة (18 - 20). (¬2) المائدة الآية (64). (¬3) الرحمن الآية (27). (¬4) انظر تخريجه في مواقف الشافعي سنة (204هـ). (¬5) انظر تخريجه في مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ). (¬6) انظر تخريجه في مواقف الإمام الشافعي سنة (204هـ).

موقفه من الخوارج:

بالفكر والروية، لا نكفر بالجهل بها أحداً إلا بعد انتهائها إليه. (¬1) موقفه من الخوارج: قال في كتابه 'التبصير في معالم الدين': وأما الذين نقموا على أهل المعاصي معاصيهم، وشهدوا على المسلمين -بمعصية أتوها، وخطيئة فيما بينهم وبين ربهم تعالى ذكره ركبوها- بالكفر، واستحلوا دماءهم وأموالهم من الخوارج. والذين تبرؤوا من بعض أنبياء الله ورسله، بزعمهم أنهم عصوا الله، فاستحقوا بذلك من الله -جل ثناؤه- العداوة. والذين جحدوا من الفرائض ما جاءت به الحجة من أهل النقل بنقله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظاهراً مستفيضاً قاطعاً للعذر، كالذي أنكروا من وجوب صلاة الظهر والعصر، والذين جحدوا رجم الزاني المحصن الحر من أهل الإسلام، وأوجبوا على الحائض الصلاة في أيام حيضها، ونحو ذلك من الفرائض، فإنهم عندي بما دانوا به من ذلك مرقة من الإسلام، خرجوا على إمام المسلمين أو لم يخرجوا عليه. إذا دانوا بذلك بعد نقل الحجة لهم الجماعة التي لا يجوز في خبرها الخطأ، ولا السهو والكذب. وعلى إمام المسلمين استتابتهم مما أظهروا أنهم يدينون به بعد أن يظهروا الديانة به والدعاء إليه، فمن تاب منهم خلى سبيله، ومن لم يتب من ذلك منهم قتله على الردة، لأن من دان بذلك فهو لدين الله -الذي أمر به عباده بما لا نعذر بالجهل به ناشئاً نشأ في أرض الإسلام- جاحد. ¬

(¬1) السير (14/ 279) وانظر التبصير في معالم الدين (132 - 139).

ومن جحد من فرائض الله -عز وجل- شيئاً بعد قيام الحجة عليه به فهو من ملة الإسلام خارج. (¬1) وقال أيضاً: والذي نقول: معنى ذلك أنهم مؤمنون بالله ورسوله، ولا نقول هم مؤمنون بالإطلاق، لعلل سنذكرها بعد. ونقول: هم مسلمون بالإطلاق، لأن الإسلام اسم للخضوع والإذعان، فكل مذعن لحكم الإسلام ممن وحد الله وصدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - بما جاء به من عنده، فهو مسلم. ونقول: هم مسلمون فسقة عصاة لله ولرسوله. ولا ننزلهم جنة ولا ناراً، ولكنا نقول كما قال الله تعالى ذكره: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬2). فنقول: هم في مشيئة الله تعالى ذكره، إن شاء أن يعذبهم عذبهم وأدخلهم النار بذنوبهم، وإن شاء عفا عنهم بفضله ورحمته فأدخلهم الجنة، غير أنه إن أدخلهم النار فعاقبهم بها لم يخلدهم فيها، ولكنه يعاقبهم فيها بقدر إجرامهم، ثم يخرجهم بعد عقوبته إياهم بقدر ما استحقوا فيدخلهم الجنة، لأن الله جل ثناؤه وعد على الطاعة الثواب، وأوعد على المعصية العقاب، ووعد أن يمحو بالحسنة السيئة ما لم تكن السيئة شركاً. فإذا كان ذلك كذلك فغير جائز أن يبطل بعقاب عبد على معصيته ¬

(¬1) التبصير في معالم الدين (160 - 162). (¬2) النساء الآية (48).

موقفه من المرجئة:

إياه ثوابه على طاعته، لأن ذلك محو بالسيئة الحسنة لا بالحسنة السيئة، وذلك خلاف الوعد الذي وعد عباده، وغير الذي هو به موصوف من العدل والفضل والعفو عن الجرم. والعدل: العقاب على الجرم، والثواب على الطاعة. فأما المؤاخذة على الذنب وترك الثواب والجزاء على الطاعة، فلا عدل ولا فضل، وليس من صفته أن يكون خارجاً من إحدى هاتين الصفتين. وبعد: فإن الأخبار المروية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متظاهرة بنقل من يمتنع في نقله الخطأ والسهو والكذب، ويوجب نقله العلم، أنه ذكر أن الله جل ثناؤه يخرج من النار قوما بعد ما امتحشوا وصاروا حمماً، بذنوب كانوا أصابوها في الدنيا ثم يدخلهم الجنة (¬1). وأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" (¬2). وأنه عليه السلام يشفع لأمته إلى ربه -عز وجل ذكره- فيقال: أخرج منها منهم من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان (¬3). في نظائر لما ذكرنا من الأخبار التي إن لم تثبت صحتها لم يصح عنه خبر - صلى الله عليه وسلم -. (¬4) موقفه من المرجئة: - جاء في كتابه التبصير في معالم الدين قال: والصواب من القول في ذلك ¬

(¬1) أحمد (3/ 56) والبخاري (1/ 98 - 99/ 22) ومسلم (1/ 172/184) من حديث يحيى بن عمارة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬2) تقدم في مواقف جابر بن عبد الله سنة (78هـ). (¬3) أخرجه من حديث أنس: أحمد (3/ 116) والبخاري (13/ 519 - 520/ 7440) ومسلم (1/ 180 - 181/ 193) وابن ماجه (2/ 1442 - 1443/ 4312). (¬4) التبصير في معالم الدين (183 - 186).

عندنا أن الإيمان اسم للتصديق كما قالته العرب، وجاء به كتاب الله -تعالى ذكره- خبراً عن إخوة يوسف من قيلهم لأبيهم يعقوب: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صادقين} (¬1). بمعنى: ما أنت بمصدق لنا على قيلنا. غير أن المعنى الذي يستحق به اسم مؤمن بالإطلاق، هو الجامع لمعاني الإيمان، وذلك أداء جميع فرائض الله -تعالى ذكره- من معرفة وإقرار وعمل. وذلك أن العارف المعتقد صحة ما عرف من توحيد الله -تعالى ذكره- وأسمائه وصفاته، مصدق لله في خبره عن وحدانيته وأسمائه وصفاته، فكذلك العارف بنبوة نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، المعتقد صحة ذلك، وصحة ما جاء به من فرائض الله. وذلك أن معارف القلوب عندنا اكتساب العباد وأفعالهم، وكذلك الإقرار باللسان بعد ثبوته، وكذلك العمل بفرائض الله التي فرضها على عباده، تصديق من العامل بعمله ذلك لله -جل ثناؤه-، ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. كما إقراره بوجوب فرض ذلك عليه، تصديق منه لله ورسوله بإقراره أن ذلك له لازم فإذ كل هذه المعاني يستحق على كل واحد منهما على انفراده اسم إيمان. وكان العبد مأموراً بالقيام بجميعها كما هو مأمور ببعضها، وإن كانت العقوبة على تضييع بعضها أغلظ، وفي تضييع بعضها أخف، كان بينا أنه غير جائز تسمية أحد مؤمنا ووصفه به مطلقا من غير وصل إلا لمن استكمل ¬

(¬1) يوسف الآية (17).

معاني التصديق الذي هو جماع أداء جميع فرائض الله. كما أن العلم الذي يأتي مطلقاً هو العلم بما ينوب أمر الدين. فلو أن قائلاً قال لرجل عرف منه نوعاً، وذلك كرجل كان عالماً بأحكام المواريث دون سائر علوم الدين، فذكره ذاكر عند من يعتقد أن اسم عالم لا يلزمه بالإطلاق في أمر الدين إلا من قلنا: إنه يلزمه، فقال: فلان عالم بالإطلاق ولم يصله، فيقال: فلان عالم بالفرائض أو بأحكام المواريث، كان قد أخطأ في العبارة وأساء في المقالة، لأنه وضع اسم العموم على خاص عند من لا يعلم مراده، وإن كان قائل ذلك أراد الخصوص. وإن كان أراد العموم وهو يعلم أن هذا الاسم لا يستحق إلا من كان جامعا علم جميع ما ينوب أمر الدين فقد كذب. وكذلك القائل لمن لم يكن جامعاً أداء جميع فرائض الله -عز ذكره- من معرفة وإقرار وعمل: هو مؤمن، إما كاذب، وإما مخطئ في العبارة، مسيء في المقالة، إذا لم يصل قيله: هو مؤمن بما هو به مؤمن، لأن وصفنا من وصفنا بهذه الصفة، وتسميتنا له هذه التسمية بالإطلاق إنما هو للمعاني الثلاثة التي قد ذكرناها. فمن لم يكن جامعاً ذلك فإنما له ذلك الاسم بالخصوص، فغير جائز وصف من كان له من صفات الإيمان خاص، ومن أسمائه بعض بصيغة العموم، وتسميته باسم الكل، ولكن الواجب أن يصل الواصف إذا وصف بذلك أن يقول له -إذا عرف وأقر وفرط في العمل- هو مؤمن بالله ورسوله، فإذا أقر بعد المعرفة بلسانه وصدق وعمل ولم تظهر منه موبقة ولم تعرف منه

إلا المحافظة على أداء الفرائض. قيل: هو مؤمن إن شاء الله. وإنما وصلنا تسميتنا إياه بذلك بقولنا إن شاء الله، لأنا لا ندري هل هو مؤمن ضيع شيئاً من فرائض الله عز ذكره أم لا، بل سكون قلوبنا إلى أنه لا يخلو من تضييع ذلك أقرب منها إلى اليقين، فإنه غير مضيع شيئاً منها ولا مفرط، فلذلك من وصفناه بالإيمان بالمشيئة إذ كان الاسم المطلق من أسماء الإيمان إنما هو الكمال، فمن لم يكن مكملاً جميع معانيه -والأغلب عندنا أنه لا يكملها أحد- لم يكن مستحقاً اسم ذلك بالإطلاق والعموم الذي هو اسم الكمال، لأن الناقص غير جائز تسميته بالكمال، ولا البعض باسم التام، ولا الجزء باسم الكل. (¬1) - وقال أيضاً: والحق في ذلك عندنا أن يقال: الإيمان يزيد وينتقص، لما وصفنا قبل من أنه معرفة وقول وعمل. وأن جميع فرائض الله تعالى ذكره التي فرضها على عباده من المعاني التي لا يكون العبد مستحقاً اسم مؤمن بالإطلاق إلا بأدائها. وإذا كان ذلك كذلك، وكان لا شك أن الناس متفاضلون في الأعمال، مقصر وآخر مقتصد مجتهد ومن هو أشد منه اجتهاداً، كان معلوماً أن المقصر أنقص إيماناً من المقتصد، وأن المقتصد أزيد منه إيماناً، وأن المجتهد أزيد إيماناً من المقتصد والمقصر، وأنهما أنقص منه إيماناً، إذ كان جميع فرائض الله كما قلنا قبل. فكل عامل فمقصر عن الكمال، فلا أحد إلا وهو ناقص الإيمان غير ¬

(¬1) التبصرة (ص.190 - 193).

موقفه من القدرية:

كامله، لأنه لو كمل لأحد منهم كمالا تجوز له الشهادة به، لجازت الشهادة له بالجنة، لأن من أدى جميع فرائض الله فلم يبق عليه منها شيء، واجتنب جميع معاصيه فلم يأت منها شيئاً ثم مات على ذلك، فلا شك أنه من أهل الجنة. ولذلك قال عبد الله بن مسعود في الذي قيل له: إنه قال: إني مؤمن ألا قال: إني من أهل الجنة. لأن اسم الإيمان بالإطلاق إنما هو للكمال. ومن كان كاملاً كان من أهل الجنة، غير أن إيمان بعضهم أزيد من إيمان بعض، وإيمان بعض أنقص من إيمان بعض، فالزيادة فيه بزيادة العبد بالقيام باللازم له من ذلك. (¬1) موقفه من القدرية: - قال رحمه الله: فإن قال قائل: فهل من معاني المعرفة شيء سوى ما ذكرت؟ قيل: لا. فإن قال: فهل يكون عارفاً به من زعم أنه يفعل العبد ما لا يريده ربه ولا يشاء؟ قيل: لا. وقد دللنا فيما وصفناه بالعزة التي لا تشبهها عزة على ذلك. وذلك أنه من لم يعلم أنه لا يكون في سلطان الله -عز ذكره- شيء إلا بمشيئته، ولا يوجد موجود إلا بإرادته، لم يعلمه عزيزاً. وذلك أن من أراد شيئاً فلم يكن وكان ما لم يرد، فإنما هو مقهور ذليل، ومن كان مقهوراً ذليلاً فغير جائز أن يكون موصوفاً بالربوبية. فإن قال: فإن من يقول هذا القول يزعم أن إرادة الله ومشيئته: أمره ونهيه، وليس في خلاف العبد الأمر والنهي قهر له؟ ¬

(¬1) التبصرة (ص.197 - 199).

قيل له: لو كان الأمر كما زعمت، لكان الله تعالى ذكره لم يعم عباده بأمره ونهيه، لأنه يقول: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} (¬1). فإن تك المشيئة منه أمراً، فقد يجب أن يكون من لم يهتد لدين الإسلام لم يدخله الله عز وجل في أمره ونهيه الذي عم به خلقه، وفي عمومه بأمره ونهيه جميعهم، مع ترك أكثرهم قبوله الدليل الواضح على أن قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} (¬2) إنما معناه: لو شاء الله لجمعهم على دين الإسلام، وإذ كان ذلك كذلك كان بيناً فساد قول من قال: مشيئة الله -تعالى ذكره- أمره ونهيه!. (¬3) - وقال رحمه الله: وقال آخرون -وهم جمهور أهل الإثبات وعامة العلماء والمتفقهة من المتقدمين والمتأخرين-: إن الله تعالى ذكره وفق أهل الإيمان للإيمان، وأهل الطاعة للطاعة، وخذل أهل الكفر والمعاصي، فكفروا بربهم، وعصوا أمره. قالوا: فالطاعة والمعصية من العباد بسبب من الله -تعالى ذكره- وهو توفيقه للمؤمنين، وباختيار من العبد له. قالوا: ولو كان القول كما قالت القدرية، الذين زعموا أن الله -تعالى ذكره- قد فوض إلى خلقه الأمر فهم يفعلون ما شاؤوا، ولبطلت حاجة ¬

(¬1) الأنعام الآية (35). (¬2) الأنعام الآية (35). (¬3) التبصير في معالم الدين (ص.130 - 131).

أبو بكر الخلال (311 هـ)

الخلق إلى الله -تعالى ذكره- في أمر دينه، وارتفعت الرغبة إليه في معونته إياهم على طاعته. قالوا: وفي رغبة المؤمنين في كل وقت أن يعينهم على طاعته ويوفقهم ويسددهم، ما يدل على فساد ما قالوا. (¬1) أبو بكر الخَلاَّل (¬2) (311 هـ) هو أحمد بن محمد بن هارون بن يزيد البغدادي، أبو بكر المعروف بالخلال، الإمام العلامة الحافظ الفقيه شيخ الحنابلة وعالمهم، له التصانيف الدائرة والكتب السائرة، كالجامع في الفقه وكتاب العلل، وكتاب السنة والطبقات، وتفسير الغريب والأدب وأخلاق أحمد وغير ذلك، مما يدل على إمامته وسعة علمه. سمع من الحسن بن عرفة وسعدان بن نصر وأبي داود السجستاني وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وصحب أبا بكر المروذي إلى أن مات. وسمع خلقاً غير هؤلاء. رحل إلى أقاصي البلاد في جمع مسائل أحمد وسماعها ممن سمعها من أحمد. وكتب عن الكبار والصغار، حتى كتب عن تلامذته وجمع فأوعى. حدث عنه جماعة منهم: أبو بكر عبد العزيز، ومحمد بن المظفر، والحسن بن يوسف الصيرفي. ¬

(¬1) التبصير في معالم الدين (ص.170 - 171). (¬2) طبقات الحنابلة (2/ 12 - 15) وتذكرة الحفاظ (3/ 785 - 786) والبداية والنهاية (11/ 148) وتاريخ بغداد (5/ 112 - 113) والمنتظم (13/ 220 - 221) والوافي بالوفيات (7/ 99 - 100) وشذرات الذهب (2/ 261) والسير (14/ 297 - 298).

موقفه من المبتدعة:

توفي رحمه الله في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة وثلاثمائة. وله سبع وسبعون سنة، ودفن إلى جنب قبر المروذي. موقفه من المبتدعة: له من الآثار السلفية: 'كتاب السنة': مطبوع ومتداول. وفيه: قال أبو بكر الخلال: قرأت كتاب السنة بطرسوس مرات في المسجد الجامع وغيره سنين، فلما كان في سنة اثنتين وتسعين قرأته في مسجد الجامع وقرأت فيه ذكر المقام المحمود فبلغني أن قوما ممن طرد إلى طرسوس من أصحاب الترمذي المبتدع (¬1) أنكروه، وردوا فضيلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأظهروا رده، فشهد عليهم الثقات بذلك فهجرناهم وبينا أمرهم، وكتبت إلى شيوخنا ببغداد فكتبوا إلينا هذا الكتاب، فقرأته بطرسوس على أصحابنا مرات ونسخه الناس، وسر الله تبارك وتعالى أهل السنة وزادهم سروراً على ما عندهم من صحته وقبولهم وهذه نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم. سلام عليكم؛ فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. وأما بعد: فإن كتابكم ورد علينا بشرح ما حدث ببلدكم، وكتبنا إليكم بما تقفون عليه وبالله نستعين وعليه نتوكل في جميع الأمور، وبعد: فنوصيكم وأنفسنا بتقوى الله عز وجل والإحسان، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وتقوى الله تبارك وتعالى بها يرزق العباد من حيث لا يحتسبون، وبها يوجب الله تعالى الجنة لأهلها، وبها تحل داره، وبها ينظر إلى ¬

(¬1) أي: الجهم بن صفوان.

وجهه، وبها تنال ولاية الله عز وجل، وهي غاية الكرامة، ومنزلة الشرف، ومنهاج الرشد، وجوامع الخير، ومنتهى الإيمان، فأسعدكم الله بطاعته سعادة من رضي عمله، وتولاكم بحفظه وحياطته، وشملكم بستره وعصمكم بتوفيقه، وأيدكم بما أيد به المتقين، وأوصلكم أفضل ميراث الصالحين، وجعلكم لأنعمه من الشاكرين، واستخلصكم بأشرف عبادة العابدين آمين رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين وإمام المتقين وعلى أصحاب محمد أجمعين. كتابنا أسعدكم الله، سعادة من رضي عمله، وشكر سعيه، سعادة لا شقاء بعدها جميع أهل السنة والجماعة، فالحمد لله الذي جعلكم أهلا لذلك، وأكرمكم بما يستوجب به ثوابه، ويؤمن من عقابه، والحمد لله في أول كلامنا وآخره كذلك روي عن أبي صالح قال: الحمد لله أول الكلام وآخره، ونبتدي بعد حمد الله تبارك وتعالى بالصلاة على محمد نبيه - صلى الله عليه وسلم -، رسوله وصفيه، كذلك روى جابر بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجعلوني كقدح الراكب، اجعلوني في أول الدعاء ووسط الدعاء وآخر الدعاء" (¬1)، فالحمد لله كما هو أهله ومستحقه، وصلى الله على محمد النبي وعلى آله وسلم كثيراً. أما بعد: فإنه بلغنا ما حدث ببلدكم من نابغ نبغ بالزيغ وقيل الباطل، فأحدث عندكم بدعة اخترعها، وشرع في الدين ما لم يأذن به الله، ففرق جماعتكم بخبيث قوله وسوء لفظه، فلولا ما أمر الله عز وجل به رسوله - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) رواه البزار (4/ 45/3156) (كشف الأستار) وقال الهيثمي في المجمع (10/ 155): "رواه البزار وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف".

من النصح لعامة المسلمين وخاصتهم، وحض عليه في ذلك لوسعنا السكوت ولكن الله عز وجل أخذ ميثاق العلماء ليبيّننّه للناس ولا يكتمونه، وذلك بما روي عن تميم الداري يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدين النصيحة" قالوا: لمن؟ قال: "لله ولرسوله، ولكتابه ولأئمة المسلمين ولجماعتهم" (¬1)، فاعلموا وفقنا الله وإياكم للسداد والرشاد والصواب في المقال بصدق الضمير وصحة العزم بحسن النية، فإنا نرضى لكم من اتباع السنة والقول بها ما نرتضيه لأنفسنا {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (¬2)،فاتقى رجل ربه ونظر لنفسه فأحسن لها الاختيار إذ كانت أعز النفوس عليه، وأولاه منه بذلك بلزوم الاتباع لصالح سلفه من أهل العلم والدين والورع فاقتدى بفعالهم وجعلهم حجة بينه وبين الله عز وجل، وقلدهم من دينه ما تحملوا له من ذلك وحذر امرئ أن يبتدع ويخترع بالميل إلى الهوى والقول بالخطأ فيوبق نفسه، ويولغ دينه فيعمه في طغيانه، ويضل في عماية جهله، فبينا هو كذلك لا يستنصح مرشداً، ولا يطيع مسدداً، أذهبهم عليه أجله وهو كذلك، فنعوذ بالله من ذلك وقد قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا ¬

(¬1) تقدم تخريجه. انظر مواقف محمد بن نصر المروزي سنة (294هـ). والحديث قد ورد في جميع الروايات بلفظ: "وعامتهم" بدل "ولجماعتهم". (¬2) هود الآية (88) ..

كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬1)، والذي حمل هذا العدو لله المسلوب أن رد هذا الحديث وخالف الأئمة وأهل العلم وانسلخ من الدين اللجاج والكبر كي يقال: فلان، فنعوذ بالله من الكبر والنفاق والغلو في الدين، والذي حملنا، أكرمكم الله، على الكتاب إليكم ما حدث ببلدكم من رد حديث مجاهد رحمه الله ومخالفتهم من قد شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خيركم قرني الذين بعثت فيهم ثم الذين يلونهم" (¬2)، فمال أولو الزيغ والنفاق إلى قول الملحدين وبدعة المضلين، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وما سبيل هؤلاء إلا النفي عن البلد الذي هم فيه، كما أن صاحبهم المبتدع منفي عن الجامع مطروداً منه ليس إلى دخوله سبيل وذلك بتوفيق الله ومنه، ومنع السلطان أيده الله إياه عن ذلك معمما أنه مسلوب عقله ملزوم بيته يصيح به الصبيان في كل وقت، وهذا قليل لأهل البدع والأهواء والضلال في جنب الله عز وجل، أعاذنا الله وإياكم من مضلات الفتن وسلمنا وإياكم من الأهواء المضلة بمنه وقدرته، وثبتنا وإياكم على السنة والجماعة، واتباع الشيخ أبي عبد الله رحمة الله عليه ورضوانه، فقد كان اضمحل ذكر هذا الترمذي واندرس، وإنما هذا ضرب من التعريض والخوض بالباطل فانتهوا حيث انتهى الله بكم، وأمسكوا عما لم تكلفوا النظر فيه، ¬

(¬1) غافر الآية (56). (¬2) البخاري (5/ 324/2651) ومسلم (4/ 1964/2535) وأبو داود (5/ 44/4657) والترمذي (4/ 434/2222) من حديث عمران بن حصين.

وضعوا عن أنفسكم ما وضعه الله عنكم ولا تتخذوا آيات الله هزواً، فمن تكلم في شيء من هذا فإنما يتحكك بدينه ويتولع بنفسه ويتكلف ما لم يتعبده الله به. وقد أدب الله عز وجل الخلق فأحسن تأديبهم وأرشدهم فأنعم إرشادهم فقال عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬1) فاتقوا الله عباد الله واقبلوا وصيته وأمسكوا عن الكلام في هذا، فإن الخوض فيها بدعة وضلالة ما سبقكم بها سابق ولا نطق فيها قبلكم ناطق، فتظنون أنكم اهتديتم لما ضل عنه من كان قبلكم، هيهات هيهات، وليس ينبغي لأهل العلم والمعرفة بالله أن يكونوا كلما تكلم جاهل بجهله أن يجيبوه ويحاجوه ويناظروه، فيشركوه في مأثمة ويخوضوا معه في بحر خطاياه، ولو شاء عمر بن الخطاب أن يناظر صبيغاً ويجمع له أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يناظروه ويحاجوه ويبينوا عليه لفعل، ولكنه قمع جهله وأوجع ضربه ونفاه في جلده، وتركه يتغصص بريقه، وينقطع قلبه حسرة بين ظهراني الناس مطروداً منفياً مشرداً لا يُكلم ولا يُجالس، ولا يشفى بالحجة والنظر، بل تركه يختنق على حرته، ولم يبلعه ريقه، ومنع الناس من كلامه ومجالسته، فهكذا حكم كل مَن شرّع في دين الله بما لم يأذن به الله أن يخبر أنه على بدعة وضلالة فيحذر منه وينهى عن كلامه ومجالسته، فاسترشدوا العلم ¬

(¬1) الأنعام الآية (153).

واستحضوا العلماء واقبلوا نصحهم واعلموا أنه لن يزال الجاهل بخير ما وجد عالماً يقمع جهله ويرده إلى صواب القول والعمل إن مَنّ الله عليه بالقبول، فإذا تكلم الجاهل بجهله وعُدم الناس العالم أن يرد عليه بعلمه فقد تودع من الخلق، وربنا الرحمن المستعان على ما يصفون. فالله الله، ثم الله الله يا إخوتاه من أهل السنة والجماعة والمحبة للسلامة والعافية في أنفسكم وأديانكم فإنما هي لحومكم ودماؤكم، لا تعرضون لما نهى الله عنه عز وجل من الجدل والخوض في آيات الله وأكد ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحذر منه وكذلك أئمة الهدى من بعده من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين ارتضاهم لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - واختاره لهم، وكذلك التابعون بإحسان في كل عصر وزمان ينهون عن الجدل والخصومات في الدين، ويحذرون من ذلك أشد التحذير حتى كان آخرهم في ذلك أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه وأرضاه، فكان أشد أهل زمانه في ذلك قولاً وأوكده فيه رأياً وآخذ به على الخلق وأنصحه لهم، صبر في ذلك على البلاء من فتنته الضراء والسراء والشدة والرخاء والضرب الشديد بعد طول الحبس في ضنك الحديد، فبذل لله مهجة نفسه وجاد بالحياة لأهلها، وآثر الموت على أصعب العقوبات يرضى منه على بلوغ ما أوجب الله عز وجل على العلماء من القيام بأمره، ورحمة منه على الخلق وشفقا عليهم فأصبر لعظيم جهد بلاء الدنيا نفسه، واحتمل في ذات الله كل ما عجز الخلق أجمعون عن احتمال مثله أو بعضه أخذ بعنان الحق صابراً على وعر الطريق وخشونة المسلك، منفرداً بالوحدة عاضّاً على لجام الصواب، جواد لمحبوب العافية لأهلها، إذ

كانوا لا يصلون إليها إلا بفراق السنة؛ فحالف الوحشة وأنس بالوحدة فمضى على سنته على معانقة الحق غير معرج عنه، رضي بالحق صاحباً وقريناً ومؤنساً لا يثنيه عن ذلك خلاف من خالفه ولا عداوة من عاداه، لا تأخذه في الله لومة لائم، لا يزعجه هلع ولا يستميله طمع ولا يزيغه فزع حتى قمع باطل الخلق بما صبره عليه من الأخذ بعنان الحق، لا يستكثر لله الكثير ولا يرضى له من نفسه بالقليل، صابراً محتسباً غير مدبر معانقاً لعلم الهدى غير تارك له، حتى أورى زناد الحق فاستضاء به أهل السنة فاتبعوه، وكشف عورات البدع وحذر من أهلها فلم يختلف عليه أحد من أهل العلم حتى رجعوا إلى قوله طوعاً وكرهاً، فدخلوا في الباب الذي خرجوا منه، وعادوا للحق الذي رغبوا عنه، واعترفوا له بفضل ما فضله الله به عليهم، فأقروا له بالإذعان وسمعوا له وأطاعوا إذ كان أتقاهم لله وأنظرهم لخلقه وأدلهم على سبل النجاة وأمنعهم لمواقع الهلكة، فبينا الخلق بضيائه مستترون، يحصي لهم الحق وينفي عنهم الباطل، كما ينفي الكير خبث الحديد، إذ أتاه أمر من الله عز وجل ما أتى من كان قبله من أولياء الله وأهل طاعته، واستأثر الله به ونقله إلى ما عنده فتحيرت من بعده الأدلاء، وتاه الجاهلون في سكرات الخطأ، فكان خلفه رحمة الله عليه من أقام نفسه من بعده ذلك المقام منتصباً لمذاهبه، ذابّاً عن أهل السنة متشدّداً على أهل البدع في حقائق الأمور، لا ينعرج عن مذاهبه ولا يدنسه طمع طامع، مؤنس بالوحشة منفرد بالوحدة، صابراً محتسباً مبيناً على أهل البدع، مشفقاً على أهل السنة، لا يفزعه ميل من مال إلى غيره، لم يدعه طمع إلى أحد، صبر على الخير والشر،

واثق بمواهب الله له من لزوم أصحابه إياه، قامع لأهل البدع محب لأهل الورع فرحمة الله على أبي بكر المروذي ومغفرته ورضوانه؛ فقد كان وفيّاً لصاحبه مشفقاً على أصحابه لم تر مثله العيون فجزاه الله من صاحب وأستاذ خيراً، فالزموا من الأمر ما توفى الله عز وجل أبا عبد الله رحمة الله عليه وأبا بكر المروذي، فإنه الدين الواضح وكل ما أحدث هؤلاء فبدعة وضلالة، فاعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم، وعليكم بلزوم السنة وترك البدع وأهلها، فقد كان أحدث هذا الترمذي المبتدع ببلدنا ما اتصل بنا أنه حدث ببلدكم، وهذا أمر قد كان اضمحل وأخمله الله وأخمل أهله وقائله، وليس بموجود في الناس، قد سلب عقله أخزاه الله وأخزى أشياعه، وقد كان الشيوخ سئلوا عنه في حياة أبي بكر رحمه الله ومحدثي بغداد والكوفة وغير ذلك فلم يكن منهم أحد إلا أنكره، وكره من أمره ما كتبنا به إليكم لتقفوا عليه، فأما ما قال العباس بن محمد الدوري عند سؤالهم إياه عنه ورده حديث مجاهد: ذكر أن هذا الترمذي الذي رد حديث مجاهد ما رآه قط عند محدث ولا يعرفه بالطلب، وإن هذا الحديث لا ينكره إلا مبتدع جهمي، فنحن نسأل الله العافية من بدعته وضلالته فما أعظم ما جاء به هذا من الضلالة والبدع، عمد إلى حديث فيه فضيلة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأراد أن يزيله ويتكلم في من رواه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من ناوأهم" (¬1)، ونحن نحذر عن هذا الرجل أن تستمعوا منه وممن قال بقوله أو تصدقوهم في شيء، فإن السنة عندنا إحياء ذكر هذا ¬

(¬1) تقدم تخريجه. انظر مواقف عبد الله بن المبارك سنة (181هـ).

موقفه من القدرية:

الحديث وما أشبهه مما ترده الجهمية. (¬1) موقفه من القدرية: ذكر رحمه الله في كتابه 'السنة' أبواباً في القدر والرد على القدرية، معنوناً لذلك بقوله: "ذكر القدرية التي ترد على الله جل وعز" و"الرد على القدرية وقولهم: إن الله جبر العباد على المعاصي" و"الرد على القدرية في قولهم المشيئة والاستطاعة إلينا". (¬2) محمد بن خُزَيْمَة (¬3) (311 هـ) محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة، الحافظ الحجة الفقيه، شيخ الإسلام، إمام الأئمة أبو بكر السلمي النيسابوري الشافعي. ولد سنة ثلاث وعشرين ومائتين بنيسابور، ونشأ بها، وطلب الحديث منذ حداثة سنه. سمع من إسحاق بن راهويه، ومحمد بن حميد ولم يحدث عنهما لكونه كتب عنهما في صغره وقبل فهمه وتبصره، وسمع من علي بن حجر وعتبة بن عبد الله المروزي، وأحمد بن إبراهيم الدورقي وغيرهم. وحدث عنه البخاري ومسلم في غير الصحيحين، وأبو حاتم البستي وأحمد بن المبارك المستملي. ¬

(¬1) السنة للخلال (1/ 224 - 232). (¬2) السنة له (3/ 526 - 562). (¬3) الجرح والتعديل (7/ 196) وتذكرة الحفاظ (2/ 720 - 731) والوافي بالوفيات (2/ 196) والبداية والنهاية (11/ 149) وشذرات الذهب (2/ 262 - 263) والسير (14/ 365 - 382).

موقفه من المبتدعة:

ومن شجاعته وجرأته: قال أبو بكر بن بالويه: سمعت ابن خزيمة يقول: كنت عند الأمير إسماعيل بن أحمد، فحدث عن أبيه بحديث وهم في إسناده، فرددته عليه، فلما خرجت من عنده قال أبو ذر القاضي: قد كنا نعرف أن هذا خطأ، منذ عشرين سنة، فلم يقدر واحد منا أن يرده عليه، فقلت له: لا يحل لي أن أسمع حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه خطأ أو تحريف فلا أرده. أبو بكر محمد بن جعفر قال: سمعت ابن خزيمة وسئل: من أين أوتيت العلم؟ فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ماء زمزم لما شرب له" (¬1) وإني لما شربت سألت الله علما نافعا". قال أبو حاتم بن حبان التميمي: ما رأيت على وجه الأرض من يحفظ صناعة السنن ويحفظ ألفاظها الصحاح وزياداتها، حتى كأن السنن كلها بين عينيه إلا محمد بن إسحاق بن خزيمة فقط. قال الذهبي: ولابن خزيمة عظمة في النفوس، وجلالة في القلوب لعلمه ودينه، واتباعه السنة. وكتابه في التوحيد مجلد كبير. وقال الحاكم: فضائل إمام الأئمة ابن خزيمة عندي مجموعة في أوراق كثيرة، ومصنفاته تزيد على مائة وأربعين كتاباً سوى المسائل، والمسائل المصنفة أكثر من مائة جزء، قال: وله فقه حديث بريرة في ثلاثة أجزاء. توفي رحمه الله سنة إحدى عشرة وثلاثمائة. موقفه من المبتدعة: - قال أبو زكرياء يحيى بن محمد العنبري: سمعت ابن خزيمة يقول: ليس ¬

(¬1) رواه أحمد (3/ 357) وابن ماجه (2/ 1018/3062) وحسنه المنذري في الترغيب والترهيب (2/ 210 - 211) من طريق أبي الزبير قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: ... فذكره.

موقفه من الرافضة:

لأحد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قول إذا صح الخبر. (¬1) - عن محمد بن الحسين الآجري قال: سمعت الإمام محمد بن إسحاق ابن خزيمة رضي الله عنه يقول ما لا أحصي من مرة: أنا عبد لأخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) موقفه من الرافضة: - عن أبي أحمد الدارمي قال: سئل أبو بكر محمد بن إسحاق عن أحاديث لعباد بن يعقوب -أي الرواجيني- فامتنع منها ثم قال: قد كنت أخذت عنه بشريطة والآن فإني أرى أن لا أحدث عنه لغلوه. (¬3) - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يشهرن أحدكم على أخيه السيف لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من حفر النار" (¬4) قال أبو هريرة: سمعته من سهل بن سعد الساعدي سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال أبو بكر -أي ابن خزيمة: فحرصه على العلم يبعثه على سماع خبر لم يسمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - منه، وإنما يتكلم في أبي هريرة لدفع أخباره من قد أعمى الله قلوبهم فلا يفهمون معاني الأخبار. إما معطل جهمي يسمع أخباره التي يرونها خلاف مذهبهم الذي هو كفر فيشتمون أبا هريرة ويرمونه بما الله تعالى قد نزهه عنه تمويها على الرعاء والسفل أن أخباره لا تثبت بها الحجة. ¬

(¬1) السير (14/ 373) والتذكرة (2/ 728) وإعلام الموقعين (2/ 283). (¬2) الفقيه والمتفقه (1/ 290). (¬3) الكفاية (132). (¬4) أحمد (2/ 317) والبخاري (13/ 29/7072) ومسلم (4/ 2020/2617) عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: "لا يشر أحدكم على أخيه بالسلاح فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزغ في يديه فيقع في حفرة من النار".

موقفه من الجهمية:

وإما خارجي يرى السيف على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا يرى طاعة خليفة ولا إمام إذا سمع أخبار أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلاف مذهبهم الذي هو ضلال لم يجد حيلة في دفع أخباره بحجة وبرهان كان مفزعه الوقيعة في أبي هريرة. أو قدري اعتزل الإسلام وأهله وكفر أهل الإسلام الذين يتبعون الأقدار الماضية التي قدرها الله تعالى وقضاها قبل كسب العباد لها إذا نظر إلى أخبار أبي هريرة التي قد رواها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في إثبات القدر لم يجد بحجة يريد صحة مقالته التي هي كفر وشرك كانت حجته عند نفسه أن أخبار أبي هريرة لا يجوز الاحتجاج بها. أو جاهل يتعاطى الفقه ويطلبه من غير مظانه إذا سمع أخبار أبي هريرة فيما يخالف مذهب من قد اجتبى مذهبه وأخباره تقليداً بلا حجة ولا برهان كلم في أبي هريرة ودفع أخباره التي تخالف مذهبه ويحتج بأخباره على مخالفته إذا كانت أخباره موافقة لمذهبه، وقد أنكر بعض هذه الفرق على أبي هريرة أخباراً لم يفهموا معناها أنا ذاكر بعضها بمشيئة الله عز وجل. (¬1) موقفه من الجهمية: هذا الإمام الكبير كان شوكة في حلوق الجهمية وفروعهم من الكلابية وغيرهم، ولهذا حملوا عليه في كتبهم وتعليقاتهم ومن أشهرهم الرازي من المتقدمين ومن المتأخرين حاملو راية الجهمية الكوثري وتلامذته ومحبوه، وقد قيل في تفسير الرازي: فيه كل شيء إلا التفسير، وقد تكلم عليه الحافظ في لسان الميزان بكلمات جامعة. واسمع ما يقوله في تفسيره الذي ملأه بمذهب ¬

(¬1) المستدرك (3/ 513).

الجهمية: واعلم يعني: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬1)، في أن محمد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية الكتاب الذي سماه بالتوحيد وهو في الحقيقة كتاب الشرك. (¬2) آثار الشيخ السلفية: - 'كتاب التوحيد': وهو من أعظم المصادر السلفية، وقد نقم عليه المبتدعة في الماضي والحاضر، وقد تقدم ما ذكره الرازي، وأما الكوثري الحاقد ومدرسته فلا تسأل عن كلامهم في هذا الكتاب فيوم طبع الكتاب لم يتمالكوا أنفسهم بل أرسلوا إلى الأزهر: كيف يسمح بطبع مثل هذه الكتب والله المستعان. وأما كتب الضلال والانحرافات والخرافات فهذه يرقصون لطبعها، وقد طبع الكتاب وأخذ رسالة علمية حققت نسخه وأحاديثه، ولله الحمد والمنّة. - جاء في ذم الكلام: عنه قال: من لم يقل إن الله في السماء على العرش استوى، ضربت عنقه وألقيت جيفته على مزبلة بعيدة عن البلد حتى لا يتأذى بنتن ريحها أحد من المسلمين ولا من المعاهدين. (¬3) - وفيه: سئل ابن خزيمة عن الكلام في الأسماء والصفات فقال: بدعة ابتدعوها ولم تكن أئمة المسلمين وأرباب المذاهب الأربعة وأئمة الدين مثل: ¬

(¬1) الشورى الآية (11). (¬2) التفسير الكبير (ج: 27، ص.150). (¬3) ذم الكلام (ص.272).

مالك وسفيان والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق ويحيى بن يحيى وابن المبارك ومحمد بن يحيى وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن وأبي يوسف يتكلمون في ذلك، وينهون عن الخوض فيه ويدلون أصحابهم على الكتاب والسنة فإياك والخوض فيه والنظر في كتبهم بحال. (¬1) - وقال أيضاً في كتاب 'مناقب أحمد بن حنبل' في باب الإشارة إلى طريقة في الأصول، لما ذكر كلامه في مسائل القرآن وترتيب البدع التي ظهرت فيه وأنهم قالوا أولا: هو مخلوق، وجرت المحنة المشهورة، ثم مسألة اللفظية بسبب حسين الكرابيسي، إلى أن قال: وجاءت طائفة فقالت: لا يتكلم بعد ما تكلم، فيكون كلامه حادثاً، قال: وهذه سحارة أخرى تقذي في الدين غير عين واحدة، فانتبه لها أبو بكر بن خزيمة، وكانت حينئذ بنيسابور دار الآثار تمد إليها الدانات، وتشد إليها الركائب، ويجلب منها العلم، وما ظنك بمجالس يحبس عنها الثقفي والصبغي مع ما جمعا من الحديث والفقه والصدق والورع واللسان، والبيت والقدر لا يستر لوث بالكلام واستمام لأهله، فابن خزيمة في بيت، ومحمد بن إسحاق في بيت، وأبو حامد العرشرقي في بيت، قال: فطار لتلك الفتنة ذلك الإمام أبو بكر فلم يزل يصيح بتشويهها، ويصنف في ردها كأنه منذر جيش، حتى دون في الدفاتر، وتمكن في السرائر، ولقن في الكتاتيب، ونقش في المحاريب، أن الله متكلم: إن شاء الله تكلم، وإن شاء سكت، فجزى الله ذلك الإمام وأولئك النفر الغر عن نصرة دينه وتوقير نبيه خيراً. ¬

(¬1) ذم الكلام (ص.274) والاستقامة (1/ 108).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: قلت: هذه القصة التي أشار إليها عن ابن خزيمة مشهورة، ذكرها غير واحد من المصنفين كالحاكم أبي عبد الله في 'تاريخ نيسابور' وغيره، ذكر أنه رفع إلى الإمام أنه قد نبغ طائفة من أصحابه يخالفونه وهو لا يدري، وأنهم على مذهب الكلابية، وأبو بكر الإمام شديد على الكلابية. قال: فحدثني أبو بكر أحمد بن يحيى المتكلم قال: اجتمعنا ليلة عند بعض أهل العلم، وجرى ذكر كلام الله: أقديم لم يزل، أو يثبت عند اختياره تعالى أن يتكلم به؟ فوقع بيننا في ذلك خوض. قال جماعة منا: إن كلام الباري قديم لم يزل، وقال جماعة: إن كلامه قديم، غير أنه لا يثبت إلا باختياره لكلامه. فبكرت أنا إلى أبي علي الثقفي، وأخبرته بما جرى، فقال: من أنكر أنه لم يزل فقد اعتقد أنه محدث، وانتشرت هذه المسألة في البلد، وذهب منصور الطوسي في جماعة معه إلى أبي بكر محمد بن إسحاق وأخبروه بذلك، حتى قال منصور: ألم أقل للشيخ إن هؤلاء يعتقدون مذهب الكلابية، وهذا مذهبهم، فجمع أبو بكر أصحابه، وقال: ألم أنهكم غير مرة عن الخوض في الكلام، ولم يزدهم على هذا في ذلك اليوم، وذكر أنه بعد ذلك خرج على أصحابه، وأنه صنف في الرد عليهم، وأنهم ناقضوه، ونسبوه إلى القول بقول جهم في أن القرآن محدث، وجعلهم هو كلابية. (¬1) - قال الحاكم: سمعت أبا عبد الرحمن بن أحمد المقري يقول: سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق يقول: الذي أقول به أن القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله، غير مخلوق، ومن قال: إن القرآن أو شيئاً منه ومن وحيه وتنزيله ¬

(¬1) درء التعارض (2/ 76 - 79) والسير (14/ 378 - 379).

مخلوق، أو يقول: إن الله لا يتكلم بعد ما كان تكلم به في الأزل، أو يقول: إن أفعال الله مخلوقة، أو يقول: إن القرآن محدث، أو يقول: إن شيئاً من صفات الله -صفات الذات- أو اسماً من أسماء الله مخلوق، فهو عندي جهمي يستتاب، فإن تاب، وإلا ضربت عنقه، هذا مذهبي ومذهب من رأيت من أهل الأثر في الشرق والغرب من أهل العلم، ومن حكى عني خلاف هذا فهو كاذب باهت، ومن نظر في كتبي المصنفة ظهر له وبان أن الكلابية كذبة فيما يحكون عني مما هو خلاف أصلي وديانتي. (¬1) - وذكر عن ابن خزيمة أنه قال: زعم بعض جهلة هؤلاء الذين نبغوا في سنتنا هذه أن الله لا يكرر الكلام، فهم لا يفهمون كتاب الله، فإن الله قد أخبر في نص الكتاب في مواضع أنه خلق آدم، وأنه أمر الملائكة بالسجود له، فكرر هذا الذكر في غير موضع، وكرر ذكر كلامه مع موسى مرة بعد أخرى، وكرر ذكر عيسى بن مريم في مواضع، وحمد نفسه في مواضع فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} (¬2) و {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (¬3) {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (¬4) وكرر زيادة على ثلاثين مرة {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (¬5) ولم ¬

(¬1) درء التعارض (2/ 79) والتذكرة (2/ 726). (¬2) الكهف الآية (1). (¬3) الأنعام الآية (1). (¬4) سبأ الآية (1). (¬5) سورة الرحمن.

أتوهم أن مسلماً يتوهم أن الله لا يتكلم بشيء مرتين. (¬1) - قال الحاكم: سمعت محمد بن صالح بن هانئ، سمعت ابن خزيمة يقول: من لم يقر بأن الله على عرشه قد استوى فوق سبع سماواته فهو كافر حلال الدم، وكان ماله فيئاً. قلت -أي الذهبي-: من أقر بذلك تصديقاً لكتاب الله، ولأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وآمن به مفوضاً معناه (¬2) إلى الله ورسوله، ولم يخض في التأويل ولا عمق، فهو المسلم المتبع، ومن أنكر ذلك، فلم يدر بثبوت ذلك في الكتاب والسنة فهو مقصر والله يعفو عنه، إذ لم يوجب الله على كل مسلم حفظ ما ورد في ذلك، ومن أنكر ذلك بعد العلم، وقفا غير سبيل السلف الصالح، وتمعقل على النص فأمره إلى الله، نعوذ بالله من الضلال والهوى. وكلام ابن خزيمة هذا -وإن كان حقاً- فهو فج، لا تحتمله نفوس كثيرة من متأخري العلماء. (¬3) - قال أبو الوليد حسان بن محمد الفقيه: سمعت ابن خزيمة يقول: القرآن كلام الله تعالى، ومن قال: إنه مخلوق. فهو كافر، يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، ولا يدفن في مقابر المسلمين. (¬4) - قال الحاكم: وحدثني عبد الله بن إسحاق الأنماطي المتكلم قال: لم يزل الطوسي بأبي بكر بن خزيمة حتى جرأه على أصحابه، وكان أبو بكر بن ¬

(¬1) درء التعارض (2/ 79 - 81) والسير (14/ 380) والتذكرة (2/ 726 - 727). (¬2) والذي ينبغي أن يقال: يجب الإيمان باللفظ والمعنى، ويفوض الكيف. (¬3) السير (14/ 373 - 374). (¬4) السير (14/ 374) والتذكرة (2/ 728 - 729).

إسحاق وأبو بكر بن أبي عثمان يردان على أبي بكر ما يمليه، ويحضران مجلس أبي علي الثقفي، فيقرؤون ذلك على الملأ، حتى استحكمت الوحشة. سمعت أبا سعد عبد الرحمن بن أحمد المقرئ، سمعت ابن خزيمة يقول: القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله غير مخلوق، ومن قال: شيء منه مخلوق، أو يقول: إن القرآن محدث، فهو جهمي، ومن نظر في كتبي، بان له أن الكلابية -لعنهم الله- كذبة فيما يحكون عني بما هو خلاف أصلي وديانتي، قد عرف أهل الشرق والغرب أنه لم يصنف أحد في التوحيد والقدر وأصول العلم مثل تصنيفي، وقد صح عندي أن هؤلاء -الثقفي والصبغي ويحيى بن منصور- كذبة، قد كذبوا علي في حياتي، فمحرم على كل مقتبسِ علمٍ أن يقبل منهم شيئاً يحكونه عني، وابن أبي عثمان أكذبهم عندي، وأقولهم علي ما لم أقله. قلت -أي الذهبي-: ما هؤلاء بكذبة، بل أئمة أثبات، وإنما الشيخ تكلم على حسب ما نقل له عنهم. فقبح الله من ينقل البهتان، ومن يمشي بالنميمة. (¬1) - قال الحاكم: سمعت أبا بكر أحمد بن إسحاق يقول: لما وقع من أمرنا ما وقع، وجد أبو عبد الرحمن ومنصور الطوسي الفرصة في تقرير مذهبهم، واغتنم أبو القاسم، وأبو بكر بن علي، والبردعي السعي في فساد الحال، انتصب أبو عمرو الحيري للتوسط فيما بين الجماعة، وقرر لأبي بكر ابن خزيمة اعترافنا له بالتقدم، وبين له غرض المخالفين في فساد الحال. إلى أن وافقه على أن نجتمع عنده، فدخلت أنا، وأبو علي، وأبو بكر بن أبي عثمان، فقال له أبو ¬

(¬1) السير (14/ 379 - 380) والاستقامة (1/ 109 - 110).

علي الثقفي: ما الذي أنكرت أيها الأستاذ من مذاهبنا حتى نرجع عنه؟ قال: ميلكم إلى مذهب الكلابية، فقد كان أحمد بن حنبل من أشد الناس على عبد الله بن سعيد بن كلاب، وعلى أصحابه مثل الحارث وغيره. حتى طال الخطاب بينه وبين أبي علي في هذا الباب، فقلت: قد جمعت أنا أصول مذاهبنا في طبق، فأخرجت إليه الطبق، فأخذه وما زال يتأمله وينظر فيه، ثم قال: لست أرى هاهنا شيئاً لا أقول به. فسألته أن يكتب عليه خطه أن ذلك مذهبه، فكتب آخر تلك الأحرف، فقلت لأبي عمرو الحيري: احتفظ أنت بهذا الخط حتى ينقطع الكلام، ولا يتهم واحد منا بالزيادة فيه. ثم تفرقنا، فما كان بأسرع من أن قصده أبو فلان وفلان وقالا: إن الأستاذ لم يتأمل ما كتب في ذلك الخط، وقد غدروا بك وغيروا صورة الحال. فقبل منهم، فبعث إلى أبي عمرو الحيري لاسترجاع خطه منه، فامتنع عليه أبو عمرو، ولم يرده حتى مات ابن خزيمة، وقد أوصيت أن يدفن معي، فأحاجه بين يدي الله تعالى فيه وهو: القرآن كلام الله تعالى، وصفة من صفات ذاته، ليس شيء من كلامه مخلوق، ولا مفعول، ولا محدث، فمن زعم شيئاً منه مخلوق أو محدث، أو زعم أن الكلام من صفة الفعل، فهو جهمي ضال مبتدع، وأقول: لم يزل الله متكلماً، والكلام له صفة ذات، ومن زعم أن الله لم يتكلم إلا مرة، ولم يتكلم إلا ما تكلم به، ثم انقضى كلامه، كفر بالله وأنه ينزل تعالى إلى سماء الدنيا فيقول: "هل من داع فأجيبه" فمن زعم أن علمه تنزل أوامره، ضل، ويكلم

عباده بلا كيف {الرحمن على العرش استوى} (¬1) لا كما قالت الجهمية: إنه على الملك احتوى، ولا استولى. وإن الله يخاطب عباده عوداً وبدءاً، ويعيد عليهم قصصه وأمره ونهيه، ومن زعم غير ذلك، فهو ضال مبتدع. وساق سائر الاعتقاد. (¬2) - وقال رحمه الله في مقدمته لكتابه التوحيد: كنت أسمع من بعض أحداث طلاب العلم والحديث ممن لعله كان يحضر مجالس أهل الزيغ والضلالة؛ من الجهمية المعطلة والقدرية المعتزلة ما تخوفت أن يميل بعضهم عن الحق والصواب من القول بالبهت والضلال في هذين الجنسين من العلم؛ بإثبات القول بالقضاء السابق والمقادير النافذة قبل حدوث كسب العباد، والإيمان بجميع صفات الرحمن الخالق جل وعلا مما وصف الله به نفسه في محكم تنزيله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وبما صح وثبت عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - بالأسانيد الثابتة الصحيحة بنقل أهل العدالة موصولاً إليه - صلى الله عليه وسلم -، فيعلم الناظر في كتابنا هذا ممن وفقه الله تعالى لإدراك الحق والصواب ومَنَّ عليه بالتوفيق لما يحب ويرضى صحة مذهب أهل الآثار في هذين الجنسين من العلم، وبطلان مذاهب أهل الأهواء والبدع الذين هم في ريبهم وضلالتهم يعمهون. وبالله ثقتي وإياه أسترشد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وقد بدأت كتاب القدر فأمليته وهذا كتاب ¬

(¬1) طه الآية (5). (¬2) السير (14/ 380 - 381) والتذكرة (2/ 726 - 728).

التوحيد. (¬1) - وقال رحمه في كتابه التوحيد: أقول وبالله توفيقي وإياه أسترشد: قد بين الله عز وجل في محكم تنزيله الذي هو مثبت بين الدفتين أن له وجهاً وصفه بالجلال والإكرام والبقاء فقال جل وعلا: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (¬2)، ونفى ربنا جل وعلا عن وجهه الهلاك في قوله: {كل شَيْءٍ هَالِكٌ إِلًّا وَجْهَهُ} (¬3)، وزعم بعض جهلة الجهمية أن الله عز وجل إنما وصف في هذه الآية نفسه التي أضاف إليها الجلال بقوله: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (¬4) وزعمت أن الرب هو ذو الجلال والإكرام لا الوجه. قال أبو بكر: أقول وبالله توفيقي هذه دعوى يدعيها جاهل بلغة العرب؛ لأن الله جل وعلا قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} فذكر الوجه مضموماً في هذا الموضع مرفوعاً، وذكر الرب بخفض الباء بإضافة الوجه، ولو كان قوله {ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} مردوداً إلى ذكر الرب في هذا الموضع لكانت القراءة ذي الجلال والإكرام مخفوضاً كما كان الباء ¬

(¬1) التوحيد (5). (¬2) الرحمن الآية (27). (¬3) القصص الآية (88). (¬4) الرحمن الآية (78).

مخفوضاً في ذكر الرب جل وعلا، ألم تسمع قوله تبارك وتعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}؛ فلما كان الجلال والإكرام في هذه الآية صفة للرب خَفَضَ "ذِي" خَفْضَ الباءِ الذي ذُكر في قوله {ربك}؛ ولما كان الوجه في تلك الآية التي كانت صفة الوجه مرفوعة (¬1) فقال: {ذو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}. فتفهموا يا ذوي الحجا هذا البيان الذي هو دلالة أن وجه الله صفة من صفات الله صفات الذات، لا أن وجه الله هو الله، أو أن وجهه غيره كما زعمت المعطلة الجهمية؛ لأن وجهه لو كان الله لقرئ ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام، فما لمن لا يفهم هذا القدر من العربية ووضع الكتب على علماء أهل الآثار القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -. وزعمت الجهمية عليهم لعائن الله أن أهل السنة ومتبعي الآثار القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - المثبتين لله جل وعلا من صفاته ما وصف الله به نفسه في محكم تنزيله المثبت بين الدفتين وعلى لسان نبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بنقل العدل فوضوه إليه مشبهة، جهلاً منهم بكتاب ربنا وسنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقلة معرفتهم بلغة العرب الذين بلغتهم خوطبنا، وقد ذكرنا من الكتاب والسنة ذكر وجه ربنا بما فيه الغنية والكفاية، ونزيده شرحاً؛ فاسمعوا الآن أيها العقلاء ما يذكر من جنس اللغة السائرة بين العرب هل يقع اسم المشبهة على ¬

(¬1) كذا في الأصل.

أهل الآثار ومتبعي السنن؟ نحن نقول وعلماؤنا جميعاً في الأقطار إن لمعبودنا عز وجل وجها كما أعلمنا الله في محكم تنزيله؛ فذواه بالجلال والإكرام، وحكم له بالبقاء، ونفى عنه الهلاك. ونقول: إن لوجه ربنا عز وجل من النور والضياء والبهاء ما لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره، محجوب عن أبصار أهل الدنيا، لا يراه بشر ما دام في الدنيا الفانية، ونقول: إن وجه ربنا القديم لم يزل بالباقي الذي لا يزال؛ فنفى عنه الهلاك والفناء. ونقول: إن لبني آدم وجوها كتب الله عليها الهلاك، ونفى عنها الجلال والإكرام غير موصوفة بالنور والضياء والبهاء التي وصف الله بها وجهه، يدرك وجوه بني آدم أبصار أهل الدنيا، لا تحرق لأحد شعرة فما فوقها؛ لنفي السبحات عنها؛ التي بينها نبينا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لوجه خالقنا. ونقول: إن وجوه بني آدم محدثة مخلوقة لم تكن، فكونها الله بعد أن لم تكن مخلوقة أوجدها بعد ما كانت عدماً، وأن جميع وجوه بني آدم فانية غير باقية تصير جميعاً ميتاً، ثم تصير رميماً، ثم ينشئها الله بعدما قد صارت رميماً، فتلقى من النشور والحشر والوقوف بين يدي خالقنا في القيامة، ومن المحاسبة بما قدمت يداه ونسيه في الدنيا ما لا يعلم صفته غير الخالق الباري، ثم إما تصير إلى الجنة منعمة فيها، أو إلى نار معذبة، فهل يخطر يا ذوي الحجا ببال عاقل مركب فيه العقل يفهم لغة العرب ويعرف خطابها ويعلم التشبيه أن هذا الوجه شبيه بذاك الوجه؟ وهل هاهنا أيها العقلاء تشبيه وجه ربنا جل ثناؤه الذي هو كما وصفنا وبينا صفته من الكتاب والسنة بتشبيه وجوه بني آدم التي ذكرناها ووصفناها غير اتفاق اسم الوجه وإيقاع اسم الوجه على

وجه بني آدم كما سمى الله وجهه وجهاً؟ ولو كان تشبيهاً من علمائنا لكان كل قائل إن لبني آدم وجها، وللخنازير والقردة والكلاب والسباع والحمير والبغال والحيات والعقارب وجوها قد شبه وجوه بني آدم بوجوه الخنازير والقردة والكلاب وغيرها مما ذكرت، ولست أحسب أن أعقل الجهمية المعطلة عند نفسه لو قال له أكرم الناس عليه: وجهك يشبه وجه الخنزير والقرد والدُّب والكلب والحمار والبغل ونحو هذا إلا غضب؛ وإلا خرج من سوء الأدب في الفحش من المنطق من الشتم للمشبه وجهه بوجه ما ذكرنا، ولعله بعد يقذفه ويقذف أبويه. ولست أحسب أن عاقلاً يسمع هذا القائل المشبه وجه ابن آدم بوجه ما ذكرنا إلا ويرميه بالكذب والزور والبهت، أو بالعته والخبل، أو يحكم عليه بزوال العقل ورفع القلم عنه؛ لتشبيه وجه ابن آدم بوجه ما ذكرنا. فتفكروا يا ذوي الألباب أَوُجوهُ ما ذكرنا أقرب شبهاً بوجوه بني آدم أو وجه خالقنا بوجوه بني آدم؟ فإذا لم تطلق العرب تشبيه وجوه بني آدم بوجوه ما ذكرنا من السباع، واسم الوجه قد يقع على جميع وجوهها كما يقع اسم الوجه على وجوه بني آدم؛ فكيف يلزمنا أن يقال لنا: أنتم مشبهة، ووجوه بني آدم ووجوه ما ذكرنا من السباع والبهائم محدثة كلها مخلوقة قد قضى الله فناءها وهلاكها وقد كانت عدما؛ فكونها الله وخلقها وأحدثها وجميع ما ذكرنا من السباع والبهائم لوجوهها أبصار وخدود وجباه وأنوف وألسنة وأفواه وأسنان وشفاه، ولا يقول مركب فيه العقل لأحد من بني آدم وجهك شبيه بوجه خنزير، ولا عينك شبيهة بعين قرد، ولا فمك فم دب،

ولا شفتاك كشفتي كلب، ولا خدك خد ذئب، إلا على المشاتمة كما يرمي الرامي الإنسان بما ليس فيه؛ فإذ كان ما ذكرنا على ما وصفنا ثبت عند العقلاء وأهل التمييز أن من رمى أهل الآثار القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - بالتشبيه؛ فقد قال الباطل والكذب والزور والبهتان، وخالف الكتاب والسنة، وخرج من لسان العرب. وزعمت المعطلة من الجهمية أن معنى الوجه الذي ذكر الله في الآي التي تلونا من كتاب الله وفي الأخبار التي رويناها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقول العرب: وجه الكلام ووجه الثوب ووجه الدار، فزعمت -لجهلها- أن معنى قوله: وجه الله كقول العرب وجه الكلام ووجه الدار ووجه الثوب، وزعمت أن الوجوه من صفات المخلوقين؛ وهذه فضيحة في الدعوى، ووقوع في أقبح ما زعموا أنهم يهربون منه؛ فيقال لهم: أفليس كلام بني آدم والثياب والدور مخلوقة؟ فمن زعم منكم أن معنى قوله وجه الله كقول العرب وجه الكلام ووجه الثوب ووجه الدار، أليس قد شبه على أصلكم وجه الله بوجه الموتان؟ لزعمكم -يا جهلة- أن من قال من أهل السنة والآثار القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -: لله وجه وعينان ونفس، وأن الله يبصر ويرى ويسمع؛ أنه مشبه عندكم خالقه بالمخلوقين، حاش لله أن يكون أحد من أهل السنة والأثر شبه خالقه بأحد من المخلوقين؛ فإن كان على ما زعمتم بجهلكم فأنتم قد شبهتم معبودكم بالموتان. نحن نثبت لخالقنا جل وعلا صفاته التي وصف الله عز وجل بها نفسه في محكم تنزيله أو على لسان نبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مما ثبت بنقل العدل عن العدل موصولاً إليه، ونقول كلاماً مفهوماً موزوناً يفهمه كل

عاقل يقول: ليس إيقاع اسم الوجه للخالق البارئ بموجب عند ذوي الحجا والنهى أنه يشبه وجه الخالق بوجوه بني آدم. قد أعلمنا الله جل وعلا في الآي التي تلوناها قبل أن لله وجهاً ذواه بالجلال والإكرام ونفى الهلاك عنه. وخبرنا في محكم تنزيله أنه يسمع ويرى؛ فقال جل وعلا لكليمه موسى ولأخيه هارون صلوات الله عليهما: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أسمع وأرى} (¬1) وما لا يسمع ولا يبصر كالأصنام التي هي من الموتان، ألم تسمع مخاطبة خليل الله صلوات الله عليه أباه؟ {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} (¬2)، أو لا يعقل -يا ذوي الحجا- من فهم عن الله تبارك وتعالى هذا أن خليل الله صلوات الله عليه يوبخ أباه على عبادة ما لا يسمع ولا يبصر، ولو قال الخليل صلوات الله عليه لأبيه: أدعوك إلى ربي الذي لا يسمع ولا يبصر، لأشبه أن يقول: فما الفرق بين معبودك ومعبودي؟ والله قد أثبت لنفسه أنه يسمع ويرى. والمعطلة من الجهمية تنكر كل صفة لله جل وعلا وصف بها نفسه في محكم تنزيله، أو على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - لجهلهم بالعلم، وقال عز وجل: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ ¬

(¬1) طه الآية (46) .. (¬2) مريم الآية (42).

أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} (¬1) الآية؛ فأعلم الله عز وجل أن من لا يسمع ولا يعقل كالأنعام؛ بل هم أضل سبيلاً، فمعبود الجهمية عليهم لعائن الله كالأنعام التي لا تسمع ولا تبصر، والله قد ثبت لنفسه أنه يسمع ويرى. والمعطلة من الجهمية تنكر كل صفة لله وصف بها نفسه في محكم تنزيله أو على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - لجهلهم بالعلم وذلك أنهم وجدوا في القرآن أن الله قد أوقع أسماء من أسماء صفاته على بعض خلقه فتوهموا لجهلهم بالعلم أن من وصف الله بتلك الصفة التي وصف الله بها نفسه قد شبهه بخلقه؛ فاسمعوا -يا ذوي الحجا- ما أبين جهل هؤلاء المعطلة، أقول: وجدت الله وصف نفسه في غير موضع من كتابه فأعلم عباده المؤمنين أنه سميع بصير فقال: {وَهُوَ السميع البصير} (¬2) وذكر عز وجل الإنسان قال: {فَجَعَلْنَاهُ سميعًا بصيرًا} (¬3). وأعلمنا جل وعلا أنه يرى فقال: {وَقُلِ اعْمَلُوا فسيرى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ورسوله} (¬4) وقال لموسى وهارون عليهما السلام: {قَالَ لا تخافا إِنَّنِي مَعَكُمَا أسمع وأرى} (¬5)، فأعلم عز وجل أنه يرى ¬

(¬1) الفرقان الآيتان (43و44). (¬2) الشورى الآية (11). (¬3) الإنسان الآية (2). (¬4) التوبة الآية (105). (¬5) طه الآية (46).

أعمال بني آدم وأن رسوله وهو بشر يرى أعمالهم أيضاً، وقال: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ} (¬1) وبنو آدم يرون أيضاً الطير مسخرات في جو السماء، وقال عز وجل: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بأعيننا} (¬2) وقال: {تجري بأعيننا} (¬3) وقال: {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا} (¬4) فثبت ربنا عز وجل لنفسه عيناً وثبت لبني آدم أعيناً فقال: {ترى أعينهم تفيض من الدَّمْعِ} (¬5)؛ فقد خبرنا ربنا أن له عيناً وأعلمنا أن لبني آدم أعيناً، وقال لإبليس عليه لعنة الله: {مَا مَنَعَكَ أَن تسجد لما خَلَقْتُ بيدي} (¬6) وقال: {بَلْ يداه مَبْسُوطَتَانِ ينفق كيف يشاء} (¬7) وقال: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (¬8) فثبت ربنا جل وعلا لنفسه يدين، وخبرنا أن لبني آدم يدين ¬

(¬1) النحل الآية (79). (¬2) هود الآية (37). (¬3) القمر الآية (14). (¬4) الطور الآية (48). (¬5) المائدة الآية (83). (¬6) ص الآية (75) .. (¬7) المائدة الآية (64). (¬8) الزمر الآية (67).

فقال: {ذلك بما قدمت أيديكم} (¬1)، وقال: {ذلك بما قدمت يداك} (¬2) وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (¬3) وقال: {الرحمن على العرش استوى} (¬4) وخبرنا أن ركبان الدواب يستوون على ظهورها. وقال في ذكر سفينة نوح: {واستوت على الجودي} (¬5)، أفيلزم -يا ذوي الحجا- عند هؤلاء الفسقة أن من ثبت لله ما ثبت الله في هذه الآي أن يكون مشبهاً خالقه بخلقه؟ حاش لله أن يكون هذا تشبيه كما ادعوا لجهلهم بالعلم، نحن نقول: إن الله سميع بصير كما أعلمنا خالقنا وبارئنا، ونقول من له سمع وبصر من بني آدم فهو سميع بصير، ولا نقول: إن هذا تشبيه المخلوق بالخالق، ونقول: إن لله عز وجل يدين يمينين لا شمال فيهما، قد أعلمنا الله تبارك وتعالى أن له يدين، وخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أنهما يمينان لا شمال فيهما، ونقول إن من كان من بني آدم سليم الجوارح والأعضاء فله يدان يمين وشمال، لا نقول: إن يد المخلوقين كيد الخالق عز ربنا عن أن تكون يده كيد خلقه. قد سمى الله عز وجل لنا نفسه عزيزاً وسمى بعض الملوك عزيزاً فقال: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ ¬

(¬1) آل عمران الآية (182). (¬2) الحج الآية (10). (¬3) الفتح الآية (10). (¬4) طه الآية (5). (¬5) هود الآية (44).

فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ} (¬1)، وسمى إخوة يوسف أخاهم يوسف عزيزاً فقالوا: {يا أيها العزيز إِنَّ لَهُ أَبًا شيخًا كبيرًا} (¬2) وقالوا: {يا أيها العزيز مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر} (¬3)، فليست عزة خالقنا العزة التي هي صفة من صفات ذاته؛ كعزة المخلوقين الذين أعزهم الله بها، ولو كان كل اسم سمى الله لنا به نفسه، وأوقع ذلك الاسم على بعض خلقه، كان ذلك تشبيه الخالق بالمخلوق على ما توهم هؤلاء الجهلة من الجهمية؛ لكان كل من قرأ القرآن وصدقه بقلبه أنه قرآن ووحي وتنزيل قد شبه خالقه بخلقه، وقد أعلمنا ربنا تبارك وتعالى أنه الملك، وسمى بعض عبيده ملكاً فقال: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائتوني بِهِ} (¬4) وأعلمنا جل جلاله أنه العظيم، وسمى بعض عبيده عظيماً فقال: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (¬5) وسمى الله بعض خلقه عظيماً فقال: {وَهُوَ رب الْعَرْشِ العظيم} (¬6) فالله العظيم، وأوقع اسم العظيم على عرشه؛ والعرش مخلوق، وربنا الجبار المتكبر فقال: {السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ ¬

(¬1) يوسف الآية (30) .. (¬2) يوسف الآية (78). (¬3) يوسف الآية (88). (¬4) يوسف الآية (50). (¬5) الزخرف الآية (31). (¬6) التوبة الآية (129).

المهيمن العزيز الجبار المتكبر} (¬1)، وسمى بعض الكفار متكبراً جباراً فقال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} (¬2). وبارئنا جل وعز الحفيظ العليم، وخبرنا أن يوسف عليه السلام قال للملك: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (¬3)، وقال: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عليم} (¬4) وقال: {بِغُلَامٍ حليم} (¬5) قال: الحليم والعليم اسمان لمعبودنا جل وعلا قد سمى الله بهما بعض بني آدم، ولو لزم -يا ذوي الحجا- أهل السنة والآثار إذ أثبتوا لمعبودهم يدين كما ثبتهما الله لنفسه، وثبتوا له نفساً عز ربنا وجل، والله سميع بصير يسمع ويرى؛ ما ادعى هؤلاء الجهلة عليهم أنهم مشبهة؛ للزم كل من سمى الله ملكاً أو عزيزاً أو عظيماً ورؤوفاً ورحيماً وجباراً ومتكبراً أنه قد شبه خالقه عز وجل بخلقه، حاش لله أن يكون من وصف الله جل وعلا بما وصف الله نفسه في كتابه، أو على لسان نبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مشبهاً خالقه بخلقه. فأما احتجاج الجهمية على أهل السنة والآثار في هذا النحو بقوله {ليس كمثل شيءٌ وهو السميع البصير} (¬6) فمن القائل: إن ¬

(¬1) الحشر الآية (23). (¬2) غافر الآية (35). (¬3) يوسف الآية (55). (¬4) الذاريات الآية (28) .. (¬5) الصافات الآية (101). (¬6) الشورى الآية (11).

لخالقنا مثلاً أو إن له شبهاً؟ وهذا من التمويه على الرعاع والسفل يموهون بمثل هذا على الجهال يوهمونهم أن من وصف الله بما وصف به نفسه في محكم تنزيله أو على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فقد شبه الخالق بالمخلوق، وكيف يكون خلقه مثله -يا ذوي الحجا-؟ يقول الله القديم لم يزل والخلق محدث مربوب، والله الرزاق والخلق مرزوقون، والله الدائم الباقي وخلقه هالك غير باقٍ، والله الغني عن جميع خلقه والخلق كلهم فقراء إلى خالقهم، وليس في تسميتنا بعض الخلق ببعض أسامي الله بموجب عند العقلاء الذين يعقلون عن الله خطابه أن يقال: إنكم شبهتم الله بخلقه؛ إذ أوقعتم بعض أسامي الله على بعض خلقه. وهل يمكن عند هؤلاء الجهال حل هذه الأسامي من المصاحف، أو محوها من صدور أهل القرآن، أو ترك تلاوتها في المحاريب والكتاتيب، وفي الجدور والبيوت؟ أليس قد أعلمنا منزل القرآن على نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه الملك، وسمى بعض عبيده ملكاً، وخبرنا أنه السلام وسمى تحية المؤمنين بينهم سلاماً في الدنيا وفي الجنة؛ فقال: {تحيتهم يوم يلقونه سلام} (¬1) ونبينا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - قد كان يقول بعد فراغه من تسليم الصلاة: "اللهم أنت السلام ومنك السلام" (¬2)، وقال عز وجل: {ولا تَقُولُوا لِمَنْ ألقى إليكم السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} (¬3)؛ فثبت بخبر الله أن الله هو السلام كما في قوله: {السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ ¬

(¬1) الأحزاب الآية (44). (¬2) أخرجه: أحمد (6/ 184) ومسلم (1/ 414/592) وأبو داود (2/ 176/1512) والترمذي (2/ 95 - 96/ 298 - 299) والنسائي (3/ 78/1337) وابن ماجه (1/ 298/924) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬3) النساء الآية (94) ..

المهيمن} (¬1)، وأوقع هذا الاسم على غير الخالق البارئ. وأعلمنا عز وجل أنه المؤمن، وسمى بعض عباده المؤمنين فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (¬2) وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ ورسوله} (¬3) الآية، وقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} (¬4) وقال: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (¬5)، وقد ذكرنا قبل أن الله خبر أنه سميع بصير، وقد أعلمنا أنه جعل الإنسان سميعاً بصيراً فقال: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} إلى قوله: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (¬6). والله الحكم العدل، وخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن عيسى بن مريم ينزل قبل قيام الساعة "حكماً عدلاً، وإماماً مقسطاً" (¬7)، والمقسط أيضاً اسم من أسامي الله عز وجل في خبر أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أسامي الرب عز وجل ¬

(¬1) الحشر الآية (23). (¬2) الأنفال الآية (2). (¬3) النور الآية (62). (¬4) الحجرات الآية (9). (¬5) الأحزاب الآية (35). (¬6) الإنسان الآيتان (1و2). (¬7) أخرجه: أحمد (2/ 240) والبخاري (4/ 520/2222) ومسلم (1/ 135/155) والترمذي (4/ 439/2233) وابن ماجه (2/ 1363/4078) من حديث أبي هريرة.

منه: "والمقسط" (¬1)، وقال في ذكر الشقاق بين الزوجين: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (¬2)؛ فأوقع اسم الحكم على حكمي الشقاق، والله العدل، وأمر عباده بالعدل والإحسان، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد خبر "أن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ، أو من نور يوم القيامة" (¬3)؛ فاسم المقسط قد أوقعه النبي - صلى الله عليه وسلم - على بعض أوليائه الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا، وفي خبر عياض بن حمار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أهل الجنة ثلاثة عفيف متصدق، وذو سلطان مقسط، ورجل رحيم ¬

(¬1) أخرجه: الترمذي (5/ 496/3507) وابن ماجه (2/ 1269/3861) من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة، هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن ... " وسرد الأسماء في الحديث. قال البوصيري في الزوائد: "لم يخرج أحد من الأئمة الستة عدد أسماء الله الحسنى من هذا الوجه ولا من غيره، غير ابن ماجه والترمذي، مع تقديم وتأخير، وطريق الترمذي أصح شيء في الباب، قال: وإسناد طريق ابن ماجه ضعيف، لضعف عبد الملك بن محمد". وقال الترمذي: "هذا حديث غريب: حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح ولا نعرفه إلا من حديث صفوان بن صالح، وهو ثقة عند أهل الحديث، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا نعلم في كثير شيء من الروايات له إسناد صحيح ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث. وأخرجه أيضاً الحاكم (1/ 16) وقال: "هذا حديث قد خرجاه في الصحيحين بأسانيد صحيحة دون ذكر الأسامي فيه، والعلة فيه عندهما أن الوليد بن مسلم تفرد بسياقته بطوله، وذكر الأسامي فيه ولم يذكرها غيره، وليس هذا بعلة". وتعقبه الحافظ ابن حجر في الفتح (11/ 258): "وليست العلة عند الشيخين تفرد الوليد فقط بل الاختلاف فيه والاضطراب وتدليسه واحتمال الإدراج، قال البيهقي: يحتمل أن يكون التعيين وقع من بعض الرواة في الطريقين معاً، ولهذا وقع الاختلاف الشديد بينهما، ولهذا الاحتمال ترك الشيخان تخريج التعيين ... والوليد بن مسلم أوثق من عبد الملك بن محمد الصنعاني، ورواية الوليد تشعر بأن التعيين مدرج ... ". (¬2) النساء الآية (35). (¬3) أخرجه: أحمد (2/ 159و160و203) ومسلم (3/ 1458/1827) والنسائي (8/ 612 - 613/ 5394) من حديث عبد الله بن عمرو.

رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم" (¬1)، حدثناه أبو موسى قال حدثنا محمد بن أبي عدي قال حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن مطرف عن عياض بن حمار المجاشعي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول، قال أبو بكر: وإن المقسط اسم من أسامي ربنا جل وعلا، وبارئنا الحكيم أواه منيب، وأعلمنا أن نبينا المصطفى محمداً - صلى الله عليه وسلم - رؤوف رحيم؛ فقال في وصفه: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (¬2) والله الشكور، وسمى بعض عباده الشكور، والله العلي وقال في مواضع من كتابه يذكر نفسه عز وجل: {إِنَّهُ عليٌّ حكيمٌ} (¬3)،وقد يسمى بهذا الاسم كثير من الآدميين لم نسمع عالماً ورعاً زاهداً فاضلاً فقيهاً ولا جاهلاً أنكر على أحد من الآدميين تسمية ابنه عليّاً، ولا كره أحد منهم هذا الاسم للآدميين، قد دعا النبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب باسمه حين وجه إليه قال: "ادع لي عليّاً" (¬4). والله الكبير وجميع المسلمين يوقعون اسم الكبير على أشياء ذوات عدد من المخلوقين يوقعون اسم الكبير على الشيخ الكبير وعلى الرئيس وعلى كل عظيم وكبير ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (4/ 162) ومسلم (4/ 2197 - 2198/ 2865) والنسائي في الكبرى (5/ 26/8070) من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه، ورواه أبو داود (5/ 203/4895) وابن ماجه (2/ 1399/4179) مختصراً دون ذكر موضع الشاهد. (¬2) التوبة الآية (128). (¬3) الشورى الآية (51) .. (¬4) أخرجه: البخاري (6/ 137 - 138/ 2942) ومسلم (4/ 1872/2406) وأبو داود (4/ 69/3661) والنسائي في الكبرى (5/ 46/8149) من حديث سهل بن سعد.

من الحيوان وغيرها، ذكر الله قول إخوة يوسف للملك {إِنَّ لَهُ أَبًا شيخًا كبيرًا} (¬1)، وقالت الخثعمية للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن فريضة الله على عباده أدركت أبي شيخاً كبيراً" (¬2) فلم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها تسميتها أباها كبيراً ولا قال لها: إن الكبير اسم من أسامي الله، وفي قصة شعيب {وَأَبُونَا شيخٌ كبيرٌ} (¬3) وربنا عز وجل الكريم والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد أوقع اسم الكريم على جماعة من الأنبياء فقال: "إن الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم" (¬4)، وقال عز وجل: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} (¬5) فسمى النبي - صلى الله عليه وسلم - كل واحد من هؤلاء الأنبياء كريماً والله الحكيم، وسمى كتابه حكيماً فقال: {الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} (¬6)، وأهل القبلة يسمون لقمان الحكيم إذ الله أعلم أنه آتاه الحكمة فقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} (¬7)، وكذلك العلماء يقولون: قال الحكيم من الحكماء، ¬

(¬1) يوسف الآية (78). (¬2) أخرجه: أحمد (1/ 219) والبخاري (3/ 482/1513) ومسلم (2/ 973/1334) وأبو داود (2/ 400 - 402/ 1809) والنسائي (5/ 124/2634) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وفي الباب عن الفضل بن عباس وعلي وبريدة وحصين بن عوف وأبي رزين وسودة. (¬3) القصص الآية (23). (¬4) أخرجه: أحمد (2/ 96) والبخاري (8/ 461/4688) من حديث ابن عمر. وفي الباب عن أبي هريرة. (¬5) لقمان الآية (10) .. (¬6) لقمان الآية (2). (¬7) لقمان الآية (12).

ويقولون: فلان حكيم من الحكماء. والله جل وعلا الشهيد، وسمى الشهود الذين يشهدون على الحقوق شهوداً فقال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (¬1) وقال أيضاً: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} (¬2)، وسمى الله عز وجل ثم نبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وجميع أهل الصلاة المقتول في سبيل الله شهيداً. والله الحق فقال عز وجل: {فالحق وَالْحَقَّ أَقُولُ} (¬3) وقال: {فتعالى اللَّهُ الْمَلِكُ الحق} (¬4) وقال عز وجل: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} (¬5) وقال: {وَبِالْحَقِّ أنزلناه وَبِالْحَقِّ نزل} (¬6) وقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} (¬7) وقال: {وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} (¬8) وقال: ¬

(¬1) البقرة الآية (282). (¬2) النساء الآية (41). (¬3) ص الآية (84). (¬4) المؤمنون الآية (116). (¬5) سبأ الآية (6). (¬6) الإسراء الآية (105). (¬7) محمد الآية (2). (¬8) محمد الآية (3).

{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} (¬1) وقال: {الْمُلْكُ يومئذٍ الحق لِلرَّحْمَنِ} (¬2) وقال: {ولا يأتونك بِمَثَلٍ إِلًّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} (¬3) وقال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} (¬4) وقال جل وعلا لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (¬5)؛ فكل صواب وعدل في حكم وفعل ونطق؛ فاسم الحق واقع عليه، وإن كان اسم الحق اسماً من أسامي ربنا عز وجل لا يمنع أحد من أهل القبلة من العلماء من إيقاع اسم الحق على كل عدل وصواب. والله الوكيل كما قال عز وجل: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (¬6)، والعرب لا تمانع بينها من إيقاع اسم الوكيل على من يتوكل لبعض بني آدم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - في خبر جابر قد قال له: "اذهب إلى وكيلي بخيبر" (¬7)، وفي أخبار فاطمة بنت قيس في مخاطبتها النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أعلمته أن زوجها طلقها قالت: "وأمر ¬

(¬1) الحج الآية (54) .. (¬2) الفرقان الآية (26). (¬3) الفرقان الآية (33). (¬4) الصف الآية (9). (¬5) النساء الآية (105). (¬6) الأنعام الآية (102). (¬7) أخرجه: أبو داود (4/ 47 - 48/ 3632) والدارقطني (4/ 154 - 155) والبيهقي (6/ 80) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما بلفظ: "إذا أتيت وكيلي بخيبر"، والحديث أعله ابن القطان بابن إسحاق وضعفه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في ضعيف أبي داود رقم (784).

وكيله أن يعطي شيئاً، وأنها استقلت ما أعطاها وكيل زوجها" (¬1)، والعجم أيضاً يوقعون اسم الوكيل على من يتوكل لبعض الآدميين كإيقاع العرب سواء. وأعلم الله أنه مولى الذين آمنوا في قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} (¬2) وقال عز وجل: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} (¬3) فأوقع اسم الموالي على العصبة، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من كنت مولاه فعلي مولاه" (¬4)، وقد أمليت هذه الأخبار في فضائل علي ابن أبي طالب. وقال - صلى الله عليه وسلم - لزيد بن حارثة لما اشتجر جعفر وعلي بن أبي طالب وزيد بن حارثة في ابنة حمزة قال لزيد: "أنت أخونا ومولانا" (¬5) فأوقع اسم المولى أيضاً على مولى من أسفل كما يقع اسم المولى على المولى من أعلى؛ فكل معتق قد يقع عليه اسم مولى، ويقع على المعتق اسم مولى، وقال - صلى الله عليه وسلم - في خبر عائشة: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (6/ 412) ومسلم (2/ 1114/1480) وأبو داود (2/ 712 - 714/ 2284) والنسائي (6/ 383 - 385/ 3245) من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن فاطمة بنت قيس به. (¬2) محمد الآية (11). (¬3) النساء الآية (33). (¬4) أخرجه: أحمد (1/ 118) والترمذي (5/ 591/3713) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي في الكبرى (5/ 134/8478) وصححه ابن حبان (15/ 375 - 376/ 6931). (¬5) أخرجه: أحمد (4/ 291و298) والبخاري (7/ 635/4251) ومسلم (3/ 1409/1783) وأبو داود (2/ 415/1832) والترمذي (3/ 275/938) مختصراً، كلهم من طريق أبي إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب رضي الله عنه.

فنكاحها باطل" (¬1)؛ فقد أوقع الله ثم رسوله ثم جميع العرب والعجم اسم المولى على بعض المخلوقين، والله جل وعلا الوليّ، وقد سمى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - وليّاً فقال: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} (¬2) الآية، فسمى الله هؤلاء المؤمنين أيضاً الذين وصفهم في هذه الآية أولياء المؤمنين، وأعلمنا أيضاً ربنا عز وجل أن بعض المؤمنين أولياء بعض في قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أولياء بَعْضٍ} (¬3) وقال عز وجل: {النَّبِيُّ أولى بالمؤمنين من أَنْفُسِهِمْ} (¬4). والله جل وعلا الحي، واسم الحي قد يقع أيضاً على كل ذي روح قبل قبض النفس وخروج الروح منه قبل الموت قال الله تبارك وتعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} (¬5) واسم الحي قد يقع أيضاً على الموتان قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (¬6) وقال الله تعالى: ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (6/ 47و165 - 166) وأبو داود (2/ 566/2083) والترمذي (3/ 407 - 408/ 1102) وقال: "هذا حديث حسن". والنسائي في الكبرى (3/ 285/5394) وابن ماجه (1/ 605/1879) وابن حبان (9/ 384/4074 الإحسان). من طرق عن عائشة رضي الله عنها .. (¬2) المائدة الآية (55). (¬3) التوبة الآية (71). (¬4) الأحزاب الآية (6). (¬5) الروم الآية (19). (¬6) النحل الآية (65).

{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (¬1) وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من أحيا أرضاً ميتة فهي له" (¬2). والله الواحد وكل ما له عدد من الحيوان والموتان فاسم الواحد قد يقع على كل واحد من جنس منه إذا عد قيل واحد واثنان وثلاثة إلى أن ينتهي العدد إلى ما انتهى إليه وإذا كان واحد من ذلك الجنس قيل: هذا واحد، وكذلك يقال هذا الواحد صفته كذا وكذا، لا تمانع العرب في إيقاع اسم الواحد على ما بينت، وربنا جل وعلا الوالي، وكل من له ولاية من أمر المسلمين فاسم الوالي واقع عليه عند جميع أهل الصلاة من العرب. وخالقنا عز وجل التواب قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (¬3) وقد سمى الله جميع من تاب من الذنوب توّاباً فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (¬4)، ومعقول عند كل مؤمن أن هذا الاسم الذي هو اسم الله ليس هو على معنى ما سمى الله التائبين به؛ لأن الله إنما أخبر أنه يحب التوابين أي من الذنوب والخطايا، وجل ربنا وعز أن يكون اسم التواب له على المعنى الذي خبر أنه يحب التوابين من المؤمنين. ومعبودنا جل جلاله ¬

(¬1) الأنبياء الآية (30). (¬2) أحمد (3/ 304) والترمذي (3/ 663 - 664/ 1379) وقال: "حسن صحيح". والنسائي في الكبرى (3/ 404/5757). وصححه ابن حبان (11/ 616/5205) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. وأخرجه من حديث سعيد بن زيد: أبو داود (3/ 454/3073) والترمذي (3/ 662 - 663/ 1378) وقال: "حسن غريب". والنسائي في الكبرى (3/ 405/5761). ومن حديث عائشة: أحمد (6/ 120) والبخاري (5/ 22/2335) بلفظ: "من أعمر أرضاً ليست لأحد فهو أحق". (¬3) النساء الآية (16). (¬4) البقرة الآية (222).

الغنيّ قال الله تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} (¬1) واسم الغني قد يقع على كل من قد أغناه الله تعالى بالمال وقال جل وعلا ذكره: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (¬2) وقال: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} (¬3)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - عند بعثه معاذاً إلى اليمن: "أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم" (¬4)، وقال ضمام ابن ثعلبة للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "آلله أمرك أن تأخذ الصدقة من أغنيائنا فتردها على فقرائنا؟ قال: نعم" (¬5). وربنا جل وعلا النور، وقد سمى الله بعض خلقه نوراً فقال: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} وقال: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} (¬6) وقال: {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ¬

(¬1) محمد الآية (38). (¬2) النور الآية (33). (¬3) التوبة الآية (93) .. (¬4) أحمد (1/ 233) والبخاري (3/ 333/1395) ومسلم (1/ 50/19) وأبو داود (2/ 242 - 243/ 1584) والترمذي (3/ 21/625) وقال: "حديث ابن عباس حديث حسن صحيح" وأيضاً في: (4/ 323/2014) مختصراً وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (5/ 5 - 6/ 2434) وابن ماجه (1/ 568/1783). (¬5) أخرجه: أحمد (3/ 168) والبخاري (1/ 197/63) وأبو داود (1/ 326 - 327/ 486) مختصراً. والنسائي (4/ 428/2091) وابن ماجه (1/ 449/1402) من طريق شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس به. وأخرج نحوه أحمد (3/ 143) والبخاري (1/ 197) تعليقاً. ومسلم (1/ 41 - 42/ 12) والترمذي (3/ 14 - 15/ 619) والنسائي (4/ 427/2090) من طريق ثابت عن أنس به. (¬6) النور الآية (35).

وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} (¬1) وقال: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} (¬2)، قال أبو بكر: قد كنت خبرت منذ دهر طويل أن بعض من كان يدعي العلم ممن كان لا يفهم هذا الباب يزعم أنه غير جائز أن يقرأ {اللهُ نَوَّرَ السمواتِ والأرضَ} (¬3) وكان يقرأ ((اللهُ نَوَّرَ السمواتِ والأرضَ)) فبعثت إليه بعض أصحابي، وقلت له: قل له: ما الذي تنكر أن يكون لله عز وجل اسم يسمي الله بذلك الاسم بعض خلقه؟ فقد وجدنا الله قد سمى بعض خلقه بأسماء هي له أسامي. وبعثت له بعض ما قد أمليته في هذا الفصل، وقلت للرسول: قل له: قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإسناد الذي لا يدفعه عالم بالأخبار ما يثبت أن الله نُور السموات والأرض، قلت: في خبر طاوس عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو: "اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن" الحديث بتمامه (¬4) قد أمليته في كتاب الدعوات وفي كتاب الصلاة أيضاً، فرجع الرسول فقال: لست أنكر أن يكون الله تعالى نوراً، كما قد بلغني بعد أنه رجع. قال أبو بكر: وكل من فهم عن الله خطابه يعلم أن هذه الأسامي التي ¬

(¬1) التحريم الآية (8). (¬2) الحديد الآية (12). (¬3) النور الآية (35). (¬4) أحمد (1/ 298و308) والبخاري (3/ 3/1120) ومسلم (1/ 532 - 533/ 769) والترمذي (5/ 449/3418) والنسائي (3/ 231 - 232/ 1618) وابن ماجه (1/ 430/1355) من حديث ابن عباس.

هي لله تعالى أسامي، بين الله ذلك في كتابه وعلى لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - مما قد أوقع تلك الأسامي على بعض المخلوقين ليس على معنى تشبيه المخلوق بالخالق؛ لأن الأسامي قد تتفق وتختلف المعاني؛ فالنور وإن كان اسماً لله فقد يقع اسم النور على بعض المخلوقين، فليس معنى النور الذي هو اسم الله في المعنى مثل النور الذي هو خلق لله، قال الله جل وعلا: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} (¬1)، واعلم أيضاً أن لأهل الجنة نوراً يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، وقد أوقع الله اسم النور على معان. وربنا جل وعلا الهادي وقد سمى بعض خلقه هادياً فقال عز وجل لنبيه: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} (¬2) فسمى نبيه - صلى الله عليه وسلم - هادياً وإن كان الهادي اسماً لله عز وجل، والله الوارث قال الله تعالى: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} (¬3) وقد سمى الله من يرث من الميت ماله وارثاً فقال عز وجل: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} (¬4). فتفهّموا يا ذوي الحجا ما يثبت في هذا الفصل تعلموا وتستيقنوا أن لخالقنا عز وجل أسامي قد تقع تلك الأسامي على بعض خلقه في اللفظ لا على المعنى على ما قد ثبت في هذا الفصل من الكتاب والسنة ولغة العرب؛ فإن كان علماء الآثار الذين يصفون الله بما وصف به نفسه وعلى لسان نبيه ¬

(¬1) النور الآية (35). (¬2) الرعد الآية (7). (¬3) الأنبياء الآية (89). (¬4) البقرة الآية (232).

موقفه من المرجئة:

- صلى الله عليه وسلم - مشبهة على ما يزعم الجهمية المعطلة؛ فكل أهل القبلة إذا قرؤوا كتاب الله فآمنوا به بإقرار باللسان وتصديق بالقلب، وسموا الله بهذه الأسامي التي سماهم الله بها هم مشبهة، فعود مقالتهم هذه توجب أن على أهل التوحيد الكفر بالقرآن وترك الإيمان به، وتكذيب القرآن بالقلوب، والإنكار بالألسن؛ فأقذر بهذا من مذهب! وأقبح بهذه الوجوه عندهم عليهم لعائن الله، وعلى من ينكر جميع ما وصف الله به نفسه في محكم تنزيله، والكفر بجميع ما ثبت عن نبينا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بنقل أهل العدالة موصولاً إليه في صفات الخالق جل وعلا! (¬1) موقفه من المرجئة: جاء في كتاب الأباطيل: فخرج من ناحية سجستان بأصحابه -يعني: محمد بن كرّام-، وامتد إلى أرض نيسابور، فاستقبله أهلها بالرحب، وتمسحوا به!! وقبلوه أحسن قبول، وعظمت الفتنة على الخاصة، وأهل العلم به، وأعياهم أمره، فاجتمعوا إلى أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، وكان شيخ الوقت غير مدافع، وإماماً في سائر العلوم الدينية، وكان الساماني ملك الشرق، يكتب إليه: "إمام الأئمة وحبر هذه الأمة" فحين استفحل أمر ابن كرام، وانتشر قوله في أعمال نيسابور، كاتب محمد بن إسحاق السلطان، وأن البلية قد عظمت على العامة بهذا الرجل، وأمره يزداد كل يوم انتشاراً، فكتب السلطان إلى نائبه بنيسابور: أن يمتثل جميع ما يأمره به الشيخ محمد بن إسحاق، ولا يخالفه في شيء يشير إليه، فجمع أهل العلم واستشارهم، ¬

(¬1) التوحيد (21 - 36).

أبو إسحاق الزجاج (311 هـ)

فقالوا: ليس نجد رأياً أرشد من رأي الأمير إبراهيم بن الحصين في إخراجه من الناحية. فأمر الأمير بإخراجه، فخرج معه من أماثل نيسابور خلق كثير، قيل: ثمان مائة كنيسة من جلة الناس غير التبع، وامتد على حاله إلى بيت المقدس، وسكن هناك إلى أن مات. (¬1) أبو إسحاق الزَّجَّاج (¬2) (311 هـ) هو إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج، البغدادي نحوي زمانه. كان يخرط الزجاج، ثم مال إلى النحو، فلزم المبرد وأخذ عنه، وكان المبرد يقدم الزجاج على جميع أصحابه، ثم أدب القاسم بن عبيد الله الوزير، فكان سبب غناه، ثم كان من ندماء المعتضد. وروى عنه علي بن عبد الله بن المغيرة وغيره. قال الخطيب: كان من أهل الفضل والدين، حسن الاعتقاد، جميل المذهب وله مصنفات حسان في الأدب. توفي رحمه الله في جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة وثلاثمائة. وكان آخر ما سمع منه قوله: اللهم احشرني على مذهب أحمد بن حنبل رضي الله عنه. موقفه من الجهمية: قال أبو إسحاق الزجاج: أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة، وأن الميزان له لسان وكفتان ويميل بالأعمال، ¬

(¬1) كتاب الأباطيل والمناكير للهمذاني (ص.139). (¬2) تاريخ بغداد (6/ 89 - 83) وتاريخ الإسلام (حوادث 311 - 320/ص.407 - 408) والوافي بالوفيات (5/ 347 - 350) ووفيات الأعيان (1/ 49 - 50) والبداية والنهاية (11/ 159 - 160) وبغية الوعاة (1/ 411 - 413).

السراج (313 هـ)

وأنكرت المعتزلة الميزان وقالوا: هو عبارة عن العدل، فخالفوا الكتاب والسنة لأن الله أخبر أنه يضع الموازين لوزن الأعمال ليرى العباد أعمالهم ممثلة ليكونوا على أنفسهم شاهدين. (¬1) السَّرَّاج (¬2) (313 هـ) محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن مهران الإمام الحافظ الثقة محدث خراسان، أبو العباس الثقفي مولاهم الخراساني، مولده سنة ثماني عشرة ومائتين وقيل غير ذلك. سمع من إسحاق بن سعيد ومحمد بن بكار بن الريان وخلق سواهم. وحدث عنه البخاري، ومسلم خارج الصحيحين، وأبو حاتم الرازي أحد شيوخه، وأبو بكر بن أبي الدنيا وخلق كثير. قال الخطيب: كان من الثقات الأثبات، عني بالحديث وصنف كتبا كثيرة، وهي معروفة. قال الصعلوكي: كنا نقول: السَّرَّاج كالسِّراج، وكان يقول: حدثنا أبو العباس الأوحد في فنه، الأكمل في وزنه. وقال ابن أبي حاتم: أبو العباس السراج صدوق ثقة. توفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة. موقفه من الجهمية: - جاء في السير: قال أبو عبد الله الحاكم: سمعت أبي يقول: لما ورد ¬

(¬1) الفتح (13/ 538). (¬2) تاريخ بغداد (1/ 248 - 252) وتذكرة الحفاظ (2/ 731 - 735) والسير (14/ 388 - 398) والوافي بالوفيات (2/ 187 - 188) والبداية والنهاية (11/ 164).

أبو علي السنجي (315 هـ)

الزعفراني، وأظهر خلق القرآن، سمعت السراج يقول: العنوا الزعفراني. فيضج الناس بلعنته. فنزح إلى بخارى. (¬1) - وفيها: قال الحاكم: وسمعت أبا سعيد بن أبي بكر يقول: لما وقع من أمر الكلابية ما وقع بنيسابور، كان أبو العباس السراج، يمتحن أولاد الناس، فلا يحدث أولاد الكلابية، فأقامني في المجلس مرة فقال: قل: أنا أبرأ إلى الله تعالى من الكلابية. فقلت: إن قلت هذا لا يطعمني أبي الخبز، فضحك وقال: دعوا هذا. (¬2) - عن أحمد بن محمد الخفاف، حدثنا أبو العباس السراج إملاء قال: من لم يقر بأن الله تعالى يعجب، ويضحك، وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا، فيقول: "من يسألني فأعطيه" (¬3) فهو زنديق كافر، يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين. أبو علي السِّنْجِي (¬4) (315 هـ) الحافظ أبو علي الحسين بن محمد بن مصعب السنجي المروزي. حدث عن علي بن خشرم، ويحيى بن حكيم المقوم وأبي سعيد الأشج. حدث عنه أبو حاتم البستي في كتبه، وزاهر بن أحمد السرخسي، وأحمد بن عبد الله ¬

(¬1) السير (14/ 394) والتذكرة (2/ 733). (¬2) السير (14/ 395) والتذكرة (2/ 733 - 734). (¬3) انظر تخريجه في مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ). (¬4) السير (14/ 413 - 415) والأنساب (3/ 318) وتذكرة الحفاظ (3/ 801) وتاريخ الإسلام (حوادث 311 - 320/ص.492).

موقفه من المبتدعة:

النعيمي. قال عنه ابن ماكولا: ما كان بخراسان أحد أكثر حديثاً منه. توفي سنة خمس عشرة وثلاثمائة. موقفه من المبتدعة: جاء في السير: وكان لا يكاد يحدث أهل الرأي؛ لأنهم يسمعون الحديث، ويعدلون عنه إلى القياس. (¬1) أبو بكر بن أبي داود (¬2) (316 هـ) عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث، الإمام العلامة الحافظ شيخ بغداد، أبو بكر الحافظ ابن الحافظ السِّجِسْتَاني. ولد بسجستان سنة ثلاثين ومائتين، ونشأ بنيسابور وغيرها. سمع من محمد بن أسلم الطوسي وهو أول شيخ سمع منه. وروى عن أبيه وعمه وعيسى بن حماد زغبة، وأحمد بن صالح وخلق كثير بخراسان والحجاز والعراق ومصر والشام وأصبهان وفارس. وحدث عنه خلق كثير منهم: ابن حبان، وأبو أحمد الحاكم، وأبو الحسن الدارقطني وآخرون. كان أبو بكر من بحور العلم، بحيث إن بعضهم فضله على أبيه، صنف 'السنن' و'المصاحف' و'شريعة المقارئ' و'الناسخ والمنسوخ' و'البعث' وأشياء. كذبه أبوه، وعلق الذهبي قائلا: لعل قول أبيه فيه -إن صح- أراد الكذب في لهجته، لا في الحديث. فإنه حجة فيما ينقله، أو كان ¬

(¬1) السير (14/ 414). (¬2) تاريخ بغداد (9/ 464 - 468) وطبقات الحنابلة (2/ 51 - 55) وسير أعلام النبلاء (13/ 221 - 237) ووفيات الأعيان (2/ 404 - 405) وميزان الاعتدال (2/ 433 - 436).

موقفه من المبتدعة:

يكذب ويوري في كلامه، ومن زعم أنه لا يكذب أبدا فهو أرعن، نسأل الله السلامة من عثرة الشباب، ثم إنه شاخ وارعوى، ولزم الصدق والتقى. مات أبو بكر وهو ابن ست وثمانين سنة. وصلى عليه مطلب الهاشمي، ثم أبو عمر حمزة بن القاسم الهاشمي، ودفنوه يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة من سنة ست عشرة وثلاثمائة في مقبرة باب البستان. موقفه من المبتدعة: قال أبو بكر بن أبي داود: أهل الرأي هم أهل البدع. وهو القائل في قصيدته في السنة: تمسك بحبل الله واتبع الهدى ... ولا تك بدعيّاً لعلك تفلح وَدِنْ بكتاب الله والسنن التي ... أتت عن رسول الله تنجو وتربح إلى أن قال: ودع عنك آراء الرجال وقولهم ... فقول رسول الله أزكى وأشرح ولا تك من قوم تلهوا بدينهم ... فتطعن في أهل الحديث وتقدح إذا ما اعتقدت الدهر يا صاح هذه ... فأنت على خير تبيت وتصبح تنبيه: سنورد المنظومة كاملة -بإذن الله- ضمن مواقفه رحمه الله من الجهمية. وهي متضمنة الرد على جميع الفرق المنحرفة عن سبيل السلف الصالح فنجد فيها:

موقفه من الرافضة والجهمية والخوارج والمرجئة والقدرية:

موقفه من الرافضة والجهمية والخوارج والمرجئة والقدرية: قال الآجري في الشريعة: وقد كان أبو بكر بن أبي داود رحمه الله أنشدنا قصيدة قالها في السنة وهذا موضعها وأنا أذكرها ليزداد بها أهل الحق بصيرة وقوة إن شاء الله: أملى علينا أبو بكر بن أبي داود في مسجد الرصافة في يوم الجمعة لخمس بقين من شعبان سنة تسع وثلاثمائة فقال تجاوز الله عنه: تمسك بحبل الله واتبع الهدى ... ولا تك بدعياً لعلك تفلح وَدِنْ بكتاب الله والسنن التي ... أتت عن رسول الله تنجو وتربح وقل: غيرُ مخلوق كلام مليكنا ... بذلك دان الأتقياء وأفصحوا ولا تغلُ في القرآن بالوقف قائلاً ... كما قال أتباع لجهم وأسجحوا ولا تقل: القرآن خلقٌ قراءته ... وقل يتجلى الله للخلق جهرة ... كما البدر لا يخفى وربك أوضح وليس بمولود وليس بوالد ... وليس له شبه تعالى المسبَّح وقد ينكر الجهمي هذا وعندنا ... بمصداق ما قلنا حديث مصرح رواه جرير عن مقال محمد ... فقل مثل ما قد قال في ذاك تنجح وقد ينكر الجهمي أيضاً يمينه ... وكلتا يديه بالفواضل تنضح وقل: ينزل الجبار في كل ليلة ... بلا كيف جل الواحد المتمدح إلى طبق الدنيا يمنّ بفضله ... فتفرج أبواب السماء وتفتح يقول: ألا مستغفرٌ يلقَ غافراً ... ومستمنحٌ خيراً ورزقاً فيمنح روى ذاك قوم لا يرد حديثهم ... ألا خاب قوم كذبوهم وقبحوا

وقل: إن خير الناس بعد محمد ... وزيراه قِدْماً ثم عثمان الأرجَحُ ورابعهم خير البرية بعدهم ... علي حليف الخير بالخير مُنْجِحُ وإنهم والرهط لا ريب فيهم ... على نُجُبِ الفردوس في الخلد سعيد وسعد وابن عوف وطلحةٌ ... تسرح وعامرُ فهرٍ والزبير الممدح وقل خيرَ قولٍ في الصحابة كلهم ... ولا تك طعاناً تعيب وتجرح فقد نطق الوحي المبين بفضلهم ... وفي الفتح آيٌ في الصحابة تمدح وبالقدر المقدور أيقن فإنه ... دعامة عقد الدين والدين أفيح ولا تُنكِرَنْ جهلاً نكيراً ومنكراً ... ولا الحوض والميزان إنك تنصح وقل: يخرج الله العظيم بفضله ... من النار أجساداً من الفحم تطرح على النهر في الفردوس تحيا بمائه ... كحبة حمل السيل إذ جاء يطفح وإن رسول الله للخلق شافعٌ ... وقل في عذاب القبر: حق موضَّحُ ولا تُكْفِرَنْ أهل الصلاة وإن عصوا ... فكلهم يعصي وذو العرش يصفح ولا تعتقد رأي الخوارج إنه ... مقال لمن يهواه يردي ويفضح ولا تك مرجيّاً لعوباً بدينه ... ألا إنما المرجيّ بالدين يمزح وقل: إنما الإيمان قول ونية ... وفعل على قول النبي مصرح وينقص طوراً بالمعاصي وتارة ... بطاعته ينمى وفي الوزن يرجح ودع عنك آراء الرجال وقولهم ... فقول رسول الله أزكى وأشرح ولا تك من قوم تلهّوا بدينهم إذا ... فتطعن في أهل الحديث وتقدح ما اعتقدت الدّهرَ، يا صاحِ، هذه .... فأنت على خير تبيت وتصبح ثم قال لنا أبو بكر بن أبي داود: هذا قولي وقول أبي وقول أحمد بن

أبو الفضل الجارودي الهروي (317 هـ)

حنبل وقول من أدركنا من أهل العلم ومن لم ندرك ممن بلغنا عنه، فمن قال عليّ غير هذا فقد كذب. (¬1) أبو الفضل الجَارُودي الهَرَوِيّ (¬2) (317 هـ) الحافظ، الإمام محمد بن أبي الحسين أحمد بن محمد بن عمار الجارودي الهروي، سمع أحمد بن نجدة، والحسين بن إدريس، ومعاذ بن المثنى، ومحمد بن المظفر البغدادي، وآخرين. وسمع منه أبو علي الحافظ، وأبو الحسين الحجاجي، وعبد الله بن سعد، ومحمد بن أحمد بن حماد الكوفي، وغيرهم. إمام كبير عارف بعلل الحديث له جزء فيه بضعة وثلاثون حديثاً من الأحاديث التي بين عللها في صحيح مسلم. قتل شهيداً رحمه الله تعالى على يد القرامطة لعنهم الله وذلك سنة سبع عشرة وثلاثمائة. موقفه من الرافضة: قال الحاكم: سمعت بكير بن أحمد الحداد بمكة يقول: كأني أنظر إلى الحافظ أبي الفضل محمد بن الحسين وقد أخذته السيوف وهو متعلق بيديه جميعا بحلقتي الباب حتى سقط رأسه على عتبة الكعبة سنة ثلاث وعشرين. كذا أرخ، وإنما كان ذلك في سنة سبع عشرة وثلاث مائة، أرخه جماعة، قتلته القرامطة لعنهم الله وأخاه أحمد وقتلوا حول الحرم ألوفاً من الحجيج ¬

(¬1) الشريعة (3/ 591 - 593) والطبقات (2/ 53 - 54) والسير (13/ 233). (¬2) تذكرة الحفاظ (3/ 834 - 835) والسير (14/ 538 - 540) والوافي بالوفيات (2/ 37).

محمد بن محمد بن خالد المعروف بالطرزي (317 هـ)

واقتلعوا الحجر وأخذوه معهم. (¬1) محمد بن محمد بن خالد المعروف بالطرزي (¬2) (317 هـ) أبو القاسم محمد بن محمد بن خالد القيسي المعروف بالطرزي، القاضي الزاهد مولى بني معبد. سمع من محمد بن سحنون كثيراً. ولاّه عيسى بن مسكين على مظالم القيروان، وولاّه حماس بعده عشر سنين، ثم ولي قضاء صقلية. وكان شديد الضبط مغيراً للمنكر. قال ابن حارث الحافظ: صحبناه وقد هرم، وقرأنا عليه بعض كتاب ابن سحنون في خفية، وتوارى لما كنا فيه، يعني خوفاً من بني عبيد الرافضة. وكان كثيراً ما يتمثل بهذين البيتين: إذا خان الأمير وكاتباه ... وقاضي الأرض داهن في القضاء فويل للأمير وكاتبيه ... وقاضي الأرض من قاضي السماء وكان قليل ذات اليد. امتحن على يد قاضي الشيعة، ضربه في الجامع على رأس الناس، وحبسه مع أهل الجرائم. مات رحمه الله ولم يكن له كفن!! وذلك سنة سبع عشرة وثلاثمائة في شهر رمضان. موقفه من الرافضة: جاء في المعالم: كانت له محنة؛ ضربه القاضي المروزي هو وابن بطريقة بالسياط عند الجامع، بغضاً منه في أهل السنة وعداوة لعلماء المسلمين!! قلت -أي التنوخي-: وزاد غيره وضربه أيضاً هو وابن سلمون القطان ¬

(¬1) التذكرة (3/ 835). (¬2) معالم الإيمان (3/ 9 - 11) وتاريخ الإسلام (حوادث 311 - 320/ص.552) وترتيب المدارك (5/ 103 - 105).

محمد بن الفضل البلخي (317 هـ)

والخلافي المحتسب وقوماً مرابطين من أهل تونس وكان قتل المروزي بسببهم، وذلك أن عبيد الله إمام الشيعة لما أتى إلى القيروان من سجلماسة وجده قاضياً ووجد في سجنه من ذكر، وأظهر أن سببه القدح في الدولة فعزله وعذبه ثم قتله. (¬1) محمد بن الفضل البلخي (¬2) (317 هـ) أبو عبد الله محمد بن الفضل بن العباس البلخي نزيل سمرقند. قال أبو نعيم الحافظ: سمع الكثير من قتيبة بن سعيد. من مشايخه أبو بشر محمد بن مهدي وإسماعيل بن نجيد وإبراهيم بن محمد بن عمرويه. روى عنه أبو بكر محمد بن عبد الله الرازي وأبو بكر بن المقرئ. من أقواله: ست خصال يعرف بها الجاهل: الغضب من غير شيء والكلام في غير نفع والعطية في غير موضعها وإفشاء السر والثقة بكل أحد ولا يعرف صديقه من عدوه. وقال: من ذاق حلاوة العلم لم يصبر عنه. مات سنة سبع عشرة وثلاث مئة. موقفه من المبتدعة: - قال محمد بن الفضل البلخي: أعرفهم بالله أشدهم مجاهدة في أوامره، وأتبعهم لسنة نبيه. (¬3) ¬

(¬1) المعالم (3/ 10 - 11). (¬2) السير (14/ 523 - 526) وشذرات الذهب (2/ 282 - 283) والوافي بالوفيات (4/ 322) والحلية (10/ 232 - 233). (¬3) الاعتصام (1/ 129).

موقف السلف من ابن أبي العزاقر (319 هـ)

- وقال أيضا: ذهاب الإسلام من أربعة: لا يعملون بما يعلمون، ويعملون بما لا يعلمون، ولا يتعلمون ما لا يعلمون، ويمنعون الناس من التعلم. (¬1) " التعليق: قال الشاطبي عقبه: هذا ما قال، وهو وصف صوفيتنا اليوم، عياذاً بالله. وقال الذهبي: هذه نعوت رؤوس العرب والترك، وخلق من جهلة العامة، فلو عملوا بيسير ما عرفوا، لأفلحوا، ولو وقفوا عن العمل بالبدع لوفقوا، ولو فتشوا عن دينهم وسألوا أهل الذكر -لا أهل الحيل والمكر- لسعدوا، بل يعرضون عن التعلم تيهاً وكسلاً، فواحدة من هذه الخلال مردية، فكيف بها إذا اجتمعت؟ فما ظنك إذا انضم إليها كبر وفجور، وإجرام، وتجهرم على الله؟ نسأل الله العافية. (¬2) موقف السلف من ابن أبي العزاقر (319 هـ) بيان زندقته: - جاء في السير: الزنديق المعثر، أبو جعفر، محمد بن علي، الشلمغاني الرافضي قال بالتناسخ، وبحلول الإلهية فيه، وأن الله يحل في كل شيء بقدر ما يحتمله، وأنه خلق الشيء وضده، فحل في آدم وفي إبليسه، وكل منهما ضد ¬

(¬1) الاعتصام (1/ 128 - 129). (¬2) السير (14/ 525).

للآخر. وقال: إن الضد أقرب إلى الشيء من شبهه، وإن الله يحل في جسد من يأتي بالكرامات ليدل على أنه هو، وإن الإلهية اجتمعت في نوح وإبليسه، وفي صالح وعاقر الناقة، وفي إبراهيم ونمرود، وعلي وإبليسه. وقال: من احتاج الناس إليه، فهو إله. وسمى موسى ومحمداً الخائنين، لأن هارون أرسل موسى، وعلياً أرسل محمداً، فخاناهما. وإن علياً أمهل محمداً ثلاث مئة سنة ثم تذهب شريعته. ومن رأيه ترك الصلاة والصوم، وإباحة كل فرج، وأنه لا بد للفاضل أن يَنِيكَ المفضول ليولج فيه النور، ومن امتنع مسخ في الدور الثاني فربط الجهلة وتخرق، وأضل طائفة، فأظهر أمره أبو القاسم الحسين بن روح -رأس الشيعة، الملقب بالباب- إلى صاحب الزمان، فطلب ابن أبي العزاقر، فاختفى، وتسحب إلى الموصل، فأقام هناك سنين، ورجع، فظهر عنه ادعاء الربوبية، واتبعه الوزير حسين بن الوزير القاسم بن عبيد الله بن وهب - وزير المقتدر فيما قيل، وابنا بسطام، وإبراهيم بن أبي عون، فطلبوا، فتغيبوا، فلما كان في شوال من سنة اثنتين وعشرين ظفر الوزير ابن مقلة بهذا، فسجنه، وكبس داره، فوجد فيها رقاعاً وكتباً مما يدعى عليه، وفيها خطابه بما لا يخاطب به بشر، فعرضت عليه، فأقر أنها خطوطهم، وتنصل مما يقال فيها، وتبرأ منهم، فمد ابن عبدوس يده، فصفعه. وأما ابن أبي عون فمد يده إليه، فارتعدت يده، ثم قبل لحيته ورأسه وقال: إلهي، ورازقي، وسيدي. فقال له الراضي بالله: قد زعمت أنك لا تدعي الإلهية، فما هذا؟ قال: وما علي من قول هذا؟ والله يعلم أنني ما قلت له: إنني إله قط. فقال ابن عبدوس: إنه لم يدع إلهية، إنما ادعى أنه الباب إلى الإمام المنتظر. ثم إنهم أحضروا مرات

بمحضر الفقهاء والقضاة، ثم في آخر الأمر أفتى العلماء بإباحة دمه، فأحرق في ذي القعدة من السنة، وضرب ابن أبي عون بالسياط، ثم ضربت عنقه وأحرق. (¬1) - وفيها أيضاً: وذكرنا في الحوادث: أن في هذا العام ظهر الشلمغاني. وشلمغان: قرية من قرى واسط. فشاع عنه ادعاء الربوبية، وأنه يحيى الموتى، فأحضره ابن مقلة عند الراضي، فسمع كلامه، وأنكر ما قيل عنه. وقال: لتنزلن العقوبة على الذي باهلني بعد ثلاث، وأكثره تسعة أيام، وإلا فدمي حلال. فضرب ثمانين سوطاً، ثم قتل وصلب. وقتل بسببه وزير المقتدر، الحسين، اتهم بالزندقة. وقتل أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن هلال بن أبي عون الأنباري الكاتب. وقد كان أبو علي الحسين -ويقال: الجمال- وزر للمقتدر في سنة تسع عشرة وثلاث مائة، ولقبوه عميد الدولة، وعزل بعد سبعة أشهر، وسجن، وعقد له مجلس في كائنة الشلمغاني، ونوظر، فظهرت رِقَاعُهُ يخاطب الشلمغاني فيها بالإلهية، وأنه يحييه ويميته، ويسأله أن يغفر له ذنوبه. فأخرجت تلك الرقاع، وشهد جماعة أنه خطه، فضربت عنقه، وطيف برأسه في ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين وثلاث مئة، وعاش ثمانياً وسبعين سنة. (¬2) ¬

(¬1) السير (14/ 566 - 568). (¬2) السير (14/ 568).

موقف السلف من ابن مسرة (319 هـ)

موقف السلف من ابن مسرة (319 هـ) بيان زندقته: - جاء في تاريخ ابن الفرضي: اتهم بالزندقة فخرج فاراً وتردد بالمشرق مدة فاشتغل بملاقاة أهل الجدل وأصحاب الكلام والمعتزلة، ثم انصرف إلى الأندلس فأظهر نسكاً وورعاً واغتر الناس بظاهره، فاختلفوا إليه وسمعوا منه، ثم ظهر الناس على سوء معتقده وقبح (¬1) مذهبه، فانقبض من كان له إدراك وعلم وتمادى في صحبته آخرون غلب عليهم الجهل فدانوا بنحلته، وكان يقول بالاستطاعة وإنفاذ الوعيد ويحرف التأويل في كثير من القرآن ... وقال عنه ابن حارث: الناس في ابن مسرة فرقتان: فرقة تبلغ به مبلغ الإمامة في العلم والزهد وفرقة تطعن عليه بالبدع لما ظهر من كلامه في الوعد والوعيد وبخروجه عن العلوم المعلومة بأرض الأندلس الجارية على مذهب التقليد والتسليم. (¬2) " التعليق: ما ذكره ابن الفرضي، يدل على محاربة الأندلس للباطنية الزنادقة الذين يعيثون في الأرض فساداً، وهكذا ينبغي أن يكون العلماء في كل زمان ومكان، وقول ابن الحارث: إن أهل الأندلس كانوا على مذهب التسليم والتقليد، فيقصد بذلك أنهم كانوا على مذهب السلف، وما طرأ من ذلك ¬

(¬1) في المطبوع: فتح، وهو تصحيف. (¬2) تاريخ ابن الفرضي (2/ 41 - 42).

المقتدر بالله (320 هـ)

فهو دخيل، قصده نسف الإسلام من أصله. المقتدر بالله (¬1) (320 هـ) جعفر بن المعتضد بالله أحمد بن أبي أحمد طلحة بن المتوكل على الله الهاشمي العباسي البغدادي أبو الفضل أمير المؤمنين. مولده في ليلة الجمعة لثمان بقين من رمضان سنة اثنتين وثمانين ومائتين، بويع له بالخلافة بعد أخيه المكتفي سنة خمس وتسعين ومائتين وهو ابن ثلاث عشرة سنة وشهر وأيام. كان جيد العقل صحيح الرأي ولكنه كان مؤثراً للشهوات وكان سمحاً متلافاً للأموال، محق ما لا يعد ولا يحصى. وقتل لثلاث بقين من شوال سنة عشرين وثلاثمائة. وله ثمان وثلاثون سنة. موقفه من الرافضة: تقدم ما فعله المقتدر بالله بالزنديق الحلاج، والآن نحن مع موقف له مع الرافضة إخوان القرامطة: جاء في البداية والنهاية: وفي صفر منها -أي سنة ثلاثة عشر وثلاثمائة- بلغ الخليفة أن جماعة من الرافضة يجتمعون في مسجد براثي، فينالون من الصحابة ولا يصلون الجمعة ويكاتبون القرامطة ويدعون إلى محمد بن إسماعيل، الذي ظهر بين الكوفة وبغداد ويدعون أنه المهدي ويتبرأون من المقتدر ومن تبعه، فأمر بالاحتياط عليهم واستفتى العلماء بالمسجد فأفتوا بأنه ¬

(¬1) تاريخ بغداد (7/ 213 - 219) والسير (15/ 43 - 56) والبداية والنهاية (11/ 181 - 182) والمنتظم (13/ 308 - 309).

موقف السلف من الحكيم الترمذي الصوفي (320 هـ)

مسجد ضرار، فضرب من قدر عليه منهم الضرب المبرح ونودي عليهم وأمر بهدم ذلك المسجد المذكور فهدم، هدمه مازوك وأمر الوزير الخاقاني فجعل مكانه مقبرة فدفن فيها جماعة من الموالي. (¬1) " التعليق: جزى الله خيراً خليفة المسلمين وأثابه على غيرته في عقيدته، وأثاب الفقهاء معه، وما أحسن ما عمله من جعل المسجد مقبرة فهكذا ينبغي الآن للمسلمين أن يهدموا جميع الأوثان التي تعبد من دون الله، ويوضع مكانها حمامات أو مقابر حتى تنسى نسياناً كليّاً، ويباد الشرك ومظاهره وتختفي، لا التشجيع والتشييد، وإقامة المواسم والذبائح عندها، ولا حول ولا قوة إلا بالله اللهم اهد أمراءنا وعلماءنا. موقف السلف من الحكيم الترمذي الصوفي (320 هـ) بيان تصوفه: - موقف أهل ترمذ منه: قال أبو عبد الرحمن السلمي: أخرجوا الحكيم من ترمذ، وشهدوا عليه بالكفر، وذلك بسبب تصنيفه كتاب: 'ختم الولاية'، وكتاب 'علل الشريعة'، وقالوا: إنه يقول: إن للأولياء خاتماً كالأنبياء لهم خاتم. وإنه يفضل الولاية ¬

(¬1) البداية والنهاية (11/ 163).

على النبوة، واحتج بحديث: "يغبطهم النبيون والشهداء" (¬1). فقدم بلخ، فقبلوه لموافقته لهم في المذهب. (¬2) " التعليق: ما كفر من أجله، وما أخرج من أجله الحكيم الترمذي فهو اليوم يعد من الولاية والصلاح، وكتابه الذي ألفه وملأه بالكفر والضلال هو مصدر كثير من الطرق الصوفية في دعواهم أن شيخهم هو خاتم الأولياء. وقال السلمي: هجر لتصنيفه كتاب: 'ختم الولاية'، و'علل الشريعة'، وليس فيه ما يوجب ذلك، ولكن لبعد فهمهم عنه. قال الذهبي: كذا تكلم في السلمي من أجل تأليفه كتاب: 'حقائق التفسير'، فيا ليته لم يؤلفه، فنعوذ بالله من الإشارات الحلاجية، والشطحات البسطامية، وتصوف الاتحادية، فواحزناه على غربة الإسلام والسنة، قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬2). اهـ (¬4) ¬

(¬1) أخرجه: النسائي في الكبرى (6/ 362/11236) وصححه ابن حبان (2/ 332 - 333/ 573) من حديث أبي هريرة. (¬2) السير (13/ 441). (¬3) الأنعام الآية (153). (¬4) السير (13/ 442).

أبو جعفر الطحاوي (321 هـ)

أبو جعفر الطحاوي (¬1) (321 هـ) الإمام العلامة الحافظ الكبير صاحب التصانيف البديعة. محدث الديار المصرية وفقيهها، أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة بن عبد الملك، الأزدي الحجري المصري الطحاوي الحنفي. مولده في سنة تسع وثلاثين ومائتين. سمع من عبد الغني بن رفاعة وهارون الأَيلي، ويونس بن عبد الأعلى، والربيع بن سليمان المرادي ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم وطبقتهم. وبرز في علم الحديث وفي الفقه وتفقه بالقاضي أحمد بن أبي عمران الحنفي وجمع وصنف. روى عنه أحمد بن القاسم الخشاب وأبو القاسم الطبراني وأبو بكر ابن المقرئ ومحمد بن المظفر الحافظ وخلق سواهم. قال ابن يونس: وكان ثقة ثبتاً فقيهاً لم يُخَلِّفْ مثله. صنف رحمه الله 'الآثار' و'معاني الآثار' و'اختلاف العلماء' و'الشروط' و'أحكام القرآن' و'العقيدة الطحاوية' وغيرها. صحب أولاً المزني الشافعي ثم تحول إلى ابن أبي عمران. توفي رحمه الله تعالى في مستهل ذي القعدة سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة. موقفه من المبتدعة: - جاء في لسان الميزان: قال ابن زولاق: وسمعت أبا الحسن علي بن أبي جعفر الطحاوي يقول: سمعت أبي يقول: وذكر فضل أبي عبيد بن جرثومة وفقهه فقال: كان يذاكرني بالمسائل فأجبته يوماً في مسألة فقال لي: ما هذا قول أبي حنيفة، فقلت له: أيها القاضي أو كل ما قاله أبو حنيفة أقول ¬

(¬1) وفيات الأعيان (6/ 71 - 72) وتاريخ الإسلام (حوادث 321 - 330/ص.77 - 79) وتذكرة الحفاظ (3/ 808 - 811) والسير (15/ 27 - 33) والبداية والنهاية (11/ 132) وشذرات الذهب (2/ 288).

به؟ فقال: ما ظننتك إلا مقلداً، فقلت له: وهل يقلد إلا عصبي؟! فقال لي: أو غبي. قال: فطارت هذه الكلمة بمصر حتى صارت مثلاً وحفظها الناس. (¬1) آثاره في العقيدة السلفية: 'عقيدة الإمام الطحاوي': كان لهذه العقيدة الأثر الطيب في المشرق والمغرب، وتناقلها طلبة العلم، وحظيت بعناية فائقة، فشرحت، وحقق شرحها لابن أبي العز، وكان من خير ما حققت به تحقيق الشيخ ناصر الألباني والشيخ شاكر رحمهما الله، وقد اتخذتها الجامعة الإسلامية منهجاً في جميع الكليات، ونفع الله بها الكثير من الطلاب، وقررناها ضمن المنهج العلمي لدور القرآن الكريم ببلادنا المغرب. ومما جاء فيها من الحث على السنة وذم البدعة: - قوله: ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام، فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه؛ حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان، فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار، موسوساً تائهاً شاكّاً، لا مؤمناً مصدقاً، ولا جاحداً مكذباً. - وقوله: ونتبع السنة والجماعة، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة. - وقوله: وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر، لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل. ¬

(¬1) لسان الميزان (1/ 280).

موقفه من الصوفية:

- وقوله: ونرى الجماعة حقاً وصواباً، والفُرقة زيغاً وعذاباً. تنبيه: قال رحمه الله: والإيمان هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان. وهذا هو مذهب الحنفية والماتريدية كما نبه عليه شيخنا الألباني رحمه الله فلا بد من زيادة العمل بالأركان. موقفه من الصوفية: قال رحمه الله في عقيدته: ولا نفضل أحداً من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم السلام، ونقول: نبي واحد أفضل من جميع الأولياء. ونؤمن بما جاء من كراماتهم، وصح من رواياتهم. (¬1) موقفه من الجهمية: قال أبو جعفر الطحاوي في الاعتقاد الذي قال في أوله: ذكر بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة: أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبد الله محمد ابن الحسن الشيباني قال فيه: وأن القرآن كلام الله، منه بدأ بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله وحياً، وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر حيث قال: {سأصليه سقر} (¬2) ¬

(¬1) شرح الطحاوية (ص.492و494). (¬2) المدثر الآية (26).

موقفه من الخوارج:

فلمّا أوعد الله بسقر لمن قال: {إِنْ هذا إلا قول البشر} (¬1) علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر ولا يشبه قول البشر. (¬2) موقفه من الخوارج: قال في بيان عقيدة أهل السنة: ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب، ما لم يستحله، ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله. ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته ولا نأمن عليهم، ولا نشهد لهم بالجنة، ونستغفر لمسيئهم ونخاف عليهم ولا نقنطهم. (¬3) وقال أيضاً: وأهل الكبائر من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين، بعد أن لقوا الله عارفين مؤمنين، وهم في مشيئته وحكمه. إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله، كما ذكر عز وجل في كتابه: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (¬4) وإن شاء عذبهم في النار بعدله، ثم يبعثهم إلى جنته، وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته، ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته، الذين خابوا من هدايته، ولم ينالوا من ولايته. اللهم يا ولي الإسلام وأهله، ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به. ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة وعلى من مات منهم. ¬

(¬1) المدثر الآية (25). (¬2) العقيدة الطحاوية. (¬3) العقيدة الطحاوية (40 - 41). (¬4) النساء الآية (48).

موقفه من القدرية:

ولا ننزل أحداً منهم جنة ولا ناراً، ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق، ما لم يظهر منهم شيء من ذلك، ونذر سرائرهم إلى الله تعالى. ولا نرى السيف على أحد من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا من وجب عليه السيف. ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا، وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة. ونتبع السنة والجماعة ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة. ونحب أهل العدل والأمانة، ونبغض أهل الجور والخيانة. (¬1) موقفه من القدرية: - قال رحمه الله: والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبداً ولا تبيدان، وأن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق. وخلق لهما أهلاً، فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً منه. ومن شاء منهم إلى النار عدلاً منه، وكل يعمل لما قد فرغ له، وصائر إلى ما خلق له. والخير والشر مقدران على العباد. والاستطاعة التي يجب بها الفعل، من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به فهي مع الفعل. وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع، والتمكن وسلامة الآلات، فهي قبل الفعل، وبها يتعلق الخطاب، وهو كما قال تعالى: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} (¬2). ¬

(¬1) العقيدة الطحاوية (45 - 48). (¬2) البقرة الآية (286).

وأفعال العباد خلق الله، وكسب من العباد. ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون، ولا يطيقون إلا ما كلفهم وهو تفسير: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، نقول لا حيلة لأحد، ولا حركة لأحد ولا تحول لأحد عن معصية الله إلا بمعونة الله، ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله. وكل شيء يجري بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضائه وقدره. غلبت مشيئته المشيئات كلها، وغلب قضاؤه الحيل كلها، يفعل ما يشاء، وهو غير ظالم أبداً تقدس عن كل سوء وحين وتنزه عن كل عيب وشين، {لا يسئل عما يفعل وهم يسألون} (¬1). اهـ (¬2) - وقال رحمه الله: ونؤمن باللوح والقلم وبجميع ما فيه قد رقم، فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائن، ليجعلوه غير كائن -لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه، ليجعلوه كائناً- لم يقدروا عليه، جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه. وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه، فقدر ذلك تقديراً محكماً مبرماً، ليس فيه ناقض. ولا معقب، ولا مزيل ولا مغير، ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه، وذلك من عقد ¬

(¬1) الأنبياء الآية (23). (¬2) العقيدة الطحاوية (51 - 55).

موقف السلف من المهدي الرافضي عبيد الله أبي محمد (322 هـ)

الإيمان. وأصول المعرفة، والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته، كما قال تعالى في كتابه، {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فقدره تقديرًا} (¬1)، وقال تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قدرًا مقدورًا} (¬2). فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيماً، وأحضر للنظر فيه قلباً سقيماً، لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سرّاً كتيماً، وعاد بما قال فيه أفّاكاً أثيماً. (¬3) - وقال: فهذا ديننا واعتقادنا ظاهراً وباطناً، ونحن براء إلى الله من كل من خالف الذي ذكرناه وبيناه. ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإيمان، ويختم لنا به، ويعصمنا من الأهواء المختلفة، والآراء المتفرقة، والمذاهب الردية، مثل المشبهة والمعتزلة والجهمية والجبرية والقدرية وغيرهم، من الذين خالفوا السنة والجماعة، وحالفوا الضلالة، ونحن منهم براء، وهم عندنا ضلال وأردياء وبالله العصمة والتوفيق. (¬4) موقف السلف من المهدي الرافضي عبيد الله أبي محمد (322 هـ) بيان رفضه: - قال الذهبي في سيره: عبيد الله أبو محمد، أول من قام من الخلفاء ¬

(¬1) الفرقان الآية (2). (¬2) الأحزاب الآية (38). (¬3) العقيدة الطحاوية (34 - 36). (¬4) العقيدة الطحاوية (61 - 62).

الخوارج العبيدية الباطنية الذين قلبوا الإسلام، وأعلنوا بالرفض، وأبطنوا مذهب الإسماعيلية، وبثوا الدعاة، يستغوون الجبلية والجهلة. وادعى هذا المدبر، أنه فاطمي من ذرية جعفر الصادق، فقال: أنا عبيد الله بن محمد بن عبد الله بن ميمون بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد. (¬1) - وفيها: قال أبو الحسن القابسي، صاحب الملخص: إن الذين قتلهم عبيد الله، وبنوه أربعة آلاف في دار النحر في العذاب من عالم وعابد ليردهم عن الترضي عن الصحابة، فاختاروا الموت. فقال سهل الشاعر: وأحل دار النحر في أغلاله ... من كان ذا تقوى وذا صلوات ودفن سائرهم في المنستير، وهو بلسان الفرنج: المعبد الكبير، وكانت دولة هذا بضعاً وعشرين سنة. (¬2) - وفي أيام المهدي، عاثت القرامطة بالبحرين، وأخذوا الحجيج، وقتلوا وسبوا، واستباحوا حرم الله، وقلعوا الحجر الأسود. وكان عبيد الله يكاتبهم، ويحرضهم، قاتله الله. (¬3) - وفيها: وحكى الوزير القفطي في سيرة بني عبيد، قال: كان أبو عبد الله الشيعي أحد الدواهي، وذلك أنه جمع مشايخ كتامة ليشككهم في الإمام، فقال: إن الإمام كان بلسمية قد نزل عند يهودي عطار يعرف بعبيد، فقام به وكتم أمره، ثم مات عبيد عن ولدين فأسلما هما وأمهما على يد ¬

(¬1) السير (15/ 141 - 142). (¬2) السير (15/ 145). (¬3) السير (15/ 147).

الإمام، وتزوج بها، وبقي مختفياً. وبقي الأخوان في دكان العطر. فولدت للإمام ابنين، فعند اجتماعي به سألته أي الاثنين إمامي بعدك؟ فقال: من أتاك منهما فهو إمامك. فسيرت أخي لإحضارهما، فوجد أباهما قد مات هو وابنه الواحد. فأتى بهذا. وقد خفت أن يكون أحد ولدي عبيد. فقالوا: وما أنكرت منه؟ قال: إن الإمام يعلم الكائنات قبل وقوعها. وهذا قد دخل معه بولدين. ونص الأمر في الصغير بعده، ومات بعد عشرين يوماً، يعني: الولد. ولو كان إماماً لعلم بموته. قالوا: ثم ماذا؟ قال: والإمام لا يلبس الحرير والذهب. وهذا قد لبسهما. وليس له أن يطأ إلا ما تحقق أمره. وهذا قد وطئ نساء زيادة الله، يعني: متولي المغرب. قال: فشككت كتامة في أمره، وقالوا: فما ترى؟ قال: قبضه، ثم نسير من يكشف لنا عن أولاد الإمام على الحقيقة. فأجمعوا أمرهم. وخف كبير كتامة فواجه المهدي، وقال: قد شككنا فيك، فائت بآية. فأجابه بأجوبة، قبلها عقله. وقال: إنكم تيقنتم، واليقين لا يزول إلا بيقين لا بشك. وإن الطفل لم يمت، وإنه إمامك، وإنما الأئمة ينتقلون، وقد انتقل لإصلاح جهة أخرى. قال: آمنت، فما لبسك الحرير؟ قال: أنا نائب الشرع أحلل لنفسي ما أريد، وكل الأموال لي، وزيادة الله كان عاصياً. وأما عبد الله الشيعي وأخوه، فإنهما أخذا يخببان عليه فقتلهما. وخرج عليه خلق من كتامة، فظفر بحيلة وقتلهم. (¬1) - وفيها: فهذا قول، ونرجع إلى قول آخر هو أشهر. فسير -أعني: والد المهدي- أبا عبد الله الشيعي، فأقام باليمن أعواماً، ثم حج، فصادف ¬

(¬1) السير (15/ 145 - 147).

أبو علي الروذباري الصوفي (322 هـ)

طائفة من كتامة حجاجاً، فنفق عليهم، وأخذوه إلى المغرب، فأضلهم، وكان يقول: إن لظواهر الآيات والأحاديث بواطن، هي كاللب، والظاهر كالقشر، وقال: لكل آية ظهر وبطن!! فمن وقف على علم الباطن؛ فقد ارتقى عن رتبة التكاليف!!! وكان أبو عبد الله ذا مكر ودهاء وحيل وربط، وله يد في العلم، فاشتهر بالقيروان، وبايعته البربر، وتألهوه لزهده، فبعث إليه متولي إفريقية يخوفه ويهدده، فما ألوى عليه، فلما هم بقبضه، استنهض الذين تبعوه وحارب فانتصر مرات واستفحل أمره. (¬1) - وفيها: نقل القاضي عياض في ترجمة أبي محمد الكستراتي: أنه سئل عمن أكرهه بنو عبيد على الدخول في دعوتهم أو يقتل؟ فقال: يختار القتل ولا يعذر، ويجب الفرار، لأن المقام في موضع يطلب من أهله تعطيل الشرائع، لا يجوز. - قال القاضي عياض: أجمع العلماء بالقيروان؛ أن حال بني عبيد حال المرتدين والزنادقة. (¬2) أبو علي الروذباري الصوفي (322 هـ) موقفه من الصوفية: قيل: سئل أبو علي عمن يسمع الملاهي ويقول: هي حلال لي لأني قد ¬

(¬1) السير (15/ 148 - 149). (¬2) السير (15/ 151).

أبو الحسن الأشعري (324 هـ)

وصلت إلى رتبة لا يؤثر فيه اختلاف الأحوال؟ فقال: نعم قد وصل، ولكن إلى سقر. (¬1) أبو الحسن الأشعري (¬2) (324 هـ) الإمام صاحب التصانيف الكثيرة في الرد على الملحدة وسائر أصناف المبتدعة، علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم بن إسماعيل أبو الحسن الأشعري البصري وسكن بغداد، ينتهي نسبه إلى أبي موسى الأشعري، مولده سنة ستين ومائتين وقيل سنة سبعين. أخذ عن أبي خليفة الجمحي وزكريا الساجي وسهل بن نوح وكان يجلس في حلقات أبي إسحاق المروزي الفقيه. وممن أخذ عنه ابن مجاهد وزاهر بن أحمد وأبو الحسن الباهلي. وكان عجبا في الذكاء، وقوة الفهم، ولما برع في معرفة الاعتزال كرهه وتبرأ منه وصعد للناس يوم الجمعة فتاب إلى الله تعالى منه ثم رد على المعتزلة. قال ابن كثير: وذكروا للشيخ أبي الحسن رحمه الله ثلاثة أحوال: أولها حال الاعتزال التي رجع عنها لا محالة إليها والحال الثاني: إثبات الصفات العقلية السبعة وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام وتأويل الجبرية كالوجه واليدين والقدم والساق ونحو ذلك. والحال ¬

(¬1) السير (14/ 536) والحلية (10/ 356). (¬2) تاريخ بغداد (11/ 346 - 347) ووفيات الأعيان (3/ 284 - 286) وتاريخ الإسلام (حوادث 321 - 330/ص.154 - 158) والسير (15/ 85 - 90) والبداية والنهاية (11/ 199) وشذرات الذهب (2/ 303 - 305) طبقات الفقهاء الشافعية لابن كثير (1/ 208 - 214).

موقفه من المشركين:

الثالثة: إثبات ذلك كله من غير تكييف ولا تشبيه جرياً على منوال السلف وهي طريقته في الإبانة التي صنفها آخِراً. قال بندار خادم الأشعري: كانت غلة أبي الحسن من ضيعة وقفها جدهم على عقبه فكانت نفقته في السنة سبعة عشرة درهماً. وله مؤلفات كثيرة أشهرها 'الإبانة' و'مقالات الإسلاميين' و'اللمع' وغيرها. توفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة. موقفه من المشركين: من تصانيفه في الرد على الملاحدة: 1 - الفصول في الرد على الملحدين وهو اثنا عشر كتاباً. 2 - كتاب جمل مقالات الملحدين. 3 - كتاب الفنون في الرد على الملحدين. 4 - كتاب في الرد على ابن الراوندي. 5 - كتاب القامع في الرد على الخالدي. (¬1) موقفه من الرافضة: قال ابن كثير: والمقصود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم أبا بكر الصديق إماماً للصحابة كلهم في الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام العملية. قال الشيخ أبو الحسن الأشعري: وتقديمه له أمر معلوم بالضرورة من دين الإسلام. قال: وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة وأقرؤهم لما ثبت في الخبر المتفق على صحته بين العلماء. أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، ¬

(¬1) السير (15/ 87 - 88).

موقفه من الجهمية:

فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأكبرهم سنّاً، فإن كانوا في السن سواء فأقدمهم مسلماً". (¬1) قلت -أي ابن كثير-: وهذا من كلام الأشعري رحمه الله مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب ثم قد اجتمعت هذه الصفات كلها في الصديق رضي الله عنه وأرضاه. (¬2) موقفه من الجهمية: لقد كتب الكثير من المتقدمين والمتأخرين عن أبي الحسن، ومن أشهرهم أبو القاسم بن عساكر في كتابه تبيين كذب المفتري فيما نسب لأبي الحسن الأشعري. والذي تبين لي أن أبا الحسن رجع عن مذهب الاعتزال، ورد عليه، وهذا أمر مجمع عليه، واعتنق مذهب أهل السنة، ولكن مع بقايا من علم الكلام والتأثر بمذهب المعتزلة، والرجل لم يكن له علم بالحديث ولا أهله، وإن ذكروا في ترجمته أنه تلقى بعض علم الحديث، عن زكريا بن يحيى الساجي، فلعل ذلك كان قليلاً. وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية أن أبا الحسن عنده علم بالسنة إجمالاً وعلم بالكلام علماً تفصيلياً، فإذا ذكر مذهب أهل الكلام ذكره على سبيل التفصيل، وإذا ذكر مذهب أهل الحديث ذكره على سبيل الإجمال. ¬

(¬1) مسلم (1/ 465/673) وأبو داود (1/ 390/582) والترمذي (1/ 458 - 459/ 235) والنسائي (2/ 410 - 411/ 779) وابن ماجه (1/ 313 - 314/ 980) وعلقه البخاري بصيغة الجزم (2/ 234) من حديث أبي مسعود الأنصاري البدري. (¬2) البداية (5/ 207).

قال الإمام ابن القيم في اجتماع الجيوش: قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: ولما رجع الأشعري من مذهب المعتزلة سلك طريق ابن كلاب ومال في أهل السنة والحديث وانتسب إلى الإمام أحمد كما قد ذكر ذلك في كتبه كلها كالإبانة والموجز والمقالات وغيرها وكان القدماء من أصحاب أحمد كأبي بكر بن عبد العزيز وأبي الحسين التميمي وأمثالهما يذكرونه في كتبهم على طريق الموافق للسنة في الجملة ويذكرون رده على المعتزلة وأبدى تناقضهم ثم ذكر ما بين الأشعري وقدماء أصحابه وبين الحنابلة من التآلف لاسيما بين القاضي أبي بكر بن الباقلاني وبين أبي الفضل ابن التميمي حتى كان ابن الباقلاني يكتب في أجوبته في المسائل كتبه محمد ابن الطيب الحنبلي ويكتب أيضاً الأشعري قال: وعلى العقيدة التي صنفها أبو الفضل التميمي اعتمد البيهقي في الكتاب الذي صنفه في مناقب أحمد: لما ذكر عقيدة أحمد قال: وأما ابن حامد وابن بطة وغيرهما فإنهم مخالفون لأصل قول ابن كلاب قال: والأشعري وأئمة أصحابه كابن الحسن الطبري وأبي عبد الله بن مجاهد والقاضي أبي بكر متفقون على إثبات الصفات الخبرية التي ذكرت في القرآن كالاستواء والوجه واليدين وإبطال تأويلها ... (¬1) ويقول شيخ الإسلام في معرض الكلام على الأشعري ومحبيه ورافضيه: لكن كانت خبرته بالكلام خبرة مفصلة، وخبرته بالسنة خبرة مجملة، فلذلك وافق المعتزلة في بعض أصولهم التي التزموا لأجلها خلاف السنة، واعتقد أنه يمكن الجمع بين تلك الأصول، وبين الانتصار للسنة كما فعل في مسألة ¬

(¬1) اجتماع الجيوش (ص.259).

الرؤية والكلام، والصفات الخبرية وغير ذلك. والمخالفون له من أهل السنة والحديث ومن المعتزلة والفلاسفة يقولون: إنه متناقض وأن ما وافق فيه المعتزلة يناقض ما وافق فيه أهل السنة، كما أن المعتزلة يتناقضون فيما نصروا فيه دين الإسلام، فإنهم بنوا كثيراً من الحجج على أصول تناقض كثيراً من دين الإسلام. بل جمهور المخالفين للأشعري من المثبتة والنفاة يقولون: إنما قاله في مسألة الرؤية والكلام: معلوم الفساد بضرورة العقل. (¬1) وأما في مسألة الإيمان والقدر فقد صرح شيخ الإسلام ابن تيمية في غير ما موضع، أن أبا الحسن سلك مسلك المرجئة في مسألة الإيمان، وإن كان حكى عنه قولاً له أنه سلك مسلك السلف لكن الذي أكثر الشيخ من ترديده عن أبي الحسن هو الأول وقد تبناه أشهر أتباعه كالجويني وغيره. وأما مسألة القدر فسلك مسلك الجبرية وهذا لم يحك الشيخ فيه خلافاً. وهذا هو الموجود في كتب الأشاعرة ومسألة الكسب من أشهر ما روي عن الأشعري. قال شيخ الإسلام: وأبو الحسن سلك في مسألة الأسماء، والأحكام والقدر مسلك الجهم بن صفوان مسلك المجبرة ومسلك غلاة المرجئة. (¬2) وقال في معرض الحديث على توبته من الاعتزال: ومال في مسائل ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (ج 12/ ص.204 - 205). (¬2) مجموع الفتاوى (16/ 96).

العدل والأسماء والأحكام إلى مذهب جهم ونحوه. (¬1) وقال في معرض الكلام على الإيمان: وقال أبو عبد الله الصالحي، إن الإيمان مجرد تصديق القلب ومعرفته، لكن له لوازم فإذا ذهبت دل ذلك على عدم تصديق القلب. وإن كل قول أو عمل ظاهر دل الشرع على أنه كفر كان ذلك لأنه دليل على عدم تصديق القلب ومعرفته، وليس الكفر إلا تلك الخصلة الواحدة وليس الإيمان إلا مجرد التصديق الذي في القلب والمعرفة، وهذا أشهر قولي أبي الحسن الأشعري، وعليه أصحابه، كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي وأمثالهما، ولهذا عدهم أهل المقالات من المرجئة، والقول الآخر عنه كقول السلف وأهل الحديث: إن الإيمان قول وعمل وهو اختيار طائفة من أصحابه ومع هذا فهو وجمهور أصحابه على قول أهل الحديث في الاستثناء في الإيمان. (¬2) وأما كتاب الإبانة: فهو في الجملة يعتبر من الكتب التي وافقت العقيدة السلفية وبينتها لكن فيه بعض الإجمال وفيه طرق في الإثبات لم تنقل عن السلف فليتنبه عند قراءته، وهذا الكتاب هو عمدة من جعل أبا الحسن، من الذين تراجعوا تراجعاً كاملاً إلى مذهب السلف، وإن كان البعض لا يرى أن أبا الحسن كتب ذلك عن اقتناع كما فعل البربهاري لما دخل عليه أبو الحسن فذكر له أنه ألف الإبانة ورد على المعتزلة فقال له: لا نعرف إلا ما قاله أبو عبد الله أحمد بن حنبل. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (13/ 99). (¬2) مجموع الفتاوى (7/ 509).

وأما غلاة الأشعرية فينكرون الكتاب، ويقولون إنما وضع على أبي الحسن وليس له، لكن أثبته من له خبرة بالتراجم والتواريخ ومذهب الأشعري، كابن عساكر والذهبي وشيخ الإسلام وابن القيم وغيرهم ممن لا يحصى كثرة، ويقول بعضهم إنما ألفه خوفاً من الحنابلة وهذا القول يردده الشيخ النجدي في كثير من كتبه ومقالاته: محمد زاهد الكوثري. وبقية كتب الأشعري، وإن كان فيها بعض الدفاع عن العقيدة عموماً، كالموجز والمقالات واللمع في الرد على أهل البدع، وغير ذلك، فليست خاصة بالعقيدة السلفية، فيستفاد منها ما يوافق الدفاع عن العقيدة السلفية ويترك ما لا يوافق ذلك، وهذا القدر فيه كفاية وإلا فالبحث عن الأشعري والأشعرية يحتاج إلى بسط أكثر. جاء في مجموع الفتاوى: وقال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري المتكلم صاحب الطريقة المنسوبة إليه في الكلام في كتابه الذي صنفه في 'اختلاف المصلين ومقالات الإسلاميين' وذكر فرق الروافض والخوارج، والمرجئة والمعتزلة وغيرهم. ثم قال 'مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث' جملة. قول أصحاب الحديث وأهل السنة: الإقرار بالله وملائكته، وكتبه ورسله، وبما جاء عن الله تعالى، وما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا يردون شيئاً من ذلك وأن الله واحد أحد، فرد صمد، لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله على عرشه كما

قال: {الرحمن على العرش استوى} (¬1) وأن له يدين بلا كيف كما قال: {خَلَقْتُ بيدي} (¬2) وكما قال: {بَلْ يداه مَبْسُوطَتَانِ} (¬3) وأن له عينين بلا كيف كما قال: {تجري بأعيننا} (¬4) وأن له وجهاً كما قال: {ويبقى وجه ربك ذو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (27) (¬5). وأن أسماء الله تعالى لا يقال: إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج. وأقروا أن لله علماً كما قال: {أنزله بِعِلْمِهِ} (¬6) وكما قال: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى ولا تضع إِلًّا بِعِلْمِهِ} (¬7) وأثبتوا له السمع والبصر، ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة وأثبتوا لله القوة كما قال: {أَوَلَمْ يروا أن اللَّهَ الذي خَلَقَهُمْ هُوَ أشد مِنْهُمْ قُوَّةً} (¬8) وذكر مذهبهم في القدر. إلى أن قال: ويقولون: إن القرآن كلام الله غير مخلوق والكلام في اللفظ والوقف، ومن قال باللفظ وبالوقف فهو مبتدع عندهم، لا يقال اللفظ بالقرآن مخلوق ولا يقال غير مخلوق، ¬

(¬1) طه الآية (5). (¬2) ص الآية (75). (¬3) المائدة الآية (64). (¬4) القمر الآية (14). (¬5) الرحمن الآية (27). (¬6) النساء الآية (166). (¬7) فاطر الآية (11). (¬8) فصلت الآية (15).

ويقرون أن الله يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون، لأنهم عن الله محجوبون، قال عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ ربهم يومئذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (15) (¬1) وذكر قولهم في الإسلام والإيمان والحوض والشفاعة وأشياء إلى أن قال: ويقرون بأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص ولا يقولون مخلوق، ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار، إلى أن قال: وينكرون الجدال والمراء في الدين والخصومة والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل، ويتنازعون فيه من دينهم، ويسلمون الروايات الصحيحة كما جاءت به الآثار الصحيحة التي جاءت بها الثقات عدل عن عدل حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا يقولون كيف ولا لم؟ لأن ذلك بدعة عندهم إلى أن قال: ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال تعالى: {وَجَاءَ ربك وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (¬2) وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء، كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إليه مِنْ حَبْلِ الوريد} (¬3) إلى أن قال: ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة، والتشاغل بقراءة القرآن وكتابة الآثار والنظر في الآثار، والنظر في الفقه، مع الاستكانة والتواضع، وحسن الخلق مع بذل المعروف، وكف الأذى، وترك الغيبة والنميمة والشكاية وتفقد المآكل والمشارب. وقال: فهذه جملة ما يأمرون به ويستسلمون إليه ويرونه، وبكل ما ذكرنا من ¬

(¬1) المطففين الآية (15). (¬2) الفجر الآية (22). (¬3) ق الآية (16).

قولهم نقول وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله وهو المستعان. وقال الأشعري أيضاً في 'اختلاف أهل القبلة في العرش' فقال: قال أهل السنة وأصحاب الحديث: إن الله ليس بجسم، ولا يشبه الأشياء، وأنه استوى على العرش، كما قال: {الرحمن على العرش استوى} (¬1) ولا نتقدم بين يدي الله في القول، بل نقول استوى بلا كيف، وأن له وجهاً كما قال: {ويبقى وجه ربك ذو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (¬2)، وأن له يدين كما قال: {خَلَقْتُ بيدي} (¬3)، وأن له عينين كما قال: {تجري بأعيننا} (¬4) وأنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال: {وَجَاءَ ربك وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (¬5)، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث (¬6)، ولم يقولوا شيئاً إلا ما وجدوه في الكتاب، أو جاءت به الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقالت المعتزلة: إن الله استوى على العرش بمعنى استولى وذكر مقالات أخرى. وقال أيضاً أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي سماه 'الإبانة في أصول الديانة' وقد ذكر أصحابه أنه آخر كتاب صنفه، وعليه يعتمدون في الذب عنه عند من يطعن عليه فقال: فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة: فإن قال ¬

(¬1) طه الآية (5). (¬2) الرحمن الآية (27). (¬3) ص الآية (75). (¬4) القمر الآية (14). (¬5) الفجر الآية (22). (¬6) انظر تخريجه في مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ).

قائل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية، والجهمية، والحرورية، والرافضة، والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون. قيل له: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها التمسك بكلام ربنا وسنة نبينا، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن حنبل -نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته- قائلون، ولما خالف قوله مخالفون، لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق، ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وجليل معظم، وكبير مفهم. وجملة قولنا أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبما جاءوا به من عند الله، وبما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا نرد من ذلك شيئاً، وأن الله واحد لا إله إلا هو، فرد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأن "محمداً عبده ورسوله" أرسله بالهدى ودين الحق "ليظهره على الدين كله" وأن الجنة حق، والنار حق، وأن الساعة آتية، وأن الله يبعث من في القبور. وأن الله مستوٍ على عرشه كما قال: {الرحمن على العرش استوى} (¬1) وأن له وجهاً كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (¬2) وأن له يدين بلا كيف كما قال: {خَلَقْتُ بيدي} (¬3) وكما قال: {بَلْ يداه مَبْسُوطَتَانِ ¬

(¬1) طه الآية (5). (¬2) الرحمن الآية (27). (¬3) ص الآية (75).

ينفق كيف يشاء} (¬1) وأن له عينين بلا كيف كما قال: {تجري بأعيننا} (¬2) وأن من زعم أن أسماء الله غيره كان ضالاًّ، وذكر نحواً مما ذكر في الفرق إلى أن قال: ونقول إن الإسلام أوسع من الإيمان، وليس كل إسلام إيماناً، وندين بأن الله يقلب القلوب بين أصبعين من أصابع الله عز وجل (¬3)، وأنه عز وجل يضع السموات على أصبع، والأرضين على أصبع (¬4)، كما جاءت الرواية الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. إلى أن قال: "وأن الإيمان" قول وعمل، يزيد وينقص، ونسلم الروايات الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، التي رواها الثقات عدلا عن عدل، حتى ينتهي إلى رسول الله -إلى أن قال: ونصدق بجميع الروايات التي أثبتها أهل النقل من النزول إلى سماء الدنيا وأن الرب عز وجل يقول: "هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ " (¬5) وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافاً لما قال أهل الزيغ والتضليل: ونعول فيما اختلفنا فيه إلى كتاب ربنا، وسنة نبينا، وإجماع المسلمين وما كان في معناه، ولا نبتدع في دين الله ما لم يأذن لنا به، ولا نقول على الله ما لا نعلم. ونقول إن الله يجيء يوم القيامة كما قال: {وَجَاءَ ربك وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (¬6) وأن الله يقرب من عباده كيف شاء كما قال: {وَنَحْنُ ¬

(¬1) المائدة الآية (64) .. (¬2) القمر الآية (14). (¬3) انظر تخريجه في مواقف سفيان بن عيينة سنة (198هـ). (¬4) انظر تخريجه في مواقف وكيع بن الجراح سنة (196هـ). (¬5) انظر تخريجه في مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ). (¬6) الفجر الآية (22).

أَقْرَبُ إليه مِنْ حَبْلِ الوريد} (¬1) وكما قال: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} (¬2). إلى أن قال: وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقي مما لم نذكره باباً باباً. ثم تكلم على أن الله يرى واستدل على ذلك ثم تكلم على أن القرآن غير مخلوق واستدل على ذلك ثم تكلم على من وقف في القرآن وقال لا أقول إنه مخلوق، ولا غير مخلوق، ورد عليه، ثم قال: باب ذكر الاستواء على العرش فقال: إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: نقول إن الله مستوٍ على عرشه كما قال: {الرحمن على العرش استوى} (¬3) وقال تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} (¬4) وقال تعالى: {بَلْ رفعه الله إليه} (¬5) وقال تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} (¬6) وقال تعالى حكاية من فرعون: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ ¬

(¬1) ق الآية (16). (¬2) النجم الآيتان (8و9). (¬3) طه الآية (5). (¬4) فاطر الآية (10). (¬5) النساء الآية (158). (¬6) السجدة الآية (5).

مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} (¬1) كذب موسى في قوله إن الله فوق السموات، وقال تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} (¬2) فالسموات فوقها العرش، فلما كان العرش فوق السموات قال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} لأنه مستوٍ على العرش الذي هو فوق السموات، وكل ما علا فهو سماء فالعرش أعلى السموات وليس إذا قال {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} يعني جميع السموات وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السموات، ألا ترى أن الله عز وجل ذكر السموات فقال تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} (¬3) ولم يرد أن القمر يملؤهن وأنه فيهن جميعاً. ورأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء لأن الله على عرشه الذي هو فوق السموات، فلولا أن الله على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، كما لا يحطونها إذا دعوا إلى الأرض. ثم قال: وقد قال القائلون من المعتزلة، والجهمية، والحرورية أن معنى قوله: {الرحمن على العرش استوى} (¬4) أنه استولى وقهر وملك، وأن الله عز وجل في كل مكان، ¬

(¬1) غافر الآية (36). (¬2) الملك الآية (16). (¬3) نوح الآية (16). (¬4) طه الآية (5).

وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق وذهبوا في الاستواء إلى القدرة، فلو كان كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة، لأن الله قادر على كل شيء، والأرض فالله قادر عليها وعلى الحشوش وعلى كل ما في العالم، فلو كان الله مستوياً على العرش بمعنى الاستيلاء -وهو عز وجل مستولٍ على الأشياء كلها- لكان مستوياً على العرش وعلى الأرض، وعلى السماء وعلى الحشوش والأقذار، لأنه قادر على الأشياء مستولٍ عليها، وإذا كان قادراً على الأشياء كلها ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول: إن الله مستوٍ على الحشوش والأخلية لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها، ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص العرش، دون الأشياء كلها. وذكر دلالات من القرآن والحديث، والإجماع والعقل. ثم قال: (باب الكلام في الوجه والعينين والبصر واليدين). وذكر الآيات في ذلك ورد على المتأولين لها بكلام طويل لا يتسع هذا الموضع لحكايته: مثل قوله: فإن سئلنا أتقولون لله يدان؟ قيل نقول ذلك، وقد دل عليه قوله تعالى: {يد الله فوق أيديهم} (¬1) وقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بيدي} (¬2). وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الله مسح ظهر آدم بيده فاستخرج ¬

(¬1) الفتح الآية (10). (¬2) ص الآية (75).

منه ذريته" (¬1)، "وخلق جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده" (¬2). وقد جاء في الخبر المذكور عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أن الله خلق آدم بيده، وخلق جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس شجرة طوبى بيده" (¬3). وليس يجوز في لسان ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (1/ 44 - 45) وأبو داود (5/ 79 - 80/ 4703) والترمذي (5/ 248 - 249/ 3075)، ابن حبان (14/ 37 - 38/ 6166) والحاكم (1/ 27) و (2/ 544 - 545) من طريق عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عنها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله خلق آدم، ثم مسح على ظهره بيمينه، فاستخرج عنه ذرية ... " الحديث. دون زيادة: "وخلق عدن بيده ... ". وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين" ووافقه الذهبي في موضع، وقال في موضع آخر: "فيه إرسال". وقال الترمذي: "حديث حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وعمر رجلاً مجهولاً". قلت: ويؤيد كلام الترمذي إخراج أبي داود للحديث نفسه (4704) من طريق عمر بن جعثم القرشي قال: حدثني زيد بن أبي أنيسة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن مسلم بن يسار، عن نعيم بن ربيعة، قال: كنت عند عمر بن الخطاب بهذا الحديث. وأخرجه أيضاً بهذه الزيادة ابن عبد البر في التمهيد (فتح البر 2/ 288) وقال: "زيادة من زاد في هذا الحديث نعيم بن ربيعة ليست حجة: لأن الذي لم يذكره أحفظ، وإنما تقبل الزيادة من الحافظ المتقن". وجملة القول في هذا الحديث، أنه حديث ليس إسناده بالقائم، لأن مسلم بن يسار ونعيم بن ربيعة جميعاً غير معروفين بحمل العلم. (¬2) انظر الحديث الذي بعده. (¬3) أخرجه مرسلاً: أبو الشيخ في العظمة (5/ 1555/1017)، والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 125/692) عن عبد الله بن الحارث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله عز وجل خلق ثلاثة أشياء بيده، خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس الفردوس بيده، ... " الحديث. وأخرجه موصولاً: الحاكم (2/ 392) ومن طريقه البيهقي في الأسماء والصفات (2/ 124/691) من طريق علي بن عاصم أنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خلق الله تعالى جنة عدن وغرس أشجارها بيده فقال لها: تكلمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون". قال الحاكم: "صحيح الإسناد" ورد عليه الذهبي فقال: "بل ضعيف". قلت: في إسناده علي بن عاصم قال عنه الحافظ في التقريب: "صدوق يخطئ ويصر ورمي بالتشيع". وأخرجه أيضاً موقوفاً عن ابن عمر: الدارمي في الرد على المريسي (1/ 261) وأبو الشيخ في العظمة (5/ 1555/1018) والحاكم (2/ 319) والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 126/693) واللالكائي (3/ 477/730) لكن بلفظ: "خلق الله تبارك وتعالى أربعة أشياء بيده: العرش، وجنات عدن، وآدم، والقلم". وقال الحاكم: "صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي. وجود إسناده الشيخ الألباني (انظر مختصر العلو (105)).

العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائل عملت كذا بيدي ويريد بها النعمة، وإذا كان الله إنما خاطب العرب بلغتها، وما يجري مفهوماً في كلامها، ومعقولاً في خطابها، وكان لا يجوز في خطاب أهل البيان أن يقول القائل: فعلت كذا بيدي ويعني بها النعمة: بطل أن يكون معنى قوله تعالى {بيدي} النعمة. (¬1) - وجاء في السير: بلغنا أن أبا الحسن تاب وصعد منبر البصرة، وقال: إني كنت أقول: بخلق القرآن، وأن الله لا يرى بالأبصار، وأن الشر فعلي ليس بقدر، وإني تائب معتقد الرد على المعتزلة. (¬2) - وقال أبو الحسن الأشعري في كتاب الإبانة: باب الرد على الجهمية في نفيهم علم الله وقدرته قال الله عز وجل: {أنزله بِعِلْمِهِ} (¬3) وقال سبحانه: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى ولا تضع إِلًّا بِعِلْمِهِ} (¬4) وذكر العلم في خمسة مواضع من كتابه، وقال سبحانه: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} (¬5) وقال سبحانه: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} (¬6) وذكر ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (5/ 90 - 98). (¬2) السير (15/ 89). (¬3) النساء الآية (166). (¬4) فاطر الآية (11). (¬5) هود الآية (14). (¬6) البقرة الآية (255).

القوة فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (¬1) وقال تعالى: {ذو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (¬2) وقال تعالى: {وَالسَّمَاءَ بنيناها بأييد} (¬3) وزعمت الجهمية: أن الله عز وجل لا علم له ولا قدرة ولا حياة ولا سمع ولا بصر، وأرادوا أن ينفوا أن الله عالم قادر حي سميع بصير، فمنعهم ذلك خوف السيف من إظهارهم نفي ذلك، فأتوا بمعناه لأنهم إذا قالوا: لا علم لله ولا قدرة له، فقد قالوا: إنه ليس بعالم ولا قادر، ووجب ذلك عليهم. وهذا إنما أخذوه عن أهل الزندقة والتعطيل، لأن الزنادقة قد قال كثير منهم: إن الله تعالى ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير، فلم تقدر المعتزلة أن تفصح بذلك فأتت بمعناه وقالت: إن الله عالم قادر حي سميع بصير من طريق التسمية، من غير أن يثبتوا له حقيقة العلم والقدرة والسمع والبصر. فصل وقد قال رئيس من رؤسائهم -وهو أبو الهذيل العلاف- إن علم الله هو الله، فجعل الله عز وجل علماً. وألزم، فقيل له: إذا قلت: إن علم الله هو الله فقل: يا علم الله اغفر لي وارحمني، فأبى ذلك، فلزمه المناقضة. ¬

(¬1) فصلت الآية (15). (¬2) الذاريات الآية (58). (¬3) الذاريات الآية (47).

واعلموا رحمكم الله أن من قال: عالم ولا علم كان مناقضاً، كما أن من قال علم ولا عالم كان مناقضاً، وكذلك القول في القدرة، والقادر، والحياة، والحي، والسمع، والبصر، والسميع، والبصير. جواب: ويقال لهم: خبرونا عمن زعم أن الله متكلم قائل آمر ناهٍ لا قول له ولا كلام، ولا أمر له ولا نهي، أليس هو مناقضاً خارجاً عن جملة المسلمين؟ فلا بد من نعم، فيقال لهم: فكذلك من قال: إن الله عالم ولا علم له كان ذلك مناقضاً خارجاً عن جملة المسلمين. وقد أجمع المسلمون قبل حدوث الجهمية والمعتزلة والحرورية على أن لله علما لم يزل، وقد قالوا: علم الله لم يزل، وعلم الله سابق في الأشياء ولا يمنعون أن يقولوا في كل حادثة تحدث، ونازلة تنزل: كل هذا سابق في علم الله، فمن جحد أن لله علماً، فقد خالف المسلمين، وخرج عن اتفاقهم. جواب: ويقال لهم: إذا كان الله مريداً أفله إرادة؟ فإن قالوا: لا، قيل لهم: فإذا أثبتم مريداً لا إرادة له، فأثبتوا قائلاً لا قول له، وإن أثبتوا الإرادة قيل لهم: فإذا كان المريد لا يكون مريداً إلا بإرادة فما أنكرتم أن لا يكون العالم عالماً إلا بعلم؟ وأن يكون لله علم كما أثبتم له إرادة. مسألة: وقد فرقوا بين العلم والكلام، فقالوا: إن الله عز وجل علم موسى وفرعون، وكلم موسى ولم يكلم فرعون، فكذلك يقال: علم موسى الحكمة وفصل

الخطاب، وآتاه النبوة، ولم يعلم ذلك فرعون، فإن كان لله كلام لأنه كلم موسى ولم يكلم فرعون، فكذلك لله علم، لأنه علم موسى، ولم يعلم فرعون. ثم يقال لهم: إذا وجب أن لله كلاماً به كلم موسى دون فرعون إذ كلم موسى دونه، فما أنكرتم إذا علمهما جميعاً؟ أن يكون له علم به علمهما جميعاً. ثم يقال: قد كلم الله الأشياء بأن قال لها: كوني، وقد أثبتم لله قولاً، فكذلك إن علم الأشياء كلها، فله علم. جواب: ثم يقال لهم: إذا أوجبتم أن لله كلاماً وليس له علم، لأن الكلام أخص من العلم والعلم أعم منه، فقولوا: إن لله قدرة، لأن العلم أعم عندكم من القدرة، لأن من مذاهب القدرية أنهم لا يقولون إن الله يقدر أن يخلق الكفر، فقد أثبتوا القدرة أخص من العلم، فينبغي لهم أن يقولوا على اعتلالهم إن لله قدرة. جواب: ثم قال: أليس الله عالماً، والوصف له بأنه عالم أعم من الوصف له بأنه متكلم مكلم؟ ثم لم يجب لأن الكلام أخص من أن يكون الله متكلماً غير عالم، فلم لا قلتم إن الكلام -وإن كان أخص من العلم- لا ينفي أن يكون لله علم، كما لم ينف بخصوص الكلام أن يكون الله عالماً. جواب: ويقال لهم: من أين علمتم أن الله عالم؟ فإن قالوا: بقوله عز وجل: {إِنَّهُ

بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (12) (¬1)، قيل لهم: ولذلك فقولوا: إن لله علماً بقوله: {أنزله بِعِلْمِهِ} (¬2) وبقوله: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى ولا تضع إِلًّا بِعِلْمِهِ} (¬3) وكذلك قولوا: إن له قوة لقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (¬4) وإن قالوا: قلنا: إن الله عالم لأنه صنع العالم على ما فيه من آثار الحكمة واتساق التدبير. قيل لهم: فلم لا قلتم: إن لله علماً بما ظهر في العالم من حكمه وآثار تدبيره؟ لأن الصنائع الحكمية لا تظهر إلا من ذي علم، كما لا تظهر إلا من عالم، وكذلك لا تظهر إلا من ذي قوة، كما لا تظهر إلا من قادر. جواب: ويقال لهم: إذا نفيتم علم الله فلم لا نفيتم أسماءه؟ فإن قالوا: كيف ننفي أسماءه وقد ذكرها في كتابه؟ قيل لهم: فلا تنفوا العلم والقوة، لأنه تبارك وتعالى ذكر ذلك في كتابه العزيز. جواب آخر: ويقال لهم: قد علم الله عز وجل نبيه - صلى الله عليه وسلم - الشرائع والأحكام، والحلال ¬

(¬1) الشورى الآية (12). (¬2) النساء الآية (166). (¬3) فاطر الآية (11). (¬4) فصلت الآية (15).

والحرام، ولا يجوز أن يعلمه ما لا يعلمه، فكذلك لا يجوز أن يعلم الله نبيه ما لا علم لله به، تعالى الله عن قول الجهمية علوّاً كبيراً. جواب: ويقال لهم: أليس إذا لعن الله الكافرين فلعنه لهم معنى، ولعن النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم معنى؟ فإن قالوا: نعم. فيقال لهم: فما أنكرتم من أن الله تعالى إذا علم نبيه - صلى الله عليه وسلم - شيئاً فكان للنبي - صلى الله عليه وسلم - علم ولله سبحانه علم، وإذا كنا متى أثبتناه غاضباً على الكافرين فلا بد من إثبات غضب، وكذلك إذا أثبتناه راضياً عن المؤمنين فلا بد من إثبات رضىً، وكذلك إذا أثبتناه حيّاً سميعاً بصيراً فلا بد من إثبات حياة وسمع وبصر. جواب: ويقال لهم: وجدنا اسم عالم اشتق من علم، واسم قادر اشتق من قدرة، وكذلك اسم حي اشتق من حياة، واسم سميع اشتق من سمع، واسم بصير اشتق من بصر، ولا تخلو أسماء الله عز وجل من أن تكون مشتقة، إما لإفادة معنى، أو على طريق التلقيب، فلا يجوز أن يسمى الله عز وجل على طريق التلقيب باسم ليس فيه إفادة معنىً، وليس مشتقاً من صفة. فإذا قلنا: إن الله عز وجل عالم قادر فليس ذلك تلقيباً، كقولنا: زيد وعمرو، وعلى هذا إجماع المسلمين. وإذا لم يكن ذلك تلقيباً وكان مشتقاً من علم، فقد وجب إثبات

العلم، وإن كان ذلك لإفادة معنى فلا يختلف ما هو كذا لإفادة معنى وجب. ووجب إذا كان معنى العالم منا أن له علماً أن يكون: كل عالم فهو ذو علم، كما إذا كان قولي: موجود مفيداً معنى الإثبات، كان الباري تعالى واجباً إثباته، لأنه سبحانه وتعالى موجود. جواب: ويقال للمعتزلة والجهمية والحرورية: أتقولون إن لله علماً بالأشياء سابقاً فيها، ولوضع كل حامل، وحمل كل أنثى، وبإنزال كل ما أنزل؟ فإن قالوا: نعم، فقد أثبتوا العلم، ووافقوا. وإن قالوا: لا، قيل لهم: هذا جحد منكم لقول الله عز وجل: {أنزله بعلمه} (¬1) ولقوله: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى ولا تضع إِلًّا بِعِلْمِهِ} (¬2) ولقوله: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} (¬3) وإذا كان قول الله عز وجل: {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (29) (¬4) {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} (¬5) يوجب أنه عليم يعلم الأشياء كذلك، فما أنكرتم أن تكون هذه الآيات توجب أن لله علماً بالأشياء سبحانه وبحمده. ¬

(¬1) النساء الآية (166). (¬2) فاطر الآية (11). (¬3) هود الآية (14). (¬4) البقرة الآية (29). (¬5) الأنعام الآية (59).

جواب: ويقال لهم: أتقولون إن لله عز وجل علماً بالتفرقة بين أوليائه وأعدائه وهل هو مريد لذلك؟ وهل له إرادة للإيمان إذا أراد الإيمان؟ فإن قالوا: نعم، فقد وافقوا. وإن قالوا: إذا أراد الإيمان فله إرادة. قيل لهم: وكذلك إذا فرق بين أوليائه وأعدائه فلا بد من أن يكون له علم بذلك، وكيف يجوز أن يكون للخلق علم بذلك، وليس للخالق عز وجل علم بذلك؟ هذا يوجب أن للخلق مزية في العلم وفضيلة على الخالق، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. جواب: ويقال لهم: إذا كان من له علم من الخلق أولى بالمنزلة الرفيعة ممن لا علم له، فإذا زعمتم أن الله عز وجل لا علم له لزمكم أن الخلق أعلى مرتبة من الخالق، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً. جواب: ويقال لهم: إذا كان من لا علم له من الخلق يلحقه الجهل والنقصان، فما أنكرتم من أنه لا بد من إثبات علم الله؟ وإلا ألحقتم به النقصان جل وعز عن قولكم وعلا، ألا ترون أن من لا يعلم من الخلق يلحقه الجهل والنقصان، ومن قال ذلك في الله عز وجل وصف الله سبحانه بما لا يليق به، فكذلك إذا كان من قيل له من الخلق لا علم له لحقه الجهل والنقصان، وجب أن لا ينفي ذلك عن الله عز وجل لأنه لا يلحقه جهل ولا نقصان.

جواب: ويقال لهم: هل يجوز أن ينسق الصنائع الحكمية من ليس بعالم؟ فإن قالوا: ذلك محال ولا يجوز في وجود الصنائع التي تجري على ترتيب ونظام إلا من عالم قادر حي. قيل لهم: وكذلك لا يجوز وجود الصنائع الحكمية التي تجري على ترتيب ونظام إلا من ذي علم وقدرة وحياة، فإن جاز ظهورها لا من ذي علم فما أنكرتم من جواز ظهورها لا من عالم قادر حي؟ وكل مسألة سألناهم عنها في العلم فهي داخلة عليهم في القدرة والحياة والسمع والبصر. مسألة: وزعمت المعتزلة أن قول الله عز وجل: {سميع بصير} (¬1) معناه عليم، قيل لهم: فإذا قال عز وجل: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أسمع وأرى} (¬2) وقال: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} (¬3) فهل معنى ذلك عندكم علم. فإن قالوا: نعم. قيل لهم: فقد وجب عليكم أن تقولوا معنى قوله {أسمع وأرى}: ¬

(¬1) الحج الآية (61). (¬2) طه الآية (46). (¬3) المجادلة الآية (1).

أعلم. وأعلم إذ كان معنى ذلك العلم. فصل ونفت المعتزلة صفات رب العالمين، وزعمت أن معنى سميع بصير، أي بمعنى عليم، كما زعمت النصارى أن سمع الله هو بصره وهو رؤيته، وهو كلامه، وهو علمه، وهو ابنه، عز الله وجل تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. فيقال للمعتزلة: إذا زعمتم أن معنى سميع وبصير معنى عالم، فهلا زعمتم أن معنى قادر معنى عالم، فإذا زعمتم أن معنى سميع وبصير معنى قادر، فهلا زعمتم أن معنى قادر معنى عالم، وإذا زعمتم أن معنى حي معنى قادر، فلم لا زعمتم أن معنى قادر معنى عالم؟ فإن قالوا: هذا يوجب أن يكون كل معلوم مقدوراً. قيل لهم: ولو كان معنى سميع بصير معنى عالم لكان كل معلوم مسموعاً، وإذا لم يجز ذلك بطل قولكم. (¬1) وكذلك قال في كتاب المقالات: الحمد لله الذي بصرنا خطأ المخطئين، وعمى العمين، وحيرة المتحيرين، الذين نفوا صفات رب العالمين، وقالوا إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه، لا صفات له، وأنه لا علم له، ولا قدرة ولا حياة له ولا سمع له ولا بصر له. ولا عزة له ولا جلال له ولا عظمة ولا كبرياء له وكذلك قالوا في سائر صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه قال: وهذا قول أخذوه عن إخوانهم من المتفلسفة، الذين يزعمون أن للعالم صانعاً لم يزل ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير ولا ¬

(¬1) الإبانة لأبي الحسن الأشعري (ص.113 - 121).

قدير، وعبروا عنه بأن قالوا نقول: غير لم يزل ولم يزيدوا على ذلك، غير أن هؤلاء الذين وصفنا قولهم من المعتزلة في الصفات، لم يستطيعوا أن يظهروا من ذلك ما كانت الفلاسفة تظهره، فأظهروا معناه، فنفوا أن يكون للبارئ علم وقدرة وحياة وسمع وبصر ولولا الخوف لأظهروا ما كانت الفلاسفة تظهر من ذلك ولأفصحوا به، غير أن خوف السيف يمنعهم من إظهار ذلك، قال: وقد أفصح بذلك رجل يعرف بابن الأباري، كان ينتحل قولهم فزعم أن الباري عالم قادر سميع بصير في المجاز لا في الحقيقة، وهذا القول الذي هو قول الغالية النفاة للأسماء حقيقة، هو قول القرامطة الباطنية، ومن سبقهم من إخوانهم الصابئية الفلاسفة. (¬1) له من الآثار: 1 - ذكر في كتابه 'العمدة في الرؤية' مجموعة مصنفات ألفها منها: 2 - 'الفصول في الرد على الملحدين' وهو اثنا عشر كتاباً. 3 - كتاب 'الصفات' قال: وهو كبير، تكلمنا فيه على أصناف المعتزلة والجهمية. 4 - كتاب 'الرؤية بالأبصار'. 5 - 'الرد على المجسمة'. 6 - كتاب 'اللمع في الرد على أهل البدع'. 7 - كتاب 'النقض على الجبائي'. 8 - كتاب 'النقض على البلخي'. ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى (5/ 49 - 50).

موقفه من المرجئة:

9 - كتاب 'جمل مقالات الملحدين'. 10 - قال رحمه الله: وكتاباً في الصفات هو أكبر كتبنا، نقضنا فيه ما كنا ألفناه قديماً فيها على تصحيح مذهب المعتزلة لم يؤلف لهم كتاب مثله، ثم أبان الله لنا الحق فرجعنا. 11 - كتاب في 'الرد على ابن الراوندي'. 12 - كتاب 'القامع في الرد على الخالدي'. 13 - كتاب 'الفنون في الرد على الملحدين'. 14 - 'الإبانة عن أصول الديانة'. 15 - 'مقالات الإسلاميين'. (¬1) موقفه من المرجئة: قد قدمنا في مطلع مواقف الشيخ من الجهمية ملخص ما قيل في عقيدته رحمه الله، ومنها ما يتعلق بمسألة الإيمان؛ وقد ذكرنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية صرح في غير ما موضع أن أبا الحسن سلك مسلك المرجئة في مسألة الإيمان، وإن كان حكى عنه قولاً له؛ أنه سلك مسلك السلف لكن الذي أكثر الشيخ من ترديده عن أبي الحسن هو الأول، وقد تبناه أشهر أتباعه كالجويني وغيره. ومن أقواله الموافقة لمذهب السلف في مسألة الإيمان ما جاء في كتابه 'الإبانة': ¬

(¬1) انظر السير (15/ 87) بتصرف.

الباب الثاني: في إبانة قول أهل الحق والسنة: فإن قال لنا قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون. قيل له: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب ربنا عز وجل، وبسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وما روي عن السادة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون. وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد ابن محمد بن حنبل نضر الله وجهه، ورفع درجته وأجزل مثوبته، قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون. إلى أن قال رحمه الله: وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ونسلم الروايات الصحيحة في ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي رواها الثقات عدل عن عدل حتى تنتهي الرواية إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) وجاء في كتابه 'رسالة إلى أهل الثغر' قوله: وأجمعوا -أي السلف- على أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وليس نقصانه عندنا شك فيما أمرنا بالتصديق به، ولا جهل به، لأن ذلك كفر، وإنما هو نقصان في مرتبة العلم وزيادة البيان كما يختلف وزن طاعتنا وطاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كنا جميعاً مؤدين للواجب علينا. (¬2) وقوله أيضاً: وأجمعوا على ذم سائر أهل البدع والتبري منهم، وهم الروافض والخوارج والمرجئة والقدرية وترك الاختلاط بهم لما روي عن النبي ¬

(¬1) الإبانة (43 - 49). (¬2) (ص.272).

موقفه من القدرية:

- صلى الله عليه وسلم - في ذلك وما أمر به من الإعراض عنهم في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} (¬1).اهـ (¬2) موقفه من القدرية: قال رحمه الله -وهو يرد على المعتزلة-: وأثبتوا، وأيقنوا أن العباد يخلقون الشر، نظيراً لقول المجوس الذين أثبتوا خالقين: أحدهما يخلق الخير، والآخر يخلق الشر. وزعمت القدرية أن الله عز وجل يخلق الخير، وأن الشيطان يخلق الشر. وزعموا أن الله عز وجل يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، خلافاً لما أجمع عليه المسلمون من أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ورداً لقول الله عز وجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (¬3) فأخبر تعالى أنا لا نشاء شيئاً إلا وقد شاء الله أن نشاءه، ولقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقتتلوا} (¬4) ولقوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هداها} (¬5) ولقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يريد} (¬6) ولقوله تعالى مخبراً عن نبيه شعيب - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ¬

(¬1) الأنعام الآية (68). (¬2) المصدر نفسه (ص.307 - 309). (¬3) الإنسان الآية (30). (¬4) البقرة الآية (253). (¬5) السجدة الآية (13). (¬6) البروج الآية (16).

{وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} (¬1) ولهذا سماهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "مجوس هذه الأمة" (¬2) لأنهم دانوا بديانة المجوس وضاهوا أقاويلهم. وزعموا أن للخير والشر خالقين، كما زعمت المجوس ذلك، وأنه يكون من الشرور ما لا يشاء الله كما قالت المجوس. وزعموا أنهم يملكون الضر والنفع لأنفسهم دون الله عز وجل، ردّاً لقول الله عز وجل لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} (¬3) وإعراضاً عن القرآن، وعما أجمع عليه أهل الإسلام ... (¬4) وقال: وأنه لا يكون في الأرض شيء من خير وشر إلا ما شاء الله، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله عز وجل وأن أحداً لا يستطيع أن يفعل شيئاً قبل أن يفعله الله. ولا نستغني عن الله، ولا نقدر على الخروج من علم الله عز وجل. وأنه لا خالق إلا الله، وأن أعمال العباد مخلوقة لله مقدورة له كما قال سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (¬5). وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً وهم يخلقون، كما قال: {هَلْ ¬

(¬1) الأعراف الآية (89). (¬2) سيأتي تخريجه في مواقف محمد بن الحسين الآجري سنة (360هـ). (¬3) الأعراف الآية (188). (¬4) الإبانة عن أصول الديانة (ص.39 - 40). (¬5) الصافات الآية (96).

مِنْ خَالِقٍ غير اللَّهِ} (¬1) وكما قال: {لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون} (¬2) وكما قال سبحانه: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} (¬3) وكما قال: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} (¬4) وهذا في كتاب الله كثير. (¬5) وقال: وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره. وأنا نؤمن بقضاء الله وقدره، خيره وشره، حلوه ومره، ونعلم أن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، وأن لا نملك لأنفسنا نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله كما قال عز وجل: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} (¬6).اهـ (¬7) وتناول رحمه الله الرد على القدرية في بابين بأكملهما هما الحادي عشر والثاني عشر. (¬8) وقال: وأجمعوا على أن على جميع الخلق الرضا بأحكام الله التي أمرهم أن يرضوا بها، والتسليم في جميع ذلك لأمره، والصبر على قضائه، والانتهاء إلى طاعته فيما دعاهم إلى فعله أو تركه. ¬

(¬1) فاطر الآية (3). (¬2) النحل الآية (20). (¬3) النحل الآية (17). (¬4) الطور الآية (35). (¬5) الإبانة عن أصول الديانة (ص.45 - 46). (¬6) الأعراف الآية (188). (¬7) الإبانة عن أصول الديانة (ص.47). (¬8) الإبانة عن أصول الديانة (ص.132 إلى 161).

وأجمعوا على أنه عادل في جميع أفعاله وأحكامه ساءنا ذلك، أم سرنا، نفعنا، أو ضرنا. وأجمعوا على أنه تعالى قد قدر جميع أفعال الخلق وآجالهم وأرزاقهم قبل خلقه لهم، وأثبت في اللوح المحفوظ جميع ما هو كائن منهم إلى يوم يبعثون، وقد دل على ذلك بقوله: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} (¬1). وأخبر أنه عز وجل يقرع الجاحدين لذلك في جهنم بقوله: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (¬2). وأجمعوا على أنه تعالى قسم خلقه فرقتين، فرقة خلقهم للجنة وكتبهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، وفرقة خلقهم للسعير ذكرهم بأسمائهم وأسماء آبائهم ممتثلين في ذلك لقوله عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} (¬3). ولقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ ¬

(¬1) القمر الآيتان (52و53). (¬2) القمر الآيتان (48و49). (¬3) الأعراف الآية (179).

عَنْهَا مُبْعَدُونَ} (¬1) وقد بين ذلك ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث القبضتين (¬2). وحديث الصادق المصدوق عن عبد الله بن مسعود (¬3)، وما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب -رضوان الله عليه- حين قال يا رسول الله: أرأيت ما نحن فيه أمر قد فرغ منه، أم أمر مستأنف؟ فقال عليه السلام: "بل أمر قد فرغ منه"، قال عمر: ففيم العمل يا رسول الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" (¬4) وغير ذلك مما جاء في الكتاب والسنة. وأجمعوا على أن الخلق لا يقدرون على الخروج مما سبق في علم الله فيهم، وإرادته لهم، وعلى أن طاعته تعالى واجبة عليهم فيما أمرهم به، وإن كان السابق من علمه فيهم وإرادته لهم أنهم لا يطيعونه، وأن ترك معصيته لازم لجميعهم، وإن كان السابق في علمه وإرادته أنهم يعصونه، وأنه تعالى يطالبهم بالأمر والنهي، ويحمدهم على الطاعة فيما أمروا به، ويذمهم على المعصية فيما نهوا عنه، وأن جميع ذلك عدل منه تعالى عليهم كما أنه تعالى عادل على من خلقه منهم مع علمه أنه يكفر إذا أمره، وأعطاه القدرة التي يعلم أنها تصيره إلى معصيته، وأنه عدل في تبقيته المؤمنين إلى الوقت الذي يعلم أنهم يكفرون فيه ويرتدون عما كانوا عليه من إيمانهم، وتعذيبهم لهم على الجرم المنقطع بالعذاب الدائم، لأنه عز وجل ملك لجميع ذلك فيهم غير ¬

(¬1) الأنبياء الآية (101). (¬2) تقدم تخريجه في مواقف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة (23هـ). (¬3) تقدم تخريجه في مواقف السلف من عمرو بن عبيد سنة (144هـ). (¬4) سيأتي تخريجه في مواقف عبد الرحمن بن ناصر السعدي سنة (1376هـ).

أبو مزاحم الخاقاني (325 هـ)

محتاج في فعله إلى تمليك غيره له ذلك، حتى يكون جائرا فيه قبل تملكه، بل هو تعالى في فعل جميع ذلك عادل له، وله مالك يفعل ما يشاء، كما قال عز وجل: {فعال لما يريد} (¬1).اهـ (¬2) أبو مُزَاحِم الخَاقَانِي (¬3) (325 هـ) الإمام المقرئ المحدث، أبو مزاحم موسى بن عبيد الله بن يحيى الخاقاني البغدادي. سمع عباساً الدوري، وأبا قلابة الرقاشي، وأبا بكر المروذي. وروى عنه أبو بكر الآجري، وابن أبي هاشم، وأبو عمر بن حيويه. قال عنه الخطيب البغدادي والسمعاني: كان ثقة ديناً من أهل السنة. وقال أبو عمر بن حيويه: كان نقش خاتم أبي مزاحم: "دن بالسنن، موسى تعن". وقال عنه ابن الجزري: إمام محدث مقرئ ثقة سني. وقال: هو أول من صنف في التجويد فيما أعلم، وقصيدته الرائية مشهورة، وشرحها الحافظ أبو عمر. مات في ذي الحجة سنة خمس وعشرين وثلاثمائة. موقفه من المبتدعة: عن محمد بن العباس الخزاز قال: أنشدنا أبو مزاحم الخاقاني لنفسه: ¬

(¬1) البروج الآية (16). (¬2) رسالة إلى أهر ثغر (ص.138 - 143). (¬3) السير (15/ 94) وتاريخ بغداد (13/ 59) والأنساب للسمعاني (2/ 310) وغاية النهاية (2/ 320) ومعرفة القراء الكبار (1/ 274 - 275) وشذرات الذهب (2/ 307).

عبد الرحمن بن أبي حاتم (327 هـ)

أهل الكلام وأهل الرأي قد عدموا ... علم الحديث الذي ينجو به الرجل لو أنهم عرفوا الآثار ما انحرفوا ... عنها إلى غيرها، لكنهم جهلوا (¬1) عبد الرحمن بن أبي حاتم (¬2) (327 هـ) العلامة الحافظ الإمام ابن الإمام، صاحب التصانيف، شيخ الإسلام، الناقد أبو محمد عبد الرحمن بن الحافظ الكبير أبي حاتم محمد بن إدريس بن المنذر التميمي الحنظلي الرازي. ولد سنة أربعين ومائتين وارتحل به أبوه، فأدرك الأسانيد العالية. سمع أبا سعيد الأشج، والحسن بن عرفة، وأحمد بن سنان القطان، ويونس بن عبد الأعلى وأبا زرعة، وأخذ علم أبيه، وسمع خلائق بالأقاليم. روى عنه يوسف المَيَانَجي وأبو الشيخ بن حيان وأبو أحمد الحاكم، وعلي بن محمد القصار وآخرون. قال أبو يعلى الخليلي: أخذ علم أبيه وأبي زرعة، وكان بحراً في العلوم ومعرفة الرجال، صنف في الفقه، واختلاف الصحابة والتابعين. قال علي بن أحمد الفرضي: ما رأيت أحداً ممن عرف عبد الرحمن ذكر عنه جهالة قط. وكان أبوه يتعجب من عبادته. قال رحمه الله: لا يستطاع العلم براحة الجسد. صنف الكثير منها: 'الجرح والتعديل' و'الرد على الجهمية' و'التفسير' و'العلل' و'المسند' وغيرها. مات رحمه الله في المحرم سنة سبع وعشرين وثلاثمائة بالري، وله بضع وثمانون سنة. ¬

(¬1) شرف أصحاب الحديث (ص.79). (¬2) طبقات الحنابلة (2/ 55) وتذكرة الحفاظ (3/ 829 - 832) والبداية والنهاية (11/ 203) والسير (13/ 263 - 269) وطبقات الشافعية للسبكي (3/ 324 - 328) وشذرات الذهب (2/ 308 - 309).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: عن عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي قال: علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر، وعلامة الزنادقة تسميتهم أهل السنة حشوية. (¬1) موقفه من الجهمية: له من الآثار السلفية: 1 - الرد على الجهمية: وقد نقل أبو القاسم اللالكائي في 'أصول الاعتقاد' جملة وافرة منه وكذلك الإمام ابن القيم في 'اجتماع الجيوش'، كما مر معنا في كثير من المواقف. وذكره ابن أبي يعلى في 'طبقات الحنابلة' (¬2) وشيخ الإسلام في 'درء التعارض'. (¬3) 2 - كتاب السنة: ذكره في طبقات الحنابلة. (¬4) 3 - التفسير: وهو من أهم التفاسير السلفية وقد اعتمده الإمام ابن كثير في تفسيره، ولو جمع ما فيه لكان مجلداً كبيراً. ذكره شيخ الإسلام في الدرء ضمن التفاسير السلفية (¬5)، وقد وجد مخطوطاً من "سورة البقرة" إلى "سورة يوسف" وقد أخذ رسائل علمية في جامعة أم القرى. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة -يعني في أصول الدين- وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار ¬

(¬1) ذم الكلام (275). (¬2) (2/ 55). (¬3) (6/ 261). (¬4) (2/ 55). (¬5) (2/ 21).

الإصطخري (328 هـ)

فقالوا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار: حجازاً، وعراقاً، ومصراً، وشاماً، ويمناً، فكان من مذاهبهم أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته، إلى أن قال: وأن الله على عرشه، بائن من خلقه، كما وصف نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله، بلا كيف، أحاط بكل شيء علماً. (¬1) الإِصْطَخْرِي (¬2) (328 هـ) الإمام القدوة العلامة شيخ الإسلام، أبو سعيد الحسن بن أحمد بن يزيد، الإصطخري الشافعي فقيه العراق ورفيق ابن سريج. سمع سعدان بن نصر، وحفص بن عمرو الربالي، وأحمد بن منصور الرمادي، وعبّاساً الدوري، وحنبل بن إسحاق وعدة. وعنه محمد بن المظفر والدارقطني وابن شاهين وآخرون. وتفقه به أئمة. قال الخطيب: ولي قضاء قمر وولي حسبة بغداد، فأحرق مكان الملاهي، وكان ورعاً زاهداً، متقلّلاً من الدنيا، له تصانيف مفيدة منها: كتاب 'أدب القضاء' ليس لأحد مثله. قال المروزي: لما دخلت بغداد لم يكن بها من يستحق أن ندرس عليه إلا ابن سريج وأبو سعيد الإصطخري. مات رحمه الله في جمادى الآخرة سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، وله نيف وثمانون سنة. ¬

(¬1) درء التعارض (6/ 257). (¬2) تاريخ بغداد (7/ 268 - 270) ووفيات الأعيان (2/ 74 - 75) والسير (15/ 250 - 252) والبداية والنهاية (11/ 205) وتاريخ الإسلام (حوادث 321 - 330/ص.226 - 227) وشذرات الذهب (2/ 312).

موقفه من المشركين:

موقفه من المشركين: - جاء في السير: واستفتاه القاهر في الصابئين، فأفتاه بقتلهم لأنهم يعبدون الكواكب، فعزم الخليفة على ذلك، فجمعوا مالاً جزيلاً، وقدموه، ففتر عنهم. (¬1) - وأخرج الهروي: عن أبي الحسين الطبسي قال: سمعت أبا سعيد الاصطخري يقول، وجاءه رجل فقال له أيجوز الاستنجاء بالعظم قال: لا، قال لم؟ قال لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "هو زاد إخوانكم من الجن" (¬2)، قال: فقال له الإنس أفضل أم الجن؟ قال: بل الإنس، قال: فلم يجوز الاستنجاء بالماء وهو زاد الإنس، قال: فعدا عليه وأخذ بحلقه وهو يقول: يا زنديق تعارض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعل يخنقه، فلولا أني أدركته لقتله. (¬3) المرتعش الصوفي (328 هـ) موقفه من الصوفية: من جيد كلامه: قيل له: فلان يمشي على الماء، قال: عندي أن من مكنه الله من مخالفة هواه فهو أعظم من المشي على الماء. (¬4) ¬

(¬1) السير (15/ 252). (¬2) أحمد (1/ 436) ومسلم (1/ 332/450) والترمذي (1/ 29/18) عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام فإنه زاد إخوانكم من الجن". وأخرجه أبو داود (1/ 67/85) مختصراً. (¬3) ذم الكلام (273 - 274). (¬4) السير (15/ 231).

الراضي أحمد بن المقتدر (329 هـ)

الراضي أحمد بن المقتدر (¬1) (329 هـ) الخليفة محمد وقيل أحمد أبو إسحاق الراضي بالله بن المقتدر بالله جعفر ابن المعتضد بالله أحمد بن أبي أحمد بن المتوكل. ولد سنة سبع وتسعين ومائتين وأمه أمة رومية، وكان قصيراً أسمر نحيفاً، في وجهه طول، استخلف بعد عمه القاهر عندما سملوا القاهر سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة. قال الخطيب: له فضائل منها أنه آخر خليفة له شعر مدون وآخر خليفة انفرد بتدبير الجيوش وآخر خليفة خطب الجمعة وآخر خليفة جالس الندماء، وكانت جوائزه وأموره على ترتيب المتقدمين منهم، وكان سمحاً جواداً أديباً فصيحاً محباً للعلماء، ومن شعره: كل صفو إلى كدر ... كل أمن إلى حذر ومصير الشباب للمو ... ت فيه أو الكبر در در المشيب من ... واعظ ينذر البشر أيها الآمِلُ الذي ... تاه في لجة الغرر توفي في ربيع الأول سنة تسع وعشرين وثلاثمائة. وله اثنتان وثلاثون سنة سوى أشهر، وبويع المتقي لله إبراهيم أخوه. موقفه من المشركين: - قال ابن كثير: وفيها -أي سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة- ظهر ببغداد رجل يعرف بأبي جعفر محمد بن علي الشلمغاني، ويقال له ابن ¬

(¬1) تاريخ بغداد (2/ 142 - 145) والسير (15/ 103 - 104) والبداية والنهاية (11/ 190 - 209) والوافي بالوفيات (2/ 297 - 300) وشذرات الذهب (2/ 324) وتاريخ الإسلام (حوادث 321 - 330/ص.267 - 269).

العرافة، فذكروا عنه أنه يدعي ما كان يدعيه الحلاج من الإلهية، وكانوا قد قبضوا عليه في دولة المقتدر عند حامد بن العباس، واتهم بأنه يقول بالتناسخ فأنكر ذلك. ولما كانت هذه المرة أحضره الراضي وادعى عليه بما كان ذكر عنه فأنكر ثم أقر بأشياء، فأفتى قوم أن دمه حلال إلا أن يتوب من هذه المقالة، فأبى أن يتوب، فضرب ثمانين سوطاً، ثم ضربت عنقه وألحق بالحلاج، وقتل معه صاحبه ابن أبي عون لعنه الله. وكان هذا اللعين من جملة من اتبعه وصدقه فيما يزعمه من الكفر. (¬1) - جاء في معجم الأدباء: رسالة في ترجمة ابن أبي عون وهي رسالة طويلة ذكرها ياقوت بين فيها عقيدة هذا الزنديق وشيخه ابن الشلمغاني وأصحابه، وسأقتصر على بعض المقتطفات منها لطول الرسالة ومن شاء الاطلاع عليها كلها فليرجع إلى المصدر الذي ذكرته. قال ياقوت: وقرأت "بمرو" رسالة كتبت من بغداد عن أمير المؤمنين الراضي رضي الله عنه إلى أبي الحسين نصر بن أحمد الساماني والي خراسان، بقتل العزاقري لخصت ما يتعلق بابن أبي عون قال فيها بعد أن ذكر أول من أبدع مذهباً في الإسلام من الرافضة وأهل الأهواء وآخر من اضطر المقتدر بالله رحمه الله فانتقم منهم ... ولما ورث أمير المؤمنين ميراث أوليائه، وأحله الله محل خلفائه اقتدى بسنتهم ... وجعل الغرض الذي يرجو الإصابة بتيممه والمثوبة بتعمده أن يتتبع هذه الطبقة من الكفار ويطهر الأرض من بقيتهم الفجار فبحث عن أخبارهم ¬

(¬1) البداية (11/ 191).

وأمر بتقصص آثارهم وأن ينهى إليه ما يصح من أمورهم، ويحصل له ما يظهر عليه من جمهورهم فلم يعد أن أحضر أبو علي محمد وزير أمير المؤمنين رجلاً يقال له: محمد بن علي الشلمغاني ويعرف بابن أبي العزاقر، فأعلم أمير المؤمنين أنه من غمار الناس وصغارهم ووجوه الكفار وكبارهم، وأنه قد استزل خلقاً من المسلمين وأشرك طوائف من العَمِهين وأن الطلب قد كان لحقه في الأيام الخالية فلم يدرك، وأودعت المحابس قوماً ممن ضل وأشرك فلما رفع حكمه عنه وأذن في استنقاذ العباد منه واطلع من أبي علي على صفاء نية ونقاء طوية في ابتغاء الأجر وطلابه رضا الله عز وجل واكتسابه والامتعاض من أن ينازع في الإلهية أو يضاهي في الربوبية آنسه بناحيته فاسترسل، وحثه بالمصير إلى حضرته، فتعجل، ففحص أمير المؤمنين عنه، ووكل إليه همه ففتش أمره تفتيش الحائط للمملكة المحامي عن الحوزة القائم بما فوضه الله إليه من رعاية الأمة ووقف أمير المؤمنين على أنه لم يزل يدخل على العقول من كل مدخل ويتوصل إلى ما فيها من كل متوصل، ويعتزى إلى الملة وهو لا يعتقدها وينتمي إلى الخلة وهو عارٍ منها ويدعي العلوم الإلهية وهو عم عنها، ويحقق استخراج الحكم الغامضة وهو جاهل بها ... واستظهر أمير المؤمنين بأن تقدم إلى أبي علي بمواقفة هذا اللعين على تمويهاته وقبائح تلبيساته ليكون إقامة أمير المؤمنين حد الله عليه بعد الإمعان في الاستبصار وانكشاف الشبهة فيه عن القلوب والأبصار فتجرد أبو علي في ذلك وتشمر وبلغ منه وما قصر وانثال عليه كل من أطلع على الحقيقة وتعرف جلية الصورة فوقف أبو علي على أن العزاقري يدعي أنه لحق الحق وأنه إله الآلهة الأول القديم الظاهر

الباطن الخالق الرازق التام الموصى إليه، بكل معنى ويدعى بالمسيح كما كانت بنو إسرائيل تسمي الله عز وجل المسيح ويقول: إن الله جل وعلا يحل في كل شيء على قدر ما يحتمل وأنه خلق الضد ليدل به على مضدوده، فمن ذلك أنه حل في آدم عليه السلام لما خلقه وفي إبليس وكلاهما لصاحبه يدل عليه لمضادته إياه في معناه وأن الدليل على الحق أفضل من الحق إلى أن قال: ومن احتاج إليه الناس فهو إلاههم ولهذا يستوجب كل كفي أن يسمى الله وأن كل واحد من أشياعه لعنه الله يقول: إنه رب لمن هو دون درجته وأن الرجل منهم يقول: إني رب فلان وفلان رب فلان حتى الانتهاء إلى ابن أبي العزاقر لعنه الله، فيقول أنا رب الأرباب وإله الآلهة لا ربوبية لرب بعدي .. وأنهم يسمون موسى ومحمدا صلى الله عليهما الخائنين لأنهم يدعون أن هارون أرسل موسى عليهما السلام وأن عليّاً رضي الله عنه أرسل محمداً - صلى الله عليه وسلم - فخاناهما ويزعمون أن عليّاً أمهل النبي - صلى الله عليه وسلم - عدة أيام أصحاب الكهف سنين، فإذا انقضت هذه المدة وهي خمسون وثلاثمائة سنة تنقلب الشريعة ... ووجدت رقعة لابن أبي عون هذا بخطه إلى بعض نظرائه يخاطبه فيها كما يخاطب الإنسان ربه تبارك وتعالى ويقول في بعض فصولها: لك الحمد وكل شيء وما شئت كان، ربي، ... واستفتى أبو علي القضاة والفقهاء في أمر ابن أبي العزاقر وصاحبه هذا الكافر، وسائر من على مذهبه، ممن وجدت له كتب ومخاطبة ومن لم يوجد له ذلك فأفتى من استفتي منهم بقتلهم وأباحوا دماءهم وكتبوا بذلك خطوطهم فأمر أمير المؤمنين بإحضار ابن أبي العزاقر اللعين وابن أبي عون

صاحبه وضريبه وتابعه وأن يجلدا ليراهما من سمع بهما، ويتعظ بما نزل من العذاب بساحتهما، ويتبين من دان بربوبية ابن أبي العزاقر عجزه عن حراسة نفسه وأنه لو كان قادراً لدفع عن مهجته ولو كان خالقا دفع وكشف الضر عن جسده ولو كان ربا لقبض الأيدي عن نكايته، وجدد أمير المؤمنين الاستظهار والحزم والروية، فيما يمضيه عن العزم، وأحضر عمر بن محمد القاضي بمدينة السلام والعدول بها والفقهاء من أهل مجلسه، وسألهم عما عندهم مما انكشف من أمر ابن أبي العزاقر وأمور أهل دعوته وغيه وضلالته فأقامت الكافة على رأيها في قتله وتطهير الأرض من رجسه ورجس مثله. وزال الشك في ذلك عن أمير المؤمنين بالفتيا وإجماع القاضي والفقهاء وبما وضح من إزلال هذا الضلال المسلمين وإفساد الدين وذلك أعظم وأثقل وزرا من الإفساد في الأرض والسعي فيها بغير الحق، وقد استحق من جرى هذا المجرى القتل فأوعز أمير المؤمنين بصلبه. وصلب ابن أبي عون، بحيث يراهما المنكر والعارف ويلحظهما المجتاز والواقف، فصلبا في أحد جانبي مدينة السلام، ونودي عليهما بما حاولاه من إبطال الشريعة ورأياه من إفساد الديانة، ثم تقدم أمير المؤمنين بقتلهما، ونصب رؤوسهما، وإحراق أجسامهما، ففعل ذلك بمشهد من الخاصة والعامة والنظارة والمارة. (¬1) ¬

(¬1) معجم الأدباء (1/ 238 - 253).

الحسن بن علي البربهاري (329 هـ)

الحسن بن علي البَرْبَهَارِيّ (¬1) (329 هـ) أبو محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري، شيخ الحنابلة، وشيخ الطائفة في وقته ومتقدمها في الإنكار على أهل البدع، والمباينة لهم باليد واللسان، وكان له صيت عند السلطان، وقدم عند الأصحاب، وكان أحد الأئمة العارفين، والحفاظ للأصول المأمونين، والثقات المتقنين، وكان قوّالاً بالحق، داعية إلى الأثر، لا يخاف في الله لومة لائم. من شيوخه: أحمد بن محمد ابن الحجاج أبو بكر المرُّوذي، وسهل بن عبد الله التستري. ومن تلامذته: أبو عبد الله بن بطة العكبري، وأحمد بن كامل بن شجرة. وصنف البربهاري مصنفات منها: كتاب 'شرح السنة' الذي ذكر فيه عقيدته ومواقفه من البدع والأهواء. توفي رحمه الله في الاستتار في رجب سنة تسع وعشرين وثلاثمائة. موقفه من المبتدعة: - لم يكن أبو محمد البربهاري ذا علم ومعرفة فقط، ولكن الداعية والمربي على العقيدة السلفية، كان رحمه الله تهابه الملوك والحكام لما له من المكانة في نفوس الناس، واسمع ما نقله ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة: وكانت للبربهاري مجاهدات ومقامات في الدين كثيرة. وكان المخالفون يغيظون قلب السلطان عليه. ففي سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة في خلافة القاهر ووزيره ابن مقلة، تقدم بالقبض على البربهاري. فاستتر، وقبض على ¬

(¬1) طبقات الحنابلة (2/ 18 - 45) والبداية والنهاية (11/ 101) والوافي بالوفيات (12/ 146 - 147) وشذرات الذهب (2/ 319) والسير (15/ 90 - 93).

جماعة من كبار أصحابه وحملوا إلى البصرة وعاقب الله تعالى ابن مقلة على فعله ذلك، بأن أسخط عليه القاهر، وهرب ابن مقلة وعزله القاهر عن وزارته، وطرح في داره النار فقبض على القاهر بالله يوم الأربعاء لست من شهر جمادى الآخرة، سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وحبس وخلع، وسملت عيناه في هذا اليوم حتى سالتا جميعاً فعمي ثم تفضل الله تعالى وأعاد البربهاري إلى حشمته وزادت حتى إنه لما توفي أبو عبد الله بن عرفة، المعروف بنفطويه، وحضر جنازته أماثل أبناء الدنيا والدين كان المقدم على جماعتهم في الإمامة البربهاري. وذلك في صفر سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة. وفي هذه السنة ازدادت حشمة البربهاري وعلت كلمته وظهر أصحابه وانتشروا في الإنكار على المبتدعة، فبلغنا أن البربهاري اجتاز بالجانب الغربي، فعطس فشمته أصحابه فارتفعت ضجتهم حتى سمعها الخليفة وهو في روشنه فسأل عن الحال؟ فأخبر بها فاستهولها، ولم تزل المبتدعة ينقلون قلب الراضي على البربهاري، فتقدم الراضي إلى بدر الحرسي صاحب الشرطة بالركوب والنداء ببغداد: أن لا يجتمع من أصحاب البربهاري نفسان فاستتر وكان ينزل بالجانب الغربي بباب محول، فانتقل إلى الجانب الشرقي مستتراً، فتوفي في الاستتار في رجب سنة تسع وعشرين وثلاثمائة. - حدثني محمد بن الحسن المقري قال: حكى لي جدي وجدتي قالا: كان أبو محمد البربهاري قد اختبأ عند أخت توزون بالجانب الشرقي في درب الحمام في شارع درب السلسلة فبقي نحواً من شهر، فلحقه قيام الدم فقالت أخت توزون لخادمها لما مات البربهاري عندها مستتراً: انظر من

يغسله فجاء بالغاسل فغسله وغلق الباب حتى لا يعلم أحد ووقف يصلي عليه وحده. فطالعت صاحبة المنزل فرأت الدار ملأى رجالاً عليهم ثياب بيض وخضر، فلما سلم، لم تر أحداً فاستدعت الخادم وقالت: يا حجام أهلكتني مع أخي فقال: يا ستي، رأيت رأيت؟ فقالت: نعم فقال: هذه مفاتيح الباب وهو مغلق فقالت: ادفنوه في بيتي فإذا مت فادفنوني عنده في بيت القبة فدفنوه في دارها فماتت بعده بزمان فدفنت في ذلك المكان ومضى الزمان عليها وصارت تربة وهو بقرب دار المملكة بالمخرم. (¬1) - كلمته القيمة في أصحاب البدع: قال رحمه الله: مثل أصحاب البدع مثل العقارب يدفنون رؤوسهم وأبدانهم في التراب، ويخرجون أذنابهم، فإذا تمكنوا لدغوا، وكذلك أهل البدع، هم مختفون بين الناس، فإذا تمكنوا بلغوا ما يريدون. (¬2) - آثاره السلفية: 'شرح السنة' وهي عقيدة شرح فيها الإمام العقيدة السلفية، وحذر من اتباع الأهواء والآراء المخالفة للسنة. - من كلامه رحمه الله تعالى: قال: الحمد لله الذي هدانا للإسلام، ومن علينا به، وأخرجنا في خير أمة، فنسأله التوفيق لما يحب ويرضى، والحفظ مما يكره ويسخط. اعلموا أن الإسلام هو السنة، والسنة هي الإسلام، ولا يقوم أحدهما إلا ¬

(¬1) طبقات الحنابلة (2/ 44 - 45). (¬2) طبقات الحنابلة (2/ 44).

بالآخر. فمن السنة لزوم الجماعة، فمن رغب غير الجماعة وفارقها، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، وكان ضالاًّ مضلاًّ. والأساس الذي تبنى عليه الجماعة وهم: أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، ورحمهم أجمعين، وهم أهل السنة والجماعة، فمن لم يأخذ عنهم، فقد ضل وابتدع، وكل بدعة ضلالة، والضلالة وأهلها في النار. وقال عمر بن الخطاب رحمه الله: لا عذر لأحد في ضلالة ركبها حسبها هدى، ولا في هدى تركه حسبه ضلالة، فقد بينت الأمور وثبتت الحجة، وانقطع العذر. وذلك أن السنة والجماعة قد أحكما أمر الدين كله، وتبين للناس، فعلى الناس الاتباع. واعلم رحمك الله، أن الدين إنما جاء من قبل الله تبارك وتعالى، لم يوضع على عقول الرجال وآرائهم، وعلمه عند الله وعند رسوله فلا تتبع شيئاً بهواك، فتمرق من الدين فتخرج من الإسلام، فإنه لا حجة لك فقد بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته السنة، وأوضحها لأصحابه، وهم الجماعة، وهم السواد الأعظم، والسواد الأعظم: الحق وأهله، فمن خالف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء من أمر الدين فقد كفر. واعلم أن الناس لم يبتدعوا بدعة قط حتى تركوا من السنة مثلها، فاحذر المحدثات من الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، والضلالة وأهلها في النار.

واحذر صغار المحدثات من الأمور، فإن صغير البدع يعود حتى يصير كبيراً، وكذلك كل بدعة أحدثت في هذه الأمة، كان أولها صغيراً يشبه الحق فاغتر بذلك من دخل فيها، ثم لم يستطع الخروج منها، فعظمت وصارت دينا يدان بها، فخالف الصراط المستقيم، فخرج من الإسلام. فانظر رحمك الله كل من سمعت كلامه من أهل زمانك خاصة فلا تعجلن، ولا تدخلن في شيء منه حتى تسأل وتنظر: هل تكلم به أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو أحد من العلماء؟ فإن وجدت فيه أثراً عنهم فتمسك به، ولا تجاوزه لشيء، ولا تختار عليه شيئاً، فتسقط في النار. واعلم أن الخروج من الطريق على وجهين: أما أحدهما: فرجل قد زل عن الطريق وهو لا يريد إلا الخير، فلا يقتدى بزلته، فإنه هالك. وآخر عاند الحق وخالف من كان قبله من المتقين، فهو ضال مضل، شيطان مريد في هذه الأمة، حقيق على من يعرفه أن يحذر الناس منه ويبين للناس قصته، لئلا يقع أحد في بدعته، فيهلك. واعلم رحمك الله أنه لا يتم إسلام عبد، حتى يكون متبعاً مصدقاً مسلماً فمن زعم أنه قد بقي شيء من أمر الإسلام لم يكفوناه أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقد كذبهم، وكفى به فرقة وطعنا عليهم، وهو مبتدع ضال مضل، محدث في الإسلام ما ليس فيه. واعلم رحمك الله: أنه ليس في السنة قياس، ولا يضرب لها الأمثال، ولا تتبع فيها الأهواء، وإنما هو التصديق بآثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلا كيف، ولا شرح، لا يقال لم؟ وكيف؟

والكلام والخصومة والجدال والمراء محدث، يقدح الشك في القلب وإن أصاب صاحبه الحق والسنة. (¬1) - وقال: وإذا سمعت الرجل يطعن على الآثار ولا يقبلها أو ينكر شيئاً من أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاتهمه على الإسلام، فإنه رجل رديء القول والمذهب، وإنما طعن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، لأنه إنما عرفنا الله، وعرفنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعرفنا القرآن، وعرفنا الخير والشر، والدنيا والآخرة بالآثار. وأن القرآن إلى السنة أحوج من السنة إلى القرآن. (¬2) - وقال: واعلم رحمك الله أنه ما كانت زندقة قط، ولا كفر، ولا شك، ولا بدعة، ولا ضلالة، ولا حيرة في الدين، إلا من الكلام، وأهل الكلام، والجدل، والمراء، والخصومة. والعجب كيف يجترئ الرجل على المراء والخصومة والجدال والله تعالى يقول: {مَا يجادل في أيات اللَّهِ إِلًّا الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬3)، فعليك بالتسليم، والرضى بالآثار وأهل الآثار، والكف، والسكوت. (¬4) - وقال: واعلم أنه لم تجيء بدعة قط إلا من الهمج الرعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، فمن كان هكذا، فلا دين له، قال الله تبارك ¬

(¬1) شرح السنة للبربهاري (ص.67 - 71). (¬2) شرح السنة للبربهاري (ص.89). (¬3) غافر الآية (4). (¬4) شرح السنة للبربهاري (ص.94 - 95).

وتعالى: {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} (¬1)، وقال: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} (¬2)، وهم علماء السوء أصحاب الطمع والبدع. واعلم أنه لا يزال الناس في عصابة من أهل الحق والسنة، يهديهم الله، ويهدي بهم غيرهم، ويحيي بهم السنن، فهم الذين وصفهم الله تعالى مع قلتهم عند الاختلاف فقال: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} (¬3) فاستثناهم، فقال: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬4)، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال عصابة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون" (¬5).اهـ (¬6) - وقال: وعليك بالآثار وأهل الآثار، وإياهم فاسأل، ومعهم فاجلس ¬

(¬1) الجاثية الآية (17). (¬2) البقرة الآية (213). (¬3) البقرة الآية (213). (¬4) البقرة الآية (213). (¬5) تقدم تخريجه. انظر مواقف عبد الله بن المبارك سنة (181هـ). (¬6) شرح السنة للبربهاري (ص.103 - 104).

ومنهم فاقتبس. (¬1) - وقال: وإذا رأيت الرجل يحب أبا هريرة، وأنس بن مالك، وأسيد بن حضير، فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله، وإذا رأيت الرجل يحب أيوب، وابن عون، ويونس بن عبيد، وعبد الله بن إدريس الأودي، والشعبي، ومالك ابن مغول، ويزيد بن زريع، ومعاذ بن معاذ ووهب بن جرير، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، ومالك بن أنس، والأوزاعي، وزائدة بن قدامة، فاعلم أنه صاحب سنة، وإذا رأيت الرجل يحب أحمد بن حنبل، والحجاج بن المنهال، وأحمد بن نصر، وذكرهم بخير، وقال بقولهم، فاعلم أنه صاحب سنة. (¬2) - وقال: وإذا ظهر لك من إنسان شيء من البدع، فاحذره، فإن الذي أخفى عنك أكثر مما أظهر. وإذا رأيت الرجل من أهل السنة رديء الطريق والمذهب، فاسقاً فاجراً، صاحب معاصي ضالاً وهو على السنة، فاصحبه، واجلس معه، فإنه ليس يضرك معصيته، وإذا رأيت الرجل مجتهداً في العبادة متقشفاً محترقاً بالعبادة صاحب هوىً، فلا تجالسه، ولا تقعد معه، ولا تسمع كلامه، ولا تمش معه في طريق، فإني لا آمن أن تستحلي طريقته، فتهلك معه. ورأى يونس بن عبيد ابنه وقد خرج من عند صاحب هوى، فقال: يا بني من أين جئت؟ قال: من عند فلان، قال: يا بني لأن أراك خرجت من بيت خنثى، أحب إلي من أن أراك تخرج من بيت فلان وفلان، ولأن تلقى ¬

(¬1) شرح السنة للبربهاري (ص.111). (¬2) شرح السنة للبربهاري (ص.119 - 121).

موقفه من الجهمية:

الله يا بني زانياً فاسقاً سارقاً خائناً، أحب إلي من أن تلقاه بقول فلان وفلان. ألا ترى أن يونس بن عبيد قد علم أن الخنثى لا يضل ابنه عن دينه، وأن صاحب البدعة يضله حتى يكفر؟ واحذر ثم احذر أهل زمانك خاصة، وانظر من تجالس، وممن تسمع ومن تصحب، فإن الخلق كأنهم في ردة، إلا من عصمه الله منهم. وانظر إذا سمعت الرجل يذكر ابن أبي دؤاد، وبشراً المريسي وثمامة أو أبا الهذيل، أو هشام الفوطي، أو واحداً من أتباعهم، وأشياعهم، فاحذره فإنه صاحب بدعة، فإن هؤلاء كانوا على الردة، واترك هذا الرجل الذي ذكرهم بخير، ومن ذكر منهم. (¬1) - وقال: فالله الله في نفسك، وعليك بالأثر وأصحاب الأثر والتقليد، فإن الدين إنما هو بالتقليد، يعني: للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، ومن قبلنا لم يدعونا في لبس، فقلدهم واسترح ولا تجاوز الأثر وأهل الأثر. (¬2) موقفه من الجهمية: قال رحمه الله في شرح السنة له: واعلم رحمك الله: أن الكلام في الرب تعالى محدث، وهو بدعة وضلالة، ولا يتكلم في الرب، إلا بما وصف به نفسه عز وجل في القرآن، وما بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه، فهو جل ثناؤه واحد: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬3). ¬

(¬1) شرح السنة للبربهاري (ص.123 - 126). (¬2) شرح السنة للبربهاري (ص.128). (¬3) الشورى الآية (11).

ربنا أول بلا متى، وآخر بلا منتهى، يعلم السر وأخفى، وعلى عرشه استوى، وعلمه بكل مكان، لا يخلو من علمه مكان. ولا يقول في صفات الرب: كيف؟ ولم؟ إلا شاك في الله تبارك وتعالى. والقرآن كلام الله وتنزيله ونوره، ليس بمخلوق، لأن القرآن من الله، وما كان من الله، فليس بمخلوق، وهكذا قال مالك بن أنس وأحمد بن حنبل والفقهاء قبلهما وبعدهما، والمراء فيه كفر. والإيمان بالرؤية يوم القيامة، يرون الله عز وجل بأبصار رؤوسهم وهو يحاسبهم بلا حجاب ولا ترجمان. والإيمان بالميزان يوم القيامة، يوزن فيه الخير والشر، له كفتان ولسان. والإيمان بعذاب القبر، ومنكر ونكير. والإيمان بحوض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكل نبي حوض (¬1)، إلا صالح النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن حوضه ضرع ناقته (¬2). والإيمان بشفاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمذنبين الخاطئين في يوم القيامة، وعلى ¬

(¬1) أخرجه: البخاري في التاريخ الكبير (1/ 44/82) والترمذي (4/ 542 - 543/ 2443) وابن أبي عاصم (2/ 341 - 342/ 734) والطبراني في الكبير (7/ 212/6881) من طريق قتادة عن الحسن عن سمرة مرفوعاً. قال الترمذي: "هذا حديث غريب وقد روى الأشعث بن عبد الملك هذا الحديث عن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً ولم يذكر فيه عن سمرة وهو أصح". وللحديث شواهد أوردها الشيخ الألباني في الصحيحة (4/ 118 - 120) لعل الحديث يرتقي بها إلى درجة الحسن والله أعلم. (¬2) أخرجه: العقيلي في الضعفاء (3/ 64 - 65)، وعنه ابن الجوزي في الموضوعات (2/ 417 - 418) من طريق عبد الكريم بن كيسان عن سويد بن عمير. قال العقيلي: عبد الكريم بن كيسان مجهول بالنقل حديثه غير محفوظ. وقال ابن الجوزي: "هذا حديث موضوع لا أصل له". وقال الذهبي في الميزان (2/ 645): "عبد الكريم بن كيسان من المجاهيل وحديثه منكر". ثم ذكر الحديث وقال عقبه: "قلت هو موضوع، والله أعلم".

الصراط، ويخرجهم من جوف جهنم، وما من نبي إلا له شفاعة، وكذلك الصديقون والشهداء، والصالحون، ولله بعد ذلك تفضل كثير، فيمن يشاء، والخروج من النار بعدما احترقوا وصاروا فحماً. والإيمان بالصراط على جهنم، يأخذ الصراط من شاء الله، ويجوز من شاء الله، ويسقط في جهنم من شاء الله، ولهم أنوار على قدر إيمانهم. والإيمان بالأنبياء والملائكة. والإيمان بأن الجنة حق، والنار حق، مخلوقتان، الجنة في السماء السابعة، وسقفها العرش، والنار تحت أرض السابعة السفلى، وهما مخلوقتان، قد علم الله تعالى عدد أهل الجنة ومن يدخلها، وعدد أهل النار ومن يدخلها، لا تفنيان أبداً، هما مع بقاء الله تبارك وتعالى أبد الآبدين، في دهر الداهرين. وآدم عليه السلام كان في الجنة الباقية المخلوقة، فأخرج منها بعدما عصى الله عز وجل. والإيمان بالمسيح الدجال. والإيمان بنزول عيسى بن مريم عليه السلام، ينزل فيقتل الدجال ويتزوج ويصلي خلف القائم من آل محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويموت ويدفنه المسلمون. (¬1) وقال: وكل ما سمعت من الآثار مما لم يبلغه عقلك، نحو قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل" (¬2). ¬

(¬1) شرح السنة (ص.71 - 75). (¬2) انظر تخريجه في مواقف سفيان بن عيينة سنة (198هـ).

وقوله: "إن الله تبارك وتعالى ينزل إلى سماء الدنيا" (¬1)، و"ينزل يوم عرفة" (¬2). و"ينزل يوم القيامة" (¬3). و"جهنم لا يزال يطرح فيها، حتى يضع عليها قدمه جل ثناؤه" (¬4)، وقول الله تعالى للعبد: "إن مشيت إلي، هرولت إليك" (¬5)، وقوله: "إن الله تبارك وتعالى ينزل يوم عرفة" وقوله: "خلق الله آدم على صورته" (¬6)، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رأيت ربي في أحسن صورة" (¬7). وأشباه هذه الأحاديث فعليك بالتسليم والتصديق والتفويض، لا تفسر شيئاً من هذه بهواك، فإن الإيمان بهذا واجب، فمن فسر شيئاً من هذا بهواه، أو رده، فهو جهمي. ومن زعم أنه يرى ربه في دار الدنيا، فهو كافر بالله عز وجل. والفكرة في الله تبارك وتعالى بدعة، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تفكروا في ¬

(¬1) انظر تخريجه في مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ). (¬2) انظر تخريجه في مواقف ابن قتيبة سنة (276هـ). (¬3) سيأتي تخريجه في مواقف إبراهيم بن أحمد بن شاقلا سنة (369هـ). (¬4) انظر تخريجه في مواقف عبد العزيز الماجشون سنة (164هـ). (¬5) أحمد (2/ 251و413) والبخاري (13/ 473 - 474/ 7405) ومسلم (4/ 2061/2675) والترمذي (5/ 542/3603) والنسائي في الكبرى (4/ 412/7730) وابن ماجه (2/ 1255/1256/ 3822) من حديث أبي هريرة. (¬6) أحمد (2/ 315) والبخاري (11/ 3/6227) ومسلم (4/ 2183/2841) من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام ابن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه. (¬7) أخرجه بهذا اللفظ ابن أبي عاصم في السنة (1/ 204/469) عن ابن عباس مرفوعاً. وأخرجه مطولاً: أحمد (1/ 368) والترمذي (5/ 342 - 343/ 3233و3234) من حديث ابن عباس وقال: "حديث حسن غريب". والحديث ورد عن جماعة من الصحابة كثوبان وأبي أمامة، وجابر بن سمرة وغيرهم، انظر السنة لابن أبي عاصم (1/ 465،466،467،468،470و471) وفي بعض هذه الروايات التصريح بأن الرؤية كانت في المنام.

الخلق، ولا تفكروا في الله" (¬1)، فإن الفكرة في الرب، تقدح الشك في القلب. (¬2) وقال: واعلم رحمك الله أن أهل العلم لم يزالوا يردون قول الجهمية، حتى كان في خلافة بني فلان تكلم الرويبضة في أمر العامة، وطعنوا على آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخذوا بالقياس والرأي، وكفروا من خالفهم، فدخل في قولهم الجاهل والمغفل، والذي لا علم له، حتى كفروا من حيث لا يعلمون، فهلكت الأمة من وجوه، وكفرت من وجوه، وتزندقت من وجوه، وضلت من وجوه، وتفرقت وابتدعت من وجوه، إلا من ثبت على قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمره وأمر أصحابه، ولم يخطئ أحداً منهم، ولم يجاوز أمرهم، ووسعه ما وسعهم، ولم يرغب عن طريقتهم ومذهبهم، وعلم أنهم كانوا على الإسلام الصحيح والإيمان الصحيح، فقلدهم دينه واستراح، وعلم أن الدين إنما هو بالتقليد، والتقليد لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -. واعلم أن من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو مبتدع، ومن سكت فلم يقل مخلوق ولا غير مخلوق، فهو جهمي، هكذا قال أحمد بن حنبل. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فإياكم ومحدثات الأمور، فإنها ضلالة، وعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وعضوا عليها بالنواجذ" (¬3). واعلم أنه إنما جاء هلاك الجهمية: أنهم فكروا في الرب عز وجل ¬

(¬1) انظر تخريجه في مواقف مقاتل بن سليمان سنة (150هـ). (¬2) شرح السنة (ص.81 - 84). (¬3) أخرجه: أحمد (4/ 126) وأبو داود (5/ 13/4607) والترمذي (5/ 43/2676) وقال: "حسن صحيح". وابن ماجه (1/ 16/43) والحاكم (1/ 95 - 96) وقال: "صحيح ليس له علة" ووافقه الذهبي.

فأدخلوا: لم؟ وكيف؟ وتركوا الأثر، ووضعوا القياس، وقاسوا الدين على رأيهم، فجاءوا بالكفر عياناً، لا يخفى أنه كفر، وكفروا الخلق، واضطرهم الأمر حتى قالوا بالتعطيل. وقال بعض العلماء -منهم أحمد بن حنبل رضي الله عنه-: الجهمي كافر، ليس من أهل القبلة، حلال الدم، لا يرث، ولا يورث، لأنه قال: لا جمعة ولا جماعة، ولا عيدين، ولا صدقة، وقالوا: من لم يقل القرآن مخلوق، فهو كافر، واستحلوا السيف على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وخالفوا من كان قبلهم وامتحنوا الناس بشيء لم يتكلم فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من أصحابه، وأرادوا تعطيل المساجد والجوامع، وأوهنوا الإسلام، وعطلوا الجهاد وعملوا في الفرقة، وخالفوا الآثار، وتكلموا بالمنسوخ، واحتجوا بالمتشابه، فشككوا الناس في آرائهم وأديانهم، واختصموا في ربهم، وقالوا: ليس عذاب قبر، ولا حوض، ولا شفاعة، والجنة والنار لم تخلقا، وأنكروا كثيراً مما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستحل من استحل تكفيرهم ودماءهم من هذا الوجه، لأنه من رد آية من كتاب الله، فقد رد الكتاب كله، ومن رد أثراً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد رد الأثر كله، وهو كافر بالله العظيم، فدامت لهم المدة، ووجدوا من السلطان معونة على ذلك، ووضعوا السيف، والسوط دون ذلك، فدرس علم السنة والجماعة وأوهنوهما، وصارتا مكتومين لإظهار البدع والكلام فيها ولكثرتهم، واتخذوا المجالس وأظهروا رأيهم، ووضعوا فيه الكتب، وأطمعوا الناس، وطلبوا لهم الرئاسة، فكانت فتنة عظيمة، لم ينج منها، إلا من عصم الله، فأدنى ما كان يصيب الرجل من مجالستهم، أن يشك في دينه، أو

يتابعهم، أو يرى رأيهم على الحق، ولا يدري أنه على الحق أو على الباطل، فصار شاكاً، فهلك الخلق حتى كان أيام جعفر الذي يقال له: المتوكل - فأطفأ الله به البدع، وأظهر به الحق، وأظهر به أهل السنة، وطالت ألسنتهم، مع قلتهم وكثرة أهل البدع إلى يومنا هذا. (¬1) - وقال: وإذا أردت الاستقامة على الحق وطريق أهل السنة قبلك، فاحذر الكلام، وأصحاب الكلام والجدال والمراء والقياس والمناظرة في الدين، فإن استماعك منهم -وإن لم تقبل منهم-، يقدح الشك في القلب، وكفى به قبولاً، فتهلك، وما كانت زندقة قط، ولا بدعة، ولا هوى، ولا ضلالة، إلا من الكلام والجدال والمراء والقياس وهي أبواب البدعة والشكوك والزندقة. (¬2) - جاء في طبقات الحنابلة: قرأت على علي القرشي عن الحسن الأهوازي قال: سمعت أبا عبد الله الحمراني يقول لما دخل الأشعري إلى بغداد جاء إلى البربهاري فجعل يقول: رددت على الجبائي وعلى أبي هاشم ونقضت عليهم وعلى اليهود والنصارى والمجوس وقلت لهم وقالوا وأكثر الكلام في ذلك. فلما سكت قال البربهاري: ما أدري مما قلت قليلاً ولا كثيراً، ولا نعرف إلا ما قاله أبو عبد الله أحمد بن حنبل قال: فخرج من عندي وصنف كتاب الإبانة فلم يقبله منه ولم يظهر ببغداد إلى أن خرج منها. (¬3) ¬

(¬1) شرح السنة (ص.99 - 103). (¬2) شرح السنة (ص.127 - 128). (¬3) طبقات الحنابلة (2/ 18).

موقفه من الخوارج:

موقفه من الخوارج: قال البربهاري في شرح السنة: ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين؛ فهو خارجي، وقد شق عصا المسلمين، وخالف الآثار وميتته ميتة جاهلية. ولا يحل قتال السلطان والخروج عليهم وإن جاروا، وذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر الغفاري: "اصبر وإن كان عبداً حبشياً" (¬1)، وقوله للأنصار: "اصبروا حتى تلقوني على الحوض" (¬2). وليس في السنة قتال السلطان فإن فيه فساد الدين والدنيا. ويحل قتال الخوارج إذا عرضوا للمسلمين في أنفسهم وأموالهم وأهاليهم. وليس له إذا فارقوه أن يطلبهم، ولا يُجهِز على جريحهم، ولا يَأخذ فيئهم، ولا يقتل أسيرهم، ولا يتبع مُدبرهم. (¬3) موقفه من المرجئة: قال في شرح السنة له: والإيمان بأن الإيمان قول وعمل، وعمل وقول، ونية وإصابة، يزيد وينقص، يزيد ما شاء الله، وينقص حتى لا يبقى منه شيء. (¬4) وقال: ولا نشهد لأحد بحقيقة الإيمان، حتى يأتي بجميع شرائع ¬

(¬1) أحمد (3/ 171) ومسلم (3/ 1467/1837) وابن ماجه (2/ 955/2862). (¬2) أحمد (3/ 57،171) والبخاري (7/ 147/3792) ومسلم (3/ 14/74/ 1845) من حديث أسيد بن خضير. (¬3) شرح السنة (ص.78). (¬4) شرح السنة (ص.75).

موقفه من القدرية:

الإسلام، فإن قصر في شيء من ذلك، كان ناقص الإيمان حتى يتوب، واعلم أن إيمانه إلى الله تعالى، تام الإيمان أو ناقص الإيمان، إلا ما أظهر لك من تضييع شرائع الإسلام. (¬1) وقال: ومن قال: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص فقد خرج من الإرجاء كله أوله وآخره. (¬2) موقفه من القدرية: قال رحمه الله: والرضى بقضاء الله، والصبر على حكم الله، والإيمان بما قال الله عز وجل، والإيمان بأقدار الله كلها خيرها وشرها، وحلوها ومرها، قد علم الله ما العباد عاملون، وإلى ما هم صائرون، لا يخرجون من علم الله، ولا يكون في الأرضين ولا في السماوات إلا ما علم الله عز وجل، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولا خالق مع الله عز وجل. (¬3) وقال: والكلام والجدال والخصومة في القدر خاصة منهي عنه عند جميع الفرق، لأن القدر سر الله، ونهى الرب تبارك وتعالى الأنبياء عن الكلام في القدر، ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخصومة في القدر، وكرهه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعون، وكرهه العلماء وأهل الورع، ونهوا عن الجدال في القدر، فعليك بالتسليم والإقرار والإيمان، واعتقاد ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جملة الأشياء، وتسكت عما سوى ذلك. (¬4) ¬

(¬1) شرح السنة (ص.80). (¬2) شرح السنة (ص.132). (¬3) شرح السنة (ص.86). (¬4) شرح السنة (ص.90).

ابن رجاء العكبري (329 هـ)

ابن رجاء العُكْبُرِيّ (¬1) (329 هـ) عمر بن محمد بن رجاء أبو حفص العكبري. حدث عن عبد الله بن الإمام أحمد وقيس بن إبراهيم وموسى بن حمدون العكبري وغيرهم. روى عنه جماعة منهم أبو عبد الله بن بطة وقال: إذا رأيت العكبري يحب أبا حفص ابن رجاء فاعلم أنه صاحب سنة. قال أبو بكر الخطيب: كان صالحاً ديناً صدوقاً. وقال الذهبي: كان عبداً صالحاً ديناً، ثقة، كبير القدر، من أئمة الحنابلة. توفي سنة تسع وعشرين وثلاثمائة. موقفه من الرافضة: - جاء في طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى قال: وقرأت في بعض كتب أصحابنا: أن ابن رجاء كان إذا مات بعكبرى رجل من الرافضة، فبلغه أن بزازاً باع له كفناً، أو غاسلاً غسله، أو حاملاً حمله: هجره على ذلك. (¬2) - وفيها قال محمد بن عبد الله الخياط: كان أبو حفص بن رجاء لا يكلم من يكلم رافضيّاً إلى عشرة. (¬3) " التعليق: ونحن، الروافض يدخلون بيوتنا ونكرمهم ونعظمهم وندين لهم بالولاء، والله ما أدرك حقيقة هؤلاء اليهود إلا السلف، وأما نحن فالعيش أحب إلينا من كل شيء. ¬

(¬1) تاريخ بغداد (11/ 239) وطبقات الحنابلة (2/ 56 - 57) وتاريخ الإسلام (حوادث 321 - 330/ص.266). (¬2) طبقات الحنابلة (2/ 57). (¬3) طبقات الحنابلة (2/ 56).

أبو بكر الصيرفي (330 هـ)

أبو بكر الصَّيْرَفِي (¬1) (330 هـ) الشيخ الفقيه محمد بن عبد الله، أبو بكر الصيرفي البغدادي. تفقه على ابن سريج، وسمع الحديث من أحمد بن منصور الرمادي، وسمع منه علي بن محمد الحلبي. ويقال: كان الصيرفي أعلم بالأصول بعد الشافعي. له مصنفات في أصول المذهب وفروعه. قال السبكي: الإمام الجليل الأصولي، أحد أصحاب الوجوه المسفرة عن فضله والمقالات الدالة على جلالة قدره. وقال الخطيب: وكان فهماً عالماً. توفي رحمه الله في رجب سنة ثلاثين وثلاثمائة. موقفه من المبتدعة: قال ابن عدي: سمعت محمد بن عبد الله الصيرفي الشافعي يقول لتلامذته: اعتبروا بالكرابيسي، وبأبي ثور، فالحسين في علمه وحفظه لا يعشره أبو ثور، فتكلم فيه أحمد بن حنبل في باب مسألة اللفظ، فسقط، وأثنى على أبي ثور، فارتفع للزومه للسنة. (¬2) ¬

(¬1) تاريخ بغداد (5/ 449 - 450) ووفيات الأعيان (4/ 199) والكامل لابن الأثير (8/ 392) وطبقات الشافعية للسبكي (2/ 169 - 170) وتاريخ الإسلام (حوادث 321 - 330/ص.290 - 291) وطبقات الفقهاء الشافعيين لابن كثير (1/ 264). (¬2) السير (12/ 82) وتاريخ بغداد (8/ 66 - 67).

الحسين المحاملي (330 هـ)

الحسين المَحَامِلِي (¬1) (330 هـ) القاضي، الإمام، العلامة، الحافظ، الثقة، شيخ بغداد ومحدثها أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل بن محمد الضبي البغدادي المحاملي. ولد في أول سنة خمس وثلاثين ومائتين، وأول سماعه في سنة أربع وأربعين. سمع أبا حذافة أحمد بن إسماعيل السهمي صاحب مالك والبخاري وأحمد بن المقدام العجلي ويعقوب الدورقي، والزبير بن بكار، وطبقتهم ومن بعدهم فأكثر وصنف وجمع وصار أسند أهل العراق مع التصدر للإفادة والفتيا ستين سنة. وروى عنه دعلج بن أحمد، والدارقطني وابن جميع وأبو محمد بن البيع وعدة. قال الداوودي: كان يحضر مجلس المحاملي عشرة آلاف رجل. وقال الخطيب: كان فاضلاً ديناً شهد عند القضاة وله عشرون سنة وولي قضاء الكوفة ستين سنة. عقد بالكوفة سنة سبعين ومائتين في داره مجلساً للفقه فلم يزل أهل العلم والنظر يختلفون إليه. أملى المحاملي مجلساً كعادته في ثاني عشر ربيع الآخر من سنة ثلاثين وثلاثمائة ثم مرض ومات بعد أحد عشر يوماً رحمه الله تعالى. موقفه من الرافضة: جاء في البداية والنهاية: أنه قد تناظر هو وبعض الشيعة بحضرة بعض الأكابر فجعل الشيعي يذكر مواقف علي يوم بدر وأحد والخندق وخيبر وحنين وشجاعته. ثم قال للمحاملي: أتعرفها؟ قال: نعم، ولكن أتعرف أنت ¬

(¬1) تاريخ بغداد (8/ 19 - 23) وتذكرة الحفاظ (3/ 824 - 826) والسير (15/ 258 - 263) والوافي بالوفيات (12/ 341 - 342) والبداية والنهاية (11/ 216) وتاريخ الإسلام (حوادث 321 - 330/ص.281 - 283) وشذرات الذهب (2/ 326).

إسحاق بن محمد النهرجوري الصوفي (330 هـ)

أين كان الصديق يوم بدر؟ كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العريش بمنزلة الرئيس الذي يحامي عنه، وعلي رضي الله عنه في المبارزة، ولو فرض أنه انهزم أو قتل لم يخزل الجيش بسببه. فأفحم الشيعي. وقال المحاملي وقد قدمه الذين رووا لنا الصلاة والزكاة والوضوء بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقدموه عليه حيث لا مال له ولا عبيد ولا عشيرة وقد كان أبو بكر يمنع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويجاحف عنه، وإنما قدموه لعلمهم أنه خيرهم فأفحمه أيضاً. (¬1) إسحاق بن محمد النهرجوري الصوفي (¬2) (330 هـ) رأس الصوفية في زمانه، من كبار مشايخهم وعلمائهم، صحب سهل ابن عبد الله التستري والجنيد وعمرو بن عثمان. ومع ذلك فقد وقف هذا الموقف الطيب ضد أهل الحلول والاتحاد. موقفه من المشركين: قال شيخ الإسلام: قال الشيخ أبو يعقوب النهرجوري: هذه الأرواح من أمر الله مخلوقة. خلقها الله من الملكوت، كما خلق آدم من التراب، وكل عبد نسب روحه إلى ذات الله أخرجه ذلك إلى التعطيل، والذين نسبوا الأرواح إلى ذات الله هم أهل الحلول الخارجون إلى الإباحة، وقالوا إذا صفت أرواحنا من أكدار نفوسنا فقد اتصلنا، وصرنا أحراراً، ووضعت عنا العبودية، وأبيح لنا كل شيء من اللذات من النساء، والأموال وغير ذلك. ¬

(¬1) البداية (11/ 217). (¬2) السير (15/ 232) وشذرات الذهب (2/ 325 - 326) والبداية والنهاية (11/ 216) والوافي بالوفيات (8/ 423 - 424).

عبد الله بن منازل (331 هـ)

وهم زنادقة هذه الأمة. (¬1) عبد الله بن منازل (¬2) (331 هـ) عبد الله بن محمد بن منازل أبو محمود النيسابوري. صحب حمدوناً القصار، وحدث بالمسند الصحيح عن أحمد بن سلمة النيسابوري. توفي سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة. موقفه من المبتدعة: قال أبو محمود عبد الله بن منازل: لم يضيع أحد فريضة من الفرائض؛ إلا ابتلاه الله بتضييع السنن، ولم يبتل بتضييع السنن أحد؛ إلا يوشك أن يبتلى بالبدع. (¬3) موقف السلف من القرمطي عدوّ الله أبي طاهر سليمان الزنديق (332 هـ) بيان زندقته وإلحاده: - جاء في السير: عدو الله ملك البحرين، أبو طاهر سليمان بن حسن القرمطي الجنابي، الأعرابي الزنديق، الذي سار إلى مكة في سبع مئة فارس. فاستباح الحجيج كلهم في الحرم، واقتلع الحجر الأسود، وردم زمزم ¬

(¬1) الفتاوى (4/ 221). (¬2) شذرات الذهب (2/ 330) العبر (1/ 318). (¬3) الاعتصام (1/ 130).

بالقتلى، وصعد على عتبة الكعبة، يصيح: أنا بالله وبالله أنا ... يخلق الخلق وأفنيهم أنا فقتل في سكك مكة وما حولها زهاء ثلاثين ألفاً، وسبى الذرية، وأقام بالحرم ستة أيام. بذل السيف في سابع ذي الحجة، ولم يعرف أحد تلك السنة، فلله الأمر. وقتل أمير مكة ابن محارب، وعرى البيت، وأخذ بابه، ورجع إلى بلاد هجر. وقيل: دخل قرمطي سكران على فرس، فصفر له، فبال عند البيت، وضرب الحجر بدبوس هشمه ثم اقتلعه. وأقاموا بمكة أحد عشر يوماً. وبقي الحجر الأسود عندهم نيفاً وعشرين سنة. ويقال: هلك تحته إلى هجر أربعون جملاً، فلما أعيد كان على قعود ضعيف، فسمن. وكان بجكم التركي دفع لهم فيه خمسين ألف دينار، فأبوا، وقالوا: أخذناه بأمر، وما نرده إلا بأمر. وقيل: إن الذي اقتلعه صاح: يا حمير، أنتم قلتم {وَمَنْ دخله كَانَ آَمِنًا} (¬1) فأين الأمن؟ قال رجل: فاستسلمت، وقلت: إن الله أراد: ومن دخله فأمنوه، فلوى فرسه وما كلمني. وقد وهم السمناني، فقال في 'تاريخه' إن الذي نزع الحجر أبو سعيد الجنابي القرمطي، وإنما هو ابنه أبو طاهر. واتفق أن ابن أبي الساج الأمير نزل بأبي سعيد الجنابي فأكرمه، فلما سار لحربه، بعث يقول: لك علي حق، وأنت في خمس مئة وأنا في ثلاثين ألفاً. فانصرف، فقال للرسول: كم مع صاحبك؟ قال: ثلاثون ألف راكب، قال: ولا ثلاثة، ثم دعا بعبد أسود، فقال له: خرق بطنك بهذه ¬

(¬1) آل عمران الآية (97).

السكين، فبدد مصارينه. وقال لآخر: اغرق في النهر، ففعل، وقال لآخر: اصعد على هذا الحائط، وانزل على مخك، فهلك. فقال للرسول: إن كان معه مثل هؤلاء، وإلا فما معه أحد. (¬1) - قال ابن كثير: وقد سأل بعضهم ههنا سؤالاً. فقال: وقد أحل الله سبحانه بأصحاب الفيل -وكانوا نصارى- ما ذكره في كتابه، ولم يفعلوا بمكة شيئاً مما فعله هؤلاء، ومعلوم أن القرامطة شر من اليهود والنصارى والمجوس، بل ومن عبدة الأصنام، وأنهم فعلوا بمكة ما لم يفعله أحد، فهلا عوجلوا بالعذاب والعقوبة، كما عوجل أصحاب الفيل؟ وقد أجيب عن ذلك بأن أصحاب الفيل إنما عوقبوا إظهاراً لشرف البيت، ولما يراد به من التشريف العظيم بإرسال النبي الكريم، من البلد الذي فيه البيت الحرام، فلما أرادوا إهانة هذه البقعة التي يراد تشريفها وإرسال الرسول منها أهلكهم سريعاً عاجلاً، ولم يكن شرائع مقررة تدل على فضله، فلو دخلوه وأخربوه لأنكرت القلوب فضله. وأما هؤلاء القرامطة فإنما فعلوا ما فعلوا بعد تقرير الشرائع وتمهيد القواعد، والعلم بالضرورة من دين الله بشرف مكة والكعبة، وكل مؤمن يعلم أن هؤلاء قد ألحدوا في الحرم إلحاداً بالغاً عظيماً، وأنهم من أعظم الملحدين الكافرين، بما تبين من كتاب الله وسنة رسوله، فلهذا لم يحتج الحال إلى معاجلتهم بالعقوبة، بل أخرهم الرب تعالى ليوم تشخص فيه الأبصار، والله سبحانه يمهل ويملي ويستدرج ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) السير (15/ 320 - 322).

"إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" (¬1) ثم قرأ قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} (¬2) وقال: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} (¬3). وقال: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} (¬4). وقال: {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} (¬5). اهـ (¬6) - وقال الذهبي: قال المراغي: حدثنا أبو عبد الله بن محرم، وكان رسول المقتدر إلى القرمطي، قال: سألته بعد مناظرات عن استحلاله بما فعل بمكة، فأحضر الحجر في الديباج، فلما أبرز كبرت، وأريتهم من تعظيمه والتبرك به على حالة كبيرة، وافتتنت القرامطة بأبي طاهر، وكان أبوه قد أطلعه وحده ¬

(¬1) أخرجه: البخاري (8/ 451/4686) ومسلم (4/ 1997 - 1998/ 2583) والترمذي (5/ 269/3110) والنسائي في الكبرى (6/ 365/11245) وابن ماجه (2/ 1332/4018) كلهم من حديث أبي موسى وفيه: "ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] (¬2) إبراهيم الآية (42). (¬3) آل عمران الآيتان (196و197). (¬4) لقمان الآية (24). (¬5) يونس الآية (70). (¬6) البداية والنهاية (11/ 173 - 174).

على كنوز دفنها. فلما تملك، كان يقول: هنا كنز فيحفرون، فإذا هم بالمال. فيفتتنون به وقال مرة: أريد أن أحفر هنا عيناً، قالوا: لا تنبع، فخالفهم، فنبع الماء، فازداد ضلالهم به، وقالوا: هو إله، وقال قوم: هو المسيح، وقيل: نبي. وقد هزم جيوش بغداد غير مرة، وعتا وتمرد. قال محمد بن رزام الكوفي: حكى لي ابن حمدان الطبيب، قال: أقمت بالقطيف أعالج مريضاً، فقال لي رجل: إن الله ظهر، فخرجت، فإذا الناس يهرعون إلى دار أبي طاهر، فإذا هو ابن عشرين سنة، شاب مليح عليه عمامة صفراء، وثوب أصفر على فرس أشهب، وإخوته حوله، فصاح: من عرفني عرفني، ومن لم يعرفني، فأنا أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسن الجنابي. اعلموا أنا كنا وإياكم حميراً، وقد من الله علينا بهذا وأشار إلى غلام أمرد، فقال: هذا ربنا وإلهنا، وكلنا عباده. فأخذ الناس التراب، فوضعوه على رؤوسهم، ثم قال أبو طاهر: إن الدين قد ظهر وهو دين أبينا آدم، وجميع ما أوصلت إليكم الدعاة باطل من ذكر موسى وعيسى ومحمد، هؤلاء دجالون. وهذا الغلام هو أبو الفضل المجوسي. شرع لهم اللواط، ووطء الأخت، وأمر بقتل من امتنع. فأدخلت عليه وبين يديه عدة رؤوس، فسجدت له، وأبو طاهر والكبراء حوله قيام. فقال لأبي طاهر: الملوك لم تزل تعد الرؤوس في خزائنها. فسلوه كيف بقاؤها؟ فسئلت، فقلت: إلهنا أعلم، ولكني أقول: فجملة الإنسان إذا مات يحتاج كذا وكذا صبراً وكافوراً. والرأس جزء فيعطى بحسابه. فقال: ما أحسن ما قال. ثم قال الطبيب: ما زلت أسمعهم تلك الأيام يلعنون إبراهيم وموسى ومحمداً وعلياً. ورأيت مصحفاً مسح بغائط.

وقال أبو الفضل يوماً لكاتبه: اكتب إلى الخليفة، فصل لهم على محمد وكِلْ مِنْ جِراب النورة، قال: والله ما تنبسط يدي لذلك، فافتض أبو الفضل أختاً لأبي طاهر الجنابي، وذبح ولدها في حجرها، ثم قتل زوجها، وهم بقتل أبي طاهر، فاتفق أبو طاهر مع كاتبه ابن سنبر، وآخر عليه فقالا: يا إلهنا، إن والدة أبي طاهر قد ماتت فاحضر لتحشو جوفها ناراً، قال: وكان سنه له، فأتى، فقال: ألا تجيبها؟ قال: لا. فإنها ماتت كافرة فعاوده فارتاب وقال: لا تعجلا علي دعاني أخدم دوابكما إلى أن يأتي أبي، قال ابن سنبر: ويلك هتكتنا، ونحن نرتب هذه الدعوة من ستين سنة. فلو رآك أبوك لقتلك اقتله يا أبا طاهر، قال: أخاف أن يمسخني، فضرب أخو أبي طاهر عنقه، ثم جمع ابن سنبر الناس، وقال: إن هذا الغلام ورد بكذب سرقه من معدن حق، وإنا وجدنا فوقه من ينكحه، وقد كنا نسمع أنه لا بدّ للمؤمنين من فتنة يظهر بعدها حق، فأطفئوا بيوت النيران، وارجعوا عن نكاح الأم، ودعوا اللواط، وعظموا الأنبياء، فضجوا، وقالوا: كل وقت تقولون لنا قولاً. فأنفق أبو طاهر الذهب حتى سكنوا. (¬1) وقال أيضاً: ثم جرت لأبي طاهر مع المسلمين حروب أوهنته. وقتل جنده، وطلب الأمان على أن يرد الحجر، وأن يأخذ عن كل حاج ديناراً ويخفرهم. قال الذهبي: ثم هلك بالجدري -لا رحمه الله- في رمضان سنة اثنتين ¬

(¬1) السير (15/ 323 - 324).

أبو العرب (333 هـ)

وثلاث مئة (¬1) بهجر كهلاً. وقام بعده أبو القاسم سعيد. (¬2) أبو العَرَب (¬3) (333 هـ) هو محمد بن أحمد بن تميم بن تمام أبو العرب، المغربي الإفريقي المالكي. كان جده من أمراء إفريقية. وسمع من أصحاب سحنون، وكان حافظاً لمذهب مالك مفتيا، غلب عليه الحديث والرجال. وله تصانيف منها: 'طبقات أهل إفريقية' وكتاب 'المحن' وكتاب 'فضائل مالك' و'فضائل سحنون' و'عباد إفريقية' وكتاب 'التاريخ' في أحد عشر جزءاً. وكان أحد من عقد الخروج على بني عبيد في ثورة أبي يزيد عليهم، هو وأبو سليمان ربيع القطان، وأبو الفضل الممسي، وأبو إسحاق السبائي، وغيرهم. قال أبو عبد الله الخراط: كان رجلاً صالحاً ثقة، عالماً بالسنن والرجال، من أبصر أهل وقته بها، كثير الكتب، حسن التقييد، كريم النفس والخلق، كتب بخطه كثيراً في الحديث والفقه، يقال: إنه كتب بيده ثلاثة آلاف كتاب وخمسمائة، وشيوخه نيف وعشرون ومائة شيخ. توفي رحمه الله لثمان بقين من ذي القعدة، سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. ¬

(¬1) والصواب في وفاته ما أثبتناه وهو (332هـ). (¬2) السير (15/ 325). (¬3) ترتيب المدارك (2/ 40 - 41) والسير (15/ 394) وتذكرة الحفاظ (3/ 99) والوافي بالوفيات (2/ 39) رياض النفوس (2/ 306 - 312) والديباج المذهب (2/ 198 - 199) وشجرة النور الزكية (1/ 83 - 84).

موقفه من الرافضة:

موقفه من الرافضة: مر معنا ما فعله بنو عبيد بالعلماء خاصة والمسلمين عامة، من قتل وتعذيب وصلب وتبديل لدين الله، وإحلال المجوسية الشيعية محل السنة الطاهرة، عليهم ما يستحقون من ربهم، وما نزال نتابع مسيرة علمائنا الأخيار الذين شرفوا تاريخنا بمواقفهم ومنهم المؤرخ الكبير أبو العرب محمد بن أحمد ابن تميم وربيع القطان وأبو الفضل عباس المهدي. جاء في السير: وكان أحد من عقد الخروج على بني عبيد في ثورة أبي يزيد عليهم ولما حاصروا المهدية سمع الناس على أبي العرب هناك كتابي: الإمامة لمحمد بن سحنون فقال أبو العرب: كتبت بيدي ثلاثة آلاف وخمس مائة كتاب فوالله لقراءة هذين الكتابين هنا أفضل عندي من جميع ما كتبت. (¬1) المَمْسِي (¬2) (333 هـ) العباس بن عيسى الممسي أبو الفضل الإمام المفتي المالكي العابد. أخذ عن موسى القطان القيرواني وغيره. وكان مناظراً صاحب حجة. أخذ عنه أبو محمد بن أبي زيد ومحمد بن حارث وأبو بكر الزويلي وأبو الأزهر بن معتب وغيرهم. حج سنة سبع عشرة ورد على الطحاوي في مسألة النبيذ ثم ¬

(¬1) السير (15/ 395). (¬2) السير (15/ 372 - 373) وترتيب المدارك (2/ 26 - 33) والديباج المذهب (2/ 129 - 131) ومعالم الإيمان (3/ 27 - 30) وشجرة النور الزكية (1/ 83) ورياض النفوس (2/ 292 - 305).

موقفه من الرافضة:

رجع إلى الغرب، وأقبل على شأنه. قال ابن مخلوف: الفقيه الورع الزاهد الإمام الثقة العابد العالم العامل، صاحب الفضائل الجمة مع فصاحة لسان ونزاهة وعدالة وعلو همة. استشهد ومعه خمس وثمانون رجلاً كلهم فاضل خير في حرب بني عبيد -لعنهم الله-. توفي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. موقفه من الرافضة: - قال الدباغ في معالم الإيمان: وكان أبو الفضل ممن خرج لقتال بني عبيد مع أهل القيروان لما كان يعتقد من كفرهم. قلت -أي التنوخي-: قال أبو بكر المالكي رأى أن الخروج مع أبي يزيد الخارجي، وقطع دولة بني عبيد فرضاً، لأن الخوارج من أهل القبلة لا يزول عنهم الإسلام، ويرثون ويورثون، وبنو عبيد ليسوا كذلك، لأنهم مجوس زال عنهم اسم المسلمين، فلا يتوارثون معهم ولا ينتسبون إليهم. (¬1) - جاء في السير: فلما قام أبو يزيد مخلد بن كنداد الأعرج، رأس الخوارج على بني عبيد، خرج هذا الممسي معه في عدد من علماء القيروان لفرط ما عمهم من البلاء، فإن العبيدي كشف أمره وأظهر ما يبطنه حتى نصبوا حسن الضرير السباب في الطرق بأسجاع لقنوه يقول: العنوا الغار وما حوى والكساء وما وعى وغير ذلك، فمن أنكر ضربت عنقه وذلك في أول دولة الثالث إسماعيل، فخرج مخلد الزناتي المذكور صاحب الحمارة، وكان زاهداً فتحرك لقيامه كل أحد، ففتح البلاد وأخذ مدينة القيروان، لكن عملت الخوارج كل قبيح حتى أتى العلماء أبا يزيد يعيبون عليه، فقال: نهبكم ¬

(¬1) المعالم (3/ 29) ورياض النفوس (2/ 297 - 298).

الخرقي (334 هـ)

حلال لنا، فلاطفوه حتى أمرهم بالكف وتحصن العبيدي بالمهدية. وقيل: إن أبا يزيد لما أيقن بالظهور غلبت عليه نفسه الخارجية وقال لأمرائه: إذا لقيتم العبيدية فانهزموا عن القيروانيين حتى ينال منهم عدوهم. ففعلوا ذلك فاستشهد خلق وذلك سنة نيف وثلاثين وثلاثمائة، فالخوارج أعداء المسلمين وأما العبيدية الباطنية فأعداء الله ورسوله. (¬1) " التعليق: يمر المسلم بهذه الوقائع وهو يبكي على ما وصل إليه المسلمون من ضعف الحال، حتى بدؤوا يتعاونون مع أعداء عقيدتهم، ورغم هذا التعاون فإن العدو خائن، فما فعله الخوارج بهؤلاء الأخيار ينبغي أن يكون عبرة لمن جاء بعدهم، فلا ثقة في مبتدع مهما كان نوع بدعته، وأما سلالة اليهود والمجوس فلا تسأل عن عداوتهم. الخِرَقِي (¬2) (334 هـ) عمر بن الحسين بن عبد الله الخرقي أبو القاسم العلامة شيخ الحنابلة صاحب المختصر المشهور في المذهب. كان من كبار العلماء تفقه بوالده الحسين صاحب المروذي. قال القاضي أبو يعلى: كانت لأبي القاسم مصنفات كثيرة لم تظهر لأنه خرج من بغداد لما ظهر بها سب الصحابة ¬

(¬1) السير (15/ 373). (¬2) السير (15/ 363 - 364) وتاريخ بغداد (11/ 234 - 235) وطبقات الحنابلة (2/ 75 - 118) والعبر (1/ 323) ووفيات الأعيان (3/ 441) والبداية والنهاية (11/ 228) وشذرات الذهب (2/ 336 - 337).

موقفه من الرافضة:

فأودع كتبه في دار فاحترقت الدار. وقدم دمشق وبها توفي سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة. موقفه من الرافضة: جاء في طبقات الحنابلة: أنه خرج عن مدينة السلام لما ظهر سب الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. (¬1) ربيع القطان أبو سليمان الصوفي (¬2) (334 هـ) موقفه من الرافضة: قال أبو بكر المالكي: وعوتب ربيع في خروجه مع أبي يزيد إلى حرب بني عبيد فقال: وكيف لا أفعل وقد سمعت الكفر بأذني؟ فمن ذلك أني حضرت أشهاداً وكان فيه جمع كثير أهل سنة ومشارقة وكان بالقرب مني أبو قضاعة الداعي، فأتى رجل مشرقي من أهل الشرق ومن أعظم المشارقة فقام إليه رجل مشرقي وقال: إلى هاهنا يا سيدي إلى جانب رسول الله -يعني أبا قضاعة الداعي ويشير بيده إليه- فما أنكر أحد شيئاً من ذلك فكيف ينبغي أن أترك القيام عليهم؟ ووجد بخطه قال: لما كان في رجب سنة إحدى وثلاثين قام الصبي المكوكب يقذف الصحابة ويطعن على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلقت عظام رؤوس أكباش وحمير وغيرها على أبواب الحوانيت والدروب عليها قراطيس معلقة فيها أسماء يعنون بها رؤوس الصحابة رضوان الله عليهم فلما ¬

(¬1) طبقات الحنابلة (2/ 75). (¬2) العقيدة السلفية (2/ 985).

رأى ربيع ذلك لم يسعه التأخر عن الخروج عليهم، -وكذلك كان جميع الشيوخ يتأولون ... ولما اجتمعوا للخروج عليهم قال ربيع القطان: أنا أول من يشرع في هذا الأمر ويخرج فيه ويندب المسلمين ويحضهم عليه. وتسارع جميع الفقهاء والعباد لذلك فلما كان بالغد خرج ربيع وجماعة الفقهاء ووجوه التجار إلى المصلى بالسلاح الشاك والعدة العجيبة التي لم ير مثلها وضاق بهم الفضاء وتواعد الناس أن ينظروا في الزاد وآلة السفر إلى يوم السبت -وذلك يوم الإثنين- وركب بعض الشيوخ من الموضع إلى الجامع بالسلاح وشقوا السماط بالقيروان وزادوا في استنهاض الناس فلما كان يوم الجمعة اجتمعوا في الجامع وركبوا بالسلاح الكامل وعملوا البنود والطبول وأتوا بالبنود فركزوها قبالة المسجد المعروف بالحدادين وكانت سبعة بنود: الأول أصفر لربيع القطان مكتوب عليه البسملة ومعها لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي الثاني -وهو لربيع أصفر أيضاً- نصر من الله وفتح قريب على يد أبي يزيد اللهم انصره على من سب نبيك، وفي الثالث -وهو أصفر أيضا لأبي العرب- بعد البسملة {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} (¬1) وفي الرابع -وهو بند أحمر لأبي الفضل عباس الممسي- لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي الخامس -وهو بند أخضر لمروان العابد- بعد البسملة {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ ¬

(¬1) التوبة الآية (12).

وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} (¬1)، وفي السادس -وهو بند أبيض- بعد البسملة لا إله إلا الله محمد رسول الله أبو بكر الصديق عمر الفاروق، وفي السابع -وهو لإبراهيم بن العمشاء وكان أكبر البنود لونه أبيض- لا إله إلا الله محمد رسول الله {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (¬2) فلما اجتمع الناس وحضرت صلاة الجمعة طلع الإمام على المنبر -وهو أحمد بن محمد بن أبي الوليد، وكان أبو الفضل الممسي هو الذي أشار به- وخطب خطبة أبلغ فيها، وحرض الناس على الجهاد، وأعلمهم بما لهم فيه من الثواب، وتلا هذه الآية: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} (¬3) الآية وقال: يا أيها الناس جاهدوا من كفر بالله وزعم أنه رب من دون الله وغير أحكام الله عز وجل وسب نبيه وأصحاب نبيه وأزواج نبيه، فبكى الناس بكاءً شديداً وقال في خطبته: اللهم إن هذا القرمطي الكافر الصنعاني المعروف بابن عبيد الله المدعي الربوبية من دون الله جاحداً لنعمتك كافراً بربوبيتك طاعناً على أنبيائك، ورسلك مكذباً محمداً نبيّك وخيرتك من خلقك سابّاً لأصحاب نبيك ¬

(¬1) التوبة الآية (14). (¬2) التوبة الآية (40) .. (¬3) النساء الآية (95).

موقف السلف من القائم بأمر الله (الزنديق) (334 هـ)

وأزواج نبيك أمّهات المؤمنين سافكاً لدماء أمته منتهكاً لمحارم أهل ملته افتراءً عليك واغتراراً بحلمك اللهم فالعنه لعناً وبيلاً واخزه خزياً طويلاً واغضب عليه بكرة وأصيلاً وأصله جهنم وساءت مصيراً بعد أن تجعله في دنياه عبرة للسائلين وأحاديث الغابرين وأهلك اللهم متبعه وشتت كلمته وفرق جماعته واكسر شوكته واشف صدور قوم مؤمنين منه ونزل، فجمع الجمعة ركعتين وسلم وقال: إن الخروج غداً يوم السبت إن شاء الله، وركب ربيع القطان فرسه وعليه آلة الحرب وفي عنقه المصحف وحوله جمع من الناس من أهل القيروان متأهبون معتدون لجهاد أعداء الله عليهم آلة الحرب، فنظر إليهم ربيع القطان فسر بهم وقال: الحمد لله الذي أحياني حتى أدركت عصابة من المؤمنين اجتمعوا لجهاد أعدائك وأعداء نبيك. (¬1) موقف السلف من القائم بأمر الله (الزنديق) (334 هـ) بيان زندقته: جاء في السير: ذكر القاضي عبد الجبار المتكلم، أن القائم أظهر سب الأنبياء وكان مناديه يصيح: العنوا الغار وما حوى. وأباد عدة من العلماء. وكان يراسل قرامطة البحرين، ويأمرهم بإحراق المساجد والمصاحف. فتجمعت الإباضية والبربر على مخلد، وأقبل، وكان ناسكاً قصير الدلق، ¬

(¬1) رياض النفوس (2/ 338 - 344) والمعالم (3/ 31 - 33).

يركب حماراً، لكنهم خوارج، وقام معه خلق من السنة والصلحاء، وكاد أن يتملك العالم، وركزت بنودهم عند جامع القيروان فيها: لا إله إلا الله، لا حكم إلا لله. وبندان أصفران فيهما: نصر من الله وفتح قريب. وبند لمخلد فيه: اللهم انصر وليك على من سب نبيك. وخطبهم أحمد بن أبي الوليد، فحض على الجهاد، ثم ساروا، ونازلوا المهدية. ولما التقوا وأيقن مخلد بالنصر، تحركت نفسه الخارجية، وقال لأصحابه: انكشفوا عن أهل القيروان، حتى ينال منهم عدوهم، ففعلوا ذلك، فاستشهد خمسة وثمانون نفساً من العلماء والزهاد. (¬1) وفيها: وقد أجمع علماء المغرب على محاربة آل عبيد لما شهروه من الكفر الصراح الذي لا حيلة فيه. وقد رأيت في ذلك تواريخ عدة، يصدق بعضها بعضاً. (¬2) وفيها: وعوتب بعض العلماء في الخروج مع أبي يزيد الخارجي، فقال: وكيف لا أخرج وقد سمعت الكفر بأذني؟ حضرت عقداً فيه جمع من سنة ومشارقة، وفيهم أبو قضاعة الداعي، فجاء رئيس، فقال كبير منهم: إلى هنا يا سيدي ارتفع إلى جانب رسول الله يعني: أبا قضاعة، فما نطق أحد. (¬3) وفيها: وخرج أبو إسحاق الفقيه مع أبي يزيد، وقال: هم أهل القبلة، وأولئك ليسوا أهل قبلة. وهم بنو عدو الله، فإن ظفرنا بهم، لم ندخل تحت ¬

(¬1) السير (15/ 152 - 153). (¬2) السير (15/ 154). (¬3) السير (15/ 154).

طاعة أبي يزيد، لأنه خارجي. (¬1) وفيها: قال السبائي: إي والله نجد في قتل المبدل للدين. (¬2) - وفيها: ووجد بخط فقيه. قال: في رجب سنة 331هـ قام المكوكب يقذف الصحابة، ويطعن على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلقت رؤوس حمير وكباش على الحوانيت، كتب عليها أنها رؤوس صحابة. (¬3) وفيها: وكان القائم يسمى أيضاً نزاراً، ولما أخذ أكثر بلاد مصر في سنة سبع وثلاثمائة انتدب لحربه جيش المقتدر، عليهم مؤنس، فالتقى الجمعان. فكانت وقعة مشهورة، ثم تقهقر القائم إلى المغرب، ووقع في جيشه الغلاء والوباء وفي خيلهم وتبعه أياماً جيش المقتدر. (¬4) وفيها: قال أبو ميسرة الضرير: أدخلني الله في شفاعة أسود رمى هؤلاء القوم بحجر. (¬5) وفيها: وتسارع الفقهاء والعباد في أهبة كاملة بالطبول والبنود. وخطبهم في الجمعة أحمد بن أبي الوليد، وحرضهم. وقال: جاهدوا من كفر بالله وزعم أنه رب من دون الله، وغير أحكام الله، وسب نبيه وأصحاب نبيه. فبكى الناس بكاءً شديداً. وقال: اللهم إن هذا القرمطي الكافر المعروف بابن عبيد الله، المدعي الربوبية، جاحد لنعمتك، كافر بربوبيتك، طاعن على ¬

(¬1) السير (15/ 155). (¬2) السير (15/ 155). (¬3) السير (15/ 154). (¬4) السير (15/ 154). (¬5) السير (15/ 155).

ابن القاص (335 هـ)

رسلك، مكذب بمحمد نبيك، سافك للدماء. فالعنه لعناً وبيلاً، واخزه خزياً طويلاً، واغضب عليه بكرة وأصيلاً. ثم نزل فصلى بهم الجمعة. (¬1) وفيها: وركب ربيع القطان فرسه ملبساً، وفي عنقه المصحف، وحوله جمع كبير، وهو يتلو آيات جهاد الكفرة. فاستشهد ربيع في خلق من الناس يوم المصاف في صفر سنة أربع وثلاثين. وكان غرض هؤلاء المجوس بني عبيد أخذه حياً ليعذبوه. قال أبو الحسن القابسي: استشهد معه فضلاء، وأئمة وعباد. (¬2) وفيها: قال بعض الشعراء في بني عبيد: الماكر الغادر الغاوي لشيعته ... شر الزنادق من صحب وتباع العابدين إذاً عجلاً يخاطبهم ... بسحر هاروت من كفر وإبداع لو قيل للروم أنتم مثلهم لبكوا ... أو لليهود لسدوا صمخ أسماع (¬3) ابن القَاصّ (¬4) (335 هـ) أحمد بن أبي أحمد الطبري أبو العباس الإمام الفقيه شيخ الشافعية ابن القاص تلميذ أبي العباس بن سريج. حدث عن أبي خليفة الجمحي وغيره. له 'شرح حديث أبي عمير' قال ابن خلكان: كان إمام وقته في طبرستان، وكان ¬

(¬1) السير (15/ 155)، وهو في معالم الإيمان (3/ 39 - 40) بلفظ تام. (¬2) السير (15/ 155 - 156). (¬3) السير (15/ 156). (¬4) السير (15/ 371 - 372) والبداية والنهاية (11/ 232) ووفيات الأعيان (1/ 68 - 69) والوافي بالوفيات (6/ 227) والنجوم الزاهرة (3/ 294) وشذرات الذهب (2/ 339).

موقفه من الجهمية:

يعظ الناس. تولى قضاء طرسوس. وكان أبوه يقص على الناس الأخبار والآثار، توفي سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة. موقفه من الجهمية: قال أبو العباس أحمد بن أبي أحمد الطبري المعروف بابن القاص: لا خلاف بين أهل الفقه في قبول خبر الآحاد، إذا عدلت نقلته وسلم من النسخ حكمه، وإن كانوا متنازعين في شرط ذلك، وإنما دفع خبر الآحاد بعض أهل الكلام لعجزه -والله أعلم- عن علم السنن، زعم أنه لا يقبل منها إلا ما تواترت به أخبار من لا يجوز عليه الغلط والنسيان، وهذا عندنا منه ذريعة إلى إبطال سنن المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، لوجهين: أحدهما: أن ما شرط من ذلك صفة الأمة المعصومة، والأمة إذا تطابقت على شيء وجب القول به وإن لم يأت خبر. والثاني: أنه لو طولب بسنة يتحاكم إليها المتنازعان تواترت عليها أخبار نقلتها وسلمت من خوف النسيان طرقها لم يجد إليها سبيلاً، وكانت شبهته في ذلك أنه وجد أخبار السنن آخرها عمن لا يجوز عليه الغلط والنسيان، وهو النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك يجب أن يكون أولها وأوسطها عن قوم لا يجوز عليهم الغلط والنسيان. قال أبو العباس: فكان ما اعتذر به ثانيا أفسد من جرمه أولا وأقبح، وذلك أن آخر هذه الأخبار عمن صحت نبوته وصدقت المعجزات قوله، فيلزمه على قود اعتلاله أن لا يقبل من الأخبار، إلا ما روت الأنبياء عن الأنبياء، وقد نطق الكتاب بتصديق ما اجتبيناه من تصديق خبر الآحاد، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا

نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (¬1) واسم الطائفة عند العرب قد يقع على دون العدد المعصوم من الزلل، وقد يلزم الواحد فأكثر قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (¬2) وقال: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬3) فصح أن هذا الاسم، واقع على العدد القليل. وفيما تلونا وجهان من الحجة: أحدهما: أن أمر الله إياهم بذلك، دليل على أن على المنذرين قبوله، كما قال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬4)، {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (¬5) فكان ذلك دليلاً على قبول قولهما. والوجه الثاني: قوله: {لَعَلَّهُمْ يحذرون}، فلولا قيام الحجة عليهم ما استوجبوا الحذر ومعنى قوله: {لَعَلَّهُمْ يحذرون}،إيجاباً للحذر به -والله أعلم- نظير قوله: {بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} (¬6)، ¬

(¬1) التوبة الآية (122). (¬2) الحجرات الآية (9) .. (¬3) النور الآية (2). (¬4) الطلاق الآية (2). (¬5) البقرة الآية (282). (¬6) السجدة الآية (3).

محمد بن أبي المنظور (337 هـ)

إيجاباً للاهتداء عليهم بذلك. وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (¬1) فوجب على العباد أن يعقلوا عن القرآن خطابه حجة لله عليهم. وحجة أخرى: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (¬2) الآية، فكان في أمر الله بالتثبت في خبر الفاسق دلالة واضحة من فحوى الكلام على إمضاء خبر العدل، والفرق بينه وبين خبر الفاسق، فلو كانا سيين في التوقف عنهما لأمر بالتثبت في خبرهما، حتى يبلغ حد التواتر الذي يجب عند المخالفين القول به على مذهبهم، كما رتب في الشهادات، وفصل بينهما بأن جعل الشهادات منوطة بأعدادها، وأطلق الأخبار إطلاقاً، وقوله: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} دليل على أن إنفاذنا لقبوله في خبر العدل أصابه بعلم لا بجهل له ولئلا نصبح على ما فعلنا نادمين. والله أعلم. (¬3) محمد بن أبي المنظور (¬4) (337 هـ) محمد بن عبد الله بن حسن الأنصاري بن أبي المنظور أبو عبد الله القاضي، أصله من الأندلس رحل إلى المشرق فسمع من القاضي إسماعيل بن ¬

(¬1) الزخرف الآية (3). (¬2) الحجرات الآية (6) .. (¬3) الفقيه والمتفقه (1/ 281 - 283). (¬4) معالم الإيمان (3/ 44 - 47) وترتيب المدارك (2/ 43 - 44) ورياض النفوس (2/ 357 - 361).

موقفه من المشركين:

إسحاق، ومن علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد ومن عبد الله بن محمد بن عبد الله وغيرهم. سمع منه: أحمد بن عبد الرحمن القصري وأبو محمد بن التبان وجعفر بن نظيف وغيرهم. وكان عالماً ثقة فاضلاً صالحاً لا تأخذه في الله لومة لائم. وله جلالة وسمت وخشوع وتقى، وقبول عند الناس، وعدالة ظاهرة، وأجبره إسماعيل المنصور على القضاء فاشترط عليه أن لا يأخذ لهم صلة ولا يركب لهم دابة ولا يقبل شهادة من طاف بهم أو قاربهم ولا يركب إليهم مهنيا ولا معزيا فأجابه إلى هذا إسماعيل وقبل شرطه. وكان رحمه الله قد سار بالعدل في أقضيته وإيثار الحق، لا تأخذه في الله -عز وجل- لومة لائم. توفي وهو قاضي القيروان يوم السبت لعشر بقين من المحرم سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، وقد نيف على التسعين. موقفه من المشركين: - جاء في السير أن محمد بن أبي المنظور الأنصاري وَلِيَ قضاء القيروان في دولة المنصور صاحب المغرب العبيدي الباطني. وكان من كبار أصحاب الحديث، قد لقي إسماعيل القاضي، والحارث ابن أبي أسامة، فقال: بشرط أن لا آخذ رزقاً ولا أركب دابة، فولاه ليتألف الرعية، فأحضر إليه يهودي قد سب (¬1)، فبطحه، وضربه إلى أن مات تحت الضرب، خاف أن يحكم بقتله فتحل عليه الدولة. (¬2) ¬

(¬1) أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم. (¬2) السير (15/ 157 - 158).

النحاس (338 هـ)

النَّحَّاس (¬1) (338 هـ) أحمد بن محمد بن إسماعيل أبو جعفر العلامة إمام العربية المصري النحوي صاحب التصانيف، ارتحل إلى بغداد وأخذ عن الزجاج وكان ينظر في زمانه بابن الأنباري وبنفطويه للمصريين. روى عن محمد بن جعفر بن أعين وبكر بن سهل الدمياطي والحسن بن غليب والحافظ النسائي وغيرهم. وروى عنه أبو بكر محمد بن علي الأدفوي تواليفه. من كتبه: 'إعراب القرآن'، 'كتاب المعاني'، 'الكافي'، وكان من أذكياء العالم. وكان لا يتكبر أن يسأل الفقهاء وأهل النظر عما أشكل عليه في تأليفاته. توفي في ذي الحجة سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة. موقفه من الجهمية: قال النحاس: أجمع النحويون على أن الفعل إذا أكد بالمصدر لم يكن مجازاً فإذا قال: {تَكْلِيمًا} وجب أن يكون كلاماً على الحقيقة التي تعقل. (¬2) موقف السلف من الفارابي الزنديق (339 هـ) بيان زندقته: الزنديق الكبير، الذي هو عند جهلة المثقفين المفكر والفيلسوف!! ¬

(¬1) السير (15/ 401 - 402) وطبقات النحويين واللغويين (220 - 221) ووفيات الأعيان (1/ 99 - 100) والوافي بالوفيات (7/ 362 - 364) والبداية والنهاية (11/ 236) وشذرات الذهب (2/ 346). (¬2) الفتح (13/ 479).

والفأر أشرف منه وأفضل، هذا الخبيث مع الزنديق الباطني المسمى بابن سينا عظمهما كثير من الملحدين في هذا الوقت، ولخبث هذين الشيطانين قرر الملاحدة تدريس كتبهما وأفكارهما في المدارس والكليات باسم الفكر الإسلامي، حتى في بعض البلاد الإسلامية، حتى يخرج الطالب من الثانوي وهو يحمل شهادة زندقة وإلحاد وتحلل خلقي كامل، إلاّ من عصمه الله، والله المستعان. قال ابن كثير عن الفارابي: التركي الفيلسوف، وكان من أعلم الناس بالموسيقى، بحيث كان يتوسل به، وبصناعته إلى الناس في الحاضرين من المستمعين، إن شاء حرك ما يبكي أو يضحك أو ينوم وكان حاذقاً في الفلسفة، ومن كتبه تفقه ابن سينا وكان يقول بالمعاد الروحاني لا الجثماني، ويخصص بالمعاد الأرواح العالمة لا الجاهلة، وله مذاهب في ذلك يخالف المسلمين والفلاسفة من سلفه الأقدمين، فعليه إن كان مات على ذلك لعنة رب العالمين. مات بدمشق فيما قاله ابن الأثير في كامله، ولم أر الحافظ ابن عساكر ذكره في تاريخه لنتنه وقباحته. فالله أعلم. (¬1) قال الذهبي في السير: له تصانيف مشهورة من ابتغى الهدى منها ضل وحار، منها تخرج ابن سينا نسأل الله التوفيق. (¬2) ¬

(¬1) البداية والنهاية (11/ 238). (¬2) السير (15/ 417).

القاهر بالله (339 هـ)

القاهر بالله (339 هـ) موقفه من الرافضة: جاء في السير: ولم يكن القاهر متمكناً من الأمور، وحكم عليه علي ابن بليق الرافضي الذي عزم على سب معاوية -رضي الله عنه- على المنابر. فارتجت العراق، وقبض على شيخ الحنابلة البربهاري، ثم قوي القاهر ونهب دور مخالفيه، وطين على ولد أخيه المكتفي بين حيطين، وضرب ابن بليق وسجنه، ثم أمر بذبحه وبذبح أبيه، وذبح بعدهما مؤنساً الكبير ويمناً وابن زيرك، وبذل للجند العطاء، وعظم شأنه، ونادى بتحريم الغناء والخمر وكسر الملاهي!! وهو مع ذلك يشرب المطبوخ والسلاف، ويسكر ويسمع القينات!!! (¬1) أبو إسحاق المَرْوَزِي (¬2) (340 هـ) أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المروزي، الإمام الكبير شيخ الشافعية، وفقيه بغداد، صاحب أبي العباس بن سريج، وأكبر تلامذته، اشتغل ببغداد دهراً، وصنف التصانيف، وتخرج به أئمة كأبي زيد المروزي والقاضي أبي حامد مفتي البصرة وعدة. شرح المذهب ولخصه وانتهت إليه رئاسته، ثم ارتحل إلى مصر في أواخر عمره، فأدركه أجله بها فتوفي لتسع خلون من رجب سنة ¬

(¬1) السير (15/ 99). (¬2) السير (15/ 429 - 430) وتاريخ بغداد (6/ 11) ووفيات الأعيان (1/ 26 - 27) والعبر (1/ 329) وشذرات الذهب (2/ 355 - 356).

موقفه من الجهمية:

أربعين وثلاثمائة. موقفه من الجهمية: صنف المروزي كتاباً في السنة، وقرأه بجامع مصر، وحضره آلاف، فجرت فتنة، فطلبه كافور فاختفى، ثم أدخل إلى كافور، فقال: أما أرسلت إليك أن لا تشهر هذا الكتاب فلا تظهره!؟ وكان فيه ذكر الاستواء، فأنكرته المعتزلة. (¬1) الحُبُلِّي (¬2) (341 هـ) محمد بن إسحاق أبو عبد الله الحبلي الإمام الشهيد قاضي برقة. جاء في المعالم: كان رحمه الله فقيهاً صالحاً فاضلاً عالماً نظاراً حسن الأخلاق سمحاً. أبى الإفطار بالحساب على مذهب العبيديين، فعلق في الشمس إلى أن مات، ثم صلبوه على خشبة، وذلك سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة. موقفه من الرافضة: جاء في السير: الإمام الشهيد قاضي مدينة برقة محمد بن الحبلي أتاه أمير برقة فقال: غداً العيد، قال: حتى نرى الهلال ولا أفطر الناس وأتقلد إثمهم فقال: بهذا جاء كتاب المنصور، وكان هذا من رأي العبيدية، يفطرون بالحساب، ولا يعتبرون رؤية، فلم ير هلال، فأصبح الأمير بالطبول والبنود وأهبة العيد، فقال القاضي: لا أخرج ولا أصلي، فأمر الأمير رجلاً خطب ¬

(¬1) السير (15/ 429). (¬2) السير (15/ 374) ومعالم الإيمان (3/ 49) ورياض النفوس (2/ 404 - 405).

أحمد بن إسحاق الصبغي (342 هـ)

وكتب بما جرى إلى المنصور فطلب القاضي إليه فأحضر فقال له: تَنَصَّل وأعفو عنك؟ فامتنع، فأمر، فعلق في الشمس إلى أن مات وكان يستغيث العطش، فلم يسق ثم صلبوه على خشبة فلعنة الله على الظالمين. (¬1) أحمد بن إسحاق الصِّبْغِي (¬2) (342 هـ) هو الإمام العلامة المفتي المحدث، أبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب بن يزيد النيسابوري الشافعي المعروف "بالصبغي" بكسر الصاد المهملة وسكون الباء ثم غين معجمة في آخرها ياء نسبة إلى الصبغ والصباغ، وهو ما يصبغ به من الألوان. وقد تصحف إلى "الضُّبعي" في كل من 'العبر' للذهبي، و'الطبقات' للسبكي، و'تاريخ الخلفاء' للسيوطي وغيرها. ولد سنة ثمان وخمسين ومائتين. وسمع الفضل بن محمد الشعراني، والحارث بن أبي أسامة، وإسماعيل القاضي، وعلي بن عبد العزيز البغوي. حدث عنه حمزة بن محمد الزيدي، وأبو بكر الإسماعيلي، وأبو عبد الله الحاكم وخلق كثير. جمع وصنف، وبرع في الفقه، وتميز في علم الحديث. وكان يخلف ابن خزيمة في الفتوى بضع عشرة سنة. قال السمعاني: أحد العلماء المشهورين بالفضل والعلم الواسع. وقال الحاكم: ومن تصانيفه: كتاب 'الأسماء والصفات' وكتاب 'الإيمان' وكتاب 'القدر' وكتاب 'الخلفاء الأربعة' وكتاب 'الرؤية' ¬

(¬1) السير (15/ 374) ورياض النفوس (2/ 404 - 405) ومعالم الإيمان (3/ 49). (¬2) طبقات السبكي (2/ 81) والأنساب (8/ 33 - 34) والوافي بالوفيات (6/ 239) وشذرات الذهب (2/ 361) والسير (15/ 483 - 489).

موقفه من المبتدعة:

وكتاب 'الأحكام' وكتاب 'الإمامة'. توفي رحمه الله في شعبان سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة. موقفه من المبتدعة: جاء في ذم الكلام: عن محمد بن عبد الله الحافظ قال: سمعت أحمد بن إسحاق بن أيوب الفقيه الصبغي يناظر رجلاً فقال: حدثنا فلان، قال له الرجل: دعنا من حدثنا إلى متى حدثنا؟ فقال له الشيخ: قم يا كافر، فلا يحل لك أن تدخل داري بعد. ثم التفت إلينا فقال: ما قلت لأحد قط لا تدخل داري غير هذا. (¬1) - وفي السير: قال الحاكم: وقد سمعته يخاطب كهلا من أهل (¬2) فقال: حدثونا عن سليمان بن حرب فقال له: دعنا من حدثنا إلى متى حدثنا وأخبرنا؟ فقال: يا هذا لست أشم من كلامك رائحة الإيمان، ولا يحل لك أن تدخل هذه الدار ثم هجره حتى مات. (¬3) " التعليق: هذه غيرة الأئمة رحمهم الله على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا كان أهل الضلال بلغت بهم الوقاحة وقلة الحياء إلى قولهم: "دعنا من حدثنا وأخبرنا"، ودين الأمة كله قائم على سلسلة حدثنا وأخبرنا فلا دين إلا بها ولا عقيدة إلا على طريقها ولا عبادة تصح إلا منها، فكتب السنة كلها والقرآن بكل ¬

(¬1) ذم الكلام (77). (¬2) كذا في السير، وفي تاريخ الإسلام (حوادث 341 - 350، ص.257) وطبقات الشافعية (2/ 81): يخاطب فقيهاً. (¬3) السير (15/ 485).

موقفه من الجهمية:

رواياته لا طريق له إلا حدثنا وأخبرنا، فإنكار حدثنا وأخبرنا إنكار لدين الله، فلهذا أغلظ له هذا الإمام القول ووصفه بوصف الكفر. وإطلاق الكفر على الإنسان فيه تفصيل، فمن جحد أو كذب أو رد أو كره أو ذم أو سب أو شتم وكل ما فيه قدح للإسلام أو النبوة أو الرسالة أو القرآن أو السنة مع العلم وإقامة الحجة فكفر مخرج عن الملة. موقفه من الجهمية: - جاء في الفتح: ومن طريق أبي بكر الصبغي قال: مذهب أهل السنة في قوله {الرحمن على العرش استوى} (¬1) قال بلا كيف والآثار فيه عن السلف كثيرة، وهذه طريقة الشافعي وأحمد بن حنبل. (¬2) - وفيه: وقد أملى أبو بكر الصبغي الفقيه أحد الأئمة من تلامذته ابن خزيمة اعتقاده وفيه لم يزل الله متكلماً ولا مثل لكلامه لأنه نفى المثل عن صفاته كما نفى المثل عن ذاته، ونفى النفاد عن كلامه كما نفى الهلاك عن نفسه، فقال: {لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي} (¬3) وقال: {كل شَيْءٍ هَالِكٌ إِلًّا وَجْهَهُ} (¬4) فاستصوب ذلك ابن خزيمة ورضي به. (¬5) - قال البيهقي: ما جاء في قول الله عز وجل: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ في ¬

(¬1) طه الآية (5). (¬2) الفتح (13/ 407). (¬3) الكهف الآية (109). (¬4) القصص الآية (88). (¬5) الفتح (13/ 492).

موقفه من القدرية:

السَّمَاءِ} (¬1) قال أبو عبد الله الحافظ قال الشيخ أبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب الفقيه قد تضع العرب (في) بموضع (على) قال الله عز وجل: {فسيحوا في الأرض} (¬2) وقال: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ في جذوع النخل} (¬3) ومعناه: على الأرض وعلى النخل، فكذلك قوله {في السَّمَاءِ} أي: على العرش فوق السماء، كما صحت الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قلت: يريد ما مضى من الروايات. (¬4) موقفه من القدرية: له كتاب 'القدر' وهو رد على القدرية. (¬5) أبو محمد عبد الرحمن بن حَمْدَان (¬6) (342 هـ) الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن حمدان بن المرزبان الهمذاني الجلاب، أحد أركان السنة بهمذان. سمع أبا حاتم الرازي، وإبراهيم بن نصر وأبا بكر ابن أبي الدنيا، وهلال بن العلاء وطبقتهم. وعنه صالح بن أحمد وعبد الرحمن ¬

(¬1) الملك الآية (16). (¬2) التوبة الآية (2). (¬3) طه الآية (71). (¬4) الأسماء والصفات للبيهقي (2/ 324). (¬5) السير (15/ 485). (¬6) الإرشاد للخليلي (2/ 658) وسير أعلام النبلاء (15/ 477) وتاريخ الإسلام (حوادث 341 - 350/ص.264) وشذرات الذهب (2/ 362).

موقفه من الجهمية:

الأنماطي، وابن منده والحاكم والقاضي عبد الجبار بن أحمد، وآخرون. قال شيرويه الديلمي: كان صدوقاً قدوة، له أتباع. توفي رحمه الله سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة. موقفه من الجهمية: عن عبد الرحمن بن حمدان قال: كان معي رفيق بطرسوس وهو أبو علي ابن خالويه، وكان معي في البيت، وكان قد أقبل على كتب الصوري والأنطاكي وأصحاب الكلام في الرقة، وكنت أنهاه فلا ينتهي، حتى كان ذات يوم جاءني فقال: أنا تائب. فقلت: أحدث شيء؟ قال: نعم، رأيت في هذه الليلة كأني دخلت البيت الذي نحن فيه، فوجدت رائحة مسك، فجعلت أتتبع الرائحة حتى وجدته يفوح من المحبرة! فقلت: إن الخير في الحديث. (¬1) بكر بن محمد القُشَيْرِي البصري (¬2) (344 هـ) العلامة أبو الفضل، بكر بن محمد بن العلاء القشيري البصري المالكي. ولي القضاء بناحية العراق، وصنف في المذهب كتباً جليلة. وسمع من أبي مسلم الكجي، وحكى عن سهل التستري. وروى عنه الحسن بن رشيق وعبد الله بن محمد بن أسد الأندلسي. قال الفرغاني: كان بكر من كبار الفقهاء المالكيين بمصر، وتقلد أعمالاً للقضاء، وكان راوية للحديث، وأوله ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (1/ 166 - 167/ 307). (¬2) ترتيب المدارك (2/ 11 - 12) والسير (15/ 537 - 538) وتاريخ الإسلام (حوادث 341 - 350/ص.296) والوافي بالوفيات (10/ 217) والديباج المذهب (1/ 313) وحسن المحاضرة (1/ 450).

موقفه من القدرية:

من البصرة، ثم خرج من العراق لأمر اضطره، فنزل مصر قبل الثلاثين والثلاثمائة، وأدرك فيها رياسة عظيمة وكان قد ولي القضاء ببعض نواحي العراق. توفي رحمه الله سنة أربع وأربعين وثلاثمائة وقد جاوز الثمانين، ودفن بالمقطم. موقفه من القدرية: له مؤلف في الرد على القدرية. ذكره الذهبي في السير (¬1) والصفدي في الوافي بالوفيات. (¬2) محمد بن عبد الواحد أبو عمر (¬3) (345 هـ) الإمام محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم البغدادي أبو عمر الزاهد غلام ثعلب اللغوي المشهور. سمع أحمد بن سعيد الجمال، وأحمد بن عبيد الله النرسي والحارث بن أبي أسامة وإبراهيم بن الهيثم البلدي، ولازم ثعلباً فأكثر عنه. وحدث عنه ابن منده، وأبو عبد الله الحاكم، وأبو علي بن شاذان وأبو الحسن بن رزقويه، وجماعة. قال أبو علي التنوخي: من الرواة الذين لم ير قط أحفظ منهم أبو عمر غلام ثعلب، أملى من حفظه ثلاثين ألف ورقة فيما بلغني، حتى اتهموه لسعة حفظه. وقال عبد الواحد بن علي بن برهان: لم ¬

(¬1) السير (15/ 538). (¬2) السير (10/ 217). (¬3) تاريخ بغداد (2/ 356 - 359) وطبقات الحنابلة (2/ 67 - 69) والمنتظم (14/ 103 - 106) وسير أعلام النبلاء (15/ 508 - 513) والعبر (1/ 336) ولسان الميزان (5/ 268 - 269).

موقفه من الرافضة:

يتكلم في اللغة أحد أحسن من كلام أبي عمر الزاهد. وقال الذهبي: كان ثقة، آية في الحفظ والذكاء. وقال ابن كثير: كان كثير العلم والزهد، حافظاً مطيقاً يملي من حفظه شيئاً كثيراً، ضابطاً لما يحفظه. أثنى عليه اليشكري في قصيدته منها: فلو أنني أقسمت ما كنت كاذباً ... بأن لم ير الراؤون حبراً يعادله إذا قلت شارفنا أواخر علمه ... تفجر حتى قلت هذا أوائله توفي رحمه الله سنة خمس وأربعين وثلاثمائة. موقفه من الرافضة: جاء في التذكرة أنه كان له جزء قد جمع فيه فضائل معاوية، وكان لا يترك واحداً منهم يقرأ عليه شيئاً حتى يبتدئ بقراءة ذلك الجزء. (¬1) محمد بن يعقوب بن الأَصَمّ (¬2) (346 هـ) الإمام، المحدث، محمد بن يعقوب بن يوسف بن معقل بن سنان، أبو العباس الأموي النيسابوري الأصم، ولد المحدث أبي الفضل الوراق. ولد سنة سبع وأربعين ومائتين. سمع من أحمد بن الأزهر والربيع بن سليمان وبحر بن نصر ومحمد بن إسحاق الصغاني، ويحيى بن جعفر وعباس الدوري، وغيرهم. وحدث عنه أبو عبد الله الحاكم وأبو عبد الله بن منده، وأبو عبد الرحمن ¬

(¬1) التذكرة (3/ 874) وطبقات الحنابلة (2/ 68). (¬2) الأنساب (1/ 178) وتاريخ دمشق (56/ 287 - 296) وسير أعلام النبلاء (15/ 452 - 460) وتاريخ الإسلام (حوادث 341 - 350/ص.362 - 369) وشذرات الذهب (2/ 373 - 374).

موقفه من الخوارج:

السلمي، والحافظ أبو علي النيسابوري والإمام أبو بكر الإسماعيلي، وآخرون. وقال الحاكم: كان أبو العباس محدث عصره بلا مدافعة، فإنه حدث في الإسلام ستاً وسبعين سنة، ولم يختلف في صدقه وصحة سماعاته، وضبط أبيه يعقوب الوراق لها، وكان مع ذلك يرجع إلى حسن المذهب والدين، يصلي خمس صلوات في الجماعة، وبلغني أنه أذن سبعين سنة في مسجده، وكان حسن الخلق، سخي النفس، لا يبخل بكل ما يقدر عليه. وقال أيضاً: ما رأينا الرحلة في بلد من بلاد الإسلام أكثر منها إليه يعني أبا العباس الأصم، فقد رأيت جماعة من أهل الأندلس والقيروان وبلاد المغرب على بابه. توفي رحمه الله سنة ست وأربعين وثلاثمائة. موقفه من الخوارج: عن أبي العباس محمد بن يعقوب بن الأصم قال: طاف خارجيان بالبيت فقال أحدهما لصاحبه: لا يدخل الجنة من هذا الخلق غيري وغيرك، فقال له صاحبه: جنة عرضها كعرض السماء والأرض بنيت لي ولك؟! فقال: نعم. فقال: هي لك. وترك رأيه. (¬1) عبد المؤمن بن خَلَف النَّسَفِي (¬2) (346 هـ) هو عبد المؤمن بن خلف بن طفيل، الإمام الحافظ القدوة، أبو يعلى ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (7/ 1307/2317). (¬2) تذكرة الحفاظ (3/ 866 - 868) والشذرات (2/ 373) والسير (15/ 480 - 483) والنجوم الزاهرة (3/ 318) وتاريخ الإسلام (حوادث 341 - 350/ص.354 - 355).

موقفه من الجهمية:

التميمي النسفي. سمع من جده الطفيل بن زيد، وأبي حاتم الرازي، وإسحاق ابن إبراهيم الدبري. وحدث عنه عبد الملك بن مروان الميداني، وأحمد بن عمار ابن عصمة، ويعقوب بن إسحاق وغيرهم. قال الذهبي: وكان أثرياً سُنياً، ظاهري المذهب، شديداً على أهل القياس، يتبع كثيراً أحمد بن حنبل وإسحاق ابن راهويه. توفي في جمادى الآخرة سنة ست وأربعين وثلاثمائة بنسف. موقفه من الجهمية: جاء في تذكرة الحفاظ: وبلغنا ولما دخل أبو القاسم الكعبي شيخ المعتزلة نسف أكرموه إلا عبد المؤمن الحافظ فلم يأت إليه قال الكعبي: نحن نأتيه فلما دخل لم يقم الحافظ ولا التفت من محرابه، فكسر الكعبي خجله بأن قال: بالله عليك أيها الشيخ لا تقم. (¬1) ابن الحَجَّام عبد الله بن أبي هاشم (¬2) (346 هـ) الفقيه أبو محمد عبد الله بن أبي هاشم مسرور التجيبي، المعروف بابن الحجام المالكي المغربي. ولد سنة ثلاث وستين ومائتين. سمع عيسى بن مسكين وابن أبي سليمان وأبي عياش وحمديس القطان وغيرهم، وسمع منه أبو محمد بن أبي زيد والقابسي ومحمد بن إدريس وأبو عبد الله الصدفي وغيرهم. ¬

(¬1) تذكرة الحفاظ (3/ 867) والسير (15/ 481). (¬2) رياض النفوس (2/ 422 - 424) ومعالم الإيمان (3/ 57 - 59) وترتيب المدارك (5/ 330 - 333) وتاريخ الإسلام (حوادث 341 - 350/ص.35 - 353) وشجرة النور الزكية (1/ 85) والديباج المذهب (1/ 423 - 424).

موقفه من المبتدعة:

قال أبو عبد الله الخراط: كان أبو محمد ورعاً مسمتاً خاشعاً، رقيق القلب، غزير الدمعة، مهيباً في نفسه، لا يكاد ينطق أحد في مجلسه بغير الصواب، يشبه في أموره كلها يحيى بن عمر وحمديساً القطان، حسن التقييد، صحيح الكتب، وكانت كتبه كلها بخطه، وكان كثير التصنيف في أنواع العلوم، كثير الكتب. قال القابسي: ترك أبو محمد هذا سبعة قناطير كلها بخطه إلا كتابين، فكان لا يحتمل أن يراهما، لأجل أنهما ليسا بخطه. وكان سبب موته أنه اصطلى، فنعس، فالتهبت النار ثيابه واحترق، وذلك سنة ست وأربعين وثلاثمائة، رحمه الله تعالى. موقفه من المبتدعة: جاء في معالم الإيمان: كان عالماً صالحاً ورعاً ذا سمت وخشية غزير الدمعة فاضلاً مجانباً لأهل الهوى والبدع لا يرد السلام عليهم مُهاباً في نفسه لا يكاد أحد ينطق في مجلسه بغير الصواب امتحن في شبيبته على يد محمد بن عمر المرودي ثلاث سنين وأراد قتله فنجاه الله منه وذلك لصرامته في الحق. (¬1) أبو محمد بن عبد البصري المالكي (347 هـ) موقفه من الجهمية: قال أبو محمد في كتابه هذا الذي صنفه في أصول السنة والتوحيد، قال: وكان إجماع السلف والخلف، وأئمة الدين وفقهاء المسلمين، من شرق ¬

(¬1) معالم الإيمان (3/ 57).

أحمد النجاد (348 هـ)

وغرب، وسهل وجبل، وسائر أقاليم الإسلام، من مغرب ومصر وشام وعراق وحجاز ويمن وبحر وخراسان مجتمعين على أن عقيدة السنة أربع عشرة خصلة: سبعة متعلقة بالشهادة، وهي مما يدان بها في الدنيا، وسبعة متعلقة بالغيب وهي مما يؤمن بها من أحكام الآخرة. فالتي في دار الدنيا: القول مع الاعتقاد بأن الإيمان: قول وعمل ونية، والإيمان بالقدر خيره وشره، وأن القرآن غير مخلوق، وتخيير الأربعة على الترتيب، وإثبات الإمامة، وترك الخروج على أحد منهم، والصلاة على من مات من أهل القبلة، وترك المراء والجدل. والمتعلقة بالآخرة: الإيمان بأحكام البرزخ، والآيات التي بين يدي الساعة، والبعث بعد الموت، ورؤية الله تعالى، والإيمان بالحوض والشفاعة والصراط والميزان، وخلود الدارين، فمن خالف شيئاً من هذا فقد خالف اعتقاد السنة والجماعة، وهذا مما لا شبهة فيه بين أصحاب الحديث والفقهاء والعلماء من سائر الأقاليم. (¬1) أحمد النَّجَّاد (¬2) (348 هـ) هو الإمام المحدث الحافظ الفقيه المفتي، أبو بكر أحمد بن سلمان بن الحسن، البغدادي الحنبلي النجاد، شيخ العراق. سمع أبا داود السجستاني، وإسماعيل القاضي ومحمد بن إسماعيل الترمذي وخلقاً كثيراً. وحدث عنه أبو ¬

(¬1) درء التعارض (8/ 503). (¬2) تاريخ بغداد (4/ 189 - 192) وتذكرة الحفاظ (3/ 868 - 869) وميزان الاعتدال (1/ 101) والوافي بالوفيات (6/ 400) والبداية والنهاية (11/ 249) واللسان (1/ 180) وشذرات الذهب (2/ 376) والسير (15/ 502 - 505).

موقفه من الجهمية:

بكر القطيعي والدارقطني وابن منده وعدد كثير. وصنف ديواناً كبيراً في السنن. قال أبو بكر الخطيب: كان النجاد صدوقاً عارفاً، صنف السنن، وكان له بجامع المنصور حلقة قبل الجمعة للفتوى، وحلقة بعد الجمعة للإملاء. مات في ذي الحجة سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة. موقفه من الجهمية: له من الآثار السلفية: 'الرد على من يقول: القرآن مخلوق'؛ وقد حقق رسالة علمية في المرحلة الجامعية للأخ الفاضل رضي الله الهندي وقد طبع الكتاب. أبو أحمد العَسَّال (¬1) (349 هـ) هو محمد بن أحمد بن إبراهيم بن سليمان، القاضي أبو أحمد الأصبهاني الحافظ، المعروف بالعسال. سمع من والده وهو من قدماء شيوخه، وسمع من محمد بن أيوب الرازي وأبي مسلم الكجي، ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة، وأمثالهم. وحدث عنه أولاده، وأبو أحمد بن عبد الله بن عدي وأبو عبد الله بن منده، وأبو بكر بن مردويه، وأبو سعيد النقاش وغيرهم. قال ابن مردويه: كان أبو أحمد العسال المعدل يتولى القضاء خليفة لعبد الرحمن بن أحمد الطبري، هو أحد الأئمة في الحديث، فهماً، وإتقاناً وأمانة. وقال أبو نعيم: أبو أحمد من كبار الناس في المعرفة والإتقان والحفظ، صنف الشيوخ، ¬

(¬1) تاريخ بغداد (1/ 270) والأنساب (8/ 447) وتذكرة الحفاظ (3/ 886 - 889) والبداية والنهاية (11/ 252) والوافي بالوفيات (2/ 41) وشذرات الذهب (2/ 380 - 381) والسير (16/ 6 - 15).

موقفه من الجهمية:

والتفسير، وعامة المسند، ولي القضاء بأصبهان، مقبول القول. صنف: تفسير القرآن، والتاريخ وتاريخ النساء، وكتاب السنة وكتاب الأمثال وكتاب الرؤية وكتاب الرقائق وأشياء كثيرة. توفي في شهر رمضان من سنة تسع وأربعين وثلاثمائة. موقفه من الجهمية: له من الآثار السلفية: 1 - المعرفة: قال فيه الذهبي في العرش (ص.57): من أجل ما صنف في صفات الرب عز وجل، إذا نظر فيه البصير بهذا الشأن علم منزلة مصنفه وجلالته. 2 - السنة: ذكرها الذهبي في السير. (¬1) 3 - الرؤية. (¬2) أحمد بن كامل القاضي (¬3) (350 هـ) الإمام أحمد بن كامل بن خلف بن شجرة، أبو بكر البغدادي القاضي، أحد أصحاب محمد بن جرير الطبري. حدث عن محمد بن سعد العوفي وأبي قلابة الرقاشي، والحسن بن سلام، ومحمد بن مسلمة الواسطي، وطبقتهم. ¬

(¬1) السير (16/ 11). (¬2) السير (16/ 11). (¬3) تاريخ بغداد (4/ 357) وميزان الاعتدال (1/ 120) وسير أعلام النبلاء (15/ 544 - 546) والوافي بالوفيات (7/ 298) ولسان الميزان (1/ 249).

موقفه من الجهمية:

وحدث عنه الدارقطني، وابن رزقويه، وأبو الحسن الحمامي، وأبو العلاء محمد ابن الحسن الوراق. قال الخطيب: كان من العلماء بالأحكام، وعلوم القرآن، والنحو والشعر، وأيام الناس، وتواريخ أصحاب الحديث، وله مصنفات في أكثر ذلك. وقال ابن رزقويه: لم تر عيناي مثله. وقال الذهبي: كان من بحور العلم. توفي رحمه الله سنة خمسين وثلاثمائة، وله تسعون سنة. موقفه من الجهمية: وأخبرنا عبيد الله قال أخبرنا أحمد بن كامل قال حدثني أبو عبد الله الوراق جواز قال: كنت أورق على داود الأصبهاني فكنت عنده يوماً في دهليز مع جماعة من الغرباء فسئل عن القرآن؟ فقال: القرآن الذي قال الله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (¬1) وقال: {في كِتَابٍ مَكْنُونٍ} (¬2) غير مخلوق. وأما ما بين أظهرنا يمسه الجنب والحائض فهو مخلوق. قال القاضي أحمد بن كامل: وهذا مذهب الناشئ وهو كفر بالله العظيم. صح الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه: "نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو" (¬3) فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كتب في الصحف والمصاحف قرآناً. فالقرآن على أي وجه تلي وقرئ فهو واحد وهو غير مخلوق. (¬4) ¬

(¬1) الواقعة الآية (79). (¬2) الواقعة الآية (78). (¬3) أحمد (2/ 7) والبخاري (6/ 164/2990) ومسلم (3/ 1490/1869) وأبو داود (3/ 82/2610) وابن ماجه (2/ 961/2879) من حديث ابن عمر. (¬4) أصول الاعتقاد (2/ 398/613) وتاريخ بغداد (8/ 374 - 375).

أبو بكر الفارسي (350 هـ)

أبو بكر الفارسي (¬1) (350 هـ) أبو بكر أحمد بن الحسين بن سهل الفارسي. أحد أئمة الشافعية أصحاب الوجوه والمصنفات الزاهرة الأنيقة. وهو أول من درس مذهب الشافعي ببلخ. إمام جليل، تفقه على أبي العباس بن سريج. قال النووي: من أئمة أصحابنا وكبارهم ومتقدميهم وأعلامهم. صنف كتاب: 'العيون على مسائل الربيع'، و'الانتقاد على المزني' و'الخلاف' و'الإجماع'. مات في حدود سنة خمسين وثلاثمائة. موقفه من المشركين: قال ابن تيمية: وقد حكى أبو بكر الفارسي من أصحاب الشافعي إجماع المسلمين على أن حد من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - القتل، كما أن حد من سب غيره الجلد. (¬2) موقف السلف من ابن سالم الصوفي (350 هـ) بيان ضلاله: جاء في السير: وله أصحاب يسمون السالمية، هجرهم الناس لألفاظ هجنة أطلقوها وذكروها. (¬3) ¬

(¬1) تهذيب الأسماء واللغات (القسم الأول/2/ 195) وطبقات الفقهاء الشافعيين لابن كثير (1/ 243) وطبقات الشافعية للسبكي (1/ 286) والوافي بالوفيات (6/ 335) وتاريخ الإسلام (حوادث 341 - 350/ص.456). (¬2) الصارم (9). (¬3) السير (16/ 273).

الوزير أبو محمد المهلبي (352 هـ)

الوزير أبو محمد المُهَلَّبِي (¬1) (352 هـ) أبو محمد الحسن بن محمد الأزدي، من ولد المهلب بن أبي صفرة، الوزير المهلبي، استوزره معز الدولة أبو الحسين أحمد بن بويه، مكث وزيراً له ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر. وكان كريماً فاضلاً، ذا عقل ومروءة، من رجال الدهر حزماً وعزماً، وكان مع ذلك أديباً وشاعراً، كامل السؤدد، مقرباً للعلماء، قال هلال بن المحسن: كان المهلبي نهاية في سعة الصدر، وبعد الهمة، وكمال المروءة، والإقبال على أهل الأدب، وله نظم مليح، وكان يملأ العيون منظره، والمسامع منطقه، والصدور هيبته، وتقبل النفوس تفصيله وجملته. توفي من علة اشتدت به وهو عائد إلى بغداد، في شعبان سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة. موقفه من المشركين: جاء في البداية والنهاية: رفع إلى الوزير أبي محمد المهلبي رجل من أصحاب أبي جعفر بن أبي العزاقر (¬2) الذي كان قتل على الزندقة كما قتل الحلاج. فكان هذا الرجل يدعي ما كان يدعيه ابن أبي العز وقد اتبعه جماعة من الجهلة من أهل بغداد وصدقوه في دعواه الربوبية وأن أرواح الأنبياء والصديقين تنتقل إليهم ووجد في منزله كتب تدل على ذلك، فلما تحقق أنه هالك ادعى أنه شيعي ليحضر عند معز الدولة بن بويه وقد كان معز الدولة ¬

(¬1) السير (16/ 197 - 198) والبداية والنهاية (11/ 257) والكامل في التاريخ (8/ 546 - 547) والمنتظم (14/ 142 - 143) والعبر (1/ 346) وشذرات الذهب (3/ 9 - 10). (¬2) في الأصل: أبي جعفر بن أبي العز. وانظر الكامل (8/ 495).

موقف السلف من ابن أبي دارم الرافضي (352 هـ)

ابن بويه يحب الرافضة قبحه الله، فلما اشتهر عنه ذلك لم يتمكن الوزير منه خوفاً على نفسه من معز الدولة وأن تقوم عليه الشيعة، إنا لله وإنا إليه راجعون. ولكنه احتاط على شيء من أموالهم فكان يسميها أموال الزنادقة. (¬1) موقف السلف من ابن أبي دارم الرافضي (352 هـ) بيان رفضه: - جاء في السير: كان موصوفاً بالحفظ والمعرفة إلا أنه يترفض، قد ألف في الحط على بعض الصحابة، وهو مع ذلك ليس بثقة في النقل. (¬2) - وفيها: قال محمد بن حماد الحافظ، كان مستقيم الأمر عامة دهره، ثم في آخر أيامه كان أكثر ما يقرأ عليه المثالب، حضرته ورجل يقرأ عليه أن عمر رفس فاطمة حتى أسقطت محسناً. وفي خبر آخر قوله تعالى: {وَجَاءَ فرعون}: عمر، {وَمَنْ قبله}: أبو بكر، {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ}: عائشة، وحفصة. فوافقته، وتركت حديثه. قلت -أي الذهبي-: شيخ ضال معثر. (¬3) ¬

(¬1) البداية والنهاية (11/ 238 - 239). (¬2) السير (15/ 577). (¬3) السير (15/ 578).

موقف السلف من ابن الداعي الشيعي (353 هـ)

موقف السلف من ابن الداعي الشيعي (353 هـ) بيان تشيعه: - جاء في السير: برع في الرأي على الإمام أبي الحسن الكرخي، وأخذ علم الكلام عن حسين بن علي البصري، وأفتى ودرس، وولي نقابة الطالبيين في دولة بني بويه، فعدل وحمد، وكان معز الدولة يبالغ في تعظيمه، وتقبيل يده، لعبادته وهيبته، وكان فيه تشيع بلا غلوّ. (¬1) - وفيها: قال أبو علي التنوخي: حدثنا أبو الحسن بن الأزرق، قال: كنت بحضرة الإمام أبي عبد الله بن الداعي، فسأله أبو الحسن المعتزلي عما يقوله في طلحة والزبير؟ فقال: أعتقد أنهما من أهل الجنة، قال: ما الحجة؟ قال: قد رويت توبتهما، والذي هو عمدتي أن الله بشرهما بالجنة، قال: فما تنكر على من زعم أنه عليه السلام قال: إنهما من أهل الجنة ومقالته: فلو ماتا لكانا في الجنة، فلما أحدثا زال ذلك، قال: هذا لا يلزم، وذلك أن نقل المسلمين أن بشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - سبقت لهما، فوجب أن تكون موافاتهما القيامة على عمل يوجب لهما الجنة، وإلا لم يكن ذلك بشارة، فدعا له المعتزلي واستحسن ذلك، ثم قال: ومحال أن يعتقد هذا فيهما، ولا يعتقد مثله في أبي بكر وعمر، إذ البشارة للعشرة. (¬2) - ثم قال أبو علي التنوخي: رأيت في مجلس أبي عبد الله وقد جاءه ¬

(¬1) السير (16/ 115). (¬2) السير (16/ 115).

رجل بفتوى فيمن حلف فطلق امرأته ثلاثاً معاً، فقال له: تريد أن أفتيك بما عندي وعند أهل البيت أو بما يحكيه غيرنا عن أهل البيت؟ فقال: أريد الجميع، قال: أما عندي وعندهم فقد بانت، ولا تحل لك حتى تنكح زوجاً غيرك. (¬1) - ثم قال التنوخي: ولم يزل أبو عبد الله ببغداد، وبايعه جماعة على الإمامة، فلم يقدر على الخروج، فلما كان في سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة سار معز الدولة إلى الموصل لحرب ابن حمدان، فوجد أبو عبد الله فرصة، فركب يوماً إلى عز الدولة، فخوطب في مجلسه بسبب خلاف بين شريفين خطاباً ظاهراً استقصاء لفعله، فتألم وخرج مغضباً، ثم أصلح أمره، ورتب قوماً بخيل خارج بغداد، وأظهر أنه عليل، وحجب عنه الناس، ثم تسحب خفية بابنه الكبير وعليه جبة صوف، وفي صدره مصحف وسيف، فلحق بهوسم من بلاد الديلم، فأطاعته الديلم، وكان أعجمي اللسان، وأمه منهم وتلقب بالمهدي، وكانت أعلامه من حرير أبيض، فيها: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأذنابها خضر، فأقام العدل وتقشف، وقنع بالقوت، وقيل: إنه قال لقواده: أنا على ما ترون، فمتى غيرت أو ادخرت درهماً، فأنتم في حل من بيعتي، وكان يعظ ويعلمهم، ويحث على الجهاد، ويكتب إلى الأطراف ليبايعوه، وكاتب ركن الدولة، ومعز الدولة في ذلك، فأجابه ركن الدولة بالإمامة، واعتذر من ترك نصرته، ولم يتلقب بإمرة المؤمنين، بل بالإمام المهدي. ¬

(¬1) السير (16/ 115 - 116).

مسلمة بن القاسم (353 هـ)

قال الذهبي: كان يمتنع من الترحم على معاوية رضي الله عنه، ولا يشتم الصحابة. (¬1) مَسْلَمَة بن القاسم (¬2) (353 هـ) مسلمة بن القاسم بن إبراهيم، أبو القاسم الأندلسي القرطبي. سمع محمد بن عمر بن لبابة، وأحمد بن موسى التمار، وأبا جعفر الطحاوي، وأبا بكر بن زياد وصالح بن الحافظ أحمد بن عبد الله العجلي وغيرهم. قال ابن الفرضي: انصرف إلى الأندلس وقد جمع حديثاً كثيراً، وكف بصره بعد قدومه من المشرق وسمع الناس منه كثيراً، وسمعت من ينسبه إلى الكذب. وقال ابن حزم: كان أحد المكثرين من الرواية والحديث. قال ابن الفرضي: قال لي محمد بن يحيى بن مفرج: لم يكن كذاباً. وكان ضعيف العقل، وحفظ عليه كلام سوء في التشبيه. وقال الحافظ ابن حجر متعقباً: هذا رجل كبير القدر ما نسبه إلى التشبيه إلا من عاداه، وله تصانيف في الفن وكانت له رحلة لقي فيها الأكابر. توفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، وهو ابن ستين سنة. موقفه من الجهمية: قال رحمه الله: كلام الله عز وجل منزل مفروق ليس بخالق ولا مخلوق، ¬

(¬1) السير (16/ 116). (¬2) تاريخ علماء الأندلس (2/ 128 - 130) وميزان الاعتدال (4/ 112) وسير أعلام النبلاء (16/ 110) ولسان الميزان (6/ 35 - 36) وتاريخ الإسلام (حوادث 351 - 380/ص: 98).

موقف السلف من المتنبي (354 هـ)

لا تدخل فيه ألفاظنا وإن تلاوتنا له غير مخلوقة لأن التلاوة هي القرآن بعينه، فمن زعم أن التلاوة مخلوقة فقد زعم القرآن مخلوق، ومن زعم أن القرآن مخلوق، فقد زعم أن علم الله مخلوق، ومن زعم أن علم الله مخلوق فهو كافر. (¬1) موقف السلف من المتنبي (354 هـ) بيان ادعائه: قال ابن كثير: وقد كان المتنبي جعفي النسب صليبة منهم، وقد ادعى حين كان مع بني كلب بأرض السماوة قريباً من حمص أنه علوي، ثم ادعى أنه نبي يوحى إليه، فاتبعه جماعة من جهلتهم وسفلتهم، وزعم أنه أنزل عليه قرآن فمن ذلك قوله: "والنجم السيار، والفلك الدوار، والليل والنهار، إن الكافر لفي خسار، امض على سنتك واقف أثر من كان قبلك من المرسلين، فإن الله قامع بك من ألحد في دينه، وضل عن سبيله" وهذا من خذلانه وكثرة هذيانه وفشاره، ولو لزم قافية مدحه النافق بالنفاق، والهجاء بالكذب والشقاق، لكان أشعر الشعراء، وأفصح الفصحاء. ولكن أراد بجهله وقلة عقله أن يقول ما يشبه كلام رب العالمين الذي لو اجتمعت الجن والإنس والخلائق أجمعون على أن يأتوا بسورة مثل سورة من أقصر سوره لما ¬

(¬1) رياض الجنة بتخريج أصول السنة لابن أبي زمنين (86 - 87).

منذر بن سعيد البلوطي (355 هـ)

استطاعوا. ولما اشتهر خبره بأرض السماوة وأنه قد التف عليه جماعة من أهل الغباوة، خرج إليه نائب حمص من جهة بني الأخشيد وهو الأمير لؤلؤ بيض الله وجهه، فقاتله وشرد شمله، وأسر مذموماً مدحوراً، وسجن دهراً طويلاً، فمرض في السجن وأشرف على التلف، فاستحضره واستتابه وكتب عليه كتاباً اعترف فيه ببطلان ما ادعاه من النبوة، وأنه قد تاب من ذلك ورجع إلى دين الإسلام، فأطلق الأمير سراحه فكان بعد ذلك إذا ذكر له هذا يجحده إن أمكنه وإلا اعتذر منه واستحيى، وقد اشتهر بلفظة تدل على كذبه فيما كان ادعاه من الإفك والبهتان، وهي لفظة المتنبي، الدالة على الكذب ولله الحمد والمنة. (¬1) منذر بن سعيد البَلُّوطي (¬2) (355 هـ) منذر بن سعيد بن عبد الله بن عبد الرحمن، أبو الحكم البلوطي الكُزْنِي، قاضي القضاة بقرطبة. سمع من عبيد الله بن يحيى الليثي وأبي المنذر وابن النحاس. وكان يميل إلى رأي داود الظاهري ويحتج له، وولي القضاء في الثغور الشرقية، ثم قضاء الجماعة بقرطبة. قال ابن بشكوال: منذر بن سعيد خطيب بليغ مصقع، لم يكن بالأندلس أخطب منه، مع العلم البارع والمعرفة الكاملة واليقين في العلوم والدين والورع وكثرة الصيام والتهجد والصدع ¬

(¬1) البداية (11/ 273 - 274). (¬2) طبقات النحويين واللغويين (295 - 296) وتاريخ علماء الأندلس (2/ 144 - 145) وسير أعلام النبلاء (16/ 173 - 178) ونفح الطيب (1/ 372 - 376) وشذرات الذهب (3/ 17).

موقفه من القدرية:

بالحق، كان لا تأخذه في الله لومة لائم. وقال الزبيدي: كان ذا علم بالقرآن، حافظاً لما قالت العلماء في تفسيره وأحكامه ووجوهه في حلاله وحرامه كثير التلاوة له، حاضر الشاهد بآياته. وجاء في النفح: وله كتب مؤلفة في القرآن والسنة والورع، والرد على أهل الأهواء والبدع. ومن جميل أفعاله: أنه خطب يوماً فأعجبته نفسه، فقال: حتى متى أعظ ولا أتعظ، وأزجر ولا أزدجر، أدل على الطريق المستدلين، وأبقى مع الحائرين، كلا إن هذا لهو البلاء المبين. توفي رحمه الله سنة خمس وخمسين وثلاثمائة، وله اثنتان وثمانون سنة. موقفه من القدرية: جاء في السير: وقال ابن عبد البر: حدثت أن رجلاً وجد القاضي منذر ابن سعيد في بعض الأسحار على دكان المسجد، فعرفه، فجلس إليه، وقال: يا سيدي إنك لتغرر بخروجك، وأنت أعظم الحكام، وفي الناس المحكوم عليه والرقيق الدين، فقال: يا أخي وأنى لي بمثل هذه المنزلة؟ وأنى لي بالشهادة، ما أخرج تعرضاً للتغرر، بل أخرج متوكلاً على الله إذ أنا في ذمته. فأعلم أن قدره لا محيد عنه، ولا وزر دونه. (¬1) ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (16/ 175 - 176).

ابن شعبان (355 هـ)

ابن شَعْبَان (¬1) (355 هـ) اسمه محمد بن القاسم بن شعبان، أبو إسحاق العماري، المصري، من ولد عمار بن ياسر، يعرف بابن القرطي نسبة إلى بيع القرط. روى عنه محمد ابن أحمد الخلاص وخلف بن القاسم، وعبد الرحمن بن يحيى العطار. قال الذهبي: كان صاحب سنة واتباع وباع مديد في الفقه مع بصر بالأخبار وأيام الناس مع الورع والتقوى وسعة الرواية. قال ابن حجر: وكان سلفي المذهب. توفي سنة خمس وخمسين وثلاثمائة. موقفه من الجهمية: كما قدمنا غير ما مرة، أن دعاة العقيدة السلفية كانوا ينتهزون جميع الفرص لنشر هذه العقيدة المباركة، فكان هذا الإمام منهم، قال الذهبي في السير: وكان صاحب سنة واتباع وباع مديد في الفقه، مع بصر بالأخبار وأيام الناس، مع الورع والتقوى وسعة الرواية. رأيت له تأليفاً في تسمية الرواة عن مالك، أوله: الحمد لله الحميد، ذي الرشد والتسديد، والحمد لله أحق ما بدي، وأولى من شكر الواحد الصمد، جل عن المثل فلا شبه له ولا عدل، عال على عرشه، فهو دان بعلمه، وذكر باقي الخطبة، ولم يكن له عمل طائل في الرواية. (¬2) ¬

(¬1) الأنساب (4/ 474) والسير (16/ 78 - 79) وترتيب المدارك (2/ 13 - 14) وميزان الاعتدال (4/ 14) واللسان (5/ 348 - 349). (¬2) السير (16/ 79).

موقف السلف من ابن الجعابي (355 هـ)

موقف السلف من ابن الجعابي (355 هـ) بيان رفضه: - جاء في السير: قال أبو عبد الرحمن السلمي: سألت الدارقطني عن ابن الجعابي، فقال: خلط، وذكر مذهبه في التشيع، وكذا نقل أبو عبد الله الحاكم، عن الدارقطني قال: وحدثني ثقة أنه خلى ابن الجعابي نائماً وكتب على رجله، قال: فكنت أراه ثلاثة أيام لم يمسه الماء. (¬1) - وفيها: وقال محمد بن عبيد الله المسبحي: كان ابن الجعابي المحدث قد صحب قوماً من المتكلمين، فسقط عند كثير من أصحاب الحديث. وصل إلى مصر، ودخل إلى الإخشيد، ثم مضى إلى دمشق، فوقفوا على مذهبه، فشردوه، فخرج هارباً. (¬2) أبو نصر القاضي (¬3) (356 هـ) يوسف بن عمر بن أبي عمر محمد المالكي ثم الداوودي البغدادي. ولد سنة خمس وثلاثمائة. ولي بعد أبيه وكان من أجود القضاة، ورعاً حاذقاً بالأحكام، متفنناً بارع الأدب. وقال طلحة بن محمد بن جعفر: ما زال أبو نصر منذ نشأ فتىً نبيلاً نظيفاً جميلاً عفيفاً، متوسطاً في علمه بالفقه حاذقاً ¬

(¬1) السير (16/ 90). (¬2) السير (16/ 91 - 92). (¬3) تاريخ بغداد (14/ 322 - 324) وترتيب المدارك (2/ 6 - 7) والسير (16/ 77 - 78) والمنتظم (14/ 187 - 188).

موقفه من المبتدعة:

بصناعة القضاء، بارعاً في الأدب والكتابة حسن الفصاحة واسع العلم باللغة والشعر، تام الهيئة. توفي سنة ست وخمسين وثلاثمائة. موقفه من المبتدعة: جاء في السير: وهو القائل في رسالة: ولسنا نجعل من تصديره في كتبه ومسائله: يقول ابن المسيب والزهري وربيعة كمن تصديره في كتبه: يقول الله ورسوله والإجماع .. هيهات! (¬1) محمد بن أحمد بن حَمْدان (¬2) (356 هـ) محمد بن أحمد بن حمدان الحافظ أبو العباس الحيري النيسابوري الخوارزمي. ولد سنة ثلاث وسبعين ومائتين. سمع محمد بن أيوب الرازي، ومحمد بن إبراهيم البوشنجي، ومحمد بن عمرو قشمرد. روى عنه أبو بكر البرقاني، وأحمد بن محمد بن عيسى، ومحمد بن إبراهيم بن قطن. وكان حافظاً للقرآن، عارفاً بالحديث والتاريخ والرجال والفقه، كافاً عن الفتوى. وكان مؤتمناً عند الأمراء والكبراء، وكان ورعاً في معاملاته، كبير القدر، جعل ناظراً للجامع فعمره. توفي سنة ست وخمسين وثلاثمائة. موقفه من المبتدعة: جاء في السير: وكان إذا صحّ عنده حديث عمل به ولم يلتفت إلى مذهب. (¬3) ¬

(¬1) السير (16/ 77). (¬2) السير (16/ 193 - 196) وشذرات الذهب (3/ 38). (¬3) السير (16/ 195).

معز الدولة (356 هـ)

معز الدولة (¬1) (356 هـ) السلطان، أبو الحسين أحمد بن أبي شجاع بويه، الديلمي الفارسي. دخل بغداد سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة فتملكها، ثم دانت له العراق وكانت مدة ملكه العراق اثنتين وعشرين سنة. توفي سنة ست وخمسين وثلاثمائة. موقفه من الرافضة: - جاء في السير أنه كان يتشيع، فقيل: تاب في مرضه، وترضى عن الصحابة، وتصدق، وأعتق، وأراق الخمور، وندم على ما ظلم، ورد المواريث إلى ذوي الأرحام. (¬2) - قال ابن كثير: أظهر الرفض، فلما أحس بالموت أظهر التوبة وأناب إلى الله عز وجل، ورد كثيراً من المظالم، وتصدق بكثير من ماله، وأعتق طائفة كثيرة من مماليكه، وأراق الخمور، وندم على ما ظلم. وقد اجتمع ببعض العلماء فكلمه في السنة وأخبره أن عليّاً زوج ابنته أم كلثوم من عمر ابن الخطاب فقال: "والله ما سمعت بهذا قط"، ورجع إلى السنة ومتابعتها. (¬3) حامد بن محمد الرَّفَّاء (¬4) (356 هـ) الشيخ الإمام أبو عليّ، حامد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن معاذ ¬

(¬1) السير (16/ 189) ووفيات الأعيان (1/ 174) والبداية والنهاية (11/ 279). (¬2) السير (16/ 190). (¬3) البداية والنهاية (11/ 279) بتصرف يسير. (¬4) تاريخ بغداد (8/ 172 - 174) والمنتظم (14/ 184) وسير أعلام النبلاء (16/ 16 - 17) وتاريخ الإسلام (حوادث 351 - 380/ص.140 - 141) وشذرات الذهب (3/ 19).

موقفه من المبتدعة:

الهروي الرفاء. سمع من الفضل بن عبد الله اليشكري وعثمان بن سعيد الدارمي وإبراهيم الحربي وعلي بن عبد العزيز البغوي وخلق كثير. وحدث عنه الحاكم وأبو علي بن شاذان وسعيد بن عثمان بن عمار وأبو عثمان سعيد بن العباس القرشي وآخرون. وثقه الخطيب وابن الجوزي وغيرهما، وقال الحافظ أبو بشر الهروي: ثقة صالح. قال الذهبي: واشتهر اسمه، وانتشر حديثه، وكان ذا معرفة وفهم وسعة علم، وغيره أحفظ منه وأحذق بالفن. وانتهى إليه علو الإسناد بهراة. توفي رحمه الله بهراة في شهر رمضان سنة ست وخمسين وثلاثمائة. موقفه من المبتدعة: قال يحيى بن عمار: كان حامد بن محمد الرفاء يحرج على أهل الرأي أن يرووا عنه، ولا يأذن لهم في داره ليسمعوا منه، فأتاه إنسان من رؤساء بلخ، فألحوا عليه، فأذن له، فلما أذن له، دخل عليه لم يرفع به رأساً، وقال: من أين أنت؟ قال: من بلخ، قال: دار المرجئة! ثم قال لي الرفاء خذ من رد الحميدي، فقرأت له عليه منه شيئاً كثيراً. (¬1) إبراهيم السبائي (¬2) (356 هـ) أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد السبائي. مولده سنة سبعين ومئتين. صحب أبا جعفر أحمد بن نصر، وأبا البشر مطر بن يسار، وأبا جعفر ¬

(¬1) ذم الكلام (4/ 401 - 402/ 1290) تحقيق الأنصاري. (¬2) ترتيب المدارك (2/ 66) والديباج المذهب (1/ 262) وشجرة النور الزكية (1/ 94).

موقفه من المبتدعة:

القصري، وغيرهم من أهل العلم. وأخذ عنهم علماً كثيراً. وكان العلماء يتذاكرون بحضرته وبمجلسه، كأبي محمد بن أبي زيد وهو الملقي عليهم، وأبي القاسم بن شبلون، والقابسي، وغيرهم. فإذا تنازعوا فصل ما بينهم، فيرجعون إليه، ويستشيرونه في جميع أمورهم. قال المالكي: كان رجلاً صالحاً فاضلاً مشهوراً بالعبادة والاجتهاد كثير الورع وقافاً عن الشبهات ... مجافياً لأهل البدع، شديد الغلظة عليهم، قليل المداراة لهم. وقال ابن سعدون: ... كان مما شغل به نفسه، ذكر فضل الصحابة والثناء عليهم، لانتشار أمر المشارقة، فما كان أحد يذكر الصحابة إلا في داره. توفي الشيخ أبو إسحاق رحمه الله تعالى لثمان بقين من رجب سنة ست وخمسين وثلاثمائة. موقفه من المبتدعة: جاء في معالم الإيمان: كان مبايناً لأهل البدع شديد الغلظة عليهم قليل المداراة لهم. (¬1) موقفه من الرافضة: - جاء في المعالم: وكان رحمه الله تعالى شديد العداوة لبني عبيد مجاهراً لهم بالسب والتكفير وسكناه بخارج باب الريح ليس بينه وبين الفحص إلا نصف طوبة وقصب ويبلغ بني عبيد عنه ذلك فلا يقدرون له على شيء وكان ممن خرج عليهم بالوادي المالح وعصمه الله منهم. (¬2) - وفيه: وذكره معد يوماً فقال: أعد لنا السلاح وتربص بنا الدوائر ¬

(¬1) معالم الإيمان (3/ 63). (¬2) المعالم (3/ 71).

حمزة بن محمد بن علي (357 هـ)

وكفرنا وشتمنا، وعلم الناس الجرأة علينا، حتى تناكر الكبير والصغير. (¬1) حمزة بن محمد بن علي (¬2) (357 هـ) أبو القاسم حمزة بن محمد بن علي الكِنَانِي الإمام الحافظ، محدث الديار المصرية. ولد سنة خمس وسبعين ومائتين. سمع عمران بن موسى الطيب، ومحمد بن سعيد السراج، وأبا عبد الرحمن النسائي. وحدث عنه الدارقطني، وابن منده، وتمام بن محمد الرازي. وقد أثنى عليه غير واحد من أهل العلم. قال الذهبي: وكان متقناً مجوداً، ذا تأله وتعبد. وقال أبو عبد الله الحاكم: حمزة المصري هو على تقدمه في معرفة الحديث؛ أحد من يذكر بالزهد والورع والعبادة. وقال الصوري: كان حمزة حافظاً ثبتاً. توفي سنة سبع وخمسين وثلاثمائة. موقفه من الرافضة: روى الذهبي في السير بسنده إلى علي بن عمر الحراني، سمعت حمزة بن محمد الحافظ وجاءه غريب فقال: إن عسكر أبي تميم -يعني المغاربة- قد وصلوا إلى الإسكندرية، فقال: اللهم لا تحيني حتى تريني الرايات الصفر. فمات حمزة، ودخل عسكرهم بعد موته بثلاثة أيام. قال الذهبي: هؤلاء عسكر المعز العبيدي الإسماعيلية، تملكوا مصر في هذا الوقت، وبنوا في الحال مدينة القاهرة المعزية، فأماتوا السنة، وأظهروا ¬

(¬1) المعالم (3/ 73). (¬2) السير (16/ 179 - 181) والنجوم الزاهرة (4/ 20) وشذرات الذهب (3/ 23).

محارب المحاربي (359 هـ)

الرفض، ودامت دولتهم أزيد من مائتي عام، حتى أبادهم السلطان صلاح الدين، ونسبهم إلى علي رضي الله عنه غير صحيح. (¬1) محارب المُحَارِبِي (¬2) (359 هـ) محارب بن محمد بن محارب أبو العلاء القاضي الشافعي المحاربي السدوسي من ولد محارب بن دثار من أهل بغداد. حدث عن جعفر بن محمد ابن الحسن الفريابي وعلي بن إسحاق بن زاطيا وأحمد بن الحسن بن عبد الجبار. روى عنه عبد الله بن محمد بن إسحاق بن أبي سعد الجواربي. وكان ثقة عالماً. له مصنف في الرد على المخالفين من القدرية والجهمية والرافضة. توفي سنة تسع وخمسين وثلاثمائة. موقفه من المبتدعة: له كتاب: 'الرد على المخالفين من القدرية والجهمية والرافضة'. (¬3) محمد بن أحمد الفارسي (¬4) (359 هـ) محمد بن أحمد بن محمد الفارسي يكنى أبا عبد الله ويعرف بابن الخراز. سمع من أحمد بن زياد وأحمد بن محمد القصري وعلي بن عبد الله بن أبي ¬

(¬1) السير (16/ 180 - 181). (¬2) الأنساب (5/ 207) والبداية والنهاية (11/ 286) والمنتظم (14/ 204). (¬3) الأنساب (5/ 207). (¬4) تاريخ ابن الفرضي (2/ 114).

موقفه من المبتدعة:

مطر. روى عنه إسماعيل بن إسحاق وعبيد الله بن الوليد وسليمان بن عبد الرحمن. كان خيراً فاضلاً متمسكاً بالسنة شديد الإنكار على أهل البدع صلباً وامتحن في ذلك. توفي سنة تسع وخمسين وثلاثمائة. موقفه من المبتدعة: جاء في تاريخ ابن الفرضي: وكان خيراً فاضلاً متمسكاً بالسنة شديد الإنكار على أهل البدع صلباً، وامتحن في ذلك. (¬1) أبو بكر الآجُرِّي (¬2) (360 هـ) أبو بكر الآجري محمد بن الحسين بن عبد الله البغدادي الآجري الإمام المحدث القدوة شيخ الحرم الشريف. مصنف كتاب 'الشريعة' سمع أبا مسلم الكجي وجعفر بن محمد الفريابي ومحمد بن صالح العكبري وغيرهم. حدث عنه عبد الرحمن بن عمر بن النحاس. والمقرئ أبو الحسن الحمامي وأبو نعيم الحافظ. وكان صدوقاً خيراً عابداً صاحب سنة واتباع. قال الخطيب: كان ديناً ثقة. وقال السيوطي: كان عالماً عاملاً، صاحب سنة، ديناً، ثقة. وثناء الأئمة عليه أكثر. توفي سنة ستين وثلاثمائة. ¬

(¬1) تاريخ ابن الفرضي (2/ 112). (¬2) تاريخ بغداد (2/ 243) والأنساب (1/ 59) والسير (16/ 133 - 136) والمنتظم (14/ 208) ووفيات الأعيان (4/ 292 - 293) والوافي بالوفيات (2/ 373 - 374) وتذكرة الحفاظ (3/ 936) والبداية والنهاية (11/ 288) وطبقات الحفاظ (379) وشذرات الذهب (3/ 35).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: آثار الشيخ السلفية: 1 - كتاب الشريعة: وهو من أعظم المصادر السلفية التي غاظت المبتدعة، فذكروه في كتبهم بأوصاف قبيحة كلها كذب وتدليس وغش، والبادي بذلك الجويني، وتبعه الأشاعرة بعده، كما فعل ذلك القرطبي في الأسنى، وقد رددت عليه وبينت بطلان تأويلاته لصفات الله عز وجل في كتابي: 'المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات'. (¬1) هذا، وقد لقي كتاب 'الشريعة' عناية فائقة؛ فحقق تحقيقات عدة ولله الحمد والمنة. وهو كتاب عظيم فيه علوم نافعة اغتاظ به منافقو الجهمية وأذنابهم. 2 - التصديق بالنظر إلى الله تعالى في الآخرة، وقد حقق رسالة علمية بالجامعة الإسلامية. - قال محمد بن الحسين رحمه الله: باب ذكر الأمر بلزوم الجماعة والنهي عن الفرقة، بل الاتباع وترك الابتداع: إن الله عز وجل بمنه وفضله أخبرنا في كتابه عمن تقدم من أهل الكتابين اليهود والنصارى، أنهم إنما هلكوا لما افترقوا في دينهم وأعلمنا مولانا الكريم، أن الذي حملهم على الفرقة عن الجماعة، والميل إلى الباطل، الذي نهوا عنه إنما هو البغي والحسد بعد أن علموا ما لم يعلم غيرهم، فحملهم شدة البغي والحسد إلى أن صاروا فرقاً فهلكوا، فحذرنا مولانا الكريم أن نكون مثلهم فنهلك كما هلكوا بل أمرنا ¬

(¬1) (4/ 1574 - 1796).

عز وجل بلزوم الجماعة، ونهانا عن الفرقة، وكذلك حذرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفرقة وأمرنا بالجماعة، وكذلك حذرنا أئمتنا ممن سلف من علماء المسلمين، كلهم يأمرون بلزوم الجماعة، وينهون عن الفرقة. فإن قال قائل: فاذكر لنا ذلك لنحذر ما تقوله. والله الموفق لنا إلى سبيل الرشاد. قيل له: سأذكر من ذلك ما حضرني ذكره مبلغ علمي، الذي علمني الله عز وجل، نصيحة لإخواني من أهل القرآن، وأهل الحديث، وأهل الفقه، وغيرهم من سائر المسلمين. والله الموفق لما قصدت له، والمعين عليه، إن شاء الله. قال الله تعالى في سورة البقرة: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬1) وقال عز وجل: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ ¬

(¬1) البقرة الآية (213).

وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} (¬1) وقال تعالى في سورة آل عمران: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (¬2) وقال تعالى في سورة الأنعام: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (¬3) وقال تعالى في سورة يونس: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (¬4) وقال تعالى في سورة حم عسق: {مَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ ¬

(¬1) البقرة الآية (253). (¬2) آل عمران الآية (19). (¬3) الأنعام الآية (159). (¬4) يونس الآية (93) ..

مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} (¬1) وقال تعالى في سورة (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب) قوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (¬2). قال محمد بن الحسين رحمه الله: فأعلمنا مولانا الكريم أنهم أوتوا علماً، فبغى بعضهم على بعض، وحسد بعضهم بعضاً، حتى أخرجهم ذلك إلى أن تفرقوا فهلكوا. فإن قال قائل: فأين المواضع من القرآن التي فيها نهانا الله تعالى أن نكون مثلهم، حتى نحذر ما حذرنا مولانا الكريم من الفرقة، بل نلزم الجماعة؟ قيل له: قال الله تعالى في سورة آل عمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ ¬

(¬1) الشورى الآية (14). (¬2) البينة الآيتان (4و5).

النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬1) وقال تعالى في سورة الأنعام: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬2) وقال تعالى في سورة الروم: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (¬3) وقال تعالى في سورة حم عسق: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ ¬

(¬1) آل عمران الآيات (102 - 105). (¬2) الأنعام الآية (153). (¬3) الروم الآيات (30 - 32).

أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} (¬1). قال محمد بن الحسين رحمه الله: فهل يكون من البيان أشفى من هذا عند من عقل عن الله تعالى، وتدبر ما به حذره مولاه الكريم من الفرقة؟ ثم اعلموا رحمنا الله تعالى وإياكم: أن الله تعالى قد أعلمنا وإياكم في كتابه، أنه لا بد من أن يكون الاختلاف بين خلقه، ليضل من يشاء، ويهدي من يشاء، جعل الله عز وجل ذلك موعظة يتذكر بها المؤمنون، فيحذرون الفرقة، ويلزمون الجماعة، ويدعون المراء والخصومات في الدين، ويتبعون ولا يبتدعون. فإن قال قائل: أين هذا من كتاب الله تعالى؟ قيل له: قال الله تعالى في سورة هود: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (¬2) ثم إن الله تعالى أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يتبع ما أنزله إليه، ولا يتبع أهواء من تقدم من الأمم فيما اختلفوا فيه. ففعل - صلى الله عليه وسلم -، وحذر أمته الاختلاف والإعجاب، واتباع الهوى. قال الله تعالى في سورة حم الجاثية: ¬

(¬1) الشورى الآية (13). (¬2) هود الآيات (118 - 120).

{وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (¬1).اهـ (¬2) - وقال محمد بن الحسين: علامة من أراد الله به خيراً: سلوك هذا الطريق: كتاب الله، وسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسنن أصحابه رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان، وما كان عليه أئمة المسلمين في كل بلد إلى آخر ما كان من العلماء، مثل الأوزاعي، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، والشافعي، وأحمد بن حنبل، والقاسم بن سلام، ومن كان على مثل طريقتهم، ومجانبة كل مذهب يذمه هؤلاء العلماء. (¬3) ¬

(¬1) الجاثية الآيات (16 - 20). (¬2) الشريعة (1/ 113 - 116). (¬3) الشريعة (1/ 124).

- وقال رحمه الله: باب ذكر افتراق الأمم في دينهم وعلى كم تفترق هذه الأمة: أخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أمة موسى عليه السلام: "أنهم اختلفوا على إحدى وسبعين ملة، كلها في النار إلا واحدة". وأخبرنا عن أمة عيسى عليه السلام: "أنهم اختلفوا عليه على اثنتين وسبعين ملة، إحدى وسبعون منها في النار وواحدة في الجنة". قال - صلى الله عليه وسلم -: "وتعلو أمتي الفريقين جميعاً، تزيد عليهم فرقة واحدة، ثنتان وسبعون منها في النار وواحدة في الجنة". ثم إنه سئل - صلى الله عليه وسلم -: من الناجية؟ فقال في حديث: "ما أنا عليه وأصحابي" (¬1). وفي حديث قال: "السواد الأعظم" (¬2). وفي حديث قال: "واحدة في الجنة، وهي الجماعة" (¬3). قلت أنا: ومعانيها واحدة إن شاء الله تعالى. (¬4) ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (5/ 26/2641) والحاكم (1/ 128 - 129) من طريق عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً، وفيه عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، قال فيه الحافظ: "ضعيف في حفظه، ولكن للحديث شواهد كشاهد أبي هريرة ومعاوية وغيرهما". (¬2) أخرجه: ابن أبي عاصم في السنة (1/ 34/68)، الطبراني في الكبير (8/ 268/8035) وفي الأوسط (8/ 98/7198) والبيهقي (8/ 188) كلهم عن أبي أمامة رضي الله عنه. وذكر الهيثمي في المجمع (7/ 258) وقال: "رواه الطبراني في الأوسط والكبير بنحوه وفيه أبو غالب وثقه ابن معين وغيره، وبقية رجال الأوسط ثقات، وكذلك أحد إسنادي الكبير". (¬3) رواه أحمد (4/ 102) وأبو داود (5/ 5 - 6/ 4597) والحاكم (1/ 128) من طريق الأزهر بن عبد الله عن أبي عامر عبد الله بن لحي عن معاوية بن أبي سفيان مرفوعاً. وحسن إسناده الحافظ في تخريج الكشاف، وفي الباب عن أنس ابن مالك وعوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنهما. (¬4) الشريعة (1/ 125).

- وقال رحمه الله: رحم الله عبداً حذر هذه الفرق، وجانب البدع ولم يبتدع، ولزم الأثر فطلب الطريق المستقيم، واستعان بمولاه الكريم. (¬1) وقال: ينبغي لأهل العلم والعقل إذا سمعوا قائلا يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء قد ثبت عند العلماء، فعارض إنسان جاهل، فقال: لا أقبل إلا ما كان في كتاب الله تعالى، قيل له: أنت رجل سوء، وأنت ممن يحذرناك النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحذر منك العلماء. وقيل له: يا جاهل، إن الله أنزل فرائضه جملة، وأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يبين للناس ما أنزل إليهم، قال الله عز وجل: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (¬2) فأقام الله تعالى نبيه عليه السلام مقام البيان عنه، وأمر الخلق بطاعته، ونهاهم عن معصيته، وأمرهم بالانتهاء عما نهاهم عنه، فقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬3)، ثم حذرهم أن يخالفوا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬4) وقال عز وجل: {فلا ¬

(¬1) الشريعة (1/ 132). (¬2) النحل الآية (44). (¬3) الحشر الآية (7). (¬4) النور الآية (63).

وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬1) ثم فرض على الخلق طاعته - صلى الله عليه وسلم - في نيف وثلاثين موضعاً من كتابه تعالى. وقيل لهذا المعارض لسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا جاهل، قال الله تعالى: {وأقيموا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزكاة} (¬2) أين تجد في كتاب الله تعالى أن الفجر ركعتان، وأن الظهر أربع، والعصر أربع، والمغرب ثلاث، وأن العشاء الآخرة أربع؟ أين تجد أحكام الصلاة ومواقيتها، وما يصلحها وما يبطلها إلا من سنن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ ومثله الزكاة، أين تجد في كتاب الله تعالى من مائتي درهم خمسة دراهم، ومن عشرين ديناراً نصف دينار، ومن أربعين شاة شاة، ومن خمس من الإبل شاة، ومن جميع أحكام الزكاة، أين تجد هذا في كتاب الله تعالى؟ وكذلك جميع فرائض الله، التي فرضها الله في كتابه، لا يعلم الحكم فيها، إلا بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. هذا قول علماء المسلمين، من قال غير هذا خرج عن ملة الإسلام، ودخل في ملة الملحدين، نعوذ بالله من الضلالة بعد الهدى. (¬3) - وقال رحمه الله: من كان له علم وعقل، فميز جميع ما تقدم ذكرى ¬

(¬1) النساء الآية (65). (¬2) البقرة الآية (43). (¬3) الشريعة (1/ 176 - 177).

له من أول الكتاب إلى هذا الموضع علم أنه محتاج إلى العمل به، فإن أراد الله به خيراً لزم سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان من أئمة المسلمين في كل عصر، وتعلم العلم لنفسه، لينتفي عنه الجهل، وكان مراده أن يتعلمه لله تعالى ولم يكن مراده أن يتعلمه للمراء والجدال والخصومات، ولا للدنيا، ومن كان هذا مراده، سلم إن شاء الله تعالى من الأهواء والبدع والضلالة، واتبع ما كان عليه من تقدم من أئمة المسلمين الذين لا يستوحش من ذكرهم، وسأل الله تعالى أن يوفقه لذلك. فإن قال قائل: فإن كان رجل قد علمه الله تعالى علماً، فجاءه رجل يسأله عن مسألة في الدين، ينازعه فيها ويخاصمه، ترى له أن يناظره، حتى تثبت عليه الحجة، ويرد عليه قوله؟ قيل له: هذا الذي نهينا عنه، وهو الذي حذرناه من تقدم من أئمة المسلمين. فإن قال قائل: فماذا نصنع؟ قيل له: إن كان الذي يسألك مسألته، مسألة مسترشد إلى طريق الحق لا مناظرة، فأرشده بألطف ما يكون من البيان بالعلم من الكتاب والسنة، وقول الصحابة، وقول أئمة المسلمين، رضي الله عنهم، وإن كان يريد مناظرتك، ومجادلتك، فهذا الذي كره لك العلماء، فلا تناظره، واحذره على دينك، كما قال من تقدم من أئمة المسلمين إن كنت لهم متبعاً. فإن قال: فندعهم يتكلمون بالباطل، ونسكت عنهم؟ قيل له: سكوتك عنهم وهجرتك لما تكلموا به أشد عليهم من

مناظرتك لهم كذا قال من تقدم من السلف الصالح من علماء المسلمين. (¬1) - وقال: ألم تسمع، رحمك الله، إلى ما تقدم ذكرنا له من قول أبي قلابة: لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم، فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة، أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم. أو لم تسمع إلى قول الحسن وقد سأله رجل عن مسألة فقال: ألا تناظرني في الدين؟ فقال له الحسن: أما أنا فقد أبصرت ديني، فإن كنت أنت أضللت دينك فالتمسه. أو لم تسمع إلى قول عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه عرضاً للخصومات أكثر التنقل. قال محمد بن الحسين رحمه الله: فمن اقتدى بهؤلاء الأئمة سلم له دينه إن شاء الله تعالى. فإن قال قائل: فإن اضطرني في الأمر وقتا من الأوقات إلى مناظرتهم، وإثبات الحجة عليهم ألا أناظرهم؟ قيل له: الاضطرار إنما يكون مع إمام له مذهب سوء، فيمتحن الناس، ويدعوهم إلى مذهبه، كفعل من مضى في وقت أحمد بن حنبل: ثلاثة خلفاء امتحنوا الناس، ودعوهم إلى مذهبهم السوء، فلم يجد العلماء بدّاً من الذب عن الدين، وأرادوا بذلك معرفة العامة الحق من الباطل، فناظروهم ضرورة لا اختياراً، فأثبت الله تعالى الحق مع أحمد بن حنبل، ومن كان على طريقته، وأذل الله تعالى المعتزلة وفضحهم، وعرفت العامة أن الحق ما كان عليه أحمد ¬

(¬1) الشريعة (1/ 195 - 196).

ومن تابعه إلى يوم القيامة. أرجو أن يعيذ الله الكريم أهل العلم من أهل السنة والجماعة من محنة تكون أبداً. (¬1) - وقال: فإن قال قائل: هذا الذي ذكرته وبينته قد عرفناه، فإذا لم تكن مناظرتنا في شيء من الأهواء التي ينكرها أهل الحق، ونهينا عن الجدال والمراء والخصومة فيها، فإن كانت مسألة من الفقه في الأحكام مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والنكاح والطلاق، وما أشبه ذلك من الأحكام، هل لنا مباح أن نناظر فيه ونجادل، أم هو محظور علينا، عرفنا ما يلزم فيه؟ كيف السلامة؟ قيل له: هذا الذي ذكرته ما أقل من يسلم من المناظرة فيه، حتى لا يلحقه فيه فتنة ولا مأثم، ولا يظفر فيه الشيطان فإن قال: كيف؟ .. قيل له: هذا، قد كثر في الناس جدّاً في أهل العلم والفقه في كل بلد يناظر الرجل الرجل يريد مغالبته، ويعلو صوته، والاستظهار عليه بالاحتجاج، فيحمر لذلك وجهه، وتنتفخ أوداجه، ويعلو صوته وكل واحد منهما يحب أن يخطئ صاحبه، وهذا المراد من كل واحد منهما خطأ عظيم، لا يحمد عواقبه ولا يحمده العلماء من العقلاء لأن مرادك أن يخطئ مناظرك: خطأ منك، ومعصية عظيمة، ومراده أن تخطئ: خطأ منه، ومعصية، فمتى يسلم الجميع؟ فإن قال قائل: فإنما نناظر لتخرج لنا الفائدة؟ ¬

(¬1) الشريعة (1/ 196 - 197).

قيل له: هذا كلام ظاهر، وفي الباطن غيره. وقيل له: إذا أردت وجه السلامة في المناظرة لطلب الفائدة، كما ذكرت، فإذا كنت أنت حجازياً، والذي يناظرك عراقياً، وبينكما مسألة، تقول أنت: حلال. ويقول هو: بل حرام. فإن كنتما تريدان السلامة، وطلب الفائدة، فقل له: رحمك الله، هذه المسألة قد اختلف فيها من تقدم من الشيوخ، فتعال حتى نتناظر فيها مناصحة لا مغالبة فإن يكن الحق فيها معك، اتبعتك، وتركت قولي، وإن يكن الحق معي، اتبعتني، وتركت قولك، لا أريد أن تخطئ ولا أغالبك، ولا تريد أن أخطئ، ولا تغالبني. فإن جرى الأمر على هذا فهو حسن جميل، وما أعز هذا في الناس. فإذا قال كل واحد منهما: لا نطيق هذا، وصدقا عن أنفسهما. قيل لكل واحد منهما: قد عرفت قولك وقول صاحبك وأصحابك واحتجاجهم، وأنت فلا ترجع عن قولك، وترى أن خصمك على الخطأ وقال خصمك كذلك، فما بكما إلى المجادلة والمراء والخصومة حاجة إذا كان كل واحد منكما ليس يريد الرجوع عن مذهبه، وإنما مراد كل واحد منكما أن يخطئ صاحبه، فأنتما آثمان بهذا المراد، أعاذ الله العلماء العقلاء عن مثل هذا المراد. فإذا لم تجر المناظرة على المناصحة، فالسكوت أسلم، قد عرفت ما عندك وما عنده، وعرف ما عنده وما عندك. والسلام. ثم لا نأمن أن يقول لك في مناظرته: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتقول له: هذا حديث ضعيف، أو تقول: لم يقله النبي - صلى الله عليه وسلم - كل ذلك، لترد قوله، وهذا

عظيم، وكذلك يقول لك أيضاً، فكل واحد منكما يرد حجة صاحبه بالمخارقة والمغالبة. وهذا موجود في كثير ممن رأينا يناظر ويجادل ونتجادل، حتى ربما خرق بعضهم على بعض. هذا الذي خافه النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته، وكرهه العلماء ممن تقدم والله أعلم. (¬1) - وقال رحمه الله: ينبغي لكل من تمسك بما رسمناه في كتابنا هذا -وهو كتاب الشريعة- أن يهجر جميع أهل الأهواء من الخوارج والقدرية والمرجئة والجهمية، وكل من ينسب إلى المعتزلة، وجميع الروافض، وجميع النواصب، وكل من نسبه أئمة المسلمين أنه مبتدع بدعة ضلالة، وصح عنه ذلك، فلا ينبغي أن يكلم ولا يسلم عليه، ولا يجالس ولا يصلى خلفه، ولا يزوج ولا يتزوج إليه من عرفه، ولا يشاركه ولا يعامله ولا يناظره ولا يجادله، بل يذله بالهوان له، وإذا لقيته في طريق أخذت في غيرها إن أمكنك وهذا الذي ذكرته لك فقول من تقدم من أئمة المسلمين، وموافق لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأما الحجة في هجرتهم بالسنة فقصة هجره الثلاثة الذين تخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخروج معه في غزاته بغير عذر، كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، رحمهم الله تعالى، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) الشريعة (1/ 201 - 202).

بهجرتهم، وأن لا يكلموا، وطردهم حتى نزلت توبتهم من الله عز وجل (¬1)، وهكذا قصة حاطب بن أبي بلتعة لما كتب إلى قريش يحذرهم خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بهجرته وطرده، فلما أنزل الله توبته فعاتبه الله تعالى على فعله فتاب عليه (¬2)، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل العمل الحب في الله والبغض في الله" (¬3). وضرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه لصبيغ، وبعث إلى أهل البصرة أن لا يجالسوه، قال: فلو جاء إلى حلقة ما هي قاموا وتركوه. (¬4) - وقال رحمه الله: ينبغي لإمام المسلمين ولأمرائه في كل بلد إذا صح عنده مذهب رجل من أهل الأهواء ممن قد أظهره أن يعاقبه العقوبة الشديدة، فمن استحق منهم أن يقتله قتله، ومن استحق أن يضربه ويحبسه وينكل به فعل به ذلك، ومن استحق أن ينفيه نفاه، وحذر منه الناس. فإن قال قائل: وما الحجة فيما قلت؟ قيل: ما لا تدفعه العلماء ممن نفعه الله عز وجل بالعلم، وذلك أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه جلد صبيغاً التميمي، وكتب إلى عماله: أن ¬

(¬1) رواه: أحمد (3/ 456 - 459) والبخاري (8/ 142 - 145/ 4418) ومسلم (4/ 2120 - 2128/ 2769) هكذا مطولا. وأخرج بعضا منه: أبو داود (5/ 7 - 8/ 4600) والترمذي (5/ 263 - 264/ 3102) والنسائي (2/ 386/730). (¬2) لم أقف عليه بهذا اللفظ. وقصة حاطب في الصحيحين: البخاري (8/ 817/4890) ومسلم (4/ 1941 - 1942/ 2494) وغيرهما دون الأمر بهجره. (¬3) أخرجه: أحمد (5/ 146) وأبو داود (5/ 6 - 7/ 4599). وفيه يزيد بن عطاء ويزيد بن أبي زياد، وهما ضعيفان. وفيه أيضاً الرجل المبهم. لكن للحديث شواهد يرتقي بها إلى درجة الحسن. قال الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة (1728) بعد أن ذكر بعض الشواهد للحديث: "فالحديث بمجموع طرقه يرتقي إلى درجة الحسن على الأقل. والله أعلم". (¬4) الشريعة (3/ 574 - 575).

موقفه من المشركين:

يقيموه حتى ينادي على نفسه، وحرمه عطاءه، وأمر بهجرته، فلم يزل وضيعاً في الناس. وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه قتل بالكوفة في صحراء أحد عشر جماعة ادعوا أنه إلههم، خد لهم في الأرض أخدوداً، وحرقهم بالنار، وقال: لما سمعت القول قولاً منكرا ... أججت ناري ودعوت قنبرا وهذا عمر بن عبد العزيز كتب إلى عدي بن أرطأة في شأن القدرية: تستتيبهم فإن تابوا وإلا فاضرب أعناقهم. وقد ضرب هشام بن عبد الملك عنق غيلان وصلبه بعد أن قطع يده، ولم يزل الأمراء بعدهم في كل زمان يسيرون في أهل الأهواء إذا صح عندهم ذلك عاقبوه على حسب ما يرون، لا ينكره العلماء. (¬1) موقفه من المشركين: - قال محمد بن الحسين: من تصفح أمر هذه الأمة من عالم عاقل، علم أن أكثرهم -العام منهم- يجري أمورهم على سنن أهل الكتابين، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، وعلى سنن كسرى وقيصر، وعلى سنن أهل الجاهلية، وذلك مثل السلطنة وأحكامهم وأحكام العمال والأمراء وغيرهم، وأمر المصائب والأفراح والمساكن واللباس والحلية، والأكل والشرب والولائم، والمراكب ¬

(¬1) الشريعة (3/ 585). (¬2) أحمد (3/ 84) والبخاري (6/ 613/3456) ومسلم (4/ 2054/2669) عن أبي سعيد. وفي الباب عن أبي هريرة وغيره.

والخدم والمجالس والمجالسة، والبيع والشراء، والمكاسب من جهات كثيرة، وأشباه لما ذكرت يطول شرحها، تجري بينهم على خلاف السنة والكتاب، وإنما تجري بينهم على سنن من قبلنا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -. والله المستعان. قال الشيخ حامد الفقي -رحمه الله تعالى رحمة واسعة-: إذا كان هذا في زمان أبي بكر الآجري المتوفى سنة 360 من الهجرة فكيف به لو رأى الناس اليوم، وما تتابعوا فيه من تقليد اليهود والنصارى والوثنيين وكل ملحد زنديق في فسوقهم وتمردهم على الله وكتبه ورسله وسننه وآياته، وما جر عليهم ذلك التقليد الأعمى من الانحلال والذلة والصغار، وذهاب ريحهم. وضياع كل ما خلفه لهم آباؤهم من أسباب القوة والسلطان. ولو أن الناس عقلوا عن ربهم وآمنوا بآياته ونعمه ورحمته وحكمته، وآمنوا بما أكرمهم به ربهم وما أعطاهم من هذا الكتاب الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وما حفظ لهم من هدى مختاره ومصطفاه إمام المهتدين عبد الله ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - لو أنهم عقلوا وآمنوا بهذا لانتفعوا بهدى الله، ولنفخ الله فيهم من روح العزة والقوة، ولمكن الله لهم دينهم الذي ارتضى لهم، ولبدلهم من بعد خوفهم أمناً، كما أعطى المسلمين الأولين، ولكن أكثر الناس لا يعقلون، فهم في تقليدهم الأعمى يتخبطون، وفي ضلالهم يعمهون، يجرون في كل شئون حياتهم ذيولاً للفرنجة أعدائهم. فلا ينالون منهم إلا كل ظلم وبغي واستعباد. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. (¬1) - وقال الآجري رحمه الله: فإني أحذر إخواني المؤمنين مذهب الحلولية؛ ¬

(¬1) الشريعة (1/ 135 - 136).

الذين لعب بهم الشيطان فخرجوا بسوء مذهبهم عن طريق أهل العلم، إلى مذاهب قبيحة، لا يكون إلا في كل مفتون هالك. زعموا أن الله عز وجل حال في كل شيء، حتى أخرجهم سوء مذهبهم إلى أن تكلموا في الله عز وجل بما ينكره العلماء العقلاء، لا يوافق قولهم كتاب ولا سنة. ولا قول الصحابة. ولا قول أئمة المسلمين، وإني لأستوحش أن أذكر قبيح أفعالهم تنزيهاً مني لجلال الله عز وجل وعظمته، كما قال ابن المبارك رحمه الله: إنا لنستطيع أن نحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. ثم إنهم إذا أنكر عليهم سوء مذهبهم قالوا: لنا حجة من كتاب الله عز وجل. فإذا قيل لهم: ما الحجة؟ قالوا: قال الله عز وجل: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (¬1) وبقوله عز وجل: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} إلى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (¬2) فلبسوا على السامع منهم بما تأولوا، وفسروا القرآن على ما تهوى نفوسهم. فضلوا وأضلوا، فمن سمعهم ممن جهل العلم ظن أن القول كما قالوه، وليس هو كما تأولوه عند أهل العلم. والذي يذهب إليه أهل العلم: أن الله عز وجل سبحانه على عرشه فوق سماواته، وعلمه محيط بكل شيء، ¬

(¬1) المجادلة الآية (7). (¬2) الحديد الآيتان (3و4).

قد أحاط علمه بجميع ما خلق في السماوات العلا، وبجميع ما في سبع أرضين وما بينهما وما تحت الثرى، يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويعلم الخطرة والهمة، ويعلم ما توسوس به النفوس، يسمع ويرى، لا يعزب عن الله عز وجل مثقال ذرة في السماوات والأرضين وما بينهن، إلا وقد أحاط علمه به، فهو على عرشه سبحانه العلي الأعلى ترفع إليه أعمال العباد، وهو أعلم بها من الملائكة الذين يرفعونها بالليل والنهار. فإن قال قائل: فإيش معنى قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} الآية ... التي بها يحتجون؟ قيل له: علمه عز وجل، والله على عرشه وعلمه محيط بهم، وبكل شيء من خلقه، كذا فسره أهل العلم. والآية يدل أولها وآخرها على أنه العلم. فإن قال قائل: كيف؟ قيل: قال الله عز وجل: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬1).اهـ (¬2) - وقال محمد بن الحسين رحمه الله: ومما يحتج به الحلولية، مما يلبسون به على من لا علم معه يقول الله عز وجل: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} (¬3) وقد فسر أهل العلم هذه الآية: هو الأول: قبل كل شيء؛ من ¬

(¬1) المجادلة الآية (7). (¬2) الشريعة (2/ 64 - 66). (¬3) الحديد الآية (3).

حياة وموت، والآخر: بعد كل شيء؛ بعد الخلق، وهو الظاهر: فوق كل شيء -يعني ما في السموات- وهو الباطن: دون كل شيء يعلم ما تحت الأرضين، ودل على هذا آخر الآية {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬1). (¬2) - وقال محمد بن الحسين رحمه الله: ومما يلبسون به على من لا علم معه احتجوا بقوله عز وجل: {وَهُوَ اللَّهُ في السَّمَاوَاتِ وفي الأرض} (¬3) وبقوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} (¬4) وهذا كله إنما يطلبون به الفتنة، كما قال الله تعالى: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (¬5). وعند أهل العلم من أهل الحق: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} (¬6) فهو كما قال أهل العلم: مما جاءت به السنن: أن الله عز وجل على عرشه. وعلمه محيط بجميع خلقه، يعلم ما يسرون وما يعلنون، يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون. وقوله عز وجلّ: {وَهُوَ الَّذِي فِي ¬

(¬1) الحديد الآية (3). (¬2) الشريعة (2/ 81). (¬3) الأنعام الآية (3). (¬4) الزخرف الآية (84). (¬5) آل عمران الآية (7). (¬6) الأنعام الآية (3).

موقفه من الرافضة:

السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} (¬1) فمعناه: أنه جل ذكره إله من في السموات، وإله من في الأرض، إله يعبد في السموات، وإله يعبد في الأرض، هكذا فسره العلماء. (¬2) موقفه من الرافضة: - قال الآجري في كتابه الشريعة: فمن صفة من أراد الله عز وجل به خيراً، وسلم له دينه، ونفعه الله الكريم بالعلم، المحبة لجميع الصحابة، ولأهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والإقتداء بهم، ولا يخرج بفعل ولا بقول عن مذاهبهم، ولا يرغب عن طريقتهم، وإذا اختلفوا في باب من العلم، فقال بعضهم: حلال. وقال الآخر: حرام. نظر أي القولين أشبه بكتاب الله عز وجل وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسأل العلماء عن ذلك إذا قصر علمه، فأخذ به، ولم يخرج عن قول بعضهم، وسأل الله عز وجل السلامة، وترحم على الجميع. (¬3) - قال محمد بن الحسين: فقد أثبت من بيان خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم- ما إذا نظر فيها المؤمن سره، وزاده محبة للجميع، وإذا نظر فيها رافضي خبيث أو ناصبي ذليل مهين، أسخن الله الكريم بذلك أعينهما في الدنيا والآخرة، لأنهما خالفا الكتاب والسنة وما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم- واتبعا غير سبيل المؤمنين. ¬

(¬1) الزخرف الآية (84). (¬2) الشريعة (2/ 82). (¬3) الشريعة (2/ 424).

قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ" (¬2)، فهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم- ومن اتبعهم بإحسان. (¬3) - قال محمد بن الحسين -رحمه الله-: من علامة من أراد الله -عز وجل- به خيراً من المؤمنين وصحة إيمانهم محبتهم لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم-. (¬4) - وقال -رحمه الله- بعد أن ساق آثاراً في اتباع علي بن أبي طالب في خلافته لسنن أبي بكر وعمر رضي الله عن الجميع: هذا رد على الرافضة الذين خطئ بهم عن طريق الحق، وأسخن الله تعالى أعينهم، ونسبوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى ما قد برأه الله عز وجل مما ينحلونه إليه في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لو علم علي رضي الله عنه أن الحق في غير ما حكم به أبو بكر لرده، ولم يأخذه في الله لومة لائم، ولكن علم أن الحق هو ¬

(¬1) النساء الآية (115). (¬2) أحمد (4/ 126) وأبو داود (5/ 13 - 15/ 4607) والترمذي (5/ 43/2676) وقال: "حسن صحيح". وابن ماجه (1/ 16/43) والحاكم (1/ 95 - 96) وقال: "صحيح ليس له علة" ووافقه الذهبي. (¬3) الشريعة (3/ 20). (¬4) الشريعة (3/ 21).

الذي فعله أبو بكر فأجراه على ما فعل أبو بكر رضي الله عنهما، وكذا فعل عمر في أهل نجران، وكذا لما سن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قيام شهر رمضان، وجمع الناس عليه، أحيا بذلك سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلاها الصحابة في جميع البلدان، وصلاها علي بن أبي طالب رضي الله عنه فلما أفضت الخلافة إليه صلاها وأمر بالصلاة، وترحم على عمر رضي الله عنه فقال: نور الله قبرك يا بن الخطاب، كما نورت مساجدنا، وقال: أنا أشرت على عمر بذلك ... وهذا رد على الرافضة الذين لا يرون صلاتها، خلافاً على عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وعلى جميع المسلمين. (¬1) - وقال رحمه الله تعالى: ومن أصح الدلائل وأوضح الحجج على كل رافضي مخالف لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أن عليا كرم الله وجهه لم يزل يقرأ بما في مصحف عثمان رضي الله عنه ولم يغير منه حرفاً واحداً، ولا قدم حرفاً على حرف، ولا أخر ولا زاد فيه ولا نقص، ولا قال: إن عثمان فعل في هذا المصحف شيئاً لي أن أفعل غيره. ما يحفظ عنه شيء من هذا، رضي الله عنه، وهكذا ولده رضي الله عنه لم يزالوا يقرءون بما في مصحف عثمان، رضي الله عنه، حتى فارقوا الدنيا، وهكذا أصحاب علي رضي الله عنه لم يزالوا يقرئون المسلمين بما في مصحف عثمان رضي الله عنه، لا يجوز لقائل أن يقول غير هذا. من قال غير هذا فقد كذب، وأتى بخلاف ما عليه أهل الإسلام. ¬

(¬1) الشريعة (3/ 27).

قال محمد بن الحسين -رحمه الله-: مرادنا من هذا، أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يزل متبعاً لما سنه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم متبعاً لهم يكره ما كرهوا ويحب ما أحبوا، حتى قبضه الله عز وجل شهيداً الذي لا يحبه إلا مؤمن تقي ولا يبغضه إلا منافق شقي. (¬1) - وقال رحمه الله: فإن قال قائل: قد ذكرت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر فتنة تكون من بعده، ثم قال في عثمان: "فاتبعوا هذا وأصحابه فإنهم يومئذ على هدي" (¬2). فأخبرنا عن أصحابه من هم؟ قيل له: أصحابه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشهود لهم بالجنة، المذكور نعتهم في التوراة والإنجيل، الذي من أحبهم سعد، ومن أبغضهم شقي. فإن قال: فاذكرهم. قيل له: علي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد رضي الله عنهم وسائر الصحابة في وقتهم رضي الله عنهم، كلهم كانوا على هدي كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكلهم أنكر قتله، وكلهم استعظم ما جرى على عثمان رضي الله عنه، وشهدوا على قتلته أنهم في النار. فإن قال قائل: فمن الذي قتله؟ قيل له: طوائف أشقاهم الله عز وجل بقتله حسداً منهم له وبغياً، ¬

(¬1) الشريعة (3/ 31). (¬2) أحمد (4/ 109) وذكره الهيثمي (9/ 89) وقال: "رواه أحمد والطبراني ورجالهما رجال الصحيح". وفي الباب حديث مرة بن كعب أخرجه: الترمذي (5/ 586/3704) وقال: "حسن صحيح". وفي الباب عن كعب بن عجرة عند ابن ماجه (1/ 41/111) قال في الزوائد: "إسناده منقطع". قال أبو حاتم: "محمد بن سيرين لم يسمع كعب بن عجرة. وباقي رجاله ثقات". وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه.

وأرادوا الفتنة وأن يوقعوا الضغائن بين أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، لما سبق عليهم من الشقوة في الدنيا، ومالهم في الآخرة أعظم. فإن قال: فمن أين اجتمعوا على قتله؟ قيل له: أول ذلك وبدء شأنه أن بعض اليهود يقال له: ابن السوداء، ويعرف بعبد الله بن سبأ لعنة الله عليه زعم أنه أسلم، فأقام بالمدينة فحمله الحسد للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولصحابته، وللإسلام، فانغمس في المسلمين، كما انغمس ملك اليهود؛ بولس بن شاوذ، في النصارى حتى أضلهم، وفرقهم فرقاً، وصاروا أحزاباً، فلما تمكن فيهم البلاء والكفر تركهم، وقصته تطول، ثم عاد إلى التهود بعد ذلك، فهكذا عبد الله بن سبأ؛ أظهر الإسلام، وأظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصار له أصحاب في الأمصار، ثم أظهر الطعن على الأمراء، ثم أظهر الطعن على عثمان رضي الله عنه، ثم طعن على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم أظهر أنه يتولى علياً رضي الله عنه، وقد أعاذ الله الكريم علي بن أبي طالب وولده وذريته رضي الله عنهم من مذهب ابن سبأ وأصحابه السبئية، فلما تمكنت الفتنة والضلال في ابن سبأ وأصحابه، صار إلى الكوفة، فصار له بها أصحاب، ثم ورد إلى البصرة فصار له بها أصحاب ثم ورد إلى مصر، فصار له بها أصحاب، كلهم أهل ضلالة، ثم تواعدوا الوقت، وتكاتبوا ليجتمعوا في موضع، ثم يصيروا كلهم إلى المدينة، ليفتنوا المدينة وأهلها ففعلوا، ثم ساروا إلى المدينة، فقتلوا عثمان رضي الله عنه، ومع ذلك فأهل المدينة لا يعلمون حتى وردوا عليهم. فإن قال: فلم لم يقاتل عنه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟

قيل له: إن عثمان رضي الله عنه وصحابته لم يعلموا حتى فاجأهم الأمر، ولم يكن بالمدينة جيش قد أعد لحرب، فلما فجأهم ذلك اجتهدوا رضي الله عنهم في نصرته والذب عنه، فما أطاقوا ذلك وقد عرضوا أنفسهم على نصرته ولو تلفت أنفسهم، فأبى عليهم وقال: أنتم في حل من بيعتي، وفي حرج من نصرتي، وإني لأرجو أن ألقى الله عز وجل سالماً مظلوماً، وقد خاطب علي بن أبي طالب وطلحة والزبير رضي الله عنهم وكثير من الصحابة لهؤلاء القوم بمخاطبة شديدة، وغلظوا لهم في القول، فلما أحسوا أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أنكروا عليهم؛ أظهرت كل فرقة منهم أنهم يتولون الصحابة، فلزمت فرقة منهم باب علي بن أبي طالب رضي الله عنه وزعمت أنها تتولاه، وقد برأه الله عز وجل منهم، فمنعوه الخروج ولزمت فرقة منهم باب طلحة وزعموا أنهم يتولونه وقد برأه الله عز وجل منهم، ولزمت فرقة منهم باب الزبير وزعموا أنهم يتولونه وقد برأه الله عز وجل منهم، وإنما أرادوا أن يشغلوا الصحابة عن الانتصار لعثمان رضي الله عنه، ولبسوا على أهل المدينة أمرهم للمقدور الذي قدره عز وجل أن عثمان يقتل مظلوماً، فورد على الصحابة أمر لا طاقة لهم به، ومع ذلك فقد عرضوا أنفسهم على عثمان رضي الله عنه ليأذن لهم بنصرته مع قلة عددهم، فأبى عليهم، ولو أذن لهم؛ لقاتلوا. حدثنا العباس بن أحمد الختلي المعروف بابن أبي شحمة، قال: حدثنا دهثم بن الفضل أبو سعيد الرملي، قال: ثنا المؤمل بن إسماعيل، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب وهشام، عن محمد بن سيرين، قال: لقد كان في

الدار جماعة من المهاجرين والأنصار وأبنائهم منهم: عبد الله بن عمر والحسن والحسين وعبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة، الرجل منهم خير من كذا وكذا. يقولون: يا أمير المؤمنين، خل بيننا وبين هؤلاء القوم، فقال: أعزم على كل رجل منكم وإن لي عليه حقا أن لا يهريق في دماً، وأحرج على كل رجل منكم لما كفاني اليوم نفسه. فإن قال قائل: فقد علموا أنه مظلوم، وقد أشرف على القتل، فكان ينبغي لهم أن يقاتلوا عنه، وإن كان قد منعهم. قيل له: ما أحسنت القول؛ لأنك تكلمت بغير تمييز. فإن قال: ولم؟ قيل: لأن القوم كانوا أصحاب طاعة وفقهم الله تعالى للصواب من القول والعمل، فقد فعلوا ما يجب عليهم من الإنكار بقلوبهم وألسنتهم، وعرضوا أنفسهم لنصرته على حسب طاقتهم، فلما منعهم عثمان رضي الله عنه من نصرته، علموا أن الواجب عليهم السمع والطاعة له، وأنهم إن خالفوه لم يسعهم ذلك، وكان الحق عندهم، فيما رآه عثمان رضي الله عنه وعنهم. فإن قال قائل: فلم منعهم عثمان من نصرته وهو مظلوم، وقد علم أن قتالهم عنه نهي عن منكر، وإقامة حق يقيمونه؟ قيل له: وهذا أيضاً غفلة منك. فإن قال: وكيف؟ قيل له: منعه إياهم عن نصرته يحتمل وجوهاً، كلها محمودة. أحدها: علمه بأنه مقتول مظلوم لا شك فيه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أعلمه

أنك تقتل مظلوماً، فاصبر. فقال: أصبر، فلما أحاطوا به علم أنه مقتول؛ وأن الذي قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - له حق كما قال لا بد من أن يكون، ثم علم أنه قد وعده من نفسه الصبر، فصبر كما وعد، وكان عنده أن من طلب الانتصار لنفسه والذب عنها فليس هذا بصابر، إذ وعد من نفسه الصبر فهذا وجه. ووجه آخر: وهو أنه قد علم أن في الصحابة رضي الله عنهم قلة عدد، وأن الذين يريدون قتله كثير عددهم، فلو أذن لهم بالحرب لم يأمن أن يتلف من صحابة نبيه بسببه، فوقاهم بنفسه إشفاقاً منه عليهم، لأنه راع والراعي واجب عليه أن يحوط رعيته بكل ما أمكنه، ومع ذلك فقد علم أنه مقتول فصانهم بنفسه، وهذا وجه. ووجه آخر: وهو أنه لما علم أنها فتنة، وأن الفتنة إذا سل فيها السيف لم يؤمن أن يقتل فيها من لا يستحق؛ فلم يختر لأصحابه أن يسلوا في الفتنة السيف، وهذا أيضا إشفاق منه عليهم، فتنة تعم؛ وتذهب فيها الأموال، وتهتك فيها الحريم، فصانهم عن جميع هذا. ووجه آخر: يحتمل أن يصبر عن الانتصار لتكون الصحابة رضي الله عنهم شهوداً على من ظلمه وخالف أمره وسفك دمه بغير حق، لأن المؤمنين شهداء الله عز وجل في أرضه، ومع ذلك فلم يحب أن يهراق بسببه دم مسلم، ولا يخلف النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمته بإهراقه دم مسلم، وكذا قال رضي الله عنه، فكان عثمان رضي الله عنه بهذا الفعل موفقاً معذوراً رشيداً، وكان الصحابة رضي الله عنهم في عذر، وشقي قاتله. (¬1) ¬

(¬1) الشريعة (3/ 165 - 168).

- وقال رحمه الله: كفى به شقوة لمن سب عثمان أو أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله: "من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" (¬1) وقوله - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه: "لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد أذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه" (¬2). ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم، ولا نصيفه". (¬3) وقال رحمه الله: قلت: والذي يسب عثمان رضي الله عنه لا يضر عثمان، وإنما يضر نفسه. عثمان - رضي الله عنه - قد شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه يقتل شهيداً مظلوماً، وبشره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة رضي الله عنه في غير حديث، رواه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، ورواه عنه سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل - رضي الله عنه -، ورواه عبد الرحمن بن عوف، وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم: أن عثمان - رضي الله عنه - ¬

(¬1) الطبراني (12/ 142/12709) من حديث ابن عباس. قال الهيثمي في المجمع (10/ 21): "فيه عبد الله بن خراش وهو ضعيف". الخطيب في التاريخ (14/ 241) من حديث أنس. وزاد "لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً". فيه علي ابن يزيد الصدائي. قال في التقريب: "فيه لين". وفيه أيضاً أبو شيبة الجوهري، وهو ضعيف كما في التقريب. ابن أبي عاصم (2/ 483/1001) عن عطاء مرسلاً دون قوله: "والملائكة ... " ورمز له السيوطي في الجامع بالحسن (انظر فيض القدير 6/ 146). وقال الشيخ الألباني رحمه الله -بعد أن ذكر طرق وشواهد الحديث-: "وبالجملة فالحديث بمجموع طرقه حسن عندي على أقل الدرجات، والله أعلم" (الصحيحة: 2340). (¬2) أحمد (5/ 54و55) والترمذي (5/ 653/3862) وقال: "هذا حديث غريب". وصححه ابن حبان (16/ 244/7256). قال المناوي في فيض القدير (2/ 98): "فيه عبد الرحمن بن زياد، قال الذهبي: لا يعرف. وفي الميزان: في الحديث اضطراب". (¬3) أحمد (3/ 11) والبخاري (7/ 24/3673) ومسلم (4/ 1967 - 1968/ 2541) وأبو داود (5/ 45/4658) والترمذي (5/ 653/3861) عن أبي سعيد الخذري.

من أهل الجنة؛ على رغم أنف كل منافق ذليل مهين في الدنيا والآخرة. (¬1) - وقال رحمه الله: على من قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما لعنة الله، ولعنة اللاعنين، وعلى من أعان على قتله، وعلى من سب علي بن أبي طالب، وسب الحسن والحسين، أو آذى فاطمة في ولدها، أو آذى أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعليه لعنة الله وغضبه، لا أقام الله الكريم له وزناً، ولا نالته شفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) - وقال رحمه الله: والخلفاء الراشدون فهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، فمن كان لهم محباً راضياً بخلافتهم، متبعا لهم، فهو متبع لكتاب الله عز وجل، ولسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومن أحب أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطيبين، وتولاهم وتعلق بأخلاقهم، وتأدب بأدبهم، فهو على المحجة الواضحة، والطريق المستقيم والأمر الرشيد، ويرجى له النجاة ... فإن قال قائل: فما تقول فيمن يزعم أنه محب لأبي بكر وعمر وعثمان، متخلف عن محبة علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، وعن محبة الحسن والحسين رضي الله عنهما، غير راض بخلافة علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه؟ هل تنفعه محبة أبي بكر وعمر وعثمان، رضي الله عنهم؟ قيل له: معاذ الله، هذه صفة منافق، ليست بصفة مؤمن؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا ¬

(¬1) الشريعة (3/ 183 - 184). (¬2) الشريعة (3/ 327).

منافق" (¬1). وقال عليه السلام: "من آذى عليا فقد آذاني" (¬2). وشهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي رضي الله عنه بالخلافة وشهد له بالجنة، وبأنه شهيد، وأن علياً رضي الله عنه، محب لله عز وجل ولرسوله، وأن الله عز وجل ورسوله - صلى الله عليه وسلم - محبان لعلي رضي الله عنه، وجميع ما شهد له به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الفضائل التي تقدم ذكرنا لها. وما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - من محبته للحسن والحسين، رضي الله عنهما، مما تقدم ذكرنا له. فمن لم يحب هؤلاء ويتولهم فعليه لعنة الله في الدنيا والآخرة، وقد بريء منه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم. وكذا من زعم أنه يتولى علِيَّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، ويحب أهل بيته، ويزعم أنه لا يرضى بخلافة أبي بكر وعمر ولا عثمان، ولا يحبهم ويبرأ منهم، ويطعن عليهم، فنشهد بالله يقيناً أن علي بن أبي طالب والحسن والحسين، رضي الله عنهم، برآء منه لا تنفعه محبتهم حتى يحب أبا بكر وعمر وعثمان، رضي الله عنهم، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيما وصفهم به، وذكر فضلهم، وتبرأ ممن لم يحبهم. فرضي الله عنه، وعن ذريته الطيبة، هذا طريق العقلاء من المسلمين، ¬

(¬1) أحمد (1/ 84) ومسلم (1/ 86/78) والترمذي (5/ 601/3736) والنسائي (8/ 490/5033) وابن ماجه (1/ 42/114) من حديث علي رضي الله عنه. (¬2) أخرجه من حديث: عمرو بن شاس رضي الله عنه: أحمد (3/ 483) والحاكم (3/ 122) وصححه ووافقه الذهبي. ابن حبان: [الإحسان (15/ 365/6923)]، البزار (كشف الأستار 3/ 200/2561). وذكره الهيثمي (9/ 129) وقال: "رواه أحمد والطبراني والبزار أخصر منه ورجاله ثقات". ومن حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أبو يعلى (2/ 109/770)، البزار (3/ 200/2562) وذكره الهيثمي (9/ 129) وقال: "رواه أبو يعلى والبزار باختصار ورجال أبي يعلى رجال الصحيح غير محمود بن خراش وقنان وهما ثقتان". وفي الباب عن جابر، قال الشيخ الألباني: "وبالجملة فالحديث صحيح بمجموع هذه الطرق" [الصحيحة (5/ 373 - 374/ 2295)].

ونعوذ بالله ممن يقذف أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالطعن على أبي بكر وعمر وعثمان، رضي الله عنهم، لقد افترى على أهل البيت وقذفهم بما قد صانهم الله عز وجل عنه. وهل عرفت أكثر فضائل أبي بكر وعمر وعثمان؛ إلا مما رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين؟ (¬1) - وقال رحمه الله: أما بعد؛ فإن سائلاً سأل عن مذهب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وكيف كانت منزلتهم عنده؟ وهل كان متبعا لهم في خلافته بعدهم؟ وهل حفظ عنه شيء من فضائلهم؟ وهل غير في خلافته شيئاً من سيرتهم؟ فأحب السائل أن يعلم من ذلك ما يزيده محبة لجميعهم رضي الله عنهم وعن جميع الصحابة -رضي الله عنهم، وعن جميع أزواجه أمهات المؤمنين، وعن جميع أهل البيت- فأجيب السائل إلى الجواب عنه مختصراً إن شاء الله، والله الموفق للصواب من القول والعمل. اعلموا رحمنا الله وإياكم أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لا يحفظ عنه الصحابة ومن تبعهم من التابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين إلا محبة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم في حياتهم وفي خلافتهم وبعد وفاتهم. فأما في خلافتهم فسامع لهم مطيع يحبهم ويحبونه، ويعظم قدرهم ويعظمون قدره، صادق في محبته لهم، مخلص في الطاعة لهم، يجاهد من يجاهدون، ويحب ما يحبون، ويكره ما يكرهون، يستشيرونه في ¬

(¬1) الشريعة (3/ 352 - 353).

النوازل؛ فيشير مشورة ناصح مشفق محب، فكثير من سيرتهم بمشورته جرت، فقبض أبو بكر رضي الله عنه فحزن لفقده حزناً شديداً، وقتل عمر رضي الله عنه فبكى عليه بكاءً طويلاً، وقتل عثمان رضي الله عنه ظلماً؛ فبرأه الله عز وجل من دمه، وكان قتله عنده ظلماً مبيناً. ثم ولي الخلافة بعدهم، فعمل بسنتهم، وسار سيرتهم، واتبع آثارهم، وسلك طريقهم، وروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضائلهم، وخطب الناس في غير وقت؛ فذكر شرفهم، وذم من خالفهم، وتبرأ من عدوهم، وأمر باتباع سنتهم وسيرتهم، فرضي الله عنه وعنهم وقال رحمه الله: فلن يحبهم إلا مؤمن تقي، قد وفقه الله عز وجل للحق ولن يتخلف عن محبتهم، أو عن محبة واحد منهم إلا شقي قد خطي به عن طريق الحق؛ ومذهبنا فيهم أنا نقول في الخلافة والتفضيل: أبو بكر؛ ثم عمر؛ ثم عثمان؛ ثم علي رضي الله عنهم. ويقال: رحمكم الله أنه لا يجتمع حب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي إلا في قلوب أتقياء هذه الأمة. (¬1) - وقال رحمه الله: لقد خاب وخسر من أصبح وأمسى وفي قلبه بغض لعائشة رضي الله عنها أو لأحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لأحد من أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرضي الله عنهم أجمعين ونفعنا بحبهم. (¬2) - وقال رحمه الله: من جاء إلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يطعن في ¬

(¬1) الشريعة (3/ 412 - 413). (¬2) الشريعة (3/ 495).

بعضهم، ويهوى بعضهم، ويذم بعضاً ويمدح بعضاً، فهذا رجل طالب فتنة، وفي الفتنة وقع؛ لأنه واجب عليه محبة الجميع والاستغفار للجميع رضي الله عنهم ونفعنا بحبهم، ونحن نزيدك في البيان ليسلم قلبك للجميع وتدع البحث والتنقير عما شجر بينهم. (¬1) - وقال رحمه الله: لقد خاب وخسر من سب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه خالف الله ورسوله، ولحقته اللعنة من الله عز وجل ومن رسوله ومن الملائكة ومن جميع المؤمنين، ولا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، لا فريضة ولا تطوعاً، وهو ذليل في الدنيا، وضيع القدر، كثر الله بهم القبور، وأخلى منهم الدور. (¬2) باب ما جاء في الرافضة وسوء مذهبهم - وقال رحمه الله: أول ما نبتدئ به من ذكرنا في هذا الباب أنا نجل علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وفاطمة رضي الله عنها، والحسن والحسين رضي الله عنهما، وعقيل بن أبي طالب رضي الله عنه، وأولادهم، وأولاد جعفر الطيار رضي الله عنهم، وذريتهم الطيبة المباركة، عن مذاهب الرافضة الذين قد خُطيء بهم عن طريق الرشاد. أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلى قدراً وأصوب رأياً وأعرف بالله عز وجل وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - مما تنحلهم الرافضة إليه، من سبهم لأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم. ¬

(¬1) الشريعة (3/ 539 - 540). (¬2) الشريعة (3/ 550).

قد صان الله الكريم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن ذكرنا من ذريته الطيبة المباركة عما ينحلونهم إليه بالدلائل والبراهين التي تقدمت من ذكرهم رضي الله عنهم من أبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعائشة وسائر الصحابة إلا بكل جميل، بل هم كلهم عندنا إخوان على سرر متقابلين في الجنة قد نزع الله الكريم من قلوبهم الغل كما قال الله عز وجل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} (¬1) رضي الله عنهم. وقد تقدم ذكرنا لمذهب علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، وما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من فضائلهم وما ذكر من مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنه عند وفاته، وما ذكر من مناقب عمر رضي الله عنه عند وفاته، وما ذكر من عظم مصيبته بما جرى على عثمان رضي الله عنه من قتله وتبرأ إلى الله عز وجل من قتله، وكذا ولده وذريته الطيبة، ينكرون على الرافضة سوء مذاهبهم ويتبرؤون منهم ويأمرون بمحبة أبي بكر وعمر وعثمان وسائر الصحابة رضي الله عنهم؛ لأن الرافضة لا يشهدون جمعة ولا جماعة، ويطعنون على السلف، ولا نكاحهم نكاح المسلمين، ولا طلاقهم طلاق المسلمين، وهم أصناف كثيرة. منهم من يقول: إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه إله. ¬

(¬1) الحجر الآية (47).

موقفه من الصوفية:

ومنهم من يقول: بل علي كان أحق بالنبوة من محمد، وأن جبريل غلط بالوحي. ومنهم من يقول: هو نبي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومنهم من يشتم أبا بكر وعمر ويكفرون جميع الصحابة ويقولون: هم في النار إلا ستة. ومنهم من يرى السيف على المسلمين فإن لم يقدروا خنقوهم حتى يقتلوهم. وقد أجل الله الكريم أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مذاهبهم القذرة التي لا تشبه المسلمين. وفيهم من يقول بالرجعة، نعوذ بالله ممن ينحل هذا إلى من قد أجلهم الله الكريم وصانهم عنها رضي الله عن أهل البيت وجزاهم عن جميع المسلمين خيراً. (¬1) موقفه من الصوفية: جاء في الاعتصام: قال الشاطبي بعد ما ذكر حديث: "وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب ... " الحديث (¬2)، فقال الإمام الآجري العالم السني أبو بكر رضي الله عنه: ميزوا هذا الكلام، فإنه لم يقل صرخنا من موعظة، ولا زعقنا ولا طرقنا على ¬

(¬1) الشريعة (3/ 553 - 555). (¬2) أحمد (4/ 126) وأبو داود (5/ 13/4607) والترمذي (5/ 43/2676) وقال: "حسن صحيح". وابن ماجه (1/ 16/43) والحاكم (1/ 95 - 96) وقال: "صحيح ليس له علة" ووافقه الذهبي.

موقفه من الجهمية:

رؤوسنا ولا ضربنا على صدورنا، ولا زفنا ولا رقصنا كما يفعل كثير من الجهال؛ يصرخون عند المواعظ ويزعقون ويتغاشون. قال: وهذا كله من الشيطان يلعب بهم، وهذا كله بدعة وضلالة، ويقال لمن فعل هذا: اعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أصدق الناس موعظة وأنصح الناس لأمته وأرق الناس قلباً وخير الناس من جاء بعده، لا يشك في ذلك عاقل، ما صرخوا عند موعظته ولا زعقوا ولا رقصوا ولا زفنوا، ولو كان هذا صحيحاً لكانوا أحق الناس به أن يفعلوه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه بدعة وباطل ومنكر فاعلم ذلك. انتهى كلامه. (¬1) موقفه من الجهمية: - جاء في الشريعة: باب: ذكر الإيمان بأن القرآن كلام الله تعالى وأن كلامه ليس بمخلوق ومن زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر. قال محمد بن الحسين: اعلموا رحمنا الله وإياكم: أن قول المسلمين الذين لم تزغ قلوبهم عن الحق، ووفقوا للرشاد قديماً وحديثاً: أن القرآن كلام الله تعالى ليس بمخلوق، لأن القرآن من علم الله وعلم الله لا يكون مخلوقاً، تعالى الله عن ذلك. دلّ على ذلك القرآن والسنة، وقول الصحابة -رضي الله عنهم- وقول أئمة المسلمين، لا ينكر هذا إلا جهمي خبيث، والجهمي فعند العلماء كافر، قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ ¬

(¬1) الاعتصام (1/ 356).

فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (¬1) وقال تعالى: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} (¬2) وقال تعالى لنبيه -عليه السلام-: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} (¬3) وهو القرآن، وقال لموسى -عليه السلام-: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} (¬4) قال محمد بن الحسين: ومثل هذا في القرآن كثير. وقال تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} (¬5) وقال تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} (¬6). قال محمد بن الحسين -رحمه الله-: لم يزل الله عالماً متكلماً سميعاً بصيراً بصفاته قبل خلق الأشياء، من قال غير هذا كفر. وسنذكر من السنن والآثار وقول العلماء الذين لا يستوحش من ¬

(¬1) التوبة الآية (6). (¬2) البقرة الآية (75). (¬3) الأعراف الآية (158). (¬4) الأعراف الآية (144). (¬5) آل عمران الآية (61). (¬6) البقرة الآية (145).

ذكرهم ما إذا سمعها من له علم وعقل، زاده علماً وفهماً، وإذا سمعها من في قلبه زيغ، فإن أراد الله هدايته إلى طريق الحق رجع عن مذهبه، وإن لم يرجع فالبلاء عليه أعظم. (¬1) - وفيها: باب: ذكر النهي عن مذاهب الواقفة: قال محمد بن الحسين: وأما الذين قالوا: القرآن كلام الله، ووقفوا فيه وقالوا: لا نقول غير مخلوق، فهؤلاء عند كثير من العلماء ممن رد على من قال بخلق القرآن، قالوا: هؤلاء الواقفة مثل من قال: القرآن مخلوق وأشر، لأنهم شكوا في دينهم ونعوذ بالله ممن يشك في كلام الرب أنه غير مخلوق. (¬2) - وفيها: باب: ذكر اللفظية ومن زعم أن هذا القرآن حكاية للقرآن الذي في اللوح المحفوظ كذبوا. قال محمد بن الحسين: احذروا رحمكم الله هؤلاء الذين يقولون: إن لفظه بالقرآن مخلوق، وهذا عند أحمد بن حنبل، ومن كان على طريقته: منكر عظيم، وقائل هذا مبتدع، خبيث ولا يكلم، ولا يجالس، ويحذر منه الناس، لا يعرف العلماء غير ما تقدم ذكرنا له، وهو: أن القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال: مخلوق، فقد كفر. ومن قال: القرآن كلام الله ووقف فهو جهمي ومن قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي أيضاً، كذا قال أحمد ¬

(¬1) الشريعة (1/ 214 - 215). (¬2) الشريعة (1/ 232).

بن حنبل، وغلظ فيه القول جداً، وكذا من قال: إن هذا القرآن الذي يقرؤه الناس، وهو في المصاحف: حكاية لما في اللوح المحفوظ، فهذا قول منكر، ينكره العلماء. يقال لقائل هذه المقالة: القرآن يكذبك، ويرد قولك، والسنة تكذبك وترد قولك. قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (¬1) فأخبر الله تعالى: أنه إنما يسمع الناس كلام الله، ولم يقل: حكاية كلام الله. وقال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (204) (¬2) فأخبر أن السامع إنما يسمع القرآن، ولم يقل: حكاية القرآن. وقال تعالى: {إِنَّ هذا الْقُرْآَنَ يهدي لِلَّتِي هي أَقْوَمُ} (¬3). وقال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ¬

(¬1) التوبة الآية (6). (¬2) الأعراف الآية (204). (¬3) الإسراء الآية (9).

فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} (¬1) ولم يقل يستمعون حكاية القرآن، ولا قالت الجن: إنا سمعنا حكاية القرآن، كما قال: من ابتدع بدعة ضلالة، وأتى بخلاف الكتاب والسنة وبخلاف قول المؤمنين. وقال تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تيسر مِنَ الْقُرْآَنِ} (¬2) قال محمد بن الحسين: وهذا في القرآن كثير لمن تدبره. وقال النبي: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" (¬3) وقال: "إن الرجل الذي ليس في جوفه من القرآن شيء، كالبيت الخرب" (¬4) وقال: "مثل القرآن مثل الإبل المعقلة، إن تعاهدها صاحبها أمسكها، وإن تركها ذهبت" (¬5)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو" (¬6) وقال في حديث آخر: "لا تسافروا بالمصاحف إلى العدو، فإني أخاف أن ينالوها" (¬7) وقال: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله -عز ¬

(¬1) الأحقاف الآية (29) .. (¬2) الجن الآية (1). (¬3) المزمل الآية (20). (¬4) أحمد (1/ 58) والبخاري (9/ 91/5027) وأبو داود (2/ 147/1452) والترمذي (5/ 159/2907) وابن ماجه (1/ 76 - 77/ 211) والنسائي في الكبرى (5/ 19/8036) من حديث عثمان بن عفان. (¬5) أخرجه: أحمد (1/ 223) والترمذي (5/ 162/2913) والحاكم (1/ 554) من طريق جرير بن عبد الحميد عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس فذكره. وقال الترمذي: "حسن صحيح" وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وتعقبه الذهبي بقوله: "قلت: قابوس لين". (¬6) أخرجه: أحمد (2/ 64و112) والبخاري (9/ 97/5031) ومسلم (1/ 543/789) والنسائي (2/ 492/941) وابن ماجه (2/ 1243/3783) من حديث ابن عمر. (¬7) انظر تخريجه في مواقف أحمد بن كامل القاضي سنة (350هـ). (¬8) أخرجه أحمد (2/ 76) وابن أبي داود في المصاحف (206) وعلقه البخاري (6/ 164) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ..

وجل- القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار" (¬1).اهـ (¬2) - وفيها: قال محمد بن الحسين: فينبغي للمسلمين أن يتقوا الله تعالى، ويتعلموا القرآن، ويتعلموا أحكامه، فيحلوا حلاله ويحرموا حرامه، ويعملوا بمحكمه، ويؤمنوا بمتشابهه، ولا يماروا فيه، ويعلموا أنه كلام الله تعالى غير مخلوق. فإن عارضهم إنسان جهمي فقال: مخلوق، أو قال: القرآن كلام الله ووقف، أو قال: لفظي بالقرآن مخلوق، أو قال: هذا القرآن حكاية لما في اللوح المحفوظ. فحكمه أن يهجر ولا يكلم، ولا يصلى خلفه، ويحذر منه. وعليكم بعد ذلك بالسنن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسنن أصحابه رضي الله تعالى عنهم، وقول التابعين، وقول أئمة المسلمين مع ترك المراء والخصومة والجدال في الدين. فمن كان على هذا الطريق رجوت له من الله تعالى كل خير. (¬3) - وفيها: قال محمد بن الحسين رحمه الله: اعلموا وفقنا الله وإياكم للرشاد من القول والعمل أن أهل الحق يصفون الله عز وجل بما وصف به نفسه عز وجل، وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وبما وصفه به الصحابة رضي الله عنهم. وهذا مذهب العلماء ممن اتبع ولم يبتدع، ولا يقال فيه: كيف؟ بل التسليم له، والإيمان به: أن الله عز وجل يضحك، وكذا روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن صحابته ولا ينكر هذا إلا من لا يحمد حاله عند أهل الحق. (¬4) ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (2/ 36و88) والبخاري (13/ 614/7529) ومسلم (1/ 558/815) والترمذي (4/ 291/1936) والنسائي في الكبرى (5/ 27/8072) وابن ماجه (2/ 1408/4209) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (¬2) الشريعة (1/ 235 - 237). (¬3) الشريعة (1/ 239). (¬4) الشريعة (2/ 52).

- وفيها: فإن اعترض جاهل ممن لا علم معه، أو بعض هؤلاء الجهمية الذين لم يوفقوا للرشاد، ولعب بهم الشيطان وحرموا التوفيق فقال: المؤمنون يرون الله يوم القيامة؟ قيل له: نعم، والحمد لله تعالى على ذلك. فإن قال الجهمي: أنا لا أؤمن بهذا. قيل له: كفرت بالله العظيم. فإن قال: وما الحجة. قيل: لأنك رددت القرآن والسنة، وقول الصحابة رضي الله عنهم، وقول علماء المسلمين، واتبعت غير سبيل المؤمنين، وكنت ممن قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (¬1) فأما نص القرآن فقول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (23) (¬2) وقال تعالى وقد أخبرنا عن الكفار أنهم محجوبون عن رؤيته فقال تعالى ذكره: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} (¬3) فدل بهذه الآية: أن المؤمنين ينظرون إلى الله، وأنهم غير محجوبين عن رؤيته، كرامة منه لهم. وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وزيادة} (¬4) فروي أن "الزيادة" هي النظر ¬

(¬1) النساء الآية (115). (¬2) القيامة الآيتان (22و23). (¬3) المطففين الآيات (15 - 17). (¬4) يونس الآية (26).

إلى الله تعالى (¬1). وقال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} (¬2) واعلم رحمك الله أن عند أهل العلم باللغة أن اللقي هاهنا لا يكون إلا معاينة، يراهم الله تعالى ويرونه، ويسلم عليهم، ويكلمهم ويكلمونه. قال محمد بن الحسين: وقد قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (¬3) وكان مما بينه لأمته في هذه الآيات: أنه أعلمهم في غير حديث: "إنكم ترون ربكم تعالى" (¬4) روى عنه جماعة من صحابته رضي الله عنهم، وقبلها العلماء عنهم أحسن القبول، كما قبلوا عنهم علم الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، وعلم الحلال والحرام، كذا قبلوا منهم الأخبار: أن المؤمنين يرون الله تعالى، لا يشكون في ذلك، ثم قالوا: من رد هذه الأخبار فقد كفر. (¬5) - وفيها: فإن اعترض بعض من قد استحوذ عليهم الشيطان، فهم في غيهم يترددون ممن يزعم أن الله عز وجل لا يرى في القيامة، واحتج بقول الله عز وجل: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (4/ 332) ومسلم (1/ 163/181 [298]) والترمذي (4/ 593/2552) وابن ماجه (1/ 67/187) والنسائي في الكبرى (4/ 420/7766) عن صهيب بن سنان رضي الله عنه. (¬2) الأحزاب الآيتان (43و44). (¬3) النحل الآية (44). (¬4) انظر تخريجه في مواقف عبد العزيز الماجشون سنة (164هـ). (¬5) الشريعة (2/ 6 - 7).

الْخَبِيرُ} (¬1) فجحد النظر إلى الله عز وجل بتأويله الخاطئ لهذه الآية. قيل له: يا جاهل، إن الذي أنزل عز وجل عليه القرآن، وجعله الحجة على خلقه، وأمره بالبيان لما أنزل عليه من وحيه، هو أعلم بتأويلها منك يا جهمي، هو الذي قال لنا: "إنكم سترون ربكم عز وجل كما ترون هذا القمر". فقبلنا عنه ما بشرنا به من كرامة ربنا عز وجل على حسب ما تقدم ذكرنا له من الأخبار الصحاح عند أهل الحق من العلم، ثم فسر لنا الصحابة رضي الله عنهم بعده، ومن بعدهم من التابعين {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (23) (¬2) فسروه على النظر إلى وجه الله عز وجل، وكانوا بتفسير القرآن وبتفسير ما احتججت به من قوله عز وجل: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} (¬3) أعرف منك، وأهدى منك سبيلاً، والنبي - صلى الله عليه وسلم - فسر لنا قول الله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وزيادة} (¬4) وكانت الزيادة: النظر إلى وجه الله تعالى، وكذا عند صحابته رضي الله عنهم، فاستغنى أهل الحق بهذا، مع تواتر الأخبار الصحاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنظر إلى وجه الله عز وجل، وقبلها أهل العلم أحسن قبول. وكانوا بتأويل الآية التي عارضت بها ¬

(¬1) الأنعام الآية (103). (¬2) القيامة الآيتان (22و23). (¬3) الأنعام الآية (103). (¬4) يونس الآية (26).

أهل الحق أعلم منك يا جهمي. فإن قال قائل: فما تأويل قوله عز وجل {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} (¬1)؟ قيل له: معناها عند أهل العلم: أي لا تحيط به الأبصار، ولا تحويه عز وجل، وهم يرونه من غير إدراك ولا يشكون في رؤيته، كما يقول الرجل: رأيت السماء وهو صادق، ولم يحط بصره بكل السماء، ولم يدركها، وكما يقول الرجل: رأيت البحر، وهو صادق. ولم يدرك بصره كل البحر، ولم يحط ببصره، هكذا فسره العلماء، إن كنت تعقل. (¬2) - وفيها: فإنه من ادعى أنه مسلم ثم زعم أن الله عز وجل لم يكلم موسى فقد كفر، يستتاب فإن تاب وإلا قتل. فإن قال قائل: لم؟ قيل: لأنه رد القرآن وجحده، ورد السنة، وخالف جميع علماء المسلمين، وزاغ عن الحق، وكان ممن قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (¬3) وأما الحجة عليهم من القرآن: فإن الله جل وعز قال في سورة النساء: {وكلم الله موسى تكليمًا} (¬4) وقال عز ¬

(¬1) الأنعام الآية (103) .. (¬2) الشريعة (2/ 49 - 50). (¬3) النساء الآية (115). (¬4) النساء الآية (164).

وجل في سورة الأعراف: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} (¬1) وقال عز وجل: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} (¬2) الآية. وقال عز وجل في سورة طه: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (¬3) إلى آخر الآيات. وقال عز وجل في سورة النمل: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬4) وقال عز وجل في سورة القصص: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬5) وقال عز وجل في سورة والنازعات: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ ¬

(¬1) الأعراف الآية (143). (¬2) الأعراف الآية (144). (¬3) طه الآيات (11 - 14). (¬4) النمل الآيتان (8و9) .. (¬5) القصص الآية (30).

الْمُقَدَّسِ طُوًى} (¬1) قال محمد بن الحسين رحمه الله: فمن زعم أن الله عز وجل لم يكلم موسى فقد رد نص القرآن، وكفر بالله العظيم. فإن قال منهم قائل: إن الله تعالى خلق كلاماً في الشجرة، فكلم به موسى قيل: هذا هو الكفر، لأنه يزعم أن الكلام مخلوق، تعالى الله عز وجل عن ذلك ويزعم أن مخلوقاً يدعي الربوبية، وهذا من أقبح القول وأسمجه. وقيل له: يا ملحد، هل يجوز لغير الله أن يقول: إنني أنا الله؟ نعوذ بالله أن يكون قائل هذا مسلما، هذا كافر يستتاب، فإن تاب ورجع عن مذهبه السوء وإلا قتله الإمام، فإن لم يقتله الإمام ولم يستتبه وعلم منه أن هذا مذهبه هجر ولم يكلم، ولم يسلم عليه. ولم يصل خلفه، ولم تقبل شهادته. ولم يزوجه المسلم كريمته. (¬2) - قال محمد بن الحسين رحمه الله وهو يتحدث عن نزول الرب سبحانه: الإيمان بهذا واجب، ولا يسع المسلم العاقل أن يقول: كيف ينزل؟ ولا يرد هذا إلا المعتزلة. وأما أهل الحق فيقولون: الإيمان به واجب بلا كيف، لأن الأخبار قد صحت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة (¬3). والذين نقلوا إلينا هذه الأخبار هم الذين نقلوا إلينا الأحكام من الحلال والحرام، وعلم الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، فكما قبل العلماء عنهم ذلك قبلوا منهم هذه السنن، وقالوا: من ردها ضال ¬

(¬1) النازعات الآيتان (15و16). (¬2) الشريعة (2/ 84 - 85). (¬3) انظر تخريجه في مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ).

خبيث، يحذرونه ويحذرون منه. (¬1) - وفيها: قال محمد بن الحسين: يقال للجهمي الذي ينكر أن الله خلق آدم بيده: كفرت بالقرآن، ورددت السنة، وخالفت الأمة. فأما القرآن: فإن الله عز وجل لما أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس. قال الله عز وجل: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} (¬2) وقال -عز وجل- في سورة الحجر: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} (¬3). فحسد إبليس آدم؛ لأن الله عز وجل خلقه بيده، ولم يخلق إبليس بيده. ولما التقى موسى عليه السلام مع آدم عليه السلام فاحتجا، فكان من حجة موسى لآدم؛ أنه قال: أنت أبونا آدم خلقك الله تعالى بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك. فاحتج موسى على آدم بالكرامة التي خص الله -عز وجل- بها آدم، مما لم يخص غيره بها: من أن الله عز وجل خلقه بيده، وأمر ملائكته فسجدوا له، فمن أنكر هذا فقد كفر. ¬

(¬1) الشريعة (2/ 93). (¬2) ص الآية (75). (¬3) الحجر الآيات (28 - 31).

ثم احتج آدم على موسى، فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه، وخط لك التوراة بيده، وذكر الحديث (¬1).اهـ (¬2) - وفيها: قال محمد بن الحسين: اعلموا رحمكم الله، أن المنكر للشفاعة يزعم أن من دخل النار فليس بخارج منها، وهذا مذهب المعتزلة يكذبون بها، وبأشياء سنذكرها إن شاء الله تعالى، مما لها أصل في كتاب الله عز وجل، وسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسنن الصحابة رضي الله عنهم، ومن تبعهم بإحسان، وقول فقهاء المسلمين. فالمعتزلة يخالفون هذا كله، لا يلتفتون إلى سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا إلى سنن أصحابه رضي الله عنهم. وإنما يعارضون بمتشابه القرآن، وبما أراهم العقل عندهم، وليس هذا طريق المسلمين، وإنما هذا طريق من قد زاغ عن طريق الحق، وقد لعب به الشيطان. وقد حذرنا الله عز وجل ممن هذه صفته، وحذرناهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحذرناهم أئمة المسلمين قديماً وحديثاً. (¬3) - وفيها: قال محمد بن الحسين رحمه الله تعالى: إن المكذب بالشفاعة أخطأ في تأويله خطأ فاحشاً، خرج به عن الكتاب والسنة، وذلك أنه عمد إلى آيات من القرآن نزلت في أهل الكفر، أخبر الله عز وجل: أنهم إذا دخلوا النار أنهم غير خارجين منها، فجعلها المكذب بالشفاعة في الموحدين، ولم يلتفت إلى أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إثبات الشفاعة؛ أنها إنما هي لأهل ¬

(¬1) انظر تخريجه في مواقف محمد بن خفيف سنة (371هـ). (¬2) الشريعة (2/ 127 - 128). (¬3) الشريعة (2/ 140).

الكبائر، والقرآن يدل على هذا، فخرج بقوله السوء عن جملة ما عليه أهل الإيمان، واتبع غير سبيلهم قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (¬1) قال محمد بن الحسين رحمه الله: فكل من رد سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنن أصحابه فهو ممن شاقق الرسول وعصاه، وعصى الله تعالى بتركه قبول السنن، ولو عقل هذا الملحد وأنصف من نفسه، علم أن أحكام الله عز وجل وجميع ما تعبد به خلقه إنما تؤخذ من الكتاب والسنة، وقد أمر الله عز وجل نبيه عليه السلام أن يبين لخلقه ما أنزله عليه مما تعبدهم به، فقال جل ذكره: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (¬2) وقد بين - صلى الله عليه وسلم - لأمته جميع ما فرض الله عز وجل عليهم من جميع الأحكام ويبين لهم أمر الدنيا وأمر الآخرة وجميع ما ينبغي أن يؤمنوا به ولم يدعهم جهلة لا يعلمون حتى أعلمهم أمر الموت والقبر وما يلقى المؤمن، وما يلقى الكافر، وأمر المحشر والوقوف وأمر الجنة والنار حالاً بعد حال يعرفه أهل الحق وسنذكر كل باب في موضعه إن شاء الله تعالى. (¬3) ¬

(¬1) النساء الآية (115). (¬2) النحل الآية (44). (¬3) الشريعة (2/ 143 - 144).

موقفه من الخوارج:

موقفه من الخوارج: - قال محمد بن الحسين: لم يختلف العلماء قديماً وحديثاً أن الخوارج قوم سوء، عصاة لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإن صلوا وصاموا، واجتهدوا في العبادة، فليس ذلك بنافع لهم، نعم ويظهرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس ذلك بنافع لهم؛ لأنهم قوم يتأولون القرآن على ما يهوون، ويموهون على المسلمين، وقد حذرنا الله تعالى منهم، وحذرنا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحذرناهم الخلفاء الراشدون بعده، وحذرناهم الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان. والخوارج هم الشراة الأنجاس الأرجاس، ومن كان على مذهبهم من سائر الخوارج، يتوارثون هذا المذهب قديما وحديثا، ويخرجون على الأئمة والأمراء ويستحلون قتل المسلمين. فأول قرن طلع منهم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هو رجل طعن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يقسم الغنائم، فقال: اعدل يا محمد، فما أراك تعدل، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ويلك، فمن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ " فأراد عمر رضي الله عنه قتله، فمنعه النبي - صلى الله عليه وسلم - من قتله وأخبر: "أن هذا وأصحابا له يحقر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين" (¬1). وأمر في غير حديث بقتالهم، وبين فضل من قتلهم أو قتلوه. ثم إنهم بعد ذلك خرجوا من بلدان شتى، واجتمعوا وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى قدموا المدينة، فقتلوا عثمان بن عفان رضي الله عنه. وقد اجتهد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممن كان بالمدينة في أن لا يقتل ¬

(¬1) أحمد (3/ 65) والبخاري (6/ 766/3610) ومسلم (2/ 744 - 745/ 1064 (148)) والنسائي في الكبرى (5/ 159/8560) وابن ماجه (1/ 60/169) مختصراً. من حديث أبي سعيد الخدري.

عثمان، فما أطاقوا على ذلك رضي الله عنهم، ثم خرجوا بعد ذلك على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولم يرضوا لحكمه. وأظهروا قولهم وقالوا: لا حكم إلا لله، فقال علي رضي الله عنه: كلمة حق أرادوا بها الباطل. فقاتلهم علي رضي الله عنه فأكرمه الله تعالى بقتلهم، وأخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بفضل من قتلهم أو قتلوه، وقاتل معه الصحابة فصار سيف علي رضي الله عنه في الخوارج سيف حق إلى أن تقوم الساعة. (¬1) - وقال محمد بن الحسين: فلا ينبغي لمن رأى اجتهاد خارجي قد خرج على إمام عدلاً كان الإمام أو جائراً، فخرج وجمع جماعة وسل سيفه، واستحل قتال المسلمين، فلا ينبغي له أن يغتر بقراءته للقرآن، ولا بطول قيامه في الصلاة، ولا بدوام صيامه، ولا بحسن ألفاظه في العلم إذا كان مذهبه مذهب الخوارج. وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما قلته أخبار لا يدفعها كثير من علماء المسلمين، بل لعله لا يختلف في العلم بها جميع أئمة المسلمين. (¬2) - وقال محمد بن الحسين: قد ذكرت من التحذير من مذاهب الخوارج ما فيه بلاغ لمن عصمه الله تعالى عن مذهب الخوارج، ولم ير رأيهم، وصبر على جور الأئمة، وحيف الأمراء، ولم يخرج عليهم بسيفه، وسأل الله تعالى كشف الظلم عنه، وعن المسلمين، ودعا للولاة بالصلاح، وحج معهم، وجاهد معهم كل عدو للمسلمين، وصلى معهم الجمعة والعيدين، فإن أمروه ¬

(¬1) الشريعة (1/ 136 - 138). (¬2) الشريعة (1/ 145).

موقفه من المرجئة:

بطاعة فأمكنه أطاعهم، وإن لم يمكنه اعتذر إليهم، وإن أمروه بمعصية لم يطعهم، وإذا دارت الفتن بينهم لزم بيته، وكف لسانه ويده، ولم يهو ما هم فيه، ولم يعن على فتنة، فمن كان هذا وصفه كان على الصراط المستقيم إن شاء الله. (¬1) موقفه من المرجئة: - جاء في الشريعة: لا يصح الدين إلا بالتصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح، مثل الصلاة، والزكاة والصيام، والحج، والجهاد، وما أشبه ذلك. (¬2) - وفيها: قال محمد بن الحسين: اعلموا رحمنا الله وإياكم: أن الذي عليه علماء المسلمين: أن الإيمان واجب على جميع الخلق، وهو تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح. ثم اعلموا: أنه لا تجزيء المعرفة بالقلب والتصديق، إلا أن يكون معه الإيمان باللسان نطقاً، ولا تجزيء معرفة بالقلب، ونطق باللسان، حتى يكون عمل بالجوارح، فإذا كملت فيه هذه الثلاث الخصال: كان مؤمناً. دل على ذلك القرآن والسنة، وقول علماء المسلمين. فأما ما لزم القلب من فرض الإيمان فقول الله تعالى في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} (¬3). وقال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ ¬

(¬1) الشريعة (1/ 157). (¬2) الشريعة (1/ 251). (¬3) المائدة الآية (41).

مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬1) وقال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (¬2) الآية. فهذا مما يدلك على أن على القلب الإيمان، وهو التصديق والمعرفة، ولا ينفع القول إذ لم يكن القلب مصدقاً بما ينطق به اللسان مع العمل، فاعلموا ذلك. وأما فرض الإيمان باللسان: فقوله تعالى في سورة البقرة: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} (¬3) الآية. وقال تعالى في سورة آل عمران: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (¬4) الآية. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأني رسول الله ... " (¬5) وذكر الحديث. فهذا الإيمان باللسان نطقاً فرضاً ¬

(¬1) النحل الآية (106). (¬2) الحجرات الآية (14). (¬3) البقرة الآيتان (136و137). (¬4) آل عمران الآية (84). (¬5) تقدم تخريجه في مواقف الحكم بن عتيبة سنة (115هـ).

واجباً. وأما الإيمان بما فرض على الجوارح تصديقاً بما آمن به القلب، ونطق به اللسان: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} إلى قوله تعالى: {تُفْلِحُونَ (77)} (¬1) وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} في غير موضع من القرآن، ومثله فرض الصيام على جميع البدن، ومثله فرض الجهاد بالبدن، وبجميع الجوارح. فالأعمال رحمكم الله بالجوارح: تصديق عن الإيمان بالقلب واللسان، فمن لم يصدق الإيمان بعمله وبجوارحه: مثل الطهارة، والصلاة، والزكاة، والصيام والحج والجهاد، وأشباه لهذه، ورضي من نفسه بالمعرفة والقول لم يكن مؤمناً، ولم ينفعه المعرفة والقول، وكان تركه للعمل تكذيباً منه لإيمانه، وكان العمل بما ذكرناه تصديقاً منه لإيمانه، وبالله التوفيق. وقد قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} (¬2). فقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته شرائع الإيمان: أنها على هذا النعت في أحاديث كثيرة، وقد قال تعالى في كتابه، وبين في غير موضع: أن الإيمان لا يكون إلا بعمل، وبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - خلاف ما قالت المرجئة، الذين لعب بهم الشيطان. قال الله تعالى في سورة البقرة: {* لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى ¬

(¬1) آل عمران الآية (84). (¬2) تقدم تخريجه في مواقف الحكم بن عتيبة سنة (115هـ).

الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ والسائلين وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} إلى قوله تعالى: {المتقون} (¬1).اهـ (¬2) - وقال محمد بن الحسين: اعلموا رحمنا الله وإياكم يا أهل القرآن، ويا أهل العلم، ويا أهل السنن والآثار، ويا معشر من فقههم الله تعالى في الدين، بعلم الحلال والحرام أنكم إن تدبرتم القرآن، كما أمركم الله تعالى علمتم أن الله تعالى أوجب على المؤمنين بعد إيمانهم به وبرسوله: العمل، وأنه تعالى لم يثن على المؤمنين بأنه قد رضي عنهم، وأنهم قد رضوا عنه، وأثابهم على ذلك الدخول إلى الجنة، والنجاة من النار، إلا بالإيمان والعمل الصالح. وقرن مع الإيمان العمل الصالح، لم يدخلهم الجنة بالإيمان وحده، حتى ضم إليه العمل الصالح، الذي قد وفقهم له، فصار الإيمان لا يتم لأحد حتى يكون مصدقاً بقلبه، وناطقا بلسانه، وعاملاً بجوارحه لا يخفى على من تدبر القرآن وتصفحه، وجده كما ذكرت. واعلموا رحمنا الله تعالى وإياكم أني قد تصفحت القرآن فوجدت فيه ما ذكرته في ستة وخمسين موضعا من كتاب الله عز وجل: أن الله تبارك وتعالى لم يدخل المؤمنين الجنة بالإيمان وحده، بل أدخلهم الجنة برحمته إياهم، ¬

(¬1) البقرة الآية (177). (¬2) الشريعة (1/ 274 - 276).

وبما وفقهم له من الإيمان به، والعمل الصالح، وهذا رد على من قال: "الإيمان: المعرفة" ورد على من قال: "المعرفة والقول، وإن لم يعمل" نعوذ بالله من قائل هذا. فإن قال: فاذكر هذا الذي بينته من كتاب الله عز وجل، ليستغني غيرك عن التصفح للقرآن. قيل له: نعم، والله تعالى الموفق لذلك، والمعين عليه. قال الله تبارك وتعالى في سورة البقرة: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)} (¬1) وقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)} (¬2) وقال تبارك وتعالى في سورة آل عمران: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)} (¬3) وقال عز وجل في سورة النساء: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا ¬

(¬1) البقرة الآية (25). (¬2) البقرة الآية (277). (¬3) آل عمران الآيتان (56و57) ..

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)} (¬1) وقال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)} (¬2) وقال جل وعلا: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} (¬3) الآية. وقال تبارك وتعالى في سورة المائدة: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)} (¬4) وقال عز وجل في سورة الأنعام: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ ¬

(¬1) النساء الآية (57). (¬2) النساء الآية (122). (¬3) النساء الآيتان (172و173). (¬4) المائدة الآيتان (9و10).

وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)} (¬1) وقال عز وجل في سورة الأعراف: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} (¬2) وقال عز وجل في سورة براءة: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الفائزون (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)} (¬3) وقال عز وجل في سورة براءة أيضاً: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ ¬

(¬1) الأنعام الآية (48) .. (¬2) الأعراف الآيتان (42و43). (¬3) براءة الآيات (20 - 22).

وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88)} (¬1). قال محمد بن الحسين -رحمه الله تعالى-: اعتبروا رحمكم الله بما تسمعون، لم يعطهم مولاهم الكريم هذا الخير كله بالإيمان وحده، حتى ذكر عز وجل هجرتهم وجهادهم بأموالهم وأنفسهم. وقد علمتم أن الله عز وجل ذكر قوماً آمنوا بمكة، ولم يهاجروا مع رسوله - صلى الله عليه وسلم - ماذا قال فيهم؟ وهو قوله: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} (¬2) ثم ذكر قوماً آمنوا بمكة وأمكنتهم الهجرة إليه، فلم يهاجروا، فقال فيهم قولاً، هو أعظم من هذا. وهو قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)} (¬3) ثم عذر جل ذكره من لم يستطع الهجرة ولا النهوض بعد إيمانه، فقال عز وجل: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ ¬

(¬1) براءة الآية (88). (¬2) الأنفال الآية (72). (¬3) النساء الآية (97).

سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} (¬1) الآية. قال محمد بن الحسين -رحمه الله تعالى-: كل هذا يدل على أن الإيمان تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح. ولا يجوز غير هذا (¬2)، رداً على المرجئة، الذين لعب بهم الشيطان. ميزوا هذا تفقهوا، إن شاء الله. وقال عز وجل في سورة يونس: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} (¬3) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)} (¬4) وقال تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)} (¬5) وقال تعالى في سورة الرعد: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ ¬

(¬1) النساء الآيتان (98و99). (¬2) قال محقق الكتاب في (ت) -يعني النسخة التركية-: ولا يجوز غير هذا. (¬3) يونس الآية (4). (¬4) يونس الآية (9). (¬5) يونس الآيتان (63و64).

وَحُسْنُ مَآَبٍ (29)} (¬1) وقال تعالى في سورة إبراهيم: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)} (¬2) وقال تعالى في سورة سبحان: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)} (¬3) وقال تعالى في سورة الكهف: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)} (¬4) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرائك نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)} (¬5) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ¬

(¬1) الرعد الآيتان (28و29). (¬2) إبراهيم الآية (23). (¬3) الإسراء الآية (9) .. (¬4) الكهف الآيات (1 - 3). (¬5) الكهف الآيتان (30و31).

آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)} (¬1). وقال تعالى في سورة مريم: {* فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)} (¬2) وقال في سورة مريم أيضاً: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)} (¬3) وقال تعالى في سورة طه: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)} (¬4) وقال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)} (¬5) وقال تعالى في سورة الحج: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ¬

(¬1) الكهف الآيتان (107و108). (¬2) مريم الآيتان (59و60). (¬3) مريم الآية (96). (¬4) طه الآيتان (75و76). (¬5) طه الآية (82).

جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)} (¬1) وقال عز وجل: {إِن اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)} (¬2) وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50)} (¬3) وقال تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56)} (¬4) وقال تعالى في سورة العنكبوت: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)} (¬5) وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ ¬

(¬1) الحج الآية (14). (¬2) الحج الآية (23). (¬3) الحج الآيتان (49و50). (¬4) الحج الآية (56) .. (¬5) العنكبوت الآية (7).

يَتَوَكَّلُونَ (59)} (¬1) وقال تعالى في سورة الروم: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)} (¬2) وقال تعالى في سورة لقمان: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)} (¬3) وقال تعالى في سورة السجدة: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19)} (¬4) وقال تعالى في سورة سبأ: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)} (¬5) وقال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ ¬

(¬1) العنكبوت الآيتان (58و59). (¬2) الروم الآيتان (14و15). (¬3) لقمان الآيتان (8و9). (¬4) السجدة الآيتان (18و19). (¬5) سبأ الآية (4).

آَمِنُونَ (37)} (¬1) وقال تعالى في سورة فاطر: {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)} (¬2) وقال تعالى في سورة الزمر: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} إلى قوله: {أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (¬3) وقال تعالى في سورة حم عسق: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)} (¬4) وقال تعالى: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (¬5) وقال تعالى في سورة الزخرف: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)} إلى قوله: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ ¬

(¬1) سبأ الآية (37) .. (¬2) فاطر الآية (7). (¬3) الزمر الآيتان (73و74). (¬4) الشورى الآية (22). (¬5) الشورى الآية (23).

الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)} (¬1) وقال تعالى في سورة الجاثية: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} إلى قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30)} (¬2) وقال تعالى في سورة الأحقاف: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)} (¬3) وقال تعالى في سورة محمد - صلى الله عليه وسلم -: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)} (¬4) وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} إلى قوله: {مَثْوًى لَهُمْ (12)} (¬5) وقال في سورة التغابن: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي ¬

(¬1) الزخرف الآيات (67 - 72). (¬2) الجاثية الآيات (28 - 30) .. (¬3) الأحقاف الآيتان (13و14). (¬4) محمد الآيتان (1و2). (¬5) محمد الآية (12).

مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)} (¬1) وقال في سورة الطلاق: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (¬2) وقال تعالى في سورة (إذا السماء انشقت): {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7)} إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)} (¬3) وقال تعالى في سورة البروج: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)} (¬4) وقال تعالى في سورة التين والزيتون: {إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)} (¬5) وقال تعالى في سورة البينة: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} إلى قوله: {إِن الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)} (¬6) وقال عز وجل في سورة العصر: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ ¬

(¬1) التغابن الآية (9). (¬2) الطلاق الآية (11). (¬3) الانشقاق الآية (25). (¬4) البروج الآية (11) .. (¬5) التين الآية (6). (¬6) البينة الآيات (1 - 7).

الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} قال محمد بن الحسين: ميزوا رحمكم الله قول مولاكم الكريم: هل ذكر الإيمان في موضع واحد من القرآن، إلا وقد قرن إليه العمل الصالح؟ وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (¬1) فأخبر تعالى، بأن الكلم الطيب حقيقته أن يرفع إلى الله تعالى بالعمل، إن لم يكن عمل بطل الكلام من قائله، ورد عليه. ولا كلام طيب أجل من التوحيد ولا عمل من أعمال الصالحات أجل من أداء الفرائض. (¬2) - وقال محمد بن الحسين: من قال: الإيمان قول دون العمل، يقال له: رددت القرآن والسنة، وما عليه جميع العلماء، وخرجت من قول المسلمين، وكفرت بالله العظيم. فإن قال: بم ذا؟ قيل له: إن الله عز وجل، أمر المؤمنين بعد أن صدقوا في إيمانهم: أمرهم بالصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، وفرائض كثيرة، يطول ذكرها، مع شدة خوفهم على التفريط فيها النار والعقوبة الشديدة. فمن زعم أن الله تعالى فرض على المؤمنين ما ذكرنا، ولم يرد منهم العمل، ورضي منهم بالقول، فقد خالف الله عز وجل ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإن الله عز وجل لما تكامل أمر الإسلام بالأعمال قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ ¬

(¬1) فاطر الآية (10). (¬2) الشريعة (1/ 277 - 284).

لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬1) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بني الإسلام على خمس» (¬2) وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من ترك الصلاة فقد كفر» (¬3). قال محمد بن الحسين رحمه الله تعالى: ومن قال: الإيمان: المعرفة، دون القول والعمل، فقد أتى بأعظم من مقالة من قال: الإيمان: قول. ولزمه أن يكون إبليس على قوله مؤمناً. لأن إبليس قد عرف ربه قال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} (¬4) وقال: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي} (¬5) ويلزم أن تكون اليهود لمعرفتهم بالله وبرسوله أن يكونوا مؤمنين، قال الله عز وجل: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} (¬6) فقد أخبر عز وجل: أنهم يعرفون الله تعالى ورسوله. ويقال لهم: إيش الفرق بين الإسلام وبين الكفر؟ وقد علمنا أن أهل الكفر قد عرفوا بعقولهم أن الله خلق السموات والأرض وما بينهما، ولا ينجيهم في ظلمات البر والبحر إلا الله عز وجل، وإذا أصابتهم الشدائد لا ¬

(¬1) المائدة الآية (3). (¬2) تقدم تخريجه في مواقف البخاري سنة (256هـ). (¬3) أحمد (5/ 346 و355) والترمذي (5/ 21/2621) والنسائي (1/ 250/462) وابن ماجه (1/ 342/1079) من طريق الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر». وقال الترمذي: "حسن صحيح غريب". (¬4) الحجر الآية (39). (¬5) الحجر الآية (36). (¬6) البقرة الآية (146).

يدعون إلا الله، فعلى قولهم إن الإيمان المعرفة كل هؤلاء مثل من قال: الإيمان: المعرفة. على قائل هذه المقالة الوحشية لعنة الله. بل نقول والحمد لله قولاً يوافق الكتاب والسنة، وعلماء المسلمين الذين لا يستوحش من ذكرهم، وقد تقدم ذكرنا لهم: إن الإيمان معرفة بالقلب تصديقاً يقيناً، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، لا يكون مؤمناً إلا بهذه الثلاثة، لا يجزي بعضها عن بعض، والحمد لله على ذلك. (¬1) - وقال رحمه الله تعالى: من قال هذا -أي أن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل عليهما السلام-، فلقد أعظم الفرية على الله عز وجل، وأتى بضد الحق، وبما ينكره جميع العلماء، لأن قائل هذه المقالة يزعم: أن من قال: لا إله إلا الله لم تضره الكبائر أن يعملها، ولا الفواحش أن يرتكبها، وأن عنده: أن البار التقي الذي لا يباشر من ذلك شيئاً، والفاجر يكونان سواء، هذا منكر. قال الله عز وجل: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)} (¬2) وقال عز وجل: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} (¬3) فقل لقائل هذه المقالة النكرة: يا ضال يا مضل، إن الله عز وجل لم يسوِّ بين ¬

(¬1) الشريعة (1/ 310 - 312). (¬2) الجاثية الآية (21). (¬3) ص الآية (28).

موقفه من القدرية:

الطائفتين من المؤمنين في أعمال الصالحات، حتى فضّل بعضهم على بعض درجات. قال الله عز وجل: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)} (¬1) فوعدهم الله عز وجل كلهم بالحسنى، بعد أن فضل بعضهم على بعض. وقال عز وجل: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} ثم قال: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} (¬2) وكيف يجوز لهذا الملحد في الدين أن يسوي بين إيمانه وإيمان جبريل، وميكائيل، ويزعم أنه مؤمن حقّاً؟ (¬3) موقفه من القدرية: - قال رحمه الله: فإن سائلاً سأل عن مذهبنا في القدر؟ فالجواب في ذلك قبل أن نخبره بمذهبنا: أنا ننصح للسائل، ونعلمه أنه لا يحسن بالمسلمين التنقير والبحث عن القدر، لأن القدر سر من سر الله عز وجل، بل الإيمان بما جرت به المقادير من خير أو شر: واجب على العباد أن يؤمنوا به، ثم لا يأمن ¬

(¬1) الحديد الآية (10). (¬2) النساء الآية (95) .. (¬3) الشريعة (1/ 313).

العبد أن يبحث عن القدر فيكذب بمقادير الله الجارية على العباد، فيضل عن طريق الحق، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما هلكت أمة قط إلا بالشرك بالله عز وجل، وما أشركت أمة حتى يكون بدو أمرها وشركها التكذيب بالقدر» (¬1) قال محمد بن الحسين رحمه الله: ولولا أن الصحابة رضي الله عنهم لما بلغهم عن قوم ضلال شردوا عن طريق الحق، وكذبوا بالقدر، فردوا عليهم قولهم، وسبوهم وكفروهم، وكذلك التابعون لهم بإحسان سبوا من تكلم بالقدر وكذب به ولعنوهم ونهوا عن مجالستهم، وكذلك أئمة المسلمين ينهون عن مجالسة القدرية وعن مناظرتهم. وبينوا للمسلمين قبيح مذاهبهم. فلولا أن هؤلاء ردوا على القدرية لم يسع من بعدهم الكلام على القدر، بل الإيمان بالقدر: خيره وشره، واجب قضاء وقدر، وما قدر يكن، وما لم يقدر لم يكن، فإذا عمل العبد بطاعة الله عز وجل، علم أنها بتوفيق الله له فيشكره على ذاك. وإن عمل بمعصيته ندم على ذلك، وعلم أنها بمقدور جرى عليه، فذم نفسه واستغفر الله عز وجل. هذا مذهب المسلمين. وليس لأحد على الله عز وجل حجة، بل لله الحجة على خلقه. قال الله عز وجل: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} (¬2) ثم اعلموا رحمنا الله وإياكم: أن مذهبنا في القدر أن القدر أن نقول: إن الله عز ¬

(¬1) أخرجه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: ابن أبي عاصم (1/ 141/322) والآجري في الشريعة (1/ 380/425) وابن بطة (2/ 107/1524)، اللالكائي (4/ 690/1113 و1114). قال الشيخ الألباني رحمه الله في رياض الجنة: "إسناده ضعيف، رجاله ثقات غير يحيى بن القاسم وأبيه فإنهما لا يعرفان، وإن وثقهما ابن حبان. وعمر بن يزيد النصري مختلف فيه". (¬2) الأنعام الآية (149).

وجل خلق الجنة وخلق النار، ولكل واحدة منهما أهلاً، وأقسم بعزته أنه يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين، ثم خلق آدم عليه السلام، واستخرج من ظهره كل ذرية هو خالقها إلى يوم القيامة. ثم جعلهم فريقين: فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير. وخلق إبليس، وأمره بالسجود لآدم عليه السلام، وقد علم أنه لا يسجد للمقدور، الذي قد جرى عليه من الشقوة التي قد سبقت في العلم من الله عز وجل، لا معارض لله الكريم في حكمه، يفعل في خلقه ما يريد، عدلاً من ربنا قضاؤه وقدره، وخلق آدم وحواء عليهما السلام، للأرض خلقهما، أسكنهما الجنة، وأمرهما أن يأكلا منها رغداً ما شاءا، ونهاهما عن شجرة واحدة أن لا يقرباها، وقد جرى مقدوره أنهما سيعصيانه بأكلهما من الشجرة. فهو تبارك وتعالى في الظاهر ينهاهما، وفي الباطن من علمه: قد قدر عليهما أنهما يأكلان منها: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} (¬1) لم يكن لهما بد من أكلهما، سبباً للمعصية، وسبباً لخروجهما من الجنة، إذ كانا للأرض خلقا، وأنه سيغفر لهما بعد المعصية، كل ذلك سابق في علمه، لا يجوز أن يكون شيء يحدث في جميع خلقه، إلا وقد جرى مقدوره به، وأحاط به علماً قبل كونه أنه سيكون. خلق الخلق كما شاء لما شاء، فجعلهم شقياً وسعيداً قبل أن يخرجهم إلى الدنيا، وهم في بطون أمهاتهم، وكتب آجالهم، وكتب أرزاقهم، وكتب أعمالهم، ثم أخرجهم إلى الدنيا، وكل إنسان يسعى فيما كتب له وعليه، ثم بعث رسله، ¬

(¬1) الأنبياء الآية (23).

وأنزل عليهم وحيه، وأمرهم بالبلاغ لخلقه، فبلغوا رسالات ربهم، ونصحوا قومهم، فمن جرى في مقدور الله عز وجل أن يؤمن آمن، ومن جرى في مقدوره أن يكفر كفر؛ قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)} (¬1) أحب من أراد من عباده، فشرح صدره للإيمان والإسلام، ومقت آخرين، فختم على قلوبهم، وعلى سمعهم وعلى أبصارهم فلن يهتدوا إذاً أبداً، يضل من يشاء ويهدي من يشاء: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} (¬2) الخلق كلهم له، يفعل في خلقه ما يريد، غير ظالم لهم، جل ذكره أن ينسب ربنا إلى الظلم من يأخذ ما ليس له بملك، وأما ربنا تعالى فله ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما، وما تحت الثرى، وله الدنيا والآخرة، جل ذكره، وتقدست أسماؤه، أحب الطاعة من عباده وأمر بها، فجرت ممن أطاعه بتوفيقه لهم، ونهى عن المعاصي، وأراد كونها من غير محبة منه لها، ولا للأمر بها، تعالى عز وجل عن أن يأمر بالفحشاء، أو يحبها وجل ربنا وعز من أن يجري في ملكه ما لم يرد أن يجري، أو شيء لم يحط به علمه قبل كونه، قد علم ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم، وبعد أن يخلقهم، قبل أن يعملوا قضاءً وقدراً، قد جرى القلم بأمره تعالى في اللوح المحفوظ بما يكون، من بر أو فجور، يثني على من عمل بطاعته من عبيده، ويضيف العمل إلى العباد، ويعدهم عليه الجزاء العظيم، ¬

(¬1) التغابن الآية (2). (¬2) الأنبياء الآية (23) ..

ولولا توفيقه لهم ما عملوا بما استوجبوا به منه الجزاء {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} (¬1) وكذا ذم قوماً عملوا بمعصيته، وتوعدهم على العمل بها وأضاف العمل إليهم بما عملوا، وذلك بمقدور جرى عليهم، يضل من يشاء، ويهدي من يشاء. (¬2) وقال رحمه الله: ثم نذكر ما قالته الأنبياء عليهم السلام خلاف ما قالته القدرية، قال نوح عليه السلام لقومه، لما قالوا: {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)} (¬3) وقال شعيب لقومه: قال الله تعالى: {* قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى ¬

(¬1) الجمعة الآية (4). (¬2) الشريعة (1/ 318 - 320). (¬3) هود الآيات (32 - 34).

اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا} (¬1) الآية. وقال شعيب أيضاً لقومه: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} (¬2). وقال تعالى في قصة يوسف عليه السلام: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)} (¬3)، وقال يوسف عليه السلام: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)} (¬4) قال الله عز وجل: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)} (¬5). وقال إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)} (¬6) وقال موسى عليه السلام لما دعا على قومه ¬

(¬1) الأعراف الآيتان (88و89). (¬2) هود الآية (88). (¬3) يوسف الآية (24) .. (¬4) يوسف الآية (33). (¬5) يوسف الآية (34). (¬6) إبراهيم الآية (35).

فقال: {رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا} (¬1). وقال تعالى فيما أخبر عن أهل النار: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)} (¬2). قال محمد بن الحسين: فقد أقر أهل النار: أن الهداية من الله لا من أنفسهم. قال محمد بن الحسين: اعتبروا رحمكم الله قول الأنبياء عليهم السلام، وقول أهل النار، كل ذلك حجة على القدرية. واعلموا رحمكم الله: أن الله عز وجل بعث رسله، وأمرهم بالبلاغ، حجة على من أرسلوا إليهم، فلم يجبهم إلى الإيمان إلا من سبقت له من الله تعالى الهداية. ومن لم يسبق له من الله الهداية، وفي مقدوره أنه شقي من أهل النار، لم يجبهم، وثبت على كفره، وقد أخبركم الله تعالى يا مسلمون بذلك. نعم، وقد حرص نبينا - صلى الله عليه وسلم -، والأنبياء من قبله، على هداية أممهم، فما يقع حرصهم، إذا كان في مقدور الله أنهم لا يؤمنون. ¬

(¬1) يونس الآيتان (88و89). (¬2) إبراهيم الآية (21).

فإن قال قائل: بين لنا هذا الفصل من كتاب الله تعالى، فإنا نحتاج إلى معرفته. قيل له: قال الله تعالى في سورة النحل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)} (¬1) ثم قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)} (¬2). ثم قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، وقد أحب هداية بعض من يحبه، فأنزل الله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)} (¬3) وقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أيضاً: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)} (¬4). وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ ¬

(¬1) النحل الآية (36). (¬2) النحل الآية (37). (¬3) القصص الآية (56). (¬4) الأعراف الآية (188).

يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)} (¬1). قال محمد بن الحسين رحمه الله: كل هذا بين لكم الرب تعالى به أن الأنبياء إنما بعثوا مبشرين ومنذرين، وحجة على الخلق، فمن شاء الله تعالى له الإيمان آمن، ومن لم يشأ له الإيمان لم يؤمن، قد فرغ الله تعالى من كل شيء، قد كتب الطاعة لقوم، وكتب المعصية على قوم، ويرحم أقواماً بعد معصيتهم إياه، ويتوب عليهم، وقوم لا يرحمهم، ولا يتوب عليهم {لَا يُسئل عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} (¬2).اهـ (¬3) - وقال رحمه الله: هكذا القدري يقال له: قال الله كذا، وقال: كذا وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: كذا، وقال: كذا، وقالت الأنبياء: كذا، وقالت صحابة نبينا: كذا، وقالت أئمة المسلمين: كذا، فلا يسمع ولا يعقل إلا ما هو عليه من مذهبه الخبيث، أعاذنا الله وإياكم من سوء مذهبهم، ورزقنا وإياكم التمسك بالحق، وثبت قلوبنا على شريعة الحق، إنه ذو فضل عظيم، وأعاذنا من زيغ القلوب، فإن المؤمنين قد علموا أن قلوبهم بيد الله، يزيغها إذا شاء عن الحق، ويهديها إذا شاء إلى الحق، من لم يؤمن بهذا كفر. قال الله تعالى فيما أرشد أنبياءه إليه والمؤمنين من الدعاء، أرشدهم في كتابه أن يقولوا: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} (¬4).اهـ (¬5) ¬

(¬1) إبراهيم الآية (4). (¬2) الأنبياء الآية (23). (¬3) الشريعة (1/ 335 - 337). (¬4) آل عمران الآية (8). (¬5) الشريعة (1/ 334).

- وقال رحمه الله: لقد شقي من خالف هذه الطريقة، وهم القدرية. فإن قال قائل: هم عندك أشقياء؟ قلت: نعم فإن قال قائل: بم ذا؟ قلت: كذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسماهم مجوس هذه الأمة، وقال: «إن مرضوا، فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم» (¬1). اهـ (¬2) - وقال رحمه الله: هذه حجتنا على القدرية: كتاب الله تعالى، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وسنة أصحابه والتابعين لهم بإحسان، وقول أئمة المسلمين، مع تركنا للجدال والمراء والبحث عن القدر، فإنا قد نهينا عنه، وأمرنا بترك مجالسة القدرية، وأن لا نناظرهم، ولا نفاتحهم على سبيل الجدل، بل يهجرون ويهانون ويذلون، ولا يصلى خلف واحد منهم، ولا تقبل شهادتهم ولا يزوج، وإن مرض لم يعد وإن مات لم يحضر جنازته، ولم تجب دعوته في وليمة إن كانت له، فإن جاء مسترشداً أرشد على معنى النصيحة له، فإن رجع فالحمد لله، وإن عاد إلى باب الجدل والمراء لم نلتفت عليه، وطرد وحذر منه، ولم يكلم ولم يسلم عليه. (¬3) - وقال: يقال للقدري: يا من لعب به الشيطان، يا من ينكر أن الله ¬

(¬1) أخرجه من حديث ابن عمر: أبو داود (5/ 66 - 67/ 4691) والحاكم (1/ 85) كلاهما من طريق عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن ابن عمر به. وأبو حازم لم يسمع من ابن عمر. وقد تابع عبد العزيز بن أبي حازم زكريا بن منظور، قال: حدثنا أبو حازم عن نافع عن ابن عمر به، أخرجه الآجري في الشريعة (1/ 378/220). وتابع أبا حازم عمر بن عبد الله مولى غفرة كما عند أحمد (2/ 125). وللحديث شواهد من حديث أنس وحذيفة وجابر يرتقي بها الحديث إلى الحسن، انظر تخريج السنة لابن أبي عاصم (1/ 144 - 145/ 328 - 329). (¬2) الشريعة (1/ 338 - 339). (¬3) الشريعة (1/ 445 - 446).

تعالى خلق الشر، أليس إبليس أصل كل شر؟ أليس الله خلقه؟ أليس الله تعالى خلق الشياطين وأرسلهم على من أراد ليضلوهم عن طريق الرشد؟ فأي حجة لك يا قدري؟ يا من قد حرم التوفيق، أليس الله تعالى قال: {* وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} إلى قوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)} (¬1)؟ وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)} (¬2) وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)} (¬3)؟.اهـ (¬4) - وقال: فإن اعترض بعض هؤلاء القدرية بتأويله الخطأ، فقال: قال الله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (¬5) فيزعم أن السيئة من نفسه، دون أن يكون الله تعالى قضاها وقدرها عليه. قيل له: يا جاهل، إن الذي أنزلت عليه هذه الآية هو أعلم بتأويلها منك، وهو الذي بين لنا جميع ما تقدم ذكرنا له من إثبات القدر، وكذلك ¬

(¬1) فصلت الآية (25). (¬2) الزخرف الآيتان (36و37). (¬3) مريم الآية (83). (¬4) الشريعة (1/ 462). (¬5) النساء الآية (79).

الصحابة الذين شاهدوا التنزيل، رضي الله عنهم، هم الذين بينوا لنا ولك إثبات المقادير بكل ما هو كائن من خير وشر. وقيل: لو عقلت تأويلها لم تعارض بها، ولعلمت أن الحجة عليك لا لك، فإن قال: كيف؟ قيل له: قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} أليس الله تعالى أصابه بها: خيراً كان أو شراً؟ فاعقل يا جاهل. أليس قال الله تعالى: {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ} (¬1) وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)} (¬2) وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)} (¬3) وهذا في القرآن كثير. ألا ترى أن الله تعالى يخبرنا أن كل مصيبة تكون بالعباد من خير أو شر فالله يصيبهم بها، وقد كتب مصابهم في علم قد سبق، وجرى به القلم على حسب ما تقدم ذكرنا له. فاعقلوه يا مسلمون فإن القدري محروم من التوفيق. وقد روي: أن هذه الآية التي يحتج بها القدري في قراءة عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب: ((ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من ¬

(¬1) يوسف الآية (56). (¬2) الأعراف الآية (100). (¬3) الحديد الآية (22).

سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك)) (¬1).اهـ (¬2) - وقال رحمه الله: اعلموا رحمنا الله وإياكم أن الله تعالى ذكره أمر العباد باتباع صراطه المستقيم، وأن لا يعوجوا عنه يميناً ولا شمالاً، فقال تعالى ذكره: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} (¬3)، ثم قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)} (¬4) ففي الظاهر: أنه جل ذكره أمرهم بالاستقامة واتباع سبيله وجعل في الظاهر إليهم المشيئة، ثم أعلمهم بعد ذلك: أنكم لن تشاؤوا إلا أن أشاء أنا لكم ما فيه هدايتكم، وأن مشيئتكم تبع لمشيئتي، فقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} (¬5). فأعلمهم أن مشيئتهم تبع لمشيئته عز وجل. وقال عز وجل: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)} (¬6) وقال عز وجل: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ ¬

(¬1) عزاها السيوطي في الدر (2/ 331) إلى ابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف عن مجاهد قال: هي قراءة أبيّ بن كعب وعبد الله بن مسعود ... وذكرها القرطبي في تفسيره (5/ 286) وقال: "فهذه قراءة على التفسير وقد أثبتها بعض أهل الزيغ من القرآن، والحديث بذلك عن ابن مسعود وأبي منقطع لأن مجاهداً لم ير عبد الله ولا أبيّاً". (¬2) الشريعة (1/ 464 - 465). (¬3) الأنعام الآية (153). (¬4) التكوير الآية (28). (¬5) التكوير الآية (29). (¬6) البقرة الآية (142).

محمد القصاب (360 هـ)

اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} إلى قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)} (¬1).اهـ (¬2) محمد القَصَّاب (¬3) (360 هـ) محمد بن عليّ بن محمد القصاب الإمام الحافظ المجاهد أبو أحمد الكرجي. وعرف بالقصاب لكثرة ما قتل من الكفار في مغازيه. حدث عن أبيه أحد أصحاب علي بن حرب، وعن محمد بن العباس، ومحمد بن إبراهيم الطيالسي. وحدث عنه ابناه علي وأبو الفرج عمار، وأبو المنصور مظفر بن محمد بن حسين. وله مصنفات منها: 'ثواب الأعمال' و'السنة' وغيرهما. ومن ثناء العلماء عليه قول بعضهم: وفي الكرج الغراء أوحد عصره ... أبو أحمد القصاب غير مغالب تصانيفه تبدي فنون علومه ... فلست ترى علماً له غير شارب موقفه من الجهمية: جاء في السير: وهو القائل في كتاب السنة: كل صفة وصف الله بها ¬

(¬1) البقرة الآية (213). (¬2) الشريعة (1/ 466 - 467). (¬3) السير (16/ 213 - 214) والوافي بالوفيات (4/ 114) وتذكرة الحفاظ (3/ 939).

أبو القاسم الطبراني (360 هـ)

نفسه أو وصفه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - فليست صفة مجاز ولو كانت صفة مجاز لتحتم تأويلها ولقيل معنى البصر كذا ومعنى السمع كذا وفسرت بغير السابق إلى الأفهام. فلما كان مذهب السلف إقرارها بلا تأويل، علم أنها غير محملة على المجاز وإنما هي حق بين. التعليق: فهذا العالم الكبير يفسر لنا مذهب السلف في الإثبات ويبطل مزاعم المؤولة والمفوضة الجهلة. وله كتاب السنة، ذكره الذهبي في السير. (¬1) أبو القاسم الطَّبَرَانِي (¬2) (360 هـ) أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الشامي الطبراني. الإمام الحافظ الثقة الرحال الجوال محدث الإسلام علم المعمرين. ولد بمدينة عكا سنة ستين ومائتين. قال الذهبي: فأول ارتحاله كان في سنة خمس وسبعين فبقي في الارتحال ولقي الرجال ستة عشر عاماً وكتب عمن أقبل وأدبر وبرع في هذا الشأن وجمع وصنف وعمر دهراً طويلاً وازدحم عليه المحدثون ورحلوا إليه من الأقطار. روى عن أبي زرعة الدمشقي وعلي بن عبد العزيز البغوي وعبد الله بن أحمد بن حنبل وغيرهم. روى عنه ابن منده وأبو بكر بن ¬

(¬1) (16/ 213). (¬2) السير (16/ 119 - 130) ولسان الميزان (3/ 73 - 75) وميزان الاعتدال (2/ 195) وتذكرة الحفاظ (3/ 912 - 917) ووفيات الأعيان (2/ 407) وطبقات الحنابلة (2/ 49 - 51) والبداية والنهاية (11/ 287 - 288).

موقفه من المبتدعة:

مردويه وأبو نعيم الأصبهاني. قال ابن الجوزي: كان سليمان من الحفاظ والأشداء في دين الله تعالى وله الحفظ القوي والتصانيف الحسان. وقال أبو بكر محمد بن أبي علي المعدل: الطبراني أشهر من أن يدل على فضله وعلمه، كان واسع العلم كثير التصانيف. توفي سنة ستين وثلاثمائة. موقفه من المبتدعة: قال ابن الجوزي في المنتظم: كان سليمان من الحفاظ والأشداء في دين الله تعالى. (¬1) له من الآثار السلفية كتاب السنة ذكره غير واحد ممن ترجم له. موقفه من الرافضة: قال ابن منده: ووجدت عن أحمد بن جعفر الفقيه أخبرنا أبو عمر بن عبد الوهاب السلمي، قال: سمعت الطبراني يقول: لما قدم أبو علي بن رستم ابن فارس، دخلت عليه، فدخل عليه بعض الكتاب، فصب على رجله خمس مائة درهم، فلما خرج الكاتب أعطانيها، فلما دخلت بنته أم عدنان، صبت على رجله، خمس مائة، فقمت، فقال: إلى أين؟ قلت: قمت لئلا يقول: جلست لهذا، فقال: ارفع هذه أيضاً، فلما كان آخر أمره، تكلم في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ببعض الشيء، فخرجت ولم أعد إليه بعد. (¬2) ¬

(¬1) المنتظم (14/ 206). (¬2) السير (16/ 124).

أبو بكر عبد العزيز غلام الخلال (363 هـ)

أبو بكر عبد العزيز غُلاَم الخَلاَّل (¬1) (363 هـ) عبد العزيز بن جعفر بن أحمد، أبو بكر المعروف بغلام الخلال. ولد سنة خمس وثمانين ومائتين. سمع من محمد بن عثمان بن أبي شيبة، وموسى بن هارون، والحسين بن عبد الله الخرقي. وحدث عنه أحمد بن الجنيد، وبشرى ابن عبد الله، وتفقه به ابن بطة، وأبو حفص العكبرى. وكان أحد أهل الفهم، موثوقاً به في العلم، متسع الرواية، مشهوراً بالديانة، موصوفاً بالأمانة مذكوراً بالعبادة، وله مصنفات في العلوم المختلفات. وذكر أبو يعلى أنه كان معظماً في النفوس، متقدماً عند الدولة، بارعاً في مذهب الإمام أحمد. توفي سنة ثلاث وستين وثلاثمائة. موقفه من المبتدعة: هذا الإمام رحمه الله تعالى هاجر من داره لما ظهر سب السلف إلى غيرها، وهذا يدل على قوة دينه وصحة عقيدته، رحمه الله. (¬2) موقفه من الرافضة: قال أبو بكر عبد العزيز في 'المقنع': فأما الرافضي فإن كان يسب فقد كفر فلا يزوج. (¬3) ¬

(¬1) السير (16/ 143 - 145) وتاريخ بغداد (10/ 309) وطبقات الحنابلة (2/ 119). (¬2) انظر طبقات الحنابلة (2/ 126). (¬3) الصارم المسلول (573).

محمد بن أحمد النابلسي (363 هـ)

محمد بن أحمد النَّابُلْسِي (¬1) (363 هـ) أبو بكر محمد بن أحمد بن سهل الرملي ويعرف بابن النابلسي، الإمام القدوة. حدث عن سعيد بن هاشم الطبراني ومحمد بن الحسن بن قتيبة ومحمد ابن أحمد بن شيبان الرملي. روى عنه تمام الرازي، وعبد الوهاب الميداني وعلي بن عمر الحلبي. كان عابداً صالحاً زاهداً قوّالاً بالحق، سلخه صاحب مصر المعز. توفي رحمه الله سنة ثلاث وستين وثلاثمائة. موقفه من الرافضة: جاء في السير: قال أبو ذر الحافظ: سجنه بنو عبيد وصلبوه على السنة سمعت الدارقطني يذكره ويبكي ويقول: كان يقول وهو يسلخ: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)} (¬2).اهـ (¬3) قال أبو الفرج بن الجوزي: أقام جوهر القائد لأبي تميم صاحب مصر أبا بكر النابلسي وكان ينزل الأكواخ فقال له: بلغنا أنك قلت: إذا كان مع الرجل عشرة أسهم، وجب أن يرمي في الروم سهماً وفينا تسعة قال: ما قلت هذا بل قلت: إذا كان معه عشرة أسهم وجب أن يرميكم بتسعة وأن يرمي العاشر فيكم أيضاً، فإنكم غيرتم الملة، وقتلتم الصالحين، وادعيتم نور ¬

(¬1) الوافي بالوفيات (2/ 44 - 45) والسير (16/ 148 - 150) وشذرات الذهب (3/ 46) والأنساب (5/ 441). (¬2) الإسراء الآية (58). (¬3) السير (16/ 148).

موقف السلف من النعمان الباطني العبيدي (363 هـ)

الإلهية، فشهره ثم ضربه ثم أمر يهودياً فسلخه. (¬1) التعليق: ما أحسن هذه المواقف وما أفقه أصحابها، وأعلمهم بخبث الروافض ومكائدهم للإسلام والمسلمين، لا كدعاة التقارب بين السنة والشيعة بل المباركين للروافض في كل صغيرة وكبيرة بل دعاة لهم. يشيدون بضلالهم ويدافعون عنهم في جرائدهم ومجلاتهم وحواراتهم، ويناظرون عليهم ويدافعون، على أنه من لو قرأ ما كتبناه في هذه المسيرة لتبينت له مواقف علماء المسلمين ضد هؤلاء اليهود عليهم لعائن الله. موقف السلف من النعمان الباطني العبيدي (363 هـ) بيان زندقته: قال الذهبي في سيره: العلامة المارق، قاضي الدولة العبيدية، أبو حنيفة، النعمان بن محمد بن منصور المغربي. كان مالكياً، فارتد إلى مذهب الباطنية، وصنف له أس الدعوة، ونبذ الدين وراء ظهره، وألف في المناقب والمثالب، ورد على أئمة الدين، وانسلخ من الإسلام، فسحقاً له وبعداً. ونافق الدولة لا بل وافقهم. وكان ملازماً للمعز أبي تميم منشئ القاهرة. وله يد طولى في فنون العلوم والفقه ¬

(¬1) السير (16/ 148 - 149).

موقف السلف من المعز العبيدي المهدوي (365 هـ)

والاختلاف، ونفس طويل في البحث، فكان علمه وبالاً عليه. (¬1) موقف السلف من المعز العبيدي المهدوي (365 هـ) بيان رفضه: - جاء في السير: وضربت السكة على الدينار بمصر) وهي: لا إله إلا الله محمد رسول الله، علي خير الوصيين (والوجه الآخر اسم المعز والتاريخ. وأعلن الأذان بحي على خير العمل، ونودي: من مات عن بنت وأخ أو أخت فالمال كله للبنت. فهذا رأي هؤلاء. (¬2) - وفيها: قيل: إن المنجمين أخبروا المعز أن عليك قطعاً، فأشاروا أن يتخذ سرباً يتوارى فيه سنة ففعل. فلما طالت الغيبة ظن جنده المغاربة أنه رفع، فكان الفارس منهم إذا رأى غمامة، ترجل، ويقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين، ثم إنه خرج بعد سنة فخرج فما عاش بعدها إلا يسيراً. (¬3) - وفيها: قال الذهبي: ظهر هذا الوقت الرفض، وأبدى صفحته، وشمخ بأنفه في مصر والشام والحجاز والغرب بالدولة العبيدية، وبالعراق والجزيرة والعجم ببني بويه، وكان الخليفة المطيع ضعيف الدست والرتبة مع بني بويه. ثم ضعف بدنه، وأصابه فالج وخرس فعزلوه، وأقاموا ابنه الطائع لله. وله ¬

(¬1) السير (16/ 150). (¬2) السير (15/ 160). (¬3) السير (15/ 163).

موقف السلف من النصرآبادي (367 هـ)

السكة والخطبة، وقليل من الأمور، فكانت مملكة هذا المعز أعظم وأمكن. وكذلك دولة صاحب الأندلس المستنصر بالله المرواني، كانت موطدة مستقلة كوالده الناصر لدين الله الذي ولي خمسين عاماً. وأعلن الأذان بالشام ومصر بحي على خير العمل. فلله الأمر كله. (¬1) - وفيها: وقد جرى على دمشق وغيرها من عساكر المغاربة كل قبيح من القتل والنهب. وفعلوا ما لا يفعله الفرنج. ولولا خوف الإطالة لسقت ما يبكي الأعين. (¬2) موقف السلف من النصرآبادي (367 هـ) بيان زندقته: جاء في السير: كم من مرة قد ضرب وأهين، وكم حبس فقيل له: إنك تقول: الروح غير مخلوقة، فقال: لا أقول ذا، ولا أقول إنها مخلوقة بل أقول: الروح من أمر ربي، فجهدوا به، فقال: ما أقول إلا ما قال الله. (¬3) التعليق: ما ضرب وأهين إلا من أجل ضلاله وترهاته التي دنس بها علمه وإسلامه، ومن ترهاته الثناء على الذين أجمع أهل العلم على زندقتهم. ¬

(¬1) السير (15/ 164). (¬2) السير (15/ 167). (¬3) السير (16/ 264).

- وجاء في السير: وقال الحاكم: وسمعته يقول وعوتب في الروح، فقال: إن كان بعد الصديقين موحد فهو الحلاج. (¬1) - ومن ترهاته: قال السلمي: وقيل له: إنك ذهبت إلى الناووس وطفت به وقلت: هذا طوافي فتنقصت بهذا الكعبة قال: لا، ولكنهما مخلوقان، لكن بها فضل ليس هنا، وهذا كمن يكرم كلباً، لأنه خلق الله، فعوتب في ذلك سنين. (¬2) التعليق: ألا يستحق من يقول هذا الضرب والإهانة بل القتل؟ وهل في الزندقة أعظم من هذا؟! مَنْ مِنَ المسلمين يجيز الطواف بغير بيت الله؟! فهذا القائل لا يشك من له علم بعقيدة التوحيد أنه كافر والله المستعان. بيان تصوفه: جاء في السير: عن أبي الأسعد بن القشيري قال: ألبسني الخرقة جدي أبو القاسم القشيري ولبسها من الأستاذ أبي علي الدقاق عن أبي القاسم النصرآباذي عن أبي بكر الشبلي عن الجنيد عن سري السقطي عن معروف الكرخي رحمهم الله تعالى. قال الذهبي: وما بعد معروف فمنقطع، زعموا أنه أخذ عن داود الطائي وصحب حبيباً العجمي وصحب الحسن البصري وصحب علياً رضي ¬

(¬1) السير (16/ 265). (¬2) السير (16/ 264).

أبو سعيد السيرافي (368 هـ)

الله عنه وصحب النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) جاء في المقاصد الحسنة: حديث لبس الخرقة الصوفية وكون الحسن البصري لبسها من علي قال ابن دحية وابن الصلاح: إنه باطل، وكذا قال شيخنا -وهو الحافظ ابن حجر- إنه ليس في شيء من طرقها ما يثبت، ولم يرد في خبر صحيح ولا حسن ولا ضعيف، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألبس الخرقة على الصورة المتعارفة بين الصوفية لأحد من أصحابه، ولا أمر أحداً من أصحابه بفعل ذلك، وكل ما يروى في ذلك صريحاً فباطل، قال: ثم إن من الكذب المفترى قول من قال: إن علياً ألبس الخرقة الحسن البصري، فإن أئمة الحديث لم يثبتوا للحسن من علي سماعاً فضلاً عن أن يلبسه الخرقة ولم يتفرد شيخنا بهذا بل سبقه إليه جماعة حتى من لبسها وألبسها، كالدمياطي والذهبي والهكاري وأبي حيان والعلائي ومغلطاي والعراقي وابن الملقن والأبناسي والبرهان الحلبي وابن ناصر الدين وتكلم عليها في جزء مفرد ... اهـ. (¬2) أبو سعيد السِّيرَافي (¬3) (368 هـ) الحسن بن عبد الله بن المرزبان أبو سعيد السيرافي. حدث عن أبي بكر ابن دريد، وابن زياد النيسابوري، ومحمد بن أبي الأزهر. حدث عنه الحسين ¬

(¬1) السير (16/ 266 - 267). (¬2) المقاصد الحسنة (ص 331). (¬3) السير (16/ 247 - 249) والأنساب (3/ 357) وتاريخ بغداد (7/ 341) والجواهر المضيئة (2/ 66) والوافي بالوفيات (2/ 74) وشذرات الذهب (65 - 66).

موقفه من المشركين:

ابن محمد بن جعفر الجامع، ومحمد بن عبد الواحد، وعلي بن أيوب القمي. سكن بغداد وكان من أعيان الحنفية، رأساً في نحو البصريين، وقرأ القرآن على ابن مجاهد. قال عنه الذهبي: وكان ديناً متورعاً، لا يأكل إلا من كسب يده. وكان وافر الجلالة، كثير التلامذة وكان إماماً في العربية. توفي سنة ثمان وستين وثلاثمائة. موقفه من المشركين: قال ابن تيمية: وهذا -أي تعلم اللغة لا تعلم علم المنطق- مما احتج به أبو سعيد السيرافي في مناظرته المشهورة "لمتى" الفيلسوف، لما أخذ "متى" يمدح المنطق ويزعم احتياج العقلاء إليه. ورد عليه أبو سعيد بعدم الحاجة إليه، وأن الحاجة إنما تدعو إلى تعلم العربية، لأن المعاني فطرية عقلية لا تحتاج إلى اصطلاح خاص، بخلاف اللغة المتقدمة التي يحتاج إليها في معرفة ما يجب معرفته من المعاني، فإنه لا بد فيها من التعلم، ولهذا كان تعلم العربية التي يتوقف فهم القرآن والحديث عليها فرضاً على الكفاية بخلاف المنطق. (¬1) أبو الشَّيخ (¬2) (369 هـ) أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر المعروف بأبي الشيخ، الإمام الحافظ الصادق محدث أصبهان. ولد سنة أربع وسبعين ومائتين. سمع من أبي بكر ¬

(¬1) الفتاوى (9/ 171) وقد ذكرت المناظرة مختصرة في صون المنطق للسيوطي (190 - 200). (¬2) السير (16/ 276 - 280) وتذكرة الحفاظ (3/ 945 - 947) والشذرات (3/ 69) وغاية النهاية (1/ 447) وتاريخ الإسلام (حوادث 351 - 380/ص.418 - 420).

موقفه من المبتدعة:

أحمد بن عمرو البزار وأبي يعلى الموصلي وجعفر الفريابي وغيرهم. وروى عنه ابن منده وابن مردويه وأبو نعيم الحافظ. كان أبو الشيخ من العلماء العاملين، حافظاً عارفاً بالرجال، كثير الحديث، صاحب سنة واتباع. قال أبو بكر الخطيب: كان أبو الشيخ حافظاً ثبتاً متقناً. وقال أبو القاسم السوذرجاني: هو أحد عباد الله الصالحين، ثقة مأمون. يروى عنه أنه قال: ما عملت فيه حديثاً إلا بعد أن استعملته (يعني كتابه ثواب الأعمال). توفي سنة تسع وستين وثلاثمائة. موقفه من المبتدعة: له من الآثار السلفية: 1 - السنة: قال الشيخ رضا في مقدمة دراسته على كتاب العظمة: وهو في حكم المفقود، ويبدو مما ذكره السمعاني أن له كتابين باسم السنة أحدهما: السنة الكبيرة والثاني: السنة الصغيرة المعروفة بالواضحة. وقد ذكره شيخ الإسلام في غير ما موضع من كتبه، ونقل منه جملة. (¬1) 2 - العظمة: وهو كتاب في المخلوقات وعجائبها، ذكر منها العرش والاستواء. ونقل منه ابن القيم في اجتماع الجيوش. وقد حقق وطبع والحمد لله. 3 - التفسير: ذكره شيخ الإسلام من ضمن التفاسير السلفية. (¬2) ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى (5/ 99) والتحبير للسمعاني (1/ 161 - 190 - 351). (¬2) انظر درء التعارض (2/ 22).

إبراهيم بن أحمد بن شاقلا (369 هـ)

إبراهيم بن أحمد بن شَاقْلاَ (¬1) (369 هـ) أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن عمر، البغدادي البزاز المعروف بابن شاقلا. سمع من دعلج السجزي وأبي بكر الشافعي وابن مالك. وروى عنه أبو حفص العكبري وأحمد بن عثمان الكبشي وعبد العزيز غلام الزجاج وكان رأساً في الأصول والفروع. قال الخطيب: قال لي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء: كان رجلاً جليل القدر حسن الهيئة كثير الرواية حسن الكلام في الفقه، غير أنه لم يطل له العمر. توفي سنة تسع وستين وثلاثمائة، وله أربع وخمسون سنة. موقفه من الجهمية: مناظرته القيمة ودفاعه عن العقيدة السلفية: جاء في طبقات الحنابلة: قرأت بخط الوالد السعيد قال: نقلت من خط أبي بكر بن شاقلا قال: أخبرنا أبو إسحاق بن شاقلا -قراءة عليه- قال: قلت لأبي سليمان الدمشقي: بلغنا أنك حكيت فضيلة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ليلة المعراج، وقوله في الخبر «وضع يده بين كتفي فوجدت بردها» فذكر الحديث (¬2). ¬

(¬1) تاريخ بغداد (6/ 17) وشذرات الذهب (3/ 68) والسير (16/ 292) وطبقات الحنابلة (2/ 128) والوافي بالوفيات (5/ 310) وتاريخ الإسلام (حوادث 351 - 380/ص.412 - 413). (¬2) أخرجه: أحمد (5/ 243) والترمذي (5/ 343 - 344/ 3235) والحاكم (1/ 521) عن معاذ بن جبل رضي الله عنه. وفيه: «فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي ... » وليس فيه ذكر ليلة المعراج. وقال الترمذي: "هذا حسن صحيح". سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: "هذا حديث حسن صحيح". وقد ورد ذكر «فوضع يده بين كتفي، فوجدت بردها بين ثديي» في حديث ابن عباس وتقدم تخريجه.

فقال لي: هذا إيمان ونية، لأنه أريد مني روايته. وله عندي معنى غير الظاهر قال: وأنا لا أقول مسه. فقلت له: وكذا تقول في آدم لما خلقه بيده؟ قال: كذا أقول. إن الله عز وجل لا يمس الأشياء. فقلت له: سويت بين آدم وسواه فأسقطت فضيلته، وقد قال تعالى: {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (¬1). قلت له: هذا رويته لأنه أريد منك -على رغمك- وله عندك معنى غير ظاهره، وإلا سلمت الأحاديث التي جاءت في الصفات، ويكون لها معاني غير ظاهرها أو ترد جميعها؟ فقال لي: مثل أي شيء؟ فقلت له: مثل الأصابع والساق، والرجل، والسمع والبصر، وجميع الصفات التي جاءت في الأخبار الصحاح حتى إذا سلمتها كلمناك على ما ادعيته من معانيها التي هي غير ظاهرها. فقال لي منكرا لقولي: من يقول رجل؟ فقلت: أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). فقال: من عن أبي هريرة؟ فقلت: همام. فقال: من عن همام؟ ¬

(¬1) ص الآية (75). (¬2) أخرجه: أحمد (2/ 314) والبخاري (8/ 765/4850) ومسلم (4/ 2186 - 2187/ 2846) [36]) كلهم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة.

فقلت: معمر. فقال: من عن معمر؟ فقلت: عبد الرزاق. فقال لي: من عن عبد الرزاق؟ فقلت له: أحمد بن حنبل. فقال لي؟ عبد الرزاق كان رافضياً. فقلت له: من ذكر هذا عن عبد الرزاق؟ فقال لي: يحيى بن معين. فقلت له: هذا تخرص على يحيى، إنما قال يحيى: كان يتشيع، ولم يقل رافضياً. فقال لي: الأعرج عن أبي هريرة بخلاف ما قاله همام. قلت له: كيف؟ قال: لأن الأعرج قال: «يضع قدمه». فقلت له: ليس هذا ضد ما رواه همام. وإنما قال هذا «قدم» (¬1) وقال هذا «رجل» وكلاهما واحد. ويحتمل أن يكون أبو هريرة سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتين. وحدث به أبو هريرة مرتين فسمع الأعرج منه في إحدى المرتين ذكر «القدم» وسمع منه همام ذكر «الرجل» فقال لي: همام غلط. فقلت له: هذا قول من لا يدري. ثم قال لي: والأصابع في حديث ابن مسعود تقول به؟ فقلت له: حديث ابن مسعود صحيح من جهة النقل. ورواه الناس ورواه الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله. فقال لي: هذا قاله اليهودي. فقلت له: لم ينكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله، قد ضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه تصديقاً لقوله. فأنكر أن يكون هذا اللفظ مروياً من أخبار ابن مسعود. فقلت له: بلى، هذا رواه منصور والأعمش جميعاً عن إبراهيم عن أبي عبيدة «أن يهودياً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا محمد، إن الله عز وجل يمسك ¬

(¬1) أخرجه البخاري (13/ 533/7449) ومسلم (4/ 2186/2846 (35)).

السماوات على إصبع والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والخلائق على إصبع، والشجر على إصبع -وروي: والثرى على إصبع- ثم يقول: أنا الملك. فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تصديقاً لما قال الحبر» (¬1) هكذا رواه الثوري والفضيل بن عياض. فقال لي: قد نزل القرآن بالتكذيب لا بالتصديق. فقال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} (¬2). فقلت له: قد نزل القرآن بالتصديق لا بالتكذيب بدلالة قوله تعالى في سياق الآية: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (¬3) ثم نزه نفسه عز وجل عما يشرك به من كذب بصفاته فقال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} (¬4) وقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} لا يمنع من إثبات الأصابع صفة له، كما ثبتت صفاته التي لا أختلف أنا وأنت فيها ومع هذا: فما قدروا الله حق قدره كذلك أيضاً نثبت الأصابع صفة لذاته تبارك وتعالى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} فلما رأى ما لزمه قال: هذا ظن من ابن مسعود أخطأ فيه. فقلت له: هذا قول من يروم هدم الإسلام والطعن على الشرع، لأن ¬

(¬1) انظر تخريجه في مواقف وكيع بن الجراح سنة (196هـ). (¬2) الزمر الآية (67). (¬3) الزمر الآية (67). (¬4) الزمر الآية (67).

من زعم أن ابن مسعود ظن ولم يستيقن، فحكى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - على ظنه فقد جعل إلى هدم الإسلام مقالته هذه، بأن يتجاهل أهل الزيغ فيتهجم على كل خبر جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يوافق مذهبهم فيسقطونه، بأن يقولوا: هذا ظن من الصحابة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ لا فرق بين ابن مسعود وسائر الصحابة رضي الله عنهم. وهذا ضد ما أجمع عليه المسلمون، وقد أكذب القرآن مقالة هذا القائل في الآية التي شهد فيها لابن مسعود بالصدق في جملة الصحابة. ثم قلت له: والأصابع قد رواها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً أصحابه منهم أنس ابن مالك في حديث الأعمش عن أبي سفيان عن أنس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك قال قلنا: يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به. فهل تخاف علينا؟ قال: نعم إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله عز وجل يقلبها» (¬1). ثم قال لي: تروي حديث أبي هريرة «خلق آدم على صورته» (¬2) ويومئ إلى أنه مخلوق على صورة آدم. فقلت له: قال أحمد بن حنبل: من قال إن آدم خلقه الله عز وجل على صورة آدم فهو جهمي وأي صورة كانت لآدم قبل خلقه؟ فقال لي: قد جاء الحديث عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله خلق آدم على صورة آدم». فقلت له: هذا كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال لي: بلى، قد جاء في الحديث «طوله ستون ذراعاً» على أنه آدم. ¬

(¬1) انظر تخريجه في مواقف بشر بن الحارث سنة (227هـ). (¬2) انظر تخريجه في مواقف البربهاري سنة (329هـ).

فقلت له: قد رد هذا، وليس هو الذي ادعيت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنك قلت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله خلق آدم على صورة آدم» ثم استدللت بقوله: «ستون ذراعاً» على أنه آدم وهذا خبر جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجهين: فأبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «إن الله خلق آدم على صورته». وروى جرير عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقبحوا الوجوه، فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن» (¬1) قال أبو إسحاق: وهذا الحديث يذكر عن إسحاق بن راهويه: أنه صحيح مرفوع، وأما أحمد بن حنبل فذكر أن الثوري ¬

(¬1) أخرجه: ابن أبي عاصم (1/ 228 - 229/ 517) وابن خزيمة في التوحيد (1/ 85/47) والطبراني في الكبير (12/ 430/13580) والآجري في الشريعة (2/ 107/770) والحاكم (2/ 319) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، اللالكائي (3/ 470/716) والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 64/640) كلهم من طرق عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء عن ابن عمر به. وفي الحديث ثلاث علل ذكرها ابن خزيمة رحمه الله تعالى: - إحداهن: أن الثوري قد خالف الأعمش في إسناده فأرسل الثوري ولم يقل عن ابن عمر. - والثانية: أن الأعمش مدلس، لم يذكر أنه سمع من حبيب بن أبي ثابت. - والثالثة: أن حبيب بن أبي ثابت أيضاً مدلس، لم يعلم أنه سمع من عطاء، سمعت إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد يقول: ثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش قال: قال حبيب بن أبي ثابت: لو حدثني رجل عنك بحديث لم أبال أن أرويه عنك، يريد لم أبال أن أدلسه. وزاد الشيخ الألباني رحمه الله علة رابعة فقال في الضعيفة (3/ 317): "قلت: والعلة الرابعة: هي جرير بن عبد الحميد فإنه وإن كان ثقة كما تقدم فقد ذكر الذهبي في ترجمته من الميزان أن البيهقي ذكر في سننه في ثلاثين حديثا لجرير ابن عبد الحميد قال: "قد نسب في آخر عمره إلى سوء الحفظ" قلت: وإن مما يؤكد ذلك أنه رواه مرة عند ابن أبي عاصم (رقم 518) بلفظ "على صورته" لم يذكر "الرحمن" وهذا الصحيح المحفوظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الطرق الصحيحة عن أبي هريرة، والمشار إليها آنفاً. وإذا عرفت هذا فلا فائدة كبرى من قول الهيثمي في المجمع (8/ 106): "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير إسحاق بن إسماعيل الطالقاني وهو ثقة، وفيه ضعف". وكذلك من قول الحافظ في الفتح (5/ 139): "أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" والطبراني من حديث ابن عمر بإسناد رجاله ثقات. اهـ

أوقفه على ابن عمر. فكلاهما الحجة فيه على من خالفه فإن كان رفعه صحيحاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد سقط العذر، وإن كان ابن عمر القائل له فقد اندحض بقول ابن عمر تأويل من حمل قوله «على صورته». قال أبو إسحاق: وهذا لم يجر بيني وبينه وإنما بينته لأصحابي ليفهموه. ثم قلت له: قوله «خلق آدم على صورته» لا يتأول لآدم على صورة آدم لما قاله أحمد: وأي صورة كانت لآدم قبل خلقه؟ فقد فسد تأويلك من هذا الوجه. وفسد أيضاً بقول ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله خلق آدم على صور الرحمن تبارك وتعالى». وأما الاستدلال بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «طوله ستون ذراعاً» فإن كانت هذه اللفظة محفوظة فكان قوله «خلق آدم على صورته» فتم الكلام. ثم قال: «طوله ستون ذراعاً» إخباراً عن آدم بذلك، على حديث الثوري عن أبي الزناد عن موسى بن أبي عثمان عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله عز وجل خلق آدم على صورته» ذكرت بدلالة حديث ابن عمر رضي الله عنهما وما ذكرته عن أحمد، فقال لي جواباً عن حديث أنس: «إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها» إنما هما نعمتان. فقلت له: هذا الخبر يقول: إن الإصبعين نعمتان؟ واليدين صفة للذات. ولم يتقدمك بهذا أحد إلا عبد الله بن كلاب القطان، الذي انتحلت مذهبه ولا عبرة في التسليم للأصابع والتأويل لها على ما ذكرت أن القلوب بين نعمتين من نعم الله عز وجل. ثم قال لي: وهذا مثل روايتكم عن ابن مسعود في قوله عز وجل يوم يكشف عن ساق أن الله عز وجل يكشف عن ساقه يوم القيامة؟

فقلت له: هذا رواه ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فأنكره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: هذا من كلام ابن مسعود. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: «الشدة». (¬1) فقلت له: إنما نذكر ما جاء عن الصحابة إذا لم نجد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: تحفظه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قلت: نعم، هذا رواه المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة بن عبد الله عن مسروق بن الأجدع حدثنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم، وينزل الله عز وجل في ظلل من الغمام -وذكر الحديث بطوله- وقال فيه: فيأتيهم الله تبارك وتعالى فيقول لهم: ما لكم لا تنطلقون كما انطلق الناس؟ فيقولون: لنا إله. فيقول: هل تعرفونه إن رأيتموه؟ فيقولون: نعم، بيننا وبينه علامة، إن رأيناها عرفناه قال: فيقول: ما هي؟ فيقولون: يكشف عن ساقه. قال: فعند ذلك يكشف عن ساقه قال: فيخر من كان بظهره طبق ويبقى قوم ظهورهم كأنها صياصي البقر، يريدون السجود فلا يستطيعون. وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون». في حديث فيه طول (¬2)، وقد روي ¬

(¬1) رواه ابن جرير (29/ 38) والحاكم (2/ 499 - 500) وقال: "صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي ومن طريقه البيهقي في الأسماء والصفات (2/ 183 - 185) عن ابن عباس. (¬2) أخرجه: عبد الله بن أحمد في السنة (ص.206 - 209) والطبراني في الكبير (9/ 357 - 361/ 9763) والبيهقي في البعث والنشور (314 - 316/ 657) والحاكم (4/ 589 - 592) وقال: "رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات غير أنهما لم يخرجا أبا خالد الدالاني في الصحيحين لما ذكر من انحرافه عن السنة في ذكر الصحابة، فأما الأئمة المتقدمون فكلهم شهدوا لأبي خالد بالصدق والإتقان، والحديث صحيح ولم يخرجاه، وأبو خالد الدالاني ممن يجمع حديثه في أئمة أهل الكوفة". وتعقبه الذهبي بقوله: "ما أنكره حديثا على جودة إسناده، وأبو خالد شيعي منحرف". ثم إن الذهبي رحمه الله قد صححه كما في الأربعين في صفات رب العالمين (ص.121) بقوله: "وهو حديث صحيح". وأورده الهيثمي في المجمع (10/ 340 - 343) وقال رواه كله الطبراني من طرق، ورجال أحدها رجال الصحيح، غير أبي خالد الدالاني وهو ثقة". وقال الحافظ في المطالب (4/ 365 - 367): "هذا إسناد صحيح متصل رجاله ثقات".

أيضاً من طريق أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال: أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري؟ فقلت له: هذا في صحيح البخاري فليس من شرطه أبو هارون العبدي لضعفه عنده، وعند أئمة أهل العلم ولم يحضرني إسناده في وقت كلامي له. وأخرجته من صحيح البخاري كما ذكرته -وساقه بسنده- إلى أبي سعيد الخدري قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يكشف ربنا تبارك وتعالى عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد له في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً» (¬1) ثم قال لي: وتقول بحديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «رأيت ربي» (¬2)؟ فقلت له: رواه حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال لي: حماد بن سلمة ضعيف فقلت: من ضعفه؟ فقال لي: يحيى القطان. وقلت له: هذا تخرص على يحيى، لم يقل يحيى هذا، وإلا فمن حدثك؟ فلم يقل من حدثه. وقال لي: أيما أثبت عندك؟ حماد بن سلمة أو سماك؟ قلت: حماد بن سلمة أثبت وسماك مضطرب الحديث. فنازعني في هذا. والذي أجبته به بأن حماد بن سلمة ثقة وسماك مضطرب الحديث هو جواب أحمد فيهما، ولم أدر ما أراد بسماك؟ وخرجنا من ذلك ولم أسأله. ثم قلت له: هذه الأحاديث تلقاها العلماء بالقبول. فليس لأحد أن يمنعها ولا يتأولها ولا يسقطها. لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لو كان لها معنى عنده غير ظاهرها لبينه. ولكان الصحابة -حين سمعوا ذلك من الرسول - صلى الله عليه وسلم - سألوه عن معنى غير ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (3/ 16 - 17) والبخاري (13/ 517 - 519/ 7439) ومسلم (1/ 167 - 171/ 183). (¬2) انظر تخريجه في مواقف البربهاري سنة (329هـ).

ظاهرها. فلما سكتوا وجب علينا أن نسكت حيث سكتوا ونقبل طوعاً ما قبلوا. فقال لي: أنتم المشبهة. فقلت: حاشا لله، المشبه الذي يقول: وجه كوجهي ويد كيدي. فأما نحن فنقول: له وجه كما أثبت لنفسه وجهاً. وله يد كما أثبت لنفسه يداً. وليس كمثله شيء وهو السميع البصير. ومن قال هذا فقد سلم ثم قلت له: أنت مذهبك أن كلام الله عز وجل ليس بأمر ولا نهي ولا متشابه ولا ناسخ ولا منسوخ ولا كلامه مسمع. لأن عندك الله عز وجل لا يتكلم بصوت، وأن موسى لم يسمع كلام الله عز وجل بسمعه. وإنما خلق الله عز وجل في موسى فهماً فهم به. فلما رأى ما عليه في هذا من الشناعة قال: فلعلي أخالف ابن كلاب القطان في هذه المسألة من سائر مذهبه. ثم قلت له: ومن خالف الأخبار التي نقلها العدل عن العدل موصولة بلا قطع في سندها ولا جرح في ناقليها، وتجرأ على ردها، فقد تهجم على رد الإسلام لأن الإسلام وأحكامه منقولة إلينا بمثل ما ذكرت. فقال لي: الأخبار لا توجب عندي علما. فقلت له: يلزمك على قود مقالتك: أنك لو سمعت أبا بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعداً وسعيداً وعبد الرحمن بن عوف وأبا عبيدة بن الجراح يقولون: سمعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول كذا وكذا أنك لا تعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من ذلك شيئاً، لقولهم سمعنا فلم ينكر من ذلك شيئاً غير الشناعة. ثم قال لي: أخبار الآحاد في الصفات اغسلها، وهي عندي والتراب سواء، ولا أقول منها إلا بما قام في العقل تصديقه. قلت له: فلم أتعبت نفسك في كتبها وسعيت إلى الشيوخ فيها، وأنصبت نفسك وأتعبتها،

وأسهرت ليلك بما لا تدين الله عز وجل به، ولا تزداد به علماً؟ فأجابني بأن قال: كتبته حتى أتمم به الأبواب إذا أردت تخريجها. فقلت له: تخرج للمسلمين ما لا تدين به؟ فقال نعم لأعرفه فقلت له: تُعنِّي المسلمين على قود مقالتك والحق في غير ما ذكرت؟ ثم قلت له خرقت الإجماع لأن الأمة بأسرها، اتفقت على نقلها، ولم يكن نقل ذلك عبثاً ولا لعباً، ولو كان نقلهم لها كترك نقلهم لها لكانوا عابثين وحاشا لله من ذلك. ومن كانت هذه مقالته فقد دخل تحت الوعيد في قوله عز وجل: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} (¬1). ولما كانت أخبار الآحاد في الصفات لا توجب عملاً دلّ على أنها موجبة للعلم، فسقط بهذا ما ادعاه من لم ينتفع بعلمه، وتهجم على إسقاط كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بنقل العدل عن العدل موصولاً إليه، برأيه وظنه. ثم ذكرت حساب الكفار فقال لي: قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الكافر ليحاسب حتى يقول: أرحني ولو إلى النار» (¬2) فهلا قلت به؟ فقلت له: ليس ¬

(¬1) النساء الآية (115). (¬2) أخرجه: أبو يعلى (8/ 398/4982) وعنه ابن حبان (16/ 330/7335) والطبراني (10/ 99 - 100/ 10083) من طريق شريك عن أبي الأحوص عن عبد الله مرفوعاً. وفي إسناده شريك وهو سيئ الحفظ وهو متأخر السماع من أبي إسحاق السبيعي، وهذا الأخير اختلط بآخره. وتابعه إبراهيم بن المهاجر البجلي عن أبي الأحوص به. رواه الطبراني في الكبير (10/ 107/10112) وفي الأوسط (5/ 292/4576). وإبراهيم بن المهاجر قال فيه ابن حجر: "صدوق لين الحفظ". والحديث ذكره الهيثمي في المجمع (10/ 336) وقال: "رجال الكبير رجال الصحيح وفي رجال الأوسط محمد بن إسحاق وهو ثقة لكنه مدلس".

يحل ما روي صحيحاً أو سقيماً أن نقول به. وإنما تعبدنا بالصحيح دون السقيم. والصحيح معلوم عند أهل النقل بعدالة ناقليه، متصلاً إلى المخبر عنه، والسقيم معلوم بجرح ناقليه وهذا الخبر الذي رويته ورواه إبراهيم بن مهاجر ابن مسمار - يعني: وهو متروك الحديث ضعيف عند أهل العلم، وليس مثل هذا مما تقوم به حجة. فقال لي: فأي شيء معك في أنهم لا يحاسبون؟ فقلت له: إن شئت من كتاب الله وإن شئت من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن شئت من قول صحابته رضي الله عنهم. فقال لي منكراً لقولي في الصحابة من قال هذا؟ فقلت: نعم. قرأت على أبي عيسى إلى أن ذكر الحديث: «من حوسب دخل الجنة». يقول الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)} (¬1) ويقول للآخرين يعني الكفار: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39)} (¬2) {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41)} (¬3). فقال لي: قد سمعت هذا الحديث من أبي علي الصواف، فساق سنده إلى عائشة بمثل معناه يعني «من حوسب دخل الجنة» فقال لي: هو المسلم المجرم. فقلت له: جمعت بين ما فرق الله عز وجل، لأن الله عز وجل يقول: ¬

(¬1) الانشقاق الآيات (7 - 9). (¬2) الرحمن الآية (39). (¬3) الرحمن الآية (41).

{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} (¬1). قال أبو إسحاق: وكان عندنا أن أبا سليمان يقول: إن الكافر والمؤمن يحاسبان. فعلى قوله: إن المؤمن لا يحاسب وإن الكافر يحاسب. وهذه عصبية للكافر، خرج بها عن جملة أهل العلم. قلت له: أنت تتكلم على المسلمين فتحشو أسماعهم بكلام الكلبي الكذاب فيما يخبر عن مراد الله تعالى عن الأمم الخالية، التي لم يشاهدها، ولا يكون عندك هذيان. ثم تجيء إلى مثل حديث إبراهيم النخعي عن علقمة عن عبد الله -حديث الخبر- فتقول هذا هذيان. وهذا قول من تقلده خرج عندي من الدين وسلك غير طريق المسلمين. وهذا ما جرى بيننا إلا ما أخللت به فلم أتيقن حفظه، والله سبحانه الموفق لإدراك الصواب. (¬2) التعليق: من قرأ هذه المناظرة المباركة علم قوة السلفيين، وحفظهم لميراث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام، وعلم خبث المبتدعة وضعفهم العلمي وتلاعبهم بدين الله على حسب أهوائهم. وعلم ما علق به المبتدع المسمى عبد الله بن الصديق على كتاب التمهيد لابن عبد البر الجزء السابع على حديث أبي هريرة رضي الله عنه في النزول «ينزل ربنا ... » الحديث (¬3) الذي نجسه بتعاليقه الباردة الممقوتة، ينقل أقوال المبتدعة في أحاديث الصفات، ¬

(¬1) القلم الآيتان (35و36). (¬2) طبقات الحنابلة (2/ 128 - 138). (¬3) انظر تخريجه في مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ).

بشر بن أحمد الإسفراييني (370 هـ)

ويجتر ما قاله المبتدعة قبله. وهذه المناظرة تكفي في الرد عليه وعلى أمثاله ممن يريدون إحياء مذهب ابن صفوان الترمذي بين المسلمين، والله المستعان. ويكفي المسلمين شره وشر أمثاله من المبتدعة. بشر بن أحمد الإِسْفَرَاييني (¬1) (370 هـ) بشر بن أحمد بن بشر بن محمود الإسفراييني أبو سهل الإمام المحدث الثقة الجوال مسند وقته وأحد الموصوفين بالشهامة والشجاعة. سمع إبراهيم ابن علي الذهلي ومحمد بن محمد بن رجاء وأحمد بن سهل وغيرهم. وعمر وأملى مدة حدث عنه الحاكم والعلاء بن محمد ومحمد بن حميم الفقيه وغيرهم. توفي في شوال سنة سبعين وثلاثمائة. وقد عاش نيفاً وتسعين سنة. موقفه من الجهمية: جاء في ذم الكلام: عن الأشعث قال: قال رجل لبشر بن أحمد الإسفرايني: إنما أتعلم الكلام لأعرف به الدين. فغضب. وسمعته قال: أو كان السلف من علمائنا كفاراً. (¬2) ¬

(¬1) السير (16/ 228 - 229) وتاريخ الإسلام (حوادث 351 - 380/ص.436) والنجوم الزاهرة (4/ 139) والعبر (1/ 371) وشذرات الذهب (3/ 71). (¬2) ذم الكلام (276).

موقف السلف من أبي بكر الرازي المعتزلي (370 هـ)

موقف السلف من أبي بكر الرازي المعتزلي (370 هـ) بيان اعتزاله: جاء في السير: وقيل كان ميله إلى الاعتزال في مصنفاته: وقيل كان يميل إلى الاعتزال، وفي تواليفه ما يدل على ذلك في رؤية الله وغيرها، نسأل الله السلامة. (¬1) الإسماعيلي (¬2) (371 هـ) أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس أبو بكر، الإمام الحافظ الحجة الفقيه، شيخ الإسلام الإسماعيلي، ولد سنة سبع وسبعين ومائتين. وكتب الحديث بخطه وهو صبي مميز. روى عن إبراهيم بن زهير الحلواني، وحمزة بن محمد الكاتب، ويوسف بن يعقوب القاضي، وعدة. حدث عنه الحاكم، وأبو بكر البرقاني، وحمزة السهمي، وخلق سواهم. وصنف تصانيف تشهد له بالإمامة في الفقه والحديث، فهو الحبر الإمام الجامع. قال الحاكم: كان الإسماعيلي واحد عصره، وشيخ المحدثين والفقهاء، وأجلهم في الرئاسة والمروءة والسخاء، ولا خلاف بين العلماء من الفريقين وعقلائهم في أبي بكر. وكان مقدما في جميع المجالس. كان إذا حضر مجلساً لا يقرأ غيره لجودة قراءته. ¬

(¬1) السير (16/ 341). (¬2) السير (16/ 292 - 296) والمنتظم (14/ 281 - 282) والعبر (1/ 373) والوافي بالوفيات (6/ 213) والبداية والنهاية (11/ 317 - 318) وشذرات الذهب (3/ 75).

موقفه من المبتدعة:

مات في غرة رجب سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة. موقفه من المبتدعة: جاء في كتاب اعتقاد أئمة الحديث (¬1): ويرون مجانبة البدعة والآثام، والفخر، والتكبر، والعجب، والخيانة، والدغل، والسعاية، ويرون كف الأذى وترك الغيبة إلا لمن أظهر بدعة وهوى يدعو إليها، فالقول فيه ليس بغيبة عندهم. موقفه من الجهمية: له من الآثار السلفية: 'اعتقاد أئمة الحديث': ذكر الذهبي أوله في السير: أخبرنا إسماعيل بن عبد الرحمن بن الفراء أخبرنا الشيخ موفق الدين عبد الله، أخبرنا مسعود بن عبد الواحد، أخبرنا صاعد بن سيار، أخبرنا علي بن محمد الجرجاني، أخبرنا حمزة بن يوسف أخبرنا أبو بكر الإسماعيلي قال: اعلموا -رحمكم الله- أن مذاهب أهل الحديث: الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وقبول ما نطق به كتاب الله وما صحت به الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا معدل عن ذلك. ويعتقدون بأن الله مدعو بأسمائه الحسنى وموصوف بصفاته التي وصف بها نفسه ووصفه بها نبيه. خلق آدم بيده ويداه مبسوطتان بلا اعتقاد كيف. واستوى على العرش بلا كيف. وذكر سائر الاعتقاد. (¬2) ¬

(¬1) (ص.78). (¬2) السير (16/ 295) انظر كتاب الاعتقاد (ص.49) فما بعدها.

موقفه من المرجئة:

موقفه من المرجئة: - قال في اعتقاد أئمة الحديث: ويقولون إن الإيمان قول وعمل ومعرفة يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، من كثرت طاعته أزيد إيمان ممن هو دونه في الطاعة. (¬1) - وقال أيضاً: وقال كثير من أهل السنة والجماعة: إن الإيمان قول وعمل، والإسلام فعل ما فرض على الإنسان أن يفعله إذا ذكر كل اسم على حدته مضموماً إلى الآخر فقيل: المؤمنون والمسلمون جميعاً مفردين أريد بأحدهما معنى لم يرد بالآخر وإن ذكر أحد الاسمين شمل الكل وعمّهم. وكثير منهم قالوا: الإسلام والإيمان واحد. قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (¬2). فلو أن الإيمان غيرُه لم يُقبل، وقال: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)} (¬3)، ومنهم من ذهب إلى أن الإسلام مختصّ بالاستسلام لله والخضوع له والانقياد لحكمه فيما هو مؤمن به، كما قال: {* قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (¬4)، وقال: ¬

(¬1) اعتقاد أئمة الحديث (ص.63 - 64). (¬2) آل عمران الآية (85). (¬3) الذاريات الآيتان (35و36). (¬4) الحجرات الآية (14).

موقفه من القدرية:

{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} (¬1). وهذا أيضاً دليل لمن قال هما واحد. (¬2) موقفه من القدرية: قال رحمه الله -وهو يقرر عقيدة أهل الحديث-: ويقولون ما يقوله المسلمون بأسرهم: (وما شاء الله كان وما لا يشاء لا يكون)، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (¬3). ويقولون لا سبيل لأحد أن يخرج عن علم الله ولا أن يغلب فعله وإرادته مشيئة الله ولا أن يبدل علم الله فإنه العالم لا يجهل ولا يسهو والقادر لا يغلب. (¬4) وقال: ويقولون إنه لا خالق على الحقيقة إلا الله عز وجل، وأن أكساب العباد كلها مخلوقة لله، وأن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، لا حجة لمن أضله الله عز وجل، ولا عذر كما قاله الله عز وجل: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (¬5) وقال: {كَمَا بَدَأَكُمْ ¬

(¬1) الحجرات الآية (17). (¬2) اعتقاد أئمة الحديث (ص.67 - 68). وأورده ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/ 106). (¬3) التكوير الآية (29). (¬4) اعتقاد أئمة الحديث (ص.57). (¬5) الأنعام الآية (149).

تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} (¬1)، وقال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} (¬2) وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} (¬3)، ومعنى: {نبرأها} أي نخلقها وبلا خلاف في اللغة، وقال مخبراً عن أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} (¬4) وقال: {أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} (¬5)، وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} (¬6). ويقولون إن الخير والشر والحلو والمر، بقضاء من الله عز وجل، أمضاه وقدره لا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً إلا ما شاء الله، وإنهم فقراء إلى الله عز وجل لا غنى لهم عنه في كل وقت. (¬7) ¬

(¬1) الأعراف الآيتان (29و30). (¬2) الأعراف الآية (179). (¬3) الحديد الآية (22). (¬4) الأعراف الآية (43). (¬5) الرعد الآية (31). (¬6) هود الآيتان (118و119). (¬7) اعتقاد أئمة الحديث (ص.60 - 62).

يونس بن سليمان السقاء (371 هـ)

يونس بن سليمان السقاء (¬1) (371 هـ) يونس بن سليمان السقاء القيرواني. كان لسان أهل السنة في الرد على المخالفين من أهل البدع، فصيح اللسان حلو المناظرة. توفي سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة. موقفه من المبتدعة: جاء في معالم الإيمان: كان لسان أهل السنة في الرد على المخالفين من أهل البدع، فصيح اللسان حلو المناظرة. (¬2) عبد الله بن إسحاق بن التَبَّان (¬3) (371 هـ) عبد الله بن إسحاق بن التبان، أبو محمد القيرواني المالكي. ولد سنة إحدى عشرة وثلاثمائة. كان من العلماء الراسخين والفقهاء المبرزين، ضربت إليه أكباد الإبل من الأمصار لعلمه بالذب عن مذهب أهل السنة. وكان من أشد الناس عداوة لبني عبيد. وله مناظرات معهم ومع غيرهم من المبتدعة، ذكر بعضها صاحب معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان. توفي سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة. ¬

(¬1) معالم الإيمان (3/ 98). (¬2) معالم الإيمان (3/ 98). (¬3) معالم الإيمان (3/ 88) والسير (16/ 319) وشجرة النور الزكية (1/ 95) والوافي بالوفيات (17/ 66) وشذرات الذهب (3/ 76).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: ذكر أبو محمد بالمنستير (¬1) كراهة مالك بن أنس الاجتماع على قراءة القرآن وأن ذلك بدعة، فقال له رجل: كيف تقول إن قراءة القرآن بدعة؟ فقال: لم أقل هذا، فخرج الرجل وصاح: إن ابن التبان قال إن قراءة القرآن بدعة، فزحف الناس من كل جهة منكرين هذا وأتوا حجرته، فبين لهم فمنهم من فهم ومنهم من لم يفهم، ثم حول أبو محمد وجهه للذي شنع عليه وقال له: أفجعت قلبي أفجع الله قلبك أفجعك الله بنفسك وولدك ومالك، فأجيبت دعوة الشيخ فيه. قال أبو زيد الدباغ: وفي دعائه بأن يفجعه في نفسه وولده نظر لأنه -أي الابن- لم يظلمه وإنما يدعى على الظالم وحده. (¬2) أبو عبد الله بن خفيف الشيرازي الصوفي (371 هـ) بيان تصوفه: ساير الصوفية في مجاهداتهم ورياضاتهم غير الشرعية وضيق على نفسه بشدة الجوع والعطش، وهذا غلو وإفراط في التعبد ما أنزل الله به من سلطان ومع ذلك فقد رد على المتصوفة لعزوفهم عن العلم والتعلم. جاء في السير: قال ابن باكويه: نظر أبو عبد الله بن خفيف يوماً إلى ابن مكتوم وجماعة يكتبون شيئاً، فقال: ما هذا؟ قالوا: نكتب كذا وكذا، ¬

(¬1) المنستير: اسم موضع بإفريقية (تونس حاليا). (¬2) معالم الإيمان (3/ 95).

موقفه من المبتدعة والرافضة والجهمية والخوارج والمرجئة والقدرية:

قال: اشتغلوا بتعلم شيء، ولا يغرنكم كلام الصوفية، فإني كنت أخبئ محبرتي في جيب مرقعي، والورق في حجزة سراويلي، وأذهب في الخفية إلى أهل العلم، فإذا علموا به خاصموني، وقالوا: لا يفلح، ثم احتاجوا إلي. (¬1) موقفه من المبتدعة والرافضة والجهمية والخوارج والمرجئة والقدرية: معتقده: قال الإمام أبو عبد الله محمد بن خفيف في كتابه الذي سماه 'اعتقاد التوحيد بإثبات الأسماء والصفات' قال في آخر خطبته: فاتفقت أقوال المهاجرين والأنصار في توحيد الله عز وجل، ومعرفة أسمائه وصفاته وقضائه، قولاً واحداً وشرعاً ظاهراً، وهم الذين نقلوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك حتى قال: «عليكم بسنتي» (¬2) وذكر الحديث. وحديث «لعن الله من أحدث حدثاً» (¬3) قال: فكانت كلمة الصحابة على الاتفاق من غير اختلاف -وهم الذين أمرنا بالأخذ عنهم إذ لم يختلفوا بحمد الله تعالى في أحكام التوحيد وأصول الدين من الأسماء والصفات كما اختلفوا في الفروع، ولو كان منهم في ذلك اختلاف منهم لنقل إلينا، كما نقل سائر الاختلاف- فاستقر صحة ¬

(¬1) السير (16/ 346). (¬2) أخرجه: أحمد (4/ 126) وأبو داود (5/ 13/4607) والترمذي (5/ 43/2676) وقال: "حسن صحيح". وابن ماجه (1/ 16/43) والحاكم (1/ 95 - 96) وقال: "صحيح ليس له علة" ووافقه الذهبي. (¬3) أخرجه: أحمد (1/ 119) مختصراً، والبخاري (13/ 341 - 342/ 7300) ومسلم (2/ 1147/1370) وأبو داود (2/ 529 - 530/ 2034) والترمذي (4/ 381 - 382/ 2127) والنسائي (8/ 387 - 388/ 4748) وابن ماجه (2/ 887/2658) مختصراً.

ذلك عند خاصتهم وعامتهم، حتى أدوا ذلك إلى التابعين لهم بإحسان، فاستقر صحة ذلك عند العلماء المعروفين، حتى نقلوا ذلك قرناً بعد قرن، لأن الاختلاف كان عندهم في الأصل كفر، ولله المنة. ثم إني قائل -وبالله أقول- إنه لما اختلفوا في أحكام التوحيد وذكر الأسماء والصفات على خلاف منهج المتقدمين، من الصحابة والتابعين، فخاضوا في ذلك من لم يعرفوا بعلم الآثار، ولم يعقلوا قولهم بذكر الأخبار، وصار معولهم على أحكام هوى حسن النفس المستخرجة من سوء الظن به، على مخالفة السنة والتعلق منهم بآيات لم يسعدهم فيها ما وافق النفوس، فتأولوا على ما وافق هواهم وصححوا بذلك مذهبهم احتجت إلى الكشف عن صفة المتقدمين، ومأخذ المؤمنين، ومنهاج الأولين، خوفاً من الوقوع في جملة أقاويلهم التي حذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته ومنع المستجيبين له حتى حذرهم. ثم ذكر أبو عبد الله خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم يتنازعون في القدر وغضبه (¬1)، وحديث «لا ألفين أحدكم» (¬2) وحديث «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» (¬3) فإن الناجية ما كان عليه هو وأصحابه، ثم قال: فلزم الأمة قاطبة معرفة ما كان عليه الصحابة، ولم يكن الوصول إليه إلا من جهة ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (2/ 195 - 196) وابن ماجه (1/ 33/85) قال البوصيري في الزوائد (1/ 53): "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص". (¬2) أخرجه: أحمد (6/ 8) وأبو داود (5/ 12/4605) والترمذي (5/ 36/2663) وقال: "حديث حسن صحيح". وابن ماجه (1/ 6 - 7/ 13) عن أبي رافع. (¬3) أخرجه الترمذي (5/ 26/2641) والحاكم (1/ 128 - 129) من طريق عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً. وفيه عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، قال فيه الحافظ: ضعيف في حفظه، ولكن للحديث شواهد، كشاهد أبي هريرة ومعاوية وغيرهما.

التابعين لهم بإحسان، المعروفين بنقل الأخبار ممن لا يقبل المذاهب المحدثة، فيتصل ذلك قرناً بعد قرن ممن عرفوا بالعدالة والأمانة الحافظين على الأمة ما لهم وما عليهم من إثبات السنة. إلى أن قال: فأول ما نبتدئ له ما أوردنا هذه المسألة من أجلها ذكر أسماء الله عز وجل في كتابه، وما بين - صلى الله عليه وسلم - من صفاته في سنته، وما وصف به عز وجل مما سنذكر قول القائلين بذلك، مما لا يجوز لنا في ذلك أن نرده إلى أحكام عقولنا بطلب الكيفية بذلك، ومما قد أمرنا بالاستسلام له -إلى أن قال-: ثم إن الله تعرف إلينا بعد إثبات الوحدانية والإقرار بالألوهية: أن ذكر تعالى في كتابه بعد التحقيق، بما بدأ من أسمائه وصفاته، وأكد عليه السلام بقوله فقبلوا منه كقبولهم لأوائل التوحيد من ظاهر قوله لا إله إلا الله. إلى أن قال بإثبات نفسه بالتفصيل من المجمل. فقال لموسى عليه السلام: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)} (¬1) وقال: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} (¬2) ولصحة ذلك واستقرار ما جاء به المسيح عليه السلام فقال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} (¬3)، وقال عز وجل: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (¬4) وأكد عليه السلام صحة إثبات ذلك في سنته فقال: ¬

(¬1) طه الآية (41). (¬2) آل عمران الآية (28). (¬3) المائدة الآية (116). (¬4) الأنعام الآية (54).

يقول الله عز وجل: «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي» (¬1) وقال: «كتب كتاباً بيده على نفسه: إن رحمتي غلبت غضبي» (¬2) وقال: «سبحان الله رضى نفسه» (¬3) وقال في محاجة آدم لموسى: «أنت الذي اصطفاك الله واصطنعك لنفسه» (¬4) فقد صرح بظاهر قوله: أنه أثبت لنفسه نفساً، وأثبت له الرسول ذلك، فعلى من صدق الله ورسوله اعتقاد ما أخبر به عن نفسه، ويكون ذلك مبنياً على ظاهر قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (¬5) ثم قال: فعلى المؤمنين خاصتهم وعامتهم قبول كل ما ورد عنه عليه السلام، بنقل العدل عن العدل، حتى يتصل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن مما قضى الله علينا في كتابه، ووصف به نفسه، ووردت السنة بصحة ذلك أن قال: {* اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬6) ثم قال عقيب ذلك: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} وبذلك دعاه - صلى الله عليه وسلم -: «أنت نور السموات والأرض» (¬7) ثم ذكر حديث أبي موسى: ¬

(¬1) انظر تخريجه في مواقف البربهاري سنة (329هـ). (¬2) أخرجه: أحمد (2/ 242) والبخاري (6/ 352/3194) ومسلم (4/ 2107/2751) والترمذي (5/ 513/3543) وابن ماجه (2/ 1435/4295) من حديث أبي هريرة. (¬3) أخرجه: أحمد (1/ 258) ومسلم (4/ 2090/2726) وأبو داود (2/ 171/1503) والترمذي (5/ 519 - 520/ 3555) والنسائي (3/ 86 - 87/ 1351) وابن ماجه (2/ 1251 - 1252/ 3808) من حديث جويرية .. (¬4) أخرجه: أحمد (2/ 287و314) والبخاري (11/ 618/6614) ومسلم (4/ 2042 - 2043/ 2652) وأبو داود (5/ 76 - 78/ 4701) والترمذي (4/ 386 - 387/ 2134) والنسائي في الكبرى (6/ 284 - 285/ 10985 - 10986) وابن ماجه (1/ 31 - 32/ 80). (¬5) الشورى الآية (11). (¬6) النور الآية (35). (¬7) انظر تخريجه في مواقف ابن خزيمة سنة (311هـ).

«حجابه النور -أو النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» (¬1) وقال: سبحات وجهه جلاله ونوره، نقله عن الخليل وأبي عبيد، وقال: قال عبد الله بن مسعود: نور السموات نور وجهه. ثم قال: ومما ورد به النص أنه حي وذكر قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (¬2) والحديث: «يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث» (¬3) قال: ومما تعرف الله إلى عباده؛ أن وصف نفسه أن له وجهاً موصوفاً بالجلال والإكرام، فأثبت لنفسه وجهاً -وذكر الآيات. ثم ذكر حديث أبي موسى المتقدم، فقال: في الحديث من أوصاف الله عز وجل لا ينام، موافق لظاهر الكتاب: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (¬4) وأن له وجهاً موصوفاً بالأنوار، وأن له بصراً كما علمنا في كتابه ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (4/ 405) ومسلم (1/ 161 - 162/ 179) وابن ماجه (1/ 70 - 71/ 195و196). (¬2) البقرة الآية (255). (¬3) أخرجه: الترمذي (5/ 504/3524) وابن السني في عمل اليوم والليلة (337) من طريق أبي بدر شجاع بن الوليد حدثنا الرحيل بن معاوية -أخو زهير بن معاوية- عن الرقاشي عن أنس بن مالك. قال الترمذي: "هذا حديث غريب" .. والرقاشي هو يزيد بن أبان، ضعيف كما قال في التقريب. والحديث أخرجه أيضاً: الطبراني في الأوسط (4/ 343/3589) وفي الصغير (436) وفيه زيادة، عن سلمة بن حرب ابن زياد الكلابي قال: حدثني أبو مدرك حدثني أنس بن مالك. وأورده الهيثمي في المجمع (10/ 180 - 181) وقال: "وقد ذكر الذهبي سلمة في الميزان فقال: مجهول كشيخه أبي مدرك، وقد وثق ابن حبان سلمة وذكر له هذا الحديث في ترجمته، وفي الميزان أبو مدرك قال الدارقطني متروك، فلا أدري هو أبو مدرك هذا أو غيره، وبقية رجاله ثقات". وله شاهد أخرجه الحاكم (1/ 509) من طريق القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن ابن مسعود. وقال: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وتعقبه الذهبي بقوله: عبد الرحمن لم يسمع من أبيه وعبد الرحمن ومن بعده ليسوا بحجة. والحديث بهذا الشاهد حسن، كما بين ذلك الشيخ الألباني في تعليقه على الكلم الطيب (رقم: 118). (¬4) البقرة الآية (255).

أنه سميع بصير. ثم ذكر الأحاديث في إثبات الوجه، وفي إثبات السمع والبصر، والآيات الدالة على ذلك. ثم قال: ثم إن الله تعالى تعرف إلى عباده المؤمنين، أن قال: له يدان قد بسطهما بالرحمة، وذكر الأحاديث في ذلك، ثم ذكر شعر أمية بن أبي الصلت. ثم ذكر حديث: «يلقى في النار وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع فيها رجله» وهي رواية البخاري وفي رواية أخرى يضع عليها قدمه (¬1). ثم رواه مسلم البطين عن ابن عباس: أن الكرسي موضع القدمين وأن العرش لا يقدر قدره إلا الله (¬2)، وذكر قول مسلم البطين نفسه، وقول السدي، وقول وهب بن منبه، وأبي مالك وبعضهم يقول: موضع قدميه، وبعضهم يقول واضع رجليه عليه. ثم قال: فهذه الروايات قد رويت عن هؤلاء من صدر هذه الأمة موافقة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - متداولة في الأقوال، ومحفوظة في الصدر، ولا ينكر خلف عن السلف، ولا ينكر عليهم أحد من نظرائهم، نقلتها الخاصة والعامة ¬

(¬1) انظر تخريجه في مواقف عبد العزيز الماجشون سنة (164هـ). (¬2) أخرجه موقوفاً على ابن عباس: عبد الله بن أحمد في السنة (1/ 304/590) وابن أبي شيبة في العرش (79/ 61) وابن خزيمة في التوحيد (1/ 248 - 249/ 154و156) وأبو الشيخ في العظمة (2/ 582و584/ 216و217) والطبراني (12/ 39/12404) والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 196/758) والحاكم في المستدرك (2/ 282) وصححه ووافقه الذهبي. وذكره الهيثمي في المجمع (6/ 323) وقال: "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح". وأخرجه ابن جرير في التفسير (5/ 398/5792) (تحقيق شاكر) موقوفاً على مسلم البطين. وقد روي هذا الأثر مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، أخرجه الخطيب في التاريخ (9/ 251) وابن الجوزي في العلل المتناهية (1/ 22) من طريق شجاع بن مخلد الفلاس حدثنا أبو عاصم عن سفيان عن عمار الدهني عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعاً. وقال -أي ابن الجوزي-: "هذا الحديث وهم شجاع بن مخلد في رفعه، فقد رواه أبو مسلم الكجي وأحمد بن منصور الرمادي كلاهما عن أبي عاصم فلم يرفعاه، ورواه عبد الرحمن بن مهدي ووكيع كلاهما عن سفيان فلم يرفعاه. بل وقفاه على ابن عباس وهو الصحيح". وانظر كتابنا المفسرون بين التأويل والإثبات (4/ 1690).

مدونة في كتبهم، إلى أن حدث في آخر الأمة من قلل الله عددهم، ممن حذرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مجالستهم ومكالمتهم، وأمرنا أن لا نعود مرضاهم، ولا نشيع جنائزهم، فقصد هؤلاء إلى هذه الروايات فضربوها بالتشبيه، وعمدوا إلى الأخبار فعملوا في دفعها إلى أحكام المقاييس، وكفر المتقدمين، وأنكروا على الصحابة والتابعين، وردوا على الأئمة الراشدين، فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل. ثم ذكر المأثور عن ابن عباس، وجوابه لنجدة الحروري، ثم حديث "الصورة" وذكر أنه صنف فيه كتاباً مفرداً، واختلاف الناس في تأويله. ثم قال: وسنذكر أصول السنة وما ورد من الاختلاف فيما نعتقده فيما خالفنا فيه أهل الزيغ وما وافقنا فيه أصحاب الحديث من المثبتة -إن شاء الله. ثم ذكر الخلاف في الإمامة واحتج عليها، وذكر اتفاق المهاجرين والأنصار على تقديم "الصديق" وأنه أفضل الأمة. ثم قال: وكان الاختلاف في "خلق الأفعال" هل هي مقدرة أم لا؟ قال: وقولنا فيها أن أفعال العباد مقدرة معلومة، وذكر إثبات القدر. ثم ذكر الخلاف في أهل الكبائر ومسألة الأسماء والأحكام وقال: قولنا فيها أنهم مؤمنون على الإطلاق وأمرهم إلى الله، إن شاء عذبهم وإن شاء عفا عنهم. وقال: أصل الإيمان موهبة يتولد منها أفعال العباد، فيكون أصل التصديق والإقرار والأعمال، وذكر الخلاف في زيادة الإيمان ونقصانه. وقال: قولنا أنه يزيد وينقص. قال: ثم كان الاختلاف في القرآن مخلوقاً وغير مخلوق، فقولنا وقول أئمتنا إن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنه صفة الله منه بدأ قولاً وإليه يعود حكماً، ثم ذكر الخلاف في الرؤية وقال: قولنا وقول أئمتنا فيما نعتقد أن الله يرى في القيامة وذكر الحجة.

ثم قال: اعلم رحمك الله أني ذكرت أحكام الاختلاف على ما ورد من ترتيب المحدثين في كل الأزمنة وقد بدأت أن أذكر حكام الجمل من العقود. فنقول ونعتقد أن الله عز وجل له عرش، وهو على عرشه فوق سبع سمواته بكل أسمائه وصفاته، كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (¬1) {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} (¬2) ولا نقول إنه في الأرض كما هو في السماء على عرشه لأنه عالم بما يجري على عباده ثم يعرج إليه. إلى أن قال: ونعتقد أن الله تعالى خلق الجنة والنار، وأنهما مخلوقتان للبقاء، لا للفناء. إلى أن قال: ونعتقد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرج بنفسه إلى سدرة المنتهى (¬3). إلى أن قال: ونعتقد أن الله قبض قبضتين فقال: «هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار» ونعتقد أن للرسول - صلى الله عليه وسلم - "حوضاً" ونعتقد أنه أول شافع وأول مشفع وذكر الصراط والميزان والموت وأن المقتول قتل بأجله واستوفى رزقه. إلى أن قال: ومما نعتقده أن الله ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، فيبسط يده فيقول: «ألا هل من سائل» الحديث (¬4)، وليلة النصف من شعبان (¬5)، وعشية عرفة (¬6)، وذكر الحديث في ذلك. قال: ونعتقد أن الله ¬

(¬1) طه الآية (5). (¬2) السجدة الآية (5). (¬3) أخرجه من حديث أنس: أحمد (3/ 148) والبخاري (1/ 605/349) ومسلم (1/ 145/162) والنسائي (1/ 241 - 243/ 449) وابن ماجه (1/ 448/1399). (¬4) انظر تخريجه في مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ). (¬5) انظر تخريجه في مواقف ابن قتيبة سنة (276هـ). (¬6) انظر تخريجه في مواقف ابن قتيبة سنة (276هـ).

تعالى كلم موسى تكليماً، واتخذ إبراهيم خليلاً، وأن الخلة غير الفقر، لا كما قال أهل البدع. ونعتقد أن الله تعالى خص محمداً - صلى الله عليه وسلم - بالرؤية. واتخذه خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً. ونعتقد أن الله تعالى اختص بمفتاح خمس من الغيب لا يعلمها إلا الله {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} (¬1) الآية. ونعتقد المسح على الخفين، ثلاثاً للمسافر، ويوماً وليلة للمقيم، ونعتقد الصبر على السلطان من قريش، ما كان من جور أو عدل، ما أقام الصلاة من الجمع والأعياد. والجهاد معهم ماض إلى يوم القيامة. والصلاة في الجماعة حيث ينادى لها واجب، إذا لم يكن عذر أو مانع، والتراويح سنة، ونشهد أن من ترك الصلاة عمداً فهو كافر، والشهادة والبراءة بدعة، والصلاة على من مات من أهل القبلة سنة، ولا ننزل أحداً جنة ولا ناراً حتى يكون الله ينزلهم، والمراء والجدال في الدين بدعة. ونعتقد أن ما شجر بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم إلى الله، ونترحم على عائشة ونترضى عنها، والقول في اللفظ والملفوظ، وكذلك في الاسم والمسمى بدعة، والقول في الإيمان مخلوق، أو غير مخلوق بدعة وأن مما نعتقده: أن الله لا يحل في المرئيات، وأنه المتفرد بكمال أسمائه وصفاته، بائن من خلقه مستوٍ على عرشه، وأن القرآن كلامه غير مخلوق -حيث ما تلي ودرس وحفظ- ونعتقد أن الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلاً واتخذ نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - خليلاً وحبيباً، والخلة لهما منه، على خلاف ما قاله المعتزلة: إن الخلة الفقر والحاجة. ¬

(¬1) لقمان الآية (34).

موقف السلف من عضد الدولة الشيعي (372 هـ)

إلى أن قال: والخلة والمحبة صفتان لله هو موصوف بهما، ولا تدخل أوصافه تحت التكييف والتشبيه، وصفات الخلق من المحبة والخلة جائزة عليها الكيف، فأما صفاته تعالى فمعلومة في العلم، وموجودة في التعريف، قد انتفى عنها التشبيه، فالإيمان بها واجب، واسم الكيفية عن ذلك ساقط. (¬1) موقف السلف من عضد الدولة الشيعي (372 هـ) بيان رفضه: جاء في السير: نقل أنه لما احتضر ما انطلق لسانه إلا بقوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)} (¬2). ومات بعلة الصرع، وكان شيعياً جلداً أظهر بالنجف قبراً زعم أنه قبر الإمام علي، وبنى عليه المشهد، وأقام شعار الرفض، ومأتم عاشوراء، والاعتزال، وأنشأ ببغداد البيمارستان العضدي وهو كامل في معناه، لكنه تلاشى الآن. (¬3) أبو سعيد بن أخي هشام الربعي (¬4) (373 هـ) أبو سعيد خلف بن عمر بن أخي هشام الربعي وقيل: عثمان بن عمر ¬

(¬1) نقلاً عن شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (5/ 71 - 80). (¬2) الحاقة الآيتان (28و29). (¬3) السير (16/ 250). (¬4) تاريخ الإسلام (حوادث 351 - 380/ص.499) ومعالم الإيمان (3/ 99 - 104) والديباج (1/ 347 - 349).

موقفه من الرافضة:

المعروف بابن أخي هشام الربعي، الحناط الفقيه، قرأ على أحمد بن نصر وأبي بكر بن اللباد وأبي القاسم الطرزي، وغيرهم. كان إمام الزمان وواحد الفقهاء في عصره وأعلمهم بمذاهب أهل المدينة ما اختلف فيه وما اتفق عليه. وشيخ المالكية بإفريقية. وكان يجتمع مع أبي الأزهر بن مغيث وأبي محمد بن أبي زيد ويتناظرون. توفي يوم الجمعة السابع من صفر سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة. موقفه من الرافضة: جاء في معالم الإيمان: قال أحمد بن القاضي النعمان: يا أبا سعيد لم تقولون: إن من قذف عائشة يقتل؟ وإنما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} (¬1) وجلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسليماً أهل الإفك ثمانين جلدة، فلم لم تأخذوا بالقرآن، ولا بما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - تسليماً؟ فقال أبو سعيد: قال الله تعالى: {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} (¬2) وقال: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} (¬3) فجلد من قذفها قبل البراءة بالقرآن، وبعد القرآن من قذفها فقد رد القرآن، ومن رد حرفاً من القرآن فقد وجب قتله بإجماع. (¬4) ¬

(¬1) النور الآية (4). (¬2) النور الآية (26). (¬3) النور الآية (26). (¬4) المعالم (3/ 103 - 104).

أبو عثمان المغربي الصوفي (373 هـ)

أبو عثمان المغربي الصوفي (373 هـ) موقفه من الصوفية: هذا الرجل صوفي وله كلمة جيدة في الرد على الصوفية، والقول فيه ما قلنا في الجنيد قبله فلينظر. جاء في السير عنه قال: علوم الدقائق علوم الشياطين، وأسلم الطرق من الاغترار لزوم الشريعة. (¬1) محمد المَلَطِي (¬2) (377 هـ) محمد بن أحمد بن عبد الرحمن أبو الحسين الملطي المقرئ الفقيه نزيل عسقلان. قال الداني: أخذ القراءة عرضاً عن أبي بكر بن مجاهد وأبي بكر بن الأنباري وجماعة مشهورة بالثقة والإتقان، وسمعت إسماعيل بن رجاء يقول: كان أبو الحسين كثير العلم كثير التصنيف في الفقه جيد الشعر. وله قصيدة في وصف القراءة. وقد حدث عن عدي بن عبد الباقي وخيثمة الأطرابلسي وأحمد بن مسعود الوزان. روى عنه إسماعيل بن رجاء وعمر بن أحمد الواسطي وداود بن مصحح وآخرون. توفي سنة سبع وسبعين وثلاثمائة. موقفه من المبتدعة: ¬

(¬1) السير (16/ 321). (¬2) تاريخ الإسلام (حوادث 351 - 380/ص.615 - 616) ومعرفة القراء (1/ 343 - 344) طبقات الشافعية للسبكي (2/ 112) وغاية النهاية (2/ 67).

موقفه من المشركين:

له من الآثار السلفية: 'التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع'. وقد طبع الكتاب بحمد الله، وزينه بالنقل عن أئمة السلف كخشيش بن أصرم النسائي، وقد أغضب حامل راية الجهمية في الوقت الحاضر فدنسه بتعاليقه المسمومة على عادته في كل كتاب ينجسه. موقفه من المشركين: قال رحمه الله: فافترقت الزنادقة على خمس فرق، وافترقت منها فرقة على ست فرق، فمنهم: المعطلة: الذين يزعمون أن الأشياء كائنة من غير تكوين، وأنه ليس لها مكون ولا مدير، وأن هذا الخلق بمنزلة النبات في الفيافي والقفار، يموت سنة شيء ويحيى سنة شيء وينبت شيء، وأنها تغلب عليها الطبائع الأربعة في أبدانها فإذا غلبت إحداهن قتلته لأنه يموت الصغير ويحيى الكبير، وإن أباه خلقه، وخلق الأب أبوه لا يعرفون آدم، وإن آدم له آباء، تعالى الله عما يقولون. ومنهم المانوية: يزعمون أن إلهين وخالقين، خالق للخير والنور والضياء وخالق للشر والظلمة والبلاء، نزهوا الله وزعموا أنه لم يخلق الظلمة والبلاء، والهوام والسباع، فجعلوا معه لما نزهوه شريكاً خلق هذه الأشياء، وزعموا أن الله تعالى خلق الروح الجاري في الجسد، فقالوا: ألا ترى الروح إذا فارق الجسد أنتن، وأن الخالق الآخر عندهم خلق الجسد والله لا يخلق نتناً ولا قذراً، فجعلوا للخلق كلهم خالقين تعالى الله عما يقولون علوّاً كبيراً، وإنما

سموا مانية لأن رجلاً كان يقال له ماني، زعموا أنه نبيهم، وكان في زمن الأكاسرة فقتله بعضهم. وقد قال الله عز وجل في كتابه: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)} (¬1)، فهذان شاهدان. ومنهم المزدكية: وهم صنف من الزنادقة وذلك أنهم زعموا أن الدنيا خلقها الله خلقاً واحداً وخلق لها خلقاً واحداً وهو آدم جعلها له يأكل من طعامها ويشرب من شرابها، ويتلذذ بلذائذها، وينكح نساءها، فلما مات آدم جعلها ميراثاً بين ولده بالسوية، ليس لأحد فضل في مال ولا أهل، فمن قدر على ما في أيدي الناس وتناول نساءهم بسرقة، أوخيانة، أو مكر، أو خلابة، أو بمعنى من المعاني فهو له مباح سائغ وفضول ما في أيدي ذوي الفضل محرم عليهم حتى يصير بالسوية بين العباد سواء، وإنما سموا مزدكية لأنه ظهر في زمن الأكاسرة رجل يقال له 'مزدك' فقال هذه المقالة. كذب أعداء الله، والله يقول: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)} (¬2) وقال: {يَا أَيُّهَا ¬

(¬1) المؤمنون الآية (91). (¬2) الزخرف الآية (32).

موقفه من الرافضة:

الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)} (¬1). ومنهم العبدكية: زعموا أن الدنيا كلها حرام محرم لا يحل الأخذ منها إلا القوت، من حين ذهب أئمة العدل، ولا تحل الدنيا إلا بإمام عادل وإلا فهي حرام، ومعاملة أهلها حرام، فحل لك أن تأخذ القوت من الحرام من حيث كان، وإنما سموا العبدكية لأن 'عبدك' وضع لهم هذا ودعاهم إليه وأمرهم بتصديقه. كذب أعداء الله، قال الله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬2) وما أحل الله القوت إلا للمضطرين، ولم تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي، كذا رواه عبد الله بن عمرو، وقال رسول الله: «لغني ولا لذي مرة سوي» (¬3).اهـ (¬4) موقفه من الرافضة: - قال رحمه الله في كتابه التنبيه: واعلم أن هؤلاء الفرق من الإمامية ¬

(¬1) النساء الآيتان (29و30). (¬2) البقرة الآية (275). (¬3) أخرجه: أبو داود (2/ 285 - 286/ 1634) والترمذي (2/ 42/652) والحاكم (1/ 407) من طريق ريحان بن يزيد عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً. وقال الترمذي: "حسن". وله شواهد انظرها في الإرواء (3/ 381 - 385). (¬4) التنبيه والرد على أهل الأهواء (91 - 93).

الذين ذكرناهم ونذكرهم أيضاً؛ كفار غالية، قد خرجوا من التوحيد والإسلام، وسأذكر الحجة عليهم في الحجاج على أصناف الملحدين. (¬1) - وقال: وما قصد هشام -أي ابن الحكم الرافضي- بقوله في الإمامة قصد التشيع ولا محبة أهل البيت، ولكن طلب بذلك هدَّ أركان الإسلام، والتوحيد، والنبوة، فأراد هدمه، وانتحل في التوحيد التشبيه، فهدم ركن التوحيد، وساوى بين الخالق والمخلوق، ثم انتحل محبة أهل البيت ونشر عنهم وطعن على الكتاب والسنة، وكفر الأمة التي هي حجة الله على خلقه بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكفرهم ونسب إليهم الردة والنفاق، فعمل على هدم الإسلام العمل الذي لم يقدم عليه أحد من أعداء الإسلام، فالله يحكم فيه يوم القيامة بسوء كيده. فزعم هشام لعنه الله أن النبي عليه الصلاة والسلام نص على إمامة علي في حياته بقوله: «من كنت مولاه فعلي مولاه» (¬2) وبقوله لعلي: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي» (¬3)، وبقوله: «أنا مدينة العلم وعلي بابها» (¬4)، وبقوله لعلي: «تقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله» (¬5)، وأنه وصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخليفته في ذريته وهو خليفة الله في أمته، ¬

(¬1) التنبيه والرد على أهل الأهواء (24). (¬2) تقدم تخريجه في مواقف الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي سنة (145هـ). (¬3) تقدم تخريجه ضمن مواقف سعيد بن محمد الحداد المغربي سنة (302هـ). (¬4) أخرجه الطبراني (11/ 65 - 66/ 11061) والحاكم (3/ 126) من حديث ابن عباس وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأبو الصلت ثقة مأمون". وتعقبه الذهبي في التلخيص بقوله: "بل موضوع وقال عن أبي الصلت: لا والله لا ثقة ولا مأمون". (¬5) أحمد (3/ 82) والحاكم (3/ 122 - 123) وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. وابن حبان في صحيحه (الإحسان: 15/ 385/6937)، قال الهيثمي في المجمع (9/ 133): "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير خطر بن خليفة وهو ثقة".

وأنه أفضل الأمة وأعلمهم، وأنه لا يجوز عليه السهو ولا الغفلة، ولا الجهل، ولا العجز، وأنه معصوم وأن الله عز وجل نصبه للخلق إماما لكي لا يهملهم، وأن المنصوص على إمامته كالمنصوص على القبلة وسائر الفرائض، وأن الأمة بأسرها من الطبقة الأولى بايعوا أبا بكر الصديق رضي الله عنه فكفروا وارتدوا، وزاغوا عن الدين وأن القرآن نسخ وصعد به إلى السماء لردتهم، وأن السنة لا تثبت بنقلهم إذ هم كفار، وأن القرآن الذي في أيدي الناس قد انتقل ووضع أيام عثمان، وأحرق المصاحف التي كانت قبل. وأن الأمة قد داهنت، وغيرت، وبدلت، ونافقت، لأحقاد كانت لعلي فيهم من قتله آباءهم وعشيرتهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزواته. وأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وعمر، وعثمان، وطلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم أجمعين عندهم من شر الأمة وأكفرها يلعنونهم ويتبرءون منهم، وأنه ما بقي مع علي على الإسلام إلا أربعة: سلمان، وعمار، وأبو ذر، والمقداد بن الأسود، وأن أبا بكر مر بفاطمة عليهما السلام فرفس في بطنها فأسقطت وكان سبب علتها وموتها، وأنه غصبها فدك، فذكر أشياء كثيرة مما كاد بها الإسلام من المخاريق، والأباطيل والزور، التي لا تجوز عند العلماء، ولا تخفى إلا على أهل العمى والغباء. (¬1) - وقال رحمه الله أيضاً: والفرقة الثالثة عشرة من الإمامية: هم الإسماعيلية، يتبرؤون ويتولون، ويقولون بكفر من خالف علياً، ويقولون ¬

(¬1) التنبيه والرد على أهل الأهواء (24 - 26).

موقفه من الجهمية:

بإمامة الاثني عشر، ويصلون الخمس، ويظهرون التنسك والتأله، والتهجد، والورع. ولهم سجادات وصفرة في الوجوه وعمش في أعينهم من طول البكاء والتأوه على المقتول بكربلاء: الحسين بن علي ورهطه رضي الله عنهم، ويدفعون زكاتهم وصدقاتهم إلى أئمتهم، ويتحنئون بالحناء، ويلبسون خواتيمهم في أيمانهم، ويشمرون قمصهم وأرديتهم كما تصنع اليهود، ويتحذون بالنعال الصفر، وينوحون على الحسين عليه السلام، واعتقادهم العدل، والتوحيد، والوعيد، وإحباط الحسنات مع السيئات. ويكبرون على جنائزهم خمساً، ويأمرون بزيارة قبور السادة. والفرقة الرابعة عشرة من الإمامية: هم أهل قم: قولهم قريب من قول الإسماعيلية غير أنهم يقولون بالجبر والتشبيه يجمعون بين الظهر والعصر في أول الزوال، وبين المغرب والعشاء في جوف الليل آخر وقت المغرب عندهم، ويصلون صلاة الفجر بين طلوع الفجر الأول الذي يسمى ذنب السرحان، ويمسحون في الوضوء بالماء على ظهور أقدامهم وأسفلها، ولهم طعن على السلف، وشتم عظيم حتى يبلغ الواحد منهم أن يأخذ شيئاً أو مثالاً يحشوه تبناً أو صوفاً يسميه أبا بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم، ويضربه بالعصى حتى يهريه ليشفي بذلك ما في قلبه في الغل للذين آمنوا، مع أشياء يقبح ذكرها من مذاهبهم، مذاهب السفلة العمي إخوة القردة، بل إخوة القردة أفضل منهم. (¬1) موقفه من الجهمية: ¬

(¬1) التنبيه والرد على أهل الأهواء (32 - 33).

- قال رحمه الله: وأنكر جهم أن يكون لله سمع وبصر، وقد أخبرنا الله عز وجل في كتابه، ووصف نفسه في كتابه قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (¬1)، ثم أخبر عن خلقه فقال عز وجل: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)} (¬2). فهذه صفة من صفات الله أخبرنا أنها في خلقه، غير أنا لا نقول: إن سمعه كسمع الآدميين، ولا بصره كأبصارهم. وقال: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)} (¬3) وقال: {فَاذْهَبَا بِآَيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)} (¬4) وقال: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} (¬5) وقوله: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ} (¬6)، وقال: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} (¬7)، وقال: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)} (¬8) وقال: {كَيْ ¬

(¬1) الشورى الآية (11). (¬2) الإنسان الآية (2). (¬3) آل عمران الآية (181). (¬4) الشعراء الآية (15). (¬5) الزخرف الآية (80). (¬6) مريم الآية (42). (¬7) طه الآية (46). (¬8) طه الآية (39).

نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)} (¬1)، وقال: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)} (¬2)، وقال: {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} (¬3)، وقال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (¬4)، وقال: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} (¬5)، وقال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} (¬6)، وقال: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} (¬7)، وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} (¬8)، وقال: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} (¬9)، ثم قال: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} (¬10) فقد وصف الله من نفسه أشياء جعلها في خلقه والذي يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (¬11). وإنما أوجب الله على المؤمنين اتباع كتابه وسنة رسوله. (¬12) ¬

(¬1) طه الآيات (33 - 35). (¬2) الشعراء الآيتان (218و219). (¬3) التوبة الآية (105). (¬4) ص الآية (75). (¬5) الحج الآية (10) .. (¬6) الرحمن الآية (27). (¬7) البقرة الآية (144). (¬8) الفرقان الآية (58). (¬9) آل عمران الآية (169). (¬10) الدخان الآية (56). (¬11) الشورى الآية (11). (¬12) التنبيه والرد على أهل الأهواء (121 - 122).

موقفه من الخوارج:

- وقال رحمه الله عن المعتزلة: والطائفة السادسة من مخالفي أهل القبلة هم المعتزلة وهم أرباب الكلام، وأصحاب الجدل، والتمييز، والنظر، والاستنباط، والحجج على من خالفهم وأنواع الكلام، والمفرقون بين علم السمع وعلم العقل، والمنصفون في مناظرة الخصوم، وهم عشرون فرقة، يجتمعون على أصل واحد لا يفارقونه، وعليه يتولون، وبه يتعادون، وإنما اختلفوا في الفروع. (¬1) - وقال: واعلم أن للمعتزلة من الكلام ما لا أستجيز ذكره لأنهم قد خرجوا عن أصول الإسلام إلى فروع الكفر. (¬2) - وقال: وكيف تدبرت قولهم عرفت جهلهم ووسواسهم، وهوسهم، لأنهم يختلفون في الأجساد والأرواح من الخلق كلهم، إنسهم وجانهم، ولا يدعون ذكر بهيمة، ولا طائر، ولا شيء خلقه الله عز وجل إلا تكلموا عليه، ووضعوا قياساً، ثم عدلوا عن ذلك كله، فلم يرضوا به، وهم لا يعلمون، فقالت طائفة: بظاهر التنزيل، ورد المتشابه إلى المحكم والترك وهم أهل العراق وبينهم في ذلك خلاف ومنازعات وأشياء تخرج إلى الكفر والتعطيل والتخليط. (¬3) موقفه من الخوارج: - قال رحمه الله في كتابه التنبيه: فأما الفرقة الأولى من الخوارج: فهم المحكمة الذين كانوا يخرجون بسيوفهم في الأسواق فيجتمع الناس على غفلة ¬

(¬1) التنبيه والرد على أهل الأهواء (35 - 36). (¬2) التنبيه والرد على أهل الأهواء (ص.41). (¬3) التنبيه والرد على أهل الأهواء (ص.41).

فينادون: لا حكم إلا لله، ويضعون سيوفهم فيمن يلحقون من الناس، فلا يزالون يقتلون حتى يقتلوا، وكان الواحد منهم إذا خرج للتحكيم لا يرجع أو يقتل، فكان الناس منهم على وجل وفتنة، ولم يبق منهم اليوم أحد على وجه الأرض بحمد الله. فمتى تعرضت هذه الفرقة من الشراة يقال لهم: أخبرونا عن قولكم: "لا حكم إلا لله" ماذا تريدون؟ فإنهم يقولون: لا تحكيم في دين الله لأحد من الناس إلا لله، وهم لا يحكمون بينهم حكماً، فلما حكم أبو موسى الأشعري بين علي ومعاوية رضي الله عنهم، وخلع علياً رضي الله عنه، قال هؤلاء: علي كفر بجعل الحكم إلى أبي موسى الأشعري ولا حكم إلا لله. والشراة كلهم يكفرون أصحاب المعاصي ومن خالفهم في مذهبهم مع اختلاف أقاويلهم ومذاهبهم. يقال لهم: من أين قلتم: لا حكم إلا لله؟ وقد حكم الله الناس في كتابه في غير موضع. قال عز وجل في جزاء الصيد: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬1) وقال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا} (¬2). وقال: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (¬3) يعني الزوج والزوجة. ¬

(¬1) المائدة الآية (95). (¬2) النساء الآية (128). (¬3) النساء الآية (35).

وقال: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (¬1) وأيضاً: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬2) وقال: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)} (¬3). فهذا محكم القرآن قد جعل أحكاماً كثيرة إلى العلماء، وإلى الأمراء من الناس ينظرون فيه مما لم ينزل بيانه من عند الله. فكيف قلتم: لا حكم إلا لله؟ فإن أبوا هذا الشرح، ومحكم الكتاب ظهر جهلهم. وإن قالوا به تركوا قولهم ورجعوا إلى الحق. ويقال لهم: لا يحل دم مؤمن يهرق إلا بثلاثة خلال: إما زنى بعد إحصان، أو ارتداد بعد إيمان، أو أن يقتل نفساً عمداً فيقتل به (¬4)، ثم لم يطلق قتل أحد من أهل القبلة، فبم استحللتم قتل الناس؟ فإن حاولوا حجة لم يجدوها، وإن مروا على جهلهم بغير حجة بان خطؤهم. ويقال لهم في تكفير الناس: لم كفرتم من أقر بالله ورسوله ودينه ثم أتى كبيرة؟ فإن قالوا: قياساً على قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ¬

(¬1) الشورى الآية (10). (¬2) النساء الآية (59). (¬3) النساء الآية (83). (¬4) أخرجه من حديث ابن مسعود: أحمد (1/ 382) والبخاري (12/ 247/6878) ومسلم (3/ 1302/1676) وأبو داود (4/ 522/4352) والترمذي (4/ 12 - 13/ 1402) والنسائي (7/ 90 - 91/ 4027) وابن ماجه (2/ 848/2534).

حَبِطَ عَمَلُهُ} (¬1) ثم قال عز وجل: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)} (¬2)، وقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} (¬3)، فلم يجعل الله بين الكفر والإيمان منزلة ثالثة، ومن كفر وحبط عمله فهو مشرك، والإيمان رأس الأعمال، وأول الفرائض في عمل، ومن ترك ما أمره الله به فقد حبط عمله وإيمانه، ومن حبط عمله فهو بلا إيمان، والذي لا إيمان له مشرك كافر. يقال لهم: أخطأتم القياس وتركتم طريق العلم، وذلك أن الله عز وجل بين في كتابه المحكم أن الفاسق له منزلة بين الإيمان والكفر بقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)} (¬4)، ولم يقل: إنهم مع فسقهم مؤمنون كما قالت المرجئة، ولا قال إنهم مع فسقهم كفار كما قلتم أنتم، وأثبت لهم اسم الفسق فقط، فهم فساق لا مؤمنون ولا كافرون كما قال الله عز وجل وأجمعت عليه الأمة، والأمة مجمعة على اسم الفسق لأهل الكبائر، وإنما هو اسم ومنزلة بين الكفر والإيمان أجمعت الأمة على ذلك، وإنما ذهب من ذهب إلى تكفير أهل الكبائر من أهل القبلة بعد ¬

(¬1) المائدة الآية (5). (¬2) الإنسان الآية (3). (¬3) التغابن الآية (2). (¬4) النور الآية (4).

القول بفسقهم. وكذلك المرجئة إنما سموا أهل الكبائر مؤمنين بعد ما سموهم فاسقين لأن الله عز وجل سماهم فاسقين، ولم يتهيأ لهم أن يزيلوا اسم الفسق عنهم، فاجتمعوا على فسقهم، ثم افترقوا إلى غير ذلك. ويقال لهم أيضاً: لِمَ صيرتم الكبائر والصغائر شيئاً واحداً؟ والله عز وجل قد فرق بين الصغائر والكبائر بقوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كبائر مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)} (¬1)، يعني من لم يعمل الكبائر، فإن حاولوا حجة في تكفير الأمة لم يجدوا. وإن جعلوا الذنوب كلها كبائر لم يجدوا إلى الحجة سبيلاً من عقل ولا سمع. (¬2) - وقال أيضاً: الحرورية: يقولون بتكفير الأمة ويتبرؤون من الختنين، ويتولون الشيخين، ويسبون، ويستحلون الأموال والفروج، ويأخذون بالقرآن ولا يقولون بالسنة أصلاً، وإذا تطهر منهم الرجل أو المرأة للصلاة لا يبرح ولا يمشي أصلاً حتى يصلي في المكان الذي تطهر فيه، وزعموا أنه إذا مشى الرجل تحرك شرجه وانتقضت طهارته، ويستنجون بالماء، وإذا خرجت منهم الريح لم يتطهروا للصلاة خلافاً لجميع الأمة، ولا يصلون في السراويل، ويقولون: السراويل جب الفقاح، وتقاتل نساؤهم على الخيل مضمرات كما يقاتل رجالهم، وهم بناحية سجستان، وهراة، وخراسان، وهم عالم كثير لا يعرف عددهم إلا الله، وهم أصحاب خيل وشجاعة. (¬3) ¬

(¬1) النساء الآية (31). (¬2) التنبيه والرد على أهل الأهواء (47 - 50). (¬3) التنبيه والرد على أهل الأهواء (53).

موقفه من المرجئة:

موقفه من المرجئة: - قال رحمه الله في حديثه عن المرجئة: ومن المرجئة صنف زعموا: أن الإيمان معرفة بالقلب لا فعل باللسان، ولا عمل بالبدن، ومن عرف الله بقلبه أنه لا شيء كمثله، فهو مؤمن وإن صلى نحو المشرق أو المغرب وربط في وسطه زناراً. وقالوا: لو أوجبنا عليه الإقرار باللسان أوجبنا عليه عمل البدن حتى قال بعضهم: الصلاة من ضعف الإيمان، من صلى فقد ضعف إيمانه. (¬1) - وقال: ومنهم صنف زعموا: أن إيمانهم كإيمان جبريل، وميكائيل، والملائكة المقربين والأنبياء. قلنا نحن: كيف يمكنهم هذه الدعوى والملائكة لم يعصوا الله، والأنبياء صفوة الله؟ ومنهم صنف زعموا: أنهم مؤمنون مستكملون للإيمان ليس في إيمانهم نقص ولا لبس؛ وإن زنى أحدهم بأمه أو بأخته وارتكب العظائم وأتى الكبائر والفواحش وشرب الخمر وقتل النفس وأكل الحرام والربا وترك الصلاة والزكاة والفرائض كلها، واغتاب، وهمز، ولمز، وتحدث. وهذا هو الجهل القوي، كيف يستكمل الإيمان من خالف شروطه وخصاله وشرائعه؟ ألا ترى أن في كتاب الله إيماناً مقبولاً وإيماناً مردوداً؟ فمن أدى حقيقته فقد ادعى علم ما لم يعلم فكيف بمن خالفه أجمع؟ وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري يقولان: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يقتل حين يقتل وهو مؤمن، ولا يشرب ¬

(¬1) التنبيه والرد على أهل الأهواء (149).

الخمر حين يشربها وهو مؤمن» (¬1). وقال أبو هريرة: إنما الإيمان نزه فمن زنى فارق الإيمان فإن لام نفسه راجعه الإيمان (¬2). وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أيما عبد زنى نزع الله منه الإيمان، فإن شاء رده عليه وإن شاء منعه منه (¬3). ومنهم صنف زعموا: أنهم مؤمنون حقاً كحقيقة أهل الجنة الذين وصف الله تحقيقهم {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (¬4) ومن زعم أنه في الجنة فهو في النار ومن زعم أنه عالم فهو جاهل ومن زعم أنه صادق -يعني في إيمان- فهو كاذب. ومنهم صنف زعموا: أن إيمانهم قائم أبداً لا يزيد وإن عمل الحسنات العظام، وورع في الدين وترك الحرام وحج البيت دائماً وصلى أبداً أو صام. ولا ينقص وإن عمل السيئات والكبائر والفواحش وركب الحرام جاهراً، أو ترك الصلاة ولم يصم ولم يحج أبداً. قال أهل العلم أجمع: هؤلاء مخالفون للقرآن يقول الله عز وجل: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} (¬5) وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا ¬

(¬1) أخرجه من حديث أبي سعيد: الطبراني في الأوسط (1/ 324 - 325/ 538) والبزار (مختصر الزوائد (1/ 103 - 104/ 49). قال الهيثمي في المجمع (1/ 100 - 101): "وفي إسناد الطبراني محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وثقه العجلي، وضعفه أحمد وغيره لسوء حفظه" وقد تقدم الحديث عند الجماعة من حديث أبي هريرة. انظر مواقف الحسن البصري سنة (110هـ). (¬2) تقدم تخريجه في مواقف أبي هريرة سنة (58هـ). (¬3) تقدم تخريجه في مواقف ابن عباس سنة (68هـ). (¬4) الأنفال الآية (4). (¬5) الفتح الآية (4).

أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} (¬1).اهـ (¬2) - وقال أيضاً في معرض الحجاج معهم: وينبغي أن يقول لهم: أخبرونا عن الإيمان: ما هو؟ فإن قالوا: (لا ندري) سقطت مواربة كلامهم، وصاروا بمنزلة من يقول الشيء على الجهل، والجاهل لا حجة له، وإن قالوا: (الإيمان هو الإقرار) فقد صدقوا، يقال لهم: فالإقرار يكون باللسان أو بالقلب؟ فإن قالوا: (باللسان فقط) يقال لهم: فالمنافقون الذين أقروا بألسنتهم، وأسروا الشرك، أهو شيء صح لهم الإيمان إذا أقروا بألسنتهم؟ والإيمان عندكم الإقرار باللسان. فإن قالوا: (هؤلاء أقروا بألسنتهم وأسروا هذه فلم يصح إيمانهم) نقضوا قولهم؛ لأنهم قد اعترفوا أن القول باللسان لا يصح إلا مع إقرار بالقلب، وإن شك القلب ببعض إقرار اللسان فيجب عليهم حينئذ أن يقولوا: الإيمان قول باللسان وإقرار بالقلب، والإقرار بالقلب عمل، بل هو أصل كل الأعمال التي بالجوارح، لأن الجوارح عن القلب تصدر، وإذا كان كذلك فقد وجب أن يقولوا: إن الإيمان قول وعمل، وينقضوا أصلهم: إن الإيمان قول بلا عمل. وأيضاً إذا أقروا أن الإيمان قول باللسان وتصديق بالقلب؛ لزمتهم أن يقولوا: وعمل بالجوارح، فإن أبوا أن يقولوا ذلك ردوا إلى الكلام الأول، فبان ¬

(¬1) الحجرات الآية (2). (¬2) التنبيه والرد على أهل الأهواء (153 - 155).

جهلهم، وإن أجازوا ذلك تركوا قولهم وقالوا: (الإيمان قول باللسان وتصديق بالقلب، وعمل بالجوارح يزيد وينقص). وهذا هو الحق لا يجوز غيره. ويقال لهم أيضاً: أخبرونا أفترض الله على عباده فرائض فيها أمر ونهى؟ فإن قالوا: (لا) جهلوا وكابروا، وإن قالوا: (نعم) قيل لهم: فما تقولون فيمن أدى إلى الله ما أمر به وانتهى عما نهاه؟ أهو كمن عصاه في أمره ونهيه؟ فإن قالوا: (هما سواء عند الله وعندنا) جعلوا المعصية كالطاعة والطاعة كالمعصية، وهذا جهل وكفر ممن قاله، وإن قالوا: (الطاعة غير المعصية وليس من أطاع الله في أمره ونهيه كمن عصاه) تركوا قولهم وقالوا بالحق. ويقال لهم: أخبرونا عن قول الله تبارك وتعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)} (¬1) وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)} (¬2)، أهذا شيء قاله على حقيقة القول أم على المجاز؟ فإن قالوا: (على المجاز) جعلوا إخبار الله عن وعده على المجاز، وهذا كفر ممن قاله لأن أحداً لا يتيقن حينئذ بخبره إذا لم يكن له حقيقة وصحة. وإن قالوا: (على حقيقة) يقال لهم: أخبر الله عز وجل أنه لا يستوي عنده الولي والعدو. ¬

(¬1) الجاثية الآية (21). (¬2) العنكبوت الآية (4).

ويقال لهم: أخبرونا عمن زنا وأتى شيئاً من الكبائر أترون عليه التوبة أم لا؟ فإن قالوا: (لا) بَانَ جهلهم، وإن قالوا: (نعم) قيل لهم: لأي شيء يتوب؟ فإن قالوا: (يقبل الله توبته، ويغفر ذنبه) تركوا قولهم وجعلوا لأهل المعاصي توبة وغفراناً مما اجترموا، وإن قالوا: (لا يحتاجون إلى غفران ولا توبة عليهم) خرجوا من دين الإسلام وخالفوا الجماعة. ويقال لهم: فلم قلتم (إن الله يغفر للمصرين بلا توبة) أمن سمع أو عقل؟ فإن في العقل شواهد دالة أن الحكيم لا يستوي عنده وليّه الذي أطاعه وعدوه الذي عصاه، ولا يجوز ذلك في الحكمة. ويقال لهم: في قولهم: (إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص) ما تقولون فيمن آمن وهو بالله وبدينه عارف، ومن آمن وهو بالله وبدينه جاهل؟ فإن قالوا: (هما سواء). تجاهلوا، وإن قالوا: (المؤمن العارف بالله وبدينه أفضل) تركوا قولهم، وقالوا بالحق: إن الإيمان يزيد بالعمل والعلم، وينقص بنقص العلم والعمل. ويقال لهم: هل تجعلون بين أهل المعصية، وأهل الطاعة فضلاً؟ فإن قالوا: (لا فضل بينهم) تجاهلوا، وإن قالوا: (نعم) قيل لهم: ما الذي تجعلونه بينهم؟ فإن قالوا: (لأهل الطاعة الوعد والثواب، ولأهل المعصية الوعيد والعقاب) تركوا قولهم الخبيث وقالوا بالحق، وإن قالوا: (لا ندري) تجاهلوا. ويقال لهم: ما تقولون في قول الله تبارك وتعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا

موقفه من القدرية:

يُظْلَمُونَ (160)} (¬1) أليس عندكم من تصدق بدرهم فله عشر من الحسنات، ومن سرق درهماً فعليه وزر درهم واحد، فإذا قالوا (نعم)، يقال لهم: فرجل سرق عشرة دراهم وتصدق منها بدرهم أليس له تسع حسنات وعنده تسع الدراهم؟ فإن قالوا: (لا تجزئه صدقة من سرقة لأن السرقة تحبط أجره) تركوا قولهم، وإن قالوا: (تجزئه) زعموا أن من سرق عشرة دراهم وتصدق بدرهم منها فله تسع حسنات وعنده تسع الدراهم لأن الحسنة بعشرة أمثالها والسيئة بمثلها، وهذا ربح لا ربح بعده، مع أن على السارق لأموال الناس بسبب سرقته ذنوباً يعاقب عليها. (¬2) موقفه من القدرية: له كتاب: 'التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع' عقد فيه باباً في القدرية وهو قوله: "باب ذكر القدرية ونعتهم واعتقادهم" ثم تناول ذلك بالتفصيل فقال: وأما القدرية فهم سبع فرق، وهم أصناف: فصنف منهم يزعمون أن الحسنات والخير من الله، والشر والسيئات من أنفسهم لكي لا ينسبوا إلى الله شيئاً من السيئات والمعاصي، ويتكلمون بأشياء لا أستجيز ذكرها، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. (¬3) ثم ساق الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة. ¬

(¬1) الأنعام (160). (¬2) التنبيه والرد على أهل الأهواء (44 - 47). (¬3) التنبيه والرد (ص.165 - 177).

أبو أحمد الحاكم الكبير (378 هـ)

أبو أحمد الحاكم الكبير (¬1) (378 هـ) الإمام الحافظ العلامة الثبت الجهبذ، محدث خراسان، محمد بن محمد بن أحمد بن إسحاق النيسابوري الكرابيسي. صاحب التصانيف، وهو الحاكم الكبير مؤلف كتاب 'الكنى والعلل' وغيرها، ولد في حدود سنة تسعين ومائتين. وطلب الحديث وهو كبير له نيف وعشرون سنة، فسمع من أحمد الماسرجسي وابن خزيمة والباغندي والبغوي وأبي عروبة الحراني وطبقتهم. وروى أيضاً عن عبد الرحمن بن أبي حاتم، وخلق بالشام والعراق والحجاز والجزيرة وخراسان، وكان من بحور العلم. حدث عنه أبو عبد الله الحاكم، وأبو عبد الرحمن السلمي، وابن منجويه. قال الحاكم: هو إمام عصره في هذه الصنعة كثير التصانيف. إلى أن قال: وكان مقدماً في العدالة أولاً ثم ولي القضاء .. ثم أتى نيسابور سنة خمس وأربعين ولزم مسجده ومنزله مفيداً مقبلاً على العبادة والتصنيف. وقال أيضاً: كان أبو أحمد من الصالحين الثابتين على سنن السلف. توفي في ربيع الأول سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة وله ثلاث وتسعون سنة رحمه الله تعالى. موقفه من الرافضة: جاء في السير: قال الحاكم: كان أبو أحمد من الصالحين الثابتين على سنن السلف، ومن المنصفين فيما نعتقده في أهل البيت والصحابة. (¬2) ¬

(¬1) تذكرة الحفاظ (3/ 976 - 979) والسير (16/ 370 - 377) وتاريخ الإسلام (حوادث 351 - 380/ص.637 - 638) والوافي بالوفيات (1/ 115) والشذرات (3/ 93) (¬2) السير (16/ 372).

أحمد بن عون الله (378 هـ)

أحمد بن عون الله (¬1) (378 هـ) الشيخ المحدث أحمد بن عون الله بن حدير بن يحيى القرطبي البزاز، أبو جعفر. ولد سنة ثلاثمائة. حج وسمع من ابن الأعرابي وخيثمة الأطرابلسي وأحمد بن سلمة بن الضحاك وأبي يعقوب الأذرعي، وجماعة كثيرة. روى عنه أبو الوليد بن الفرضي وأبو عمر الطلمنكي، وخلق. توفي رحمه الله تعالى في ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة. موقفه من المبتدعة: - جاء في السير: كان صدوقاً، صالحاً، شديداً على المبتدعة، لهجاً بالسنة، صبوراً على الأذى. (¬2) - قال أبو عبد الله بن مفرج: كان أبو جعفر أحمد بن عون الله محتسباً على أهل البدع، غليظاً عليهم مذلاًّ لهم، طالباً لمساوئهم، مسارعاً في مضارهم، شديد الوطاءة عليهم، مشرداً لهم إذا تمكن منهم غير مبقٍ عليهم، وكان كل من كان منهم خائفاً منه على نفسه متوقياً لا يداهن أحداً منهم على حال، ولا يسالمه، وإن عثر لأحد منهم على منكر، وشهد عليه عنده بانحراف عن السنة نابذه وفضحه وأعلن بذكره والبراءة منه، وعيره بذكر السوء في المحافل، وأغرى به حتى يهلكه، أو ينزع عن قبيح مذهبه وسوء معتقده، ولم يزل دؤوباً على هذا جاهداً فيه ابتغاء وجه الله إلى أن لقي الله ¬

(¬1) تاريخ علماء الأندلس (1/ 54) وتاريخ دمشق (5/ 117 - 120) والسير (16/ 390) وتاريخ الإسلام (حوادث 351 - 380/ص.620) وشجرة النور الزكية (1/ 100). (¬2) السير (16/ 390).

النسفي (380 هـ)

عز وجل. له في الملحدين آثار مشهورة ووقائع مذكورة. (¬1) النَّسَفِي (¬2) (380 هـ) الشيخ بكر بن محمد بن جعفر أبو عمرو النسفي. راوي صحيح البخاري عن حماد بن شاكر. وروى أيضاً عن محمود بن عنبر. وروى عنه جعفر المستغفري. توفي سنة ثمانين وثلاثمائة. موقفه من المبتدعة: قال الذهبي: روى عنه جعفر المستغفري وقال: كان كثير التلاوة شديداً على المبتدعة. (¬3) ابن حَيَّوَيْه أبو عمر (¬4) (382 هـ) الإمام المحدث الثقة المسند أبو عمر محمد بن العباس بن محمد بن زكريا ابن يحيى البغدادي، الخزاز بن حيويه، من علماء المحدثين. سمع أبا بكر محمد ابن محمد الباغندي، ومحمد بن خلف بن المرزبان، وأبا القاسم البغوي، وعبيد الله بن عثمان صاحب ابن المديني، وابن أبي داود وطبقتهم. حدث عنه أبو بكر البرقاني، وأبو الفتح بن أبي الفوارس، وأبو محمد الخلال، وعلي بن ¬

(¬1) تاريخ دمشق (5/ 118). (¬2) السير (16/ 396) وتاريخ الإسلام (حوادث 351 - 380/ص.656). (¬3) السير (16/ 396). (¬4) تاريخ بغداد (3/ 121 - 122) وتاريخ الإسلام (حوادث 381 - 400/ص.54 - 55) والسير (16/ 409 - 410) والوافي بالوفيات (3/ 199) والبداية والنهاية (11/ 223) وشذرات الذهب (3/ 104).

موقفه من الرافضة:

المحسن التنوخي وأبو محمد الجوهري وآخرون. روى الكتب المطولة. قال الخطيب: كان ثقة، سألت البرقاني عنه، فقال: ثبت حجة. كتب طول عمره وروى المصنفات الكبار. مولده في خمس وتسعين ومائتين. قال العتيقي: مات في ربيع الآخر سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة. موقفه من الرافضة: قال أبو عمر بن حيويه: كان ابن عقدة يملي مثالب الصحابة فتركت حديثه. (¬1) قال الذهبي: قد رمي ابن عقدة بالتشيع، ولكن روايته لهذا ونحوه، يدل على عدم غلوه في تشيعه، ومن بلغ في الحفظ والآثار مبلغ ابن عقدة، ثم يكون في قلبه غل للسابقين الأولين، فهو معاند أو زنديق. والله أعلم. (¬2) القَلْعِي أبو محمد عبد الله بن محمد (¬3) (383 هـ) الإمام الحافظ، المجود الزاهد، القدوة المجاهد، أبو محمد، عبد الله بن محمد ابن القاسم بن حزم الأندلسي القلعي. ولد سنة عشرين وثلاثمائة. سمع وهب ابن مسرة، وأبا محمد بن الورد، وعلي بن أبي العقب الدمشقي، وأبا بكر الشافعي، وطبقتهم. وجمع فأوعى. سمع منه أحمد بن عون الله، وابن مفرج ¬

(¬1) التذكرة (3/ 841) والسير (15/ 354). (¬2) السير (15/ 343 - 344). (¬3) تاريخ علماء الأندلس (1/ 285 - 286) والسير (16/ 444) وتاريخ الإسلام (حوادث 381 - 400/ص.64 - 65) والوافي بالوفيات (17/ 490) وشذرات الذهب (3/ 104 - 105) والديباج المذهب (1/ 452 - 453).

موقفه من المشركين:

القاضي. قال ابن الفرضي: سمعت منه علماً كثيراً. كانت الرحلة إليه، ونفع الله به الخلق وكان زاهداً شجاعاً. كانوا يشبهونه بسفيان الثوري في زمانه. ولاه المستنصر بالله القضاء، فاستعفى فأعفاه. توفي بقلعة أيوب من الأندلس في ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة، رحمه الله وكان عمره ثلاثاً وستين سنة. موقفه من المشركين: جاء في السير: وبلغنا أنه كان يقف وحده للفئة من المشركين. (¬1) أبو حفص بن شَاهِين (¬2) (385 هـ) الحافظ الإمام المفيد المكثر، شيخ العراق، أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان البغدادي الواعظ المعروف بابن شاهين، صاحب التصانيف. مولده بخط أبيه في صفر سنة سبع وتسعين ومائتين. سمع أبا بكر الباغندي وأبا القاسم البغوي وأبا بكر بن أبي داود، وأبا علي محمد بن سليمان المالكي وطبقتهم. حدث عنه أبو بكر محمد الوراق وأبو سعد الماليني، وأبو محمد الجوهري والحسن بن محمد الخلال، وابنه عبيد الله وخلق كثير. قال الخطيب: صنف ثلاثمائة مصنف. منها 'التفسير' و'المسند' و'التاريخ' و'الزهد'. قال عن نفسه: حسبت ما اشتريت به الحبر إلى هذا الوقت فكان سبعمائة درهم. قال ¬

(¬1) السير (16/ 445). (¬2) تاريخ بغداد (11/ 265 - 268) وتذكرة الحفاظ (3/ 987 - 990) والسير (16/ 431 - 435) وتاريخ الإسلام (حوادث 381 - 400/ص.105 - 107) والبداية والنهاية (11/ 337) وشذرات الذهب (3/ 117).

موقفه من المبتدعة:

أبو الفتح بن أبي الفوارس: ثقة مأمون صنف ما لم يصنفه أحد. مات في ذي الحجة سنة خمس وثمانين وثلاثمائة. عاش تسعاً وثمانين سنة. موقفه من المبتدعة: - جاء في السير عنه: إذا ذكر له مذاهب الفقهاء كالشافعي وغيره يقول: أنا محمدي المذهب. (¬1) - وقوله أيضاً: وإني بريء من كل بدعة؛ من قدر وإرجاء ورفض ونصب واعتزال، واعتقادي في ديني وإمامي في سنتي؛ أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله، وكل مذهب اعتقده أهل العلم بالسنة مما لم يبلغني فهو مذهبي. (¬2) موقفه من المرجئة: - جاء في 'الكتاب اللطيف' قوله: وأشهد أن الإيمان قول وعمل ولا عمل إلا بنية. (¬3) موقفه من القدرية: افتتح كتابه المفيد: 'الكتاب اللطيف لشرح مذاهب أهل السنة ومعرفة شرائع الدين والتمسك بالسنن' بذكر القدرية وببعض النقول في ذمهم والتنفير من طريقهم الخبيث. (¬4) ¬

(¬1) السير (16/ 433). (¬2) (ص.252). (¬3) (ص.249). (¬4) (ص.69 - 71).

الصاحب الوزير الكبير (385 هـ)

الصاحب الوزير الكبير (¬1) (385 هـ) الوزير الكبير العلامة الصاحب أبو القاسم، إسماعيل بن عباد بن عباس الطالقاني الأديب الكاتب، وزير الملك مؤيد الدولة بويه بن ركن الدولة، صحب الوزير أبا الفضل بن العميد ومن ثم شهر بالصاحب. سمع من أبي محمد بن فارس، وأحمد بن كامل. روى عنه أبو العلاء محمد بن حسول، وعبد الملك الرازي، وأبو بكر بن أبي علي الذكواني، وأبو بكر بن المقرئ شيخه. له تصانيف عدة منها: 'المحيط' و'الكافي' و'الإمامة'. كان شيعياً معتزلياً صلفاً جباراً ثم تاب. وأخذ خطوط جماعة بصحة توبته. مات رحمه الله في صفر سنة خمس وثمانين وثلاثمائة عن تسع وخمسين سنة. موقفه من المشركين: موقفه من الفلاسفة: قيل: جمع الصاحب من الكتب ما يحتاج في نقلها إلى أربع مئة جمل، ولما عزم على التحديث تاب (¬2)، واتخذ لنفسه بيتاً سماه بيت التوبة، واعتكف على الخير أسبوعاً، وأخذ خطوط جماعة بصحة توبته، ثم جلس للإملاء، وحضره الخلق، وكان يتفقد علماء بغداد في السنة بخمسة آلاف دينار، وأدباءها، وكان يبغض من يدخل في الفلسفة. (¬3) ¬

(¬1) وفيات الأعيان (1/ 228 - 233) وتاريخ الإسلام (حوادث 381 - 400/ص.92 - 98) والسير (16/ 511 - 514) والبداية والنهاية (11/ 335) والشذرات (3/ 113 - 116) (¬2) من التشيع والاعتزال ولمز السلف بالحشوية انظر السير (16/ 512). (¬3) السير (16/ 513).

علي بن عمر الدارقطني (385 هـ)

علي بن عمر الدَّارَقُطْنِي (¬1) (385 هـ) أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد البغدادي المقرئ المحدث من أهل محلة دار القطن ببغداد. الإمام الحافظ المجود شيخ الإسلام علم الجهابذة. ولد سنة ست وثلاثمائة. سمع من أبي القاسم البغوي وأبي بكر بن أبي داود وأبي طالب أحمد بن نصر الحافظ وخلق كثير. حدث عنه الحافظ أبو عبد الله والحافظ عبد الغني وأبو نعيم الأصبهاني، وخلق سواهم. كان من بحور العلم ومن أئمة الدنيا انتهى إليه الحفظ ومعرفة علل الحديث ورجاله مع التقدم في القراءات وطرقها وقوة المشاركة في الفقه والاختلاف والمغازي وأيام الناس وغير ذلك. وهو أول من صنف القراءات وعقد لها أبواباً قبل فرش الحروف. قال الخطيب: كان الدارقطني فريد عصره وقريع دهره، ونسيج وحده، وإمام وقته، انتهى إليه علو الأثر والمعرفة بعلل الحديث وأسماء الرجال مع الصدق والثقة وصحة الاعتقاد والاضطلاع من علوم سوى الحديث. قال الصوري: سمعت الحافظ عبد الغني يقول: أحسن الناس كلاماً على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة: ابن المديني في وقته وموسى ابن هارون -يعني ابن الحمال- في وقته والدارقطني في وقته. لم يدخل الدارقطني في علم الكلام ولا الجدال بل كان سلفياً، ذكره الذهبي. توفي رحمه الله سنة خمس وثمانين وثلاثمائة. ¬

(¬1) تاريخ بغداد (12/ 34 - 40) والسير (16/ 449 - 461) والأنساب (2/ 437 - 439) وتذكرة الحفاظ (3/ 991 - 995) والبداية والنهاية (11/ 338) وشذرات الذهب (3/ 116 - 117) ووفيات الأعيان (3/ 297 - 299).

موقفه من الرافضة:

موقفه من الرافضة: جاء في السير: قال الدارقطني: اختلف قوم من أهل بغداد فقال قوم: عثمان أفضل وقال قوم: علي أفضل فتحاكموا إلي فأمسكت وقلت: الإمساك خير. ثم لم أر لديني السكوت وقلت للذي استفتاني: ارجع إليهم وقل لهم: أبو الحسن يقول: عثمان أفضل من علي باتفاق جماعة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هذا قول أهل السنة وهو أول عقد يحل في الرفض. قال الذهبي: ليس تفضيل علي برفض ولا ببدعة، بل قد ذهب إليه خلق من الصحابة والتابعين، فكل من عثمان وعلي ذو فضل وسابقة وجهاد، وهما متقاربان في العلم والجلالة، ولعلهما في الآخرة متساويان في الدرجة، وهما من سادة الشهداء رضي الله عنهما، ولكن جمهور الأمة على ترجيح عثمان على الإمام علي وإليه نذهب. والخطب في ذلك يسير، والأفضل منهما بلا شك أبو بكر وعمر، من خالف في ذا فهو شيعي جلد، ومن أبغض الشيخين واعتقد صحة إمامتهما فهو رافضي مقيت، ومن سبهما واعتقد أنهما ليسا بإمامي هدى فهو من غلاة الرافضة، أبعدهم الله. (¬1) موقفه من الجهمية: موقفه من علم الكلام: - جاء في السير: قال الذهبي: لم يدخل الرجل أبداً في علم الكلام ولا الجدال، ولا خاض في ذلك، بل كان سلفياً، سمع هذا القول منه أبو ¬

(¬1) السير (16/ 457 - 458).

عبد الله بن أبي زيد القيرواني (386 هـ)

عبد الرحمن السلمي. (¬1) التعليق: كيف يخوض في ذلك، وكان إمام المحدثين في وقته وطبيبهم الخاص، حتى إنه ألف في أصعب علومه -العلل- ومتى عهدت مثل الدارقطني يضيع وقته في علم رفضه السلف قاطبة وأجمعوا على بغضه ومحاربته. فعلمه أغناه عن ترهات المتكلمين وفلسفات المتزندقين، فلله دره وإخوانه ممن شرفوا مسيرتنا هذه. - قال السلمي: سمعت الدارقطني يقول: ما شيء أبغض إلي من الكلام. (¬2) عبد الله بن أبي زيد القيرواني (¬3) (386 هـ) أبو محمد عبد الله بن أبي زيد واسم أبي زيد عبد الرحمن القيرواني المالكي ويقال له مالك الصغير. الإمام العلامة القدوة الفقيه عالم أهل المغرب. قال القاضي عياض: حاز رئاسة الدين والدنيا ورحل إليه من الأقطار ونجب أصحابه. وكثر الآخذون عنه. أخذ عن محمد بن مسرور الحجام والعسال وأبي سعيد بن الأعرابي. سمع منه خلق كثير منهم: الفقيه عبد الرحيم بن ¬

(¬1) السير (16/ 457). (¬2) التذكرة (3/ 994). (¬3) شجرة النور الزكية (1/ 96) والديباج المذهب (1/ 427 - 430) وشذرات الذهب (3/ 131) والسير (17/ 10 - 13) وترتيب المدارك (2/ 141 - 145).

موقفه من المبتدعة:

العجوز السبتي والفقيه عبد الله بن غالب السبتي وأبو بكر أحمد بن عبد الرحمن الخولاني. كان مع عظمته في العلم والعمل ذا بر وإيثار وإنفاق على الطلبة وإحسان. وقال فيه القابسي: هو إمام موثوق به في ديانته وروايته. وكان رحمه الله على طريقة السلف في الأصول لا يدري الكلام ولا يتأول. وكان سريع الانقياد والرجوع إلى الحق. توفي رحمه الله سنة ست وثمانين وثلاثمائة. ورثاه بعضهم فقال: عجباً أيدري الحاملون لنعشه ... كيف استطاعت حمل بحر مترع علماً وحكماً كاملاً وبراعة ... وتقى وحسن سكينة وتورع موقفه من المبتدعة: جاء في معالم الإيمان: كان بصيراً بالرد على أهل الأهواء. (¬1) من مصنفاته: كتاب 'الثقة بالله والتوكل على الله' وكتاب 'المعرفة والتفسير' وكتاب 'إعجاز القرآن' وكتاب 'النهي عن الجدال'، ورسالته في التوحيد، وكتاب 'من تحرك عند القراءة'. (¬2) موقفه من المشركين: جاء في صون المنطق: قال الشيخ نصر المقدسي من أئمة أصحابنا في كتابه الحجة على تارك المحجة، أنبأني أبو محمد عبد الله بن الوليد بن سعد الأنصاري قال: سمعت أبا محمد عبد الله بن أبي زيد الفقيه المالكي بالقيروان يقول: رحم الله بني أمية لم يكن فيهم قط خليفة ابتدع في الإسلام بدعة، ¬

(¬1) المعالم (3/ 110). (¬2) السير (17/ 11).

وكان أكثر عمالهم وأصحاب ولايتهم العرب، فلما زالت الخلافة عنهم، ودارت إلى بني العباس، قامت دولتهم بالفرس وكانت الرياسة فيهم وفي قلوب أكثر الرؤساء منهم الكفر والبغض للعرب ودولة الإسلام فأحدثوا في الإسلام الحوادث التي تؤذن بهلاك الإسلام. ولولا أن الله تبارك وتعالى وعد نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن ملته وأهلها هم الظاهرون إلى يوم القيامة لأبطلوا الإسلام، ولكنهم قد ثلموه وعوروا أركانه، والله منجز وعده إن شاء الله. فأول الحوادث التي أحدثوها: إخراج كتب اليونانية إلى أرض الإسلام فترجمت بالعربية وشاعت في أيدي المسلمين. وسبب خروجها من أرض الروم إلى بلاد الإسلام: يحيى بن خالد بن برمك وذلك أن كتب اليونانية كانت ببلد الروم وكان ملك الروم خاف على الروم إن نظروا في كتب اليونانية أن يتركوا دين النصرانية ويرجعوا إلى دين اليونانية، وتتشتت كلمتهم وتتفرق جماعتهم. فجمع الكتب في موضع وبنى عليه بناءً مطمساً بالحجر والجص حتى لا يوصل إليها. فلما أفضت رياسة دولة بني العباس إلى يحيى بن خالد -وكان زنديقاً- بلغه خبر الكتب التي في البناء ببلد الروم فصانع ملك الروم الذي كان في وقته بالهدايا، ولا يلتمس منه حاجة فلما أكثر عليه جمع الملك بطارقته وقال لهم، إن هذا الرجل خادم العرب قد أكثر علي من هداياه ولا يطلب مني حاجة وما أراه إلا يلتمس حاجة، وأخاف أن تكون حاجته تشق علي. وقد شغل بالي فلما جاءه رسول يحيى قال له: قل لصاحبك إن كانت له حاجة فليذكرها. فلما أخبر الرسول يحيى رده إليه وقال له: حاجتي الكتب التي تحت البناء يرسلها إِلَيَّ أخرج منها بعض ما أحتاج وأردها إليه. فلما قرأ

الرومي كتابه استطار فرحاً وجمع البطارقة والأساقفة والرهبان وقال لهم: قد كنت ذكرت لكم عن خادم العرب أنه لا يخلو من حاجة وقد أفصح بحاجته وهي أخف الحوائج علي، وقد رأيت رأياً فاسمعوه فإن رضيتموه أمضيته، وإن رأيتم خلافه تشاورنا في ذلك حتى تتفق كلمتنا. فقالوا: وما هو؟ قال: حاجته الكتب اليونانية يستخرج منها ما أحب ويردها. قالوا: فما رأيك؟ قال: قد علمت أنه ما بنى عليه من كان قبلنا إلا أنه خاف إن وقعت في أيدي النصارى وقرؤوها كان سبباً لهلاك دينهم وتبديد جماعتهم، وأنا أرى أن أبعث بها إليه وأسأله أن لا يردها، يبتلون بها ونسلم نحن من شرها فإني لا آمن أن يكون بعدي من يجترئ على إخراجها إلى الناس فيقعوا فيما خيف عليهم. فقالوا: نعم الرأي رأيت أيها الملك فأمضه. فبعث بالكتب إلى يحيى ابن خالد فلما وصلت إليه جمع عليها كل زنديق وفيلسوف فمما أخرج منها كتاب 'حد المنطق'. قال أبو محمد بن أبي زيد: وقل من أمعن النظر في هذا الكتاب وسلم من زندقة. قال: ثم جعل يحيى المناظرة في داره والجدال فيما لا ينبغي فيتكلم كل ذي دين في دينه ويجادل عليه آمناً على نفسه. (¬1) التعليق: انظر هذه الفعلة الشنيعة التي فعلها الزنادقة بالمسلمين، وما يزالون يتجرعون سمومها. لقد أطبق الكلام والمنطق على علوم المسلمين، فما تجد ¬

(¬1) صون المنطق (6 - 8).

موقفه من الجهمية:

علماً من علومهم إلا وسرى فيه شيء من هذا. وأصبح المسلم إذا أراد دراسة علم أصول الفقه أو تفاسير المتأخرين أو بعض متون الفقه أو النحو والبلاغة يدرس هذا العلم الخبيث رغماً على أنفه. موقفه من الجهمية: آثار الشيخ السلفية: مقدمة الرسالة -وقد أبدى الشيخ في هذه المقدمة عقيدة سلفية أغاظت المبتدعة وضاقوا بها ذرعاً. ولحسن قصد الشيخ في نشر عقيدة السلف، كتب الله لرسالته قبولاً لا نظير له. وقد قامت الجامعة الإسلامية جزاها الله خيراً بطباعتها وتوزيعها بين المسلمين- وقد انتشرت انتشاراً كبيراً والحمد لله رب العالمين. من شراحها السلفيين: أبو بكر بن محمد بن وهب المالكي: نقل عنه الإمام ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية كلاماً من أحسن ما يكون في العقيدة السلفية. سيأتي معنا إن شاء الله. قال الذهبي في السير في ترجمة ابن أبي زيد: وكان رحمه الله على طريقة السلف في الأصول، لا يدري الكلام، ولا يتأول، فنسأل الله التوفيق. (¬1) وفيها قال عبد الله بن الوليد: سمعت أبا محمد بن أبي زيد يسأل ابن سعدي لما جاء من الشرق: أحضرت مجالس الكلام؟ قال: مرتين ولم أعد، فأول مجلس جمعوا الفرق من السنة والمبتدعة واليهود والنصارى والمجوس والدهرية، ولكل فرقة رئيس يتكلم وينصر مذهبه، فإذا جاء رئيس قام الكل ¬

(¬1) السير (17/ 12).

موقفه من المرجئة:

له، فيقول واحد: تناظروا ولا يحتج أحد بكتابه، ولا بنبيه، فإنا لا نصدق بذلك ولا نقر به. بل هاتوا العقل والقياس، فلما سمعت هذا لم أعد، ثم قيل لي: هاهنا مجلس آخر للكلام، فذهبت فوجدتهم على مثل سيرة أصحابهم سواء، فجعل ابن أبي زيد يتعجب وقال: ذهبت العلماء، وذهبت حرمة الدين. قال الذهبي عقبه: فنحمد الله على العافية، فلقد جرى على الإسلام في المائة الرابعة بلاء بالدولة العبيدية بالمغرب، وبالدولة البويهية بالمشرق، وبالأعراب القرامطة، فالأمر لله تعالى. (¬1) موقفه من المرجئة: قال في الرسالة: وأن الإيمان قول باللسان، وإخلاص بالقلب، وعمل بالجوارح، ويزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقصها، فيكون بها النقص وبها الزيادة، ولا يكمل قول الإيمان إلا بالعمل ولا قول ولا عمل إلا بنية، ولا قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة. (¬2) موقفه من القدرية: آثاره السلفية: 'رسالة في الرد على القدرية'. (¬3) ¬

(¬1) السير (16/ 251 - 252). (¬2) (ص.62). (¬3) السير (17/ 11).

موقف السلف من أبي طالب المكي (386 هـ)

موقف السلف من أبي طالب المكي (386 هـ) بيان تصوفه: جاء في تلبيس إبليس: وصنف لهم أبو طالب المكي 'قوت القلوب' فذكر فيه الأحاديث الباطلة، وما لا يستند فيه إلى أصل من صلوات الأيام والليالي، وغير ذلك من الموضوع وذكر فيه الاعتقاد الفاسد. وردد فيه قول: -قال بعض المكاشفين- وهذا كلام فارغ وذكر فيه عن بعض الصوفية: إن الله عز وجل يتجلى في الدنيا لأوليائه. وذكر سند الخطيب إلى محمد بن العلاف. قال: دخل أبو طالب المكي إلى البصرة بعد وفاة أبي الحسين بن سالم، فانتمى إلى مقالته وقدم بغداد فاجتمع الناس عليه في مجلس الوعظ، فخلط في كلامه فحفظ عنه أنه قال: ليس على المخلوق أضر من الخالق. فبدعه الناس وهجروه فامتنع من الكلام على الناس بعد ذلك. (¬1) ابن بَطَّة العُكْبُرِي (¬2) (387 هـ) أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن محمد العكبري الحنبلي ابن بطة. الإمام القدوة، العابد الفقيه المحدث شيخ العراق. ولد سنة أربع وثلاثمائة. روى عن أبي القاسم البغوي وابن صاعد والقاضي المحاملي وجماعة. حدث عنه أبو ¬

(¬1) التلبيس (ص.204). (¬2) تاريخ بغداد (10/ 371 - 375) وميزان الاعتدال (3/ 15) والبداية والنهاية (11/ 343 - 344) واللسان (4/ 112 - 115) وشذرات الذهب (3/ 122 - 124) والسير (16/ 529 - 533)

موقفه من المبتدعة:

الفتح بن أبي الفوارس وأبو نعيم الأصبهاني وأبو إسحاق البرمكي وآخرون. عن أبي حامد الدلوي قال: لما رجع ابن بطة من الرحلة لازم بيته أربعين سنة لم ير في سوق ولا رئي مفطراً إلا في عيد. وكان أمّاراً بالمعروف، لم يبلغه خبر منكر إلا غيره. قال عبد الواحد بن علي العكبري: لم أر في شيوخ الحديث، ولا في غيرهم أحسن هيئة من ابن بطة. وقد أثنى عليه غير واحد من الأئمة. توفي رحمه الله سنة سبع وثمانين وثلاثمائة. موقفه من المبتدعة: له من الآثار السلفية: 1 - 'الإبانة الكبرى': وهو من أعظم المصادر السلفية التي نقلت العقيدة السلفية بإسهاب وطول نفس، وقد كان من أهم المراجع عندنا في هذه المسيرة المباركة، وهذا الإمام لم يكن بالناقل لأقوال السلف فقط، ولكنه يعلق على ذلك بأسلوب متين رصين، يشعر القارئ أنه يعيش مع سلفي غيور على عقيدته. والبكاء ينساب على خده لما يرى من طغيان البدع في زمانه. فماذا عن زمان الناس اليوم حيث أصبحت البدعة هي السنة والسنة هي البدعة. فإلى الله المشتكى من انقلاب الموازين والأحوال، والله المستعان. 2 - 'الإبانة الصغرى': وقد حققت وطبعت في رسالة علمية في جامعة أم القرى. - فمن أقواله رحمه الله: فلو أن رجلاً ممن وهب الله له عقلاً صحيحاً وبصراً نافذاً، فأمعن نظره وردد فكره وتأمل أمر الإسلام وأهله، وسلك بأهله الطريق الأقصد، والسبيل الأرشد، لتبين له أن الأكثر والأعم الأشهر من الناس قد نكصوا على أعقابهم، وارتدوا على أدبارهم، فحادوا عن

المحجة، وانقلبوا عن صحيح الحجة، ولقد أضحى كثير من الناس يستحسنون ما كانوا يستقبحون، ويستحلون ما كانوا يحرمون، ويعرفون ما كانوا ينكرون، وما هذه رحمكم الله أخلاق المسلمين، ولا أفعال من كانوا على بصيرة في هذا الدين، ولا من أهل الإيمان به واليقين. (¬1) - وقال: فانظروا رحمكم الله من تصحبون، وإلى من تجلسون، واعرفوا كل إنسان بخدنه، وكل أحد بصاحبه، أعاذنا الله وإياكم من صحبة المفتونين، ولا جعلنا وإياكم من إخوان العابثين، ولا من أقران الشياطين، وأستوهب الله لي ولكم عصمة من الضلال وعافية من قبيح الفعال. (¬2) - وقال: فاعتبروا يا أولي الأبصار! فشتان بين هؤلاء العقلاء السادة الأبرار الأخيار الذين ملئت قلوبهم بالغيرة على إيمانهم والشح على أديانهم، وبين زمان أصبحنا فيه وناس نحن منهم وبين ظهرانيهم، هذا عبد الله بن مغفل صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسيد من ساداتهم يقطع رحمه ويهجر حميمه حين عارضه في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحلف أيضاً على قطيعته وهجرانه وهو يعلم ما في صلة الأقربين وقطيعة الأهلين. وعبادة بن الصامت وأبو الدرداء سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكيم هذه الأمة، وأبو سعيد الخدري يظعنون عن أوطانهم وينتقلون عن بلدانهم، ويظهرون الهجرة لإخوانهم لأجل من عارض حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتوقف عن استماع سنته، فياليت شعري كيف حالنا عند الله عز وجل، ونحن نلقى أهل الزيغ في صباحنا والمساء، يستهزئون ¬

(¬1) الإبانة (1/ 1/188). (¬2) الإبانة (1/ 1/206).

بآيات الله، ويعاندون سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حائدين عنها، وملحدين فيها، سلمنا الله وإياكم من الزيغ والزلل. (¬1) - وقال: جعلنا الله وإياكم بكتاب الله عاملين، وبسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - متمسكين، وللأئمة الخلفاء الراشدين المهديين متبعين، ولآثار سلفنا وعلمائنا مقتفين، وبهدي شيوخنا الصالحين رحمة الله عليهم أجمعين مهتدين، فإن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه قد جعل في كل زمان فترة من الرسل، ودروساً للأثر، ثم هو تعالى بلطفه بعباده ورفقه بأهل عنايته ومن سبقت له الرحمة في كتابه لا يخلي كل زمان من بقايا من أهل العلم، وحملة الحجة، يدعون من ضل إلى الهدى، ويذودونهم عن الردى، يصبرون منهم على الأذى، ويحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بعون الله أهل العمى وبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الجهالة والغبا. (¬2) - وقال: فلله در أقوام دقت فطنهم، وصفت أذهانهم، وتعالت بهم الهمم في اتباع نبيهم، وتناهت بهم المحبة حتى اتبعوه هذا الاتباع، فبمثل هدي هؤلاء العقلاء -إخواني- فاهتدوا، ولآثارهم فاقتفوا، ترشدوا وتنصروا وتجبروا. (¬3) - وقال: باب ذكر ما نطق به الكتاب في محكم التنزيل بلزوم الجماعة والنهي عن الفرقة: أما بعد: فاعلموا يا إخواني وفقنا الله وإياكم للسداد والائتلاف، ¬

(¬1) الإبانة (1/ 1/259 - 260). (¬2) الإبانة (1/ 1/197). (¬3) الإبانة (1/ 1/245).

وعصمنا وإياكم من الشتات والاختلاف، أن الله عز وجل قد أعلمنا اختلاف الأمم الماضين قبلنا، وأنهم تفرقوا واختلفوا فتفرقت بهم الطرق، حتى صار بهم الاختلاف إلى الافتراء على الله عز وجل والكذب عليه، والتحريف لكتابه والتعطيل لأحكامه، والتعدي لحدوده، وأعلمنا تعالى أن السبب الذي أخرجهم إلى الفرقة بعد الألفة، والاختلاف بعد الائتلاف، هو شدة الحسد من بعضهم لبعض، وبغي بعضهم على بعض، فأخرجهم ذلك إلى الجحود بالحق بعد معرفته، وردهم البيان الواضح بعد صحته، وكل ذلك وجميعه قد قصه الله عز وجل علينا وأوعز فيه إلينا، وحذرنا من مواقعته وخوفنا من ملابسته. ولقد رأينا ذلك في كثير من أهل عصرنا وطوائف ممن يدعي أنه من أهل ملتنا، وسأتلو عليكم من نبأ ما قد أعلمناه مولانا الكريم، وما قد علمه إخواننا من أهل القرآن وأهل العلم وكتبة الحديث والسنن وما يكون فيه إن شاء الله بصيرة لمن علمه ونسيه، ولمن غفله أو جهله، ويمتحن الله به من خالفه وجحده، بألا يجحده إلا الملحدون، ولا ينكره إلا الزائغون. قال الله عز وجل: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ

الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)} (¬1). وقال تعالى: {* تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)} (¬2). وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِن اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)} (¬3). وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)} (¬4). وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ ¬

(¬1) البقرة الآية (213). (¬2) البقرة الآية (87). (¬3) آل عمران الآية (19). (¬4) الأنعام الآية (159).

الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)} (¬1). وقال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)} (¬2). وقال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} (¬3). وقال: إخواني فهذا نبأ قوم فضلهم الله وعلمهم وبصرهم ورفعهم، ومنع ذلك آخرين إصرارهم على البغي عليهم، والحسد لهم، إلى مخالفتهم وعداوتهم ومحاربتهم، فاستنكفوا أن يكونوا لأهل الحق تابعين، وبأهل العلم مقتدين، فصاروا أئمة مضلين، ورؤساء في الإلحاد متبوعين، رجوعاً عن الحق وطلب الرياسة وحباً للاتباع والاعتقاد والناس في زماننا هذا أسراب كالطير، يتبع بعضهم بعضاً، لو ظهر لهم من يدعي النبوة مع علمهم بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء، أو من يدعي الربوبية، لوجد على ذلك أتباعاً وأشياعاً. فقد ذكرت ما حضرني من الآيات التي عاب الله فيها المختلفين، وذم بها الباغين، وأنا الآن أذكر لك الآيات من القرآن التي حذرنا فيها ربنا تعالى من الفرقة ¬

(¬1) يونس الآية (93). (¬2) الشورى الآية (14). (¬3) البينة الآيتان (4و5).

والاختلاف، وأمرنا بلزوم الجماعة والائتلاف، نصيحة لإخواننا وشفقة على أهل مذهبنا، قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} (¬1) .. إلى آخر الآية. ثم حذرنا من مواقعة ما أتاه من قبلنا من أهل الكتاب فيصيبنا ما أصابهم، فقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)} (¬2). فأخبرنا أنهم عن الحق رجعوا ومن بعد البيان اختلفوا، وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} (¬3). وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} (¬4). وقال تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ¬

(¬1) آل عمران الآية (103). (¬2) آل عمران الآية (105). (¬3) الأنعام الآية (153). (¬4) الشورى الآية (13).

وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)} (¬1). فهل بقي رحمكم الله أوضح من هذا البرهان، أو أشفى من هذا البيان؟ وقد أعلمنا الله تعالى أنه قد خلق خلقاً للاختلاف والفرقة، وحذرنا أن نكون كهم لهم واستثنى أهل رحمته لنواظب على المسألة أن يجعلنا منهم فقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)} (¬2). ثم حذر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يتبع أهل الأهواء المختلفين وآراء المتقدمين فقال عز وجل: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (¬3). وقال: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (¬4). وقال: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ¬

(¬1) الروم الآية (32). (¬2) هود الآيتان (118و119). (¬3) المائدة الآية (49). (¬4) المائدة الآية (48).

الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)} (¬1). وقال عز وجل فيما ذم به المخالفين: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)} (¬2).اهـ (¬3) - وقال: فإن قال قائل: قد ذكرت نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الفرقة وتحذيره أمته ذلك وحضه إياهم على الجماعة والتمسك بالسنة، وقلت إن ذلك هو أصل المسلمين ودعامة الدين، وأن الفرقة الناجية هي واحدة، والفرق المذمومة نيف وسبعون فرقة، ونحن نرى أن هذه الفرقة الناجية أيضاً فيها اختلاف كثير وتباين في المذاهب، ونرى فقهاء المسلمين مختلفين، فلكل واحد منهم قول يقوله ومذهب يذهب إليه وينصره ويعيب من خالفه عليه. فمالك ابن أنس رحمه الله إمام وله أصحاب يقولون بقوله ويعيبون من خالفهم، ¬

(¬1) الجاثية الآيات (16 - 19). (¬2) المؤمنون الآية (53). (¬3) الإبانة (1/ 1/270 - 275).

وكذلك الشافعي رحمه الله، وكذلك سفيان الثوري رحمه الله، وطائفة من فقهاء العراق، وكذلك أحمد ابن حنبل رحمه الله، كل واحد من هؤلاء له مذهب يخالف فيه غيره. ونرى قوماً من المعتزلة والرافضة وأهل الأهواء يعيبونا بهذا الاختلاف، ويقولون لنا: الحق واحد فكيف يكون في وجهين مختلفين؟ فإني أقول له في جواب هذا السؤال: أما ما تحكيه عن أهل البدع مما يعيبون به أهل التوحيد والإثبات من الاختلاف، فإني قد تدبرت كلامهم في هذا المعنى، فإذا هم ليس الاختلاف يعيبون، ولا له يقصدون، وإنما هم قوم علموا أن أهل الملة وأهل الذمة والملوك والسوقة والخاصة والعامة وأهل الدنيا كافة، إلى الفقهاء يرجعون ولأمرهم يطيعون، وبحكمهم يقضون، في كل ما أشكل عليهم، وفي كل ما يتنازعون فيه فعلى فقهاء المسلمين يعولون، في رجوع الناس إلى فقهائهم، وطاعتهم لعلمائهم ثبات للدين، وإضاءة للسبيل وظهور لسنة الرسول، وكل ذلك ففيه غيظ لأهل الأهواء، واضمحلال للبدع، فهم يوهون أمر الفقهاء، ويضعفون أصولهم، ويطعنون عليهم بالاختلاف، لتخرج الرعية عن طاعتهم، والانقياد لأحكامهم، فيفسد الدين وتترك الصلوات والجماعات، وتبطل الزكوات والصدقات، والحج والجهاد، ويستحل الربا والزنا والخمور والفجور، وما قد ظهر مما لا خفاء به على العقلاء. فأما أهل البدع -يا أخي رحمك الله- فإنهم يقولون على الله ما لا يعلمون، ويعيبون ما يأتون، ويجحدون ما يعلمون، ويبصرون القذى في عيون غيرهم وعيونهم تطرف على الأجذال، ويتهمون أهل العدالة والأمانة في النقل، ولا يتهمون

آراءهم وأهواءهم على الظن، وهم أكثر الناس اختلافاً، وأشدهم تنافياً وتبايناً، لا يتفق اثنان من رؤسائهم على قول، ولا يجتمع رجلان من أئمتهم على مذهب. فأبو الهذيل يخالف النظام، وحسين النجار يخالفهما، وهشام الفوطي يخالفهم، وثمامة بن أشرس يخالف الكل، وهاشم الأوقص وصالح قبة يخالفانهم، وكل واحد منهم قد انتحل لنفسه ديناً ينصره ورباً يعبده وله على ذلك أصحاب يتبعونه، وكل واحد منهم يكفر من خالفه ويلعن من لا يتبعه، وهم في اختلافهم وتباينهم كاختلاف اليهود والنصارى، كما قال الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} (¬1). فاختلافهم كاختلاف اليهود والنصارى، لأن اختلافهم في التوحيد، وفي صفات الله، وفي الكيفية، وفي قدرة الله، وفي عظمته، وفي نعيم الجنة، وفي عذاب النار، وفي البرزخ، وفي اللوح المحفوظ، وفي الرق المنشور، وفي علم الله، وفي القرآن، وفي غير ذلك من الأمور التي لا يعلمها نبي مرسل، إلا بوحي من الله، وليس يعدم من رد العلم في هذه الأشياء إلى رأيه وهواه وقياسه ونظره واختياره؛ من الاختلاف العظيم والتباين الشديد. وأما الرافضة فأشد الناس اختلافاً وتبايناً وتطاعناً فكل واحد منهم يختار مذهبا لنفسه يلعن من خالفه عليه ويكفر من لم يتبعه، وكلهم يقول: إنه لا صلاة ولا صيام ولا جهاد ولا جمعة ولا عيدين ولا نكاح ولا طلاق ¬

(¬1) البقرة الآية (113).

ولا بيع ولا شراء؛ إلا بإمام، وإنه من لا إمام له فلا دين له، ومن لم يعرف إمامه فلا دين له، ثم يختلفون في الأئمة، فالإمامية لها إمام تسوده وتلعن من قال: إن الإمام غيره وتكفره، وكذلك الزيدية لها إمام غير إمام الإمامية. وكذلك الإسماعيلة، وكذلك الكيسانية، والبترية، وكل طائفة تنتحل مذهباً وإماماً وتلعن من خالفها عليه وتكفره. ولولا ما نؤثره من صيانة العلم الذي أعلى الله أمره، وشرف قدره، ونزهه أن يخلط به نجاسات أهل الزيغ، وقبيح أقوالهم ومذاهبهم التي تقشعر الجلود من ذكرها، وتجزع النفوس من استماعها، وينزه العقلاء ألفاظهم وأسماعهم عن لفظها؛ لذكرت من ذلك ما فيه عبرة للمعتبرين، ولكنه قد روي عن طلحة بن مصرف رحمه الله، قال: لولا أني على طهارة لأخبرتكم بما تقوله الروافض. وقال ابن المبارك رحمه الله: إنا لنستطيع أن نحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. ولولا أنك قلت إن أهل الزيغ يطعنون على أئمتنا وعلمائنا باختلافهم، فأحببت أن أعلمك أن الذي أنكروه هم ابتدعوه، وأن الذي عابوه هم استحسنوه، ولولا اختلافهم في أصولهم وعقودهم وإيمانهم ودياناتهم؛ لما دنسنا ألفاظنا بذكر حالهم. فأما الاختلاف فهو ينقسم على وجهين: أحدهما اختلاف، الإقرار به إيمان ورحمة وصواب، وهو الاختلاف المحمود الذي نطق به الكتاب ومضت به السنة، ورضيت به الأمة، وذلك في الفروع والأحكام التي أصولها ترجع إلى الإجماع والائتلاف. واختلاف هو كفر وفرقة وسخطة وعذاب يؤول بأهله إلى الشتات، والتضاغن والتباين والعداوة، واستحلال الدم والمال، وهو

اختلاف أهل الزيغ في الأصول والاعتقاد والديانة. فأما اختلاف أهل الزيغ، فقد بينت لك كيف هو، وفيما اختلفوا فيه. وأما اختلاف أهل الشريعة الذي يؤول بأهله إلى الإجماع والألفة، والتواصل والتراحم؛ فإن أهل الإثبات من أهل السنة يجمعون على الإقرار بالتوحيد وبالرسالة؛ بأن الإيمان قول وعمل ونية وبأن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومجمعون على أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لا يكون، وعلى أن الله خالق الخير والشر ومقدرهما، وعلى أن الله يرى في القيامة، وعلى أن الجنة والنار مخلوقتان باقيتان ببقاء الله، وأن الله على عرشه، بائن من خلقه، وعلمه محيط بالأشياء، وأن الله قديم لا بداية له ولا نهاية ولا غاية، بصفاته التامة، لم يزل عالماً ناطقاً سميعاً بصيراً، حياً حليماً، قد علم ما يكون قبل أن يكون، وأنه قدر المقادير قبل خلق الأشياء. ومجمعون على إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي عليهم السلام، وعلى تقديم الشيخين، وعلى أن العشرة في الجنة جزماً وحتماً لا شك فيه، ومجمعون على الترحم على جميع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والاستغفار لهم ولأزواجه وأولاده وأهل بيته، والكف عن ذكرهم إلا بخير، والإمساك وترك النظر فيما شجر بينهم، فهذا وأشباهه مما يطول شرحه لم يزل الناس مذ بعث الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - إلى وقتنا هذا مجمعين عليه في شرق الأرض وغربها، وبرها وبحرها وسهلها وجبلها، يرويه العلماء رواة الآثار وأصحاب الأخبار، ويعرفه الأدباء والعقلاء، ويجمع على الإقرار به الرجال والنسوان، والشيب والشبان، والأحداث والصبيان، في الحاضرة والبادية، والعرب والعجم، لا يخالف ذلك ولا ينكره ولا يشذ عن الإجماع مع الناس فيه إلا رجل خبيث زائغ، مبتدع

محقور مهجور مدحور، يهجره العلماء ويقطعه العقلاء، إن مرض لم يعودوه، وإن مات لم يشهدوه. ثم أهل الجماعة مجمعون بعد ذلك على أن الصلاة خمس، وعلى أن الطهارة والغسل من الجنابة فرض، وعلى الصيام والزكاة والحج والجهاد، وعلى تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير والربا والزنا وقتل النفس المؤمنة بغير حق، وتحريم شهادة الزور، وأكل مال اليتيم، وما يطول الكتاب بشرحه، ثم اختلفوا بعد إجماعهم على أصل الدين واتفاقهم على شريعة المسلمين، اختلافاً لم يصر بهم إلى فرقة ولا شتات، ولا معاداة ولا تقاطع وتباغض، فاختلفوا في فروع الأحكام والنوافل التابعة للفرائض، فكان لهم وللمسلمين فيه مندوحة، ونفس وفسحة ورحمة، ولم يعب بعضهم على بعض ذلك، ولا أكفره ولا سبه ولا لعنه، ولقد اختلف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأحكام اختلافاً ظاهراً، علمه بعضهم من بعض، وهم القدوة والأئمة والحجة. فكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: إن الجد يرث ما يرثه الأب ويحجب من يحجبه الأب، فخالفه على ذلك زيد بن ثابت وخالفهما علي بن أبي طالب، وخالفهم ابن مسعود، وخالف ابن عباس جميع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسائل من الفرائض، وكذلك اختلفوا في أبواب من العدة والطلاق، وفي الرهون والديون والوديعة والعارية، وفي المسائل التي المصيب فيها محمود مأجور، والمجتهد فيها برأيه المعتمد للحق إذا أخطأ فمأجور أيضاً، غير مذموم، لأن خطأه لا يخرجه من الملة، ولا يوجب له النار، وبذلك جاءت السنة عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) ¬

(¬1) الإبانة (2/ 4/553 - 559).

- وقال: فاختلاف الفقهاء -يا أخي، رحمك الله- في فروع الأحكام وفضائل السنن رحمة من الله بعباده، والموفق منهم مأجور، والمجتهد في طلب الحق إن أخطأه غير مأزور، وهو يحسن نيته، وكونه في جملة الجماعة في أصل الاعتقاد والشريعة مأجور، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بعثت بالحنيفية السمحة» (¬1). وإن تأول متأول من الفقهاء مذهباً في مسألة من الأحكام خالف فيها الإجماع، وقعد عنه فيها الاتباع، كان منتهى القول بالعتب عليه أخطأت، لا يقال له كفرت ولا جحدت ولا ألحدت، لأن أصله موافق للشريعة وغير خارج عن الجماعة في الديانة. (¬2) - وقال: فالإصابة في الجماعة توفيق ورضوان، والخطأ في الاجتهاد عفو وغفران، وأهل الأهواء اختلفوا في الله، وفي الكيفية، وفي الأبنية، وفي الصفات، وفي الأسماء، وفي القرآن، وفي قدرة الله، وفي عظمة الله، وفي علم ¬

(¬1) أخرجه أحمد (5/ 266) والطبراني في الكبير (8/ 216/7868) من حديث أبي أمامة. قال الهيثمي في المجمع (5/ 279): "فيه علي بن يزيد الألهاني وهو ضعيف". وضعفه العراقي في تخريج الإحياء (5/ 2206/3485) وله شاهد من حديث جابر، أخرجه الخطيب في تاريخه (7/ 209) وأشار له السيوطي في الجامع بالضعف. وآخر مرسل عن حبيب بن أبي ثابت أخرجه ابن سعد (1/ 192). قال المناوي في فيض القدير (3/ 203): "لكن له طرق ثلاث ليس يبعد أن لا ينزل بسببها عن درجة (الحسن) ". وله شاهد آخر من حديث عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ (أي يوم لعب الحبشة): «لتعلم يهود في ديننا فسحة، إني أرسلت بحنيفية سمحة». أخرجه أحمد (6/ 116و233) وحسن إسناده السخاوي في المقاصد الحسنة (رقم 214) وجود إسناده الشيخ الألباني في الصحيحة (4/ 443). وعلق البخاري في صحيحه (1/ 126): «أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة». ووصله في الأدب المفرد (رقم 287) وأحمد (1/ 236) والبزار (كشف 1/ 58 - 59/ 78) والطبراني في الكبير (11/ 227/11571). (¬2) الإبانة (2/ 4/566).

الله، تعالى الله عما يقول الملحدون علوّاً كبيراً. (¬1) - وقال: فقد ذكرت من الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما أخبر به من تفرق هذه الأمة، ومضاهاتها في تفرقها اليهود والنصارى والأمم السالفة، ما في بعضه كفاية لأهل الحق والرعاية، فإن قال قائل: قد صح عندنا من كتاب ربنا ومن قول نبينا - صلى الله عليه وسلم -؛ أن الأمم الماضية من أهل الكتاب تفرقوا واختلفوا وكفر بعضهم بعضاً ومثل ذلك فقد حل بهذه الأمة، حتى قد كثرت فيهم الأهواء، وأصحاب الآراء والمذاهب، وكل ذلك فقد رأيناه وشاهدناه، فنريد أن نعرف هذه الفرق المذمومة لنجتنبها، ونسأل مولانا الكريم أن يعصمنا منها ويعيذنا مما حل بأهلها، الذين استهوتهم الشياطين، فأصبحوا حيارى، عن طريق الحق صادفين. قلت: فاعلم رحمك الله أن لهذه الفرق والمذاهب كلها أصولاً أربعة فكلها عن الحق حائدة، وللإسلام وأهله معاندة، وعن أربعة أصول يتفرقون، ومنها يتشعبون، وإليها يرجعون، ثم تتشعب بهم الطرق وتأخذهم الأهواء، وقبيح الآراء حتى يصيروا في التفرق إلى ما لا يحصى، فأما الأربعة الأصول، التي بها يعرفون، وإليها يرجعون، فهو ما حدثنا أبو بكر أحمد بن سليمان النجاد وأبو عمر عبيد الله بن محمد بن عبيد بن مسبح العطار وأبو بكر محمد ابن الحسين وأبو يوسف يعقوب بن يوسف، قالوا: حدثنا أبو بكر عبد الله بن سليمان بن الأشعث السجستاني، قال: حدثنا المسيب بن واضح، قال: سمعت يوسف بن أسباط يقول: أصل البدع أربعة: الروافض، والخوارج، ¬

(¬1) الإبانة (2/ 4/567).

والقدرية، والمرجئة. ثم تتشعب كل فرقة ثماني عشرة طائفة، فتلك اثنتان وسبعون فرقة، والثالثة والسبعون الجماعة التي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنها الناجية. وحدثنا أبو القاسم حفص بن عمر قال: حدثنا أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي قال: حدثنا المسيب بن واضح السلمي الحمصي، قال: أتيت يوسف بن أسباط فسلمت عليه وانتسبت إليه، وقلت له: يا أبا محمد إنك بقية أسلاف العلم الماضين وإنك إمام سنة وأنت على من لقيك حجة، ولم آتك لسمع الأحاديث ولكن لأسألك عن تفسيرها، وقد جاء هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين فرقة، وأن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة، فأخبرني مَن هذه الفرق حتى أتوقاها، فقال لي أصلها أربعة: القدرية والمرجئة والشيعة وهم الروافض والخوارج، فثماني عشرة فرقة في القدرية، وثماني عشرة في المرجئة، وثماني عشرة في الخوارج، وثماني عشرة في الشيعة، ثم قال: ألا أحدثك بحديث لعل الله أن ينفعك به، قلت: بلى يرحمك الله، قال: أسلم رجل على عهد عمرو بن مرة فدخل مسجد الكوفة، فجعلت أجلس إلى قوم أصحاب أهواء فكل يدعو إلى هواه، وقد اختلفوا علي فما أدري بأيها أتمسك فقال له عمرو بن مرة: اختلفوا عليك في الله عز وجل أنه ربهم؟ قال: لا، قال: اختلفوا عليك في محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه نبيهم؟ قال: لا، قال: فاختلفوا عليك في الكعبة أنها قبلتهم؟ قال: لا، قال: فاختلفوا عليك في شهر رمضان أنه صومهم؟ قال: لا، قال: فاختلفوا عليك في الصلوات الخمس والزكاة والغسل من الجنابة؟ قال: لا، قال: فانظر

هذا الذي اجتمعوا عليه فهو دينك ودينهم فتمسك به وانظر تلك الفرق التي اختلفوا عليك فيها فاتركهم فليست من دينهم في شيء. قال أبو حاتم الرازي: حدثت عن عامر، عن إبراهيم الأصبهاني، قال: حدثنا يعقوب الأشعري، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: تفرقت اليهود على إحدى وسبعين والنصارى على اثنتين وسبعين وأنتم على ثلاث وسبعين وإن من أضلها وشرها وأخبثها الشيعة الذين يشتمون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما. وحدثنا أبو القاسم حفص بن عمر، قال: حدثنا أبو حاتم الرازي قال: حدثنا يحيى بن زكريا بن عيسى، قال: قال حفص بن حميد، قلت لعبد الله بن المبارك: على كم افترقت هذه الأمة؟ فقال: الأصل أربع فرق: هم الشيعة، والحرورية، والقدرية، والمرجئة، فافترقت الشيعة على ثنتين وعشرين فرقة وافترقت الحرورية على إحدى وعشرين فرقة وافترقت القدرية على ست عشرة فرقة، وافترقت المرجئة على ثلاث عشرة فرقة. قال: قلت يا أبا عبد الرحمن لم أسمعك تذكر الجهمية، قال: إنما سألتني عن فرق المسلمين. (¬1) - وقال: فقد ذكرت في هذا الباب ما قاله المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وأمر به أصحابه والتابعين بعدهم بإحسان من لزوم السنة واتباع الآثار ما فيه بلاغ وكفاية لمن شرح الله صدره ووفقه لقبوله، فإن الله عز وجل ضمن لمن أطاع الله ورسوله خير الدنيا والآخرة، فإنه قال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ ¬

(¬1) الإبانة (1/ 2/376 - 380).

فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} (¬1) وتوعد من خالف ذلك وعدل عنه بما نستجير بالله منه ونعوذ به ممن كان موصوفاً به، فإنه قال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} (¬2). فرحم الله عبداً لزم الحذر واقتفى الأثر ولزم الجادة الواضحة وعدل عن البدعة الفاضحة. (¬3) - وقال: أعاذنا الله وإياكم من الآراء المخترعة والأهواء المتبعة والمذاهب المبتدعة، فإن أهلها خرجوا عن اجتماع إلى شتات، وعن نظام إلى تفرق، وعن أنس إلى وحشة، وعن ائتلاف إلى اختلاف، وعن محبة إلى بغضة، وعن نصيحة وموالاة إلى غش ومعاداة، وعصمنا وإياكم من الانتماء إلى كل اسم خالف الإسلام والسنة. (¬4) - وقال: اعلموا إخواني أني فكرت في السبب الذي أخرج أقواما من السنة والجماعة واضطرهم إلى البدعة والشناعة وفتح باب البلية على أفئدتهم، وحجب نور الحق عن بصيرتهم، فوجدت ذلك من وجهين: أحدهما: البحث والتنقير وكثرة السؤال عما لا يعني ولا يضر العاقل جهله ولا ينفع المؤمن ¬

(¬1) النساء الآية (69). (¬2) النساء الآية (115). (¬3) الإبانة (1/ 2/364 - 365). (¬4) الإبانة (1/ 2/388 - 389).

فهمه. والآخر: مجالسة من لا تؤمن فتنته وتفسد القلوب صحبته. (¬1) - وقال: فالعجب يا إخواني رحمكم الله لقوم حيارى تاهت عقولهم عن طرقات الهدى، فذهبت تند محاضره في أودية الردى، تركوا ما قدمه الله عز وجل في وحيه وافترضه على خلقه، وتعبدهم بطلبه وأمرهم بالنظر والعمل به، وأقبلوا على ما لم يجدوه في كتاب ناطق ولا تقدمهم فيه سلف سابق، فشغلوا به وفرغوا له آراءهم وجعلوه ديناً يدعون إليه ويعادون من خالفهم عليه، أما عَلِمَ الزائغون مفاتيح أبواب الكفر ومعالم أسباب الشرك، التكلف لما لم تحط الخلائق به علماً به، ولم يأت القرآن بتأويله ولا أباحت السنة النظر فيه، فتزيد الناقص الحقير والأحمق الصغير بقوته الضعيفة، وعقله القصير، أن يهجم على سر الله المحجوب، ويتناول علمه بالغيوب، يريدها لنفسه وطوى عليها علمها دون خلقه، فلم يحيطوا من علمها إلا بما شاء، ولا يعلمون منها إلا ما يريد، فكل ما لم ينزل الوحي بذكره، ولم تأت السنة بشرحه من مكنون علم الله ومخزون غيبه، وخفي أقداره فليس للعباد أن يتكلفوا من علمه ما لا يعلمون، ولا يتحملوا من نقله ما لا يطيقون، فإنه لن يعدوا رجل كلف ذلك نظره وقلب فيه فكره أن يكون كالناظرين في عين الشمس ليعرف قدرها، أو كالمرتمي في ظلمات البحور ليدرك قعرها، فليس يزداد على المضي في ذلك إلا بعداً، ولا على دوام النظر في ذلك إلا تحيراً، فليقبل المؤمن العاقل ما يعود عليه نفعه، ويترك إشغال نظره وإعمال فكره في محاولة الإحاطة بما لم يكلفه، ومرام الظفر بما لم يطوقه، فيسلك سبيل العافية، ¬

(¬1) الإبانة (1/ 2/390).

ويأخذ بالمندوحة الواسعة، ويلزم الحجة الواضحة، والجادة السابلة، والطريق الآنسة، فمن خالف ذلك وتجاوزه إلى الغمط بما أمر به والمخالفة إلى ما ينهى عنه، يقع والله في بحور المنازعة وأمواج المجادلة، ويفتح على نفسه أبواب الكفر بربه والمخالفة لأمره والتعدي لحدوده، والعجب لمن خلق من نطفة من ماء مهين فإذا هو خصيم مبين، كيف لا يفكر في عجزه عن معرفة خلقه، أما يعلمون أن الله عز وجل قد أخذ عليكم ميثاق الكتاب أن لا تقولوا على الله إلا الحق، فسبحان الله أنى تؤفكون. حدثني ابن الصواف، قال: سمعت أبي يقول: سمعت بعض العلماء يقول: لو كلف الله هؤلاء ما كلفوه أنفسهم من البحث والتنقير لكان من أعظم ما افترضه عليهم. قال ابن بطة: فالزموا رحمكم الله الطريق الأقصد، والسبيل الأرشد، والمنهاج الأعظم من معالم دينكم وشرائع توحيدكم التي اجتمع عليها المختلفون، واعتدل عليها المعترفون: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} (¬1). وترك الدخول في الضيق الذي لم نخلق له. اهـ. (¬2) - وقال: الله الله إخواني يا أهل القرآن، ويا حملة الحديث، لا تنظروا فيما لا سبيل لعقولكم إليه، ولا تسألوا عما لم يتقدمكم السلف الصالح من علمائكم إليه، ولا تكلفوا أنفسكم ما لا قوة بأبدانكم الضعيفة، ولا تنقروا ولا تبحثوا عن مصون الغيب ومكنون العلوم، فإن الله جعل للعقول غاية ¬

(¬1) الأنعام الآية (153). (¬2) الإبانة (1/ 2/420 - 421).

تنتهي إليها، ونهاية تقصر عندها، فما نطق به الكتاب وجاء به الأثر فقولوه، وما أشكل عليكم فكِلوه إلى عالمه، ولا تحيطوا الأمور بحيط العشوا حنادس الظلماء بلا دليل هاد، ولا ناقد بصير، أتراكم أرجح أحلاماً وأوفر عقولاً من الملائكة المقربين، حين قالوا: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)} (¬1).اهـ (¬2) - وقال: قد أعلمتك يا أخي -عصمني الله وإياك من الفتن ووقانا وإياك جميع المحن- أن الذي أورد القلوب حمامها، وأورثها الشك بعد اتقائها، هو البحث والتنقير وكثرة السؤال عما لا تؤمن فتنته وقد كفي العقلاء مؤنته، وأن الذي أمرضها بعد صحتها، وسلبها أثواب عافيتها، إنما هو من صحبة من تغر ألفته، وتورد النار في القيامة صحبته. أما البحث والسؤال فقد شرحت لك ما إن أصغيت إليه -مع توفيق الله- عصمك، ولك فيه مقنع وكفاية، وأما الصحبة فسأتلو عليك من نبأ حالها ما إن تمسكت به نفعك، وإن أردت الله الكريم به وفقك، قال الله عز وجل فيما أوصى به نبيه - صلى الله عليه وسلم - وحذره منه: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)} (¬3) ثم أذكره ما حذره ¬

(¬1) البقرة الآية (32). (¬2) الإبانة (1/ 2/423 - 424). (¬3) الأنعام الآية (68).

وأعاد له ذكر ما أنذره فقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)} (¬1).اهـ (¬2) - وقال ابن بطة -عقب إيراده لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من سمع منكم بخروج الدجال فلينأ عنه ما استطاع فإن الرجل يأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فما يزال به حتى يتبعه لما يرى من الشبهات» (¬3) -: هذا قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق. فالله الله معشر المسلمين، لا يحملن أحداً منكم حسن ظنه بنفسه وما عهده من معرفته بصحة مذهبه على المخاطرة بدينه في مجالسة بعض أهل هذه الأهواء، فيقول أداخله لأناظره أو لأستخرج منه مذهبه، فإنهم أشد فتنة من الدجال، وكلامهم ألصق من الجرب، وأحرق للقلوب من اللهب، ولقد رأيت جماعة من الناس كانوا يلعنونهم ويسبونهم فجالسوهم على سبيل الإنكار والرد عليهم، فما زالت بهم المباسطة وخفي المكر ودقيق الكفر حتى صبوا إليهم. (¬4) ثم أورد رحمه الله آثاراً على ذلك تجدها مبثوثة بحمد الله في هذه ¬

(¬1) النساء الآية (140). (¬2) الإبانة (2/ 3/429 - 430) (¬3) تقدم تخريجه. انظر مواقف أحمد بن سنان (259هـ). (¬4) الإبانة (2/ 3/470).

المسيرة المباركة. - وقال ابن بطة: فاعلم يا أخي أني لم أر الجدال والمناقضة والخلاف والمماحلة والأهواء المختلفة والآراء المخترعة من شرائع النبلاء، ولا من أخلاق العقلاء، ولا من مذاهب أهل المروءة، ولا مما حكي لنا عن صالحي هذه الأمة، ولا من سير السلف، ولا من شيمة المرضيين من الخلف، وإنما هو لهو يتعلم ودراية يتفكه بها، ولذة يستراح إليها، ومهارشة العقول، وتذريب اللسان بمحق الأديان، وضراوة على التغالب واستمتاع بظهور حجة المخاصم، وقصد إلى قهر المناظر والمغالطة في القياس، وبهت في المقاولة وتكذيب الآثار، وتسفيه أحلام الأبرار، ومكابرة لنص التنزيل وتهاون بما قاله الرسول، ونقض لعقدة الإجماع، وتشتيت الألفة وتفريق لأهل الملة، وشكوك تدخل على الأمة، وضراوة السلاطة، وتوغير للقلوب، وتوليد للشحناء في النفوس، عصمنا الله وإياكم من ذلك وأعاذنا من مجالسة أهله. (¬1) - وقال: فأهل الأهواء في تكفير بعضهم لبعض مصيبون، لأن اختلافهم في شرائع شرعتها أهواؤهم وديانات استحسنتها آراؤهم، فتفرقت بهم الأهواء وشتت بهم الآراء، وحل بهم البلاء، وحرموا البصيرة والتوفيق، فزلت أقدامهم عن محجة الطريق، فالمخطئ منهم زنديق، والمصيب على غير أصل ولا تحقيق. (¬2) - وقال: فإن قال قائل: قد حذرتنا الخصومة والمراء والجدال والمناظرة، ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/531 - 532). (¬2) الإبانة (2/ 3/535 - 536).

وقد علمنا أن هذا هو الحق، وإن هذه سبيل العلماء وطريق الصحابة والعقلاء من المؤمنين والعلماء المستبصرين، فإن جاءني رجل يسألني عن شيء من هذه الأهواء التي قد ظهرت والمذاهب القبيحة التي قد انتشرت، ويخاطبني منها بأشياء يلتمس مني الجواب عليها، وأنا ممن قد وهب الله الكريم لي علماً بها وبصراً نافذاً في كشفها، أفأتركه يتكلم بما يريد ولا أجيبه وأخليه وهواه وبدعته، ولا أردّ عليه قبيح مقالته، فإني أقول له: اعلم يا أخي رحمك الله أن الذي تبلى به من أهل هذا الشأن لن يخلو أن يكون واحداً من ثلاثة: إما رجلاً قد عرفت حسن طريقته وجميل مذهبه ومحبته للسلامة وقصده طريق الاستقامة، وإنما قد طرق سمعه من كلام هؤلاء الذين قد سكنت الشياطين قلوبهم، فهي تنطق بأنواع الكفر على ألسنتهم، وليس يعرف وجه المخرج مما قد بلي به، فسؤاله سؤال مسترشد يلتمس المخرج مما بلي به والشفا مما أوذي (¬1) إلى علمك حاجته إليك حاجة الصادي إلى الماء الزلال وأنت قد استشعرت طاعته وأمنت مخالفته، فهذا الذي قد افترض عليك توفيقه وإرشاده من حبائل كيد الشياطين، وليكن ما ترشده به وتوقفه عليه من الكتاب والسنة والآثار الصحيحة من علماء الأمة من الصحابة والتابعين، وكل ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة، وإياك والتكلف لما لا تعرفه وتمحل الرأي والغوص على دقيق الكلام، فإن ذلك من فعلك بدعة وإن كنت تريد به السنة، فإن إرادتك للحق من غير طريق الحق باطل وكلامك على السنة من غير السنة بدعة، ولا تلتمس لصاحبك الشفاء بسقم نفسك، ولا تطلب ¬

(¬1) قال محقق الإبانة: كذا في ظ: العبارة غير واضحة ولا يوجد هذا الأثر في ت.

صلاحه بفسادك، فإنه لا ينصح الناس من غش نفسه، ومن لا خير فيه لنفسه لا خير فيه لغيره، فمن أراد الله وفقه وسدده ومن اتقى الله أعانه ونصره. (¬1) وقال ابن بطة -عقب أثر الأوزاعي لما سأله محمد بن النضر قال: أآمر بالمعروف؟ قال (الأوزاعي): من يقبل منك؟ -: صدق الأوزاعي رحمه الله، فهكذا قال علي بن أبي طالب عليه السلام: "لا إمرة لمن لا يطاع". فإذا كان السائل لك هذه أوصافه وجوابك له على النحو الذي قد شرحته فشأنك به، ولا تأل فيه جهداً فهذه سبيل العلماء الماضين الذين جعلهم الله أعلاماً في هذا الدين فهذا أحد الثلاثة. ورجل آخر يحضر في مجلس أنت فيه حاضر تأمن فيه على نفسك ويكثر ناصروك ومعينوك، فيتكلم بكلام فيه فتنة وبلية على قلوب مستمعيه ليوقع الشك في القلوب لأنه هو ممن في قلبه زيغ يتبع المتشابه ابتغاء الفتنة والبدعة، وقد حضر معك من إخوانك وأهل مذهبك من يسمع كلامه إلا أنه لا حجة عندهم على مقابلته، ولا علم لهم بقبيح ما يأتي به، فإن سكت عنه لم تأمن فتنته بأن يفسد بها قلوب المستمعين، وإدخال الشك على المستبصرين، فهذا أيضاً مما ترد عليه بدعته وخبيث مقالته، وتنشر ما علمك الله من العلم والحكمة، ولا يكن قصدك في الكلام خصومته ولا مناظرته، وليكن قصدك بكلامك خلاص إخوانك من شبكته، فإن خبثاء الملاحدة إنما يبسطون شباك الشياطين ليصيدوا بها المؤمنين، فليكن إقبالك بكلامك ونشر علمك وحكمتك وبشر وجهك وفصيح منطقك على إخوانك، ومن قد حضر معك لا عليه، حتى تقطع أولئك عنه وتحول بينهم ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/540 - 541).

وبين استماع كلامه، بل إن قدرت أن تقطع عليه كلامه بنوع من العلم تحول به وجوه الناس عنه فافعل. حدثني أبو صالح قال حدثنا محمد بن داود أبو جعفر البصروي قال حدثنا مثنى بن جامع، قال: سمعت بشر بن الحارث، سئل عن الرجل يكون مع هؤلاء أهل الأهواء في موضع جنازة أو مقبرة فيتكلمون ويعرضون فترى لنا أن نجيبهم، فقال: إن كان معك من لا يعلم فردوا عليه لئلا يرى أولئك أن القول كما يقولون وإن كنتم أنتم وهم فلا تكلموهم ولا تجيبوهم. فهذان رجلان قد عرفتك حالهما ولخصت لك وجه الكلام لهما. وثالث مشؤوم قد زاغ قلبه وزلت عن سبيل الرشاد قدمه، فعشيت بصيرته واستحكمت للبدعة نصرته، يجهده أن يشكك في اليقين ويفسد عليك صحيح الدين، فجميع الذي رويناه وكلما حكيناه في هذا الباب لأجله وبسببه، فإنك لن تأتي في باب حصر منه ووجيع مكيدته أبلغ من الإمساك عن جوابه، والإعراض عن خطأ به لأن غرضه من مناظرتك أن يفتنك فتتبعه فيملك وييأس منك، فيشفي غيظه أن يسمعك في دينك ما تكرهه، فأخسئه بالإمساك عنه، وأذلله بالقطيعة له، أليس قد أخبرتك بقول الحسن رحمه الله حين قال له القائل: يا أبا سعيد: تعال حتى أخاصمك في الدين، فقال له الحسن: أما أنا فقد أبصرت ديني فإن كنت قد أضللت دينك فالتمسه. وأخبرتك بقول مالك حين جاءه بعض أهل الأهواء فقال له: أما أنا فعلى بينة من ربي وأما أنت فشاك فاذهب إلى شاك مثلك فخاصمه. فهل يأتي في جواب المخالف من جميع الحجج حجة هي أسخن لعينه ولا أغيظ لقلبه من

مثل هذه الحجة؟ والجواب: أما سمعت قول مصعب بن سعد: لا تجالس مفتونا فإنه لن يخطئك إحدى اثنتين: إما أن يفتنك فتتبعه، وإما أن يؤذيك قبل أن تفارقه. وأيوب السختياني حين قال له الرجل: أكلمك بكلمة، فولى عنه وأشار بإصبعه: ولا نصف كلمة. وعبد الرزاق حين قال لابن أبي يحيى: القلب ضعيف وليس الدين لمن غلب. حدثنا أبو طلحة أحمد بن محمد الفزاري، قال: حدثنا عبد الله بن خبيق، قال: حدثنا عبد الله بن داود، قال: قال الأعمش: السكوت جواب. حدثنا ابن دريد، قال: حدثنا الرياشي قال: حدثنا الأصمعي قال: سمعت شبيب بن شيبة يقول: من صبر على كلمة حسمها ومن أجاب عنها استدرها، فإن كنت ممن يريد الاستقامة ويؤثر طريق السلامة فهذه طريق العلماء وسبيل العقلاء، ولك فيما انتهى إليك من علمهم وفعلهم كفاية وهداية، وإن كنت ممن قد زاغ قلبه وزلت قدمه فأنت متحيز إلى فئة الضلالة وحزب الشيطان، قد أنست بما استوحش منه العقلاء ورغبت فيما زهد فيه العلماء، قد جعلت لقوم بطانتك وخزانتك، قد استبشرت جوارحك بلقائهم وأنس قلبك بحديثهم، فقد جعلت ذريعتك إلى مجالستهم وطريقك إلى محادثتهم، أنك تريد بذلك مناظرتهم وإقامة الحجة عليهم ورد بالهم إليهم، فإن تك بهرجتك خفيت على أهل الغفلة من الآدمين فلن يخفى ذلك على من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. (¬1) - وقال ابن بطة: فإن قال قائل فهذا النهي والتحذير عن الجدل في ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/541 - 544).

الأهواء والمماراة لأهل البدع قد فهمناه ونرجو أن تكون لنا فيه عظة ومنفعة، فما نصنع بالجدل والحجاج فيما يعرض من مسائل الأحكام في الفقه، فإنا نرى الفقهاء وأهل العلم يتناظرون على ذلك كثيرا في الجوامع والمساجد، ولهم بذلك حلق ومساجد، فإني أقول له: هذا لست أمنعك منه ولكني أذكر لك الأصل الذي بنى المسلمون عليه في هذا المعنى كيف أسسوه ووضعوه، فمن كان ذلك الأصل أصله وهو قصده ومعوله فالحجاج والمناظرة له مباحة وهو مأجور، ثم أنت أمين الله على نفسك فهو المطلع على سرك، فاعلم رحمك الله: أن أصل الدين النصيحة، وليس المسلمون إلى شيء من وجوه النصيحة أفقر ولا أحوج ولا هي لبعضهم على بعض أفرض ولا ألزم من النصيحة في تعليم العلم، الذي هو قوام الدين وبه أديت الفرائض إلى رب العالمين. فالذي يلزم المسلمين في مجالسهم ومناظراتهم في أبواب الفقه والأحكام تصحيح النية بالنصيحة واستعمال الإنصاف والعدل ومراد الحق الذي به قامت السماوات والأرض، فمن النصيحة أن تكون تحب صواب مناظرك ويسوؤك خطأه كما تحب الصواب من نفسك ويسوؤك الخطأ منها، فإنك إن لم تكن هكذا كنت غاشّاً لأخيك ولجماعة المسلمين، وكنت محباً أن يخطأ في دين الله وأن يكذب عليه ولا يصيب الحق في الدين ولا يصدق، فإذا كانت نيتك أن يسرك صواب مناظرك ويسوؤك خطأه فأصاب وأخطأت لم يسؤك الصواب ولم تدفع ما أنت تحبه بل سرك ذلك وتتلقاه بالقبول والسرور والشكر لله عز وجل حين وفق صاحبك لما كنت تحب أن تسمعه منه، فإن أخطأ ساءك ذلك وجعلت همتك التلطف لتزيله عنه، لأنك

رجل من أهل العلم يلزمك النصيحة للمسلمين بقول الحق، فإن كان عندك بذلته وأحببت قبوله، وإن كان عند غيرك قبلته، ومن دَلَّك عليه شكرت له، فإذا كان هذا أصلك وهذه دعواك فأين تذهب عما أنت له طالب وعلى جمعه حريص، ولكنك والله يا أخي تأبى الحق وتنكره إذا سبقك مناظرك إليه وتحتال لإفساد صوابه وتصويب خطئك وتغتاله وتلقي عليه التغاليظ وتظهر التشنيع، ولا سيما إن كان في عينك وعند أهل مجلسك أنه أقل علماً منك فذاك الذي تجحد صوابه وتكذب حقه، ولعل الأنفة تحملك إذا هو احتج عليك بشيء خالف قولك فقال لك: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قلت لم يقله رسول الله فجحدت الحق الذي تعلمه ورددت السنة، فإن كان مما لا يمكنك إنكاره أدخلت على قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علة تغير بها معناه وصرفت الحديث إلى غير وجهه، فإرادتك أن يخطأ صاحبك خطأ منك واغتنامك بصوابه غش فيك وسوء نية في المسلمين. فاعلم يا أخي أن من كره الصواب من غيره ونصر الخطأ من نفسه لم يؤمن عليه أن يسلبه الله ما علمه وينسيه ما ذكره، بل يخاف عليه أن يسلبه الله إيمانه، لأن الحق من رسول الله إليك افترض عليك طاعته فمن سمع الحق فأنكره بعد علمه له فهو من المتكبرين على الله، ومن نصر الخطأ فهو من حزب الشيطان، فإن قلت أنت الصواب وأنكره خصمك ورده عليك كان ذلك أعظم لأنفتك وأشد لغيظك وحنقك وتشنيعك وإذاعتك وكل ذلك مخالف للعلم ولا موافق للحق. بلغني عن الحسن بن عبد العزيز الجروي المصري أنه قال: سمعت الشافعي يقول: ما ناظرت أحداً قط فأحببت أن يخطأ وما في ظني علم إلا وددت أنه عند كل

أحد ولا ينسب إلي. وبلغني عن حرملة بن يحيى، قال: سمعت الشافعي يقول: وددت أن كل علم أعلمه يعلمه الناس أؤجر عليه ولا يحمدونني. وحدثني أبو صالح محمد بن أحمد، قال: حدثنا أبو الأحوص، قال: سمعت حسينا الزعفراني يقول: سمعت الشافعي يحلف وهو يقول: ما ناظرت أحداً قط إلا على النصيحة وما ناظرت أحداً ما فأحببت أن يخطئ، أفهكذا أنت يا أخي بالله عليك؟ إن ادعيت ذلك فقد زعمت أنك خير من الأخيار، وبدل من الأبدال والذي يظهر من أهل وقتنا أنهم يناظرون مغالبة لا مناظرة ومكايدة لا مناصحة، ولربما ظهر من أفعالهم ما قد كثر وانتشر في كثير من البلدان، فمما يظهر من قبيح أفعالهم وما يبلغ بهم حب الغلبة ونصرة الخطأ أن تحمر وجوههم وتدر عروقهم وتنتفخ أوداجهم ويسيل لعابهم، ويزحف بعضهم إلى بعض حتى ربما لعن بعضهم بعضاً، وربما بزق بعضهم على بعض، وربما مد أحدهم يده إلى لحية صاحبه، ولقد شهدت حلقة بعض المتصدرين في جامع المنصور فتناظر أهل مجلسه بحضرته فأخرجهم غيظ المناظرة وحمية المخالفة إلى أن قذف بعضهم زوجة صاحبه ووالدته، فحسبك بهذه الحال بشاعة وشناعة على سفه الناس وجهالهم، فكيف بمن تسمى بالعلم وترشح للإمامة والفتيا، ولقد رأيت المناظرين في قديم الزمان وحديثه فما رأيت ولا حدثت ولا بلغني أن مختلفين تناظرا في شيء ففلجت حجة أحدهما وظهر صوابه وأخطأ الآخر وظهر خطؤه فرجع المخطئ عن خطأه ولا صبا إلى صواب صاحبه ولا افترقا إلا على الاختلاف والمباينة، وكل واحد منهما متمسك بما كان عليه ولربما علم أنه على الخطأ فاجتهد في نصرته، وهذه

موقفه من الجهمية:

أخلاق كلها تخالف الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح من علماء الأمة. (¬1) موقفه من الجهمية: - قال رحمه الله: فإني أجعل أمام القول إيعاز النصيحة إلى إخواني المسلمين، بأن يتمسكوا بكتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، واتباع السلف الصالح من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من علماء المسلمين، الذين شرح الله بالهدى صدورهم، وأنطق بالحكمة ألسنتهم، وضرب عليه سرادق عصمته، وأعاذهم من كيد إبليس وفتنته، وجعلهم رحمة وبركة على من اتبعهم، وأنساً وحياة لمن سلك طريقهم، وحجة وعمى على من خالفهم. قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} (¬2) وأحذرهم مقالة جهم بن صفوان وشيعته، الذين أزاغ الله قلوبهم، وحجب عن سبل الهدى أبصارهم، حتى افتروا على الله عز وجل بما تقشعر منه الجلود، وأورث القائلين به نار الخلود، فزعموا أن القرآن مخلوق، والقرآن من علم الله تعالى، وفيه صفاته العليا وأسماؤه الحسنى، فمن زعم أن القرآن مخلوق، فقد زعم أن الله كان ولا علم، ومن زعم أن أسماء الله وصفاته مخلوقة، فقد زعم أن الله مخلوق محدث، وأنه لم يكن ثم كان، تعالى الله عما ¬

(¬1) الإبانة (2/ 3/545 - 548). (¬2) النساء الآية (115).

تقوله الجهمية الملحدة علواً كبيراً، وكلما تقوله وتنتحله، فقد أكذبهم الله عز وجل في كتابه، وفي سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وفي أقوال أصحابه، وإجماع المسلمين في السابقين والغابرين، لأن الله عز وجل لم يزل عالماً سميعاً بصيراً متكلماً، تاما بصفاته العليا وأسمائه الحسنى، قبل كون الكون، وقبل خلق الأشياء، لا يدفع ذلك ولا ينكره إلا الضال الجحود الجهمي المكذب بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. وسنذكر من كتاب الله وسنة نبيه وإجماع المسلمين ما دل على كفر الجهمي الخبيث وكذبه، ما إذا سمعه المؤمن العاقل العالم، ازداد به بصيرة وقوة وهداية، وإن سمعه من قد داخله بعض الزيغ والريب، وكان لله فيه حاجة، وأحب خلاصه وهدايته، نجاه ووقاه، وإن كان ممن قد كتبت عليه الشقوة، زاده ذلك عتوّاً وكفراً وطغياناً. ونستوفق الله لصواب القول وصالح العلم. (¬1) - وقال: فتفهموا رحمكم الله هذه الأحاديث، فهل يجوز أن يعوذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بمخلوق ويتعوذ هو ويأمر أمته أن يتعوذوا بمخلوق مثلهم؟ وهل يجوز أن يعوذ إنسان نفسه أو غيره بمخلوق مثله؟ فيقول: أعيذ نفسي بالسماء أو بالجبال أو بالأنبياء أو بالعرش أو بالكرسي أو بالأرض؟ وإذا جاز أن يتعوذ بمخلوق مثله، فليعوذ نفسه وغيره بنفسه فيقول: أعيذك بنفسي. أو ليس قد أوجب عبد الله بن مسعود رحمه الله على من حلف بالقرآن بكل آية كفارة؟ فهل يجب على من حلف بمخلوق كفارة؟ (¬2) - وقال: ومما يحتج به على الجهمي الخبيث الملحد أن يقال له: هل تعلم ¬

(¬1) الإبانة (1/ 12/212 - 215). (¬2) الإبانة (1/ 12/262).

شيئاً مخلوقاً لا يجوز أن يمسه إلا طاهر طهارة تجوز له بها الصلاة؟ فلولا ما شرف الله به القرآن وأنه كلامه وخرج منه، لجاز أن يمسه الطاهر وغير الطاهر، ولكنه غير مخلوق، فمن ثم حظر أن يمس المصحف أو ما كان فيه مكتوب من القرآن إلا طاهر، فقال تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} (¬1).اهـ (¬2) - وقال: باب ذكر اللفظية والتحذير من رأيهم ومقالاتهم: واعلموا رحمكم الله أن صنفاً من الجهمية اعتقدوا بمكر قلوبهم وخبث آرائهم وقبيح أهوائهم؛ أن القرآن مخلوق، فكنوا عن ذلك ببدعة اخترعوها تمويها وبهرجة على العامة، ليخفى كفرهم، ويستغمض إلحادهم على من قل علمه وضعفت نحيزته، فقالوا: إن القرآن الذي تكلم الله به وقاله، فهو كلام الله غير مخلوق، وهذا الذي نتلوه نقرؤه بألسنتنا ونكتبه في مصاحفنا ليس هو القرآن الذي هو كلام الله، هذا حكاية لذلك، فما نقرؤه نحن حكاية لذلك القرآن بألفاظنا نحن، وألفاظنا به مخلوقة. فدققوا في كفرهم، واحتالوا لإدخال الكفر على العامة بأغمض مسلك، وأدق مذهب، وأخفى وجه، فلم يخف ذلك بحمد الله وَمَنِّهِ وحسن توفيقه على جهابذة العلماء والنقاد العقلاء، حتى بهرجوا ما دلسوا وكشفوا القناع عن قبيح ما ستروه، فظهر للخاصة والعامة كفرهم وإلحادهم، وكان الذي فطن لذلك وعرف موضع القبيح منه الشيخ الصالح، والإمام العالم العاقل أبو عبد الله -أحمد بن محمد بن حنبل- رحمه ¬

(¬1) الواقعة الآية (79). (¬2) الإبانة (1/ 12/275).

الله، وكان بيان كفرهم بيناً واضحاً في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقد كذبهم القرآن والسنة بحمد الله. قال الله عز وجل: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (¬1) ولم يقل: حتى يسمع حكاية كلام الله. وقال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (¬2) فأخبر أن السامع إنما يسمع إلى القرآن، ولم يقل إلى حكاية القرآن. وقال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)} (¬3) وقال عز وجل: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ} (¬4) وقال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ} (¬5) ولم يقل: إنا سمعنا حكاية قرآن عجب. وقال تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ} (¬6) وقال تعالى: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ ¬

(¬1) التوبة الآية (6). (¬2) الأعراف الآية (204). (¬3) الإسراء الآية (45). (¬4) الأحقاف الآية (29) .. (¬5) الجن الآيتان (1و2). (¬6) المزمل الآية (20).

فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ} (¬1) وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (¬2) ولم يقل: من حكاية القرآن. ومثل هذا في القرآن كثير، من تدبره عرفه. وجاء في سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وكلام الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين رحمة الله عليهم أجمعين ما يوافق القرآن ويضاهيه والحمد لله، بل أكثرهم لا يعلمون. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن قريشاً منعتني أن أبلغ كلام ربي» (¬3) ولم يقل: حكاية كلام ربي. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» (¬4) ولم يقل: من تعلم حكاية القرآن. وقال: «مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة، إن تعاهدها صاحبها، أمسكها، وإن تركها ذهبت» (¬5) وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو» (¬6) وقال الله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)} (¬7) فنهى أن يمس المصحف إلا طاهر، لأنه كلام رب العالمين، فكل ذلك يسميه الله عز وجل قرآناً ويسميه النبي - صلى الله عليه وسلم - قرآناً ولا يقول: حكاية القرآن، ولا حكاية كتاب الله، ولا حكاية ¬

(¬1) الإسراء الآية (46). (¬2) الإسراء الآية (82). (¬3) انظر مواقف الإمام أحمد سنة (241هـ). (¬4) انظر في مواقف محمد بن الحسين سنة (360هـ). (¬5) انظر في مواقف محمد بن الحسين سنة (360هـ). (¬6) انظر مواقف أحمد بن كامل القاضي سنة (350هـ). (¬7) الواقعة الآيات (77 - 80) ..

كلام الله. وقال عبد الله بن مسعود: "إن هذا القرآن كلام الله، فلا تخلطوا به غيره". وقال عبد الله أيضاً: "تعلموا كتاب الله واتلوه، فإن لكم بكل حرف عشر حسنات"، فهذا ونحوه في القرآن والسنن وقول الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين؛ ما يدل العقلاء على كذب هذه الطائفة من الجهمية الذي احتالوا ودققوا في قولهم: القرآن مخلوق. ولقد جاءت الآثار عن الأئمة الراشدين وفقهاء المسلمين الذين جعلهم الله هداة للمسترشدين، وأنساً لقلوب العقلاء من المؤمنين مما أمروا به من إعظام القرآن وإكرامه مما فيه، دلالة على أن ما يقرؤه الناس ويتلونه بألسنتهم؛ هو القرآن الذي تكلم الله به، واستودعه اللوح المحفوظ، والرق المنشور، حيث يقول الله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)} (¬1) وقوله تعالى: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3)} (¬2).اهـ (¬3) - وقال: فبهذه الروايات والآثار التي أثرناها ورويناها عن سلفنا وشيوخنا وأئمتنا؛ نقول، وبهم نقتدي، وبنورهم نستضيء، فهم الأئمة العلماء العقلاء النصحاء، الذين لا يستوحش من ذكرهم، بل تنزل الرحمة إذا نشرت أخبارهم، ورويت آثارهم، فنقول: إن القرآن كلام الله، ووحيه، وتنزيله، وعلم من علمه، فيه أسماؤه الحسنى وصفاته العليا، غير مخلوق، كيف تصرف وعلى كل حال، لا نقف ولا نشك ولا نرتاب، ومن قال: مخلوق، ¬

(¬1) البروج الآيتان (21و22). (¬2) الطور الآيتان (2و3). (¬3) الإبانة (1/ 12/317 - 321).

أو قال: كلام الله ووقف، أو قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهؤلاء كلهم جهمية ضلال كفار لا يشك في كفرهم ومن قال لفظي بالقرآن مخلوق، فهو ضال مضل جهمي، ومن قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فهو مبتدع، لا يكلم حتى يرجع عن بدعته ويتوب عن مقالته. فهذا مذهبنا، اتبعنا فيه أئمتنا واقتدينا بشيوخنا رحمة الله عليهم، وهو قول إمامنا أحمد بن حنبل رحمه الله. (¬1) - وقال: تفهموا رحمكم الله ما جاءت به الأخبار، وما رويناه من الآثار عن السلف الصالحين، وعلماء المسلمين الأئمة العقلاء، الحكماء الورعين، الذين طيب الله أذكارهم، وعلا أقدارهم، وشرف أفعالهم، وجعلهم أنسا لقلوب المستبصرين، ومصابيح للمسترشدين، الذين من تفيأ بظلهم لا يضحى، ومن استضاء بنورهم لا يعمى، ومن اقتفى آثارهم لا يبدع، ومن تعلق بحبالهم لم يقطع، وسوءة لمن عدل عنهم وكان تابعاً ومؤتمّاً بجهم الملعون وشيعته، مثل ضرار، وأبي بكر الأصم، وبشر المريسي، وابن أبي دؤاد، والكرابيسي، وشعيب الحجام، وبرغوث، والنظام، ونظرائهم من رؤساء الكفر، وأئمة الضلال الذين جحدوا القرآن، وأنكروا السنة، وردّوا كتاب الله وسنة رسول الله، وكفروا بهما جهاراً وعمداً، وعناداً وحسداً، وبغياً وكفراً، وسأبثك من أخبارهم وسوء مناهجهم وأقوالهم ما فيه معتبر لمن غفل. (¬2) - وقال: فقد ذكرت من أخبار جهم وشيعته من رؤساء الكفر وأتباعه ¬

(¬1) الإبانة (1/ 12/345 - 346). (¬2) الإبانة (2/ 13/83 - 84).

من أئمة الضلال الذين انتحلوا الاعتزال إخوان الشياطين وأشباه أسلافهم من عبدة الأوثان من المشركين، ما فيه معتبر للعاقلين ومزدجر للمفترين، وذلك على اختصار من الإكثار، واقتصار على مبلغ وسع السامعين، فإن الذي انتهى إلينا من قبح أخبارهم وسوء مذاهبهم يكثر على الإحصاء، ويطول شرحه للاستقصاء، وطويت من أقوالهم ما تقشعر منه الجلود ولا تثبت لسماعه القلوب، وقد قدمت القول فيما روي عن عبد الله ابن المبارك رحمه الله، قال: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، وما نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. وصدق عبد الله، فإن الذي تجادل عليه هذه الطائفة الضلال، وتتفوه به من قبيح المقال في الله عز وجل تتحوب اليهود والنصارى والمجوس عن التفوه به. (¬1) وقال: فاعلموا رحمكم الله أن رؤساء الكفر والضلال من الجهمية الملحدة ألقت إليهم الشياطين من إخوانهم الخصومة بالمتشابه من القرآن، فزاغت به قلوبهم، فضلوا وأضلوا، فقل للجهمي الضال: هذا كتاب الله عز وجل، سماه الله في كتابه قرآناً وفرقاناً ونوراً وهدىً ووحياً وتبياناً وذكراً وكتاباً وكلاماً وأمراً وتنزيلاً، وفي كل ذلك يعلمنا أنه كلامه منه ومتصل به. قال الله تعالى: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)} (¬2). وقال: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)} (¬3). فلك في ¬

(¬1) الإبانة (2/ 13/132 - 133). (¬2) غافر الآيتان (1و2). (¬3) الأحقاف الآيتان (1و2).

أسمائه التي سماه الله بها كفاية، فقد جهلت وغلوت في دين الله غير الحق، وافتريت على الله الكذب والبهتان حين زعمت أن القرآن مخلوق، وزعمت أن ذلك هو التوحيد، وأنه دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره، وأن من لم يقل بمقالتك ويتبعك على إلحادك وضلالتك فليس بموحد، تكفره وتستحل دمه، فكل ما قلته وابتدعته أيها الجهمي، فقد أكذبك الله عز وجل فيه، ورده عليك هو ورسوله والمسلمون جميعاً من عباد غيره، وإنما التمسنا دعواك هذه في كتاب الله، وفي سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وفي إجماع المسلمين وصالحي المؤمنين، فلم نجد في ذلك شيئاً مما ادعيته. قال الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} (¬1) ولم يقل: وأن تقولوا: القرآن مخلوق. وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} (¬2) ولم يقل: وأن تقولوا: القرآن مخلوق. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا ربكم} ... إلى قوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} (¬3) ولم يقل: وأن تقولوا القرآن مخلوق. وقال: {* شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ¬

(¬1) الأنبياء الآية (25). (¬2) النساء الآية (131). (¬3) الحج الآيتان (77و78).

وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (¬1) وقال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (¬2) وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} (¬3) وقال عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} (¬4) وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (¬5) وقال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (¬6) وقال: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)} (¬7) وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} (¬8) فمثل هذا وشبهه في القرآن كثير، قد قرأناه وفهمناه، فلم نجد لبدعتك هذه فيه ذكراً ولا أثراً، ولا دعا الله عباده ولا أمرهم بشيء ¬

(¬1) الشورى الآية (13). (¬2) الروم الآية (30). (¬3) هود الآيتان (1و2). (¬4) البينة الآية (5). (¬5) النحل الآية (89). (¬6) الأنعام الآية (38). (¬7) يس الآية (12). (¬8) التوبة الآية (115).

مما زعمت أنه توحيده ودينه. أفتزعم أن الله عز وجل أغفل هذا أم نسيه حتى ذكرته أنت وأنبهته عليه؟ فقد أكذبك الله عز وجل فقال: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)} (¬1) وقال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (¬2) أم عساك تزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خان في دينه، وكتم ما أمره بتبليغه؟ فإن في جرأتك على الله وعلى رسوله ما قد قلت ما هو أعظم من هذا وكل ذلك، فقد أكذبك الله فيه. فقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر} ... إلى قوله: {النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} (¬3) وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} (¬4) وقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} (¬5) وقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ ¬

(¬1) مريم الآية (64). (¬2) الأنعام الآية (38). (¬3) الأعراف الآيتان (157و158). (¬4) الأنبياء الآية (107). (¬5) النحل الآية (44).

رِسَالَتَهُ} (¬1) وقال: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)} (¬2) وقال: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)} (¬3) وقالت عائشة: من زعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتم شيئاً مما أنزله الله عليه، فقد أعظم الفرية على الله، يقول الله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} الآية (¬4). ثم التمسنا هذه الضلالة التي اخترعتها وزعمت أنها الشريعة الواجبة والدين القيم والتوحيد اللازم الذي لا يقبل الله من العباد غيره بأن يقولوا: القرآن مخلوق في سنة المصطفى، وما دعا إليه أمته وقاتل من خالفه عليه، فما وجدنا لذلك أثراً ولا أمارة ولا دلالة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان» (¬5) فزعمت أيها الجهمي أنها ست بضلالتك هذه. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك، حرمت علي ¬

(¬1) المائدة الآية (67). (¬2) العنكبوت الآية (18). (¬3) الحجر الآيتان (94و95) .. (¬4) أحمد (6/ 49/50) والبخاري (8/ 780/4855) ومسلم (1/ 159/177) والترمذي (5/ 245 - 246/ 3068) والنسائي في الكبرى (6/ 471/11532). (¬5) أحمد (2/ 143) والبخاري (1/ 67 - 68/ 8) ومسلم (1/ 45/16) والترمذي (5/ 7/2609) والنسائي (8/ 481 - 482/ 5016) عن ابن عمر.

دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والتارك لدينه، والنفس بالنفس» (¬2). وقال لوفد عبد القيس حين قدموا عليه، فأمرهم بالإيمان بالله، وقال: «أتدرون ما الإيمان بالله؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا الخمس من المغنم» (¬3) وقال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} (¬4) فهذا كتاب الله يكذبك أيها الجهمي، وسنة نبيه وإجماع المؤمنين وسبيلهم تخالفك، وتدل على ضلالتك، وعلى إبطال ما ادعيته من أن قولك: القرآن مخلوق، هو التوحيد والدين الذي شرعه الله لعباده، وبعث به رسوله. فقد بطل الآن ما ادعيته من قولك: إن التوحيد هو أن يقال: القرآن مخلوق، وبان كذبك وبهتانك للعقلاء. فأخبرنا الله عز وجل عن خلق ما خلق من الأشياء، ¬

(¬1) البخاري (13/ 311/7284و7285) ومسلم (1/ 51 - 52/ 20) وأبو داود (2/ 198/1556) والترمذي (5/ 5 - 6/ 2607) والنسائي (7/ 88/3980). (¬2) أحمد (1/ 382،428،444) والبخاري (12/ 247/6878) ومسلم (3/ 1302/1676) وأبو داود (4/ 522/4352) والترمذي (4/ 12 - 13/ 1402) وقال: "حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح". والنسائي (7/ 90 - 91/ 4027) وابن ماجه (2/ 847/2534). (¬3) أحمد (1/ 228) والبخاري (1/ 172/53) ومسلم (1/ 46/17) وأبو داود (4/ 94/3692) والترمذي (5/ 9 - 10/ 2611) والنسائي (8/ 495/5046) عن ابن عباس رضي الله عنهما. (¬4) النساء الآية (115).

فإنا نحن قد أوجدناك في آيات كثيرة من كتابه وأخبار صحيحة عن رسول الله أن القرآن كلام الله ومنه، وفيه صفاته وأسماؤه، وأنه علم من علمه، وأنه ليس بجائز أن يكون شيء من الله ولا من صفاته، ولا من أسمائه، ولا من علمه، ولا من قدرته، ولا من عظمته، ولا من عزته مخلوقة (¬1). ورأيناك أيها الجهمي تزعم أنك تنفي التشبيه عن الله بقولك: إن القرآن مخلوق، ورأيناك شبهت الله عز وجل بأضعف ضعيف من خلقه. فإن كلام العباد مخلوق، وأسماءهم مخلوقة، وعلم الناس مخلوق، وقدرتهم وعزتهم مخلوقة، فأنت بالتشبيه أحق وأخلق، وأنت فليس تجد ما قلته من أن القرآن مخلوق في كتاب الله، ولا في سنة نبيه، ولا مأثوراً عن صحابته، ولا عن أحد من أئمة المسلمين. فحينئذ لجأ الجهمي إلى آيات من المتشابه جهل علمها، فقال: قلت: ذلك من قول الله عز وجل: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا} (¬2) وقوله: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (¬3) وزعم أن كل مجعول مخلوق، فنزع بآية من المتشابه يحتج بها من يريد أن يلحد في تنزيلها، ويبتغي الفتنة في تأويلها. فقلنا إن الله عز وجل قد منعك -أيها الجهمي- الفهم في القرآن حين جعلت كل مجعول مخلوقاً، وأن كل جعل في كتاب الله هو بمعنى خلق، فمن هاهنا بليت بهذه الضلالة القبيحة حين تأولت كتاب الله بجهلك وهوى نفسك وما زينه لك شيطانك وألقاه على لسانك إخوانك، وذلك أنا نجد ¬

(¬1) لعل الصواب: مخلوق. (¬2) الزخرف الآية (3). (¬3) الشورى الآية (52).

الحرف الواحد في كتاب الله عز وجل على لفظ واحد ومعانيه مختلفة في آيات كثيرة، تركنا ذكرها لكثرتها وقصدنا لذكر الآية التي احتججت بها. فـ"جعل" في كتاب الله عز وجل على غير معنى: "خلق"، فجعل من المخلوقين، على معنى وصف من أوصافهم، وقسم من أقسامهم، و"جعل" أيضاً على معنى فعل من أفعالهم لا يكون خلقاً ولا يقوم مقام الخلق، فتفهموا الآن ذلك واعقلوه. قال الله عز وجل: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ (91)} (¬1)، وإنما جعل هاهنا بمعنى: وصفوه بغير وصفه، ونسبوه إلى غير معناه حين عضوه وميزوه فقالوا: إنه شعر، وإنه سحر، وإنه قول البشر، وإنه أساطير الأولين. وقال في مثل ذلك: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ} (¬2) وقال: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} (¬3) وقال: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} (¬4) وقال: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ} (¬5) وقال: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} (¬6) لا يعني ذلك: ولا تخلقوا. وقال: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا} (¬7) وقال: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا ¬

(¬1) الحجر الآية (91). (¬2) الأنعام الآية (100). (¬3) الزخرف الآية (19). (¬4) النحل الآية (62). (¬5) النحل الآية (57) .. (¬6) البقرة الآية (224). (¬7) فصلت الآية (9).

لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا} (¬1) وقال: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ} (¬2) فهذا كله "جعل" لا يجوز أن يكون على معنى "خلق" و"جعل" من بني آدم على فعل. قال الله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ} (¬3) لا يجوز أن يكون: يخلقون أصابعهم في آذانهم. وقال: {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا} (¬4) لا يجوز أن يكون: خلقه ناراً. وقال: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ} (¬5) أفيجوز أن يكون خلقهم جذاذاً؟ و"جعل" في معنى "خلق" في معنى ما كان من الخلق موجوداً محسوساً، فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (¬6) فجعل هاهنا في معنى خلق لا ينصرف إلى غيره، وذلك أن الظلمات والنور يراهما الناس، وكذلك قوله: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} (¬7) وهما موجودان في بني آدم. وقال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ} (¬8) يعني: خلقتا، وهما ¬

(¬1) النحل الآية (56). (¬2) الرعد الآية (33). (¬3) البقرة الآية (19). (¬4) الكهف الآية (96). (¬5) الأنبياء الآية (58). (¬6) الأنعام الآية (1). (¬7) الملك الآية (23). (¬8) الإسراء الآية (12).

موجودان معروفان بإقبالهما وإدبارهما، فهل يعرف القرآن بإقبال وإدبار؟ وقال: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16)} (¬1) معناه خلق، والشمس نور وحر وهي ترى، فهل يمكن ذلك في القرآن؟ وقال: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12)} (¬2) يعني: خلقت، والمال موجود يوزن ويعد ويحصى ويعرف، فهل يوزن القرآن؟ وقال: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19)} (¬3) وهي موجودة، يُمشى عليها وتحرث، فهل يمكن مثل ذلك في القرآن؟ فهذا كله على لفظ "جعل" ومعناه معنى الخلق. وقد ذكر معنى الجعل منه في مواضع كثيرة على غير معنى الخلق، من ذلك قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سائبة وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} (¬4) لا يعني: ما خلق الله من بحيرة، لأنه هو خلق البحيرة والسائبة والوصيلة، ولكنه أراد أنه لم يأمر الناس باتخاذ البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. فهذا لفظ "جعل" على غير معنى "خلق"، وقال تعالى لإبراهيم خليله عليه السلام: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} (¬5) لا يعني: خالقك، لأن خلقه قد سبق إمامته. وقال لأم موسى: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ¬

(¬1) نوح الآية (16). (¬2) المدثر الآية (12) .. (¬3) نوح الآية (19). (¬4) المائدة الآية (103). (¬5) البقرة الآية (124).

وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)} (¬1) ولا يعني وخالقوه، لأنه قد كان مخلوقاً، وإنما جعله مرسلاً بعد خلقه. وقال إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا} (¬2) لا يعني: رب اخلق هذا البلد، لأن البلد كان مخلوقاً، ألا تراه يقول: هذا البلد؟ وقال: {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} (¬3) لا يريد: حتى خلقناهم حصيداً. وقال إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} (¬4) لا يعني: رب اخلقني. وقال إبراهيم وإسماعيل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} (¬5) ولم يريدا: واخلقنا مسلمين لك لأن خلقهما قد تقدم قبل قولهما، فهذا ونحوه في القرآن كثير، مما لفظه "جعل" على غير معنى "خلق". وكذلك قوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا} (¬6) إنما جعله عربياً ليفهم ويبين للذين نزل عليهم من العرب، ألم تسمع إلى قوله: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} (¬7)؟ وقال في موضع آخر: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا ¬

(¬1) القصص الآية (7). (¬2) إبراهيم الآية (35). (¬3) الأنبياء الآية (15). (¬4) إبراهيم الآية (40). (¬5) البقرة الآية (128). (¬6) الزخرف الآية (3). (¬7) مريم الآية (97).

أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} (¬1) يقول: أعربي محمد وعجمي كلامه بالقرآن؟ فجعل الله القرآن بلسان عربي مبين. كذلك ألم تسمع قوله: {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)} (¬2) وقال: {قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)} (¬3) وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)} (¬4) وأما قوله: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ} (¬5) فإنما يعني: أنزلناه نوراً، تصديق ذلك في الآية الأخرى قوله: {فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} (¬6) وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)} (¬7) وقال: {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)} (¬8) وقال تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ} (¬9) فقد بين لمن عقل وشرح ¬

(¬1) فصلت الآية (44). (¬2) النحل الآية (103). (¬3) فصلت الآية (3). (¬4) يوسف الآية (2). (¬5) الشورى الآية (52). (¬6) التغابن الآية (8). (¬7) النساء الآية (174). (¬8) الأعراف الآية (157). (¬9) الأنعام الآية (91).

الله صدره للإيمان أن "جعل" في كتاب الله على غير معنى "خلق"، و"جعل" أيضاً بمعنى "خلق"، وأن قوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا} (¬1) على غير معنى "خلق". فبأي حجة وفي أي لغة زعم الجهمي أن كل "جعل" على معنى "خلق". ألم يسمع إلى قوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أئمةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)} (¬2)؟ أفترى الجهمي يظن أن قوله: {وَنَجْعَلَهُمْ أئمة} إنما يريد: أن نخلقهم أئمة؟ أفتراه يخلقهم خلقاً آخر بعد خلقهم الأول؟ فهل يكون معنى "الجعل" هاهنا معنى "الخلق"؟ قال عز وجل: {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)} (¬3) لا يعني: ثم خلقنا له جهنم، لأن جهنم قد تقدم خلقها، ولم يرد أنها تخلق حين يفعل العبد ذلك، ولكنه إذا فعل العبد ذلك جعلت داره ومسكنه بعد ما تقدم خلقها. وقال تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} (¬4) وقال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا ¬

(¬1) الزخرف الآية (3). (¬2) القصص الآية (5). (¬3) الإسراء الآية (18). (¬4) الأنفال الآية (37).

الصَّالِحَاتِ} (¬1) وقال: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} (¬2) وقال: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} (¬3) يعني: بني إسرائيل، أفيظن الجهمي الملحد أنما أراد إنما خلق السبت على بني إسرائيل؟ فقد علم العقلاء أن السبت مخلوق في مبتدأ الخلق قبل كون بني إسرائيل، وقبل نوح، وقبل إبراهيم، ولكن معناه: إنما جعل على هؤلاء أن يسبتوا السبت خاصة، فهذا على غير معنى "خلق". وهذا كثير في القرآن، ولكن الجهمي من الصم البكم الذين لا يعقلون، من الذين {يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)} (¬4)، ألم تسمع إلى قوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)} (¬5) فإنما جعل الله القرآن بلسان عربي مبين، وأنزله عربياً لتفقه العرب، ولتتخذ بذلك عليهم الحجة، فذلك معنى قوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا} (¬6) ولم يرد عربياً في أصله ولا نسبه، وإنما أراد عربياً في قراءته. ومن أوضح البيان من تفريق ¬

(¬1) الجاثية الآية (21). (¬2) ص الآية (28). (¬3) النحل الآية (124). (¬4) البقرة الآية (75). (¬5) الشعراء الآيتان (198و199). (¬6) الزخرف الآية (3).

الله بين الخلق وبين القرآن أن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3)} (¬1) ألا تراه يفصل بين القرآن وبين الإنسان، فقال: {عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3)} ولو شاء تعالى لقال: خلق الإنسان والقرآن، ولكنه تكلم بالصدق ليفهم وليفصل كما فصله. فخالف ذلك الجهمي وكفر به، وقال على الله تعالى ما لم يجده في كتاب أنزل من السماء، ولا قاله أحد من الأنبياء، ولا روي عن أحد من العلماء، بل وجد وروي خلاف قول الجهمي، حيث عاب الله أقواماً بمثل فعل الجهمي في هذا، فقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} (¬2) فلما علم أنهم لا يقدرون على أن يروه لمن عبدوا خلقاً في الأرض ولا شرك لهم في السماوات، قال: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا} (¬3) يعني: من قبل القرآن، أي ائتوني بكتاب من قبل هذا تجدون فيه ما أنتم عليه من عبادة الأوثان، {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} (¬4) أي: رواية عن بعض الأنبياء {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)} (¬5) ¬

(¬1) الرحمن الآيات (1 - 3). (¬2) الأحقاف الآية (4). (¬3) الأحقاف الآية (4) .. (¬4) الأحقاف الآية (4). (¬5) الأحقاف الآية (4).

فسلك الجهمي في مذهبه طريق أولئك، وقال في الله وتقول عليه البهتان بغير برهان، وافترى على الله الكذب، وتعدى ما أخذه الله من الميثاق على خلقه حين قال: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} (¬1) وقال: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} (¬2). ومن أبين البيان وأوضح البرهان من تفريق الله بين الخلق والقرآن قوله: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} (¬3) فتفهموا هذا المعنى، هل تشكون أنه قد دخل في ذلك الخلق كله؟ وهل يجوز لأحد أن يظن أن قوله: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ} أراد أن له بعض الخلق؟ بل قد دخل الخلق كله في الخلق. ثم أخبر أن له أيضاً غير الخلق ليس هو خلقاً، لم يدخل في الخلق وهو {الأمر}، فبين أن الأمر خارج من الخلق، فالأمر أمره وكلامه. ومما يوضح ذلك عند من فهم عن الله وعقل أمر الله أنك تجد في كتاب الله ذكر الشيئين المختلفين إذا كانا في موضع فصل بينهما بالواو، وإذا كانا شيئين غير مختلفين لم يفصل بينهما بالواو، فمن ذلك ما هو شيء واحد وأسماؤه مختلفة ومعناه متفق، فلم يفصل بينهما بالواو. وقوله عز وجل: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا ¬

(¬1) الأعراف الآية (169). (¬2) الأنعام الآية (93). (¬3) الأعراف الآية (54).

كَبِيرًا} (¬1) فلم يفصل بالواو حين كان ذلك كله شيئاً واحداً، ألا ترى أن الأب هو الشيخ الكبير؟ وقال: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)} (¬2) فلما كان هذا كله نعت شيء واحد لم يفصل بعضه عن بعض بالواو، ثم قال: {وأبكاراً} فلما كان الأبكار غير الثيبات فصل بالواو، لأن الأبكار والثيبات شيئان مختلفان. وقال أيضاً فيما هو شيء واحد بأسماء مختلفة ولم يفصله بالواو، وقال: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} (¬3) {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} (¬4) فلما كان هذا كله شيئاً واحداً لم يفصل بالواو، وكان غير جائز أن يكون هاهنا واو، فيكون الأول غير الثاني، والثاني غير الثالث. وقال فيما هو شيئان مختلفان: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ والمسلمات .. } (¬5) إلى آخر الآية. فلما كان المسلمون غير المسلمات، فصل بالواو، ولا يجوز أن يكون ¬

(¬1) يوسف الآية (78) .. (¬2) التحريم الآية (5). (¬3) الحشر الآية (23). (¬4) الحشر الآية (24). (¬5) الأحزاب الآية (35).

المسلمون المسلمات، لأنهما شيئان مختلفان. وقال: {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} (¬1) فلما كانت الصلاة غير النسك، والمحيا غير الممات، فصل بالواو. وقال: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21)} (¬2) ففصل هذا كله بالواو، لاختلاف أجناسه ومعانيه. وقال في هذا المعنى أيضاً: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وحدائق غُلْبًا (30)} (¬3) فلما كان كل واحد من هذه غير صاحبه، فصل بالواو، ولما كانت الحدائق غلباً شيئاً واحداً، أسقط بينهما الواو. وقال أيضاً: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} (¬4) فلما كان الليل غير النهار فصل بالواو. كما قال: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} (¬5) فلما كان الشمس غير القمر، فصل بالواو، وهذا في القرآن كثير، وفي بعض ما ذكرناه كفاية لمن تدبره وعقله وأراد الله توفيقه وهدايته. فكذلك لما كان ¬

(¬1) الأنعام الآية (162). (¬2) فاطر الآيات (19 - 21). (¬3) عبس الآيات (27 - 30). (¬4) الفرقان الآية (62). (¬5) إبراهيم الآية (33).

الأمر غير الخلق، فصل بالواو، فقال: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} (¬1) فالأمر أمره وكلامه، والخلق خلق، وبالأمر خلق الخلق، لأن الله عز وجل أمر بما شاء وخلق بما شاء. فزعم الجهمي أن الأمر خلق، والخلق خلق، فكأن معنى قول الله عز وجل: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} إنما هو الإله الخلق والخلق، فجمع الجهمي بين ما فصله الله. ولو كان الأمر كما يقول الجهمي، لكان قول جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وما نتنزل إلا بخلق ربك، والله يقول: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} (¬2) ومما يدل على أن أمر الله هو كلامه قوله: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ} (¬3) فيسمي الله القرآن أمره، وفصل بين أمره وخلقه، فتفهموا رحمكم الله، وقال عز وجل: {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} (¬4) ولم يقل: عن خلقنا، وقال: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} (¬5) ولم يقل بخلقه، لأنها لو قامت بخلقه لما كان ذلك من آيات الله، ولا من معجزات قدرته ولكن من آيات الله أن يقوم المخلوق بالخالق، وبأمر الخالق قام المخلوق. وقال: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)} (¬6) فبدعوة الله ¬

(¬1) الأعراف الآية (54). (¬2) مريم الآية (64). (¬3) الطلاق الآية (5). (¬4) سبأ الآية (12). (¬5) الروم الآية (25). (¬6) الروم الآية (25).

يخرجون. واحتج الجهمي بآية انتزعها من المتشابه، فقال: أليس قد قال الله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} (¬1) فهل يدبر إلا مخلوق؟ فهذا أيضاً مما يكون لفظه واحداً بمعان مختلفة، وجاء مثله في القرآن كثير، فإنما يعني: يدبر أمر الخلق، ولا يجوز أن يدبر كلامه، لأن الله تعالى حكيم عليم، وكلامه حكم، وإنما تدبير الكلام من صفات المخلوقين الذين في كلامهم الخطأ والزلل فهم يدبرون كلامهم مخافة ذلك ويتكلمون بالخطأ ثم يرجعون إلى الصواب، والله عز وجل لا يخطئ، ولا يضل ولا ينسى ولا يدبر كلامه. وقال تعالى: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} (¬2) يقول: لله الأمر من قبل الخلق ومن بعد الخلق. وقوله: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ} (¬3) يعني: هداية هداكم الله بها، والهداية علمه، والعلم منه ومتصل به، كما أن شعاع الشمس متصل بعين الشمس، فإذا غابت عين الشمس ذهب الشعاع، -ولله المثل الأعلى- والله عز وجل هو الدائم الأبدي الأزلي، وعلمه أزلي، وكلامه دائم لا يغيب عن شيء ولا يزول، ثم إن الجهمي ادعى أمراً آخر ليضل به الضعفاء ومن لا علم عنده، فقال: أخبرونا عن القرآن، هل هو شيء أو لا شيء؟ فلا يجوز أن يكون جوابه: لا شيء، فيقال له: هو شيء، فيظن حينئذ أنه قد ظفر بحجته ووصل ¬

(¬1) يونس الآية (3). (¬2) الروم الآية (4). (¬3) الطلاق الآية (5).

إلى بغيته، فيقول: فإن الله يقول: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (¬1) والقرآن شيء يقع عليه اسم شيء، وهو مخلوق، لأن الكل يجمع كل شيء. فيقال له: أما قولك إن الكل يجمع كل شيء، فقد رد الله عليك ذلك وأكذبك القرآن، قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذائقة الْمَوْتِ} (¬2) ولله عز وجل نفس لا تدخل في هذا الكل، وكذلك كلامه شيء لا يدخل في الأشياء المخلوقة، كما قال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (¬3) وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} (¬4) فإن زعمت أن الله لا نفس له، فقد أكذبك القرآن ورد عليك قولك، قال الله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (¬5) وقال: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} (¬6) وقال: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} (¬7) وقال فيما حكاه عن عيسى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} (¬8) فقد علم من آمن بالله واليوم الآخر أن كتاب الله حق، وما قاله فيه حق، وأن لله ¬

(¬1) الأنعام الآية (102). (¬2) آل عمران الآية (185). (¬3) القصص الآية (88) .. (¬4) الفرقان الآية (58). (¬5) الأنعام الآية (54). (¬6) آل عمران الآية (28). (¬7) طه الآية (41). (¬8) المائدة الآية (116).

نفساً، وأن نفسه لا تموت، وأن قوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذائقة الْمَوْتِ} (¬1) لا تدخل في هذا نفس الله. وكذلك يخرج كلامه من الكلام المخلوق، كما تخرج نفسه من الأنفس التي تموت، وقد فهم من آمن بالله وعقل عن الله أن كلام الله، ونفس الله، وعلم الله، وقدرة الله، وعزة الله، وسلطان الله، وعظمة الله، وحلم الله، وعفو الله، ورفق الله، وكل شيء من صفات الله أعظم الأشياء، وأنها كلها غير مخلوقة، لأنها صفات الخالق ومن الخالق، فليس يدخل في قوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (¬2) لا كلامه، ولا عزته، ولا قدرته، ولا سلطانه، ولا عظمته، ولا جوده، ولا كرمه، لأن الله تعالى لم يزل بقوله وعلمه وقدرته وسلطانه وجميع صفاته إلهاً واحداً، وهذه صفاته قديمة بقدمه، أزلية بأزليته دائمة بدوامه، باقية ببقائه، لم يخل ربنا من هذه الصفات طرفة عين، وإنما أبطل الجهمي صفاته يريد بذلك إبطاله. وذلك أن أصل الإيمان بالله الذي يجب على الخلق اعتقاده في إثبات الإيمان به ثلاثة أشياء: أحدها: أن يعتقد العبد إِنِّيَّته ليكون بذلك مبايناً لمذهب أهل التعطيل الذين لا يثبتون صانعاً، الثاني: أن يعتقد وحدانيته، ليكون مبايناً بذلك مذاهب أهل الشرك الذين أقروا بالصانع وأشركوا معه في العبادة غيره. والثالث: أن يعتقده موصوفاً بالصفات التي لا يجوز إلا أن يكون موصوفاً بها من العلم والقدرة والحكمة وسائر ما وصف به نفسه في كتابه، إذ قد علمنا أن كثيراً ممن يقر ¬

(¬1) آل عمران الآية (185). (¬2) الأنعام الآية (102).

به ويوحده بالقول المطلق قد يلحد في صفاته، فيكون إلحاده في صفاته قادحاً في توحيده. ولأنا نجد الله تعالى قد خاطب عباده بدعائهم إلى اعتقاد كل واحدة في هذه الثلاث والإيمان بها، فأما دعاؤه إياهم إلى الإقرار بإنّيّته ووحدانيته، فلسنا نذكر هذا هاهنا لطوله وسعة الكلام فيه، ولأن الجهمي يدعي لنفسه الإقرار بهما، وإن كان جحده للصفات قد أبطل دعواه لهما، وأما محاجة الله لخلقه في معنى صفاته التي أمرهم أن يعرفوه بها، فبالآيات التي اقتص فيها أمور بريته في سماواته وأرضيه وما بينهما، وما أخرجها عليهم من حسن القوام وتمام النظام، وختم كل آية منها بذكر علمه وحكمته وعزته وقدرته، مثل قوله عز وجل: {وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} (¬1) فإنه لما ذكر التدبير العجيب الذي دبر به أمرها، أتبع ذلك بأن قال: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)} (¬2) فإن هذا خرج في ظاهره مخرج الخبر، وهو في باطنه محاجة بليغة لأن الذي يعقل من تأويله أنه لو لم تكن قدرته نافذة لما جرت هذه الأشياء على ما وجدت عليه، ولو لم يكن علمه سابقاً لما خلقه قبل أن يخلقه، فلما خرج على هذا النظام العجيب، إذ كان مما تدركه العقول أن المتعسف في أفعاله لا يوجد لها قوام ولا انتظام، فهو عز وجل يستشهد لخلقه بآثار صنعته العجيبة، وإتقانه لما خلق، وإحكامه على سابق علمه ونافذ قدرته ¬

(¬1) يس الآيتان (37و38). (¬2) يس الآية (38) ..

وبليغ حكمته. وكذلك قال عز وجل: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)} (¬1) لأنه كما أن عين المصنوع أوجب صانعاً، كذلك ما ظهر في آثار الحكمة والقدرة في الصنعة أوجب حكيماً قادراً. وفي دفع آلات الصنعة من العلم والقدرة عليها حتى لا يكون الصانع موصوفا بها، جحد للصانع وإبطال له. وإنما أنكر الجهمي صفات الباري تعالى أراد بذلك إبطاله، ألا ترى أن أصغر خلقه إن أبطلت صنعته بطل؟ فكيف العظيم الذي ليس كمثله شيء؟ ألا ترى أن النخلة لها جذع، وكرب، وليف، وجمار، ولب، وخوص، وهي تسمى نخلة، فإذا قال القائل: نخلة، علم السامع أن النخلة لا تكون إلا بهذا الاسم نخلة، فلو قال: نخلة وجذعها وكربها وليفها وجمارها ولبها وخوصها وتمرها كان محالاً، لأنه يقال: فالنخلة ما هي إذا جعلت هذه الصفات غيرها؟ أرأيت لو قال قائل: إن لي نخلة كريمة، آكل من تمرها، غير أنه ليس لها جذع ولا كرب ولا ليف ولا خوص ولا لب وليس هي خفيفة، وليس هي ثقيلة، أيكون هذا صحيحاً في الكلام؟ أو ليس إنما جوابه أن يقال: إنك لما قلت: نخلة عرفناها بصفاتها، ثم نعت نعتاً نفيت به النخلة. فأنت ممن لا يثبت ما سمى إن كان صادقاً، فلا نخلة لك. فإذا كانت النخلة -في بعد قدرها من العظيم الجليل- تبطل إذا نفيت صفاتها، فليس إنما أراد الجهمي إبطال الربوبية وجحودها. فقد تبين في المخلوق أن اسمه جامع لصفاته، وأن صفاته لا تباينه، وإنما أراد الجهمي يقول ¬

(¬1) الملك الآية (3).

إن صفات الله مخلوقة أن يقول: إن الله كان ولا قدرة، ولا علم، ولا عزة، ولا كلام، ولا اسم حتى خلق ذلك كله، فكان بعد ما خلقه. فإذا أبطل صفاته فقد أبطله، وإذا أبطله في حال من الأحوال فقد أبطله في الأحوال كلها، حتى يقول: إن الله عز وجل لم يزل ولا يزال بصفاته كلها إلهاً واحداً قديماً قبل كل شيء، ويبقى بصفاته كلها بعد فناء كل شيء. ويقال للجهمي فيما احتج به من قوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (¬1) أن قوله: {كُلِّ شَيْءٍ} يجمع كل شيء، لأن الكل يجمع كل شيء، أليس قد قال الله عز وجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (¬2) فهل يهلك ما كان من صفات الله. هل يهلك علم الله فيبقى بلا علم. هل تهلك عزته؟ تعالى ربنا عن ذلك، أليس هذه من الأشياء التي لا تهلك وقد قال الله عز وجل: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)} (¬3) فقد قال: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} فهل فتح عليهم أبواب التوبة، وأبواب الرحمة، وأبواب الطاعة، وأبواب العافية، وأبواب السعادة، وأبواب النجاة مما نزل بهم؟ وهذه كلها مما أغلق أبوابها عنهم، وهي شيء، وقد قال: ¬

(¬1) الرعد الآية (16). (¬2) القصص الآية (88). (¬3) الأنعام الآية (44).

{فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} وقد قال أيضاً في بلقيس: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} (¬1) ولم تؤت ملك سليمان ولم تسخر لها الريح ولا الشياطين، ولم يكن لها شيء مما في ملك سليمان، فقد قال: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} وقال في قصص يوسف: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} (¬2) وإنما كان ذلك تفصيلاً لكل شيء من قصة يوسف. وقال: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (¬3) ولم يخلق آدم من الماء وإنما خلقه من تراب، ولم يخلق إبليس من الماء، قال: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)} (¬4) والملائكة خلقت من نور. وقال في الريح التي أرسلت على قوم عاد: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} (¬5) وقد أتت على أشياء لم تدمرها، ألم تسمع إلى قوله: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} (¬6) فلم تدمر مساكنهم. ولو أنصف الجهمي الخبيث من نفسه واستمع كلام ربه وسلم لمولاه وأطاعه لتبين له، ¬

(¬1) النمل الآية (23). (¬2) يوسف الآية (111). (¬3) الأنبياء الآية (30). (¬4) الحجر الآية (27). (¬5) الأحقاف الآية (25). (¬6) الأحقاف الآية (25).

ولكنه من الذين قال الله عز وجل: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (¬1) فالجهمي الضال وكل مبتدع غال أعمى أصم قد حرمت عليه البصيرة فهو لا يسمع إلا ما يهوى، ولا يبصر إلا ما اشتهى، ألم يسمع قول الله عز وجل: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬2) فأخبر أن القول قبل الشيء لأن إرادته الشيء يكون قبل أن يكون الشيء فأخبر أن إرادة الشيء يكون قبل قوله. وقوله قبل الشيء إذا أراد شيئاً كان بقوله، وقال: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا} (¬3) فالشيء ليس هو أمره، ولكن الشيء كان بأمره سبحانه: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)} (¬4) وقال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} (¬5) فأخبرنا أنه شيء وهو تبارك اسمه وتعالى جده أكبر الأشياء، ولا يدخل في الأشياء المخلوقة. فإذا وضح للعقلاء كفر الجهمي وإلحاده، ادعى أمراً ليفتن به عباد الله الضعفاء من خلقه، فقال: أخبرونا عن القرآن، هل هو الله أو غير الله؟ فإن زعمتم أنه الله، فأنتم تعبدون القرآن، وإن زعمتم ¬

(¬1) النمل الآية (14). (¬2) النحل الآية (40). (¬3) يس الآية (82). (¬4) مريم الآية (35). (¬5) الأنعام الآية (19).

أنه غير الله، فما كان غير الله فهو مخلوق. فيظن الجهمي الخبيث أن قد فلجت حجته وعلت بدعته، فإن لم يجبه العالم، ظن أنه قد نال بعض فتنته. فالجواب للجهمي في ذلك أن يقال له: القرآن ليس هو الله، لأن القرآن كلام الله، وبذلك سماه الله، قال: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (¬1)، وبحسب العاقل العالم من العلم أن يسمي الأشياء بأسمائها التي سماها الله بها، فمن سمى القرآن بالاسم الذي سماه الله به، كان من المهتدين، ومن لم يرض بالله ولا بما سماه به، كان من الضالين وعلى الله من الكاذبين. قال الله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} (¬2) فهذا من الغلو ومن مسائل الزنادقة، لأن القرآن كلام الله، فمن قال إن القرآن هو الله، فقد جعل الله كلاما وأبطل من تكلم به. ولا يقال إن القرآن غير الله، كما لا يقال إن علم الله غير الله، ولا قدرة الله غير الله، ولا صفات الله غير الله، ولا عزة الله غير الله، ولا سلطان الله غير الله، ولا وجود الله غير الله. ولكن يقال: كلام الله، وعزة الله، وصفات الله، وأسماء الله، وبحسب من زعم أنه من المسلمين ولله من المطيعين، وبكتاب الله من المصدقين، ولأمر الله من المتبعين أن يسمي القرآن بما سماه الله به، فيقول: القرآن كلام الله كما قال تعالى: {يريدون أَنْ ¬

(¬1) التوبة الآية (6). (¬2) النساء الآية (171).

يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} (¬1) ولم يقل: يريدون أن يبدلوا الله، ولم يقل: يريدون أن يبدلوا غير الله. وقال: {بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} (¬2) ولم يقل إن القرآن أنا هو ولا هو غيري، فالقرآن كلام الله فيه أسماؤه وصفاته، فمن قال هو الله، فقد قال إن ملك الله، وسلطان الله، وعزة الله غير الله. ومن قال: إن سلطان الله وعزة الله مخلوق، فقد كفر لأن ملك الله لم يزل ولا يزول، ولا يقال: إن ملك الله هو الله، فلا يجوز أن يقول: يا ملك الله اغفر لنا، يا ملك الله ارحمنا، ولا يقال: إن ملك الله غير الله، فيقع عليه اسم المخلوق، فيبطل دوامه، ومن أبطل دوامه، أبطل مالكه، ولكن يقال: ملك الله من صفات الله، قال الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} (¬3) وكذلك عزة الله تعالى، قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (¬4) يقول: من كان يريد أن يعلم لمن العزة، فإن العزة لله جميعاً، فلا يجوز أن يقال: إن عزة الله مخلوقة، من قال ذلك، فقد كفر لأن الله لم تزل له العزة ولو كانت العزة مخلوقة، لكان بلا عزة قبل أن يخلقها حتى خلقها، فعز بها تعالى ربنا وجل ثناؤه عما يصفه به الملحدون علواً كبيراً. ولا يقال: إن عزة الله هي الله، لو جاز ذلك، لكانت رغبة الراغبين ومسألة السائلين أن ¬

(¬1) الفتح الآية (15). (¬2) الأعراف الآية (144). (¬3) الملك الآية (1). (¬4) فاطر الآية (10) ..

يقولوا: يا عزة الله عافينا، ويا عزة الله أغنينا، ولا يقال: عزة الله غير الله، ولكن يقال: عزة الله صفة الله، لم يزل ولا يزال الله بصفاته واحداً. وكذلك علم الله، وحكمة الله، وقدرة الله وجميع صفات الله تعالى، وكذلك كلام الله عز وجل. فتفهموا حكم الله، فإن الله لم يزل بصفاته العليا وأسمائه الحسنى عزيزاً، قديراً، عليماً، حكيماً، ملكاً، متكلماً، قوياً، جباراً، لم يخلق علمه ولا عزه، ولا جبروته، ولا ملكه، ولا قوته، ولا قدرته، وإنما هذه صفات المخلوقين. والجهمي الخبيث ينفي الصفات عن الله، ويزعم أنه يريد بذلك أن ينفي عن الله التشبيه بخلقه، والجهمي الذي يشبه الله بخلقه لأنه يزعم أن الله عز وجل كان ولا علم، وكان ولا قدرة، وكان ولا عزة، وكان ولا سلطان، وكان ولا اسم حتى خلق لنفسه اسماً، وهذه كلها صفات المخلوقين، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، لأن المخلوقين من بني آدم، كان ولا علم، خلقه الله جاهلاً ثم علمه. قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} (¬1) وكان ولا كلام حتى يطلق الله لسانه، وكان ولا قدرة ولا عزة ولا سلطان حتى يقويه الله ويعزه ويسلطه، وهذه كلها صفات المخلوقين. وكل من حدثت صفاته، فمحدث ذاته، ومن حدث ذاته وصفته، فإلى فناء حياته، وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. ثم إن الجهمي إذا بطلت حجته فيما ادعاه، ادعى أمراً آخر فقال: أنا أجد في الكتاب آية تدل على أن القرآن مخلوق، فقيل له: أية آية هي؟ قال: قول الله ¬

(¬1) النحل الآية (78).

عز وجل: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} (¬1)، أفلا ترون أن كل محدث مخلوق؟ فوهم على الضعفاء والأحداث وأهل الغباوة وموه عليهم، فيقال له: إن الذي لم يزل به عالماً لا يكون محدثاً، فعلمه أزلي كما أنه هو أزلي، وفعله مضمر في علمه، وإنما يكون محدثاً ما لم يكن به عالماً حتى علمه، فيقول: إن الله عز وجل لم يزل عالماً بجميع ما في القرآن قبل أن ينزل القرآن، وقبل أن يأتي به جبريل وينزل به على محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقد قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (¬2) قبل أن يخلق آدم. وقال: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)} (¬3) يقول: كان إبليس في علم الله كافراً قبل أن يخلقه، ثم أوحى بما قد علمه من جميع الأشياء. وقد أخبرنا عز وجل عن القرآن، فقال: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} (¬4) فنفى عنه أن يكون غير الوحي، وإنما معنى قوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذكرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} (¬5) أراد: محدثاً علمه، وخبره، وزجره، وموعظته عند محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإنما أراد: أن علمك يا محمد ومعرفتك محدث بما أوحي إليك من القرآن، وإنما أراد: أن نزول القرآن عليك يحدث لك ولمن سمعه علم وذكر لم تكونوا تعلمونه. ألم تسمع ¬

(¬1) الأنبياء الآية (2). (¬2) البقرة الآية (30). (¬3) البقرة الآية (34). (¬4) النجم الآية (4). (¬5) الأنبياء الآية (2).

إلى قوله: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} (¬1) وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} (¬2) وقال: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)} (¬3) فأخبر أن الذكر المحدث هو ما يحدث من سامعيه وممن علمه وأنزل عليه، لا أن القرآن محدث عند الله، ولا أن الله كان ولا قرآن، لأن القرآن إنما هو من علم الله، فمن زعم أن القرآن هو بعد، فقد زعم أن الله كان ولا علم ولا معرفة عنده بشيء مما في القرآن ولا اسم له، ولا عزة له، ولا صفة له حتى أحدث القرآن. ولا نقول: إنه فعل الله، ولا يقال: كان الله قبله، ولكن نقول: إن الله لم يزل عالما، لا متى علم ولا كيف علم، وإنما وهمت الجهمية الناس ولبست عليهم بأن يقول: أليس الله الأول قبل كل شيء، وكان ولا شيء، وإنما المعنى في: كان الله قبل كل شيء، قبل السماوات وقبل الأرضين وقبل كل شيء مخلوق، فأما أن نقول قبل علمه، وقبل قدرته، وقبل حكمته، وقبل عظمته، وقبل كبريائه، وقبل جلاله، وقبل نوره، فهذا كلام الزنادقة. وقوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} فإنما هو ما يحدثه الله عند نبيه، وعند أصحابه، والمؤمنين من ¬

(¬1) النساء الآية (113). (¬2) الشورى الآية (52) .. (¬3) طه الآية (113).

عباده، وما يحدثه عندهم من العلم، وما لم يسمعوه، ولم يأتهم به كتاب قبله، ولا جاءهم به رسول. ألم تسمع إلى قوله عز وجل: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)} (¬1) وإلى قوله فيما يحدث القرآن في قلوب المؤمنين إذا سمعوه: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} (¬2) فأعلمنا أن القرآن يحدث نزوله لنا علماً وذكراً وخوفاً، فعلم نزوله محدث عندنا وغير محدث عند ربنا عز وجل. ثم إن الجهمي حين بطلت دعواه وظهرت زندقته فيما احتج به، ادعى أمراً آخر ووهم ولبس على أهل دعوته، فقال: أتزعمون أن الله لم يزل والقرآن؟ فإن زعمتم أن الله لم يزل والقرآن، فقد زعمتم أن الله لم يزل ومعه شيء. فيقال له: إنا لا نقول كما تقول ولا نقول: إن الله لم يزل، والقرآن لم يزل، والكلام لم يزل والعلم ولم يزل والقوة ولم يزل والقدرة، ولكنا نقول كما قال: {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)} (¬3) وكما قال: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (¬4) فنقول: إن الله لم يزل بقوته، وعظمته، وعزته، وعلمه، وجوده، وكرمه، وكبريائه، وعظمته، وسلطانه، متكلماً، عالماً، قوياً، عزيزاً، قديراً، ملكاً، ليست هذه الصفات ولا شيء منها ببائنة منه، ولا منفصلة عنه، ولا تجزؤ ولا تتبعض منه، ولكنها منه ¬

(¬1) الضحى الآية (7). (¬2) المائدة الآية (83). (¬3) الأحزاب الآية (25). (¬4) يس الآية (38).

وهي صفاته. فكذلك القرآن كلام الله، وكلام الله منه، وبيان ذلك في كتابه: قال الله عز وجل: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)} (¬1) وقال: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} (¬2) وقال: {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا} (¬3) وقد أخبرنا الله أن الأشياء إنما تكون بكلامه، فقال: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)} (¬4) وقال: {قُلْنَا لَا تَخَفْ} (¬5) وقال: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)} (¬6) فبقول الله عز وجل صار أولئك قردة، وبقوله أمن موسى، وبقوله صارت النار برداً وسلاماً. ثم إن الجهمي الملعون غالط من لا يعلم بشيء آخر، فقال: قوله عز وجل: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (¬7) فقال: كل ما أتى الله عز وجل بخير منه أو مثله، فهو مخلوق. فكان هذا إنما غالط به الجهمي من لا يعلم، وإنما أراد الله عز وجل بقوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} يريد بخير لكم، وأسهل عليكم في العمل وأنفع لكم في الفعل. ألا ترى أنه كان ينزل ¬

(¬1) يس الآية (58). (¬2) السجدة الآية (13). (¬3) الصافات الآية (31). (¬4) الأعراف الآية (166). (¬5) طه الآية (68). (¬6) الأنبياء الآية (69). (¬7) البقرة الآية (106) ..

على النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمر الذي فيه الشدة ثم ينسخه بالسهولة والتخفيف؟ من ذلك أن قيام الليل والصلاة كانت مفروضة فيه على أجزاء معلومة وأوقات من الليل في أجزائه مقسومة، فعلم الله عز وجل ما على العباد في ذلك من الشدة والمشقة وقصور عملهم عن إحصاء ساعات الليل وأجزائه، فنسخها بصلاة النهار وأوقاته. فقال عز وجل: {* إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وطائفةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} (¬1) يقول: علم أن لن تطيقوه، فنسخ ذلك، فقال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} (¬2) و {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} (¬3) ومن ذلك أن الصيام كان مفروضاً بالليل والنهار، وأن الرجل كان إذا أفطر ونام ثم انتبه، لم يحل له أن يطعم إلى العشاء من القابلة، فنسخ ذلك بقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نسائكم} ... إلى قوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} ... إلى قوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (¬4) ومثل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (¬5) ¬

(¬1) المزمل الآية (20). (¬2) هود الآية (114). (¬3) الإسراء الآية (78). (¬4) البقرة الآية (187). (¬5) آل عمران الآية (102) ..

وكان هذا أمراً لا يبلغه وسع العباد، فنسخ ذلك بقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬1) فهذا ونحوه كثير، تركنا ذكره لئلا يطول الكتاب به، أراد الله عز وجل بنزول الناسخ رفع المنسوخ، وليكون في ذلك خيرة للمؤمنين تخفيفاً عنهم، لا أنه يأتي بقرآن خير من القرآن الأول، وإنما أراد خيراً لنا وأسهل علينا. ألم تسمع إلى قوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} (¬2)، {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} (¬3)، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬4)؟ فهذا وشبهه في القرآن كثير، لا أن في القرآن شيئاً خيراً من شيء، ولو جاز ذلك، لجاز أن يقال: سورة كذا خير من سورة كذا، وسورة كذا شر من سورة كذا. ومما يغالط به الجهمي من لا يعلم قول الله تعالى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} (¬5) فقالوا: كل شيء له بين يدين وخلف، فهو مخلوق، فيقال له: إن القرآن ليس شخصاً فيكون له خلف وقدام، وإنما أراد تعالى لا يأتيه التكذيب من بين يديه فيما نزل قبله من التوراة والإنجيل والكتب التي ¬

(¬1) التغابن الآية (16). (¬2) البقرة الآية (187). (¬3) المزمل الآية (20). (¬4) البقرة الآية (185). (¬5) فصلت الآية (42).

تقدمت قبله. {وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} يقول: ولا يأتي بعده بكتاب يبطله ولا يكذبه، كما أخبرنا أنه أيضاً مصدق لما كان قبله من الكتب، فقال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} (¬1) يقال: لما كان قبل الشيء وأمامه بين يديه، وما كان بعده خلفه، وبيان ذلك في كتاب الله: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} (¬2) لا يريد أن للصدقة بين يدين وخلفاً، وإنما أراد قبل نجواكم صدقة. وقال: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} (¬3) يريد أن يرسل الرياح قبل المطر. وقال: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيد (46)} (¬4) يقول: نذير قبل العذاب. وكذلك معناه في {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} (¬5) أراد قبله ولا من بعده، ولو كان معنى: من بين يديه ومن خلفه معنى المخلوق، لكان شخصاً له قدام وخلف وظهر وبطن ويدان ورجلان ورأس ولا يمكن ذلك في القرآن، ثم إن الجهمي ادعى أمراً آخر فقال: إن الله عز ¬

(¬1) الأنعام الآية (92) .. (¬2) المجادلة الآية (12). (¬3) الأعراف الآية (57). (¬4) سبأ الآية (46). (¬5) فصلت الآية (42).

وجل يقول: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} (¬1) فزعم أن القرآن لا يخلو أن يكون في السماوات أو في الأرض أو فيما بينهما. فيقال له: إن الله عز وجل يقول: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} (¬2) فالحق الذي خلق به السماوات والأرض وما بينهما هو قوله وكلامه، لأنه هو الحق وقوله الحق، {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84)} (¬3). وقال: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ} (¬4) فأخبر بأن الخلق كله كان بالحق والحق قوله وكلامه. وقال: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} (¬5) وقال: {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} (¬6) يعني قوله وكلامه، فقوله وكلامه قبل السماوات والأرض وما بينهما، فتفهموا رحمكم الله، ولا يستفزنكم الجهمي الخبيث بتغاليطه وتمويهه وتشكيكه ليزلكم عن دينكم، فإن الجهمي لا يألو جهداً في تكفير الناس وتضليلهم، عصمنا الله وإياكم من فتنته برحمته. ويقال للجهمي: أخبرنا: من أخبرنا أنه خلق السموات والأرض وما بينهما؟ فإذا قال: الله، فيقال له: فجعلت خبر ¬

(¬1) الدخان الآية (38). (¬2) الحجر الآية (85). (¬3) ص الآية (84). (¬4) الأنعام الآية (73). (¬5) النحل الآية (3) .. (¬6) يونس الآية (5).

الله عن الخلق خلقاً؟ فيقول: نعم. ويقول: إن الخبر عين المخبر، فيقال له: فالخبر مخلوق؟ فيقول: نعم، ويقول: الخبر غير الله، فيقال له: أليس قد تفرد الله بعلم الغيب دون خلقه؟ فيقول: نعم، فيقال له: فالخبر الذي زعمت أنه مخلوق وأنه غير الله، من قال له: أخبر الخلق أن الله خلق السماوات، أليس الله قال له ذلك؟ فإن قال: نعم، فقد أقر أن الله أخبر خلقاً دون خلق، فما يمنعك أن نكون نحن ذلك الخلق الذين أخبرهم أنه هو خلق الخلق؟ وإن قال: إن الله لم يخبر ذلك الخلق ولم يأمره أن يعلم الخلق بذلك، قيل له: فقد أقررت أنه ليس أحد يعلم الغيب إلا الله، وزعمت أن هذا الخبر هو غير الله، فمن أين علم هذا الخبر وهو مخلوق أن الله خلق السماوات والأرض؟ وكيف جاز أن يقول على الله ما لم يعلم ولم يأمره به؟ فعند ذلك يوضح كفر الجهمي وكذبه على الله وقبيح ضلاله، ثم إن الجهمية كذبت الآثار وجحدت الأخبار، وطعنت على الرواة، واتهموا أهل العدالة والأمانة، وانتصحوا أهواءهم وآراءهم، واتخذوا أهواءهم آلهة معبودة وأرباباً مطاعة. فإذا وجدوا حديثاً قد وهم المحدث في روايته وكان في ألفاظ متنه بعض التلبيس والتوهم، انتحلوه ديناً، وجعلوه أصلاً، ووثقوا روايته وإن لم يعرفوه، وصححوه وإن كانوا لا يثبتونه. فمن ذلك أنهم احتجوا بحديث رواه محمد بن عبيد عن الأعمش عن جامع بن شداد عن صفوان بن محرز عن عمران بن الحصين، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كان الله قبل أن يخلق الذكر، ثم خلق الذكر، فكتب فيه

كل شيء» (¬1) فقالت الجهمية: إن القرآن هو الذكر، والله خلق الذكر، فأما ما احتجوا به من هذا الحديث، فإن أهل العلم وحفاظ الحديث ذكروا أن هذا الحديث وهم فيه محمد بن عبيد وخالف فيه أصحاب الأعمش وكل من رواه عنه. وبذلك احتج أحمد بن حنبل رحمه الله، فقال: رواه بعده جملة من الثقات، فلم يقولوا: خلق الذكر، ولكن قالوا: كتب في الذكر، والذكر هاهنا غير القرآن، ولكن قلوب الجهمية في أكنة، وعلى أبصارهم غشاوة، فلا يعرفون من الكتاب إلا ما تشابه، ولا يقبلون من الحديث إلا ما ضعف وأشكل. والذكر هاهنا هو اللوح المحفوظ، الذي فيه ذكر كل شيء، ألا ترى أن في لفظ الحديث الذي احتجوا به، قال: فكتب فيه كل شيء أفتراه كتب في كلامه كل شيء، وقد بين الله ذلك في كتابه، وذلك أن الذكر في كتاب الله على لفظ واحد بمعان مختلفة، فقال: {ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ (1)} (¬2) يعني: ذا الشرف. وقال: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} (¬3) يعني: شرفكم. وقال: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} (¬4) يعني: بخبرهم. {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (4/ 431) والبخاري (6/ 351 - 352/ 3191) والترمذي (5/ 688 - 689/ 3951) دون محل الشاهد، والنسائي في الكبرى (6/ 363/11240) من حديث عمران بن حصين بلفظ: «كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء». وهو حديث طويل وليس فيه «ثم خلق الذكر». (¬2) ص الآية (1). (¬3) الأنبياء الآية (10). (¬4) المؤمنون الآية (71).

لَكَ وَلِقَوْمِكَ} (¬1) يقول: وإنه لشرف لك ولقومك. وقال: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (¬2) يعني: الصلاة. وقال: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} (¬3) يعني: في اللوح المحفوظ، لا يجوز أن يكون الذكر هاهنا القرآن، لأنه قال: {فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} والزبور قبل القرآن، والذكر أيضاً هو القرآن في غير هذه الآيات، كما أعلمتك، إلا أن الحرف يأتي بلفظ واحد، ومعناه شتى. والجهمي يقصد لما كانت هذه سبيله، فيتأوله على المعنى الذي يوافق هواه، ولا يجعل له وجهاً غيره، والله يكذبه ويرد عليه هواه. ومما وضح به كفر الجهمي ما رده على الله وجحده من كتابه، فزعم أن الله لم يقل شيئاً قط ولا يقول شيئاً أبداً. فيقال له: فأخبرنا عن كل شيء في القرآن: قال الله وقلنا، ويوم نقول، فقال: إنما هذا كله كما يقول الناس: قال الحائط فسقط، وقالت النخلة فمالت، وقالت النعل فانقطعت، وقالت القدم فزلت، وقالت السماء فهطلت، والنخلة والحائط والسماء لم يقولوا من ذلك شيئاً قط. فرد الجهمي كتاب الله الذي أخبر أنه عربي مبين، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} (¬4) ولسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسان قرشي، وهم أوضح العرب بياناً ¬

(¬1) الزخرف الآية (44). (¬2) الجمعة الآية (9). (¬3) الأنبياء الآية (105). (¬4) إبراهيم الآية (4).

وأفصحها لساناً، وهذا لم ينزل به القرآن ولم يتكلم به فصحاء العرب، فحكموا على الله بما جرى على ألسنة عوام الناس، وشبهوا الله تعالى بالحائط والنخلة والنعل والقدم. ويقال له: أرأيت من قال: سقط الحائط، وهطلت السماء، وزلت القدم، ونبتت الأرض، ولم يقل: قال الحائط، ولا قالت السماء، وأسقط قال وقالت في هذه الأشياء، أيكون كاذباً في قوله؟ أم يكون تاركاً للحق في خطابه؟ فإذا قال: ليس بتارك للحق، قيل له: فما تقول في رجل عمد إلى كل قال في القرآن مما حكاه الله عن نفسه أنه قال فمحاه، هل يكون تاركاً للحق أم لا؟ فعندها يبين كفر الجهمي وكذبه. ومما يغالط به الجهمي جهال الناس والذين لا يعلمون، أن يقول: خبرونا عن قول الله عز وجل: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} (¬1) فيقول: خبرونا عن هذا الشيء، أموجود هو أم غير موجود؟ فيقال له: إن معنى قوله: {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا} هو في علمه كائن بتكوينه إياه، قال لذلك الذي قد علم أنه كائن مخلوق: كن كما أنت في علمي، فيكون كما علم وشاء، لأنه كان معلوماً غير مخلوق، فصار معلوماً مخلوقاً كما قال وشاء وعلم. ويقال للجهمي: ألست مقراً بأن الله تعالى إذا أراد شيئاً قال له: كن فكان. فيقول: لا أقول، إنه يقول فيرد كتاب الله، ويكفر به ويقول: لا، ولكنه إذا أراد شيئاً كان، فيقال له: يريد أن تقوم القيامة، وأن يموت الناس كلهم، وأن يبعثوا كلهم، فيكون ذلك بإرادته قبل أن يقال فيكون. وقال ¬

(¬1) يس الآية (82).

الجهمي: إن الله لم يتكلم قط، ولا يتكلم أبداً. قيل له: من يحاسب الخلق يوم القيامة؟ ومن القائل: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غائبين} (¬1)؟ ومن القائل: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} (¬2)؟ ومن القائل: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)} (¬3)؟ ومن القائل: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} (¬4)؟ ومن القائل: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} (¬5)؟ ومن القائل: {إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)} (¬6). ومن القائل: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (¬7)؟ في أشباه لهذا تكثر على الإحصاء من مخاطبة الله عز وجل، فيقول الجهمي: إن الله عز وجل يخلق يوم القيامة لكل إنسان حساباً، فقيل للجهمي: هذا الخلق هو غير الله؟ فقال: نعم. قيل له: فيقول الله لهذا الخلق: أخبر الناس بأعمالهم؟ فقال: لا يقول له، إن قلت إنه يقول، فقد تكلم، فقلنا: من أين يعلم هذا الخلق ما قد أحصاه ¬

(¬1) الأعراف الآية (7). (¬2) الأعراف الآية (6). (¬3) الحجر الآيتان (92و93) .. (¬4) الأعراف الآية (144). (¬5) طه الآية (14). (¬6) النمل الآية (9). (¬7) المائدة الآية (116).

الله من أعمال بني آدم والغيب لا يعلمه إلا الله؟ فعند ذلك يتبين كفر الجهمي. ثم إن الجهمي ادعى أمراً آخر ابتغاء الفتنة، فقال: إن الله عز وجل يقول: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} (¬1) فعيسى كلمة الله وعيسى مخلوق. فقيل للجهمي: جهلك بكتاب الله وقبيح تأويلك قد صار بك إلى صنوف الكفر، وجعلك تتقلب في فنون الإلحاد، فكيف ساغ لك أن تقيس عيسى بالقرآن؟ وعيسى قد جرت عليه ألفاظ وتقلبت به أحوال لا يشبه شيء منها أحوال القرآن، منها: أن عيسى حملته أمه ووضعته وأرضعته، فكان وليداً، ورضيعاً، وفطيماً، وصبياً، وناشئاً، وكهلاً، وحياً ناطقاً، وماشياً، وذاهباً، وجائياً، وقائماً، وقاعداً، ويصوم ويصلي، وينام ويستيقظ، ويأكل الطعام ويشرب، ويكون منه ما يكون من الحيوان إذا أكل وشرب. وبذلك أخبرنا الله تعالى عنه تكذيباً للنصارى حين قالوا فيه القول الذي يضاهي قولك أيها الجهمي: فقال: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} (¬2) فكنى بالطعام عن خروج الحدث، وهو مع هذا مخاطب بالتعبد وبالسؤال والوعد والوعيد، ومحاسب يوم القيامة، وأخبرنا أنه حي وميت ومبعوث، فهل سمعت الله عز وجل وصف ¬

(¬1) النساء الآية (171). (¬2) المائدة الآية (75).

القرآن بشيء مما وصف عيسى؟ فأما قوله عز وجل: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} (¬1) فالكلمة التي ألقاها إلى مريم قوله: "كن" فكان عيسى بقوله "كن"، وكذا قال عز وجل: {إِن مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)} (¬2) ثم أتبع ذلك بما يزيل عنه وهم المتوهم، فقال: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)} (¬3) فكلمة الله قوله: "كن" والمكون عيسى عليه السلام، والجهمي حريص على إبطال صفات ربه لإبطال إنيته. ومما يدعيه الجهمي أنه حجة له في خلق القرآن قوله: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} (¬4) فقال الجهمي: فهل يذهب إلا مخلوق؟ وكما قال: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} (¬5) فالقرآن يذهب كما ذهب - صلى الله عليه وسلم -، فأفحش الجهمي في التأويل وأتى بأنجس الأقاويل، لأن قول الله: {وَلَئِنْ شِئْنَا ¬

(¬1) النساء الآية (171). (¬2) آل عمران الآية (59). (¬3) آل عمران الآية (60). (¬4) الإسراء الآية (86). (¬5) الزخرف الآية (41).

لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} (¬1) لم يرد أن القرآن يموت كما نموت، إنما يريد: ولئن شئنا لنذهبن بحفظه عن قلبك وتلاوته عن لسانك. أما سمعت ما وعد به من حفظه للقرآن حين يقول: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} (¬2) فلو أذهب الله القرآن من القلوب، لكان موجوداً محفوظاً عند من استحفظه إياه، ولئن ذهب القرآن في جميع الخلق وأمات الله كل قارئ له، فإن القرآن موجود محفوظ عند الله وفي علمه، وفي اللوح المحفوظ. أما سمعت قول الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} (¬3) وقوله عز وجل: {بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)} (¬4) ومما احتج به الجهمي في خلق القرآن أن قال: أليس القرآن خيراً؟ فإذا قيل له بلى، قال: أفتقولون إن من الخير ما لم يخلقه الله؟ فيتوهم بجهله أن له في هذه حجة ولا حجة فيه لأجل أن كلام الله خير، وعلم الله خير، وقدرة الله خير، وليس كلام الله ولا قدرته مخلوقين لأن الله لم يزل متكلماً، فكيف يخلق كلامه؟ ولو كان الله خلق كلامه لخلق علمه وقدرته، فمن زعم ذلك، فقد زعم أن الله كان ولا يتكلم، وكان ولا يعلم، فقالت الجهمية على الله ما لم يعلمه الله ولا ملائكته ولا أنبياؤه ولا أولياؤه، فخالفهم كلهم. قال الله عز وجل: {وَإِذْ ¬

(¬1) الإسراء الآية (86). (¬2) الأعلى الآية (6). (¬3) الحجر الآية (9). (¬4) البروج الآيتان (21و22).

قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ} (¬1)، {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ} (¬2)، {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (¬3)، ومثل هذا في القرآن كثير. وقول الملائكة: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} (¬4) ولم يقولوا ماذا خلق ربك قالوا الحق. وقال جبريل: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} (¬5) وقول الله تعالى حين سألت بنو إسرائيل موسى عن أمر البقرة حين {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} (¬6) فقال موسى عليه السلام: إنه يقول في غير موضع. وقال أولياء الله: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)} (¬7) وقال أعداء الله في النار: {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا} (¬8) فسمى الله قوله قولاً ولم يسمه خلقاً، وسمت الملائكة قول الله قولاً ولم تسمه خلقاً، وسمت الأنبياء قول الله قولاً ولم تسمه خلقاً، وسمى أهل الجنة قول الله قولاً، ولم يسموه خلقاً، وسمى أهل النار قول الله قولاً ولم يسموه خلقاً، وسمت الجهمية قول ¬

(¬1) البقرة الآية (30). (¬2) البقرة الآية (34). (¬3) البقرة الآية (30). (¬4) سبأ الآية (23). (¬5) مريم الآية (21). (¬6) البقرة الآية (68). (¬7) يس الآية (58). (¬8) الصافات الآية (31).

الله خلقاً ولم تسمه قولاً، خلافاً على الله وعلى ملائكته وعلى أنبيائه وعلى أوليائه. ثم إن الجهمية لجأت إلى المغالطة في أحاديث تأولوها موهوا بها على من لا يعرف الحديث، مثل الحديث الذي روي: «يجيء القرآن يوم القيامة في صورة الرجل الشاحب فيقول له القرآن: أنا الذي أظمأت نهارك وأسهرت ليلك فيأتي الله فيقول: أي رب تلاني ووعاني وعمل بي» (¬1). والحديث الآخر: «تجيء البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان» (¬2) فأخطأ في تأويله وإنما عنى في هذه الأحاديث في قوله: يجيء القرآن وتجيء البقرة وتجيء الصلاة ويجيء الصيام ويجيء ثواب ذلك كله، وكل هذا مبين في الكتاب والسنة. قال الله عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} (¬3) فظاهر اللفظ من هذا أنه يرى الخير والشر، ليس يرى الخير والشر، وإنما يرى ثوابهما والجزاء عليهما من الثواب والعقاب. كما قال عز وجل: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} (¬4) وليس يعني أنها تلك الأعمال التي عملتها بهيئتها وكما عملتها من الشر، وإنما تجد الجزاء على ذلك من الثواب والعقاب. كما قال تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ ¬

(¬1) تقدم تخريجه من حديث بريدة. انظر مواقف إسحاق بن راهويه سنة (237هـ). (¬2) أحمد (5/ 249) ومسلم (1/ 553/804) من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه. (¬3) الزلزلة الآيتان (7و8). (¬4) آل عمران الآية (30).

سُوءًا يُجْزَ بِهِ} (¬1) فيجوز في الكلام أن يقال: يجيء القرآن، تجيء الصلاة، وتجيء الزكاة، يجيء الصبر، يجيء الشكر، وإنما يجيء ثواب ذلك كله يجزى من عمل السيء بالسوء، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} (¬2) أفترى يرى السرقة والزنا وشرب الخمر وسائر أعمال المعاصي إنما يرى العقاب والعذاب عليهما، وبيان هذا وأمثاله في القرآن كثير. وأما ما جاءت به السنة فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ظل المؤمن صدقته» (¬3) فلا شيء أبين من هذا، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل معروف صدقة» (¬4)، فإرشادك الضالة صدقة، وتحيتك لأخيك بالسلام صدقة، وأن تلقى أخاك بوجه منبسط صدقة، وأمرك بالمعروف صدقة، ونهيك عن المنكر صدقة، ومباضعتك لأهلك صدقة، فكيف يكون الإنسان يوم القيامة في ظل مباضعته لأهله؟ إنما عنى ¬

(¬1) النساء الآية (123). (¬2) الزلزلة الآية (8). (¬3) أخرجه: أحمد (4/ 233) عن مرثد بن عبد الله اليزني: حدثني بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن ظل المؤمن يوم القيامة صدقته» وصحح إسناده الشيخ الألباني في المشكاة (1925). وورد بلفظ «كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس» أو قال: «يحكم بين الناس». أخرجه ابن المبارك في الزهد (645) ومن طريقه أحمد (4/ 147 - 148) وأبو يعلى (3/ 300 - 301/ 1766) والبيهقي (4/ 177) والطبراني (17/ 280/771) من طريق حرملة بن عمران أنه سمع يزيد بن أبي حبيب أن أبا الخير حدثه أنه سمع عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ... فذكره. وصححه ابن خزيمة (4/ 94/2431) وابن حبان (8/ 104/3310) والحاكم (1/ 416) على شرط مسلم ووافقه الذهبي وذكره الهيثمي في المجمع (3/ 110) وأدخل فيه الرواية الأولى وقال: "رواه كله أحمد وروى أبو يعلى والطبراني في الكبير بعضه ورجال أحمد ثقات". (¬4) أخرجه: أحمد (5/ 383) ومسلم (2/ 697/1005) وأبو داود (5/ 235 - 236/ 4947) من حديث حذيفة. وأخرجه أيضاً: أحمد (3/ 344) والبخاري (10/ 548/6021) والترمذي (4/ 306/1970) من حديث جابر.

بذلك كله ثواب صدقته، أليس قد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أحب أن يظله الله تعالى في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، فلينظر معسراً أو ليدع له» (¬1) فأعلمك أن الظل من ثواب الأعمال. ومما غالط به الجهمي من لا يعلم أن قال: كل شيء دون الله مخلوق، والقرآن من دون الله، فيقال له في جواب كلامه هذا: إنا لسنا نشك أن كل ما دون الله مخلوق، ولكنا لا نقول إن القرآن من دون الله، ولكنا نقول من كلام الله، ومن علم الله، ومن أسماء الله، ومن صفات الله، ألم تسمع إلى قوله: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ} (¬2) وقال: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)} (¬3) ولم يقل: من دون رب. وقال: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} (¬4) ولا يكون الأمر إلا من آمر، كما لا يكون القول إلا من قائل، ولا يكون الكلام إلا من المتكلم، ولو كان القرآن من دون الله، لما جاز لأحد أن يقول: قال الله، كيف يقوله وهو من دون الله، بل كيف يكون من دونه وهو قاله؟ ومما غالط به الجهمي من لا يعلم، أن قال: إن الله رب القرآن، وكل مربوب فهو مخلوق. فاحتج الجهمي بكلمة لم ينزل بها القرآن، ولا جاء بها أثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أحد من الصحابة، ولا من بعدهم من التابعين، ولا من فقهاء المسلمين، فيتخذ ذلك حجة، وإنما هي كلمة خفت على ألسن بعض ¬

(¬1) أحمد (3/ 427) ومسلم (4/ 2301 - 2302/ 3006) مطولاً. وابن ماجه (2/ 808/2419) من حديث أبي اليسر. (¬2) يونس الآية (37). (¬3) يس الآية (58). (¬4) الدخان الآيتان (4و5).

العوام، وجازت بعض اللغات، فتجافى لهم عنها العلماء، وإنما المعنى في جواز ذلك كما استجازوا أن يقولوا: من رب هذه الدار، وهذا رب هذه الدابة وليس هو خلقها، وكما يقولون: من رب هذا الكلام، ومن رب هذه الرسالة، ومن رب هذا الكتاب، أي: من تكلم بهذا الكلام؟ ومن ألف هذا الكتاب؟ ومن أرسل هذه الرسالة؟ لا أنه خالق الكلام، ولا خالق الكتاب والرسالة. فلذلك، استجاز بعض العوام هذه الكلمة وخفت على ألسنتهم، وإن كان لا أصل لها عمن قوله حجة، وإنما قالوا: يا رب القرآن كقولهم: يا منزل القرآن ويا من تكلم بالقرآن ويا قائل القرآن. فلما كان القرآن من الله منسوباً إليه، جاز أن يقولوا هذه الكلمة. ومما يبين لك كفر الجهمية وكذبها في دعواها أن كل مربوب "مخلوق"، قال الله عز وجل: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (¬1) أفترى ظن الجهمي أن أحبارهم ورهبانهم خلقوهم من دون الله؟ وقال يوسف الصديق: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} (¬2) يعني: عند سيدك. قال الله عز وجل: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} (¬3) ومما غالط به الجهمي من لا علم عنده أن قال: القرآن في اللوح المحفوظ، واللوح محدود، وكل محدود مخلوق على أن الجهمي يجحد اللوح المحفوظ وينكره ويرد كتاب الله ووحيه فيه، ولكنه يقر به في موضع يرجو به ¬

(¬1) التوبة الآية (31). (¬2) يوسف الآية (42). (¬3) يوسف الآية (42).

الحجة لكفره، فقال الجهمي: إن قول الله عز وجل {بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)} (¬1) فقال: إن اللوح بما فيه مخلوق، ولا جائز أن يكون مخلوق فيه غير مخلوق، فقبحوا في التأويل وكفروا بالتنزيل من وجوه كثيرة، وذلك أن القرآن من علم الله، وعلم الله وكلامه وجميع صفاته كل ذلك سابق اللوح المحفوظ قبله وقبل القلم وهكذا. قال ابن عباس رحمه الله: «إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فكتب في اللوح المحفوظ» (¬2) فكان خلق القلم واللوح بقول الله عز وجل لهما: "كُونَا"، فقوله قبل خلقه، وما في اللوح كلامه، وإنما ما في اللوح من القرآن، الخط والكتاب، فأما كلام الله عز وجل، فليس بمخلوق، وكذلك قوله عز وجل: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)} (¬3)، وإنما كرمت ورفعت وطهرت لأنها لكلام الله استودعت. وأما قولهم: إنه لا يكون مخلوق فيه غير مخلوق، فذلك أيضاً يَهُتُّ من كلامهم ويتناقض في حججهم، أما سمعت قول الله عز وجل: ¬

(¬1) البروج الآيتان (21و22) .. (¬2) أخرجه البيهقي (9/ 3) والحاكم (2/ 498) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. ومثل هذا الكلام لا يقال من قبل الرأي فله حكم الرفع، ويؤكد ذلك أن ابن عباس رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه: ابن أبي عاصم في السنة (1/ 50/108) وفي الأوائل (رقم 3) وأبو يعلى (4/ 217/2329) والبيهقي في السنن (9/ 3) وفي الأسماء والصفات (2/ 237/803) من طريق أحمد عن ابن المبارك عن رباح بن زيد عن عمر بن حبيب عن القاسم بن أبي بزة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعاً. قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في الصحيحة (1/ 257/133):" وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات من رجال التهذيب". وله شواهد وقد مر معنا بعضها. (¬3) عبس الآيتان (13و14).

{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ} (¬1) والسماوات مخلوقة، والله عز وجل غير مخلوق، والله تعالى فيها، فقد بين أن مخلوقاً فيه غير مخلوق، ومن أصل الجهمية ومذاهبها أن الله تعالى يحل في الأشياء كلها وفي الأمكنة، والأمكنة مخلوقة. فلما علم أن الله تعالى هو الخالق لا مخلوق، وكذلك كل ما كان منه لا يكون مخلوقاً، قال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (¬2) فسرها ابن عباس: علمه، فأخبر أن علمه وسع السماوات والأرض، وهل يكون العلم مخلوقاً؟ وإنما يكون مخلوقاً ما لم يكن ثم كان، وربنا لم يزل عالماً متكلماً. ومما غالط به الجهمي من لا يعلم: الحديث الذي روي عن ابن مسعود: «ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا شيء أعظم من آية الكرسي» (¬3) فتأولوا هذا الحديث على من لا يعلم، وأخطؤوا وغالطوا بالمتشابه من ألفاظ الحديث كما غالطوا بالمتشابه من القرآن، فإذا تفهمه العاقل، وجده واضحاً بيّناً، فلو كانت آية الكرسي مخلوقة كخلق السماء والأرض والجنة والنار وسائر الأشياء إذا لكانت السماء أعظم منها، ولكانت الجنة أعظم منها، ولكان النار أعظم منها، لقلة حروفها وخفتها على اللسان، وإن السماء والأرض والجنة والنار أطول وأعرض وأوسع وأثقل وأعظم في المنظر، ولا بلغ ذلك كله مبلغ حرف واحد من كلام الله، وإنما أراد عبد الله بن مسعود رحمه الله أنه ليس في خلق الله كله ما يبلغ عِظم كلام الله وإن خف، ولا يكون شيء ¬

(¬1) الأنعام الآية (3) .. (¬2) البقرة الآية (255). (¬3) تقدم تخريجه. انظر مواقف أحمد بن حنبل سنة (241هـ).

أعظم من كلام الله، ولن يعظم ذلك الشيء في أعين العباد. ألا ترى أنك تقول: ما خلق الله بالبصرة رجلاً أفضل من سفيان الثوري؟ وسفيان ليس من أهل البصرة، وإنما أردت: ليس بالبصرة مع عظمها وكثرة أهلها مثله ولا من يدانيه في فضله. وكقولك: «ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر» (¬1) فلم ترد أنه أصدق من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا أصدق من أبي بكر وعمر ومن هو أفضل منه، ولكنه لم يتقدمه أحد في الصدق، وإن فضلوه في غيره. ألم تسمع إلى قول الله عز وجل: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} (¬2) فسمى الله نفسه في الأشياء، وليس هو من الأشياء المخلوقة، تعالى الله علواً كبيراً. فكذلك قول عبد الله: "ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا شيء أعظم من آية الكرسي" لأن آية الكرسي من كلام الله، وهي آية من كتابه، فليس شيء من عظيم ما خلق يعدل بآية ولا بحرف من كلامه. ألا ترى أن الله قد عظم خلق السماوات والأرض، وجعل ذلك أكبر من غيره من المخلوقات، فقال: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} (¬3)؟ ثم آية الكرسي مع خفتها وقلة حروفها أعظم من ذلك كله، لأنها من كلام الله، وبكلام الله وأمره ¬

(¬1) يشير إلى حديث رواه أحمد (2/ 163) والترمذي (5/ 628/3801) وحسنه، وابن ماجه (1/ 55/156) والحاكم (3/ 34) وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي. من حديث ابن عمرو. (¬2) الأنعام الآية (19). (¬3) غافر الآية (57).

قامت السماوات والأرض، وخلقت المخلوقات كلها. واعلم أن الجهمي الخبيث يقول في الظاهر: أنا أقول إن القرآن كلام الله، فإذا نصصته، قال: إنما أعني كلام الله مثل ما أقول بيت الله وأرض الله وعبد الله ومسجد الله، فمثل شيئاً لا يشبه ما مثله به، والتمثيل لا يكون إلا مثلاً بمثل، حذو النعل بالنعل، فإن زاد التمثيل عما مثل به أو نقص بطل، ألا ترى أن البيت بني من الأرض، وفي الأرض، وبناه مخلوق، وهدم مرة بعد أخرى، وهو مما يدخل فيه ويخرج عنه، والمسجد مما يخرب ويبيد ويعفو أثره ويزول اسمه، وكذلك الأرض يمشى عليها وتحفر ويدفن فيها، وكذلك عبد الله نطفة، وجنين، ومولود، ورضيع، وفطيم، وصبي، وناشئ، وشاب، وكهل، وشيخ، وآكل، وشارب، وماشي، ومتكلم، وحي، وميت، فهل في ذلك شيء يشبه القرآن؟ ومما يحتج به على الجهمية أن يقال لهم: ألستم تقولون إن الله خلق القرآن؟ فإذا قالوا: نعم. قيل لهم: فأنتم تقولون: إن كل شيء في القرآن من أسماء الله وصفاته، فهو مخلوق؟ فإنهم يقولون: نعم. فيقال لهم: وتزعمون أن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} مخلوق، وقوله: {السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} (¬1) وأن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4)} (¬2) فيقال له: فما تقول فيمن دعا فقال في دعائه: يا خالق الله الرحمن الرحيم اغفر لنا، ¬

(¬1) الحشر الآية (23). (¬2) سورة الإخلاص ..

كما يقول: يا خالق السماوات والأرض يا خالق العزيز الجبار المتكبر يا خالق الله الصمد يا خالق من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد كما يقال: يا خالق الجنة والنار ويا خالق العرش العظيم ولو كان القرآن مخلوقاً وأسماء الله مخلوقة وصفاته كما زعم الجهمي الملعون وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، لكان من تعظيم الله أن يدعى فيقال: يا خالق القرآن ويا خالق أسمائه وصفاته ويا خالق الله الرحمن الرحيم ويا خالق العزيز الحكيم فهل بلغكم أن مسلماً أو معاهداً حلف بهذه اليمين؟ أو ليس إنما جعل الله عز وجل القسم بأسمائه يمينا يبرأ بها المطلوب من الطالب، وجعل الحلف بين الخلق في حقوقهم والأيمان المؤكدة التي يتحوب المؤمنون من الحنث بها هي الحلف بأسماء الله وصفاته، وبذلك حكم حكام المسلمين فيمن ادعى عليه حق أو ادعى لنفسه حقّاً؟ أو ليس ذلك هو قسامة من ادعي عليه قتل النفس أن يحلف في ذلك أن يقول: والله الذي لا إله إلا هو الطالب الغالب ... إلى آخر اليمين؟ أفرأيت لو حلف، فقال: وحق السماوات والأرض والبحار والأشجار والجنة والنار، هل كانت هذه اليمين تغني عنه شيئاً أو تبرئه من دعوى حقيرة صغيرة ادعيت عليه، وليس من ادعيت عليه الأموال الخطيرة والحقوق العظيمة ولا بينة عليه، فحلف باسم من أسماء الله وبصفة من صفاته التي هي في القرآن تردد وترجع وتكثر، لبرئ من كل دعوى عليه وطلبه، وكل ذلك لأن أسماء الله وصفاته وكلامه منه وليس شيء من الله مخلوقاً، تعالى الله علواً كبيراً. أو ليس من قال: يا خالق الرحمن الرحيم يا خالق الجبار المتكبر فقد أبان زندقته وأراد إبطال الربوبية، وأنه لم يكن من هذا كله شيء حتى خلق، تعالى الله علوّاً كبيراً.

ويلزم الجهمي في قوله: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم أن يكون قد شبه ربه بالأصنام المتخذة من النحاس والرصاص والحجارة، فتدبروا رحمكم الله نفي الجهمي للكلام عن الله إنما أراد أن يجعل ربه كهذه، فإن الله عز وجل عير قوماً عبدوا من دونه آلهة لا تتكلم، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194)} (¬1) فزعم الجهمي أن ربه كذا إذا دعي لا يجيب. وقال إبراهيم الخليل عليه السلام حين عير قومه بعبادة ما لا ينطق حين قال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)} (¬2) أي: فكيف يكون من لا ينطق إلهاً؟ فلما أسكتهم بذلك وبخهم فقال: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)} (¬3) فأي خير عند من لا ينطق ولا ينفع ولا يضر، فإنما يدور الجهمي في كلامه واحتجاجه على إبطال صفات الله ليبطل موضع الضر والنفع والمنع والعطاء، ويأبى الله إلا أن يكذبه ويدحض حجته، فتفكروا رحمكم الله فيما اعتقدته الجهمية وقالته وجادلت فيه ودعت الناس إليه، فإن من رزقه الله فهماً وعقلاً ووهب له بصراً نافذاً ¬

(¬1) الأعراف الآية (194). (¬2) الأنبياء الآية (63). (¬3) الأنبياء الآيتان (66و67) ..

وذهناً ثاقباً، علم بحسن قريحته ودقة فطنته أن الجهمية تريد إبطال الربوبية ودفع الإلهية، واستغنى بما يدله عليه عقله وتنبهه عليه فطنته عن تقليد الأئمة القدماء والعلماء والعقلاء الذين قالوا: إن الجهمية زنادقة، وأنهم يدورون على أن ليس في السماء شيء، فإن القائلين لذلك بحمد الله أهل صدق وأمانة وورع وديانة، فإن من أنعم النظر، وجد الأمر كما قالوا، فإن الجهمية قالوا: إن الله ما تكلم قط ولا يتكلم أبداً، فجحدوا بهذا القول علمه وأسماءه وقدرته وجميع صفاته، لأن من أبطل صفة واحدة، فقد أبطل الصفات كلها، كما أنه من كفر بحرف من القرآن فقد كفر به كله. وقالوا: إنه لا يرى في القيامة، فما بالهم لا يألون أن يأتوا بما فيه إبطاله وإبطال البعث والنشور والجنة والنار؟ وقالوا: إن الله ما كلم موسى تكليماً، ولا اتخذ إبراهيم خليلاً، ولا هو على عرشه. وقالوا: إن الجنة والنار لم تخلقا بعد، ثم قالوا إنهما إذا خلقتا، فإنهما تبيدان وتفنيان. وقالوا إن أهل القبور لا يعذبون إبطالاً للرجوع بعد الموت. وقالوا: إنه لا ميزان، ولا صراط، ولا حوض، ولا شفاعة، ولا كتب، وجحدوا باللوح المحفوظ، وبالرق المنشور، وبالبيت المعمور، فليس حرف واحد من كلامهم يسمعه من يفهمه إلا وقد علم أنه يرجع إلى الإبطال والجحود بجميع ما نزلت به الكتب وجاءت به الرسل، حتى إنهم ليقولون: إن الله عز وجل لا يسمع، ولا يبصر، ولا يغضب، ولا يرضى، ولا يحب، ولا يكره، ولا يعلم ما يكون إلا بعد أن يكون، وكل ما ادعوه من ذلك وانتحلوه فقد أكذبهم الله فيه ونطق القرآن بكفر من جحده. وقد كان

إبراهيم عليه السلام عتب على أبيه فيما احتج به عليه، فقال: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)} (¬1) فيقولون: إن إبراهيم عاتب أباه، ونقم عليه عبادة من لا يسمع ولا يبصر، ثم دعا أباه إلى عبادة من لا يسمع ولا يبصر، سبحان الله ما أبين كفر قائل هذه المقالة عند من عقل؟ وسيأتي تبيان كفرهم وإيضاح الحجة بالحق عليهم من كتاب ربنا وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - في كل شيء قالوه في مواضعه وأبوابه، وبالله التوفيق. فمما يحتج به على الجهمية أن يقال لهم: أرأيتم إذا مات الخلق كلهم فلم يبق أحد غير الله من القائل: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} (¬2)؟ وقد مات كل مخلوق، ومات ملك الموت، ثم يرد ربنا تعالى على نفسه فيقول: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)} (¬3) فإن قالوا: إن هذا القول مخلوق، فقد زعموا أنه يبقى مخلوق مع الله، وإن قالوا: إن الله لا يقول، ولكنه أخبر بما يدل على عظمته، فقد كذبوا كتاب الله وجحدوا به وردوه، أرأيت أن قائلاً قال: إن الله عز وجل لا يقول يوم القيامة: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} أليس يكون كاذباً ولكتاب الله رادّاً، فأي كفر أبين من هذا؟ وما يحتج به على الجهمية أن يقال لهم: أخبرونا كيف حال من لا يكلمه الله يوم القيامة ولا ينظر إليه؟ فإذا قال: هذه أحوال الكفار، وبذلك وصفهم الله، فيقال لهم: فأنتم تزعمون أن هذه أيضاً أحوال ¬

(¬1) مريم الآية (42). (¬2) غافر الآية (16). (¬3) غافر الآية (16) ..

الأنبياء والصديقين والشهداء والمؤمنين من الأولياء والصالحين والبدلاء، فما فضل هؤلاء على الكافرين ولو كان الأنبياء والرسل مع أهل الكفر في هذه المنزلة، من احتجاب الله دونهم وترك كلامهم والنظر إليهم لما كان ذلك داخلاً في وعيد الكفار والتهديد لهم به، ولا كان ذلك بضائر لهم، إذ هم فيه والرسل والأنبياء سواء. ومما يحتج به على الجهمي أن يقال له: من القائل: {يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} (¬1) فإن قالوا: خلق الله خلقاً قال ذلك لموسى، قيل لهم: وقبل ذلك موسى واستجاب لمخلوق من دون الله يقول أنا ربك؟ ويقال له: من القائل: {يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)} (¬2)، {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)} (¬3) ومن القائل: يا موسى {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} (¬4)؟ فإن قال الجهمي: إن هذا ليس من قول الله عز وجل، فأتني بكفر أبين من هذا أن يكون مخلوق يقول: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)} فإن زعموا أن موسى أجاب ذلك المخلوق وأطاعه، فقد زعموا أن موسى كان يعبد مخلوقاً من دون الله، ولو كان كما يقول الجهمي فكان ذلك المخلوق خلق عندهم ليفهم موسى أن خالقي هو ¬

(¬1) طه الآيتان (11و12). (¬2) النمل الآية (9). (¬3) القصص الآية (30). (¬4) طه الآية (14) ..

الله الذي لا إله إلا هو، فاعبده وأقم الصلاة لذكره. ولو قال الجهمي ذلك أيضاً لتبين كفره، لأن ذلك المخلوق لم يكن ليقول ذلك حتى يؤمر به، فإن قال الجهمي إن ذلك المخلوق قاله من غير أمر يؤمر به، فقد زعم الجهمي أن جميع هذه القصص كذب وافتراء على الله. وإن قال: قد قال ذلك المخلوق بإرادة الله من غير قول، فقد زعم أن ذلك المخلوق يعلم الغيب من دون الله، وأن المخلوق يعلم مراد الله وإن لم يقل هو، وهم يزعمون أن الله لا يعلم ما يكون إلا بعد أن يكون، وأن الخلق يسعون ويتقلبون في أمور مستأنفة لم يشأها الله ولم يعلمها إلا من بعد أن عملوها، ويزعمون هاهنا أن المخلوق يعلم ما يريد الله من غير أن يقوله، والله يقول فيما أخبر عن عيسى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} (¬1) والجهمي يزعم أن الخلق يعلمون ما في نفس الله من غير أن يقوله، وهو لا يعلم ما في نفوسهم حتى يقولوه أو يعملوه، تعالى الله عما يقوله الجهمي علوّاً كبيراً، فالجهمي يزعم أن المخلوق يعلم الغيب والله لا يعلم، والله عز وجل يقول: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (¬2). ومما يحتج به على الجهمي قول الله عز وجل: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا ¬

(¬1) المائدة الآية (116). (¬2) النمل الآية (65).

الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)} (¬1) وقوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)} (¬2) هل يجوز أن يكون هذا مخلوقاً؟ وهل يجوز لمخلوق من دون الله أن يقول: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} فالجهمي يزعم أن مع الله مخلوقاً خلق الخلق دونه. ومما يحتج به عليه قول الله عز وجل: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} (¬3) فأخبره أن أمره قبل الخلق وبعد فناء الخلق، فالأمر هو كلامه الذي يأمر به ويفعل به ما يريد به ويخلق. وقال الله عز وجل: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} (¬4) فدخل في قوله: الخلق كل مخلوق، ثم قال: والأمر، ففصل بينهما. وقال: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} (¬5) وقال: {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} (¬6) ¬

(¬1) الحجر الآيتان (49و50). (¬2) المدثر الآيات (11 - 17). (¬3) الروم الآية (4). (¬4) الأعراف الآية (54). (¬5) الدخان الآيتان (4و5). (¬6) سبأ الآية (12).

موقفه من المرجئة:

وقال: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} (¬1) وقال: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} (¬2) فهذه كلها لو سمي الأمر فيها باسم الخلق، لم يجز، ألا ترى أنه لا يمكن أن يقول: ألا له الخلق والخلق، لأنه قوله: الخلق يدخل فيه الخلق كله بقوله الخلق، والخلق باطل، لا يجوز أن يقال: فيها يفرق كل أمر حكيم خلقاً من عندنا، ولا يقال: ومن يزغ منهم عن خلقنا، ولا يجوز أن يقال: قل خلق ربي بالقسط، ولا يجوز أن يقال: إن الحكم إلا لله خلق أن لا تعبدوا إلا إياه، ولا يجوز أن يقال: حتى إذا جاء خلقنا. ولو كان معنى الأمر معنى الخلق، جاز في الكلام أن يتكلم بالمعنى، ففي هذا بيان كفر الجهمية فيما ادعوه أن القرآن مخلوق، وسنوضح ما قالوه باباً باباً، حتى لا يخفى على مسترشد أراد طريق الحق وأحب أن يسلكها ويزيد العالم بذلك بصيرة، والله الموفق وهو حسبنا ونعم الوكيل. (¬3) موقفه من المرجئة: - قال رحمه الله تعالى: أما بعد وفقكم الله فإني مبين لكم شرائع الإيمان التي أكمل الله بها الدين، وسماكم بها المؤمنين وجعلكم إخوة عليها متعاونين، وميز المؤمنين بها من المبتدعين المرجئة الضالين، الذي زعموا أن الإيمان قول بلا عمل، ومعرفة من غير حركة. فإن الله عز وجل قد كذبهم في كتابه وسنة نبيه وإجماع العقلاء والعلماء من عباده، فتدبروا ذلك وتفهموا ما فيه وتبينوا ¬

(¬1) الأعراف الآية (29). (¬2) مريم الآية (64) .. (¬3) الإبانة (2/ 13/150 - 220).

علله ومعانيه. فاعلموا رحمكم الله أن الإيمان إنما هو نظام اعتقادات صحيحة بأقوال صادقة وأعمال صالحة بنيات خالصة بسنن عادلة وأخلاق فاضلة جمع الله فيها لعباده مصالح دنياهم وآخرتهم ومراشد عاجلهم وآجلهم. (¬1) - وقال: اعلموا رحمكم الله أن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه فرض على القلب المعرفة به والتصديق له ولرسله ولكتبه وبكل ما جاءت به السنة، وعلى الألسن النطق بذلك والإقرار به قولاً وعلى الأبدان والجوارح العمل بكل ما أمر به وفرضه من الأعمال، لا تجزئ واحدة من هذه إلا بصاحبتها، ولا يكون العبد مؤمناً إلا بأن يجمعها كلها حتى يكون مؤمناً بقلبه مقراً بلسانه عاملاً مجتهداً بجوارحه، ثم لا يكون أيضاً مع ذلك مؤمناً حتى يكون موافقاً للسنة في كل ما يقوله ويعمله، متبعاً للكتاب والعلم في جميع أقواله وأعماله، وبكل ما شرحته لكم نزل به القرآن، ومضت به السنة، وأجمع عليه علماء الأمة؛ فأما فرض المعرفة على القلب فما قاله الله عز وجل في سورة المائدة: {* يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ ¬

(¬1) الإبانة (2/ 5/626).

وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)} (¬1) وقال في سورة النحل: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صدراً ... } الآية (¬2). وقال عز وجل: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} (¬3) فهذا بيان ما لزم القلوب من فرض الإيمان لا يرده ولا يخالفه ويجحده إلا ضال مضل. وأما بيان ما فرض على اللسان من الإيمان فهو ما قال الله عز وجل في سورة البقرة: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} (¬4) وقال في سورة آل عمران: {قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ¬

(¬1) المائدة الآية (41). (¬2) النحل الآية (106). (¬3) الإسراء الآية (36) .. (¬4) البقرة الآيتان (136و137).

وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} إلى آخر الآية (¬1). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأني رسول الله» (¬2). حدثنا أبو شيبة عبد العزيز بن جعفر، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل بن البختري الواسطي، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» (¬3). وأما الإيمان بما فرضه الله عز وجل من العمل بالجوارح تصديقاً لما أيقن به القلب ونطق به اللسان فذلك في كتاب الله تعالى يكثر على الإحصاء وأظهر من أن يخفى. قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)} (¬4) وقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} (¬5) في مواضع كثيرة من القرآن أمر الله فيها بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام شهر رمضان والجهاد في سبيله وإنفاق الأموال وبذل الأنفس في ذلك، والحج بحركة الأبدان ونفقة الأموال، فهذا ¬

(¬1) آل عمران الآية (84). (¬2) البخاري (1/ 102/25) ومسلم (1/ 53/22) من طريق واقد بن محمد عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما. (¬3) رواه: أحمد (3/ 300) ومسلم (1/ 52 - 53/ 21 (35)) والترمذي (5/ 409/3341) والنسائي في الكبرى (6/ 514/11670) من طريق أبي الزبير عن جابر مرفوعاً. وأخرجه: مسلم (1/ 52 - 53/ 21 (35)) والنسائي (7/ 91/3987) وابن ماجه (2/ 1295/3928) من طريق أبي سفيان عن جابر مرفوعاً. (¬4) الحج الآية (77). (¬5) البقرة الآية (43).

كله من الإيمان، والعمل به فرض لا يكون المؤمن إلا بتأديته، وكل من تكلم بالإيمان وأظهر الإقرار بالتوحيد وأقر أنه مؤمن بجميع الفرائض غير أنه لا يضره تركها ولا يكون خارجاً من إيمانه إذا هو ترك العمل بها في وقتها مثل الصلاة والزكاة وصوم شهر رمضان وحج البيت مع الاستطاعة وغسل الجنابة، ويرى أن صلاة النهار إن صلاها بالليل أجزاه وصلاة الليل إن صلاها بالنهار أجزته، وإنه إن صام في شوال أجزأه، وإن حج في المحرم أو صفر أجزأه، وأنه متى اغتسل من الجنابة لم يضره تأخيره، ويزعم أنه مع هذا مؤمن مستكمل الإيمان عند الله على مثل إيمان جبريل وميكائيل والملائكة المقربين. فهذا مكذب بالقرآن مخالف لله ولكتابه ولرسله ولشريعة الإسلام، ليس بينه وبين المنافقين الذين وصفهم الله تعالى في كتابه فرق، قد نزع الإيمان من قلوبهم بل لم يدخل الإيمان في قلوبهم كما قال الله عز وجل فيهم: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (¬1) فكل من ترك شيئا من الفرائض التي فرضها الله عز وجل في كتابه أو أكدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنته -على سبيل الجحود لها والتكذيب بها- فهو كافر بين الكفر لا يشك في ذلك عاقل يؤمن بالله واليوم الآخر. ومن أقر بذلك وقاله بلسانه ثم تركه تهاونا ومجوناً أو معتقداً لرأي المرجئة ومتبعا لمذاهبهم فهو تارك الإيمان ليس في قلبه منه قليل ولا كثير وهو في جملة المنافقين الذين نافقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنزل القرآن بوصفهم وما أعد لهم وإنهم في الدرك ¬

(¬1) الحجرات الآية (14) ..

الأسفل من النار، نستجير بالله من مذاهب المرجئة الضالة. (¬1) - وقال رحمه الله: وفرض الله الإيمان على جوارح ابن آدم وقسمه عليها وفرقه فيها، فليس من جوارحه جارحة إلا وهي موكلة من الإيمان بغير ما وكلت به صاحبتها، فمنها قلبه الذي يعقل به ويتقي به ويفهم به وهو أمير بدنه الذي لا ترد الجوارح ولا تصدر إلا عن رأيه وأمره، ومنها لسانه الذي ينطق به ومنها عيناه اللتان ينظر بهما، وسمعه الذي يسمع به، ويداه اللتان يبطش بهما، ورجلاه اللتان يخطو بهما ... فليس من هذه جارحة إلا وهي موكلة من الإيمان بغير ما وكلت به صاحبتها بفرض من الله تعالى ينطق به الكتاب ويشهد به علينا. ففرض على القلب غير ما فرض على اللسان، وفرض على اللسان غير ما فرض على العينين، وفرض على العينين غير ما فرض على السمع، وفرض على السمع غير ما فرض على اليدين، وفرض على اليدين غير ما فرض على الرجلين، وفرض على الرجلين غير ما فرض على الفرج، وفرض على الفرج غير ما فرض على الوجه. وأما ما فرض على القلب فالإقرار والإيمان والمعرفة والتصديق والعقل والرضا والتسليم وأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أحداً صمداً لم يتخذ صاحبة ولا ولداً وأن محمداً عبده ورسوله، والإقرار بما جاء من عند الله تعالى من رسول أو كتاب. فأما ما فرض على القلب من الإقرار والمعرفة فقد ذكرناه في أول هذا الكتاب، ونعيده هاهنا فمن ذلك قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ ¬

(¬1) الإبانة (2/ 6/760 - 764).

مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} (¬1) وقال: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} (¬2) وقال: {الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} (¬3) فذلك ما فرضه على القلب من الإقرار والمعرفة والتصديق، وهو رأس الإيمان وهو عمله. وفرض على اللسان القول والتعبير عن القلب وما عقد عليه وأقر به. قال الله عز وجل: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} (¬4) وقال: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (¬5) فهذا ما فرض على اللسان من القول بما عقد عليه وذلك من الإيمان وهو عمل اللسان. وأما ما فرض على السمع أن يتنزه عن الاستماع إلى ما حرم الله تعالى، فمما فرض على السمع قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (¬6) وقال: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ¬

(¬1) النحل الآية (106). (¬2) الرعد الآية (28). (¬3) المائدة الآية (41). (¬4) البقرة الآية (136). (¬5) البقرة الآية (83). (¬6) النساء الآية (140).

الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (¬1) وقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)} (¬2) وقال: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} (¬3) وقال: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)} (¬4) فهذا ما فرض على السمع التنزه عن الاستماع إلى ما لا يحل له وهو عمل السمع وذلك من الإيمان. وفرض على البصر أن لا ينظر إلى ما حرم الله وأن يغض بصره عما لا يحل له مما نهى الله عنه، فقال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} (¬5) وفرض على الرجال والنساء أن لا ينظروا إلى ما لا يحل لهم، وكل شيء في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنا إلا هذه الآية فإنه من النظر. ثم أخبر تعالى ما فرض على القلب واللسان والسمع والبصر في آية واحدة، فقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} (¬6) فهذا ما فرض على ¬

(¬1) الزمر الآيتان (17و18). (¬2) المؤمنون الآيات (1 - 3). (¬3) القصص الآية (55). (¬4) الفرقان الآية (72). (¬5) النور الآية (30). (¬6) الإسراء الآية (36).

العينين والسمع والبصر والفؤاد وهو عملهن وهو من الإيمان وفرض على الفرج أن لا يهتك عما حرم الله عليه، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)} (¬1) وقال تعالى: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} (¬2) ثم أخبر بمعصية السمع والبصر والفؤاد والأيدي والأرجل والجلود في آية واحدة، فقال: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ} (¬3) فعنى بالجلود الفروج، فهذا ما فرض على الفروج من الإيمان وهو عمله. وفرض على اليدين أن لا يبطش بهما فيما حرم الله عليهما وأن يبطش بهما فيما أمره الله تعالى به من الصدقة وصلة الرحم والجهاد في سبيل الله والوضوء للصلوات، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (¬4) فهذا ما فرض على اليدين لأن الطهور نصف الإيمان وهو من عمل اليدين. وقال: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ ¬

(¬1) المؤمنون الآية (5). (¬2) الأحزاب الآية (35). (¬3) فصلت الآية (22). (¬4) المائدة الآية (6).

الرِّقَابِ} (¬1) فهذا ما فرض على اليدين، وصلة الرحم والضرب في سبيل الله وهو من الإيمان. وفرض على الرجلين أن لا يمشي بهما في شيء من معاصي الله وأن يستعملا فيما أمر الله تعالى من المشي إلى ما يرضيه، فقال: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} (¬2) وقال: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} (¬3)، وقال فما شهدت به الأيدي والأرجل على أنفسهما يوم القيامة من تضييعها وتركها فرض الله عليها وتعديها ما حرمه عليها: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} (¬4) فهذا ما فرض الله على اليدين والرجلين من العمل وهو من الإيمان. وفرض على الوجه السجود آناء الليل والنهار في مواقيت الصلوات، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} الآية (¬5) فهذه فريضة من الله تعالى جامعة على الوجه واليدين والرجلين. وقال في موضع آخر: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)} (¬6) يعني بالمساجد ما ¬

(¬1) محمد الآية (4). (¬2) لقمان الآية (18). (¬3) لقمان الآية (19). (¬4) يس الآية (65). (¬5) الحج الآية (77). (¬6) الجن الآية (18).

سجد عليه ابن آدم في صلاته من الجبهة والأنف واليدين والرجلين والركبتين وصدور القدمين. وقال فيما فرض الله تعالى على الجوارح كلها من الصلاة والطهور، وذلك أن الله تعالى سمى الصلاة إيماناً في كتابه، وذلك أن الله تعالى لما صرف نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة إلى بيت المقدس وأمره أن يصلي إلى الكعبة قال المسلمون للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أرأيتك صلاتنا التي كنا نصلي إلى بيت المقدس ما حالها وما حالنا فيها وحال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى في ذلك قرآناً ناطقاً، فقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (¬1) يعني: صلواتكم إلى بيت المقدس، فسمى الله الصلاة إيماناً (¬2). فمن لقي الله حافظاً لجوارحه موفياً كل جارحة من جوارحه ما فرض الله عليه لقي الله مؤمناً مستكمل الإيمان، ومن ضيع شيئاً منها وتعدى ما أمر الله به فيها لقي الله تعالى ناقص الإيمان، وهو في مشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، ومن جحد شيئاً كان كافراً. قال الشيخ -أي ابن بطة-: فقد أخبر الله تعالى في كتابه في آي كثيرة منه أن هذا الإيمان لا يكون إلا بالعمل وأداء الفرائض بالقلوب والجوارح، وبَيَّنَ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشرحه في سنته، وأعلمه أمته، وكان مما قال الله تعالى في كتابه مما أعلمنا أن الإيمان هو العمل وأن العمل من الإيمان ما قاله في ¬

(¬1) البقرة الآية (143). (¬2) سيأتي تخريجه قريباً.

سورة البقرة: {* لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ والسائلين وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)} (¬1) فانتظمت هذه الآية أوصاف الإيمان وشرائطه من القول والعمل والإخلاص. (¬2) - وقال رحمه الله: فقد أنبأنا الله عز وجل في كتابه عن معرفة الإيمان بدلالات القرآن أنه قول وعمل وتصديق ويقين، وأن جميع ما فرضه الله في القرآن شفاء لما في الصدور من الشك والشبهة والريب لما فيه من البيان والبرهان والحق المبين، ولكن الله عز وجل جعله شفاء ورحمة للمؤمنين: {وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)} (¬3) فمن لم يشفه القرآن ولم تنفعه السنة وما فيهما من النور والبيان والهدي والضياء، وتنطع وتعمق، وقال برأيه وقاس على الله وعلى رسوله بفعله وهواه، داخل الله في عمله ونازعه في غيبه، ولم يقنع بما كشف له عنه حتى خالف الكتاب والسنة وخرق إجماع ¬

(¬1) البقرة الآية (177). (¬2) الإبانة (2/ 6/765 - 772). (¬3) الإسراء الآية (82).

الأمة وضل ضلالاً بعيداً وخسر خسراناً مبيناً، واتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً. (¬1) - وقال رحمه الله: فأي عبد أتعس جداً ولا أعظم نكداً ولا أطول شقاءً وعناءً، من عبد حرم البصيرة بنور القرآن والهداية بدلالته والزجر بموعظته. قال الله عز وجل بلسان عربي مبين وقوله الحق والصدق، قال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)} (¬2) فالهدي هدي الإيمان وهو القول، والدين هو العمل وجميع الفرائض والشرائع والأحكام ومجانبة الحرام والآثام. فالدين ليس هو خصلة واحدة ولكنه خصال كثيرة من أقوال وأفعال، من فرائض وأحكام، وشرائع وأمر ونهي، فقوله عز وجل: {بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} يجمع ذلك كله حتى صار ديناً قيماً، فمن كان من أهل الدين عمل بجميع ما فيه، ومن آمن ببعضه وكفر ببعضه لم يكن من أهله. ومن قال: الإيمان قول بلا عمل فليس هو من أهل دين الحق ولا مؤمن ولا مهتد ولا عامل بدين الحق، ولا قابل له، لأن الله عز وجل قد أعلمنا أن كمال الدين بإكمال الفرائض. قال الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ ¬

(¬1) الإبانة (2/ 6/773). (¬2) التوبة الآية (33).

عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬1) وذلك أنه لما علم الله عز وجل الصدق منهم في إيمانهم والعمل بجميع ما افترضه عليهم من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج البيت، وما بذلوه من مهج أنفسهم ونفقات أموالهم والخروج عن ديارهم وهجران آبائهم وقطيعة أهليهم وهجران شهواتهم ولذاتهم مما حرمها عليهم، وعلم حقيقة ذلك من قلوبهم بما زينه الله تعالى في قلوبهم وحببه إليهم من طاعته والعمل بأوامره والانتهاء عن زواجره، سمى هذه الأفعال كلها إيماناً، فقال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} (¬2) فاستحقوا اسم الرشاد بإكمال الدين. وذلك أن القوم كانوا في فسحة وسعة ليس يجب عليهم صلاة ولا زكاة ولا صيام ولا كان حرم عليهم كثيراً مما هو محرم، وكان اسم الإيمان واقعا عليهم بالتصديق ترفقاً بهم لقرب عهدهم بالجاهلية وجفائها، فجعل الإقرار بالألسن والمعرفة بالقلوب الإيمان المفترض يومئذ، حتى إذا حلت مذاقة الإيمان على ألسنتهم، وحسنت زينته في أعينهم، وتمكنت محبته من قلوبهم، وأشرقت أنوار لبسته عليهم، وحسن استبصارهم فيه، وعظمت فيه رغبتهم، تواترت أوامره فيهم، وتوكدت فرائضه عليهم، واشتدت زواجره ونواهيه. فكلما أحدث لهم فريضة عبادة وزاجرة عن معصية ازدادوا إليه ¬

(¬1) المائدة الآية (3) .. (¬2) الحجرات الآيتان (7و8).

مسارعة وله طاعة، دعاهم باسم الإيمان وزادهم فيه بصيرة، فقال: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)} (¬1) وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (¬2) الآية، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (¬3) ثم قال في فرض الجهاد: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} (¬4) وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} (¬5) ونظائر لهذا في القرآن كثيرة. وقال في النهي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} (¬6) و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (¬7) و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ ¬

(¬1) الحج الآية (78). (¬2) المائدة الآية (6) .. (¬3) الجمعة الآية (9). (¬4) البقرة الآية (216). (في الأصل: ((يا أيها الذين آمنوا كتب ... )) وهو خطأ). (¬5) التوبة الآية (38). (¬6) آل عمران الآية (130). (¬7) المائدة الآية (95).

الشَّيْطَانِ} (¬1)، فعلى هذا كل مخاطبة كانت منه لهم فيما أمر ونهى وأباح وحظر. وكان اسم الإيمان واقعاً بالإقرار الأول إذا لم يكن هناك فرض غيره، فلما نزلت الشرائع بعد هذا وجب عليهم التزام فرضها والمسارعة إليها كوجوب الأول سواء، لا فرق بينهما، لأنهما جميعاً من عند الله وبأمره وإيجابه. ولقد فرضت الصلاة عليهم بمكة فصلوا نحو بيت المقدس، فلما هاجروا إلى المدينة أقاموا بها يصلون نحوه ثمانية عشر شهراً، ثم حولت القبلة نحو الكعبة فلو لم يصلوا نحو الكعبة كما أمروا لما أغنى عنهم الإقرار الأول ولا الإيمان المتقدم. ولقد بلغ بهم الإشفاق في الطاعة والمسارعة إليها أن خافوا على من مات وهو يصلي نحو بيت المقدس قبل تحويل القبلة حتى قال قائلهم: يا رسول الله فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس؟ فأنزل الله عز وجل قرآناً أزال عنهم ذلك الإشفاق، وأعلمهم به أيضاً أن الصلاة إيمان. فقال عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِن اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)} (¬2). حدثنا أبو شيبة عبد العزيز بن جعفر الخوارزمي، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الواسطي، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا إسرائيل، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: «لما توجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الكعبة قالوا: يا رسول الله فكيف بإخواننا الذين ماتوا يصلون إلى بيت ¬

(¬1) المائدة الآية (90). (¬2) البقرة الآية (143).

المقدس؟ فأنزل الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (¬1)» (¬2) وبلغني عن يعقوب الدورقي من غير رواية المحاملي، قال: بلغني عن سفيان، أنه قال: ما علمت أن الصلاة من الإيمان حتى قرأت هذه الآية فالله عز وجل قد جعل الصلاة من الإيمان وسمى العاملين بها مؤمنين، فقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} (¬3) ثم نعت وصف الإيمان فيهم ثم ذكر ما وعدهم به عند آخر وصفهم، فقال: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)} (¬4). والمرجئة تزعم أن الصلاة والزكاة ليستا من الإيمان، فقد أكذبهم الله عز وجل وأبان خلافهم. واعلموا، رحمكم الله، أن الله عز وجل لم يثن على المؤمنين ولم يصف ما أعد لهم من النعيم المقيم والنجاة من العذاب الأليم ولم يخبرهم برضاه عنهم إلا بالعمل الصالح والسعي الرابح، وقرن القول بالعمل والنية بالإخلاص، حتى صار اسم الإيمان مشتملاً على المعاني الثلاثة لا ينفصل بعضها من بعض ولا ينفع بعضها دون بعض حتى صار الإيمان: قولاً باللسان وعملاً بالجوارح ومعرفة بالقلب خلافا لقول المرجئة الضالة الذين ¬

(¬1) البقرة الآية (143). (¬2) أحمد (1/ 304 - 305) وأبو داود (5/ 59 - 60/ 4680) والترمذي (5/ 192/2964) وقال: "حسن صحيح". وابن حبان (الإحسان 4/ 620 - 621/ 1717) كلهم بذات الإسناد. ورواية سماك بن حرب عن عكرمة مضطربة، لكن له شاهد من رواية البراء بن عازب يتقوى به عند البخاري (1/ 128 - 129/ 40). (¬3) المؤمنون الآيتان (1و2). (¬4) المؤمنون الآيتان (10و11).

زاغت قلوبهم وتلاعبت الشياطين بعقولهم، وذكر الله عز وجل ذلك كله في كتابه والرسول - صلى الله عليه وسلم - في سنته. (¬1) - وقال رحمه الله -عقب ذكر آيات في ثناء الله عز وجل على الذين ءامنوا وعملوا الصالحات، وقد تقدمت-: فتفهموا رحمكم الله هذا الخطاب وتدبروا كلام ربكم عز وجل وانظروا هل ميز الإيمان من العمل أو هل أخبر في شيء من هذه الآيات أنه ورث الجنة لأحد بقوله دون فعله؟ ألا ترون إلى قوله عز وجل: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)} (¬2)، ولم يقل بما كنتم تقولون. وقال: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)} (¬3) ولم يقل: بما قالوا. وقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (¬4) ولم يقل: أحسن قولاً. وقال في قصة الكفار: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} (¬5) ولم يقولوا: غير الذي كنا نقول. وقال عز وجل: {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ¬

(¬1) الإبانة (2/ 6/774 - 779). (¬2) الزخرف الآية (72). (¬3) النجم الآية (31). (¬4) الملك الآية (2). (¬5) الأعراف الآية (53).

لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَد مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} (¬1) فلم يفرد الإيمان حتى قال: كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله يقول أي بما في كتبه من أمره ونهيه وفرائضه وأحكامه، ثم حكى ذلك عنهم حين صدقهم في قولهم وفعلهم، فقال: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}، فيصير الإيمان بذلك كله إيماناً واحداً وقولاً واحداً ولم يفرق بعضه من بعض. فمن زعم أن ما في كتاب الله عز وجل من شرائع الإيمان وأحكامه وفرائضه ليست من الإيمان، وأن التارك لها والمتثاقل عنها مؤمن فقد أعظم الفرية وخالف كتاب الله ونبذ الإسلام وراء ظهره ونقض عهد الله وميثاقه. قال الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)} (¬2)، ثم قال: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)} (¬3)، ثم قال: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} (¬4)، ثم قال: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)}. فجمع ¬

(¬1) البقرة الآية (285). (¬2) آل عمران الآية (81). (¬3) آل عمران الآية (82). (¬4) آل عمران الآية (83).

القول والعمل في هذه الآية. [وقال الله عز وجل] (¬1) فمن زعم أنه يقر بالفرائض ولا يؤديها [ويعلمها] (¬2) وبتحريم الفواحش والمنكرات ولا ينزجر عنها ولا يتركها وأنه مع ذلك مؤمن فقد كذب بالكتاب وبما جاء به رسوله، ومثله كمثل المنافقين الذين قالوا: {آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} (¬3) فأكذبهم الله ورد عليهم قولهم وسماهم منافقين، مأواهم الدرك الأسفل من النار، على أن المنافقين أحسن حالاً من المرجئة، لأن المنافقين جحدوا العمل وعملوه، والمرجئة أقروا بالعمل بقولهم وجحدوه بترك العمل به، فمن جحد شيئاً وأقر به بلسانه وعمله ببدنه أحسن حالاً ممن أقر بلسانه وأبى أن يعمله ببدنه، فالمرجئة جاحدون لما هم به مقرون ومكذبون لما هم به مصدقون، فهم أسوأ حالاً من المنافقين. ويح لمن لم يكن القرآن والسنة دليله فما أضل سبيله وأكسف باله وأسوأ حاله. حدثنا إسماعيل بن محمد الصفار، قال: حدثنا أحمد بن الوليد الفحام، قال: حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: حدثنا أبو عبيدة الناجي، أنه سمع الحسن يقول: قال قوم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنا لنحب ربنا عز وجل فأنزل الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ¬

(¬1) هكذا وقع بالأصل، فإما أن هناك سقط، أو أنها زائدة والسياق بدونها مستقيم، والله أعلم. (¬2) كذا بالأصل ولعل الصواب، والله أعلم: "لا يعلمها". (¬3) المائدة الآية (41).

وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)} (¬1) فجعل الله عز وجل اتباع نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - علماً لمحبته، وأكذب من خالفه. ثم جعل على كل قول دليلاً من عمل يصدقه ومن عمل يكذبه، يعلم نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين من عبادة الإيمان: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)} (¬2) فأعلمه في هذه الآية أن الإيمان بالله هو الإيمان بما أنزل عليه وبما أنزل من قبله على رسل الله، وبما في كتبه من الشرائع والأحكام والفرائض، وأن ذلك هو الإيمان والإسلام، ثم قال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} (¬3)، ففي هذا دليل على أن الإيمان قول وعمل ليس ينفصل الإسلام من العمل في هذه الآية، وذلك أن الله عز وجل قد أخبرنا أنه ليس يقبل قولاً إلا بعمل. قال الله عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (¬4) فأخبرنا عز وجل أنه لا يقبل قولاً طيباً إلا بعمل صالح، أو عملاً صالحاً إلا بقول طيب، لأنه قال في آية ¬

(¬1) آل عمران الآية (31). (¬2) البقرة الآية (136). (¬3) آل عمران الآية (85). (¬4) فاطر الآية (10) ..

أخرى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (¬1) فلا قول أزكى ولا أطيب من التوحيد، ولا عمل أصلح ولا أفضل من أداء الفرائض واجتناب المحارم. فإذا قال قولاً حسناً أو عمل عملاً حسناً رفع الله قوله بعمله، وإذا قال قولاً حسناً وعمل عملاً سيئاً رد الله قوله على العمل وذلك في كتاب الله عز وجل، فأنزل الله عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (¬2). (¬3) - وقال رحمه الله: وحسبك من كتاب الله عز وجل بآية جمعت كل قول طيب وكل عمل صالح قوله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} (¬4). فإنه جمع في هذه الآية القول والعمل والإخلاص والطاعة لعبادته وطاعته والإيمان به وبكتبه وبرسله وما كانوا عليه من عبادة الله وطاعته، فهل للعبادة التي خلق الله العباد لها عمل غير عمل من الإيمان، فالعبادة من الإيمان هي أو من غير الإيمان؟ فلو كانت العبادة التي خلقهم الله لها قولاً بغير عمل لما أسماها عبادة ولسماها قولاً، ولقال: وما خلقت الجن والإنس إلا ليقولون، وليس يشك العقلاء أن العبادة خدمة، وأن الخدمة عمل، وأن العامل مع الله عز وجل إنما عمله أداء الفرائض واجتناب المحارم ¬

(¬1) النحل الآية (97). (¬2) فاطر الآية (10). (¬3) الإبانة (2/ 6/787 - 792). (¬4) الذاريات الآية (56).

وطاعة الله فيما أمر به من شرائع الدين وأداء الفرائض. قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ((77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} (¬1) الآية، فهل يخفى على ذي لب سمع هذا الخطاب الذي نزل به نص الكتاب أن اسم الإيمان قد انتظم التصديق بالقول والعمل والمعرفة؟ قال الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} (¬2) وقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} (¬3) وقال: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)} (¬4) وإقام الصلاة هو العمل، وهو الدين الذي أرسل به المرسلين وأمر به المؤمنين، فما ظنكم رحمكم الله بمن يقول: إن الصلاة ليست ¬

(¬1) الحج الآيتان (77و78). (¬2) الأنبياء الآية (25). (¬3) الأنعام الآيتان (162و163) .. (¬4) الأنعام الآيتان (71و72).

من الإيمان، والله عز وجل يقول: {* مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)} (¬1). فجعل الله من ترك الصلاة مشركاً خارجاً من الإيمان، لأن هذا الخطاب للمؤمنين تحذير لهم أن يتركوا الصلاة فيخرجوا من الإيمان ويكونوا كالمشركين. وقال عز وجل: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)} (¬2). فقال: من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة، فلم يفرق بين الإيمان وبين الصلاة والزكاة، فمن لم يؤمن لم تنفعه الصلاة، ومن لم يصل لم ينفعه، الإيمان، واستبدل بمحل الصلاة من الإيمان ونزولها منه بالذروة العليا وأن الله عز وجل فرضها بالطهارة بالماء، فلا تجزىء الصلاة إلا بالطهارة، فلما علم الله عز وجل أن عباده يكونون بحيث لا ماء فيه وبحال لا يقدرون معها إلى استعمال الماء فرض عليهم التيمم بالتراب عوضاً من الماء، لئلا يجد أحد في ترك الصلاة مندوحة، ولا في تأخيرها عن وقتها رخصة، وكذلك فرض عليهم الصلاة في حال شدة الخوف ومبارزة العدو فأمرهم بإقامتها على الحال التي هم فيها فعلمهم كيف يؤدونها؛ فهل يكون أحد هو أعظم جهلاً وأقل علماً وأضل عن سواء السبيل ¬

(¬1) الروم الآية (31). (¬2) التوبة الآية (18).

وأشد تكذيباً لكتاب الله وسنة رسوله وسنة الإيمان وشريعة الإسلام ممن علم أن الله عز وجل قد فرض الصلاة وجعل محلها من الإيمان هذا المحل، وموضعها من الدين هذا الموضع، وألزم عباده إقامتها هذا الإلزام في هذه الأحايين، وأمر بالمحافظة والمواظبة عليها على هذه الشدائد والضرورات، فيخالف ذلك إلى اتباع هواه وإيثاره لرأيه المحدث الذي ضل به عن سواء السبيل وأضل به من اتبعه فصار ممن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين فولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً. قال الشيخ -أي ابن بطة-: فقد تلوت عليكم من كتاب الله عز وجل ما يدل العقلاء من المؤمنين أن الإيمان قول وعمل وأن من صدق بالقول وترك العمل كان مكذباً وخارجاً من الإيمان، وأن الله لا يقبل قولاً إلا بعمل ولا عملاً إلا بقول. (¬1) - وفيها أيضاً: فمن صفة أهل العقل والعلم أن يقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله لا على وجه الشك ونعوذ بالله من الشك في الإيمان، لأن الإيمان إقرار لله بالربوبية وخضوع له في العبودية وتصديق له في كل ما قال وأمر ونهى. فالشاك في شيء من هذا كافر لا محالة، ولكن الاستثناء يصح من وجهين: أحدهما نفي التزكية لئلا يشهد الإنسان على نفسه بحقائق الإيمان وكوامله، فإن من قطع على نفسه بهذه الأوصاف شهد لها بالجنة وبالرضاء وبالرضوان، ومن شهد لنفسه بهذه الشهادة كان خليقاً بضدها، أرأيت لو أن ¬

(¬1) الإبانة (2/ 6/792 - 795).

رجلاً شهد عند بعض الحكام على شيء تافه نزر، فقال له الحاكم: لست أعرفك ولكني أسأل عنك ثم أسمع شهادتك، فقال له: إنك لن تسأل عني أعلم بي مني، أنا رجل زكي عدل مأمون رضي جائز الشهادة ثابت العدالة. أليس كان قد أخبر عن نفسه بضعف بصيرته وقلة عقله بما دل الحاكم على رد شهادته وأغناه عن المسألة عنه؟ فما ظنك بمن قطع على نفسه بحقائق الإيمان التي هي من أوصاف النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحكم لنفسه بالخلود في جنات النعيم. ويصح الاستثناء أيضاً من وجه آخر يقع على مستقبل الأعمال ومستأنف الأفعال وعلى الخاتمة وبقية الأعمار، ويريد أني مؤمن إن ختم الله لي بأعمال المؤمنين، وإن كنت عند الله مثبتاً في ديوان أهل الإيمان، وإن كان ما أنا عليه من أفعال المؤمنين أمراً يدوم لي ويبقى علي حتى ألقى الله به، ولا أدري هل أصبح وأمسي على الإيمان أم لا؟ وبذلك أدب الله نبيه والمؤمنين من عباده. قال تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (¬1) فأنت لا يجوز لك إن كنت ممن يؤمن بالله وتعلم أن قلبك بيده يصرفه كيف شاء أن تقول قولاً جزماً حتماً إني أصبح غداً مؤمناً ولا تقول إني أصبح غداً كافراً ولا منافقاً إلا أن تصل كلامك بالاستثناء فتقول إن شاء الله. فهكذا أوصاف العقلاء من المؤمنين. حدثنا أبو الحسين إسحاق بن أحمد الكاذي، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا عبد الملك بن عمرو، قال: حدثنا موسى ¬

(¬1) الكهف الآيتان (23و24).

-يعني ابن علي- عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: ما أحب أن أحلف لا أصبح كافراً ولا أمسي كافراً. وقال رحمه الله: والاستثناء أيضاً يكون على اليقين. قال الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ} (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إني لأرجو أن أكون أتقاكم لله» (¬2). ومر - صلى الله عليه وسلم - بأهل القبور فقال: «وإنا بكم إن شاء الله لاحقون» (¬3)، وهو يعلم أنه ميت لا محالة. ولكن الله تعالى بذلك أدب أنبياءه وأولياءه أن لا يقولوا قولا أملوه وخافوه وأحبوه أو كرهوه إلا شرطوا مشيئة الله فيه. قال إبراهيم خليل الرحمن - صلى الله عليه وسلم -: {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} (¬4). وقال شعيب عليه السلام: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} (¬5). فهذا طريق الأنبياء والعلماء والعقلاء وجميع من مضى من السلف والخلف والمؤمنين من الخلف الذين جعل الله عز وجل الاقتداء بهم هداية وسلامة واستقامة وعافية من الندامة. (¬6) ¬

(¬1) الفتح الآية (27). (¬2) أحمد (6/ 67) ومسلم (2/ 781/1110) وأبو داود (2/ 782 - 783/ 2389) والنسائي في الكبرى (6/ 462/11500) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬3) مسلم (2/ 669/974) وأبو داود (3/ 558 - 559/ 3237)، وغيرهما من حديث عائشة. وفي الباب عن أبي هريرة وبريدة الأسلمي رضي الله عنهما. (¬4) الأنعام الآية (80). (¬5) الأعراف الآية (89). (¬6) الإبانة (2/ 7/864 - 867).

موقفه من القدرية:

موقفه من القدرية: - قال ابن بطة: الباب الثاني في ذكر ما أعلمنا الله تعالى في كتابه أنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء وأنه لا يهتدي بالمرسلين والكتب والآيات والبراهين إلا من سبق في علم الله أنه يهديه. -ثم ساق رحمه الله مجموعة من الآيات في بيان ذلك- ثم قال: ففي كل هذه الآيات يعلم الله عز وجل عباده المؤمنين أنه هو الهادي المضل، وأن الرسل لا يهتدي بها إلا من هداه الله، ولا يأبى الهداية إلا من أضله الله، ولو كان من اهتدى بالرسل والأنبياء مهتدياً بغير هدايته؛ لكان كل من جاءهم المرسلون مهتدين لأن الرسل بعثوا رحمة للعالمين، ونصيحة لمن أطاعهم من الخليقة أجمعين، فلو كانت الهداية إليهم؛ لما ضل أحد جاءوه. أما سمعت ما أخبرنا مولانا الكريم من نصيحة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وحرصه على إيماننا حين يقول: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} (¬1)، وبالذي أخبرنا به عن خطاب نوح عليه السلام لقومه: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)} (¬2). هذا من أحكام الله وعدله الذي لا يجوز لأحد أن يتفكر فيه ولا يظن فيه بربه غير العدل، وأن يحمل ما جهله من ذلك على ¬

(¬1) التوبة الآية (128). (¬2) هود الآية (34).

نفسه ولا يقول كيف بعث الله عز وجل نوحاً إلى قومه وأمره بنصيحتهم ودلالتهم على عبادته والإيمان به وبطاعته، والله يغويهم ويحول بينهم وبين قبول ما جاء به نوح إليهم عن ربه؛ حتى كذبوه وردوا ما جاء به، ولقد حرص نوح في هداية الضال من ولده، ودعا الله أن ينجيه من أهله؛ فما أجيب، وعاتبه الله في ذلك بأغلظ العتاب، حين قال نوح: {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} (¬1)، فقال الله عز وجل: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)} (¬2). وذلك أن ابن نوح كان ممن سبقت له من الله الشقوة، وكتب في ديوان الضلال الأشقياء، فما أغنت عنه نبوة أبيه ولا شفاعته فيه؛ فنحمد ربنا أن خصنا بعنايته، وابتدأنا بهدايته من غير شفاعة شافع ولا دعوة داع، وإياه نسأل أن يتم ما به ابتدأنا، وأن يمسكنا بعرى الدين الذي إليه هدانا، ولا ينزع منا صالحاً أعطانا. (¬3) - وقال رحمه الله: وفرض على المسلمين أن يؤمنوا ويصدقوا بأن علم الله عز وجل قد سبق ونفذ في خلقه قبل أن يخلقهم؛ كيف يخلقهم، وماذا هم عاملون، وإلى ماذا هم صائرون؛ فكتب ذلك في اللوح المحفوظ وهو أم الكتاب، ويصدق ذلك قوله عز وجل: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَن اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ¬

(¬1) هود الآية (45) .. (¬2) هود الآية (46). (¬3) الإبانة) 1/ 8/264 - 265).

السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} (¬1). يقول: أحصى ما هو كائن قبل أن يكون؛ فخلقهم على ذلك العلم السابق فيهم، ثم أرسل بعد العلم بهم والكتاب الرسل إلى بني آدم يدعونهم إلى توحيد الله وطاعته، وينهونهم عن الشرك بالله ومعصيته، يدلك على تصديق ذلك قوله عز وجل لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} (¬2) فالرسل في الظاهر تدعوهم إلى الله وتأمرهم بعبادته وطاعته، ثم أرسل الشياطين على الكافرين يدعونهم إلى الشرك والمقام على الكفر والمعاصي، كل ذلك ليتم ما علم، ولا يكون إلا ما أمر؛ فسبحان من جعل هذا هكذا وحجب قلوب الخلق ومنعهم على مراده في ذلك وجعله سره المخزون وعلمه المكتوم. ويصدق ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)} (¬3). وقال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ ¬

(¬1) الحج الآية (70). (¬2) الأنبياء الآية (25). (¬3) مريم الآية (83).

بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} (¬1). أما ترى كيف أعلمنا أن السحر كفر، وأنه أنزله على هاروت وماروت وجعلهما فتنة ليكفر من كتبه كافراً بفتنتهما، وأن السحر الذي يعلمانه الناس كفر، وأنه لا يضر أحداً؛ إلا من قد أذن الله أن يضره السحر، وذلك عدل منه سبحانه. وقال عز وجل: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)} (¬2) وقال تعالى: {* وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)} (¬3). وقال عز وجل: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)} (¬4). قال ابن بطة: فقد أخبرنا الله عز وجل في كتابه وعلى لسان رسوله أنه يرسل الشياطين فتنة للكافرين الذين حق عليهم القول ومن سبقت عليه الشقوة حتى يؤزوهم أزّاً، ويحرضوهم على الكفر تحريضاً، ويزينوا لهم سوء أعمالهم، وكذلك أخبرنا أنه هو تعالى فتن قوم ¬

(¬1) البقرة الآية (102). (¬2) الصافات الآيتان (162و163). (¬3) فصلت الآية (25). (¬4) الزخرف الآيتان (36و37).

موسى حتى عبدوا العجل وضلوا عن سواء السبيل. وقال عز وجل: {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)} (¬1). وقال عز وجل: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (¬2). وقال عز وجل: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)} (¬3). وقال: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} (¬4). قال ابن بطة: فهذا كلام الله عز وجل وإخباره عن فعله في خلقه، يعلمهم أن المفتون من فتنه، والهادي من هداه، والضال من أضله وحال بينه وبين الهدى، وأن الشياطين هو خلقها وسلطها، والسحر هو أنزله على السحرة، وأنه لا يضر أحداً إلا بإذنه؛ فتعس عبد وانتكس سمع هذا الكلام الفصيح الذي جاء به الرسول الصادق عليه السلام من كتاب ربه الناطق فيتصامم عنه ويتغافل، ويتمحل لآرائه وأهوائه المقاييس بالكلام المزخرف والقول المحرف؛ ابتغاء الفتنة وحب الأتباع والأشياع، {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)} (¬5).اهـ (¬6) ¬

(¬1) طه الآية (85). (¬2) الأنبياء الآية (35). (¬3) الأعراف الآية (168). (¬4) غافر الآية (37). (¬5) النحل الآية (25). (¬6) الإبانة (1/ 8/267 - 271).

- وقال رحمه الله: فالقدرية المخذولة يسمعون هذا وأضعافه، ويتلونه ويتلى عليهم؛ فتأبى قلوبهم قبوله، ويردونه كله ويجحدونه بغياً وعلواً وأنفة من الحق، وتكبرا على الله عز وجل وعلى كتابه وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى سنته، وللشقوة المكتوبة عليهم؛ فهم لا يسمعون إلا ما وافق أهواءهم، ولا يصدقون من كتاب الله ولا من سنة نبيه؛ إلا ما استحسنته آراؤهم، فهم كما قال الله عز وجل: {* وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)} (¬1)، هم كما قال عز وجل: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)} (¬2) وهكذا القدري الخبيث الذي قد سلط الله عليه الشياطين، يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون، تزجره بكتاب الله تعالى؛ فلا ينزجر، وسنة رسول الله؛ فلا يذكر. وبقول الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين؛ فلا ينحسر، وتضرب له الأمثال؛ فلا يعتبر، مصر على مذهبه الخبيث النجس الذي خالف فيه رب العالمين والملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين والصحابة والتابعين وجميع فقهاء المسلمين، وضارع فيه اليهود والنصارى والمجوس والصابئين؛ فلم يجد أنيساً في طريقته ولا مصاحباً على مذهبه غيرهم، أعاذنا الله وإياكم من مذاهب القدرية والأهواء الرديئة والبدع المهلكة المردية، وجعلنا وإياكم للحق مصدقين، وعن الباطل حائدين، وثبتنا ¬

(¬1) الأنعام الآية (111). (¬2) البقرة الآية (171).

وإياكم على الدين الذي رضيه لنفسه واختص به من أحبه من عباده، الذين علموا أن قلوبهم بيده، وهممهم وحركاتهم في قبضته؛ فلا يهمون ولا يتنفسون إلا بمشيئته، فهم فقراء إليه في سلامة ما خولهم من نعمه، {تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (¬1) كما أمرهم به من مسألته. {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} (¬2).اهـ (¬3) - وقال رحمه الله: فلو كان الأمر كما تزعم القدرية؛ كانت الحجة قد ظهرت على نوح من قومه، ولقالوا له: إن كان الله هو الذي يريد أن يغوينا؛ فلم أرسلك إلينا، ولم تدعونا إلى خلاف مراد الله لنا؟ ولو كان الأمر كما تزعم هذه الطائفة بقدر الله ومشيئته في خلقه وتزعم أنه يكون ما يريده العبد الضعيف الذليل لنفسه، ولا يكون ما يريده الرب القوي الجليل لعباده؛ فلم حكى الله عز وجل ما قاله نوح لقومه مثنياً عليه وراضياً بذلك من قوله؟ وقال شعيب عليه السلام: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} (¬4). ثم قال شعيب في موضع ¬

(¬1) الأنعام الآية (63). (¬2) آل عمران الآية (8). (¬3) الإبانة (1/ 8/282 - 283). (¬4) الأعراف الآية (89).

آخر: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} (¬1). وقال إبراهيم عليه السلام في محاجته لقومه: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)} (¬2). وقال أيضاً فيما حكاه عن إبراهيم وشدة خوفه وإشفاقه على نفسه وولده أن يبلى بعبادة الأصنام: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)} (¬3). وقال فيما أخبر عن يوسف عليه السلام، ولجئه إلى ربه، وخوفه الفتنة على نفسه إن لم يكن هو المتولي لعصمته: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)} (¬4)، قال الله عز وجل: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)} (¬5). ثم أخبرنا تعالى أن العصمة في البداية وإلهامه إياه الدعوة، كانت بالعناية ¬

(¬1) هود الآية (88). (¬2) الأنعام الآية (80). (¬3) إبراهيم الآية (35). (¬4) يوسف الآية (33). (¬5) يوسف الآية (34).

من مولاه الكريم به؛ فقال: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)} (¬1)، وقال عز وجل فيما أخبر عن موسى حين دعا على فرعون وقومه بأن لا يؤمنوا وعن استجابته له وإعطائه ما سأل: {رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)} (¬2)، قال الله تعالى: {قد أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا} (¬3). وقال فيما أعلمه لنوح بكفر قومه وتكذيبهم له: {وأوحى إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)} (¬4). وقال تعالى فيما أخبر عن أهل النار واعترافهم بأن الهداية من الله عز وجل؛ فقال: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ ¬

(¬1) يوسف الآية (24). (¬2) يونس الآية (88). (¬3) يونس الآية (89). (¬4) هود الآية (36).

عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ} (¬1). فاعترف أهل النار بأن الله عز وجل منعهم الهداية، وأنه لو هداهم اهتدوا؛ فاسمعوا رحمكم الله إلى كتاب ربكم، وانظروا هل تجدون فيه مطمعاً لما تدعيه القدرية عليه من نفي القدرة والمشيئة والإرادة عنه وإضافة القدرة والمشيئة إلى أنفسهم، وتفهموا قول الأنبياء لقومهم وكلام أهل النار واعتذار بعضهم إلى بعض بمنع الله الهداية لهم، والله عز وجل يحكي ذلك كله عنهم غير مكذب لهم ولا راد ذلك عليهم. واعلموا رحمكم الله أن الله عز وجل أرسل رسله مبشرين ومنذرين وحجة على العالمين، فمن شاء الله تعالى له الإيمان؛ آمن، ومن شاء الله أن يكفر؛ كفر، فلم يجب الرسل إلى دعوتهم ولم يصدقهم برسالتهم إلا من كان في سابق علم الله أنه مرحوم مؤمن، ولم يكذبهم ويرد ما جاءوا به إلا من قد سبق في علم الله أنه شقي كافر، وعلى ذلك جميع أحوال العباد صغيرها وكبيرها، كلها مثبتة في اللوح المحفوظ والرق المنشور قبل خلق الخلق؛ فالأنبياء ليس يهتدي بدعوتهم ولا يؤمن برسالتهم إلا من كان في سابق علم الله أنه مؤمن بهم، ولقد حرص الأنبياء وأحبوا الهداية والإيمان لقوم من أهاليهم وآبائهم وأبنائهم وذوي أرحامهم؛ فما اهتدى منهم إلا من كتب الله له الهداية والإيمان، ولقد عوتبوا في ذلك بأشد العتب، وحسبك بقول نوح عليه السلام: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} (¬2)، وبجواب الله ¬

(¬1) إبراهيم الآية (21). (¬2) هود الآية (45).

عز وجل: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)} (¬1). ثم أخبرنا بجملة دعوة المسلمين، وبماذا كانت الإجابة من قومهم أجمعين، فقال عز وجل في سورة النحل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)} (¬2). ثم عزى نبيه - صلى الله عليه وسلم - في حرصه على هداية قومه بقوله: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)} (¬3)، فمن خذله الله بالمعصية؛ فمن ذا الذي نصره بالطاعة؟ ثم قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)} (¬4). وقال له أيضاً: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ ¬

(¬1) هود الآية (46). (¬2) النحل الآية (36). (¬3) النحل الآية (37). (¬4) القصص الآية (56).

يُؤْمِنُونَ (188)} (¬1). وقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (¬2). فكل هذا يدل العقلاء ويؤمن المؤمنين من عباد الله والعلماء أن الأنبياء إنما بعثوا مبشرين ومنذرين حجة على العالمين، وأن من شاء الله له الإيمان؛ آمن ومن لم يشأ له الإيمان؛ لم يؤمن، وأن ذلك كله مفروغ منه، قد علم ربنا عز وجل المؤمن من الكافر والمطيع من العاصي والشقي من السعيد، وكتب لقوم الإيمان بعد الكفر؛ فآمنوا، ولقوم الكفر بعد الإيمان؛ فكفروا، والطاعة بالتوبة بعد المعصية؛ فتابوا، وعلى آخرين الشقوة؛ فكفروا، فماتوا على كفرهم، وكل ذلك في إمام مبين. (¬3) - وقال رحمه الله: فجميع ما قد ذكرته لك واجب على المسلمين معرفته والإيمان به، والإذعان لله عز وجل والإقرار له بالعلم والقدرة، وأنه ليس شيء كان ولا هو كائن إلا وقد علمه الله عز وجل قبل كونه ثم كان بمشيئة الله وقدرته، فمن زعم أن الله عز وجل شاء لعباده الذين جحدوه وكفروا به وعصوه الخير والإيمان به والطاعة له، وأن العباد شاؤوا لأنفسهم الشر والكفر والمعصية، فعملوا على مشيئتهم في أنفسهم واختيارهم لها خلافا لمشيئته فيهم فكان ما شاؤوا ولم يكن ما شاء الله؛ فقد زعم أن مشيئة العباد أغلب من مشيئة الله وأنهم أقدر على ما يريدون منه على ما يريد؛ فأي افتراء ¬

(¬1) الأعراف الآية (188). (¬2) إبراهيم الآية (4). (¬3) الإبانة (1/ 8/287 - 292).

على الله يكون أكثر من هذا؟ ومن زعم أن أحداً من الخلق صائر إلى غير ما خلق له وعلمه الله منه؛ فقد نفى قدرة الله عز وجل عن خلقه، وجعل الخلق يقدرون لأنفسهم على ما لا يقدر الله عليه منهم، وهذا إلحاد وتعطيل وإفك على الله عز وجل وكذب وبهتان، ومن زعم أن الزنا ليس بقدر؛ قيل له: أرأيت هذه المرأة التي حملت من الزنا وجاءت بولدها؛ هل شاء الله أن يخلق هذا الولد، وهل مضى هذا في سابق علم الله، وهل كان في الذرية التي أخذها عز وجل من ظهر آدم؟ فإن قال: لا، فقد زعم أن مع الله خالقاً غيره وإلها آخر، وهذا قول يضارع الشرك، بل هو الشرك الصارح، تعالى الله عما تقول الملحدة القدرية علوّاً كبيراً، ومن زعم أن السرقة وشرب الخمر وأكل مال الحرام ليس بقضاء وقدر من الله؛ لقد زعم أن هذا الإنسان قادر على أن يأكل رزق غيره، وأن ما أخذه وأكله وملكه وتصرف فيه من أحوال الدنيا وأموالها؛ كان إليه وبقدرته؛ يأخذ منها ما يشاء، ويدع ما يشاء، ويعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، إن شاء أغنى نفسه؛ أغناها، وإن شاء أن يفقرها؛ أفقرها، وإن أحب أن يكون ملكاً؛ كان، وإن أحب غير ذلك؛ كان، وهذا قول يضارع قول المجوسية، بل ما كانت تقوله الجاهلية، لكنه أكل رزقه، وقضى الله له أن يأكله من الوجه الذي أكله. ومن زعم أن قتل النفس ليس بقدر؛ فقد زعم أن المقتول مات بغير أجله، وأن الله عز وجل كتب للمقتول أجلا علمه وأحصاه وشاء وأراده، وأن قاتله شاء أن يفني عمره ويقطع أجله قبل بلوغ مدته وإحصاء عدته؛ فكان ما أراده القاتل، وبطل ما أحصاه الله وكتبه وعلمه؛ فأي كفر يكون أوضح وأقبح وأنجس وأرجس من هذا؟ بل

ذلك كله بقضاء الله وقدره، وكل ذلك بمشيئته في خلقه وتدبيره فيهم، قد وسعه علمه وأحصاه وجرى في سابق علمه ومسطور كتابه، وهو العدل الحق يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} (¬1) ولا يقال لما فعله وقدره وقضاه كيف؟ ولا لم؟ فمن جحد أن الله عز وجل قد علم أفعال العباد وكل ما هم عاملون؛ فقد ألحد وكفر، ومن أقر بالعلم؛ لزمه الإقرار بالقدر والمشيئة على الصغر منه و (القما)؛ فالله الضار، النافع، المضل، الهادي؛ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، ولا منازع له في أمره، ولا شريك له في ملكه، ولا غالب له في سلطانه خلافا للقدرية الملحدة. (¬2) - وقال رحمه الله: اعلموا رحمكم الله أن القدرية أنكروا قضاء الله وقدره، وجحدوا علمه ومشيئته، وليس لهم فيما ابتدعوه ولا في عظيم ما اقترفوه كتاب يؤمونه، ولا نبي يتبعونه، ولا عالم يقتدون به، وإنما يأتون فيما يفترون بأقوال عن أهوائهم مخترعة وفي أنفسهم مبتدعة؛ فحجتهم داحضة وعليهم غضب ولهم عذاب شديد، يشبهون الله بخلقه، ويضربون لله الأمثال، ويقيسون أحكامه بأحكامهم، ومشيئته بمشيئتهم وربما قيل لبعضهم: من إمامك فيما تنتحله من هذا المذهب الرجس النجس؛ فيدعي أن إمامه في ذلك الحسن ابن أبي الحسن البصري رحمه الله، فيضيف إلى قبيح كفره وزندقته أن يرمي إماماً من أئمة المسلمين وسيداً من ساداتهم وعالماً من ¬

(¬1) الأنبياء الآية (23). (¬2) الإبانة (2/ 9/43 - 45).

علمائهم بالكفر، ويفتري عليه البهتان ويرميه بالإثم والعدوان ليحسن بذلك بدعته عند من قد خصمه وأخزاه. (¬1) - وقال رحمه الله: فكل ما قد ذكرته لكم يا إخواني رحمكم الله؛ فاعقلوه، وتفهموه، ودينوا لله به، فهو ما نزل به الكتاب الناطق، وقاله النبي الصادق، وأجمع عليه السلف الصالح والأئمة الراشدون من الصحابة والتابعين، والعقلاء، والحكماء من فقهاء المسلمين، واحذروا مذاهب المشائيم القدرية، الذين أزاغ الله قلوبهم؛ فأصمهم وأعمى أبصارهم، وجعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه، وفي آذانهم وقرا حتى زعموا أن المشيئة إليهم، وأن الخير والشر بأيديهم، وأنهم إن شاؤوا أصلحوا أنفسهم، وإن شاؤوا أفسدوها، وأن الطاعة والمعصية إليهم، فإن شاؤوا عصوا الله وخالفوه فيما لا يشاؤه ولا يريده، حتى ما شاؤوا هم كان، وما شاء الله لا يكون، وما لا يشاؤونه لا يكون، وما لا يشاؤه الله يكون، فإن القدري الملعون لا يقول اللهم اعصمني، ولا اللهم وفقني، ولا يقول اللهم ألهمني رشدي، ولا يقول ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، ويقول: إن الله لا يزيغ القلوب ولا يضل أحداً ويجحد القرآن ويعاند الرسول ويخالف إجماع المسلمين، ولا يقول لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا يقول ما شاء الله كان وما لا يشاء لا يكون وينكر ذلك على من قاله، ويزعم أن المشيئة إليه والحول والقوة بيديه، وأنه إن شاء أطاع الله وإن شاء عصى، وإن شاء أخذ وإن شاء أعطى، وإن شاء افتقر وإن شاء استغنى. وينكر أن يكون الله عز وجل خالق الشر، وأن الله ¬

(¬1) الإبانة (2/ 10/179).

شاء أن يكون في الأرض شيء من الشر وهو يعلم أن الله خلق إبليس وهو رأس كل شر، وأن الله علم ذلك منه قبل أن يخلقه، والله تعالى يقول: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} (¬1)، والله يقول: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} (¬2)، ويقول: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} (¬3)؛ فالقدري يجحد هذا كله ويزعم أنه يعصي الله قسراً ويخالفه شاء أم أبى. (¬4) - وقال رحمه الله: فجميع ما قد رويناه في هذا الباب يلزم العقلاء الإيمان بالقدر، والرضا والتسليم لقضاء الله وقدره، وترك البحث والتنقير وإسقاط لم وكيف وليت ولولا، فإن هذه كلها اعتراضات من العبد على ربه ومن الجاهل على العالم معارضة من المخلوق الضعيف الذليل على الخالق القوي العزيز، والرضا والتسليم طريق الهدى وسبيل أهل التقوى، ومذهب من شرح الله صدره للإسلام، فهو على نور من ربه، فهو يؤمن بالقدر كله خيره وشره، وأنه واقع بمقدور الله جرى، ومن يعلم أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وسأزيد من بيان الحجة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته وعن التابعين وفقهاء المسلمين في ترك مجالسة القدرية، ومواضعتهم القول ومناظرتهم، والإعراض عنهم، ما إذا أخذ به العاقل المؤمن نفسه وتأدب به عصم إن شاء الله من فتنة القدرية، وانغلق عنه ¬

(¬1) الفلق الآية (2). (¬2) الصافات الآية (96). (¬3) التغابن الآية (2). (¬4) الإبانة (2/ 11/286 - 287).

سبكتكين (387 هـ)

باب البلية من جهتهم، فإن المجالسة لهم ومناظرتهم تعد، وتفر، وتضر، وتمرض القلوب، وتدنس الأديان، وتفسد الإيمان، وترضي الشيطان وتسخط الرحمن، إلا على سبيل الضرورة عند الحاجة من الرجل العالم العارف الذي كثر علمه وعلت فيه رتبته وغزرت معرفته ودقت فطنته؛ فذلك الذي لا بأس بكلامه لهم عند الحاجة إلى إقامة الحجة عليهم لتقريعهم وتبكيتهم وتهجينهم، وتعريفهم وحشة ما هم فيه من قبيح الضلال، وسيء المقال، وظلمة المذهب، وفساد الاعتقاد، أو لمسترشد مجد في طلب الحق حريص عليه، قد ألقى المقاليد من نفسه وأعطى أزمة قيادها، وبذل الطاعة منها يلتمس الرشاد وسبل السداد، ويرجو النجاة فذلك لا بأس بإرشاده وتوقيفه والصبر على تبصيره حتى يكشف الأغطية عن قلبه، ويخرج من أكنته، ويلزم طريق الاستقامة إلى ربه، وكل ذلك برحمة الله وتوفيقه. (¬1) سبكتكين (¬2) (387 هـ) الأمير سبكتكين حاجب معز الدولة بن بويه. كان مقامه ببلخ، وقد ابتنى بها دوراً ومساكن، وكان عادلاً خيّراً، كثير الجهاد. كانت دولته نحواً من عشرين سنة، وهي مدة جازت مدة ملك السامانية والسلجوقية. جرت بينه وبين الهنود حروب كثيرة فاتسعت بها رقعته ورسخت في النفوس هيبته. ¬

(¬1) الإبانة (2/ 11/316 - 317). (¬2) الكامل (9/ 130) ووفيات الأعيان (5/ 175 - 182) والهداية (11/ 300 - 301) والشذرات (3/ 48) والسيرج (16/ 500 - 501) والوافي بالوفيات (15/ 116) والنجوم الزاهرة (4/ 108).

موقفه من المشركين:

تولى بعده ابنه محمود. ذكر الذهبي وابن خلكان وابن الأثير وفاته سنة سبع وثمانين وثلاثمائة. وذهب الصفدي وابن كثير وابن تغري بردي إلى أنها سنة أربع وستين وثلاثمائة. موقفه من المشركين: جاء في السير: ولما أخذ طوس أخرب مشهد الرضا وقتل من يزوره. (¬1) أبو سليمان الخَطَّابِي (¬2) (388 هـ) أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستي الخطابي. الإمام العلامة الحافظ اللغوي. ولد سنة بضع عشرة وثلاثمائة. سمع من أبي سعيد بن الأعرابي ومن إسماعيل بن محمد الصفار ومن أبي بكر بن داسة. حدث عنه أبو عبد الله الحاكم وأبو حامد الإسفراييني وأبو عبيد أحمد بن محمد الهروي، وطائفة سواهم. قال السلفي: وأما أبو سليمان الشارح لكتاب أبي داود فإذا وقف منصف على مصنفاته واطلع على بديع تصرفاته في مؤلفاته، تحقق إمامته وديانته فيما يورده وأمانته. وكان يشبه في عصره بأبي عبيد القاسم بن سلام علماً وأدباً وزهداً وورعاً وتدريساً وتأليفاً. توفي رحمه الله سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة. ¬

(¬1) السير (16/ 500). (¬2) وفيات الأعيان (2/ 214 - 216) وتذكرة الحفاظ (3/ 1018 - 1020) والبداية والنهاية (11/ 346) وشذرات الذهب (3/ 127 - 128) والسير (17/ 23 - 28).

موقفه من المبتدعة والجهمية:

موقفه من المبتدعة والجهمية: قال الخطابي: عصمنا الله وإياك من الأهواء المضلة، والآراء المغوية، والفتن المحيرة، ورزقنا وإياك الثبات على السنة والتمسك بها، ولزوم الطريقة المستقيمة التي درج عليها السلف، وانتهجها بعدهم صالحوا الخلف، وجنبنا وإياك مداحض البدع، وبنيات طرقها العادلة عن نهج الحق وسواء الواضحة، وأعاذنا وإياك عن حيرة الجهل وتعاطي الباطل، والقول بما ليس لنا به علم، والدخول فيما لا يعنينا والتكلف لما قد كفينا الخوض فيه، ونهينا عنه، ونفعنا وإياك بما علمنا، وجعله سببا لنجاتنا، ولا جعله وبالا علينا برحمته. وقفت على مقالتك، وما وصفته من أمر ناحيتك، وظهور ما ظهر بها من مقالات أهل الكلام، وخوض الخائضين فيها، وميل بعض منتحلي السنة إليها واغترارهم بها، واعتذارهم في ذلك بأن الكلام وقاية للسنة، وجنة لها يذب به عنها، ويذاد بسلاحه عن حريمها، وفهمت ما ذكرت من ضيق صدرك بمجالستهم، وتعذر الأمر عليك في مفارقتهم، لأن موقفك بين أن تسلم لهم ما يدعونه من ذلك فتقبله، وبين أن تقابلهم على ما يزعمونه فترده وتنكره، وكلا الأمرين يصعب عليك، أما القبول فلأن الدين يمنعك منه، ودلائل الكتاب والسنة تحول بينك وبينه، وأما الرد والمقابلة فلأنهم يطالبونك بأدلة العقول، ويؤاخذونك بقوانين الجدل، ولا يقنعون منك بظواهر الأمور، وسألتني أن أمدك بما يحضرني في نصرة الحق من علم وبيان، وفي رد مقالة أولئك من حجة وبرهان، وأن أسلك في ذلك طريقة لا يمكنهم ردها، ولا يسوغ لهم من جهة المعقول إنكارها، فرأيت إسعافك به لازماً في حق الدين،

وواجب النصيحة لجماعة المسلمين، وأنا أسأل الله أن يوفق لما ضمنت لك منه، وأن يعصم من الزلل فيه، واعلم يا أخي أن هذه الفتنة قد عمت اليوم، وشملت وشاعت في البلاد واستفاضت، ولا يكاد يسلم من رهج غبارها إلا من عصمه الله، وذلك مصداق قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الدين بدأ غريباً وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء» (¬1). قال: فنحن اليوم في ذلك الزمان وبين أهله، فلا تنكر ما تشاهده منه، وسل الله العافية من البلاء، واحمده على ما وهب لك من السلامة، ثم إني تدبرت هذا الشأن فوجدت عظم السبب فيه أن الشيطان صار بلطيف حيلته يسول لكل من أحس من نفسه بفضل ذكاء وذهن، يوهمه أنه إن رضي في علمه ومذهبه بظاهر من السنة، واقتصر على واضح بيان منها كان أسوة العامة، وعد واحداً من الجمهور والكافة فإنه قد ضل فهمه واضمحل لفظه وذهنه فحركهم بذلك على التنطع في النظر، والتبدع بمخالفة السنة والأثر، ليبينوا بذلك عن طبقة الدهماء، ويتميزوا في الرتبة عمن يرونه دونهم في الفهم والذكاء، واختدعهم بهذه المقدمة حتى استزلهم عن واضح المحجة، وأورطهم في شبهات تعلقوا بزخارفها، وتاهوا عن حقائقها، ولم يخلصوا منها إلى شفاء نفس، ولا قبلوها بيقين علم، ولما رأوا كتاب الله تعالى ينطق بخلاف ما انتحلوه، ويشهد عليهم بباطل ما اعتقدوه، ضربوا بعض آياته ببعض وتأولوها على ما سنح لهم في عقولهم، واستوى عندهم على ما وضعوه من أصولهم، ونصبوا العداوة لأخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولسننه المأثورة عنه، وردوها ¬

(¬1) تقدم تخريجه. انظر مواقف علي بن المديني سنة (234هـ).

على وجوهها وأساءوا في نقلتها القالة، ووجهوا عليهم الظنون، ورموهم بالتزندق، ونسبوهم إلى ضعف المنة، وسوء المعرفة بمعاني ما يروونه من الحديث، والجهل بتأويله، ولو سلكوا سبيل القصد ووقفوا عندما انتهى بهم التوقيف، لوجدوا برد اليقين وروح القلوب، ولكثرت البركة وتضاعف النماء، وانشرحت الصدور، ولأضاءت فيها مصابيح النور، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. واعلم أن الأئمة الماضين والسلف المتقدمين لم يتركوا هذا النمط من الكلام، وهذا النوع من النظر عجزاً عنه ولا انقطاعاً دونه، وقد كانوا ذوي عقول وافرة، وأفهام ثاقبة. وكان في زمانهم هذه الشبه والآراء، وهذه النحل والأهواء، وإنما تركوا هذه الطريقة، وأضربوا عنها لما تخوفوه من فتنتها، وحذروه من سوء مغبتها، وقد كانوا على بينة من أمرهم، وعلى بصيرة من دينهم لما هداهم الله له من توفيقه، وشرح به صدورهم من نور معرفته، ورأوا أن فيما عندهم من علم الكتاب وحكمته، وتوقيف السنة وبيانها غنى ومندوحة عما سواهما، وأن الحجة قد وقعت بهما، والعلة أزيحت بمكانهما، فلما تأخر الزمان بأهله وفترت عزائمهم في طلب حقائق علوم الكتاب والسنة، وقلت عنايتهم بها، واعترضهم الملحدون بشبههم، والمتحذلقون بجدلهم، حسبوا أنهم إن لم يردوهم عن أنفسهم بهذا النمط من الكلام، ولم يدافعوهم بهذا النوع من الجدل لم يقووا ولم يظهروا في الحجاج عليهم، فكان ذلك ضلة من الرأي، وغبنا فيه وخدعة من الشيطان والله المستعان.

فإن قال هؤلاء القوم، فإنكم قد أنكرتم الكلام، ومنعتم استعمال أدلة العقول، فما الذي تعتمدون في صحة أصول دينكم، ومن أي طريق تتوصلون إلى معرفة حقائقها، وقد علمتم أن الكتاب لم يعلم حقه، والنبي لم يثبت صدقه إلا بأدلة العقول، وأنتم قد نفيتموها. قلنا: إنا لا ننكر أدلة العقول، والتوصل بها إلى المعارف، ولكنا لا نذهب في استعمالها إلى الطريقة التي سلكتموها في الاستدلال بالأعراض، وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها على حدوث العالم، وإثبات الصانع، ونرغب عنها إلى ما هو أوضح بيانا، وأصح برهانا، وإنما هو شيء أخذتموه عن الفلاسفة، وإنما سلكت الفلاسفة هذه الطريقة، لأنهم لا يثبتون النبوات، ولا يرون لها حقيقة، فكان أقوى شيء عندهم في الدلالة على إثبات هذه الأمور ما تعلقوا به من الاستدلال بهذه الأشياء. فأما مثبتو النبوات فقد أغناهم الله عز وجل عن ذلك، وكفاهم كلفة المؤنة في ركوب هذه الطريقة المنعرجة التي لا يؤمن العنت على راكبها، والإبداع والانقطاع على سالكها. وبيان ما ذهب إليه السلف من أئمة المسلمين رحمة الله عليهم في الاستدلال على معرفة الصانع، وإثبات توحيده وصفاته، وسائر ما ادعى أهل الكلام أنه لا يتوصل إليه إلا من الوجه الذي يزعمونه، هو أن الله سبحانه لما أراد إكرام من هداه لمعرفته بعث رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - إليهم بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. وقال له: {* يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ

إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الوداع وفي مقامات له شتى، وبحضرته عامة أصحابه رضوان الله عليهم: «ألا هل بلغت» (¬2)، وكان ما أنزل الله وأمر بتبليغه هو كمال الدين وتمامه لقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (¬3). فلم يترك - صلى الله عليه وسلم - شيئاً من أمور الدين، قواعده وأصوله وشرائعه وفصوله إلا بينه، وبلغه على كماله وتمامه، ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه، إذ لا خلاف بين فرق الأمة أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال. ومعلوم أن أمر التوحيد وإثبات الصانع لا تبرح فيهما الحاجة راهنة أبدا في كل وقت وزمان، ولو أخر فيهما البيان لكان قد كلفهم ما لا سبيل لهم إليه. وإذا كان الأمر على ما قلنا فقد علمنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدعهم في هذه الأمور إلى الاستدلال بالأعراض، وتعلقها بالجواهر، وانقلابها إذ لا يمكن أحداً من الناس أن يروي في ذلك عنه، ولا عن واحد من أصحابه من هذا النمط حرفاً واحداً فما فوقه، لا من طريق تواتر ولا آحاد علم أنهم قد ذهبوا خلاف مذاهب هؤلاء، وسلكوا غير طريقتهم. (¬4) ¬

(¬1) المائدة الآية (67). (¬2) أخرجه: أحمد (5/ 37) والبخاري (1/ 265/105) ومسلم (3/ 1305 - 1306/ 1679) من حديث أبي بكرة. (¬3) المائدة الآية (3). (¬4) الحجة في بيان المحجة (1/ 371 - 376).

موقفه من المشركين:

موقفه من المشركين: قال الخطابي: لا أعلم أحداً من المسلمين اختلف في وجوب قتله. أي: سابّ النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) له من الآثار السلفية: 'الغنية عن الكلام وأهله' وقد ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في 'درء التعارض' في غير ما موضع وكذا في مجموع الفتاوى والسيوطي في 'صون المنطق' وهو عظيم في بابه ونقل منه جملة طيبة. انظر صون المنطق من الصفحة 91 إلى الصفحة 101. موقفه من المؤولة وغيرهم: - قال في الغنية: فأما ما سألت عنه من الصفات، وما جاء منها في الكتاب والسنة، فإن مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها، وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله، وحققها قوم من المثبتين فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف، وإنما القصد في سلوك الطريقة المستقيمة بين الأمرين ودين الله تعالى بين الغالي فيه والجافي والمقصر عنه. والأصل في هذا: أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، ويحتذى في ذلك حذوه ومثاله. فإذا كان معلوماً أن إثبات الباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف. فإذا قلنا يد وسمع، وبصر وما أشبهها فإنما هي صفات أثبتها الله لنفسه، ولسنا نقول: إن معنى اليد القوة أو النعمة. ¬

(¬1) الصارم (9).

ولا معنى السمع والبصر العلم، ولا نقول إنها جوارح، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار، التي هي جوارح وأدوات للفعل، ونقول: إن القول إنما وجب بإثبات الصفات، لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها، لأن الله ليس كمثله شيء، وعلى هذا جرى قول السلف في أحاديث الصفات. (¬1) قلت: وعلى هذا جرى الخطابي في باب الأسماء والصفات، إلا أنه أحيانا ينحو منحى الخلف في التأويل لبعض الصفات، كصفة الأصبع والفرح والضحك والعجب. - وفيها عنه قال: فهذا قولهم ورأيهم في عامة السلف وجمهور الأئمة وفقهاء الخلف، فلا تشتغل -رحمك الله- بكلامهم، ولا تغتر بكثرة مقالاتهم، فإنها سريعة التهافت، كثيرة التناقض، وما من كلام تسمعه لفرقة منهم إلا ولخصومهم عليه كلام يوازيه، أو يقاربه، فكل بكل معارض، وبعض ببعض مقابل، وإنما يكون تقدم الواحد منهم، وفلجه على خصمه بقدر حظه من البيان، وحذقه في صنعة الجدل والكلام، وأكثر ما يظهر به بعضهم على بعض إنما هو إلزام من طريق الجدل، على أصول مؤصلة لهم، ومناقضات على مقالات حفظوها عليهم، فهم يطالبونهم بعودها وطردها، فمن تقاعد عن شيء منها سموه من طريق الجدل منقطعاً، وجعلوه مبطلاً، وحكموا بالفلج لخصمه عليه، والجدل لا يبين به حق، ولا تقوم به حجة. وقد يكون الخصمان على مقالتين مختلفتين كلتاهما باطل ويكون الحق في ثالثة غيرهما، ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (5/ 58 - 59).

موقفه من المرجئة:

فمناقضة أحدهما صاحبه غير مصحح مذهبه وإن كان مفسداً به قول خصمه، لأنهما مجتمعان معاً في الخطأ، مشتركان فيه، كقول الشاعر فيهم: حجج تهافت كالزجاج تخالها ... حقاً، وكل كاسر مكسور وإنما كان الأمر كذلك لأن واحداً من الفريقين لا يعتمد في مقالته التي ينصرها أصلاً صحيحاً، وإنما هي أوضاع وآراء تتكافأ وتتقابل، فيكثر المقال، ويدوم الاختلاف، ويقل الصواب، قال الله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} (¬1) فأخبر سبحانه أن ما كثر فيه الاختلاف فليس من عنده. وهذا من أدل الدليل على أن مذاهب المتكلمين مذاهب فاسدة، لكثرة ما يوجد فيها من الاختلاف المفضي بهم إلى التكفير والتضليل، وذلك صفة الباطل الذي أخبر الله عنه. (¬2) موقفه من المرجئة: - قال أبو سليمان: وفي هذا الحديث بيان أن الإيمان الشرعي اسم لمعنى ذي شعب وأجزاء له أعلى وأدنى، فالاسم يتعلق ببعضها كما يتعلق بكلها، والحقيقة تقتضي جميع شعبها وتستوفي جملة أجزائها كالصلاة الشرعية لها شعب وأجزاء والاسم يتعلق ببعضها كما يتعلق بكلها والحقيقة تقتضي جميع أجزائها وتستوفيها ويدل على ذلك قوله الحياء شعبة من الإيمان فأخبر أن الحياء إحدى تلك الشعب. ¬

(¬1) النساء الآية (82). (¬2) درء التعارض (7/ 313 - 314) وصون المنطق (99 - 100).

وفي هذا الباب إثبات التفاضل في الإيمان وتباين المؤمنين في درجاته. ومعنى قوله الحياء شعبة من الإيمان أن الحياء يقطع صاحبه عن المعاصي ويحجزه عنها فصار بذلك من الإيمان إذ الإيمان بمجموعه ينقسم إلى ائتمار لما أمر الله به وانتهاء عما نهى عنه. (¬1) - وقال في تعليق على قول الزهري في قوله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} (¬2) قال: نرى الإسلام الكلمة والإيمان العمل. ما أكثر ما يغلط الناس في هذه المسألة. فأما الزهري فقد ذهب إلى ما حكاه معمر عنه واحتج بالآية، وذهب غيره إلى أن الإيمان والإسلام شيء واحد، واحتج بالآية الأخرى، وهي قوله: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)} (¬3). قال: فدل ذلك على أن المسلمين هم المؤمنون إذ كان الله سبحانه قد وعد أن يخلص المؤمنين من قوم لوط وأن يخرجهم من بين ظهراني من وجب عليه العذاب منهم، ثم أخبر أنه قد فعل ذلك بمن وجده فيهم من المسلمين إنجازا للموعود، فدل الإسلام على الإيمان فثبت أن معناهما واحد وأن المسلمين هم المؤمنون. وقد تكلم في هذا الباب رجلان من كبراء أهل العلم وصار كل واحد منهما إلى مقالة من هاتين المقالتين، ورد الآخر منهما على المتقدم ¬

(¬1) معالم السنن (4/ 288). (¬2) الحجرات الآية (14). (¬3) الذاريات الآيتان (35و36).

عبيد الله بن عبد الله النضري (388 هـ)

وصنف عليه كتاباً يبلغ عدد أوراقه المائتين. قلت: والصحيح من ذلك أن يقيد الكلام في هذا ولا يطلق على أحد الوجهين. وذلك أن المسلم قد يكون مؤمناً في بعض الأحوال ولا يكون مؤمناً في بعضها، والمؤمن مسلم في جميع الأحوال، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً، وإذا حملت الأمر على هذا استقام لك تأويل الآيات واعتدل القول فيها ولم يختلف عليك شيء منها، وأصل الإيمان التصديق وأصل الإسلام الاستسلام والانقياد، فقد يكون المرء مستسلماً في الظاهر غير منقاد في الباطن، ولا يكون صادق الباطن وغير منقاد في الظاهر. (¬1) عبيد الله بن عبد الله النَّضْرِي (¬2) (388 هـ) عبيد الله بن المحدث عبد الله بن الحسين النضري، القاضي أبو القاسم المروزي، قاضي نسف. حدث عن أبيه. كان رئيساً فاضلاً، لم يقبل هدية بنسف، وكان في غاية التواضع. ناظر الكرامية وكفرهم بين يدي صاحب غزنة سبكتكين، فقيده وحبسه ثم أطلقه. توفي رحمه الله سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة. موقفه من المرجئة: جاء في السير: قال جعفر المستغفري: كان أبو القاسم عبد الله بن عبد الله بن الحسين النضري قاضي مرو ونسف صلب المذهب، فدخل ¬

(¬1) معالم السنن (4/ 290 - 291). (¬2) الأنساب (5/ 503) والجواهر المضية (2/ 497) وتاريخ الإسلام (حوادث سنة 381 - 400/ص.168).

محمد بن أحمد المالكي المعروف بابن خويزمنداد (390 هـ)

صاحب غزنة سبكتكين بلخ، ودعا إلى مناظرة الكرامية، وكان النضري يومئذ قاضياً ببلخ، فقال سبكتكين: ما تقولون في هؤلاء الزهاد الأولياء؟ فقال: النضري: هؤلاء عندنا كفرة. قال ما تقولون في؟ قال: إن كنت تعتقد مذهبهم، فقولنا فيك كذلك. فوثب، وجعل يضربهم بالدبوس حتى أدماهم، وشج النضري، وقيدهم وسجنهم، ثم أطلقهم خوف الملامة. (¬1) محمد بن أحمد المالكي المعروف بابن خويزمنداد (¬2) (390 هـ) محمد بن أحمد بن عبد الله، الفقيه أبو بكر بن خويزمنداد الإمام العالم الأصولي، صاحب أبي بكر الأبهري، له مصنفات مفيدة. قال الصفدي: وكان يجانب الكلام وينافر أهله. توفي سنة تسعين وثلاثمائة. موقفه من الجهمية: موقفه من الأشعرية وغيرهم: جاء في 'جامع بيان العلم وفضله': وقال -أي ابن خويزمنداد- في كتاب الشهادات: في تأويل قول مالك، لا تجوز شهادة أهل البدع وأهل الأهواء قال: أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعرياً كان أو غير أشعري ولا تقبل له ¬

(¬1) السير (17/ 484). (¬2) تاريخ الإسلام (حوادث 381 - 400/ص.21) والوافي بالوفيات (2/ 52) والديباج المذهب (2/ 229) وشجرة النور الزكية (1/ 103).

الوليد بن بكر العمري (392 هـ)

شهادة في الإسلام أبداً ويهجر ويؤدب على بدعته فإن تمادى عليها استتيب منها. (¬1) الوليد بن بكر العمري (¬2) (392 هـ) الوليد بن بكر العمري، بن مخلد بن أبي دبار، الحافظ اللغوي، الإمام أبو العباس الغمري «العمري» الأندلسي السرقسطي، أحد الرحالة في الحديث. حدث عن علي بن أحمد بن الخصيب بكتاب العجلي في 'معرفة الرجال' وعن الحسن بن رشيق، وغيرهما. وحدث عنه عبد الغني بن سعيد الحافظ وأبو ذر الهروي وأبو الحسن العتيقي وآخرون. قال ابن الفرضي: كان إماماً في الحديث والفقه، عالما باللغة والعربية ... وكان أبو يعلى الفارسي يرفعه ويثني عليه. قال الخطيب: كان ثقة أميناً كثير السماع، سافر الكثير. توفي بالدينور في رجب سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة. موقفه من الرافضة: قال الحسن بن شريح: هو عمري ولكنه دخل إفريقية وبقي ينقط العين -أي يكتبها غمري بغين معجمة- حتى يسلم -يعني من دولة الرفض. ¬

(¬1) جامع بيان العلم (2/ 943) والفتاوى الكبرى (5/ 248). (¬2) تاريخ بغداد (13/ 481) وتذكرة الحفاظ (3/ 1080 - 1081) وتاريخ الإسلام (حوادث 381 - 400/ص.276 - 277) وشذرات الذهب (3/ 141) والسير (17/ 65 - 67).

ابن أبي شريح (392 هـ)

قال: وهو مؤدبي، وقال: إذا رجعت إلى الأندلس جعلت النقطة التي على العين ضمة. (¬1) ابن أبي شُرَيْح (¬2) (392 هـ) الإمام المحدث عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن أحمد بن يحيى، أبو محمد الأنصاري الهروي، ابن أبي شريح، سيد خراسان في زمانه. ولد بعد الثلاثمائة. وسمع أبا القاسم البغوي ومحمد بن عقيل البلخي ويحيى بن صاعد وإسماعيل الوراق وأحمد بن سعيد الطبري، وخلقا سواهم. وحدث عنه سفيان بن محمد التنوخي وأبو عاصم الفضيل ومحمد بن أبي مسعود الفارسي وأبو صاعد الفضيلي وآخرون. ارتحل به أبوه، وكان صدوقاً، صحيح السماع، صاحب حديث وعلم وجلالة. قال الذهبي: وحديثه اليوم أعلى ما يروى في الدنيا، وقد تدلت شمسه للغروب. توفي رحمه الله في صفر سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، وله خمس وثمانون سنة. موقفه من المبتدعة: جاء في السير: أنبأنا جماعة، قالوا: أخبرنا محمد بن مسعود، أخبرنا عبد الأول بن عيسى، أخبرنا أبو إسماعيل الأنصاري، سمعت محمد بن أحمد البلخي المؤذن، يقول: كنت مع الشيخ أبي محمد بن أبي شريح في طريق ¬

(¬1) التذكرة (3/ 1081). (¬2) السير (16/ 526 - 528) وتاريخ الإسلام (حوادث 381 - 400/ص.268 - 269) والعبر (1/ 400) وشذرات الذهب (3/ 140).

أبو محمد الأصيلي (392 هـ)

غور، فأتاه إنسان في بعض تلك الجبال، فقال: إن امرأتي ولدت لستة أشهر، فقال: هو ولدك، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الولد للفراش» (¬1)، فعاوده، فرد عليه كذلك، فقال الرجل: أنا لا أقول بهذا، فقال: هذا الغزو، وسل عليه السيف، فأكببنا عليه وقلنا: جاهل لا يدري ما يقول. قال الذهبي: كان سبيله أن يوضح له، ويقول: لك أن تنتفي منه باللعان، ولكنه احتمى للسنة وغضب لها. (¬2) أبو محمد الأصيلي (¬3) (392 هـ) عبد الله بن إبراهيم، أبو محمد الأصيلي. الإمام شيخ المالكية وعالم الأندلس. نشأ بأصيلا، وتفقه بقرطبة. سمع ابن المشاط وأبا الطاهر الذهلي، وكتب عن أبي زيد الفقيه وأبي بكر الآجري. وحدث عن الدارقطني، وحدث عنه الدارقطني. جاء في المدارك: كان الأصيلي من حفاظ رأي مالك، والمتكلم على الأصول وترك التقليد، ومن أعلم الناس في الحديث، وأبصرهم بعلله ورجاله ويحض أصحابه عليه. ولا يرى أن من خلا من علمه فقيها على حال. ولما ورد أبو يحيى بن الأشج من أهل المشرق وكان قد روى كتاب البخاري سئل إسماعه فقال: لا يراني الله أحدث به والأصيلي حي أبداً. فلما مات الأصيلي أسعف. ¬

(¬1) أحمد (6/ 37) والبخاري (8/ 29/4303) ومسلم (2/ 1080/1457) وأبو داود (2/ 703 - 705/ 2273) والنسائي (6/ 491 - 492/ 3484) وابن ماجه (1/ 646/2004) من حديث عائشة. (¬2) السير (16/ 527 - 528). (¬3) السير (16/ 560) وشذرات الذهب (3/ 140) وترتيب المدارك (2/ 241) والديباج المذهب (1/ 433).

موقفه من المبتدعة:

قال القاضي عياض: كان نظير ابن أبي زيد القيرواني وعلى طريقته وهديه. له كتاب 'الدلائل إلى أمهات المسائل' شرح به الموطأ ذاكراً فيه خلاف مالك وأبي حنيفة والشافعي، وله نوادر حديث -خمسة أجزاء- 0والانتصار، وغير ذلك. توفي رحمه الله لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة، سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة. موقفه من المبتدعة: قال عياض: كان من حفاظ مذهب مالك ومن العالمين بالحديث وعلله ورجاله، وكان ينكر الغلو في كرامات الأولياء -ويثبت منها ما صح- ودعاء الصالحين (¬1). ابن أبي عامر (¬2) (393 هـ) الملك المنصور حاجب الممالك الأندلسية أبو عامر محمد بن عبد الله بن أبي عامر محمد بن وليد القحطاني القائم بأعباء دولة الخليفة المؤيد بالله، هشام ابن الحكم أمير الأندلس، فإن هذا المؤيد استخلف ابن تسع سنين. وردت مقاليد الأمور إلى الحاجب هذا. وكان بطلاً شجاعاً حازماً سائساً عالماً. وقد غزا أبو عامر في مدته نيفاً وخمسين غزوة. دام في المملكة نيفاً وعشرين سنة ¬

(¬1) التذكرة (3/ 1024). (¬2) السير (17/ 15 - 16) والوافي بالوفيات (3/ 312 - 313) والعبر (1/ 401) والكامل في التاريخ (9/ 176) وشذرات الذهب (3/ 143 - 144).

موقفه من المشركين:

ودانت له الجزيرة وأمنت به وقد وزر له جماعة وكان المؤيد معه صورة بلا معنى بل كان محجوباً لا يجتمع به أمير ولا كبير، بل كان أبو عامر يدخل عليه ثم يخرج فيقول رسم أمير المؤمنين بكذا وكذا فلا يخالفه أحد، توفي سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وكان جواداً ممدحاً معطاءً. موقفه من المشركين: ذكر الذهبي عنه أنه عمد إلى خزائن كتب الحَكَم، فأبرز ما فيها، ثم أفرد ما فيها من كتب الفلسفة، فأحرقها بمشهد من العلماء، وطَمَر كثيراً منها، وكانت كثيرة إلى الغاية، فعله تقبيحاً لرأي المستنصر الحَكَم. (¬1) التعليق: هذا من رجاحة عقل الحاجب، وحسن تدبيره شؤون الأمة، وتحصينه إياها من جميع الأفكار الهدامة، والكل يدرك ما لكتب الفلسفة من الخطر الجسيم على عقيدة الإسلام، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً. ¬

(¬1) السير (17/ 15).

محمد بن إسحاق بن منده (395 هـ)

محمد بن إسحاق بن مَنْدَه (¬1) (395 هـ) الإمام، الحافظ، الجوال، محدث العصر، أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده الأصفهاني، ولد في سنة عشر وثلاثمائة أو إحدى عشرة. سمع من أبيه، وعم أبيه عبد الرحمن بن يحيى بن منده، ومحمد بن القاسم الكراني، وأبي علي الحسن بن أبي هريرة، وأبي سعيد بن الأعرابي وغيرهم، يصل عددهم إلى ألف وسبعمائة شيخ، وله إجازة من الحافظ عبد الرحمن بن أبي حاتم وغيره. وحدث عنه شيخه أبو الشيخ، وأبو بكر بن المقرئ، وأبو عبد الله الحاكم، وأبو عبد الله غنجار، وأبو سعد الإدريسي، وتمام الرازي، وأبو نعيم، وأحمد بن الفضل الباطرقاني، وآخرون. قال الباطرقاني: حدثنا أبو عبد الله بن منده إمام الأئمة في الحديث لقاه الله رضوانه. وقال الحاكم: التقينا ببخارى في سنة إحدى وستين وثلاثمائة، وقد زاد زيادة ظاهرة، ثم جاءنا إلى نيسابور سنة خمس وسبعين ذاهبا إلى وطنه، فقال شيخنا أبو علي الحافظ: بنو منده أعلام الحفاظ في الدنيا قديما وحديثا، ألا ترون إلى قريحة أبي عبد الله! وقيل: إن أبا نعيم الحافظ ذكر له ابن منده، فقال: كان جبلا من الجبال. وقال أحمد بن جعفر الحافظ: كتبت عن أزيد من ألف شيخ، ما فيهم أحفظ من ابن منده. وقال شيخ هراة أبو إسماعيل الأنصاري: أبو عبد الله بن منده سيد أهل زمانه. توفي سنة خمس وتسعين وثلاثمائة. ¬

(¬1) السير (17/ 28 - 43) والبداية والنهاية (11/ 359 - 360) وتذكرة الحفاظ (3/ 1031) وشذرات الذهب (3/ 146) والوافي بالوفيات (2/ 190 - 191).

• موقفه من المبتدعة:

• موقفه من المبتدعة: روى القاضي أبو الحسين في الطبقات عن محمد بن إسحاق قال: كتبت عن ألف شيخ وسبعمائة شيخ. وقال: طفت الشرق والغرب مرتين، فلم أتقرب إلى كل مذبذب. ولم أسمع من المبتدعين حديثا واحدا. (¬1) • موقفه من الجهمية: له من الآثار السلفية: 1 - كتاب التوحيد: وقد ذكر فيه ما يتعلق بتوحيد الربوبية والأسماء والصفات. وقد طبع ولله الحمد. 2 - الرد على الجهمية: وقد طبع بتحقيق الشيخ علي ناصر. 3 - الرد على اللفظية: ذكره في سير أعلام النبلاء. (¬2) 4 - السنة، ذكره الكتاني في الرسالة المستطرفة. (¬3) • موقفه من المرجئة: له كتاب الإيمان: ويعتبر من أهم الكتب في هذا الباب وأوسعها وأحسنها، وقد أفاض في الرد على المرجئة والخوارج، وذكر كل ما يتعلق بالإيمان وشعبه. وقد طبع والحمد لله رب العالمين بتحقيق الشيخ علي ناصر، وهو رسالته العلمية في مرحلة الدكتوراه، وقد أورد رحمه الله في مستهل بعض الأبواب كلاما جيدا منه: ¬

(¬1) طبقات الحنابلة (2/ 167). (¬2) السير (17/ 41). (¬3) (ص.38).

- ذكر ما يدل على أن اسم الإيمان يقع ما ذكر جبريل عليه السلام وأن شهادة لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت أصل الإيمان وأساسه وأنها بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة أفضلها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان. قال الله تبارك وتعالى: {* لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ والسائلين وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)} (¬1) وقال عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} (¬2).اهـ (¬3) ¬

(¬1) البقرة الآية (177). (¬2) المؤمنون الآية (1). (¬3) الإيمان (1/ 294).

- ذكر معنى الإيمان ومن وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأنها بضع وسبعون شعبة وبيان ذلك من الأثر. قال الله عز وجل: {آَمَنَ الرَّسُولُ} (¬1) معناه صدق الرسول اهـ. وقوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (¬2) يصدقون اهـ. وقوله: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} (¬3) لن نصدقك اهـ. وقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ} (¬4) لنا يعني بمصدق لنا اهـ. ليكسر أول وآخر فأوله الإقرار وآخره إماطة الأذى عن الطريق كما - صلى الله عليه وسلم -.اهـ والعباد يتفاضلون في الإيمان على قدر تعظيم الله في القلوب والإجلال له والمراقبة لله في السر والعلانية، وترك اعتقاد المعاصي فمنها قيل يزيد وينقص. اهـ وذكر عثمان بن عطاء بن أبي مسلم عن أبيه قال: ضرب مثل الإسلام كمثل بعير؛ فرأسه بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، والإيمان بما هو كائن من بعد الموت والبعث والحساب والجنة والنار والصلاة والزكاة وصوم رمضان والحج قايمة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، وقد يحمل البعير وهو مجبوب والمجبوب الذي لا سنام له. قال: وقد يحمل البعير الوسق وهو ظالع. اهـ فإن قطع رأس أو كسرت قايم برك البعير فلم ينهض، وأن الفرائض لا تقبل إلا جميعا، لا يقبل الله منها شيء دون شيء. ¬

(¬1) البقرة الآية (285). (¬2) البقرة الآية (3). (¬3) الإسراء الآية (90). (¬4) يوسف الآية (17).

قال: وكان ابن مسعود يقول: لا يقبل نافلة حتى يؤدوا فريضتها. اهـ (¬1) - ذكر الأخبار الدالة على الفرق بين الإيمان والإسلام ومن قال بهذا القول من أئمة أهل الآثار. قال الزهري: الإسلام هي الكلمة، والإيمان العمل. اهـ روى أحمد بن حنبل عن منصور بن سلمة أن حماد بن زيد كان يفرق بين الإسلام والإيمان؛ فيجعل الإيمان الموطأ والإسلام عاما. يعني: أن معرفة الإيمان عند الله دون خلقه خاص له، والإسلام عام. قال: وكذلك قال الله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} (¬2).اهـ وقال عبد الملك الميموني: سألت أحمد بن حنبل أتفرق بين الإيمان والإسلام؟ فقال لي: نعم. قلت له: بأي شيء تحتج؟ فقال لي: قال الله عز وجل: {* قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} (¬3). قال: وأقول مؤمن إن شاء الله، وأقول مسلم ولا أستثني. اهـ وقال بهذا القول جماعة من الصحابة والتابعين؛ منهم عبد الله بن عباس والحسن ومحمد بن سيرين. اهـ وقال أبو جعفر محمد بن علي -ووصف الإسلام فدور دائرة واسعة-: فهذا الإيمان، ودور دائرة صغيرة وسط الكبيرة، فإذا زنا وسرق خرج من ¬

(¬1) (1/ 300 - 301). (¬2) فصلت الآية (33). (¬3) الحجرات الآية (14).

الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرجه من الإسلام إلا الكفر بالله عز وجل. اهـ وهذا مذهب جماعة من أئمة الآثار. (¬1) - ذكر الأخبار الدالة والبيان الواضح من الكتاب أن الإيمان والإسلام اسمان لمعنى واحد، وأن الإيمان الذي دعا الله العباد إليه وافترضه عليهم هو الإسلام الذي جعله الله دينا وارتضاه لعباده ودعاهم إليه، وهو ضد الكفر الذي سخطه ولم يرضه لعباده. فقال الله عز وجل: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} (¬2) وقال: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬3) وقال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} (¬4) وقال: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} (¬5)، فمدح الله الإسلام بمثل ما مدح به الإيمان، وجعله اسم ثناء وتزكية، وأخبر أن من أسلم فهو على نور من ربه وهدى، وأخبر أنه دينه الذي ارتضاه، ألا ترى أن أنبياء الله ورسله رغبوا فيه إليه وسألوه إياه، فقال إبراهيم خليل الرحمن - صلى الله عليه وسلم - وإسماعيل - صلى الله عليه وسلم - سألا فقالا: {وَاجْعَلْنَا ¬

(¬1) (1/ 311 - 312). (¬2) الزمر الآية (7). (¬3) المائدة الآية (3). (¬4) الأنعام الآية (125). (¬5) الزمر الآية (22).

مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} (¬1) وقال يوسف عليه السلام: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)} (¬2) وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (¬3) وقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (¬4) وقال عز وجل: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} إلى قوله: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬5) وقال: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} (¬6) وقال في موضع: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} إلى قوله: {فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} (¬7) فحكم الله عز وجل بأن من أسلم فقد اهتدى، ومن آمن فقد اهتدى، فسوى بينهما. وقال في موضع آخر: {الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69)} (¬8) وقال في قصة لوط: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا ¬

(¬1) البقرة الآية (128). (¬2) يوسف الآية (101). (¬3) آل عمران الآية (85). (¬4) آل عمران الآية (19). (¬5) البقرة الآية (136). (¬6) آل عمران الآية (20). (¬7) البقرة الآيتان (136و137) .. (¬8) الزخرف الآية (69).

غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)} (¬1) وقال: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)} (¬2) وقال: {إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)} (¬3) فدل ذلك على أن من آمن فهو مسلم، وأن من استحق أحد الاسمين استحق الآخر إذا عمل بالطاعات التي آمن بها، فإذا ترك منها شيئا مقرا بوجوبها كان غير مستكمل، فإن جحد منها شيئا كان خارجا من جملة الإيمان والإسلام، وهذا قول من جعل الإسلام على ضربين: إسلام يقين وطاعة، وإسلام استسلام من القتل والسبي، قال الله عز وجل: {* قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}. (¬4) - ذكر ما يدل على أن الإيمان هو الطاعات كلها، وأن الله سمى الصلاة في كتابه إيمانا. قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (¬5). قال أهل التأويل: صلاتكم إلى القبلة الأولى وتصديقكم نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) الزخرف الآيتان (35و36). (¬2) القصص الآية (53). (¬3) النمل الآية (81). (¬4) (1/ 321 - 323). (¬5) البقرة الآية (143).

واتباعه إلى القبلة الأخرى، أي ليعطيكم أجرهما جميعا. {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)} (¬1) قاله علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما. اهـ وقال عز وجل: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ} (¬2) يعني بما أمر الله أن يؤمن به من الطاعات التي سماها على لسان جبريل عليه السلام إيمانا وإسلاما، وكذلك من يكفر بمحمد أو بالصلاة أو بالصوم فقد حبط عمله. اهـ وما فسره على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - لوفد عبد قيس (¬3) فقال: «أتدرون ما الإيمان؟ ثم فسره فقال: شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت».اهـ وقال محمد بن نصر: الإيمان هاهنا عبادة العابدين لله؛ قال الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} (¬4).اهـ وقال: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2)} (¬5) فالمؤمن هو العابد لله، والعبادة لله هو فعله وهو الإيمان، والخالق هو المعبود الذي خلق المؤمن وعبادته وكل شيء منه، فالخالق بصفاته الكاملة خالق غير مخلوق ولا شيء منه مخلوق. والعباد بصفاتهم وأفعالهم وكل شيء منهم مخلوقون ... وقال عز وجل: {إِنَّنَا ¬

(¬1) البقرة الآية (143). (¬2) المائدة الآية (5). (¬3) تقدم تخريجه ضمن مواقف ابن بطة سنة (387هـ). (¬4) البينة الآية (5). (¬5) الزمر الآية (2).

سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} (¬1) قال بعض أهل التأويل: يعني القرآن. قال: وإنما أراد أن المنادي هو القرآن ليس يعني أن الإيمان هو القرآن، يعنون أنهم سمعوا القرآن يدعو إلى الإيمان فآمنا، فالله هو الداعي إلى الإيمان بكلامه، وهو القرآن. فالله الخالق وكلامه صفة له دعا الناس بكلامه إلى الإيمان؛ أي دعاهم إلى أن يؤمنوا بربهم. اهـ فهذا تأويل ما تقدم، لأن مذهب أهل العلم أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. اهـ (¬2) ذكر اختلاف أقاويل الناس في الإيمان ما هو؟ فقالت طائفة من المرجئة: الإيمان فعل القلب دون اللسان. وقالت طائفة منهم: الإيمان فعل اللسان دون القلب، وهم أهل الغلو في الإرجاء. اهـ وقال جمهور أهل الإرجاء: الإيمان هو فعل القلب واللسان جميعا. اهـ وقالت الخوارج: الإيمان فعل الطاعات المفترضة كلها بالقلب واللسان وسائر الجوارح. اهـ وقال آخرون: الإيمان فعل القلب واللسان مع اجتناب الكبائر. اهـ وقال أهل الجماعة: الإيمان هو الطاعات كلها بالقلب واللسان وسائر الجوارح غير أن له أصلا وفرعا؛ فأصله المعرفة بالله والتصديق له وبه وبما جاء من عنده بالقلب واللسان، مع الخضوع له والحب له والخوف منه، والتعظيم له مع ترك التكبر والاستنكاف والمعاندة. فإذا أتى بهذا الأصل فقد دخل في الإيمان، ولزمه اسمه وأحكامه، ولا يكون مستكملا له حتى يأتي بفرعه وفرعه المفترض عليه أو الفرائض، واجتناب المحارم. وقد ¬

(¬1) آل عمران الآية (193). (¬2) (1/ 327 - 328).

جاء الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الإيمان بضع وسبعون -أو ستون- شعبة أفضلها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» (¬1) فجعل الإيمان شعبا بعضها باللسان والشفتين، وبعضها بالقلب، وبعضها بسائر الجوارح. اهـ فشهادة أن لا إله إلا الله فعل اللسان تقول: شهدت أشهد شهادة. اهـ والشهادة فعله بالقلب واللسان لا اختلاف بين المسلمين في ذلك، والحياء في القلب، وإماطة الأذى عن الطريق فعل سائر الجوارح. اهـ (¬2) - ذكر المثل الذي ضربه الله والنبي - صلى الله عليه وسلم - للمؤمن والإيمان. قال الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} (¬3) فضربها مثلا لكلمة الإيمان، وجعل لها أصلا وفرعا وثمرا تؤتيه كل حين، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه عن معنى هذا المثل من الله فوقعوا في شجر البوادي، فقال ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هي النخلة» (¬4). ثم فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان بسنته إذ فهم عن الله مثله: فأخبر أن الإيمان ذو شعب؛ أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، فجعل أصله الإقرار بالقلب واللسان، وجعل شعبه الأعمال. فالذي سمى الإيمان ¬

(¬1) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي إسحاق الفزاري سنة (186هـ). (¬2) (1/ 331 - 332). (¬3) إبراهيم الآيتان (24و25). (¬4) أخرجه: أحمد (2/ 1) والبخاري (1/ 193/61) ومسلم (4/ 2164 - 2165/ 2811).

التصديق، هو الذي أخبر أن الإيمان ذو شعب؛ فمن لم يسم الأعمال شعبا من الإيمان كما سماها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويجعل له أصلا وشعبا كما جعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما ضرب الله المثل به كان مخالفا له، وليس لأحد أن يفرق بين صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - للإيمان فيؤمن ببعضها ويكفر ببعضها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سأله جبريل عليه السلام عن الإيمان بدأ بالشهادة، وقال لوفد عبد قيس: «أتدرون ما الإيمان؟» فبدأ بالشهادة -وهي الكلمة- أصل الإيمان، والشاهد بلا إله إلا الله هو المصدق المقر بقلبه يشهد بها لله بقلبه ولسانه، يبتدئ بشهادة قلبه والإقرار به، ثم يثني بالشهادة بلسانه والإقرار به بنية صادقة يرجع بها إلى قلب مخلص، فذلك المؤمن المسلم ليس كما شهد به المنافقون إذ قالوا: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} (¬1) قال الله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)} فلم يكذب قولهم، ولكن كذبهم من قلوبهم فقال: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} كما قالوا، ثم قال: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)} فكذبهم؛ لأنهم قالوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم. فالإسلام الحقيقي ما تقدم وصفه؛ وهو الإيمان والإسلام الذي احتجز به المنافقون من القتل والسبي هو الاستسلام، وبالله التوفيق. اهـ (¬2) ¬

(¬1) المنافقون الآية (1) .. (¬2) (1/ 350 - 351).

- ذكر الأبواب والشعب التي قالها النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها الإيمان، وأنها قول باللسان ومعرفة بالقلب وعمل بالأركان، التي علمهن جبريل عليه السلام الصحابة وكذلك روي عنه من رواية علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبين المصطفى مجملها. فمن أفعال القلوب: النيات والإرادات، والعلم والمعرفة بالله وبما أمر به، والاعتراف له والتصديق به وبما جاء من عنده، والخضوع له ولأمره، والإجلال والرغبة إليه والرهبة منه، والخوف والرجاء والحب له ولما جاء من عنده، والحب والبغض فيه، والتوكل والصبر والرضاء، والرحمة والحياء،، والنصيحة لله ولرسوله ولكتابه، وإخلاص الأعمال كلها مع سائر أعمال القلب. اهـ ومن أفعال اللسان: الإقرار بالله وبما جاء من عنده، والشهادة لله بالتوحيد، ولرسوله بالرسالة ولجميع الأنبياء والرسل، ثم التسبيح والتكبير، والتحميد والتهليل، والثناء على الله والصلاة على رسوله، والدعاء وسائر الذكر. اهـ ثم أفعال سائر الجوارح: من الطاعات والواجبات التي بني عليها الإسلام؛ أولها: إتمام الطهارات كما أمر الله عز وجل، ثم الصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان، والزكاة على ما بينه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ثم حج البيت من استطاع إليه سبيلا. وترك الصلاة كفر، وكذلك جحود الصوم والزكاة والحج، والجهاد فرض على كفاية مع البر والفاجر. وسائر الأعمال التطوع التي يستحق بفعلها اسم زيادة الإيمان، والأفعال المنهي عنها التي بفعلها

بديع الزمان الهمذاني (398 هـ)

يستحق نقصان الإيمان. اهـ (¬1) بديع الزمان الهمذاني (398 هـ) • موقفه من الرافضة: قال ياقوت في معجم الأدباء (¬2): قال البديع يمدح الصحابة ويهجو الخوارزمي (¬3) ويجيبه عن قصيدة رويت له في الطعن عليهم: وكَّلَني بِالهمِّ والكآبه ... طعانة لعانة سبابه للسلف الصالح والصحابه ... أساء سمعا فأساء جابه تأملوا يا كبراء الشيعه ... لعشرة الإسلام والشريعه أتستحل هذه الوقيعه ... في بيع الكفر وأهل البيعه فكيف من صدق بالرساله ... وقام للدين بكل آله وأحرز الله يد العُقْيَ له ... ذلكم الصديق لا محاله إمام من أجمع في السقيفه ... قطعا عليه أنه الخليفه ناهيك من آثاره الشريفه ... في رده كيد بني حنيفه سل الجبال الشم والبحارا ... وسائل المنبر والمنارا واستعلم الآفاق والأقطار ... من أظهر الدين بها شعارا ¬

(¬1) (1/ 362). (¬2) (2/ 196 - 200). (¬3) هو أبو بكر ممد بن العباس الخوارزمي، كان رافضيا خبيثا، انظر ترجمته في الوافي بالوفيات للصفدي (3/ 191 - 196). وليس هو أبا بكر محمد بن موسى الخوارزمي شيخ الحنفية. انظره فيما يأتي سنة (403هـ).

ثم سل الفرس وبيت النار ... من الذي فل شبا الكفار هل هذه البيض من الآثار ... إلا لثاني المصطفى في الغار وسائل الإسلام من قَوّاه ... وقال إذ لم تقل الأفواه واستنجز الوعد فأومى الله ... من قام لما قعدوا إلا هو ثاني النبي في سني الولاده ... ثانيه في الغارة بعد العاده ثانيه في الدعوة والشهاده ... ثانيه في القبر بلا وساده ثانيه في منزلة الزعامه ... نبوة أفضت إلى إمامه إلى أن قال: ويلك لم تنبح يا كلب القمر؟ ... ما لك يا مأمون تغتاب عمر سيد من صام وحج واعتمر ... صرح بإلحادك لا تمش الخمر يا من هجا الصديق والفاروقا ... كيما يقيم عند قوم سوقا نفخت يا طبل علينا بوقا ... فما لك اليوم كذا موهوقا إنك في الطعن على الشيخين ... والقدح في السيد ذي النورين لواهن الظهر سخين العين ... معترضٌ للحين بعد الحين هلاّ نهتك الوجنة الموشومه ... عن مشترى الخلد ببئر رومه كفى من الغيبة أدنى شمّه ... من استجاز القدحَ في الأئمه ولم يعظم أمناء الأمه ... فلا تلوموه ولوموا أمّه ما لك يا نذل وللزّكّيه ... عائشة الراضية المرضيّه يا ساقط الغِيرة والحمّيه ... ألم تكن للمصطفى حظِيَّه

محمد بن أبي زمنين (399 هـ)

محمد بن أبي زَمَنِين (¬1) (399 هـ) الإمام القدوة، الزاهد، أبو عبد الله، محمد بن عبد الله بن عيسى بن محمد، المري الأندلسي، الألبيري، شيخ قرطبة، ومن المفاخر الغرناطية، ولد في أول سنة أربع وعشرين وثلاثمائة. كان راسخا في العلم مفننا في الآداب، مقتفيا لآثار السلف، صاحب عبادة وإنابة وتقوى، وكان عارفا بمذهب مالك، بصيرا به. وكان صاحب جد وإخلاص، ومجانبة للأمراء، وكان من حملة الحجة. سمع من وهب بن مسرة وأحمد بن المطرف وأحمد بن الشامة وتفقه بإسحاق بن إبراهيم الطليطلي. وروى عنه أبو عمرو الداني وأبو عمر ابن الحذاء، وجماعة. توفي سنة تسع وتسعين وثلاثمائة. • موقفه من المبتدعة: آثاره في العقيدة السلفية: 1 - 'أصول السنة': وقد نقل منه شيخ الإسلام في كثير من فتاواه. وهو مطبوع متداول. 2 - تفسير القرآن: مخطوط في القرويين (¬2) اختصره من تفسير يحيى بن سلام التيمي ذكره الذهبي في السير (¬3) وهو في الأعلام (¬4). ومن أقواله الطيبة في ذمه للبدعة وثنائه على السنة ما جاء في أصول السنة: ¬

(¬1) ترتيب المدارك (2/ 259 - 261) وتذكرة الحفاظ (3/ 1029) والوافي بالوفيات (3/ 321) والديباج (2/ 232 - 234) وشذرات الذهب (3/ 156) والسير (17/ 188 - 189). (¬2) (40/ 34). (¬3) (17/ 189). (¬4) (6/ 227).

• موقفه من الرافضة:

- باب في الحض على لزوم السنة واتباع الأئمة: اعلم رحمك الله أن السنة دليل القرآن، وأنها لا تدرك بالقياس ولا تؤخذ بالعقول، وإنما هي في الاتباع للأئمة ولما مشى عليه جمهور هذه الأمة، وقد ذكر الله عز وجل أقواما أحسن الثناء عليهم فقال: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)} (¬1)، وأمر عباده فقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} (¬2).اهـ (¬3) - وقال: ولم يزل أهل السنة يعيبون أهل الأهواء المضلة، وينهون عن مجالستهم ويخوفون فتنتهم، ويخبرون بخلاقهم، ولا يرون ذلك غيبة لهم ولا طعنا عليهم. (¬4) • موقفه من الرافضة: - قال رحمه الله: ومن قول أهل السنة أن يعتقد المرء المحبة لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن ينشر محاسنهم وفضائلهم، ويمسك عن الخوض فيما دار بينهم. وقد أثنى الله عز وجل في غير موضع من كتابه ثناء أوجب التشريف إليهم ¬

(¬1) الزمر الآيتان (17و18). (¬2) الأنعام الآية (153). (¬3) رياض الجنة في تخريج أصول السنة (ص.35). (¬4) أصول السنة لابن أبي زمنين (293).

• موقفه من الجهمية:

بمحبتهم والدعاء لهم فقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (¬1) وقال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} إلى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} (¬2).اهـ (¬3) • موقفه من الجهمية: قال رحمه الله في أصول السنة: ومن قول أهل السنة: إن القرآن كلام الله وتنزيله، ليس بخالق ولا مخلوق، منه تبارك وتعالى بدأ، وإليه يعود. (¬4) وقال: ومن قول أهل السنة: إن الله عز وجل خلق العرش واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق، ثم استوى عليه كيف شاء، كما أخبر عن نفسه في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)} (¬5) وفي قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} (¬6) فسبحان من بعد فلا يرى، وقرب ¬

(¬1) الفتح الآية (29). (¬2) الحشر الآيتان (8و9). (¬3) رياض الجنة بتخريج أصول السنة لابن أبي زمنين (263). (¬4) المصدر نفسه (ص.82). (¬5) طه الآيتان (5و6). (¬6) الحديد الآية (4).

بعلمه وقدرته فسمع النجوى. (¬1) وقال: ومن قول أهل السنة: إن الله عز وجل ينزل إلى سماء الدنيا، ويؤمنون بذلك من غير أن يحدوا فيه حدا. (¬2) وقال: ومن قول أهل السنة: إن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة، وإنه يحتجب عن الكفار والمشركين فلا يرونه، وقال عز وجل: {* لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (¬3) وقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} (¬4) وقال: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} (¬5) فسبحان من {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} (¬6).اهـ (¬7) - وقال: وأهل السنة يؤمنون بالميزان يوم القيامة وقال عز وجل: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9)} (¬8) وقال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ ¬

(¬1) رياض الجنة بتخريج أصول السنة لابن أبي زمنين (ص.88). (¬2) المصدر نفسه (ص.110). (¬3) يونس الآية (26). (¬4) القيامة الآيتان (22و23). (¬5) المطففين الآية (15). (¬6) الأنعام الآية (103). (¬7) رياض الجنة بتخريج أصول السنة لابن أبي زمنين (ص.120). (¬8) القارعة الآيات (6 - 9).

• موقفه من الخوارج:

الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} (¬1).اهـ (¬2) • موقفه من الخوارج: - قال رحمه الله: وأهل السنة يؤمنون بأن الله عز وجل يدخل ناسا الجنة من أهل التوحيد بعدما مستهم النار برحمته تبارك وتعالى اسمه، وبشفاعة الشافعين. (¬3) - وقال: وأهل السنة لا يحجبون الاستغفار عن أحد من أهل القبلة، ولا يرون أن تترك الصلاة على من مات منهم وإن كان من أهل الإسراف على نفسه، وقال عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (¬4).اهـ (¬5) • موقفه من المرجئة: - قال: ومن قول أهل السنة: إن الإيمان إخلاص لله بالقلوب، وشهادة بالألسنة، وعمل بالجوارح، على نية حسنة وإصابة السنة. قال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)} (¬6) ¬

(¬1) الأنبياء الآية (47). (¬2) رياض الجنة بتخريج أصول السنة لابن أبي زمنين (ص.162). (¬3) المصدر نفسه (180). (¬4) محمد الآية (19). (¬5) أصول السنة (ص.224). (¬6) الحجرات الآية (15).

وقال: {* إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} (¬1) ثم وصفهم بأعمالهم فقال: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ} -وهم الصائمون- {الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)} (¬2) وقال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (¬3) وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (¬4) قال محمد: والإيمان بالله هو باللسان والقلب وتصديق ذلك العمل. فالقول والعمل قرينان لا يقوم أحدهما إلا بصاحبه. (¬5) - وقال: ومن قول أهل السنة: إن الإيمان درجات ومنازل يتم ويزيد وينقص، ولولا ذلك استوى الناس فيه، ولم يكن للسابق فضل على المسبوق. ¬

(¬1) التوبة الآية (111). (¬2) التوبة الآية (112). (¬3) التوبة الآية (5). (¬4) فاطر الآية (10). (¬5) رياض الجنة بتخريج أصول السنة (207).

موقفه من القدرية:

وبرحمة الله وبتمام الإيمان يدخل المؤمنون الجنة، وبالزيادة فيه يتفاضلون في الدرجات {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)} (¬1) ومثل هذا في القرآن كثير. (¬2) موقفه من القدرية: قال محمد بن عبد الله: ومن قول أهل السنة: إن المقادير كلها خيرها وشرها حلوها ومرها من الله عز وجل، فإنه خلق الخلق وقد علم ما يعملون وما إليه يصيرون، فلا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، وقال تبارك وتعالى وهو أصدق القائلين: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} (¬3)، وقال: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)} (¬4)، وقال: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (¬5)، وقال: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} (¬6)، وقال: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (¬7)، وقال: {وَاعْلَمُوا أَن اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} (¬8)، ¬

(¬1) الإسراء الآية (21). (¬2) رياض الجنة بتخريج أصول السنة (211). (¬3) الأعراف الآية (54). (¬4) الأحزاب الآية (38). (¬5) القمر الآية (49). (¬6) التوبة الآية (51). (¬7) الأنبياء الآية (35). (¬8) الأنفال الآية (24).

موقف السلف من ابن يونس المنجم (399 هـ)

وقال: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96)} (¬1)، وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (¬2)، وقال: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} (¬3) مثل هذا في القرآن كثير. وساق رحمه الله نصوصا في الرد على القدرية. (¬4) موقف السلف من ابن يونس المنجم (399 هـ) بيان ضلاله: قال الذهبي: المنجم الكبير، مصنف 'الزيج الحاكمي'، أبو الحسن علي ابن محدث مصر أبي سعيد عبد الرحمن بن الفقيه أحمد بن شيخ الإسلام يونس ابن عبد الأعلى الصدفي المصري. وأهل التنجيم يخضعون لفضيلة هذا التأليف. وله نظم رائق. لبس مرة ثياب النساء، وضرب بالعود، وبخر، ورقب الزهرة، وكان يلبس تحت العمامة طرطورا، كالبدو، وله إصابات عجيبة تضل الجهلة. وقد عدله القاضي محمد بن النعمان وقبله، فلا حول ولا قوة إلا بالله. (¬5) ¬

(¬1) يونس الآية (96). (¬2) السجدة الآية (13). (¬3) النحل الآية (37). (¬4) رياض الجنة بتخريج أصول السنة (197). (¬5) السير (17/ 109).

موقف السلف من أبي حيان التوحيدي (في حدود 400 هـ)

وقال في الميزان (¬1): لا يحل الأخذ عنه؛ فإنه منجم ساحر. موقف السلف من أبي حيان التوحيدي (في حدود 400 هـ) بيان زندقته: لم يتمالك ابن السبكي أعصابه في ترجمة أبي حيان، فشن حملة على الإمام الذهبي لطعنه وتشنيعه على هذا الزنديق، مع أن الذهبي مسبوق بأئمة فحول ذكروا زندقة هذا الضال. ومن أشهرهم ابن الجوزي، وابن بابي في الخريدة والفريدة وغيرهما ولكن على عادته يتخبط تخبط الحاقد الذي يشتعل ناراً حتى أدت به الوقاحة إلى التجرؤ بالقول بأن علماء الحديث كانوا أشاعرة. وهذا من البهتان والكذب. وما أثبتناه في هذا البحث المبارك يبين أن لا علاقة لهم بالأشعرية، بل المحدثون حاربوا الأشعرية في وقتها المبكر، وما نحن بالبعيدين عن قصة أبي الحسن مع البربهاري (¬2)، وسيمر بنا إن شاء الله فحول تصدوا لها تصدياً. قال الذهبي رحمه الله: الضال الملحد أبو حيان علي بن محمد بن العباس، البغدادي الصوفي، صاحب التصانيف الأدبية والفلسفية، ويقال: كان من أعيان الشافعية. قال ابن بابي في كتاب الخريدة والفريدة: كان أبو حيان هذا كذاباً، ¬

(¬1) (3/ 132). (¬2) انظر مواقف البربهاري من الجهمية سنة (329هـ).

القرن 5

قليل الدين والورع عن القذف والمجاهرة بالبهتان، تعرض لأمور جسام من القدح في الشريعة، والقول بالتعطيل، ولقد وقف سيدنا الوزير الصاحب كافي الكفاة على بعض ما كان يُدغِلُ ويخفيه من سوء الاعتقاد. فطلبه ليقتله فهرب والتجأ إلى أعدائه ونفَقَ عليهم تزخرفُه وإفكُه. ثم عثروا منه على قبيح دخلته وسوء عقيدته وما يبطنه من الإلحاد ويرومه في الإسلام من الفساد، وما يلصقه بأعلام الصحابة من القبائح، ويضيفه إلى السلف الصالح من القبائح. فطلبه الوزير المهلبي فاستتر منه، ومات في الاستتار، وأراح الله. ولم يؤثر عنه إلا مثلبة أو مخزية. وقال أبو الفرج بن الجوزي: زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الراوندي وأبو حيان التوحيدي وأبو العلاء المعري، وأشدهم على الإسلام هو أبو حيان، لأنهما صرّحا وهو مَجْمَج ولم يصرّح. (¬1) وفيها عنه قال: أناس مضوا تحت التوهم، وظنوا أن الحق معهم وكان الحق وراءهم. قال الذهبي: أنت حامل لوائهم. (¬2) شدّاد بن إبراهيم (¬3) (401 هـ) أبو نجيب الملقب بالطاهر الجزري، شاعر من شعراء عضد الدولة بن بويه. ¬

(¬1) السير (17/ 119 - 120). (¬2) السير (17/ 121 - 122). (¬3) معجم الأدباء (11/ 270 - 272) وتتمة يتيمة الدهر لأبي منصور الثعالبي (ص 59) وموسوعة شعراء العرب (2/ 626).

موقفه من الصوفية:

كان دقيق الشعر لطيف الأسلوب عالي السن. توفي سنة إحدى وأربعمائة. موقفه من الصوفية: قال: أيا جيل التصوف شرَّ جِيلٍ ... لقد جئتم بأمر مستحيل أفي القرآن قال لكم إلهي ... كلوا مثل البهائم وارقصوا لي (¬1) ابن السوسنجردي (¬2) (402 هـ) أحمد بن عبد الله بن الخضر بن مسرور، أبو الحسين المعدل المعروف بابن السوسنجردي. سمع محمد بن عمرو الرزاز وأبا عمرو بن السماك، وأحمد بن سلمان وغيرهم، وكتب الناس عنه بانتخاب محمد بن أبي الفوارس، قال الخطيب: وكان ثقة مأمونا دينا مستورا حسن الاعتقاد شديدا في السنة. توفي في رجب سنة اثنتين وأربعمائة. موقفه من الرافضة: جاء في طبقات الحنابلة عنه: أنه اجتاز يوما في سوق الكرخ. فسمع سب بعض الصحابة، فجعل على نفسه أن لا يمشي قط في الكرخ. (¬3) ¬

(¬1) معجم الأدباء (11/ 271). (¬2) تاريخ بغداد (4/ 237) وطبقات الحنابلة (2/ 168 - 169) والعبر (1/ 410) والمنتظم (15/ 85) وشذرات الذهب (3/ 163). (¬3) طبقات الحنابلة (2/ 169).

الهرواني (402 هـ)

الهَرَوَانِي (¬1) (402 هـ) محمد بن عبد الله بن الحسين أبو عبد الله الإمام العلامة شيخ الحنفية القاضي، الجحفي المعروف بالهرواني، تلا لعاصم على أبي العباس محمد بن الحسن وسمع من محمد بن القاسم المحاربي، وعلي بن محمد بن هارون ومحمد ابن جعفر بن رياح الأشجعي. قرأ عليه أبو علي غلام الهراس، وحدث عنه أبو محمد يحيى بن محمد بن الحسن، وأبو الفرج محمد بن أحمد بن علان، ومحمد بن الحسن بن المنثور الجهني وآخرون. قال الخطيب: قال لي العتيقي: ما رأيت بالكوفة مثل القاضي الهرواني. وقال: كان ثقة حدث ببغداد، وكان من عاصره يقول: لم يكن بالكوفة من زمن ابن مسعود إلى وقته أحد أفقه منه. توفي في رجب سنة اثنتين وأربعمائة. موقفه من الجهمية: من آثاره السلفية: 'الرد على الجهمية'. (¬2) إبراهيم بن محمد بن حسين (¬3) (402 هـ) الإمام إبراهيم بن محمد بن حسين أبو إسحاق الأموي الطليطلي. سمع بطليطلة ثم رحل إلى قرطبة ثم إلى سائر بلاد الأندلس، ثم رحل إلى المشرق، ¬

(¬1) السير (17/ 101 - 102) وتاريخ بغداد (5/ 472 - 473) والعبر (1/ 411 - 412) وغاية النهاية (2/ 177 - 178) وشذرات الذهب (3/ 165). (¬2) ذكره ابن تيمية في المنهاج (2/ 363 - 364). (¬3) تاريخ الإسلام (حوادث 401 - 410/ص.57) والسير (17/ 151) وشذرات الذهب (3/ 163) والوافي بالوفيات (6/ 103).

موقفه من المبتدعة:

فسمع بمصر والحجاز. كان زاهدا فاضلا ناسكا صواما قواما ورعا، كثير التلاوة غلب عليه علم الحديث ومعرفة طرقه. توفي سنة اثنتين وأربعمائة. موقفه من المبتدعة: جاء في تاريخ الإسلام: وكان سنيا نافرا للمبتدعة، هاجرا لهم. (¬1) ابن الباقلاني (¬2) (403 هـ) القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الأشعري صاحب التصانيف. سمع أبا بكر القطيعي وأبا محمد بن ماسي وطائفة. حدث عنه الحافظ أبو ذر الهروي وأبو جعفر السمنافي وغيرهم. وكان ثقة إماما بارعا، صنف في الرد على الرافضة والمعتزلة، والخوارج والجهمية والكرامية. وكان يلقب بسيف السنة ولسان الأمة، وإليه انتهت رئاسة المالكية في وقته، وكان له بجامع البصرة حلقة عظيمة. قال أبو بكر الخوارزمي: كل مصنف ببغداد إنما ينقل من كتب الناس سوى القاضي أبي بكر فإنما صدره يحوي علمه وعلم الناس. وقال أبو محمد البافي: لو أوصى رجل بثلث ماله لأفصح الناس لوجب أن يدفع إلى أبي بكر الأشعري. وكانت له مناظرات أفحم فيها النصارى. مات في ذي القعدة سنة ثلاث وأربعمائة وصلى عليه ابنه حسن، وكانت جنازته مشهودة، وكان ¬

(¬1) تاريخ الإسلام (حوادث سنة 401 - 410/ص.57) والسير (17/ 151) والتذكرة (3/ 1092). (¬2) السير (17/ 190 - 193) والشذرات (3/ 168 - 170) والمنتظم (15/ 96) وتاريخ بغداد (5/ 379 - 383).

موقفه من المشركين:

سيفا على المعتزلة والرافضة والمشبهة، وغالب قواعده على السنة. موقفه من المشركين: - قال شيخ الإسلام: وقد صنف المسلمون في كشف أسرارهم وهتك أستارهم (يعني الملاحدة) كتبا كبارا وصغارا وجاهدوهم باللسان واليد إذ كانوا بذلك أحق من اليهود والنصارى. ولو لم يكن إلا كتاب 'كشف الأسرار وهتك الأستار' للقاضي أبي بكر محمد بن الطيب (¬1) ... وذكر كتبا أخرى. - وقال أيضا: ولهذا كان مناظرة كثيرة من المسلمين للنصارى من هذا الباب كالحكاية المعروفة عن القاضي أبي بكر بن الطيب لما أرسله المسلمون إلى ملك النصارى بالقسطنطينية، فإنهم عظموه وعرف النصارى قدره، فخافوا أن لا يسجد للملك إذا دخل، فأدخلوه من باب صغير ليدخل منحنيا، ففطن لمكرهم فدخل مستدبرا متلقيا لهم بعجزه، ففعل نقيض ما قصدوه. ولما جلس وكلموه أراد بعضهم القدح في المسلمين، فقال له: ما قيل في عائشة امرأة نبيكم؟ يريد إظهار قول الإفك الذي يقوله من يقوله من الرافضة أيضا، فقال القاضي: ثنتان قدح فيهما ورميتا بالزنا إفكا وكذبا: مريم وعائشة، فأما مريم فجاءت بالولد تحمله من غير زوج، وأما عائشة فلم تأت بولد مع أنه كان لها زوج، فأبهت النصارى. وكان مضمون كلامه أن ظهور براءة عائشة أعظم من ظهور براءة مريم، وأن الشبهة إلى مريم أقرب منها إلى عائشة، فإذا كان مع هذا قد ثبت كذب القادحين في مريم، فثبوت ¬

(¬1) الفتاوى (9/ 134).

كذب القادحين في عائشة أولى. (¬1) - وفيه عنه: قال القاضي أبو بكر بن الطيب: قد اتفق جميع الباطنية، وكل مصنف لكتاب ورسالة منهم، في ترتيب الدعوة المضلة، على أن من سبيل الداعي إلى دينهم ورجسهم، المجانب لجميع أديان الرسل والشرائع أن يجيب الداعي إليه الناس بما يبين وما يظهر له من أحوالهم ومذاهبهم، وقالوا لكل داع لهم إلى ضلالتهم ما أنا حاك لألفاظهم وصيغة قولهم، بغير زيادة ولا نقصان، ليعلم بذلك كفرهم وعنادهم لسائر الرسل والملل، فقالوا للداعي: يجب عليك إذا وجدت من تدعوه مسلما: أن تجعل التشيع عنده دينك وشعارك، واجعل المدخل عليه من جهة ظلم السلف، وقتلهم الحسين، وسبيهم نساءه وذريته، والتبري من تيم وعدي، ومن بني أمية وبني العباس، وأن تكون قائلا بالتشبيه والتجسيم، والبدء، والتناسخ، والرجعة، والغلو، وأن عليا إله يعلم الغيب، مفوض إليه خلق العالم، وما أشبه ذلك من أعاجيب الشيعة وجهلهم، فإنهم أسرع إلى إجابتك بهذا الناموس، حتى تتمكن منهم مما تحتاج إليه أنت ومن بعدك، ممن تثق به من أصحابك، فترقيهم إلى حقائق الأشياء حالا فحالا، ولا تجعل كما جعل المسيح ناموسه في زور موسى القول بالتوراة وحفظ السبت، ثم عجل وخرج عن الحد، وكان له ما كان، يعني من قتلهم له، بعد تكذيبهم إياه، وردهم عليه، وتفرقهم عنه. فإذا آنست من بعض الشيعة عند الدعوة إجابة ورشدا، أوقفته على مثالب علي وولده، وعرفته حقيقة الحق لمن هو، وفيمن هو، وباطل بطلان كل ما عليه أهل ملة ¬

(¬1) المنهاج (2/ 56 - 57) وانظرها مطولة في ترتيب المدارك (2/ 209 - 213).

محمد - صلى الله عليه وسلم - وغيره من الرسل، ومن وجدته صابئا فأدخله مداخله بالأشانيع وتعظيم الكواكب، فإن ذلك ديننا وجل مذهبنا في أول أمرنا، وأمرهم من جهة الأشانيع يقرب عليك أمره جدا. ومن وجدته مجوسيا اتفقت معه في الأصل، في الدرجة الرابعة، من تعظيم النار والنور، والشمس والقمر، واتل عليهم أمر السابق، وأنه نهر من الذي يعرفونه، وثالثه المكنون من ظنه الجيد والظلمة المكتوبة، فإنهم مع الصابئين أقرب الأمم إلينا، وأولاهم بنا، لولا يسير صحفوه بجهلهم به "قالوا" وإن ظفرت بيهودي فادخل عليه من جهة انتظار المسيح، وأنه المهدي الذي ينتظره المسلمون بعينه، وعظم السبت عندهم، وتقرب إليهم بذلك، وأعلمهم أنه مثل يدل على ممثول، وأن ممثوله يدل على السابع المنتظر، يعنون محمد بن إسماعيل بن جعفر، وأنه دوره، وأنه هو المسيح، وهو المهدي، وعند معرفته تكون الراحة من الأعمال، وترك التكليفات، كما أمروا بالراحة يوم السبت، وأن راحة السبت هو دلالة على الراحة من التكليف والعبادات في دور السابع المنتظر، وتقرب من قلوبهم بالطعن على النصارى والمسلمين الجهال الحيارى، الذين يزعمون أن عيسى لم يولد ولا أب له، وَقَوِّ في نفوسهم أن يوسف النجار أبوه، وأن مريم أمه، وأن يوسف النجار كان ينال منها ما ينال الرجال من النساء، وما شاكل ذلك، فإنهم لن يلبثوا أن يتبعوك. "قال" وإن وجدت المدعى نصرانيا، فادخل عليه بالطعن على اليهود والمسلمين جميعا، وصحة قولهم في الثالوث، وأن الأب والابن وروح القدس صحيح، وعظم الصليب عندهم، وعرفهم تأويله. وإن وجدته مثانيا فإن المثانية تحرك الذي منه يعترف، فداخلهم بالممازجة في

الباب السادس في الدرجة السادسة من حدود البلاغ، التي يصفها من بعد، وامتزج بالنور وبالظلام، فإنك تملكهم بذلك. وإذا آنست من بعضهم رشدا فاكشف له الغطاء. ومتى وقع إليك فيلسوف فقد علمت أن الفلاسفة هم العمدة لنا. وقد أجمعنا نحن وهم على إبطال نواميس الأنبياء، وعلى القول بقدم العالم، لولا ما يخالفنا بعضهم من أن للعالم مدبرا لا يعرفونه. فإن وقع الاتفاق منهم على أنه لا مدبر للعالم، فقد زالت الشبهة بيننا وبينهم. وإذا وقع لك ثنوي منهم فبخ بخ، قد ظفرت يداك بمن يقل معه تعبك، والمدخل عليه بإبطال التوحيد، والقول بالسابق والتالي، ورتب له ذلك على ما هو مرسوم لك في أول درجة البلاغ وثانيه وثالثه. وسنصنف لك عنهم من بعد واتخذ غليظ العهود، وتوكيد الأيمان، وشدة المواثيق جنة لك وحصنا، ولا تهجم على مستجيبك بالأشياء الكبار التي يستبشعونها حتى ترقيهم إلى أعلى المراتب: حالا فحالا، وتدرجهم درجة درجة، على ما سنبينه من بعد، وقف بكل فريق حيث احتمالهم، فواحد لا تزيده على التشيع والائتمام بمحمد بن إسماعيل، وأنه حي، لا تجاوز به هذا الحد، لا سيما إن كان مثله ممن يكثر به وبموضع اسمه، وأظهر له العفاف عن الدرهم والدينار، وخفف عليه وطأتك مرة بصلاة السبعين، وحذره الكذب والزنا واللواط وشرب النبيذ، وعليك في أمره بالرفق والمداراة له والتودد، وتصبر له: إن كان هواه متبعا لك تحظ عنده، ويكون لك عونا على دهرك، وعلى من لعله يعاديك من أهل الملل، ولا تأمن أن يتغير عليك بعض أصحابك، ولا تخرجه عن عبادة إلهه، والتدين بشريعة محمد نبيه - صلى الله عليه وسلم - والقول بإمامة علي وبنيه إلى محمد بن إسماعيل، وأقم له

دلائل الأسابيع فقط، ودقه بالصوم والصلاة دقا وشدة الاجتهاد، فإنك يومئذ إن أومأت إلى كريمته، فضلا عن ماله، لم يمنعك، وإن أدركته الوفاة فوض إليك ما خلفه، وورثك إياه، ولم ير في العالم من هو أوثق منك، وآخر ترقيه إلى نسخ شريعة محمد، وأن السابع هو الخاتم للرسل، وأنه ينطق كما ينطقون، ويأتي بأمر جديد، وأن محمدا صاحب الدور السادس، وأن عليا لم يكن إماما، وإنما كان سوسا لمحمد، وحسن القول فيه، وإلا سياسية، فإن هذا باب كبير، وعمل عظيم، منه ترقى إلى ما هو أعظم منه، وأكبر منه، ويعينك على زوال ما جاء به من قبلك، من وجوب زوال النبوات، على المنهاج الذي هو عليه، وإياك أن ترتفع من هذا الباب، إلا إلى من تقدر فيه النجابة، وآخر ترقيه من هذا إلى معرفة القرآن ومؤلفه وسببه، وإياك أن تغتر بكثير ممن يبلغ معك إلى هذه المنزلة، فترقيه إلى غيرها: ألا يغلطون المؤانسة والمدارسة، واستحكام الثقة به، فإن ذلك يكون لك عونا على تعطيل النبوات، والكتب التي يدعونها منزلة من عند الله، وآخر ترقيه إلى إعلامه أن القائم قد مات، وأنه يقوم روحانيا، وأن الخلق يرجعون إليه بصور روحانية، تفصل بين العباد بأمر الله عز وجل، ويستصفي المؤمنين من الكافرين بصور روحانية، فإن ذلك يكون أيضا عونا لك عند إبلاغه إلى إبطال المعاد الذي يزعمونه، والنشور من القبر. وآخر ترقيه من هذا إلى إبطال أمر الملائكة في السماء، والجن في الأرض، وأنه كان قبل آدم بشر كثير، وتقيم على ذلك الدلائل المرسومة في كتبنا، فإن ذلك مما يعينك وقت بلاغه على تسهيل التعطيل للوحي، والإرسال إلى البشر بملائكة، والرجوع إلى الحق والقول بقدم العالم.

موقفه من الرافضة:

وآخر ترقيه إلى أوائل درجة التوحيد، وتدخل عليه بما تضمنه كتابهم المترجم بكتاب 'الدرس الشافي للنفس' من أنه لا إله ولا صفة ولا موصوف، فإن ذلك يعينك على القول بالإلهية لمستحقها عند البلاغ"، وإلى ذلك يعنون بهذا أن كل داع منهم يترقى درجة درجة، إلى أن يصير إماما ناطقا، ثم ينقلب إلها روحانيا، على ما سنشرح قولهم فيه من بعد. قالوا: "ومن بلغته إلى هذه المنزلة فعرفه حسب ما عرفناك من حقيقة أمر الإمام، وأن إسماعيل وأباه محمدا كانا من نوابه، ففي ذلك عون لك على إبطال إمامة علي وولده عند البلاغ، والرجوع إلى القول بالحق". ثم لا يزال كذلك شيئا فشيئا حتى يبلغ الغاية القصوى على تدريج يصفه عنهم فيما بعد. قال القاضي: "فهذه وصيتهم جميعا للداعي إلى مذاهبهم، وفيها أوضح دليل لكل عاقل على كفر القوم وإلحادهم، وتصريحهم بإبطال حدوث العالم ومحدثه، وتكذيب ملائكته ورسله، وجحد المعاد والثواب والعقاب. وهذا هو الأصل لجميعهم وإنما يتمخرقون بذكر الأول والثاني والناطق والأساس، إلى غير ذلك، ويخدعون به الضعفاء، حتى إذا استجاب لهم مستجيب أخذوه بالقول بالدهر والتعطيل. (¬1) موقفه من الرافضة: - جاء في السير: وكان ثقة إماما بارعا، صنف في الرد على الرافضة والمعتزلة، والخوارج والجهمية والكرامية. (¬2) - وفيها: قال أبو حاتم محمود بن الحسين القزويني: كان ما يضمره ¬

(¬1) المنهاج (8/ 479 - 485). (¬2) السير (17/ 190).

موقفه من الجهمية:

القاضي أبو بكر الأشعري من الورع والدين أضعاف ما كان يظهره، فقيل له في ذلك، فقال: إنما أظهر ما أظهره غيظا لليهود والنصارى، والمعتزلة والرافضة، لئلا يستحقروا علماء الحق ... وكان سيفا على المعتزلة والرافضة والمشبهة. (¬1) موقفه من الجهمية: موقفه من المؤولة: قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى: وقال القاضي أبو بكر "محمد بن الطيب الباقلاني" المتكلم -وهو أفضل المتكلمين المنتسبين إلى الأشعري، ليس فيهم مثله لا قبله ولا بعده- قال في 'كتاب الإبانة' تصنيفه: فإن قال قائل: فما الدليل على أن لله وجها ويدا؟ قيل له قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} (¬2) وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (¬3) فأثبت لنفسه وجها ويدا. فإن قال: فلم أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة إن كنتم لا تعقلون وجها ويدا إلا جارحة؟ قلنا لا يجب هذا، كما لا يجب إذا لم نعقل حيا عالما قادرا إلا جسما أن نقضي نحن وأنتم بذلك على الله سبحانه وتعالى، وكما لا يجب في كل شيء كان قائما بذاته أن يكون جوهرا، لأنا وإياكم لم نجد قائما بنفسه في شاهدنا إلا كذلك، ¬

(¬1) السير (17/ 192 - 193). (¬2) الرحمن الآية (27). (¬3) ص الآية (57).

وكذلك الجواب لهم إن قالوا: يجب أن يكون علمه وحياته، وكلامه وسمعه وبصره وسائر صفات ذاته عرضا واعتلوا بالوجود. وقال: فإن قال فهل تقولون إنه في كل مكان؟ قيل له: معاذ الله بل مستو على عرشه كما أخبر في كتابه فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (¬1) وقال الله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (¬2) وقال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)} (¬3) قال: ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان وفمه، والحشوش والمواضع التي يرغب عن ذكرها، ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن، وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان، ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض، وإلى خلفنا وإلى يميننا وإلى شمالنا، وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله. (¬4) - جاء في السير: قال أبو حاتم محمود بن الحسين القزويني: وكان سيفا على المعتزلة والرافضة والمشبهة، وغالب قواعده على السنة، وقد أمر شيخ الحنابلة أبو الفضل التميمي مناديا يقول بين يدي جنازته: هذا ناصر السنة والدين، والذاب عن الشريعة، هذا الذي صنف سبعين ألف ورقة. ثم كان يزور قبره كل جمعة. قيل: ناظر أبو بكر أبا سعيد الهاروني، فأسهب، ووسع ¬

(¬1) طه الآية (5). (¬2) فاطر الآية (10). (¬3) الملك الآية (16). (¬4) مجموع الفتاوى (5/ 98 - 99).

العبارة، ثم قال للجماعة: إن أعاد ما قلت، قنعت به عن الجواب. فقال الهاروني: بل إن أعاد ما قاله، سلمت له. (¬1) - قال الذهبي: قلت: هو الذي كان ببغداد يناظر عن السنة وطريقة الحديث بالجدل والبرهان، وبالحضرة رؤوس المعتزلة والرافضة والقدرية وألوان البدع، ولهم دولة وظهور بالدولة البويهية، وكان يرد على الكرامية، وينصر الحنابلة عليهم، وبينه وبين أهل الحديث عامر، وإن كانوا قد يختلفون في مسائل دقيقة، فلهذا عامله الدارقطني بالاحترام، وقد ألف كتابا سماه: 'الإبانة' يقول فيه: فإن قيل: فما الدليل على أن لله وجها ويدا؟ قال: قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} (¬2)، وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (¬3) فأثبت تعالى لنفسه وجها ويدا. إلى أن قال: فإن قيل: فهل تقولون: إنه في كل مكان؟ قيل: معاذ الله بل هو مستو على عرشه كما أخبر في كتابه. إلى أن قال: وصفات ذاته التي لم يزل ولا يزال موصوفا بها: الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والوجه واليدان والعينان والغضب والرضى. فهذا نص كلامه. وقال نحوه في كتاب 'التمهيد' له، وفي كتاب 'الذب عن الأشعري' وقال: قد بينا دين الأمة وأهل السنة أن هذه الصفات تمر كما جاءت بغير تكييف ولا تحديد ولا تجنيس ولا تصوير. قلت: فهذا المنهج هو طريقة السلف، وهو الذي أوضحه أبو الحسن ¬

(¬1) السير (17/ 192 - 193). (¬2) الرحمن الآية (27). (¬3) ص الآية (75).

القابسي (403 هـ)

وأصحابه، وهو التسليم لنصوص الكتاب والسنة، وبه قال ابن الباقلاني، وابن فورك، والكبار إلى زمن أبي المعالي، ثم زمن الشيخ أبي حامد، فوقع اختلاف وألوان، نسأل الله العفو. (¬1) قال عبد الرحمن الوكيل: وقد سجل الباقلاني: أنه سلفي العقيدة في كتبه الآتية: التمهيد، والإبانة، والحيرة. (¬2) القَابِسِي (¬3) (403 هـ) علي بن محمد بن خلف أبو الحسن الإمام الحافظ الفقيه العلامة عالم المغرب القروي القابسي صاحب 'الملخص'. حج وسمع من حمزة بن محمد الكتاني الحافظ، وأبي زيد المروزي، وابن مسرور الدباغ وطائفة. وكان عارفا بالعلل والرجال والفقه والأصول والكلام مصنفا يقظا دينا تقيا، وكان ضريرا وهو من أصح العلماء كتبا. قال حاتم الأطرابلسي: كان أبو الحسن القابسي زاهدا ورعا يقظا لم أر بالقيروان إلا معترفا بفضله. تفقه عليه أبو عمران الفاسي وأبو القاسم اللبيدي وعتيق السوسي وغيرهم. ألف تواليف بديعة. ولد سنة أربع وعشرين وثلاثمائة. وقد أخذ القراءة عرضا بمصر عن أبي الفتح ابن بدهن وأقرأ الناس بالقيروان دهرا، ثم قطع الإقراء لما بلغه أن بعض أصحابه أقرأ الوالي ثم أعمل نفسه في درس الفقه والحديث حتى برع فيهما، ¬

(¬1) السير (17/ 558). (¬2) الصفات الإلهية بين السلف والخلف (ص.56). (¬3) السير (17/ 158 - 162) ووفيات الأعيان (3/ 320 - 322) ومعالم الإيمان (3/ 134 - 143) وتذكرة الحفاظ (3/ 1079 - 1080) والبداية والنهاية (11/ 375) وشذرات الذهب (3/ 168).

موقفه من الجهمية:

وصار إمام العصر. أثنى عليه بأكثر من هذا أبو عمرو الداني وقال: كتبنا عنه شيئا كثيرا. توفي في ربيع الأخير بالقيروان سنة ثلاث وأربعمائة. موقفه من الجهمية: ألف تواليف بديعة ككتاب 'المنقذ من شبه التأويل' وكتاب 'المنبه للفطن من غوائل الفتن' وكتاب 'الاعتقادات' وغير ذلك. (¬1) الخَوارِزْمي (¬2) (403 هـ) محمد بن موسى بن محمد أبو بكر المفتي العلامة شيخ الحنفية الخوارزمي ثم البغدادي، تلميذ أبي بكر أحمد بن علي الرازي. سمع من أبي بكر الشافعي وغيره. روى عنه البرقاني، ومن تلامذته الشريف الرضي والقاضي الصيمري. وما شهد الناس مثله في حسن الفتوى والإصابة فيها، دعي مرارا إلى الحكم فامتنع. قال ابن كثير: وكان ثقة دينا حسن الصلاة على طريقة السلف. توفي ليلة الجمعة الثامن عشر من جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعمائة. موقفه من الجهمية: جاء في السير عنه أنه قال: ديننا دين العجائز، لسنا من الكلام في شيء. (¬3) ¬

(¬1) السير (17/ 160) والديباج المذهب (2/ 102). (¬2) السير (17/ 235) والبداية والنهاية (11/ 374 - 375) والوافي بالوفيات (5/ 93) وتاريخ بغداد (3/ 247) وشذرات الذهب (3/ 170). (¬3) السير (17/ 235).

سهل بن محمد الصعلوكي (404 هـ)

سهل بن محمد الصُّعْلُوكِي (¬1) (404 هـ) العلامة، شيخ الشافعية بخراسان، الأديب الفقيه، مفتي نيسابور وابن مفتيها، أبو الطيب سهل بن الإمام أبي سهل محمد بن سليمان بن محمد العجلي الحنفي، انتهت إليه رئاسة أصحاب الحديث بعد والده. تفقه على والده، وسمع من محمد بن يعقوب الأصم وأبي علي الرفاه، وأبي عمرو إسماعيل بن نجيد السلمي. وروى عنه الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الله وأبو بكر البيهقي وغيرهم. درس الفقه واجتمع إليه الخلق اليوم الخامس من وفاة الأستاذ أبي سهل، وقد تخرج به جماعة من العلماء بنيسابور وسائر مدن خراسان، وتصدر للفتوى والقضاء والتدريس. قال الحاكم: هو من أنظر من رأينا، تخرج به جماعة، وحدث وأملى. قال: وبلغني أنه كان في مجلسه أكثر من خمس مائة محبرة. وقال: كان أبوه يجله، ويقول: سهل والد. وقال أبو إسحاق الشيرازي: كان أبو الطيب فقيها أديبا، جمع رئاسة الدنيا والدين، وأخذ عنه فقهاء نيسابور. له ألفاظ بديعة منها: من تصدر قبل أوانه، فقد تصدى لهوانه. وكان بعض العلماء يعد أبا الطيب المجدد للأمة دينها على رأس الأربعمائة. توفي في السنة الرابعة بعد الأربعمائة. ¬

(¬1) السير (17/ 207 - 209) والأنساب (8/ 64) ووفيات الأعيان (2/ 435 - 436) والبداية والنهاية (11/ 346) وشذرات الذهب (3/ 172 - 173) والوافي بالوفيات (16/ 12 - 13).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: جاء في ذم الكلام: عنه قال: أقل ما في الكلام من الخسار سقوط هيبة الله من القلب. (¬1) أبو حامد الإِسْفَرَايِينِي (¬2) (406 هـ) الأستاذ العلامة، شيخ الإسلام، أبو حامد أحمد بن أبي طاهر محمد بن أحمد الفقيه الإسفراييني، شيخ الشافعية ببغداد. ولد سنة أربع وأربعين وثلاثمائة. قدم بغداد وهو صغير ابن عشرين سنة. فتفقه على أبي الحسن بن المرزبان وأبي القاسم الداركي، وحدث عن عبد الله بن عدي وأبي بكر الإسماعيلي، وسمع 'السنن' من الدارقطني. وحدث عنه أبو الحسن الماوردي وسليم الرازي وأبو علي السنجي وآخرون. قال الخطيب: حدثونا عن أبي حامد، وكان ثقة، حضرت تدريسه في مسجد ابن المبارك، وسمعت من يذكر أنه كان يحضر درسه سبعمائة فقيه، وكان الناس يقولون: لو رآه الشافعي لفرح به. وقال أبو إسحاق الشيرازي: سألت أبا عبد الله الصميري: من أنظر من رأيت من الفقهاء؟ فقال: أبو حامد الإسفراييني. قال الشيخ أبو إسحاق في الطبقات: انتهت إليه رئاسة الدين والدنيا ببغداد. توفي في السنة السادسة بعد الأربعمائة. ¬

(¬1) ذم الكلام (ص.278). (¬2) السير (17/ 193 - 197) وتاريخ بغداد (4/ 368 - 370) والأنساب (1/ 238) ووفيات الأعيان (1/ 72 - 74) والوافي بالوفيات (7/ 357 - 358) والبداية والنهاية (12/ 3 - 4) وشذرات الذهب (3/ 178 - 179).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: - جاء في فتاوى شيخ الإسلام: قال الشيخ أبو الحسن -محمد بن عبد الملك الكرخي الشافعي-: وكان الشيخ أبو حامد شديد الإنكار على الباقلاني وأصحاب الكلام، قال أبو الحسن: ولم يزل الأئمة الشافعية يأنفون ويستنكفون أن ينسبوا إلى الأشعري، ويتبرأون مما بنى الأشعري مذهبه عليه، وينهون أصحابهم وأحبابهم عن الحوم حواليه على ما سمعت عدة من المشايخ والأئمة، منهم الحافظ المؤتمن بن أحمد بن علي الساجي يقولون: سمعنا جماعة من المشايخ الثقات قالوا: كان الشيخ أبو حامد أحمد بن أبي طاهر الإسفراييني إمام الأئمة الذي طبق الأرض علما، وأصحابا، إذا سعى إلى الجمعة من قطيعة الكرخ إلى جامع المنصور، ويدخل الرباط المعروف بالروزي المحاذي للجامع ويقبل على من حضر ويقول: اشهدوا علي بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، كما قال أحمد بن حنبل لا كما يقول الباقلاني (¬1)، وتكرر ذلك منه في جمعات فقيل له في ذلك فقال: حتى ينتشر في الناس وفي أهل الصلاح ويشيع الخبر في البلاد أني بريء مما هم عليه يعني الأشعري، وبريء من مذهب أبي بكر الباقلاني، فإن جماعة من المتفقهة الغرباء يدخلون على الباقلاني خفية، فيقرءون عليه فيفتنون بمذهبه، فإذا رجعوا إلى بلادهم أظهروا بدعتهم لا محالة، فيظن ظان أنهم مني تعلموه وأنا قلته، وأنا بريء من مذهب الباقلاني وعقيدته. ¬

(¬1) مفهوم هذا الكلام يفيد أن الباقلاني يقول بخلق القرآن، وهذا مخالف لما في كتابه التمهيد (ص.268). وهذا أيضا يناقض ما أثبتناه في مواقف الباقلاني سنة (403هـ) من المؤولة من هذا الكتاب.

قال الشيخ أبو الحسن: وسمعت شيخي الإمام أبا منصور الفقيه الأصبهاني يقول: سمعت شيخنا الإمام أبا بكر الزاذقاني يقول: كنت في درس الشيخ أبي حامد الإسفراييني وكان ينهى أصحابه عن الكلام وعن الدخول على الباقلاني، فبلغه أن نفرا من أصحابه يدخلون عليه خفية لقراءة الكلام، فظن أني معهم ومنهم وذكر قصة قال في آخرها: إن الشيخ أبا حامد قال لي: يا بني، بلغني أنك تدخل على هذا الرجل يعني الباقلاني، فإياك وإياه فإنه مبتدع يدعو الناس إلى الضلال. وإلا فلا تحضر مجلسي، فقلت: أنا عائذ بالله مما قيل وتائب إليه، واشهدوا علي أني لا أدخل إليه. قال: وسمعت الفقيه الإمام أبا منصور سعد بن علي العجلي يقول: سمعت عدة من المشايخ والأئمة ببغداد، أظن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي أحدهم قالوا: كان أبو بكر الباقلاني يخرج إلى الحمام متبرقعا خوفا من الشيخ أبي حامد الإسفراييني. قال وأخبرني جماعة من الثقات كتابة منهم القاضي أبو منصور اليعقوبي عن الإمام عبد الله بن محمد بن علي هو شيخ الإسلام الأنصاري قال: سمعت عبد الرحمن بن محمد بن الحسين وهو السلمي يقول: وجدت أبا حامد الإسفراييني وأبا الطيب الصعلوكي وأبا بكر القفال المروزي وأبا منصور الحاكم على الإنكار على الكلام وأهله. (¬1) التعليق: ماذا يقول أشاعرة الشافعية في هذه النصوص، هل تحتمل التأويل فينبغي أن تصرف عن ظاهرها. أو لا يعترفون أن أبا حامد منهم، أو يعتبرونه شاذا ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى (5/ 284 - 285).

عنهم، أو أن شيخ الإسلام اخترع هذا من عنده، أو أن عقولهم أرجح من الشيخ أبي حامد وهم أعلم. ولا أدري ماذا يقول الأشاعرة على العموم في هذا العالم المعترف بعلمه عند الخاص والعام. فإذا كان هذا موقف الشيخ مع أبي بكر بن الباقلاني الذي وصفه شيخ الإسلام بأنه من أجل أصحاب الأشعري الذين معهم شيء من السنة والعقيدة السلفية. فماذا يفعل أبو حامد لو عاصر الجويني والغزالي والرازي وابن العربي والباجي وأما المتأخرون فلا نضع عليهم السؤال ... والله المستعان. انظر نموذجا من عقيدة الشيخ منقولة من أصول الفقه له في اجتماع الجيوش عند قول الإمام ابن القيم: قول إمام الشافعية في وقته بل هو الشافعي الثاني أبي حامد الإسفراييني: كان من كبار أئمة السنة المثبتين للصفات قال: مذهبي ومذهب الشافعي رحمه الله تعالى، وجميع علماء الأمصار أن القرآن كلام الله ليس بمخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر، وأن جبرائيل عليه السلام سمعه من الله -عزوجل-، وحمله إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، وسمعه النبي - صلى الله عليه وسلم - من جبرائيل عليه السلام، وسمعه الصحابة -رضي الله عنهم- من محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأن كل حرف منه كالباء والتاء كلام الله -عز وجل- ليس بمخلوق. ذكره في كتابه في أصول الفقه، ذكره عنه شيخ الإسلام في الأجوبة المصرية. (¬1) ¬

(¬1) اجتماع الجيوش (ص.177) ومجموع الفتاوى (12/ 306).

أبو بكر محمد بن موهب المالكي (406 هـ)

أبو بكر محمد بن موهب المالكي (¬1) (406 هـ) محمد بن موهب بن محمد أبو بكر التميمي المعروف بالقبري الحصار، هو جد أبي الوليد الباجي لأمه. كان من العلماء الزهاد والفضلاء، أخذ ببلده ورحل إلى المشرق فصحب أبا محمد بن أبي زيد واختص به. وكان القاضي ابن ذكوان يقدمه على فقهاء وقته، وكان الأصيلي يعرف حقه ويثني عليه. وله تآليف في الفقه مفيدة وشرح لرسالة شيخه. خرج من الأندلس إلى سبتة فأخذ عنه بها حمزة بن إسماعيل وغيره، ثم عاد إلى الأندلس. توفي في جمادى الأولى سنة ست وأربعمائة. موقفه من الجهمية: قال في شرحه لرسالة ابن أبي زيد القيرواني: وأما قوله: (إنه فوق عرشه المجيد بذاته) فإن معنى فوق وعلا عند جميع العرب واحد وفي كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - تصديق ذلك. ثم ساق الآيات في إثبات العلو وحديث الجارية إلى أن قال: وقد تأتي 'في' في لغة العرب بمعنى فوق، وعلى ذلك قوله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} (¬2) يريد فوقها وعليها وكذلك قوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (¬3) يريد عليها وقال تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي ¬

(¬1) تاريخ الإسلام (حوادث 401 - 410/ ص.152 - 153) والديباج المذهب (2/ 234) وشجرة النور الزكية (1/ 111). (¬2) الملك الآية (15). (¬3) طه الآية (71).

السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} (¬1) الآيات، قال أهل التأويل العالمون بلغة العرب: يريد فوقها وهو قول مالك مما فهمه عن جماعة ممن أدرك من التابعين مما فهموه عن الصحابة رضي الله عنهم، مما فهموه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله في السماء بمعنى فوقها، وعليها، فلذلك قال الشيخ أبو محمد إنه فوق عرشه المجيد بذاته ثم بين أن علوه على عرشه إنما هو بذاته لأنه بائن عن جميع خلقه بلا كيف وهو في كل مكان من الأمكنة المخلوقة بعلمه لا بذاته، إذ لا تحويه الأماكن لأنه أعظم منها وقد كان ولا مكان، ولم يحل بصفاته عما كان إذ لا تجري عليه الأحوال، لكن علوه في استوائه على عرشه هو عندنا بخلاف ما كان قبل أن يستوي على العرش لأنه قال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (¬2) و"ثم" أبدا لا يكون إلا لاستئناف فعل يصير بينه وبين ما قبله فسحة، إلى أن قال: وقوله: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (¬3) فإنما معناه عند أهل السنة على غير الاستيلاء والقهر والغلبة والملك الذي ظنته المعتزلة ومن قال بقولهم إنه بمعنى الاستيلاء وبعضهم يقول إنه على المجاز دون الحقيقة. قال: ويبين سوء تأويلهم في استوائه على عرشه على غير ما تأولوه من الاستيلاء وغيره، ما قد علمه أهل العقول أنه لم يزل مستوليا على جميع مخلوقاته بعد اختراعه لها وكان العرش وغيره في ذلك سواء. فلا معنى لتأويلهم بإفراد العرش بالاستواء ¬

(¬1) الملك الآية (16). (¬2) الحديد الآية (4). (¬3) طه الآية (5).

ابن خلدون البلوي (407 هـ)

الذي هو في تأويلهم الفاسد استيلاء وملك وقهر وغلبة، وقال: وكذلك بين أيضا أنه على الحقيقة بقوله عز وجل: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)} (¬1) فلما رأى المنصفون إفراد ذكره بالاستواء على عرشه بعد خلق سمواته وأرضه وتخصيصه بصفة الاستواء علموا أن الاستواء هنا غير الاستيلاء ونحوه فأقروا بصفة الاستواء على عرشه وأنه على الحقيقة لا على المجاز لأنه الصادق في قيله، ووقفوا عن تكييف ذلك وتمثيله إذ ليس كمثله شيء من الأشياء. (¬2) ابن خلدون البلوي (¬3) (407 هـ) حسن بن خلدون أبو علي البلوي، قرأ على الشيخ أبي الحسن النابلسي. كان البلوي ركنا من أركان أهل السنة. وكان من أهل الكرم يعامل الناس معاملة حسنة وقسم مالا جليلا وفضائله كثيرة، حيث كان يجري النفقة على جماعة من أهل العلم والطلبة ويحضر مائدته جماعة من العلماء والطلبة ويصلهم بالدراهم الكثيرة. استشهد على يد رجال المعز بن باديس سنة سبع وأربعمائة. موقفه من الرافضة: - جاء في معالم الإيمان أنه كان شديدا على أهل البدع والروافض ¬

(¬1) النساء الآية (122). (¬2) اجتماع الجيوش (173 - 174). (¬3) معالم الإيمان (3/ 151 - 155).

مغريا بهم. (¬1) - وفيها أن سبب قتله: لما قدم المعز بن باديس القيروان بعد موت أبيه واستفتاح ولايته وذلك يوم الجمعة منتصف محرم عام سبعة وأربعمائة قتلت العامة الرافضة بالقيروان أقبح قتل، وحرقوهم وانتهبوا أموالهم، وهدموا ديارهم، وقتلوا نساءهم وصبيانهم، وجرحوهم بالأرجل، وكانت صيحة من الله سلطها عليهم وخرج الأمر من القيروان إلى المهدية وساير بلادهم، فقتلوا حيث وجدوا وأحرقوا بالنار فلم يترك أحد منهم بمداين إفريقية إلا من اختفى، ولجأت الرافضة إلى مساجد المهدية فقتلوا فيها، وهدموا دار الإمارة وتقدمت العامة بذلك إلى جماعة من أهل السنة ومن غيرهم؛ فلقد حُكِيَ أن العامة جاءت متعلقة برجل اتهموه برأيهم، فمروا به على شيخ من العامة فسألهم عن تعلقهم به فقالوا نسير به إلى الشيخ أبي علي بن خلدون فننظر ما يأمرنا به فقال لهم الشيخ العامي: لا، اقتلوه الآن، فإن كان رافضيا أصبتم، وإن كان سنيا عجلتم بروحه إلى الجنة الآن أو كما قال: فانتقم الله منهم على أيدي عامة المسلمين وقتلوهم كل مقتل، فرعب المعز منهم وأراد كسر شوكتهم فدبر قتل زعيم أهل السنة وشيخ هذه الدعوة، فلما كان يوم الخميس الثاني عشر من شوال من السنة المذكورة أتى عامل القيروان إلى مسجد الشيخ ومعه خيل ورجال ... فقتلوا أبا محمد الغرياني الفقيه وآخر بدويا ظانين أنه أبو علي، فلما عرفوا مالوا على أبي علي بسكاكينهم، وجردوا جماعة ممن كان في المسجد ¬

(¬1) المعالم (3/ 151).

طغان خان (408 هـ)

فحملوا أبا علي إلى داره وقد وقعت فيه ثلاث جراحات إحداها في صدغه أخذت إلى قفاه واثنتان في جانبه الأيسر انفذتا مقاتله، توفي في داره بعد العشاء الآخرة وبقي دمه بالمحراب إلى قريب زماننا هذا. (¬1) طغان خان (¬2) (408 هـ) أحمد بن طغان خان أبو نصر التركي صاحب تركستان وغيرها. هاجمته جيوش الكفر بعدد هائل فحاربهم وانتصر عليهم انتصارا باهرا. وكانت ملحمة مشهودة، وكان دينا عادلا بطلا شجاعا. توفي بعد رجوعه من تلك المعركة سنة ثمان وأربعمائة. موقفه من المشركين: قال الذهبي: قصدته جيوش الصين والخَطَا في جمع ما سمع بمثله حتى قيل: كانوا ثلاث مئة ألف. وكان مريضا فقال: اللهم عافني لأغزوهم، ثم توفني إن شئت. فعوفي، وجمع عساكره وساق فبيتهم، وقتل منهم نحو مئتي ألف، وأسر مئة ألف، وكانت ملحمة مشهودة في سنة ثمان وأربع مئة، ورجع بغنائم لا تحصى إلى بلاساغون، فتوفاه الله عقيب وصوله. (¬3) ¬

(¬1) المعالم (3/ 153). (¬2) السير (17/ 278 - 279) والكامل في التاريخ (9/ 297 - 298). (¬3) السير (17/ 278 - 279).

أبو بكر بن مردويه (410 هـ)

أبو بكر بن مردويه (¬1) (410 هـ) الحافظ، الثبت، العلامة، محدث أصبهان أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه بن فورك الأصبهاني. كان مولده سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة. روى عن أبي سهل بن زياد القطان وميمون بن إسحاق وعبد الله بن إسحاق الخراساني ومحمد بن عبد الله بن علم الصفار وطبقتهم. وروى عنه أبو القاسم عبد الرحمن بن منده وأخوه أبو عمرو عبد الوهاب، وأبو بكر العطار وخلق كثير. قال أبو بكر بن أبي علي -وذكر أبا بكر بن مردويه-: هو أكبر من أن ندل عليه وعلى فضله، وعلمه وسيره، وأشهر بالكثرة والثقة من أن يوصف حديثه، أبقاه الله، ومتعه بمحاسنه. وكان من فرسان الحديث، بصيرا بالرجال، فهما يقظا متقنا، كثير الحديث جدا، مليح التصانيف. توفي في السنة العاشرة بعد الأربعمائة. موقفه من الجهمية: آثاره السلفية: له تفسير، أكثر من النقل عنه الحافظ ابن كثير وذكره شيخ الإسلام في درء التعارض ضمن التفاسير التي اعتنت بنقل عقيدة السلف. (¬2) ¬

(¬1) السير (17/ 308 - 311) وتذكرة الحفاظ (3/ 1050 - 1051) والوافي بالوفيات (8/ 201) وتاريخ الإسلام (حوادث 411 - 420/ص.200) وشذرات الذهب (3/ 190). (¬2) درء التعارض (2/ 22).

موقف السلف من الحاكم العبيدي الرافضي (411 هـ)

موقف السلف من الحاكم العبيدي الرافضي (411 هـ) بيان زندقته وتجبره وتسلطه: - قال الذهبي: وكان شيطانا مريدا جبارا عنيدا، كثير التلون، سفاكا للدماء، خبيث النحلة، عظيم المكر جوادا ممدحا، له شأن عجيب، ونبأ غريب، كان فرعون زمانه، يخترع كل وقت أحكاما يلزم الرعية بها. أمر بسب الصحابة رضي الله عنهم، وبكتابة ذلك على أبواب المساجد والشوارع. وأمر عماله بالسب. (¬1) - وقال: وأنشأ دارا كبيرة ملأها قيودا وأغلالا، وجعل لها سبعة أبواب، وسماها جهنم. فكان من سخط عليه، أسكنه فيها. ولما أمر بحريق مصر، واستباحها، بعث خادمه ليشاهد الحال. فلما رجع، قال: كيف رأيت؟ قال: لو استباحها طاغية الروم ما زاد على ما رأيت، فضرب عنقه. (¬2) - وقال: وثم اليوم طائفة من طغام الإسماعيلية الذين يحلفون بغيبة الحاكم، ما يعتقدون إلا أنه باق، وأنه سيظهر. نعوذ بالله من الجهل. (¬3) - وقال ابن كثير: ثم دخلت سنة إحدى عشرة وأربعمائة فيها عدم الحاكم بمصر، وذلك أنه لما كان ليلة الثلاثاء لليلتين بقيتا من شوال فقد الحاكم بن المعز الفاطمي صاحب مصر، فاستبشر المؤمنون والمسلمون بذلك، ¬

(¬1) السير (15/ 174). (¬2) السير (15/ 177). (¬3) السير (15/ 183).

وذلك لأنه كان جبارا عنيدا، وشيطانا مريدا. ولنذكر شيئا من صفاته القبيحة، وسيرته الملعونة، أخزاه الله. كان كثير التلون في أفعاله وأحكامه وأقواله، جائرا، وقد كان يروم أن يدعي الألوهية كما ادعاها فرعون، فكان قد أمر الرعية إذا ذكر الخطيب على المنبر اسمه أن يقوم الناس على أقدامهم صفوفا، إعظاما لذكره واحتراما لاسمه، فعل ذلك في سائر ممالكه حتى في الحرمين الشريفين، وكان قد أمر أهل مصر على الخصوص إذا قاموا عند ذكره خروا سجدا له، حتى إنه ليسجد بسجودهم من في الأسواق من الرعاع وغيرهم، ممن كان لا يصلي الجمعة، وكانوا يتركون السجود لله في يوم الجمعة وغيره ويسجدون للحاكم، وأمر في وقت لأهل الكتابين بالدخول في دين الإسلام كرها، ثم أذن لهم في العود إلى دينهم، وخرب كنائسهم ثم عمرها، وخرب القمامة ثم أعادها، وابتنى المدارس. وجعل فيها الفقهاء والمشايخ، ثم قتلهم وأخربها، وألزم الناس بغلق الأسواق نهارا، وفتحها ليلا، فامتثلوا ذلك دهرا طويلا، حتى اجتاز مرة برجل يعمل النجارة في أثناء النهار فوقف عليه فقال: ألم أنهكم؟ فقال: يا سيدي لما كان الناس يتعيشون بالنهار كانوا يسهرون بالليل، ولما كانوا يتعيشون بالليل سهروا بالنهار فهذا من جملة السهر، فتبسم وتركه. وأعاد الناس إلى أمرهم الأول، وكل هذا تغيير للرسوم، واختبار لطاعة العامة له، ليرقى في ذلك إلى ما هو أشر وأعظم منه. وقد كان يعمل الحسبة بنفسه فكان يدور بنفسه في الأسواق على حمار له -وكان لا يركب إلا حمارا- فمن وجده قد غش في معيشة أمر عبدا أسود معه يقال له

مسعود، أن يفعل به الفاحشة العظمى، وهذا أمر منكر ملعون، لم يسبق إليه، وكان قد منع النساء من الخروج من منازلهن وقطع شجر الأعناب حتى لا يتخذ الناس منها خمرا، ومنعهم من طبخ الملوخية، وأشياء من الرعونات التي من أحسنها منع النساء من الخروج، وكراهة الخمر، وكانت العامة تبغضه كثيرا، ويكتبون له الأوراق بالشتيمة البالغة له ولأسلافه في صورة قصص، فإذا قرأها ازداد غيظا وحنقا عليهم، حتى إن أهل مصر عملوا صورة امرأة من ورق بخفيها وإزارها، وفي يدها قصة من الشتم واللعن والمخالفة شيء كثير، فلما رآها ظنها امرأة، فذهب من ناحيتها وأخذ القصة من يدها فقرأها فرأى ما فيها، فأغضبه ذلك جدا، فأمر بقتل المرأة، فلما تحققها من ورق ازداد غيظا إلى غيظه، ثم لما وصل إلى القاهرة أمر السودان أن يذهبوا إلى مصر فيحرقوها وينهبوا ما فيها من الأموال والمتاع والحريم، فذهبوا فامتثلوا ما أمرهم به، فقاتلهم أهل مصر قتالا شديدا، ثلاثة أيام، والنار تعمل في الدور والحريم، وهو في كل يوم قبحه الله، يخرج فيقف من بعيد وينظر ويبكي ويقول: من أمر هؤلاء العبيد بهذا؟ ثم اجتمع الناس في الجوامع ورفعوا المصاحف وصاروا إلى الله عز وجل، واستغاثوا به، فرق لهم الترك والمشارقة وانحازوا إليهم، وقاتلوا معهم عن حريمهم ودورهم، وتفاقم الحال جدا، ثم ركب الحاكم لعنه الله ففصل بين الفريقين، وكف العبيد عنهم، وكان يظهر التنصل مما فعله العبيد وأنهم ارتكبوا ذلك من غير علمه وإذنه، وكان ينفذ إليهم السلاح ويحثهم على ذلك في الباطن، وما انجلى الأمر حتى احترق من مصر نحو ثلثها، ونهب قريب من نصفها، وسبيت نساء وبنات كثيرة وفعل

أحمد بن أبي نصر الصوفي (412 هـ)

معهن الفواحش والمنكرات، حتى إن منهن من قتلت نفسها خوفا من العار والفضيحة، واشترى الرجال منهم من سبي لهم من النساء والحريم. قال ابن الجوزي: ثم ازداد ظلم الحاكم حتى عَنَّ له أن يدعي الربوبية، فصار قوم من الجهال إذا رأوه يقولون: يا واحد يا أحد يا محيي يا مميت قبحهم الله جميعا. (¬1) أحمد بن أبي نصر الصوفي (¬2) (412 هـ) الإمام، المحدث، الزاهد، الجوال، أبو سعد أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن حفص بن الخليل، الأنصاري الهروي، الماليني الصوفي، الملقب بطاووس الفقراء. ارتحل في طلب العلم إلى الآفاق ولقي المشايخ وحَصَّلَ وجمع وصَنَّفَ الكتب الطوال والمصنفات الكبار. حدث عن أبي أحمد بن عدي، وإسماعيل بن نجيد، وأبي بكر القطيعي، ومحمد بن عبد الله السليطي، وخلق كثير. وحدّث عنه أبو بكر البيهقي، وأبو بكر الخطيب، وتمام الرازي وعبد الغني المصري، وغيرهم. قال الخطيب: كان ثقة متقنا صالحا. وقال: أحد الرحالين في طلب الحديث، والمكثرين منه. وقال أبو إسحاق الحبال: كأن الإسناد، كان يمسك له في البلاد حتى يدركه. توفي في السنة الثانية عشرة بعد المائة الرابعة. ¬

(¬1) البداية (12/ 10 - 11). (¬2) تاريخ بغداد (4/ 371 - 372) وتذكرة الحفاظ (3/ 1070 - 1072) والوافي بالوفيات (7/ 330) والبداية والنهاية (12/ 11) وشذرات الذهب (3/ 195) والسير (17/ 301).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: جاء في ذم الكلام: قال الهروي: سمعت أحمد بن أبي نصر الماليني يقول: دخلت جامع عمرو ابن العاص رضي الله عنه بمصر، في نفر من أصحابي، فلما جلسنا جاء شيخ فقال: أنتم أهل خراسان أهل سنة وهذا هو موضع الأشعرية فقوموا. (¬1) التعليق: يؤخذ من هذا النص، أن هذا الشيخ ميز بين أهل السنة في ذلك العصر، وبين أهل البدع الذين هم الأشعرية. وبعد هذا الزمان انقلبت الموازين، فأطلق على المبتدعة أنهم هم أهل السنة، والسنة ما مرت ببابهم. موقف السلف من محمد بن الحسين السلمي الصوفي (412 هـ) بيان فضائحه الصوفية: كان هذا الرجل من كبارهم، وألف لهم كتبا ما تزال عمدة عندهم ومصدرا ومن أشهرها 'طبقات الصوفية' ملأه بكل باطل، و'حقائق التفسير' الذي ستسمع كلام الأئمة فيه. - قال الخطيب: وقال لي محمد بن يوسف القطان النيسابوري: كان أبو عبد الرحمن السلمي غير ثقة، ولم يكن سمع من الأصم إلا شيئا يسيرا، ¬

(¬1) ذم الكلام (281).

فلما مات الحاكم أبو عبد الله بن البيع حدث عن الأصم بتاريخ يحيى بن معين وبأشياء كثيرة سواه. قال: وكان يضع للصوفية الأحاديث. (¬1) - وجاء في سير أعلام النبلاء عنه قال: من قال لأستاذه لم؟ لا يفلح أبدا. (¬2) التعليق: هذه الكلمة التي قالها هذا الرجل، أصبحت قاعدة مقدسة عند الصوفية. وهي عندهم بمنزلة الوحي. واستغلها مشايخهم في ارتكاب كل ما يريدون من قول أو فعل، فإن كان قولا أولوه، وقال: الشيخ يقصد، كذا ويقصد كذا وإن كان فعلا كذلك حتى أصبحوا يعدون فعل الفاحشة من الكرامات. وقد سمعت أنا شخصيا من بعضهم، حتى لو قرر الشيخ الكفر فلا يجوز الاعتراض عليه. وقالوا نظما: وسلم للرجال في كل حال ... ولا تغتب ولا ترمي إشاره فإن الرجال بحر عميق ... لن تدرك له قراره - قال الإمام تقي الدين ابن الصلاح في فتاويه: وجدت عن الإمام أبي الحسن الواحدي المفسر رحمه الله أنه قال: صنف أبو عبد الرحمن السلمي حقائق التفسير، فإن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر. (¬3) ¬

(¬1) تاريخ الخطيب (2/ 248). (¬2) السير (17/ 251). (¬3) فتاوى ابن الصلاح (1/ 196 - 197).

- وقال الذهبي: وللسلمي سؤالات للدارقطني عن أحوال المشايخ والرواة، سؤال عارف، وفي الجملة ففي تصانيفه أحاديث وحكايات موضوعة وفي حقائق تفسيره أشياء لا تسوغ أصلا، عدها بعض الأئمة من زندقة الباطنية وعدها بعضهم عرفانا وحقيقة نعوذ بالله من الضلال ومن الكلام بهوى فإن الخير كل الخير في متابعة السنة والتمسك بهدي الصحابة والتابعين رضي الله عنهم. (¬1) - وقيل بلغت تآليف السلمي ألف جزء وحقائقه قرمطة. (¬2) - وقال ابن الجوزي في تلبيس إبليس: ومازال إبليس يخطبهم بفنون البدع، حتى جعلوا لأنفسهم سننا. وجاء أبو عبد الرحمن السلمي، فصنف لهم كتاب: السنن، وجمع لهم حقائق التفسير، فذكر عنهم فيه العجب في تفسيرهم القرآن بما يقع لهم، من غير إسناد ذلك إلى أصل من أصول العلم. وإنما حملوه على مذاهبهم، والعجب من ورعهم في الطعام وانبساطهم في القرآن. (¬3) - وقال ابن تيمية رحمه الله -في معرض الحديث عما كُذِب على جعفر الصادق: حتى نقل عنه أبو عبد الرحمن في 'حقائق التفسير' من الأكاذيب ما نزه الله جعفرا عنه. (¬4) ¬

(¬1) السير (17/ 252). (¬2) السير (17/ 255). (¬3) التلبيس (ص 203). (¬4) المنهاج (4/ 54).

موقف السلف من الشيخ المفيد الرافضي (413 هـ)

موقف السلف من الشيخ المفيد الرافضي (413 هـ) بيان ضلالاته: - قال فيه الذهبي: عالم الرافضة، صاحب التصانيف، الشيخ المفيد واسمه: محمد بن محمد بن النعمان البغدادي الشيعي، ويعرف بابن المعَلِّم. (¬1) - وقال عنه أيضا: يدور على المكاتب وحوانيت الحاكة، فيتلمح الصبي الفطن، فيستأجره من أبويه -يعني فيضله- قال: وبذلك كثر تلامذته. (¬2) - قال ابن تيمية في المنهاج: كما صنف المفيد كتابا سماه 'مناسك حج المشاهد' وفيه من الكذب والشرك ما هو من جنس كذب النصارى وشركهم، ومنها تأخير صلاة المغرب، ومضاهاة لليهود، ومنها تحريم ذبائح أهل الكتاب، وتحريم نوع من السمك، وتحريم بعضهم لحم الجمل، واشتراط بعضهم في الطلاق الشهود على الطلاق، وإيجابهم أخذ خمس مكاسب المسلمين، وجعلهم الميراث كله للبنت دون العم وغيره من العصبة، والجمع الدائم بين الصلاتين، ومثل صوم بعضهم بالعدد لا بالهلال، يصومون قبل الهلال ويفطرون قبله، ومثل ذلك من الأحكام التي يعلم علما يقينيا أنها خلاف دين المسلمين، الذي بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأنزل به كتابه. وقد قدمنا ذكر بعض أمورهم التي هي من أظهر الأمور إنكارا في الشرع والعقل، ولهم مقالات باطلة وإن كان قد وافقهم عليها بعض المتقدمين: مثل إحلال ¬

(¬1) السير (17/ 344). (¬2) السير (17/ 344).

علي بن عيسى (414 هـ سنة وفاة الباشاني)

المتعة، وأن الطلاق المعلق بالشرط لا يقع، وإن قصد إيقاعه عند الشرط، وأن الطلاق لا يقع بالكنايات، وأنه يشترط فيه الإشهاد. (¬1) علي بن عيسى (414 هـ سنة وفاة الباشاني) موقفه من الجهمية: عن محمد بن الحسين الباشاني قال: حضرت علي بن عيسى فذكر بين يديه من كلام الكرامية شيء فقال: اسكتوا لا تنجسوا مسجدي. (¬2) ابن النَّحَّاس (¬3) (416 هـ) الشيخ، الإمام، المحدث، مسند الديار المصرية، أبو محمد عبد الرحمن بن عمر ابن محمد بن سعيد التجيبي المصري المالكي البزاز. ولد سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة. سمع من أبي سعيد بن الأعرابي، وأبي طاهر المديني وعلي ابن عبد الله بن أبي مطر وطبقتهما. وحدث عنه الصوري وأبو عمرو الداني وأبو إسحاق الحبال، وخلق. كان أول سماعه وهو ابن ثمان سنين، وكان الخطيب قد عزم على الرحلة إليه، فلم يقض. توفي في السنة السادسة عشرة بعد المائة الرابعة. ¬

(¬1) المنهاج (3/ 419 - 420). (¬2) ذم الكلام (277) وفيه: الحسين بن محمد الباساني، ولعل الصواب ما أثبتناه. انظر السير (17/ 339 - 340). (¬3) السير (17/ 313 - 314) وشذرات الذهب (3/ 204) والنجوم الزاهرة (4/ 263) وحسن المحاضرة (1/ 373) والعبر (1/ 428).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: له من الآثار السلفية: 'رؤية الله' وقد حققه محفوظ الرحمان. هِبَة الله اللاَّلَكائِي (¬1) (418 هـ) أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الرازي، وهو طبري الأصل الحافظ المجود، المفتي الشافعي اللالكائي. درس الفقه على مذهب الشافعي عند أبي حامد الإسفراييني وبرع فيه. سمع من عيسى بن علي الوزير وأبي طاهر المخلص وعلي بن محمد القصار وعدة. وروى عنه أبو بكر الخطيب وابنه محمد بن هبة الله وأبو بكر أحمد بن علي الطريثيثي وعدة. قال ابن كثير: كان يفهم ويحفظ، وعني بالحديث فصنف فيه أشياء كثيرة، ولكن عاجلته المنية قبل أن تشتهر كتبه، وله كتاب في السنة وشرفها، وذكر طريقة السلف الصالح في ذلك. توفي سنة ثمان عشرة وأربعمائة. موقفه من المبتدعة: له من الآثار السلفية: 'شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة'، وقد طبع الكتاب والحمد لله رب العالمين بتحقيق صديقنا الشيخ أحمد سعد حمدان، ويعتبر الكتاب من أكبر المصادر في العقيدة السلفية وقد نفعنا الله به في هذا البحث المبارك. ¬

(¬1) السير (17/ 419 - 420) وتاريخ بغداد (13/ 70 - 71) والكامل في التاريخ (9/ 364) وتذكرة الحفاظ (3/ 1083 - 1085) والبداية والنهاية (12/ 26) وشذرات الذهب (3/ 211).

- ومن طيب أقواله فيه ما ذكره في المقدمة قال: أما بعد: فإن أوجب ما على المرء: معرفة اعتقاد الدين وما كلف الله به عباده من فهم توحيده وصفاته وتصديق رسله بالدلائل واليقين والتوصل إلى طرقها والاستدلال عليها بالحجج والبراهين. وكان من أعظم مقول وأوضح حجة ومعقول: كتاب الله الحق المبين ثم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الأخيار المتقين ثم ما أجمع عليه السلف الصالحون ثم التمسك بمجموعها والمقام عليها إلى يوم الدين ثم الاجتناب عن البدع والاستماع إليها مما أحدثها المضلون. فهذه الوصايا الموروثة المتبوعة والآثار المحفوظة المنقولة وطرايق الحق المسلوكة والدلائل اللايحة المشهورة والحجج الباهرة المنصورة التي عملت عليها الصحابة والتابعون ومن بعدهم من خاصة الناس وعامتهم من المسلمين واعتقدوها حجة فيما بينهم وبين الله رب العالمين. ثم من اقتدى بهم من الأئمة المهتدين واقتفى آثارهم من المتبعين واجتهد في سلوك سبيل المتقين وكان مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. فمن أخذ في مثل هذه المحجة وداوم بهذه الحجج على منهاج الشريعة أمن في دينه التبعة في العاجلة والآجلة، وتمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، واتقى بالجنة التي يتقي بمثلها ليتحصن بجملتها ويستعجل بركتها ويحمد عاقبتها في المعاد والمآل إن شاء الله. ومن أعرض عنها وابتغى الحق في غيرها مما يهواه أو يروم سواها مما تعداه أخطأ اختيار بغيته وأغواه، وسلكه سبيل الضلالة، وأرداه في مهاوي

الهلكة فيما يعترض على كتاب الله وسنة رسوله بضرب الأمثال ودفعهما بأنواع المحال والحيدة عنهما بالقيل والقال مما لم ينزل الله به من سلطان ولا عرفه أهل التأويل واللسان ولا خطر على قلب عاقل بما يقتضيه من برهان ولا انشرح له صدر موحد عن فكر أو عيان فقد استحوذ عليه الشيطان وأحاط به الخذلان وأغواه بعصيان الرحمن حتى كابر نفسه بالزور والبهتان. (¬1) - ثم قال: فما جنى على المسلمين جناية أعظم من مناظرة المبتدعة، ولم يكن لهم قهر ولا ذل أعظم مما تركهم السلف على تلك الجملة يموتون من الغيظ كمدا ودردا، ولا يجدون إلى إظهار بدعتهم سبيلا، حتى جاء المغرورون ففتحوا لهم إليها طريقا وصاروا لهم إلى هلاك الإسلام دليلا حتى كثرت بينهم المشاجرة وظهرت دعوتهم بالمناظرة وطرقت أسماع من لم يكن عرفها من الخاصة والعامة حتى تقابلت الشبه في الحجج وبلغوا من التدقيق في اللجج فصاروا أقرانا، وأخدانا، وعلى المداهنة خلانا وإخوانا بعد أن كانوا في الله أعداء وأضدادا وفي الهجرة في الله أعوانا يكفرونهم في وجوههم عيانا ويلعنونهم جهارا، وشتان ما بين المنزلتين، وهيهات ما بين المقامين. نسأل الله أن يحفظنا من الفتنة في أدياننا وأن يمسكنا بالإسلام والسنة ويعصمنا بهما بفضله ورحمته. فهلم الآن إلى تدين المتبعين وسيرة المتمسكين وسبيل المتقدمين بكتاب ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (1/ 7 - 9).

الله وسنته والمنادين بشرايعه وحكمته الذين قالوا: {آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)} (¬1). وتنكبوا سبيل المكذبين بصفات الله وتوحيد رب العالمين فاتخذوا كتاب الله إماما وآياته فرقانا، ونصبوا الحق بين أعينهم عيانا وسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جنة وسلاحا واتخذوا طرقها منهاجا، وجعلوها برهانا فلقوا الحكمة ووقوا من شر الهوى والبدعة، لامتثالهم أمر الله في اتباع الرسول وتركهم الجدال بالباطل ليدحضوا به الحق. يقول الله عزوجل فيما يحث على اتباع دينه، والاعتصام بحبله، والاقتداء برسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)} (¬2). وقال تبارك وتعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} (¬3) وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ¬

(¬1) آل عمران الآية (53). (¬2) آل عمران الآية (103). (¬3) الزمر الآية (55).

ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} (¬1) وقال: {فَبَشِّرْ عباد (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)} (¬2) وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)} (¬3) وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} (¬4). ثم أوجب الله طاعته وطاعة رسوله فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أطيعوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)} (¬5) وقال تعالى: {مَنْ أطاع الرسول فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (¬6) وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (¬7) وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ ¬

(¬1) الأنعام الآية (153). (¬2) الزمر الآيتان (17و18). (¬3) آل عمران الآية (31). (¬4) يوسف الآية (108). (¬5) الأنفال الآية (20). (¬6) النساء الآية (80). (¬7) النور الآية (54).

فَوْزًا عَظِيمًا (71)} (¬1) وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفائزون (52)} (¬2). وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬3) قيل في تفسيرها: إلى الكتاب والسنة ثم حذر من خلافه والاعتراض عليه فقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (¬4) وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} (¬5) وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} (¬6). وروى العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة دمعت منها الأعين ووجلت منها القلوب فقلنا: يا رسول الله موعظة مودع فبما ¬

(¬1) الأحزاب الآية (71). (¬2) النور الآية (52). (¬3) النساء الآية (59). (¬4) النساء الآية (65). (¬5) الأحزاب الآية (36). (¬6) النور الآية (63).

تعهد إلينا فقال: «قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة ضلالة». (¬1) وروى عبد الله بن مسعود قال: خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطا ثم خط خطوطا يمينا وشمالا ثم قال: «هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه -ثم قرأ- {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬2)».اهـ (¬3) وعن ابن مسعود قال: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم. فلم نجد في كتاب الله وسنة رسوله وآثار صحابته إلا الحث على الاتباع وذم التكلف والاختراع. فمن اقتصر على هذه الآثار كان من المتبعين وكان أولاهم بهذا الاسم، وأحقهم بهذا الوسم، وأخصهم بهذا الرسم "أصحاب الحديث" لاختصاصهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واتباعهم لقوله وطول ملازمتهم له، وتحملهم علمه، وحفظهم أنفاسه وأفعاله، فأخذوا الإسلام عنه مباشرة، وشرايعه مشاهدة، وأحكامه معاينة من غير واسطة ولا سفير بينهم وبينه واصله. فجاولوها عيانا، وحفظوا عنه شفاها وتلقفوه ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (4/ 126) وأبو داود (5/ 13 - 15/ 4607) والترمذي (5/ 43/2676) وقال: "حسن صحيح". وابن ماجه (1/ 16/43) والحاكم (1/ 95 - 96) وقال: "صحيح ليس له علة ". ووافقه الذهبي. (¬2) الأنعام الآية (153). (¬3) تقدم تخريجه ضمن مواقف الإمام مالك سنة (179هـ).

من فيه رطبا، وتلقنوه من لسانه عذبا، واعتقدوا جميع ذلك حقا وأخلصوا بذلك من قلوبهم يقينا. فهذا دين أخذ أوله عن رسول الله مشافهة لم يشبه لبس ولا شبهة ثم نقلها العدول عن العدول من غير تحامل ولا ميل، ثم الكافة عن الكافة، والصافة عن الصافة، والجماعة عن الجماعة أخذ كف بكف وتمسك خلف بسلف كالحروف يتلو بعضها بعضا ويتسق آخرها على أولاها رصفا ونظما. فهؤلاء الذين تعهدت بنقلهم الشريعة وانحفظت بهم أصول السنة فوجبت لهم بذلك المنة على جميع الأمة والدعوة لهم من الله بالمغفرة فهم حملة علمه، ونقلة دينه، وسفرته بينه وبين أمته، وأمناؤه في تبليغ الوحي عنه فحري أن يكونوا أولى الناس به في حياته ووفاته. وكل طائفة من الأمم مرجعها إليهم في صحة حديثه وسقيمه، ومعولها عليهم فيما يختلف فيه من أموره. ثم كل من اعتقد مذهبا فإلى صاحب مقالته التي أحدثها ينسب وإلى رأيه يستند، إلا أصحاب الحديث فإن صاحب مقالتهم: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهم إليه ينتسبون، وإلى علمه يستندون، وبه يستدلون، وإليه يفزعون وبرأيه يقتدون، وبذلك يفتخرون، وعلى أعداء سنته بقربهم منه يصولون فمن يوازيهم في شرف الذكر؟ ويباهيهم في ساحة الفخر وعلو الاسم؟. إذ اسمهم مأخوذ من معاني الكتاب والسنة يشتمل عليهما لتحققهم بهما أو لاختصاصهم بأخذهما فهم مترددون في انتسابهم إلى الحديث بين ما

ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه فقال تعالى ذكره: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} (¬1) فهو القرآن، فهم حملة القرآن وأهله وقراؤه وحفظته -وبين أن ينتموا إلى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهم نقلته وحملته فلا شك أنهم يستحقون هذا الاسم لوجود المعنيين فيهم لمشاهدتنا أن اقتباس الناس الكتاب والسنة منهم واعتماد البرية في تصحيحهما عليهم لأنا ما سمعنا عن القرون التي قبلنا ولا رأينا نحن في زماننا مبتدعا رأسا في اقراء القرآن وأخذ الناس عنه في زمن من الأزمان ولا ارتفعت لأحد منهم راية في رواية حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما خلت من الأيام ولا اقتدى بهم أحد في دين ولا شريعة من شرايع الإسلام والحمد لله الذي كمل لهذه الطايفة سهام الإسلام وشرفهم بجوامع هذه الأقسام وميزهم من جميع الأنام حيث أعزهم الله بدينه ورفعهم بكتابه وأعلى ذكرهم بسنته وهداهم إلى طريقته وطريقة رسوله فهي الطايفة المنصورة والفرقة الناجية والعصبة الهادية والجماعة العادلة المتمسكة بالسنة التي لا تريد برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بديلا ولا عن قوله تبديلا ولا عن سنته تحويلا ولا يثنيهم عنها تقلب الأعصار والزمان ولا يلويهم عن سمتها تغير الحدثان ولا يصرفهم عن سمتها ابتداع من كاد الإسلام ليصد عن سبيل الله ويبغيها عوجا ويصدف عن طرقها جدلا ولجاجا ظنا منه كاذبا وتمنيا باطلا: أنه يطفي نور الله والله متم نوره ولو كره الكافرون. (¬2) ¬

(¬1) الزمر الآية (23). (¬2) أصول الاعتقاد (1/ 19 - 26).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: قال في مقدمة كتابه 'أصول الاعتقاد' -وهو يتحدث عن المعتزلة-: قوم لم يتدينوا بمعرفة آية من كتاب الله -في تلاوة أو دراية، ولم يتفكروا في معنى آية -ففسروها أو تأولوها على معنى اتباع من سلف من صالح علماء الأمة- إلا على ما أحدثوا من آرائهم الحديثة، ولا اغبرت أقدامهم في طلب سنة أو عرفوا من شرايع الإسلام مسألة. فيعد رأي هؤلاء حكمة وعلما وحججا وبراهين، ويعد كتاب الله وسنة رسوله حشوا وتقليدا وحملتها جهالا وبلها، ذلك ظلما وعدوانا وتحكما وطغيانا. ثم تكفيره للمسلمين بقول هؤلاء إذ لا حجة عندهم بتكفير الأمة إلا مخالفتهم قولهم من غير أن يتبين لهم خطؤهم في كتاب أو سنة. وإنما وجه خطئهم عندهم: إعراضهم عما نصبوا من آرائهم لنصرة جدلهم وترك اتباعهم لمقالتهم واستحسانهم لمذاهبهم. فهو كما قال الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9)} (¬1). ثم ما قذفوا به المسلمين من التقليد والحشو. ولو كشف لهم عن حقيقة مذاهبهم كانت أصولهم المظلمة وآراؤهم المحدثة وأقاويلهم المنكرة -كانت ¬

(¬1) الحج الآيتان (8و9).

بالتقليد أليق، وبما انتحلوها من الحشو أخلق، إذ لا إسناد له في تمذهبه إلى شرع سابق، ولا استناد لما يزعمه إلى قول سلف الأمة باتفاق مخالف أو موافق. إذ فخره على مخالفيه بحذقه، واستخراج مذاهبه بعقله وفكره من الدقائق، وأنه لم يسبقه إلى بدعته إلا منافق مارق، أو معاند للشريعة مشاقق. فليس بحقيق من هذه أصوله أن يعيب على من تقلد كتاب الله وسنة رسوله واقتدى بهما، وأذعن لهما، واستسلم لأحكامهما، ولم يعترض عليهما بظن أو تخرص واستحالة أن يطعن عليه، لأن بإجماع المسلمين أنه على طريق الحق أقوم وإلى سبل الرشاد أهدى وأعلم وبنور الاتباع أسعد ومن ظلمة الابتداع وتكلف الاختراع أبعد وأسلم من الذي لا يمكنه التمسك بكتاب الله إلا متأولا ولا الاعتصام بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا منكرا أو متعجبا ولا الانتساب إلى الصحابة والتابعين والسلف الصالحين إلا متمسخرا مستهزيا. لا شيء عنده إلا مضغ الباطل والتكذب على الله ورسوله والصالحين من عباده. وإنما دينه الضجاج والبقباق والصياح واللقلاق قد نبذ قناع الحياء وراءه وأدرع سربال السفه فاجتابه وكشف بالخلاعة رأسه وتحمل أوزاره وأوزار من أضله بغير علم ألا ساء ما يزرون، فهو كما قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا

موقفه من القدرية:

مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)} (¬1). فهو في كيد الإسلام وصد أهله عن سبيله ونبز أهل الحق بالألقاب أنهم مجبرة ورمي أولي الفضل من أهل السنة بقلة بصيرة والتشنيع عند الجهال بالباطل والتعدي على القوام بحقوق الله والذابين عن سنته ودينه. فهم كلما أوقدوا نارا لحرب أوليائه أطفأها الله، ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين. (¬2) موقفه من القدرية: - قال رحمه الله: فلم تزل الكلمة مجتمعة والجماعة متوافرة على عهد الصحابة الأول ومن بعدهم من السلف الصالحين حتى نبغت نابغة بصوت غير معروف وكلام غير مألوف في أول إمارة المروانية في القدر وتتكلم فيه حتى سئل عبد الله بن عمر فروى له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبر بإثبات القدر والإيمان به وحذر من خلافه، وأن ابن عمر ممن تكلم بهذا أو اعتقده برئ منه وهم برءاء منه. وكذلك عرض على ابن عباس وأبي سعيد الخدري وغيرهما فقالا له مثل مقالته. وسنذكر هذه الأقاويل بأسانيدها وألفاظها في المواضع التي تقتضيه إن شاء الله. ثم انطمرت هذه المقالة، وانجحر من أظهرها في جحره، وصار من اعتقدها جليس منزله، وخبأ نفسه في السرداب كالميت في قبره خوفا من القتل والصلب والنكال والسلب من طلب الأئمة لهم لإقامة حدود الله ¬

(¬1) العنكبوت الآيتان (12و13). (¬2) أصول الاعتقاد (1/ 11 - 14).

عزوجل فيهم، وقد أقاموا في كثير منهم ونذكر في مواضعه أساميهم وحث العلماء على طلبهم وأمروا المسلمين بمجانبتهم ونهوهم عن مكالمتهم والاستماع إليهم والاختلاط بهم لسلامة أديانهم، وشهروهم عندهم بما انتحلوا من آرائهم الحديثة ومذاهبهم الخبيثة خوفا من مكرهم أن يضلوا مسلما عن دينه بشبهة وامتحان أو بزخرف قول من لسان، وكانت حياتهم كوفاة وأحياؤهم عند الناس كالأموات. المسلمون منهم في راحة، وأديانهم في سلامة، وقلوبهم ساكنة وجوارحهم هادية، وهذا حين كان الإسلام في نضارة، وأمور المسلمين في زيادة. (¬1) - ثم ذكر رحمه الله أبوابا في القدر والرد على القدرية معنونا عليها بقوله: (سياق ما فسر من الآيات في كتاب الله عزوجل وما روى من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إثبات القدر وما نقل من إجماع الصحابة والتابعين والخالفين لهم من علماء الأمة: أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله عزوجل طاعاتها ومعاصيها). (سياق ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن أول شرك يظهر في الإسلام: القدر). (سياق ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين في مجانبة أهل القدر وسائر أهل الأهواء). (سياق ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن القدرية مجوس هذه الأمة ومن كفرهم وتبرأ منهم) ... ¬

(¬1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 15 - 17).

أبو إسحاق الإسفراييني (418 هـ)

(سياق ما روي في منع الصلاة خلف القدرية والتزويج إليهم وأكل ذبائحهم ورد شهادتهم). (¬1) أبو إسحاق الإسفراييني (¬2) (418 هـ) الإمام العلامة الأوحد، الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الإسفراييني أحد المجتهدين في عصره، وصاحب المصنفات الباهرة، سمع من دعلج السجزي وعبد الخالق بن أبي روبا ومحمد بن يزداد وأبي بكر الإسماعيلي وعدة. وأملى مجالس، حدث عنه: أبو بكر البيهقي وأبو الطيب الطبري وأبو السنابل وعدة. وبنيت له بنيسابور مدرسة مشهورة، وكان من المجتهدين في العبادة المبالغين في الورع. قال عنه الحاكم في تاريخه: أبو إسحاق الأصولي الفقيه المتكلم المتقدم في هذه العلوم، انصرف من العراق وقد أقر له العلماء بالتقدم، وبرع في المناظرة لتبحره في العلوم واستجماعه شرائط الإمامة في العربية والفقه والكلام والأصول ومعرفة الكتاب والسنة. مات في ثماني عشرة وأربعمائة. موقفه من المشركين: من تصانيفه كتاب 'جامع الخلي في أصول الدين والرد على الملحدين'، ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 589 - 823). (¬2) السير (17/ 353 - 356) والعبر (1/ 430 - 431) وتبيين كذب المفتري (ص 243 - 244) والبداية والنهاية (12/ 26) ووفيات الأعيان (1/ 28) وشذرات الذهب (3/ 209 - 210).

معمر بن أحمد الأصبهاني الصوفي (418 هـ)

في خمس مجلدات. (¬1) معمر بن أحمد الأصبهاني الصوفي (418 هـ) موقفه من الجهمية: له عقيدة أسماها 'الوصية من السنة' نقلها صاحب الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة. كما نقل منها شيخ الإسلام في بعض كتبه. - وقال رحمه الله في وصيته: وأن القرآن كلام الله عز وجل، ووحيه وتنزيله، تكلم به وهو غير مخلوق، منه بدا وإليه يعود، ومن قال: إنه مخلوق فهو كافر بالله جهمي، ومن وقف في القرآن فقال: لا أقول: مخلوق ولا غير مخلوق فهو واقفي جهمي، ومن قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو لفظي جهمي، ولفظي بالقرآن وكلامي بالقرآن وقراءتي وتلاوتي للقرآن قرآن، والقرآن حيثما تلي وقرئ وسمع وكتب وحيثما تصرف فهو غير مخلوق. (¬2) - وقال: وأن الله استوى على عرشه بلا كيف، ولا تشبيه، ولا تأويل، والاستواء معقول، والكيف فيه مجهول، وأنه عز وجل مستو على عرشه، بائن من خلقه، والخلق منه بائنون، بلا حلول، ولا ممازجة، ولا اختلاط، ولا ملاصقة، لأنه الفرد البائن من الخلق الواحد، الغني عن الخلق، وأن الله سميع بصير، عليم خبير، يتكلم، ويرضى ويسخط، ويضحك ويعجب، ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكا، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء فيقول: ¬

(¬1) السير (17/ 353). (¬2) الحجة في بيان المحجة (1/ 231 - 232).

موقف السلف من المسبحي الرافضي (420 هـ)

هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ حتى يطلع الفجر. قال: ونزول الرب إلى السماء بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل، فمن أنكر النزول وتأول فهو مبتدع ضال. (¬1) موقف السلف من المسبحي الرافضي (420 هـ) بيان رفضه: قال عنه الذهبي: نال دنيا ورتبة من الحاكم. وكان رافضيا منجما، رديء الاعتقاد. (¬2) محمود بن سُبُكْتِكِين (¬3) (421 هـ) سيف الدولة، أبو القاسم محمود بن الأمير ناصر الدولة سبكتكين التركي، صاحب خراسان والهند وغير ذلك. افتتح غزنة، ثم بلاد ما وراء النهر، ثم استولى على سائر خراسان، وعظم ملكه، ودانت له الأمم، وفرض على نفسه غزو الهند كل عام، فافتتح منه بلادا واسعة، وكان على عزم ¬

(¬1) درء التعارض (6/ 256 - 257) والاستقامة (1/ 168 - 169) والحجة في بيان المحجة (1/ 232 - 233). (¬2) السير (17/ 362). (¬3) السير (17/ 483 - 495) والكامل في التاريخ (9/ 139و301) ووفيات الأعيان (5/ 175 - 182) والبداية والنهاية (12/ 32 - 33) وشذرات الذهب (3/ 220 - 221).

موقفه من المشركين والرافضة:

وصدق في الجهاد. كان مولده سنة إحدى وستين وثلاثمائة. قال عبد الغافر الفارسي: كان صادق النية في إعلاء الدين، مظفرا كثير الغزو، وكان ذكيا بعيد الغور، صائب الرأي، وكان مجلسه مورد العلماء. وقال: قد صنف في أيام محمود وأحواله لحظة لحظة، وكان في الخير ومصالح الرعية يُسِّرَ له الإسار والجنود والهيبة والحشمة مما لم يره أحد. توفي سنة إحدى وعشرين وأربعمائة. موقفه من المشركين والرافضة: أثنى عليه العلماء والمؤرخون، وذكروا له جهاده الكبير في تحطيم الأصنام التي كانت تعبد من دون الله في بلاد العجم. - قال شيخ الإسلام في الفتاوى: ولما كانت مملكة محمود بن سبكتكين من أحسن ممالك بني جنسه، كان الإسلام والسنة في مملكته أعز، فإنه غزا المشركين من أهل الهند، ونشر من العدل مالم ينشره مثله. فكانت السنة في أيامه ظاهرة، والبدع في أيامه مقموعة. (¬1) - جاء في السير: قال أبو النضر الفامي: لما قدم التاهرتي الداعي من مصر على السلطان يدعوه سرا إلى مذهب الباطنية، وكان التاهرتي يركب بغلا يتلون كل ساعة من كل لون، ففهم السلطان سر دعوتهم، فغضب، وقتل التاهرتي الخبيث، وأهدى بغله إلى القاضي أبي منصور محمد بن محمد الأزدي؛ شيخ هراة، وقال: كان يركبه رأس الملحدين، فليركبه رأس ¬

(¬1) الفتاوى (4/ 22).

الموحدين. (¬1) - وقال الذهبي: قرأت بخط الوزير جمال الدين بن علي القفطي في سيرته: قال كاتبه الوزير ابن الميمندي: جاءنا رسول الملك بيدا على سرير كالنعش؛ بأربع قوائم يحمله أربعة. وكان السلطان يعظم أمر الرسل لما يفعله أصحابهم برسله. قال: فحمل على حالته حتى صار بين يديه، فقال له الهندي: أي رجل أنت؟ قال: أدعو إلى الله، وأجاهد من يخالف دين الإسلام. قال: فما تريد منا؟ قال: أن تتركوا عبادة الأصنام، وتلتزموا شروط الدين، وتأكلوا لحم البقر. وتردد بينهما الكلام، حتى خوفه محمود وهدده، وقال الحاجب للهندي: أتدري لمن تخاطب؟ وبين يدي أي سلطان أنت؟ فقال الهندي: إن كان يدعو إلى الله كما يزعم، فليس هذا من شروط ذلك، وإن كان سلطانا قاهرا لا ينصف، فهذا أمر آخر. فقال الوزير: دعوه. ثم ورد الخبر بتشويش خراسان، وضاق على صاحب الهند الأمر، ورأى أن بلاده تخرب، فنفذ رسولا آخر، وتلطف، وقال: إن مفارقة ديننا لا سبيل إليه، وليس هنا مال نصالحك عليه، ولكن نجعل بيننا هدنة، ونكون تحت طاعتك. قال: أريد ألف فيل وألف منا ذهبا. قال: هذا لا قدرة لنا عليه. ثم تقرر بينهما تسليم خمس مئة فيل وثلاثة آلاف من فضة، واقترح محمود على الملك بيدا أن يلبس خلعته، ويشد السيف والمنطقة، ويضرب السكة باسمه. فأجاب، لكنه استعفى من السكة، فكانت الخلعة قباء نسج بالذهب، وعمامة قصب، وسيفا محلى، وفرسا وخفا، وخاتما عليه اسمه، وقال لرسوله: امض ¬

(¬1) السير (17/ 486).

حتى يلبس ذلك، وينزل إلى الأرض، ويقطع خاتمه وأصبعه، ويسلمها إليك، فذلك علامة التوثقة. قال وكان عند محمود شيء كثير من أصابع الملوك الذين هادنهم. (¬1) - وقال أيضا: ثم بلغ السلطان أن الهنود قالوا: أخرب أكثر بلاد الهند غضب الصنم الكبير سومنات على سائر الأصنام ومن حولها، فعزم على غزو هذا الوثن، وسار يطوي القفار في جيشه إليه، وكانوا يقولون: إنه يرزق ويحيي ويميت ويسمع ويعي، يحجون إليه، ويتحفونه بالنفائس، ويتغالون فيه كثيرا، فتجمع عند هذا الصنم مال يتجاوز الوصف، وكانوا يغسلونه كل يوم بماء وعسل ولبن، وينقلون إليه الماء من نهر حيل مسيرة شهر، وثلاث مئة يحلقون رؤوس حجاجه ولحاهم، وثلاث مئة يغنون. فسار الجيش من غزنة، وقطعوا مفازة صعبة، وكانوا ثلاثين ألف فارس وخلقا من الرجالة والمطوعة، وقوى المطوعة بخمسين ألف دينار، وأنفق في الجيش فوق الكفاية، وارتحل من المليا ثاني يوم الفطر سنة 416هـ، وقاسوا مشاق، وبقوا لا يجدون الماء إلا بعد ثلاث، غطاهم في يوم ضباب عظيم، فقالت الكفرة: هذا من فعل الإله سومنات. ثم نازل مدينة أنهلوارة، وهرب منها ملكها إلى جزيرة، فأخرب المسلمون بلده، ودكوها، وبينها وبين الصنم مسيرة شهر في مفاوز، فساروا حتى نازلوا مدينة دبولوارة؛ وهي قبل الصنم بيومين، فأخذت عنوة، وكسرت أصنامها، وهي كثيرة الفواكه، ثم نازلوا سومنات في رابع عشر ذي القعدة، ولها قلعة منيعة على البحر، فوقع الحصار، فنصبت السلالم عليها، ¬

(¬1) السير (17/ 488 - 489).

فهرب المقاتلة إلى الصنم، وتضرعوا له، واشتد الحال وهم يظنون أن الصنم قد غضب عليهم، وكان في بيت عظيم منيع، على أبوابه الستور الديباج، وعلى الصنم من الحلي والجواهر ما لا يوصف، والقناديل تضيء ليلا ونهارا، على رأسه تاج لا يقوم، يندهش منه الناظر، ويجتمع عنده في عيدهم نحو مئة ألف كافر، وهو على عرش بديع الزخرفة؛ علو خمسة أذرع، وطول الصنم عشرة أذرع، وله بيت مال فيه من النفائس والذهب ما لا يحصى، ففرق محمود في الجند معظم ذلك، وزعزع الصنم بالمعاول، فخر صريعا، وكانت فرقة تعتقد أنه منات، وأنه تحول بنفسه في أيام النبوة من ساحل جدة، وحصل بهذا المكان ليقصد ويحج معارضة للكعبة. فلما رآه الكفار صريعا مهينا، تحسروا، وسقط في أيديهم، ثم أحرق حتى صار كلسا، وألقيت النيران في قصور القلعة، وقتل بها خمسون ألفا، ثم سار محمود لأسر الملك بهيم، ودخلوا بالمراكب، فهرب، وافتتح محمود عدة حصون ومدائن، وعاد إلى غزنة، فدخلها في ثامن صفر سنة سبع عشرة، ودانت له الملوك، فكانت مدة الغيبة مئة وثلاثة وستين يوما. (¬1) - وقال أيضا: وكان إلبا على القرامطة والإسماعيلية وعلى المتكلمين. (¬2) - قال ابن كثير: وفيها -أي سنة عشرين وأربعمائة- ورد كتاب من محمود بن سبكتكين أنه أحل بطائفة من أهل الري من الباطنية والروافض قتلا ذريعا، وصلبا شنيعا، وأنه انتهب أموال رئيسهم رستم بن علي الديلمي، ¬

(¬1) السير (17/ 490 - 491). (¬2) السير (17/ 492).

موقفه من الجهمية:

فحصل منها ما يقارب ألف ألف دينار، وقد كان في حيازته نحو من خمسين امرأة حرة، وقد ولدن له ثلاثا وثلاثين ولدا بين ذكر وأنثى، وكانوا يرون إباحة ذلك. (¬1) - جاء في التذكرة: وذلك أن السلطان محمودا لما دخل الري وقتل بها الباطنية منع الكل من الوعظ (غير أبي حاتم) وكان من دخل الري يعرض اعتقاده عليه فإن رضيه أذن له في الكلام على الناس وإلا منعه. (¬2) موقفه من الجهمية: - جاء في طبقات الحنابلة: بالسند إلى أبي مسعود أحمد بن محمد البجلي الحافظ قال: دخل ابن فورك على السلطان محمود فتناظرا. قال ابن فورك لمحمود: لا يجوز أن تصف الله بالفوقية لأنه يلزمك أن تصفه بالتحتية. لأنه من جاز أن يكون له فوق جاز أن يكون له تحت. فقال محمود: ليس أنا وصفته بالفوقية، فتلزمني أن أصفه بالتحتية وإنما هو وصف نفسه بذلك. قال: فبهت. (¬3) - جاء في أصول الاعتقاد: وامتثل يمين الدولة وأمين الملة أبو القاسم محمود، يعني ابن سبكتكين، أعز الله نصرته أمر أمير المؤمنين القادر بالله واستن بسنته في أعماله التي استخلفه عليها من خراسان وغيرها في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيلية والقرامطة والجهمية والمشبهة وصلبهم وحبسهم ونفيهم، والأمر باللعن عليهم على منابر المسلمين، وإبعاد كل طائفة من أهل ¬

(¬1) البداية (12/ 28). (¬2) التذكرة (3/ 1186 والطبقات (3/ 52). (¬3) طبقات الحنابلة (3/ 12) والسير (17/ 487).

القاضي عبد الوهاب بن علي البغدادي (422 هـ)

البدع، وطردهم عن ديارهم، وصار ذلك سنة في الإسلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين في الآفاق. (¬1) - وجاء في الدرء: وأظهر السلطان محمود سبكتكين لعنة أهل البدع على المنابر، وأظهر السنة، وتناظر عنده ابن الهيصم وابن فورك في مسألة العلو، فرأى قوة كلام ابن الهيصم، فرجح ذلك، ويقال إنه قال لابن فورك: فلو أردت تصف المعدوم كيف كنت تصفه بأكثر من هذا؟ أو قال: فرق لي بين هذا الرب الذي تصفه وبين المعدوم؟ وأن ابن فورك كتب إلى أبي إسحاق الإسفراييني يطلب الجواب عن ذلك، فلم يكن الجواب إلا أنه لو كان فوق العرش للزم أن يكون جسما. ومن الناس من يقول: إن السلطان لما ظهر له فساد قول ابن فورك سقاه السم حتى قتله، وتناظر عنده فقهاء الحديث، من أصحاب الشافعي وغيرهم، وفقهاء الرأي، فرأى قوة مذهب أهل الحديث فرجحه، وغزا المشركين بالهند. (¬2) القاضي عبد الوهاب بن علي البغدادي (¬3) (422 هـ) الإمام القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر بن أحمد، أبو محمد الثغلبي العراقي، الفقيه المالكي. ولد سنة اثنتين وستين وثلاثمائة ببغداد. ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 799/1333). (¬2) درء التعارض (6/ 253). (¬3) تاريخ بغداد (11/ 31 - 32) وترتيب المدارك (2/ 272 - 275) ووفيات الأعيان (3/ 219 - 222) والمرتبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا للنباهي (40 - 41) وسير أعلام النبلاء (17/ 429 - 432) وتاريخ الإسلام (حوادث 421 - 430/ص.85 - 88).

موقفه من المبتدعة:

روى عن الحسين بن محمد بن عبيد العسكري وعمر بن سبنك وأبي حفص بن شاهين وغيرهم. قال الخطيب البغدادي: كتبت عنه وكان ثقة ولم نلق من المالكيين أحدا أفقه منه، وكان حسن النظر، جيد العبارة، وتولى القضاء ببادرايا وباكسايا. وقال أبو إسحاق الشيرازي: أدركته وسمعته يناظر، وكان قد رأى القاضي الأبهري ولم يسمع منه، وكان فقيها شاعرا متأدبا، وله كتب كثيرة في كل فن من الفقه. وله في خروجه من بغداد: سلام على بغداد في كل موطن ... وحق لها مني سلام مضاعف فوالله ما فراقتها عن قلى لها ... وإني بشطي جانبيها لعارف ولكنها ضاقت علي بأسرها ... ولم تكن الأرزاق فيها تساعف وكانت كخل كنت أهوى دنوه ... وأخلاقه تنأى به وتخالف روى عنه جماعة منهم: عبد الحق بن هارون الفقيه وأبو عبد الله المازري وأبو بكر الخطيب والقاضي ابن شماخ الغافقي وغيرهم. له كتاب النصرة لمذهب إمام دار الهجرة وكتاب المعونة لدرس مذهب عالم المدينة وشرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني وغيرها. توفي رحمه الله سنة اثنتين وعشرين وأربع مائة. موقفه من المبتدعة: قال في تعليقه على قول أبي زيد القيرواني: [وأرجى القلوب للخير ما لم يسبق الشر إليه].

موقفه من المشركين:

قال القاضي رحمه الله: إن القلب إذا لم يسبق الشر إليه يقبل ما يرد عليه من الخير أشد تقبل، ولم يكن هناك مانع منه، ولا قاطع دونه، وإذا سبق إليه اعتقاد الشر، احتيج في تقبله الخير إلى تكلفه زوال ما قد تمكن فيه، ومشقته في قطع ما قد استولى عليه، ولهذا أمر عليه السلام بأن يؤمر الصبيان بالصلاة لسبع (¬1)، ليمرنوا عليها ويألفوها، وتسبق إلى قلوبهم حلاوة الإيمان، وتتمكن من أفئدتهم محبة الدين، وهذا حجة لأبي محمد فيما رسمه في هذا الكتاب من تعليم الولدان، ولهذا قال بعض السلف: لا تمكن زائغ القلب من أذنيك، حراسة للقلب أن يطرقه من ذلك ما يخاف أن يعلق به. (¬2) موقفه من المشركين: قال: أما الكلام في نبوته - صلى الله عليه وسلم - وصحة رسالته: فليس من الكلام مع أهل الملة في شيء، وإنما هو كلام مع فرق أهل الكفر الطاعنين على الإسلام وعلى كل ملة، وهم البراهمة وغيرهم ممن ينكر بعث الرسل جملة، ويزعمون أنه محال أن يبعث الصانع جل اسمه رسلا إلى خلقه، وفرق الكتابيين ومن جرى مجراهم من المجوس ومن يقر ببعث الرسل، وينكر بعث نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، مثل اليهود والنصارى وغيرهم. (¬3) موقفه من الرافضة: - قال معلقا على قول ابن أبي زيد: [وأن خير القرون قرن الذين رأوا ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (2/ 180و187) وأبو داود (1/ 334/495) والحاكم (1/ 197) من حديث عبد الله بن عمرو. (¬2) شرح عقيدة الإمام مالك الصغير (ص.16 - 17). (¬3) شرح عقيدة الإمام مالك الصغير (ص.68).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآمنوا به، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم]. قال القاضي رضي الله عنه: اعلم أن هذا الذي قاله لا خلاف فيه في الجملة، ثم الذي يدل عليه، إجماع الأمة ونصوص القرآن والسنة على فضيلة السبق والترجيح بالتقدم، فمن ذلك قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} (¬1) وقوله: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)} (¬2) وقوله: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} (¬3) الآية، وقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (¬4) الآية: وما اشتهر عن الصحابة من اعتقاد الفضيلة بالسابقة ومقدم الإيمان والهجرة، وأنهم إذا عدوا فضائل الفاضل ومحاسنه ذكروا هجرته وسابقته، وقولهم: والله إنا لنعلم فضلك وسابقتك، ويدلك على فضل السبق على المتأخر: تسميته تعالى لمن جاء بعدهم بأنهم تابعون وترتيبه إياهم بقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} وتسميتهم بذلك يقتضي فضيلة السابقين ¬

(¬1) التوبة الآية (100). (¬2) الواقعة الآيتان (10و11). (¬3) الحديد الآية (10). (¬4) الحشر الآية (9).

عليهم، وكذلك كانت الصحابة تقول: أبو بكر السابق، وعمر المصلي، ويدل عليه الخبر المشهور، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «خيركم القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (¬1) ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ليلني ذوو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (¬2).اهـ (¬3) - وقال في قوله: [ولا يذكر أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بأحسن الذكر، والإمساك عما شجر بينهم]: هذا لأن الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أوجب علينا تعظيمهم وموالاتهم ومدحهم والثناء عليهم وتفضيلهم وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)} (¬4) وقال تعالى: {محمدٌ رسول اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (¬5) الآية، وقال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (¬6) وقوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} (¬7) وقوله ¬

(¬1) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي بكر الخلال سنة (311هـ) .. (¬2) أخرجه: أحمد (1/ 457) ومسلم (323/ 432 [123]) وأبو داود (1/ 436/674) والترمذي (1/ 440 - 441/ 228) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (¬3) شرح عقيدة الإمام مالك الصغير (ص.124 - 125). (¬4) الأنفال الآية (64). (¬5) الفتح الآية (29). (¬6) الحشر الآية (9). (¬7) التوبة الآية (111).

موقفه من الجهمية:

تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (¬1) وقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} (¬2) وكل هذا مدح وثناء وتعظيم وتشريف، فوجب علينا إمساك ذلك فيهم. (¬3) موقفه من الجهمية: واعلم أن الوصف له تعالى بالاستواء اتباع النص، وتسليم للشرع، وتصديق لما وصف نفسه تعالى به، ولا يجوز أن يثبت له كيفية، لأن الشرع لم يرد بذلك، ولا أخبر النبي عليه السلام فيه بشيء، ولا سألته الصحابة عنه، ولأن ذلك يرجع إلى التنقل والتحول وإشغال الحيز والافتقار إلى الأماكن، وذلك يؤول إلى التجسيم، وإلى قدم الأجسام، وهذا كفر عند كافة أهل الإسلام، وقد أجمل مالك رحمه الله الجواب عن سؤال من سأله: الرحمن على العرش استوى، كيف استوى؟ فقال: الاستواء منه غير مجهول، والكيف منه غير معقول، والسؤال عن هذا بدعة، ثم أمر بإخراج السائل. (¬4) - وقال معلقا على قوله: [له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، لم يزل بجميع صفاته وأسمائه، تعالى أن تكون صفاته مخلوقة، وأسماؤه محدثة ... ] قال القاضي رضي الله عنه: اعلم أن هذا الذي قاله رحمه الله، هو الدين ¬

(¬1) آل عمران الآية (110). (¬2) التوبة الآية (100). (¬3) شرح عقيدة الإمام مالك الصغير (ص.135 - 136). (¬4) شرح عقيدة الإمام مالك الصغير (ص.28).

الصحيح، والمذهب المستقيم، الذي من حاد عنه ابتدع وضل، وفيه رد على المبتدعة والرافضة وغيرهم من ضروب المبتدعة النافين لصفات ذاته تعالى من علمه وقدرته، وسائر صفاته، والزاعمين أنه لا علم له، ولا قدرة ولا حياة، والجاعلين كلامه من صفات فعله، وأنه بمثابة سائر الأعراض التي تبيد وتفنى، وأنه من جنس كلام البشر ولغات الأمم، والقائلين بأن الله تعالى كان في أزله بلا اسم ولا صفة، وأن عباده هم الذين خلقوا له الأسماء والصفات، والبغداديون منهم الذين انتهى علمهم في هذا الوقت إلى طريق البلخي: أن الله ليس بسميع بصير على الحقيقة، وأن وصفه نفسه بذلك مجاز واتساع، وعلى معنى العلم له، دون أن يكون سميعا على الحقيقة أو بصيرا، ردا لقوله سبحانه: {إن اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)}، وقوله تعالى منبها على وجوب ذلك، ومنع نفيه عنه، مخبرا عن إبراهيم عليه السلام (القائل) لأبيه على عبادة الأصنام: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)} (¬1) فسوى بين الله وبين الأصنام، فكان لأبي إبراهيم على قوله أن يقول له في جواب هذا: فَإلاَهُكَ لايسمع ولا يبصر ... (¬2) - وقال القاضي رحمه الله: فأما قوله: [إنه تعالى كلم موسى بكلامه الذي هو صفة ذاته]، إلى آخر ما قاله في ذلك، فهو الكلام في أن القرآن غير مخلوق، وهو إجماع كافة أهل السنة وأئمة الملة، قبل الجهمية، ومن نشأ ¬

(¬1) مريم الآية (42). (¬2) شرح عقيدة الإمام مالك الصغير (ص.29 - 30).

بعدهم من أتباعهم المبتدعة. (¬1) - وقال في الشفاعة: فمذهب أهل السنة وأئمة الملة، والأخبار متواترة به على المعنى وإن اختلفت ألفاظه ... ثم ذكر بعض الأحاديث وقال: ومن المعتزلة من يتأول أخبار الشفاعة ولا يقدم على ردها وجحدها كما يفعل إخوانه، وقد تأولوها على ثلاثة أوجه: أحدها: أنه أراد أن الشفاعة لمن واقع الصغائر وهو مجتنب للكبائر، وهذا لا معنى له، لأن صاحب الصغيرة إذا فعلها مع اجتناب الكبائر لم يستحق العقاب، ومتى عوقب كان عندهم ظلما وجورا، فما معنى الشفاعة في أن لا يعذب من لا يستحق العذاب؟ وهل هذا إلا قول بالشفاعة في أن لا يظلم تعالى ولا يجور. وهذا تكلف يحمل النفس على رد الشرع وجحد السنة. والتأويل الثاني: أن الشفاعة لمرتكب الكبائر التائب منها، والنادم على فعلها، وهذا تلو الأول في السقوط، لأن التوبة سقطت لاستحقاق العقاب، فأي تأثير للشفاعة؟! والثالث -وهو أقربها-: إن قالوا: إن الشفاعة للمؤمنين المجانبين للكبائر، وليست شفاعة في إسقاط عقاب مستحق عليهم، لكن في الزيادة لهم في الثواب على قدر ما استحقوه بأعمالهم. وهذا ادعاء لما لم يرد به خبر ولا شرع، ورد لما ورد، لأن الشفاعة التي وردت بها الأخبار، إنما هي في ¬

(¬1) شرح عقيدة الإمام مالك الصغير (ص.34).

القرآن لأهل الكبائر والرغبة إلى الله في العفو عنهم والتجاوز، وهذا غير ما قالوه، والكلام هنا في هذه الشفاعة التي هذا مقصودها فنحن نثبتها، وهم ينفونها، فما تأولوه ليس يخرجهم عن ردها، والله أعلم. (¬1) - قال القاضي رحمه الله: [قوله: إن الله خلق الجنة والنار]: هذا قول سلف الأمة وأئمة الحديث والسنة، وأنها الجنة التي كان بها آدم، وأهبط منها، وهي جنة الخلد التي يدخلها المؤمنون في الآخرة. وقد دل عليه الكتاب والسنة. فأما الكتاب: فقوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} إلى قوله: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} (¬2) وهذا يفيد كونها مخلوقة، وأنه قد سكنها وأخرج منها. وقوله تعالى: {اهْبِطُوا مِنْهَا} وإن كانت لم تخلق لكان هابطا من غيرها لا هابطا منها، وخالف المعتزلة في ذلك إلى مذاهب تخالف ما وصفناه، واعلم أنهم ليس يقدمون على إنكار ذلك، وأن الله خلق جنة أسكن بها آدم نبيه وزوجته، ولكن يقولون: ليست هي دار الخلد وجنة المأوى. إلى أن قال: ودليل أهل السنة على خلقهما، قوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (¬3) فإن قالوا: لسنا ننكر أن الله تعالى خلق جنة ونارا، ولكن الخلاف هل هي جنة المأوى التي وعد الله عباده، أو غيرها؟ قلنا: عنه جوابان: ¬

(¬1) شرح عقيدة الإمام مالك الصغير (ص.80 - 81). (¬2) البقرة الآيتان (35و36). (¬3) البقرة الآية (35) والأعراف الآية (19).

أحدهما: أنه لا يعرف في الشرع لا في الكتاب ولا في السنة، ولا عن أحد من السلف: أن الله خلق جنة غير الجنة التي ذكر أنه أعدها لأوليائه، فمن ادعى جنة غيرها احتاج إلى دليل سمعي، لأن العقل لا مجال له في ذلك، وإنما تتأولون أنتم هذا التأويل لا بتوقيف ولا بسمع منكم. والثاني: أنه لو كان الأمر على ما قلتموه لكان قوله: الجنة والإشارة إليها بلام التعريف يفيد: المعهودة، ولا جنة معهودة في الشرع إلا التي وعدها الله لأوليائه. ويدل على ذلك قوله تعالى: {* وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} (¬1) وقوله: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} يعني وجودها. (¬2) - وقال: وأما الدليل على وجود (¬3) رؤيته تعالى في الآخرة، فهو السمع المحض الذي لا مجال للعقل فيه، وهو أدلة الكتاب والسنة المتواترة فيها، منها قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} (¬4) قال أصحابنا: والنظر في كتاب الله يرد على وجوه: منها النظر بمعنى التفكر والاعتبار، مثل قوله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)} (¬5) وقوله تعالى: ¬

(¬1) آل عمران الآية (133). (¬2) شرح عقيدة الإمام مالك الصغير (ص.82 - 84). (¬3) قال في هامشه: كذا، ولعلها "وجوب". (م. ب). (¬4) القيامة الآيتان (22و23). (¬5) الغاشية الآية (17).

{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)} (¬1) وما إلى ذلك، يريد: أفلم يعتبروا ويتفكروا. ومنها: النظر بمعنى الانتظار، ومنه قوله تعالى {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)} (¬2) أي منتظرة، ومنها: الإنظار، وهو الإمهال، كقوله تعالى: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} (¬3) يريد: أمهلونا، وهو يقرب من معنى ما قبله، ومن أصحابنا من يخرج هذه الأقسام من مجملات القول نظرا، ومنها التعطف والرحمة كقوله تعالى: {ولا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} (¬4) يريد: ولا يتعطف عليهم، ومنها: رؤية البصر كقوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} (¬5) يريد: انظرها بعينك. والقسم الأول غير جائز، لأن الآخرة ليست بدار اعتبار وتفكر، وكذلك الانتظار، لأن ذلك يوجب إضمارا في الظاهر ونقله إلى المجاز بغير دليل، لأن ما ينتظر فيه ليس بمذكور، والظاهر يوجب تعلق النظر به تعالى، وكذلك القسم الثالث، وهو الإنظار، لأنه لا يجوز أن يقال: قد أنظرنا ربنا وأمهلنا، وكذلك القسم الآخر الذي هو التعطف والرحمة، لا يجوز أن يقع منها لله تعالى، فلم يبق إلا ما قلناه من رؤية البصر، ووجه آخر، وهو أن النظر إذا قرن بما لذكر الوجه والبصر ¬

(¬1) ق الآية (6). (¬2) النمل الآية (35). (¬3) الحديد الآية (13). (¬4) آل عمران الآية (77). (¬5) البقرة الآية (259).

موقفه من الخوارج:

عدي بحرف الجر الذي هو قولك إن لم يكن المراد به إلا رؤية البصر، ألا ترى أن نظر الاعتبار إذا عدي بِـ (إلى) لم يقرن بالوجه أو البصر، وكذلك نظر التعطف والرحمة وغيره، وقد تأولوه على أن المراد به: ثواب ربها منتظرة، وهذا باطل من وجوه، أحدها: إن ثواب الله غيره، والظاهر يوجب أن يكون النظر إليه لا إلى غيره، والثاني: يعود إلى أن النظر بمعنى الانتظار، وذلك ما قد أبنا عن فساده، ومنها: الحديث المأثور، والخبر المشهور بالنقل المتواتر أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنكم ترون ربكم، لا تضامون في رؤيته، كما ترون القمر ليلة البدر ليس دونها سحاب» (¬1) وهذا الحديث مروي من عدة طرق، وألفاظ مختلفة ومعنى متفق، ورواه نيف وعشرون نفسا من الصحابة، وذكرهم أهل النقل. (¬2) موقفه من الخوارج: قال معلقا على قول ابن أبي زيد: [إن مات مصرا على الكبائر فأمره إلى الله، فإن شاء غفر له وإن شاء عذبه، فإنه إن عذبه أخرجه إلى جنته] إلى آخر ما قاله: فإنه صحيح على ما ذكره، وهو مذهب أهل السنة، والمخالف فيه أكثر فرق أهل البدعة، وهم المعتزلة والخوارج والشراة، ولهذا سميت المعتزلة، لأنهم انفردوا بالبصرة، واعتزلوا عن مجالس أهل الحديث والسنة لما عقدوه بينهم من البدعة، وهم: واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وغيرهم ممن تبعهم، واعتزلوا عن أئمة الدين وخافوا أن يظهر عليهم علماء المسلمين، وركبوا في ذلك ما كان طريقا لأهل الكبائر إلى الإصرار واليأس من مغفرة ¬

(¬1) تقدم تخريجه في مواقف عبد العزيز الماجشون سنة (164هـ). (¬2) شرح عقيدة الإمام مالك الصغير (ص.92 - 94).

ربهم ردا لقوله تعالى: {* قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} (¬1)، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬2) وأمثال هذه الآيات، ولما اجتاز أبو عمرو بن العلاء بعمرو بن عبيد بالبصرة، وهو يتكلم في الوعيد وإثباته، ومنع غفران الله لأهله، قال له أبو عمرو: من العجمة أتيتم، أما علمت أن الكريم إذا وعد وفى، وإذا توعد عفا، ثم أنشده: وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي فلم يكن عند عمرو من الجواب أكثر من الإعنات والتعلق بعبارة لا طائل فيها. (¬3) إلى أن قال: الدليل على جواز الغفران لأهل الكبائر: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬4) استثنى الشرك من المعاصي، وجعل غفران ما دونه متعلقا بمشيئته، ويدل عليه قوله عزوجل: {* قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} (¬5). وهذا أيضا نص فيما عدا ¬

(¬1) الزمر الآية (53). (¬2) النساء الآية (48) والآية (116). (¬3) شرح عقيدة الإمام مالك الصغير (ص.75). (¬4) النساء الآية (48) و (116). (¬5) الزمر الآية (53).

الكفر والشرك الذي أخبر أنه لا يغفره، ويدل عليه قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كبائر مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (¬1) والكبائر في هذا الموضع هي الكفر والشرك، بدليل الآية الأخرى، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬2) والسيآت المرادة في هذا الموضع: ما دون الشرك به، ويدل عليه قوله: {إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)} (¬3) فاستثنى الكافر ممن يلحقهم الروح من دونهم من مذنبي أهل الملة على الرجاء، ولهذه الآيات أمثال يطول تتبعها ويعوز جمعها، فثبت بما ذكرنا من الظواهر: جواز الغفران لأهل الكبار. فإن قالوا: فقد وردت ظواهر تعارض ما ذكرتموه، منها قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} (¬4) وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} إلى قوله: {هم فِيهَا خَالِدُونَ} (¬5) في نظائر لذلك، والقرآن لا يتناقض. ¬

(¬1) النساء الآية (31). (¬2) النساء الآية (48) والآية (116). (¬3) يوسف الآية (87). (¬4) النساء الآية (14). (¬5) يونس الآية (27).

فالجواب: أنه ليس في هذا تعارض ولا تناقض، لأن هذه الآية مقصورة على الشرك الذي أخبر أنه لا يغفره، وأنه يغفر ما دونه للظواهر التي تلونها، ونفرض الكلام في أن الإيمان الذي مع الفاسق، والطاعات لا يحبطه ما ركبه من الكبائر، وأنه يستحق عليه الجزاء بإخبار الله عن ذلك، والذي يدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (¬1) ولا حسنة أعلى وأشرف من الإقرار بتوحيد الله، والإيمان به وبرسوله وشريعته وكتابه، ويدل عليه قوله تعالى: {إني لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} (¬2) وقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (¬3) وقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)} (¬4) في نظائر ذلك، فدل على أن المؤمن يجازى بإيمانه وطاعته، ويثاب عليها من غير تخصيص لكون من وجد منه ذلك غير عاص بارتكاب الكبائر التي لا تخرجه عن الإيمان. (¬5) - وقال في تعليقه على ابن أبي زيد: [ولا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة]: قال القاضي: وهذا كما قال، فالمذنبون من أهل الملة مؤمنون مذنبون، ولا يخرجون بذنوبهم من الإسلام ولا عن الإيمان، ولا تحبط ذنوبهم إيمانهم، ¬

(¬1) هود الآية (114). (¬2) آل عمران الآية (195) (¬3) الأنعام الآية (160). (¬4) الزلزلة الآية (7). (¬5) شرح عقيدة الإمام مالك الصغير (ص.77 - 78).

هذا قول أئمة السنة، وسلف الأمة، وقالت الخوارج: إن كل ذنب كفر يخرج به صاحبه من الإسلام، وقالت المعتزلة: إن الكبائر يخرج بها صاحبها من الإيمان إلى منزلة بين المنزلتين لا يسمى مؤمنا ولا كافرا، وقال بعضهم: يسمى منافقا، والذي يدل عليه الدليل أن اسم الإيمان لا يزول عنه بتفسيقه، وأن فسقه لا يخرجه عن كونه مصدقا بالله وبرسوله وكتبه وشرائعه، وعن اعتقاده، لكون ما ركبه إثما ومعصية، فإذا كانت حقيقة الإيمان ما وصفناه، وكان هذا موجودا مع فعل الفاسق، وجب أن لا ينفيه. (¬1) - وفي قوله: [والسمع والطاعة لأئمة المسلمين من ولاة أمورهم وعلمائهم]: قال القاضي رحمه الله: هذا لقوله عزوجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (¬2) فعم ولاة الأمر من العلماء والأمراء، وإن قلنا: إن إطلاق أولي الأمر يختص الإمامة ومن يلي الحرب والتدبير، كانت الآية مقصورة عليهم؛ وكيف كان الأمر فقد ثبت مما أردناه، وقوله: {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} (¬3) وقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} (¬4) فأمر بالرد اليهم عند التنازع ¬

(¬1) شرح عقيدة الإمام مالك الصغير (ص.107). (¬2) النساء الآية (59). (¬3) التغابن الآية (16). (¬4) النساء الآية (83).

موقفه من المرجئة:

والاختلاف، وذلك يعم وصف طاعتهم في أمور الدين والدنيا، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لو ولي عليكم مجدع فاسمعوا له وأطيعوا» (¬1) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة قيد شبر مات ميتة جاهلية» (¬2) ولأن ذلك إجماع الصحابة، ولأنها كانت تأمر به وتحض عليه، وتحذر من الخلاف على الأئمة وتنهى عن الشقاق عليهم والاخلال بطاعتهم، وترى ذلك من أوجب أمور الدين، وألزم أحكام الشرع. (¬3) موقفه من المرجئة: - قال في شرح عقيدة الإمام ابن أبي زيد القيرواني عند قوله: [وأن الإيمان قول باللسان وإخلاص بالقلب وعمل بالجوارح، يزيد بزيادة الأعمال، وينقص بنقص الأعمال، فيكون فيها النقصان وبها الزيادة، ولا يكمل قول الإيمان إلا بالعمل]: هذا الذي قاله هو مذهب أهل السنة والسلف الصالح، والذي يدل على أن اعتقاد القلب وإخلاصه إيمان: أن الإيمان في اللغة التصديق، قال الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} (¬4) أي مصدق لنا، وقال: {وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ} (¬5) أي صدقنا به، وقال تعالى ¬

(¬1) تقدم في مواقف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب سنة (23هـ). (¬2) أحمد (2/ 296) ومسلم (3/ 477/1848) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) شرح عقيدة الإمام مالك الصغير (ص.137). (¬4) يوسف الآية (17). (¬5) النور الآية (47).

عن الأعراب: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} (¬1) أي لم تصدقوا بقلوبكم، ثم القول باللسان إيمان إذا قصد به التعبير عما في القلب، فإن لم يقارنه ذلك لم يكن إيماناً، لأنه حينئذ يكون حكاية لكلام الغير، أو لغوا وعبثا، ولذلك قلنا في اليهودي: إنه إذا لفظ بالشهادتين مع الإكراه، أو قاصدا به الحكاية عن غيره، أنه لا يكون ذلك إيمانا منه لما لم يقارنه تصديق القلب، وكذلك العمل بالجوارح الصادر عن تصديق القلب على ما روي في الحديث، وجاء في الحديث في تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (¬2) أي صلاتكم إلى بيت المقدس، إلا أن زيادته بالطاعة ونقصانه بالمعصية، لا يبلغ به نقصان ارتفاع بالجملة حتى ينتفي اسمه وحكمه، فيكون حرفه التصديق مقارنا للمعاصي بالجوارح كافرا؛ لأنه يسمى إيمانا لما يشبه التصديق، فلا يجب أن يرتفع بارتفاعه، ونحن نذكر هذا الفصل، وقد توقف مالك رضي الله عنه عن الكلام في نقصانه، وعلى القول الذي يقول: يريد به نقص الكمال دون إحباط الأعمال، لأن ذلك لا يكون إلا بانتفاء التصديق. (¬3) - وقال عند قوله [ولا قول ولا عمل إلا بنية]: هذا لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬4) فنفى أن يكون ما لم يخلص له ¬

(¬1) الحجرات الآية (14). (¬2) البقرة الآية (143). (¬3) شرح عقيدة الإمام ابن أبي زيد القيرواني (ص.104 - 105). (¬4) البينة الآية (5).

عبادة، والإخلاص هو القصد إليه بالفعل، وقال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} (¬1) فأخبر أن العمل موقوف على النية، وأنه يجازى عليه على حسب ما ينوى به، وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} (¬2) فأمر أن لا يلتفت إلى ما يقولونه بألسنتهم إذ في قلوبهم خلافه، فدل على أن المعول على النية دون اللسان، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» الحديث (¬3)، فربط الأعمال بالنيات، ومفهوم هذا أن الانتفاع بالأعمال والاعتداد بها يكون بالنية، وأن النية هي عماد الأعمال ومعلولها، كقولهم: إنما الطائر بجناحيه، وإنما الرعية بإمامها، يريدون: أن ذلك هو عمادها، وكذلك قولهم: إنما الأعمال بخواتيمها، وبين هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - في آخر الحديث: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» وهذا خرج على سبب: وهو أن رجلا خرج إلى المدينة يظهر الهجرة وقصده أن يتزوج امرأة، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المجازاة على الأعمال الخالصة وهي مما ينويه الإنسان ويقصد له. (¬4) ¬

(¬1) الحج الآية (37). (¬2) النساء الآية (63). (¬3) انظر تخريجه في مواقف الإمام الشافعي سنة (204هـ). (¬4) شرح عقيدة الإمام ابن أبي زيد القيرواني (ص.105 - 106).

موقفه من القدرية:

موقفه من القدرية: قال القاضي عند شرحه لقول ابن أبي زيد: والإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وكل ذلك قد قدره الله ربنا. ومقادير الأمور بيده، ومصدرها عن قضائه، علم كل شيء قبل كونه فجرى على قدره، لا يكون من عباده قول ولا عمل إلا وقد قضاه وسبق علمه به {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} (¬1). قال القاضي رضي الله عنه: هذا الذي قاله، هو قول أهل السنة وأئمة الحديث، ومذهب السلف الصالح، والأخبار متواترة باللفظ الذي عبر به، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لن يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن لصيبه، وأن كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس» (¬2) وفيه أخبار كثيرة مسندة وموقوفة على الصحابة والتابعين، لولا تعذر جمعها للشغل بالسفر، وضيق الوقت به لذكرنا طرقها واستقصينا جميع ما ورد منها، وقد قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (¬3) فعم ولم يخص. وقال تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23)} (¬4) وقد زعمت القدرية المعتزلة: أن الله تعالى ¬

(¬1) الملك الآية (14). (¬2) سيأتي تخريجه في مواقف ابن رجب الحنبلي سنة (797هـ). (¬3) القمر الآية (49). (¬4) المرسلات الآية (23).

لم يقدر المعاصي ولا الشر، وأن ذلك جار في خلقه وسلطانه بغير قدرة الله ولا بإرادته، فنفوه عن الله، وأثبتوا لأنفسهم تقدير ذلك، والتفرد بملكه والقدرة عليه دون ربهم، حتى قال بعض طواغيتهم: إنه لو كان طفل على حاجز بين الجنة والنار، لما كان الله موصوفا بالقدرة على طرحه إلى الجنة، وإبليس موصوف بالقدرة على طرحه إلى النار، وأن الله لا يوصف بالقدرة على ذلك، وزعموا أن خلاف هذا كفر وشرك، واستوجبوا بذلك هذه التسمية التي أجمع المسلمون على كفر من باد بموجبها، والأخبار متواترة بتكفير القدرية وإخراجهم من الإسلام وإضافتهم إلى أصناف الكفر، وأن جميع ما يتصرف العباد فيه من خير وشر، وطاعة ومعصية بقدر سابق من الله سبحانه وتعالى، وبتكذيب من نفى ذلك وتكفيره، فمن متواتر الأخبار ومستفيضها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «القدرية مجوس هذه الأمة» (¬1) ... ثم أطال في شرح كلام المصنف وساق كثيرا من الأدلة على ذلك (¬2) مقررا بذلك كله منهج السلف في هذا الباب الذي زاغ فيه القدرية عن الصواب، نسأل الله حسن المآب. (¬3) - قال ابن أبي زيد القيرواني: [أو يكون لأحد عنه غنى]. قال القاضي رحمه الله معلقا: اعلم أن هذا رد على المعتزلة وغيرهم من المبتدعة في قولهم: إنهم مستطيعون لأفعالهم قبل أن يحدثوها، وقادرون على ¬

(¬1) تقدم تخريجه في مواقف محمد بن الحسين الآجري سنة (360هـ). (¬2) من (ص.38) إلى (ص.66). (¬3) شرح عقيدة الإمام مالك الصغير (ص.38 - 39).

يحيى بن عمار (422 هـ)

إيجادها قبل إيجادها، ومستغنون عن ربهم في حال اختراعهم لها أن يقدرهم عليها، لأنهم لا حاجة لهم في تلك الحال بل هم مستغنون عنه، وهذا هو الضلال الذي لا شبهة فيه والله تعالى يقول: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} (¬1) ويقول: {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} (¬2) وهذا يعم سائر أحوالهم، ويقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} (¬3) ولم يقل في حال دون حال، ومن جهة العقول: فلأن الأدلة قد دلت على استحالة بقاء الأعراض كلها على اختلاف أجناسها من القدر وغيرها، فلو كانت موجودة قبل الفعل لم يخل أن تبقى إلى أن يفعل الفعل بها، وهذا يوجب ما قد قام الدليل على استحالة مردها لها أو يعدم مثل ذلك، وهذا أيضا محال، لأنه يؤدي إلى أن يوقع الفعل بقدرة معدومة، وذلك باطل. (¬4) يحيى بن عمّار (¬5) (422 هـ) يحيى بن عمار بن يحيى بن عمار بن العنبس الإمام المحدث الواعظ شيخ سجستان أبو زكريا الشيباني نزيل هراة. حدث عن حامد بن محمد الرفاء ¬

(¬1) محمد الآية (38). (¬2) فاطر الآية (15). (¬3) الفاتحة الآية (5). (¬4) شرح عقيدة الإمام مالك الصغير (ص.55 - 56). (¬5) السير (17/ 481 - 483) وتاريخ الإسلام (حوادث 421 - 430/ص.97 - 99) والعبر (1/ 439) وشذرات الذهب (3/ 226).

موقفه من الجهمية:

وعبد الله بن عدي بن حمدويه وأخيه محمد بن عدي وعدة. روى عنه أبو نصر الطبسي، وأبو محمد عبد الواحد الهروي، وشيخ الإسلام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد وآخرون. كان متحرقا على المبتدعة والجهمية. وكان فصيحا مفوها حسن الموعظة رأسا في التفسير وكان من كبار المذكرين تحول إلى هراة فعظم بها جدا، وتخرج به أبو إسماعيل الأنصاري. توفي في ذي القعدة سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة. وصلى عليه الإمام عمر بن إبراهيم الزاهد وكانت جنازته مشهودة. موقفه من الجهمية: للإمام يحيى رسالة في السنة. نقل منها الحافظ ابن القيم في اجتماع الجيوش ما يتعلق بمسألة الاستواء. - جاء في اجتماع الجيوش عنه قال في رسالته في السنة بعد كلام: بل نقول: هو بذاته على العرش، وعلمه محيط بكل شيء وسمعه وبصره وقدرته مدركة لكل شيء، وهو معنى قول الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} (¬1) ورسالته موجودة مشهورة. (¬2) قلت: لعلنا نظفر بها ونستفيد من علومها. - جاء في السير: وكان متحرقا على المبتدعة والجهمية بحيث يؤول به ذلك إلى تجاوز طريقة السلف، وقد جعل الله لكل شيء قدرا، إلا أنه كان له ¬

(¬1) الحديد الآية (4). (¬2) اجتماع الجيوش (ص.254).

القادر بالله (422 هـ)

جلالة عجيبة بهراة وأتباع وأنصار. (¬1) - وقال أبو إسماعيل: سمعت يحيى بن عمار يقول: العلوم خمسة، علم هو حياة الدين وهو علم التوحيد، وعلم هو قوت الدين وهو العظة والذكر، وعلم هو دواء الدين وهو الفقه، وعلم هو داء الدين وهو أخبار ما وقع بين السلف، وعلم هو هلاك الدين وهو الكلام. قلت -أي الذهبي-: وعلم الأوائل. (¬2) - وكان يحيى بن عمار يقول: المعتزلة الجهمية الذكور، والأشعرية الجهمية الإناث. (¬3) القادر بالله (¬4) (422 هـ) الخليفة أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر العباس أبو العباس مولده سنة ست وثلاثين وثلاثمائة كان دينا عالما متعبدا وقورا من جلة الخلفاء وأمثلهم تفقه على أبي بشر أحمد بن محمد الهروي. قال الخطيب: كان من الدين وإدامة التهجد وكثرة الصدقات على صفة اشتهرت عنه وعرف بها عند كل أحد مع حسن المذهب وصحة الاعتقاد. صنف كتابا في الأصول ذكر فيه فضل الصحابة وإكفار المعتزلة القائلين بخلق القرآن. عاش سبعا وثمانين سنة ¬

(¬1) السير (17/ 481). (¬2) السير (17/ 482). (¬3) مجموع الفتاوى (6/ 359). (¬4) السير (15/ 127 - 137) والوافي بالوفيات (6/ 229 - 241) وتاريخ بغداد (4/ 37 - 38) والعبر (1/ 438) وشذرات الذهب (3/ 221 - 223).

موقفه من المبتدعة:

إلا شهرا وثمانية أيام ولم يبلغ أحد من الخلفاء قبله هذا العمر، ولا قام في الخلافة هذه المدة توفي ليلة الاثنين الحادي عشر من ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة. موقفه من المبتدعة: لقد كان هذا الخليفة من خيرة خلفاء بني العباس إذ حمى العقيدة حماية يشكره عليها رب العالمين ويثيبه بجنته إن شاء الله تعالى. فقد طرد الرافضة أعداء الله وأعداء رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ونبذ المعتزلة والجهمية والأشاعرة وجميع أهل البدع. ولم يكتف بفعله وأمره، بل كتب اعتقادا قرأه على العلماء والفقهاء، وأخذ عليهم خطوطهم بالموافقة على الاعتقاد حتى يكون رسميا متفقا عليه. وهاك الاعتقاد من المنتظم؛ قال ابن الجوزي رحمه الله: (أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ حدثنا أبو الحسين محمد بن محمد الفراء قال: أخرج الإمام القائم بأمر الله أمير المؤمنين أبو جعفر بن القادر بالله في سنة نيف وثلاثين وأربعمائة الاعتقاد القادري، الذي ذكره القادر، فقرئ في الديوان وحضر الزهاد والعلماء، وممن حضر الشيخ أبو الحسن علي بن عمر القزويني فكتب خطه تحته قبل أن يكتب الفقهاء، وكتب الفقهاء خطوطهم فيه أن هذا اعتقاد المسلمين، ومن خالفه فقد فسق وكفر، وهو: يجب على الإنسان أن يعلم أن الله عز وجل وحده لا شريك له لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ولم يكن له شريك في الملك، وهو أول لم يزل وآخر لا يزال، قادر على كل شيء غير عاجز عن شيء، إذا أراد شيئا قال له كن فيكون، غني غير محتاج إلى شيء، لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة

ولا نوم، يطعم ولا يطعم، لا يستوحش من وحدة ولا يأنس بشيء، وهو الغني عن كل شيء، لا تخلفه الدهور والأزمان وكيف تغيره الدهور والأزمان وهو خالق الدهور والأزمان والليل والنهار والضوء والظلمة والسماوات والأرض وما فيها من أنواع الخلق والبر والبحر وما فيهما وكل شيء حي أو موات أو جماد. كان ربنا وحده لا شيء معه ولا مكان يحويه فخلق كل شيء بقدرته، وخلق العرش لا لحاجته إليه فاستوى عليه كيف شاء وأراد لا استقرار راحة كما يستريح الخلق. وهو مدبر السموات والأرضين ومدبر ما فيهما ومن في البر والبحر ولا مدبر غيره ولا حافظ سواه، يرزقهم ويمرضهم ويعافيهم ويميتهم ويحييهم، والخلق كلهم عاجزون والملائكة والنبيون والمرسلون والخلق كلهم أجمعون، وهو القادر بقدرة والعالم بعلم أزلي غير مستفاد، وهو السميع بسمع والمبصر ببصر يعرف صفتهما من نفسه لا يبلغ كنههما أحد من خلقه، متكلم بكلام لا بآلة مخلوقة كآلة المخلوقين. لا يوصف إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به نبيه عليه السلام، وكل صفة وصف بها نفسه أو وصفه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهي صفة حقيقية لا مجازية. ويعلم أن كلام الله تعالى غير مخلوق تكلم به تكليما، وأنزله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - على لسان جبريل بعد ما سمعه جبريل منه، فتلاه جبريل على محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتلاه محمد على أصحابه، وتلاه أصحابه على الأمة. ولم يصر بتلاوة المخلوقين مخلوقا لأنه ذلك الكلام بعينه الذي تكلم الله به فهو غير مخلوق، فبكل حال متلوا ومحفوظا ومكتوبا ومسموعا؛ ومن قال إنه مخلوق على حال من الأحوال فهو كافر حلال الدم

بعد الاستتابة منه. ويعلم أن الإيمان قول وعمل ونية، وقول باللسان وعمل بالأركان والجوارح وتصديق به، يزيد وينقص: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وهو ذو أجزاء وشعب؛ فأرفع أجزائه لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد. والإنسان لا يدري كيف هو مكتوب عند الله ولا بماذا يختم له، فلذلك يقول: مؤمن إن شاء الله، وأرجو أن أكون مؤمنا، ولا يضره الاستثناء والرجاء، ولا يكون بهما شاكا ولا مرتابا؛ لأنه يريد بذلك ما هو مغيب عنه عن أمر آخرته وخاتمته. وكل شيء يتقرب به إلى الله تعالى ويعمل لخالص وجهه من أنواع الطاعات فرائضه وسننه وفضائله فهو كله من الإيمان، منسوب إليه. ولا يكون للإيمان نهاية أبدا؛ لأنه لا نهاية للفضائل ولا للمتبوع في الفرائض أبدا. ويجب أن يحب الصحابة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم ونعلم أنهم خير الخلق بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن خيرهم كلهم وأفضلهم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، ويشهد للعشرة بالجنة، ويترحم على أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن سب سيدتنا عائشة رضي الله عنها فلا حظ له في الإسلام، ولا يقول في معاوية رضي الله عنه إلا خيرا، ولا يدخل في شيء شجر بينهم، ويترحم على جماعتهم، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا

غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} (¬1). وقال فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)} (¬2). ولا يكفر بترك شيء من الفرائض غير الصلاة المكتوبة وحدها؛ فإنه من تركها من غير عذر وهو صحيح فارغ حتى يخرج وقت الأخرى فهو كافر، وإن لم يجحدها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «بين العبد والكفر ترك الصلاة فمن تركها فقد كفر» (¬3)، ولا يزال كافرا حتى يندم ويعيدها؛ فإن مات قبل أن يندم ويعيد أو يضمر أن يعيد لم يصل عليه، وحشر مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف، وسائر الأعمال لا يكفر بتركها وإن كان يفسق حتى يجحدها. ثم قال: هذا قول أهل السنة والجماعة الذي من تمسك به كان على الحق المبين وعلى منهاج الدين والطريق المستقيم، ورجي به النجاة من النار ودخول الجنة إن شاء الله تعالى. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الدين النصيحة قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين ولعامتهم» (¬4)، وقال عليه السلام: «أيما عبد جاءته موعظة من الله تعالى في دينه فإنها نعمة من الله سيقت إليه فإن قبلها يشكر، وإلا كانت حجة عليه من الله يزداد بها إثما ¬

(¬1) الحشر الآية (10). (¬2) الحجر الآية (47). (¬3) مسلم (1/ 88/82) وأبو داود (5/ 58 - 59/ 4678) والترمذي (5/ 14 - 15/ 2620) والنسائي (1/ 251/463) وابن ماجه (1/ 342/1078) من حديث جابر. (¬4) تقدم تخريجه ص ضمن مواقف محمد بن نصر المروزي سنة (294هـ).

ويزاد بها من الله سخطا» (¬1). جعلنا الله لآلائه من الشاكرين ولنعمائه ذاكرين وبالسنة معتصمين وغفر لنا ولجميع المسلمين. (¬2) التعليق: من قرأ هذا الاعتقاد علم ما كان عليه هؤلاء الخلفاء في الجمع بين العلم والحكم، ومن أمعن فيه النظر يجده يرد على جميع المبتدعة، بما فيهم المعتزلة والشيعة وغيرهم. ومن أمعن النظر يرى شدة اهتمام هؤلاء الخلفاء بالعقيدة السلفية ولم يكن همهم هو الاشتغال بملذات الحياة وشهواتها، ويرى على الاعتقاد نفس الصالحين العالمين بما يجري في رعاياهم من الدخل. ومن قارن بين الأمس واليوم ومخاطبة الحكام لرعاياهم يجد همهم اليوم هو السعي في تثبيت الحاكم نفسه في نفوس رعيته. وأما الأمس فترى الحاكم يثبت عقيدته في نفس رعيته، لا كلام في معيشة ولا في غيرها مما يعد إغراء فقط للرعية، إلا من شاء الله، فليكن البصير بهذا على بينة. استتابته لأهل البدع: جاء في أصول الاعتقاد: قال الشيخ أبو القاسم الطبري الحافظ رحمه الله: واستتاب أمير المؤمنين القادر بالله -حرس الله مهجته وأمد بالتوفيق أموره ووفقه من القول والعمل بما يرضي مليكه- فقهاء المعتزلة الحنفية في ¬

(¬1) أبو نعيم في الحلية (6/ 136) والبيهقي في الشعب (6/ 29/7410) من حديث عطية بن بشر وقال العراقي في تخريج الأحياء (3/ 1368): "رواه ابن أبي الدنيا في مواعظ الخلفاء وفيه أحمد بن عبيد بن ناصح"، وعزاه الألباني لابن عساكر عن عطية بن قيس وقال: "ضعيف". ضعيف الجامع (2245). (¬2) المنتظم (15/ 279 - 282).

سنة ثمان وأربعمائة فأظهروا الرجوع وتبرؤوا من الاعتزال. ثم نهاهم عن الكلام والتدريس والمناظرة في الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للإسلام والسنة، وأخذ خطوطهم بذلك وأنهم مهما خالفوه حل بهم من النكال والعقوبة ما يتعظ به أمثالهم. وامتثل يمين الدولة وأمين الملة: أبو القاسم محمود أعز الله نصرته أمر أمير المؤمنين القادر بالله، واستن بسنته في أعماله التي استخلفه عليها من خراسان وغيرها في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيلية والقرامطة والجهمية والمشبهة وصلبهم وحبسهم ونفيهم، والأمر باللعن عليهم على منابر المسلمين، وإبعاد كل طائفة من أهل البدع وطردهم عن ديارهم. وصار ذلك سنة في الإسلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين في الآفاق. وجرى ذلك على يدي الحاجب أبي الحسن علي بن عبد الصمد رحمه الله، في جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وأربعمائة تمم الله ذلك وثبته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. (¬1) التعليق: إن قراءة مثل هذه المواقف تسلي السلفي وتفرج ما به من غموم وحزن على ما نحن فيه من بدع ومبتدعة ملئت بهم الأرض. فلعل الله ييسر للمسلمين مثل هذا الخليفة العادل يزيل عنهم الضيم ويرجع المسلمين إلى صدرهم الأول عقيدة نقية وعبادة سنية، وسلوكا نبويا يجلب الراحة والاطمئنان. ¬

(¬1) أصول الاعتقاد (4/ 799 - 800/ 1333).

موقفه من الرافضة:

موقفه من الرافضة: كان أمير المؤمنين من أكبر الخلفاء الرافضين للرفض كيفما كان شكله ونوعه، ولم يفرق بين الغالية والمتساهلة، ولكن الرفض المطلق. انظر إلى فعلته بكتاب الداعي الذي أرسله الحاكم الرافضي: - جاء في السير: وبعث ابن سبكتكين إلى القادر بأنه ورد إليه الداعي من الحاكم يدعوه إلى طاعته فخرق كتابه وبصق عليه. (¬1) - وفيها: وفي هذا الوقت انبثت دعاة الحاكم في الأطراف، فأمر القادر بعمل محضر يتضمن القدح في نسب العبيدية، وأنهم منسوبون إلى ديصان بن سعيد الخرمي، فشهدوا جميعا أن الناجم بمصر منصور بن نزار الحاكم حكم الله عليه بالبوار، وأن جدهم لما صار إلى الغرب تسمى بالمهدي عبيد الله، وهو وسلفه أرجاس أنجاس خوارج أدعياء، وأنتم تعلمون أن أحدا من الطالبيين لم يتوقف عن إطلاق القول بأنهم أدعياء، وأن هذا الناجم وسلفه كفار زنادقة، ولمذهب الثنوية والمجوسية معتقدون، عطلوا الحدود، وأباحوا الفروج، وسفكوا الدماء، وسبوا الأنبياء، ولعنوا السلف، وادعوا الربوبية. (¬2) - وفيها: واستتاب القادر فقهاء المعتزلة، فتبرؤا من الاعتزال والرفض، وأخذت خطوطهم بذلك. (¬3) - وفيها: وامتثل ابن سبكتكين أمر القادر، فبث السنة بممالكه، وتهدد ¬

(¬1) السير (15/ 133). (¬2) السير (15/ 132). (¬3) السير (15/ 134).

بقتل الرافضة والإسماعيلية والقرامطة، والمشبهة والجهمية والمعتزلة. ولعنوا على المنابر. (¬1) التعليق: ولم يكتف القادر بالله بعمله الشخصي مع الروافض أعداء الله، بل جمع لذلك أهل العلم المعتبرين في ذلك الوقت، وما يزال هؤلاء العلماء هم العمدة كل واحد في فنه وتخصصه، فجزاه الله وجزاهم خيرا على هذا الميراث الدائم الذي سيثابون عليه إن شاء الله، تقبل الله منه ومنهم. - جاء في المنتظم: وفي هذا الشهر كتب في ديوان الخلافة محاضر في معنى الذين بمصر والقدح في أنسابهم ومذاهبهم، وكانت نسخة ما قرئ منها ببغداد وأخذت فيه خطوط الأشراف والقضاة والفقهاء والصالحين والمعدلين والثقات والأماثل بما عندهم من العلم والمعرفة بنسب الديصانية وهم منسوبون إلى ديصان بن سعيد الخرمي، أحزاب الكافرين ونطف الشياطين شهادة متقرب إلى الله جلت عظمته وممتعض للدين والإسلام ومعتقد إظهار ما أوجب الله تعالى على العلماء أن يبينوه للناس ولا يكتمونه، شهدوا جميعا أن الناجم بمصر وهو منصور بن نزار المتلقب بالحاكم حكم الله عليه بالبوار والدمار والخزي والنكال والاستئصال بن معد بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن سعيد لا أسعده الله، فإنه لما صار إلى الغرب تسمى بعبيد الله وتلقب بالمهدي ومن تقدمه من سلفه الأرجاس الأنجاس عليه وعليهم لعنة الله ولعنة اللاعنين، ¬

(¬1) السير (15/ 135).

موقفه من الجهمية:

أدعياء خوارج لا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب ولا يتعلقون منه بسبب، وأنه منزه عن باطلهم، وأن الذي ادعوه من الانتساب إليه باطل وزور، وأنهم لا يعلمون أن أحدا من أهل بيوتات الطالبيين توقف عن إطلاق القول في هؤلاء الخوارج أنهم أدعياء، وقد كان هذا الانكار لباطلهم ودعواهم شائعا بالحرمين، وفي أول أمرهم بالغرب منتشرا انتشارا يمنع من أن يتدلس على أحد كذبهم أو يذهب وهم إلى تصديقهم، وأن هذا الناجم بمصر هو وسلفه كفار فساق فجار ملحدون زنادقة معطلون، وللإسلام جاحدون، ولمذهب الثنوية والمجوسية معتقدون، قد عطلوا الحدود، وأباحوا الفروج، وأحلوا الخمور، وسفكوا الدماء، وسبوا الأنبياء، ولعنوا السلف، وادعوا الربوبية. وكتب في ربيع الآخر من سنة اثنتين وأربعمائة. وقد كتب خطه في المحضر خلق كثير من العلويين: المرتضى والرضي وابن الأزرق الموسوي وأبو طاهر بن أبي الطيب ومحمد بن محمد بن عمر وابن أبي يعلى ومن القضاة: أبو محمد بن الأكفاني وأبو القاسم الخرزي وأبو العباس السوري. ومن الفقهاء أبو حامد الاسفراييني وأبو محمد الكشفلي وأبو الحسين القدوري وأبو عبد الله الصيمري وأبو عبد الله البيضاوي وأبو علي بن حمكان ومن الشهداء: أبو القاسم التنوخي وقرئ بالبصرة وكتب فيه خلق كثير. (¬1) موقفه من الجهمية: - قال الذهبي في سيره: وصنف كتابا في الأصول، ذكر فيه فضل الصحابة، وإكفار من قال: بخلق القرآن. وكان ذلك الكتاب يقرأ في كل ¬

(¬1) المنتظم (15/ 82 - 83).

الفشيديزجي (424 هـ)

جمعة في حلقة أصحاب الحديث، ويحضره الناس مدة خلافته، وهي إحدى وأربعون سنة وثلاثة أشهر. (¬1) - وقال: واستتاب القادر فقهاء المعتزلة، فتبرؤوا من الاعتزال والرفض، وأخذت خطوطهم بذلك. (¬2) - وقال: وامتثل ابن سبكتكين أمر القادر، فبث السنة بممالكه، وتهدد بقتل الرافضة والإسماعيلية والقرامطة، والمشبهة والجهمية والمعتزلة. ولعنوا على المنابر. (¬3) الفَشِيدَيْزَجي (¬4) (424 هـ) الحسين بن الخضر بن محمد البخاري أبو علي قاضي بخارى نعمان زمانه، انتهت إليه إمامة أهل الرأي وقد قدم بغداد وتفقه وناظر وسمع من أبي الفضل الزهري وسمع ببخارى من أبي عمرو محمد بن محمد بن صابر. وانتشر له التلامذة وآخر من حدث عنه سبطه علي بن محمد البخاري. ولأبي علي سماع من ابن شبويه وجعفر بن فناكي. توفي في شعبان سنة أربع وعشرين وأربعمائة. موقفه من الرافضة: جاء في السير: قيل: ناظره الشريف المرتضى الشيعي في خبر: ما تركنا ¬

(¬1) السير (15/ 128). (¬2) السير (15/ 134). (¬3) السير (15/ 135). (¬4) السير (17/ 424 - 426) والوافي بالوفيات (12/ 361) والعبر (1/ 441) والأنساب (4/ 387 - 388) وشذرات الذهب (3/ 227).

المنيني (426 هـ)

صدقة. فقال للمرتضى: إذا صيرت "ما" نافية، خلا الحديث من فائدة، فكل أحد يدري أن الميت يرثه أقرباؤه، ولا تكون تركته صدقة. ولكن لما كان المصطفى بخلاف الأمة، بين ذلك، وقال: «ما تركناه صدقة» (¬1).اهـ (¬2) المنيني (¬3) (426 هـ) محمد بن رزق الله بن عبيد الله المنيني الأسود أبو بكر الإمام المقرئ خطيب منين، سمع علي بن أبي العقب وأبا عبد الله محمد بن إبراهيم والحسين ابن أحمد بن أبي ثابت وأبا علي بن آدم. وروى عنه أبو الوليد الدربندي وعبد العزيز الكتاني وأبو القاسم بن أبي العلاء وآخرون. وكان المنيني يحفظ القرآن بأحرف. قال الحافظ الدربندي: كان من ثقات المسلمين. مات سنة ست وعشرين وأربعمائة. موقفه من الرافضة: قال الدربندي: لم يكن في جميع الشام من يكنى بأبي بكر غيره، وكان ثقة. قال الذهبي: وكذا لم يكن يوجد بمصر منذ تملك بنو عبيد أحد يكنى بأبي بكر، وكانت الدنيا تغلي بهم رفضا وجهلا. (¬4) ¬

(¬1) أحمد (1/ 25) والبخاري (9/ 627/5358) ومسلم (3/ 1377/1757 (49)) وأبو داود (3/ 365 - 366/ 2963) والترمذي (4/ 135 - 136/ 1610) والنسائي (7/ 153 - 154/ 4159) من طرق عن مالك بن أوس رضي الله عنه. (¬2) السير (17/ 425). (¬3) السير (17/ 452 - 453) والوافي بالوفيات (3/ 70) والعبر (1/ 443) والأنساب (5/ 401) وشذرات الذهب (3/ 230). (¬4) السير (17/ 453).

الظاهر لإعزاز دين الله العبيدي الرافضي الخبيث الدعي (427 هـ)

الظاهر لإعزاز دين الله العبيدي الرافضي الخبيث الدعي (427 هـ) في ولاية هذا الخبيث حاول بعض العبيديين تهديم البيت. - جاء في السير: قال المحدث محمد بن علي بن عبد الرحمن العلوي الكوفي: في سنة ثلاث عشرة لما صليت الجمعة والركب بعد بمنى، قام رجل، فضرب الحجر الأسود بدبوس ثلاثا، وقال: إلى متى يعبد الحجر فيمنعني محمد مما أفعله؟ فإني اليوم أهدم هذا البيت، فاتقاه الناس، وكاد يفلت، وكان أشقر، أحمر، جسيما، تام القامة، وكان على باب المسجد عشرة فرسان على أن ينصروه. فاحتسب رجل، فوجأه بخنجر، وتكاثروا عليه، فأحرق، وقتل جماعة من أصحابه وثارت الفتنة، فقتل نحو العشرين، ونهب المصريون وقيل: أخذ أربعة من أصحابه، فأقروا بأنهم مائة تبايعوا على ذلك، فضربت أعناق الأربعة، وتهشم وجه الحجر. وتساقط منه شظايا. وخرج مكسره أسمر إلى صفرة. (¬1) موقف السلف من ابن سينا الفيلسوف وضلاله (428 هـ) - قال الذهبي: قد سقت في 'تاريخ الإسلام' أشياء اختصرتها، وهو رأس الفلاسفة الإسلامية، لم يأت بعد الفارابي مثله، فالحمد لله على الإسلام والسنة. وله كتاب 'الشفاء' وغيره، وأشياء لا تحتمل، وقد كفره الغزالي في ¬

(¬1) السير (15/ 185 - 186) وهو في المنتظم لابن الجوزي (15/ 154) بسياق أتم.

كتاب 'المنقذ من الضلال' وكفر الفارابي. (¬1) - وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان ضلال ابن سينا: وابن سينا تكلم في أشياء من الإلهيات والنبوات والمعاد والشرائع، لم يتكلم فيها سلفه، ولا وصلت إليها عقولهم ولا بلغتها علومهم، فإنه استفادها من المسلمين، وإن كان إنما أخذ عن الملاحدة المنتسبين إلى المسلمين كالإسماعيلية. وكان هو وأهل بيته وأتباعهم معروفين عند المسلمين بالإلحاد، وأحسن ما يظهرون دين الرفض وهم في الباطن يبطنون الكفر المحض ... والمقصود هنا: أن ابن سينا أخبر عن نفسه أن أهل بيته وأباه وأخاه كانوا من هؤلاء الملاحدة، وأنه إنما اشتغل بالفلسفة بسبب ذلك، فإنه كان يسمعهم يذكرون العقل والنفس، وهؤلاء المسلمون الذين ينتسب إليهم، هم مع الإلحاد الظاهر والكفر الباطن، أعلم بالله من سلفه الفلاسفة: كأرسطو وأتباعه، فإن أولئك ليس عندهم من العلم بالله ما عند عباد مشركي العرب ما هو خير منه ... وابن سينا لما عرف شيئا من دين المسلمين، وكان قد تلقى ما تلقاه عن الملاحدة وعمن هو خير منهم من المعتزلة والرافضة، أراد أن يجمع بين ما عرفه بعقله من هؤلاء وبين ما أخذه من سلفه. ومما أحدثه: مثل كلامه في النبوات وأسرار الآيات والمنامات، بل وكلامه في بعض الطبيعيات، وكلامه في واجب الوجود ونحو ذلك. (¬2) ¬

(¬1) السير (17/ 535). (¬2) مجموع الفتاوى (9/ 133 - 135) باختصار.

- وقال: والمعنى الثالث، الذي أحدثه الملاحدة كابن سينا وأمثاله، قالوا: نقول العالم محدث، أي معلول لعلة قديمة أزلية أوجبته، فلم يزل معها، وسموا هذا الحدوث الذاتي وغيره: الحدوث الزماني. والتعبير بلفظ "الحدوث" عن هذا المعنى لا يعرف عن أحد من أهل اللغات، لا العرب ولا غيرهم، إلا من هؤلاء الذين ابتدعوا لهذا اللفظ هذا المعنى. والقول بأن العالم محدث بهذا المعنى فقط ليس قول أحد من الأنبياء ولا أتباعهم، ولا أمة من الأمم العظيمة، ولا طائفة من الطوائف المشهورة التي اشتهرت مقالاتها في عموم الناس، بحيث كان أهل مدينة على هذا القول، وإنما يقول هذا طوائف قليلة مغمورة في الناس. وهذا القول، إنما هو معروف عن طائفة من المتفلسفة المليين، كابن سينا وأمثاله. وقد يحكون هذا القول عن أرسطو، وقوله الذي في كتبه: أن العالم قديم، وجمهور الفلاسفة قبله يخالفونه، ويقولون: إنه محدث، ولم يثبت في كتبه للعالم فاعلا موجبا له بذاته، وإنما أثبت له علة يتحرك للتشبه بها، ثم جاء الذين أرادوا إصلاح قوله فجعلوا العلة أولى لغيرها، كما جعلها الفارابي وغيره، ثم جعلها بعض الناس آمرة للفلك بالحركة، لكن يتحرك للتشبه بها كما يتحرك العاشق للمعشوق، وإن كان لا شعور له ولا قصد، وجعلوه مدبرا بهذا الاعتبار -كما فعل ابن رشد وابن سينا- جعلوه موجبا بالذات لما سواه، وجعلوا ما سواه ممكنا. (¬1) - وقال: وهذه الطرق التي أخذها ابن سينا عن المتكلمين، من المعتزلة ¬

(¬1) درء التعارض (1/ 126 - 127).

ونحوهم، وخلطها بكلام سلفه الفلاسفة، صار بسبب ما فيها من البدع المخالفة للكتاب والسنة، يستطيل بها على المسلمين، ويجعل القول الذي قاله هؤلاء هو قول المسلمين. وليس الأمر كذلك، وإنما هو قول مبتدعتهم، وهكذا عمل إخوانه القرامطة الباطنية: صاروا يلزمون كل طائفة من طوائف المسلمين بالقدر الذي وافقوهم عليه مما هو مخالف للنصوص، ويلزمونهم بطرد ذلك القول حتى يخرجوهم عن الإسلام بالكلية. ولهذا كان لهؤلاء وأمثالهم نصيب من حال المرتدين، الذين قال الله تعالي فيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم} (¬1). ولهذا آل الأمر بكثير من هؤلاء إلى عبادة الأوثان، والشرك بالرحمن، مثل دعوة الكواكب والسجود لها، أو التصنيف في ذلك، كما صنفه الرازي وغيره في ذلك. (¬2) - وقال: وهذا الذي ذكرته يجده من اعتبره في كتب ابن سينا كالإشارات وغيرها، ويتبين للفاضل أنه إنما بنى إلحاده في قدم العالم على نفي الصفات، فإنهم لما نفوا الصفات والأفعال القائمة بذاته، وسموا ذلك توحيدا، ووافقهم ابن سينا على تقرير هذا النفي الذي سموه توحيدا، بين امتناع القول بحدوث العالم مع هذا الأصل، وأظهر تناقضهم. ولكن قوله في قدم العالم ¬

(¬1) المائدة الآية (54). (¬2) درء التعارض (8/ 239).

أفسد من قولهم، ويمكن إظهار تناقض قوله، أكثر من إظهار تناقض أقوالهم. فلهذا تجده في مسألة قدم العالم يردد القول فيها، ويحكي كلام الطائفتين وحجتهم كأنه أجنبي، ويحيل الترجيح بينهما إلى نظر الناظر، مع ظهور ترجيحه لقول القائلين بالقدم. وأما مسألة نفي الصفات فيجزم بها، ويجعلها من المقطوع به الذي لا تردد فيه، فإنهم يوافقون عليها، وهو بها تمكن من الاحتجاج عليهم في قدم العالم، وبها تمكن من إنكار المعاد، وتحريف الكلم عن مواضعه، وقال: نقول في النصوص الواردة في المعاد كما قلتم في النصوص الواردة في الصفات، وقال: كما أن الكتب الإلهية ليس فيها بيان ما هو الحق في نفس الأمر في التوحيد، يعني التوحيد الذي وافقته عليه المعتزلة، وهو نفي الصفات بناء على نفي التجسيم والتركيب؛ فكذلك ليس فيها بيان ما هو الحق في نفس الأمر في أمر المعاد. وبنى ذلك على أن الإفصاح بحقيقة الأمر لا يمكن خطاب الجمهور به، وإنما يخاطبون بنوع من التخييل والتمثيل الذي ينتفعون به فيه، كما تقدم كلامه. وهذا كلام الملاحدة الباطنية الذين ألحدوا في أسماء الله وآياته، وكان منتهى أمرهم تعطيل الخالق، وتكذيب رسله، وإبطال دينه. ودخل في ذلك باطنية الصوفية، أهل الحلول والاتحاد، وسموه تحقيقا ومعرفة وتوحيدا. ومنتهى أمرهم هو إلحاد باطنية الشيعة، وهو أنه ليس إلا الفلك وما حواه وما وراء ذلك شيء. (¬1) - وقال: ليس مراد ابن سينا بالتوحيد: التوحيد الذي جاءت به الرسل، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، مع ما يتضمنه من أنه لا رب ¬

(¬1) درء التعارض (8/ 241 - 243).

لشيء من الممكنات سواه، فإن إخوانه من الفلاسفة من أبعد الناس عن هذا التوحيد، إذ فيهم من الإشراك بالله تعالى، وعبادة ما سواه، وإضافة التأثيرات إلى غيره، بل ما هو معلوم لكل من عرف حالهم، ولازم قولهم إخراج الحوادث كلها عن فعله. وإنما مقصوده التوحيد الذي يذكره في كتبه: وهو نفي الصفات، وهو الذي شارك فيه المعتزلة وسموه أيضا توحيدا. وهذا النفي الذي سموه توحيدا، لم ينزل به كتاب، ولا بعث به رسول، ولا كان عليه أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هو مخالف لصريح المعقول، مع مخالفته لصحيح المنقول. (¬1) - وقال: وحدثني غير مرة رجل، وكان من أهل الفضل والذكاء والمعرفة والدين، أنه كان قد قرأ على شخص سماه لي، وهو من أكابر أهل الكلام والنظر، دروسا من 'المحصل' لابن الخطيب، وأشياء من 'إشارات' ابن سينا. قال: فرأيت حالي قد تغير. وكان له نور وهدى، ورؤيت له منامات سيئة، فرآه صاحب النسخة بحال سيئة، فقص عليه الرؤيا، فقال: هي من كتابك. و'إشارات' ابن سينا يعرف جمهور المسلمين الذين يعرفون دين الإسلام أن فيها إلحادا كثيرا، بخلاف 'المحصل' يظن كثير من الناس أن فيه بحوثا تحصل المقصود. قال فكتبت عليه: محصل في أصول الدين حاصله ... من بعد تحصيله أصل بلا دين أصل الضلالات والشك المبين فما ... فيه فأكثره وحي الشياطين ¬

(¬1) درء التعارض (8/ 246 - 247).

الحسن بن شهاب أبو علي العكبري (428 هـ)

قلت: وقد سئلت أن أكتب على 'المحصل' ما يعرف به الحق فيما ذكره، فكتبت من ذلك ما ليس هذا موضعه. وكذلك تكلمت على ما في 'الإشارات' في مواضع أخر. (¬1) الحسن بن شهاب أبو علي العُكْبُرِي (¬2) (428 هـ) الحسن بن شهاب بن الحسن بن علي، أبو علي العكبري الحنبلي. مولده سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة. سمع من أبي علي بن الصواف، وأبي بكر ابن خلاد وأبي بكر القطيعي وغيرهم. وسمع منه أبو بكر الخطيب، وعيسى ابن أحمد الهمداني. شيخ جليل معمر طلب الحديث وهو كبير وكان يضرب المثل بحسن كتابته. برع في المذهب، وكان من أئمة الفقه والعربية والشعر. وثقه أبو بكر البرقاني. مات ابن شهاب في رجب سنة ثمان وعشرين وأربعمائة. موقفه من الرافضة: قال ابن أبي يعلى في الطبقات: قرأت بخط أبي القاسم قال: سمعت أبا الحسن الزاهد يقول: سمعت أبا علي ابن شهاب يقول: أقام أخي أبو الخطاب معي في الدار عشرين سنة ما كلمته. وأشار إلى أنه ينسب إلى الرفض. (¬3) ¬

(¬1) المنهاج (5/ 433 - 434). (¬2) تاريخ بغداد (7/ 329 - 330) وطبقات الحنابلة (2/ 186 - 187) والسير (17/ 542 - 543) والوافي بالوفيات (12/ 55) والبداية والنهاية (12/ 43 - 44). (¬3) طبقات الحنابلة (2/ 187).

أبو علي بن أبي موسى الهاشمي (428 هـ)

أبو علي بن أبي موسى الهاشمي (¬1) (428 هـ) محمد بن أحمد بن أبي موسى الشريف أبو علي الهاشمي البغدادي. مولده في سنة خمس وأربعين وثلاثمائة. سمع محمد بن المظفر وأبا الحسين بن سمعون وغيرهما، وسمع منه أبو بكر الخطيب والقاضي أبو يعلى بن الفراء وتفقه به، وأبو الحسين بن الطيوري وآخرون. كان سامي الذكر، شيخ الحنابلة عديم النظير، صاحب التصانيف المذكورة، له وجاهة عند الخليفتين القادر والقائم، صنف الإرشاد في المذهب، كانت حلقته بجامع المنصور، يفتي ويشهد. مات في يوم الأحد الثالث من شهر ربيع الآخر سنة ثمان وعشرين وأربعمائة. موقفه من المشركين: قال شيخ الإسلام: قال القاضي الشريف أبو علي بن أبي موسى في 'الإرشاد' وهو ممن يعتمد نقله: ومن سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل ولم يستتب، ومن سبه - صلى الله عليه وسلم - من أهل الذمة قتل وإن أسلم. (¬2) موقفه من الرافضة: قال ابن أبي موسى: ومن سب السلف من الروافض فليس بكفؤ ولا يزوج، ومن رمى عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه فقد مرق من الدين، ¬

(¬1) تاريخ بغداد (1/ 354) وطبقات الحنابلة (2/ 182 - 186) وتاريخ الإسلام (حوادث 421 - 430/ص.240) والوافي بالوفيات (2/ 63 - 64) والبداية (11/ 44). (¬2) الصارم (310).

موقفه من الجهمية:

ولم ينعقد له نكاح على مسلمة، إلا أن يتوب ويظهر توبته. (¬1) موقفه من الجهمية: عقيدته السلفية: جاء في طبقات الحنابلة: عنه قال: باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من واجب الديانات: حقيقة الإيمان عند أهل الأديان: الاعتقاد بالقلب والنطق باللسان: أن الله تعالى واحد أحد فرد صمد لا يغيره الأبد ليس له والد ولا ولد وأنه سميع بصير بديع قدير حكيم خبير علي كبير ولي نصير قوي مجير، ليس له شبيه ولا نظير ولا عون ولا ظهير ولا شريك ولا وزير ولا ند ولا مشير، سبق الأشياء فهو قديم لا كقدمها، وعلم كون وجودها في نهاية عدمها، لم تملكه الخواطر فتكيفه ولم تدركه الأبصار فتصفه، ولم يخل من علمه مكان فيقع به التأيين ولم يقدمه زمان فينطلق عليه التأوين، ولم يتقدمه دهر ولا حين ولا كان قبله كون ولا تكوين. ولا تجرى ماهيته في مقال ولا تخطر كيفيته ببال ولا يدخل في الأمثال والأشكال صفاته كذاته ليس بجسم في صفاته جل أن يشبه بمبتدعاته أو يضاف إلى مصنوعاته {ليس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (¬2)، أراد ما الخلق فاعلوه ولو عصمهم لما خالفوه ولو أراد أن يطيعوه جميعا لأطاعوه، خلق الخلائق وأفعالهم وقدر أرزاقهم وآجالهم. لا سمي له في أرضه وسمواته، على ¬

(¬1) الصارم (571). (¬2) الشورى الآية (11).

العرش استوى وعلى الملك احتوى وعلمه محيط بالأشياء. كذلك سئل الإمام أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه عن قوله عز وجل: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (¬1) فقال: علمه. والقرآن كلام الله تعالى وصفة من صفات ذاته غير مخلوق ولا محدث كلام رب العالمين في صدور الحافظين وعلى ألسن الناطقين وفي أسماع السامعين وأكف الكاتبين وملاحظة الناظرين، برهانه ظاهر وحكمه قاهر ومعجزه باهر، وأن الله عز وجل كلم موسى تكليما وتجلى للجبل فجعله دكا هشيما وأنه خلق النفوس وسواها وألهمها فجورها وتقواها. والإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره، وأن مع كل عبد رقيبا وعتيدا وحفيظا وشهيدا يكتبان حسناته ويحصيان سيآته وأن كل مؤمن وكافر وبر وفاجر، يعاين عمله عند حضور منيته ويعلم مصيره قبل ميتته. وأن منكرا ونكيرا إلى كل أحد ينزلان -سوى النبيين- فيسألان ويمتحنان عما يعتقده من الأديان. وأن المؤمن يخبر في قبره بالنعيم والكافر يعذب بالعذاب الأليم، وأنه لا محيص لمخلوق من القدر المقدور ولن يتجاوز ما خط في اللوح المسطور وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور. وأنه جل اسمه يعيد خلقهم كما بدأهم ويحشرهم كما ابتدأهم من صفائح القبور وبطون الحيتان في تخوم البحور وأجواف السباع وحواصل النسور. وأن الله ¬

(¬1) المجادلة الآية (7).

تعالى يتجلى في القيامة لعباده الأبرار فيرونه بالعيون والأبصار وأنه يخرج أقواما من النار فيسكنهم الجنة دار القرار، وأنه يقبل شفاعة محمد المختار في أهل الكبائر والأوزار. وأن الميزان حق، توضع فيه أعمال العباد فمن ثقلت موازينه نجا من النار ومن خفت موازينه أدخل جهنم وبئس القرار. وأن الصراط حق يجوزه الأبرار، وأن حوض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حق يرده المؤمنون ويذاذ عنه الكفار. وأن الإيمان غير مخلوق فهو قول وإخلاص بالجنان وعمل بالأركان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان. وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين وأفضل المرسلين وأمته خير الأمم أجمعين وأفضلهم: القرن الذين شاهدوه وآمنوا به وصدقوه وأفضل القرن الذي صحبوه: أربع عشرة مائة بايعوه بيعة الرضوان وأفضلهم: أهل بدر إذ نصروه وأفضلهم: أربعون في الدار كنفوه وأفضلهم: عشرة عزروه ووقروه شهد لهم بالجنة وقبض وهو عنهم راض وأفضل هؤلاء العشرة الأبرار: الخلفاء الراشدون المهديون الأربعة الأخيار، وأفضل الأربعة: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي عليهم السلام وأفضل القرون القرن الذين يلونهم. ثم الذين يلونهم. ثم الذين يتبعونهم. وأن نتولى أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - بأسرهم، ولا نبحث عن اختلافهم في أمرهم ونمسك عن الخوض في ذكرهم إلا بإحسان الذكر لهم. وأن نتولى أهل القبلة ممن ولي حرب المسلمين على ما كان فيهم من علي وطلحة والزبير وعائشة ومعاوية رضوان الله عليهم ولا ندخل فيما شجر بينهم اتباعا لقول رب العالمين: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ

الإمام الكبير أبو عمر الطلمنكي (429 هـ)

لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} (¬1). (¬2) الإمام الكبير أبو عمر الطَّلْمَنْكِي (¬3) (429 هـ) أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي عيسى لب بن يحيى، المحدث، الحافظ، الأثري، المعافري الأندلسي الطلمنكي، نزيل قرطبة، وطلمنكة مدينة بالأندلس. حدث عن أبي بكر الزبيدي، وأبي الحسن الأنطاكي وأبي محمد الباجي وأبي عيسى الليثي وابن أبي زيد وعدة. وأخذ القراءة عن الأنطاكي وابن غلبون ومحمد بن الحسين بن النعمان. وحدث عنه أبو عمر بن عبد البر وأبو محمد بن حزم وعبد الله بن سهل المقرئ وعدة. قال ابن بشكوال: كان سيفا مجردا على أهل الأهواء والبدع، قامعا لهم، غيورا على الشريعة، شديدا في ذات الله، أقرأ الناس محتسبا، وأسمع الحديث، والتزم للإمامة بمسجد منعة، ثم خرج، وتحول في الثغر، وانتفع الناس بعلمه، وقصد بلده في آخر عمره، فتوفي بها. أدخل الأندلس علما جما نافعا، وكان عجبا في حفظ علوم القرآن، قراآته ولغته وإعرابه وأحكامه ومنسوخه ومعانيه. ¬

(¬1) الحشر الآية (10). (¬2) طبقات الحنابلة (2/ 183 - 185). (¬3) السير (17/ 566 - 569) والوافي بالوفيات (8/ 32 - 33) وتذكرة الحفاظ (3/ 1098 - 1100) وشذرات الذهب (3/ 243 - 244)

موقفه من المبتدعة:

توفي في ذي الحجة، سنة تسع وعشرين وأربعمائة. موقفه من المبتدعة: كان هذا الإمام سيفا مسلولا على أهل البدع، وبارك الله له في العمر فعمر، وترك آثارا سلفية، وكتب الله له الذكر الحسن على ألسنة الموحدين، أما المبتدعة فكلامهم فيه يرفع الله به الدرجات هو وأمثاله ممن سلوا سيوفهم القلمية والكلامية ضد المبتدعة. قال عنه ابن بشكوال: كان سيفا مجردا على أهل الأهواء والبدع، قامعا لهم، غيورا على الشريعة، شديدا في ذات الله، أقرأ الناس محتسبا، وأسمع الحديث، والتزم للإمامة لمسجد منعة. (¬1) وقول الإمام الذهبي: عاش تسعين عاما سوى أشهر وقد امتحن لفرط إنكاره، وقام عليه طائفة من أضداده، وشهدوا عليه بأنه حروري يرى وضع السيف في صالحي المسلمين، وكان الشهود عليه خمسة عشر فقيها، فنصره قاضي سرقسطة في سنة خمس وعشرين وأربعمائة وأشهد على نفسه بإسقاط الشهود وهو القاضي محمد بن عبد الله بن قرنون. (¬2) آثاره السلفية: 1 - 'الوصول إلى معرفة الأصول'. ذكره غير واحد وذكره شيخ الإسلام في الدرء. (¬3) ¬

(¬1) الصلة (1/ 45) وتذكرة الحفاظ (3/ 1099). (¬2) السير (17/ 568). (¬3) (6/ 250).

موقفه من الجهمية:

2 - 'كتاب السنة'. ذكره الذهبي في السير وقال: رآه في مجلدين وقال عامته جيد وفي بعض تبويبه ما لا يوافق عليه أبدا مثل باب الجنب لله، وذكر فيه {يَا حَسْرَتَا على مَا فَرَّطْتُ فِي جنب اللَّهِ} (¬1) فهذه زلة عالم. هذا إذا لم يكن كتابه هذا هو 'الوصول' وإلا فهما كتابان. (¬2) 3 - 'الرد على الباطنية'. ذكره الذهبي وذكر جملة منه قال: ومنهم قوم تعبدوا بغير علم، وزعموا أنهم يرون الجنة كل ليلة، ويأكلون من ثمارها، وتنزل عليهم الحور العين، وأنهم يلوذون بالعرش، ويرون الله بغير واسطة، ويجالسونه. (¬3) موقفه من الجهمية: قال الشيخ أبو عمر الطلمنكي المالكي، أحد أئمة وقته بالأندلس، في كتاب 'الوصول إلى معرفة الأصول' قال: وأجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (¬4) ونحو ذلك من القرآن: أن ذلك علمه، وأن الله فوق السموات بذاته، مستو على عرشه كيف شاء. وقال أيضا: قال أهل السنة في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (¬5) أن الاستواء من الله على عرشه المجيد على الحقيقة لا على المجاز. (¬6) ¬

(¬1) الزمر الآية (56). (¬2) (17/ 569). (¬3) السير (17/ 569). (¬4) الحديد الآية (4). (¬5) طه الآية (5). (¬6) درء التعارض (6/ 250) ومجموع الفتاوى (3/ 219 - 220).

أبو نعيم الأصبهاني (430 هـ)

أبو نعيم الأصبهاني (¬1) (430 هـ) أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران، الحافظ، العلامة، أبو نعيم الأصبهاني، أحد الأعلام. ولد سنة ست وثلاثين وثلاثمائة. سمع من أبي أحمد العسال وأبي القاسم الطبراني وأبي بكر القطيعي وأبي أحمد الحاكم وأبي بكر الآجري، وخلق كثير. وروى عنه أبو بكر الخطيب وأبو سعد الماليني، وأبو بكر بن أبي علي الهمداني، وأبو علي الوخشي، وعدة. قال أبو محمد السمرقندي: سمعت أبا بكر الخطيب يقول: لم أر أحدا أطلق عليه اسم الحفظ غير رجلين، أبو نعيم الأصبهاني وأبو حازم العبدويي. وقال أحمد ابن محمد بن مردويه: كان أبو نعيم في وقته مرحولا إليه. ولم يكن في أفق من الآفاق أسند ولا أحفظ منه، كان حفاظ الدنيا قد اجتمعوا عنده، فكان كل يوم نوبة واحد منهم يقرأ ما يريده إلى قريب الظهر، فإذا قام إلى داره، ربما كان يقرأ عليه في الطريق جزء، وكان لا يضجر. وقال حمزة بن العباس العلوي: كان أصحاب الحديث يقولون: بقي أبو نعيم أربع عشرة سنة بلا نظير، لا يوجد شرقا ولا غربا أعلى منه إسنادا ولا أحفظ منه. توفي في العشرين من المحرم سنة ثلاثين وأربعمائة وله أربع وتسعون سنة. ¬

(¬1) معجم المؤلفين (1/ 282) والسير (17/ 453 - 464) والكامل في التاريخ (9/ 466) ووفيات الأعيان (1/ 91 - 92) وتذكرة الحفاظ (3/ 1092 - 1098) والوافي بالوفيات (7/ 81 - 84) والبداية والنهاية (2/ 48 - 49) ولسان الميزان (1/ 201) وشذرات الذهب (3/ 245).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: قال أبو نعيم عقب حديث: «إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم صلاة علي» (¬1): وهذه منقبة شريفة يختص بها رواة الآثار ونقلتها. لأنه لا يعرف لعصابة من العلماء من الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر مما يعرف لهذه العصابة نسخا وذكرا. (¬2) ¬

(¬1) أخرجه: ابن أبي شيبة في مسنده (1/ 207 - 208/ 306) في المصنف (6/ 325/31788) ومن طريقه أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (5/ 177) وأبو يعلى (8/ 427 - 428/ 5011) وابن حبان (3/ 192/911) والخطيب في شرف أصحاب الحديث (رقم 63) وأخرجه الطبراني (10/ 17 - 18/ 9800) والبزار (البحر الزخار 4/ 278/1446) كلهم من طريق خالد بن مخلد نا موسى بن يعقوب الزمعي قال أخبرني عبد الله بن كيسان قال أخبرني عبد الله بن شداد بن الهاد عن أبيه عن عبد الله بن مسعود به. وفي إسناده عبد الله بن كيسان، قال فيه ابن القطان (الوهم والإيهام 3/ 613/1422): "وعبد الله بن كيسان لا تعرف حاله، ولا يعرف روى عنه إلا موسى بن يعقوب الزمعي وقال ابن حجر في التقريب: مقبول، وذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا". قال الألباني في تخريج المشكاة (1/ 291): "وإسناده ضعيف، فيه عبد الله بن كيسان، لم يوثقه غير ابن حبان. وموسى بن يعقوب اختلف فيه، فضعفه ابن المديني"، وقال النسائي: "ليس بالقوي"، وقال أحمد: "لا يعجبني حديثه" وقال الدارقطني في العلل (5/ 113): "والاضطراب فيه من موسى بن يعقوب ولا يحتج به". وقال ابن حجر في التقريب: "صدوق سيء الحفظ". قلت: وقد وقع الاختلاف في إسناده. فرواه الترمذي (2/ 354/484) وقال: "حسن غريب"، والبخاري في التاريخ الكبير (5/ 177) والبغوي في شرح السنة (3/ 196 - 197/ 686) والبزار (البحر الزخار 5/ 190/1789). لم يذكروا الواسطة بين عبد الله بن شداد وبين عبد الله بن مسعود، وقد بين هذا الاختلاف الدارقطني في العلل (5/ 111 - 113). وهناك اختلاف آخر في إسناده، فقد ذكر البخاري في تاريخه (5/ 177) إسنادين آخرين: الأول: من طريق موسى عن عبد الله بن كيسان عن عتبة بن عبد الله عن عبد الله بن مسعود به. الثاني: من طريق قاسم بن أبي زياد عن عبد الله بن كيسان عن سعيد بن أبي سعيد عن عتبة بن مسعود أو عبد الله بن مسعود به، ولذلك حكم عليه الدارقطني في العلل بالاضطراب. (¬2) شرف أصحاب الحديث (35).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: كان هذا الإمام سلفيا في عقيدة الأسماء والصفات، يتبين ذلك من عقيدته التي ألفها، وقد نقل منها شيخ الإسلام في الدرء والفتاوى، وكذلك الحافظ ابن القيم والحافظ الذهبي في العلو. وأما التصوف فكان صوفيا حتى إنه ألف كتابه المشهور المسمى 'الحلية' وذكر فيه جملة من السلف هم بريئون مما عمل. وإليك نموذجا من عقيدته. - جاء في مختصر العلو: طريقتنا طريقة السلف المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة، ومما اعتقدوه: أن الله لم يزل كاملا بجميع صفاته القديمة لا يزول ولا يحول، لم يزل عالما بعلم بصيرا ببصر سميعا بسمع متكلما بكلام، ثم أحدث الأشياء من غير شيء وأن القرآن كلام الله وكذلك سائر كتبه المنزلة. كلامه غير مخلوق وأن القرآن في جميع الجهات مقروءا ومتلوا ومحفوظا ومسموعا ومكتوبا وملفوظا كلام الله حقيقة، لا حكاية ولا ترجمة وأنه بألفاظنا كلام الله غير مخلوق وأن الواقفة واللفظية من الجهمية وأن من قصد القرآن بوجه من الوجوه يريد به خلق كلام الله فهو عندهم من الجهمية وأن الجهمي عندهم كافر إلى أن قال: وأن الأحاديث التي ثبتت في العرش واستواء الله عليه يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل وأن الله بائن من خلقه، والخلق بائنون منه، لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم، وهو مستو على عرشه في سمائه من دون أرضه. (¬1) - وقال أبو طاهر السلفي: سمعت أبا العلاء محمد بن عبد الجبار ¬

(¬1) مختصر العلو (ص.261) ومجموع الفتاوى (5/ 60).

أبو عمران الفاسي (430 هـ)

الفرساني يقول: حضرت مجلس أبي بكر بن أبي علي الذكواني المعدل في صغري مع أبي، فلما فرغ من إملائه، قال إنسان: من أراد أن يحضر مجلس أبي نعيم، فليقم. وكان أبو نعيم في ذلك الوقت مهجورا بسبب المذهب، وكان بين الأشعرية والحنابلة تعصب زائد يؤدي إلى فتنة، وقيل وقال، وصداع طويل، فقام إليه أصحاب الحديث بسكاكين الأقلام، وكاد الرجل يقتل. قلت -أي الذهبي-: ما هؤلاء بأصحاب الحديث، بل فجرة جهلة، أبعد الله شرهم. (¬1) قلت: وأما التصوف فيؤيد ما ذكرناه ما قاله الإمام ابن الجوزي في تلبيس إبليس: وجاء أبو نعيم الأصبهاني فصنف لهم كتاب الحلية. وذكر في حدود التصوف أشياء منكرة قبيحة، ولم يستح أن يذكر في الصوفية أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وسادات الصحابة رضي الله عنهم. فذكر عنهم فيه العجب، وذكر منهم شريحا القاضي والحسن البصري وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل. (¬2) أبو عمران الفاسي (¬3) (430 هـ) موسى بن عيسى بن أبي حاج واسمه يحج الإمام أبو عمران الفاسي الدار البربري الفقيه المالكي نزيل القيروان ولد هو وابن عبد البر في عام واحد سنة ثمان وستين وثلاثمائة. سمع من عبد الوارث بن سفيان وسعيد بن نصر ¬

(¬1) السير (17/ 459). (¬2) التلبيس (ص.204). (¬3) ترتيب المدارك (2/ 280 - 283) وتاريخ الإسلام (حوادث 421 - 430/ص.299 - 301) والسير (17/ 545 - 548).

موقفه من المشركين:

وأحمد ابن القاسم التاهرتي، وتفقه بأبي الحسن القابسي وهو أكبر تلامذته، تخرج بهذا الإمام خلق من الفقهاء والعلماء. كان أبو عمران من أعلم الناس وأحفظهم جمع الفقه إلى الحديث ومعرفة معانيه. وكان يقرأ القراءات ويجودها مع معرفته بالرجال والجرح والتعديل. وقال ابن بشكوال: أقرأ الناس مدة بالقيروان، ثم ترك الإقراء ودرس الفقه وروى الحديث. توفي رحمه الله في ثالث عشر رمضان من سنة ثلاثين وأربعمائة. موقفه من المشركين: قال الذهبي: وحكى القاضي عياض قال: حدث في القيروان مسألة في الكفار، هل يعرفون الله تعالى أم لا؟ فوقع فيها اختلاف العلماء، ووقعت في ألسنة العامة، وكثر المراء، واقتتلوا في الأسواق إلى أن ذهبوا إلى أبي عمران الفاسي، فقال: إن أنصتم، علمتكم. قالوا: نعم. قال: لا يكلمني إلا رجل، ويسمع الباقون. فنصبوا واحدا، فقال له: أرأيت لو لقيت رجلا، فقلت له: أتعرف أبا عمران الفاسي؟ قال: نعم. فقلت له: صفه لي. قال: هو بقال في سوق كذا، ويسكن سبتة، أكان يعرفني؟ فقال: لا. فقال: لو لقيت آخر فسألته كما سألت الأول، فقال: أعرفه، يدرس العلم، ويفتي، ويسكن بغرب الشماط، أكان يعرفني؟ قال: نعم. قال: فكذلك الكافر قال: لربه صاحبة وولد، وأنه جسم، فلم يعرف الله ولا وصفه بصفته بخلاف المؤمن. فقالوا: شفيتنا. ودعوا له، ولم يخوضوا بَعْدُ في المسألة. (¬1) ¬

(¬1) السير (17/ 546 - 547).

جعفر المستغفري (432 هـ)

جعفر المُسْتَغْفِرِي (¬1) (432 هـ) أبو العباس، جعفر بن محمد بن المعتز بن محمد بن المستغفر بن الفتح النسفي، الإمام، الحافظ، العلامة، صاحب التصانيف الكثيرة، كان مولده بعد الخمسين والثلاثمائة بيسير. حدث عن زاهر بن أحمد السرخسي، وإبراهيم بن لقمان، وأبي سعيد عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب الرازي، وخلق كثير. وحدث عنه الحسن بن عبد الملك النسفي، والحسن بن أحمد السمرقندي الحافظ، وآخرون. وكان محدث ما وراء النهر في زمانه. مات بنسف سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة عن ثمانين سنة، رحمه الله. موقفه من الجهمية: جاء في الأنساب للسمعاني: عنه قال: لا أستجيز الرواية عنه، لأنه كان داعية إلى الاعتزال -يريد شيخ المعتزلة عبد الله بن أحمد الكعبي-. (¬2) موقف السلف من أبي ذر الهروي (434 هـ) دخول علم الكلام إلى بلاد المغرب والأندلس: قدمنا غير ما مرة أن العقيدة السلفية هي عقيدة الصدر الأول، ولا يعرفون غيرها لأنها هي المتلقاة عن صاحب الشرع. ولذا كانت البلاد التي ¬

(¬1) السير (17/ 564 - 565) وتذكرة الحفاظ (3/ 1102 - 1103) والوافي بالوفيات (11/ 149 - 150) وشذرات الذهب (3/ 249 - 250) ومعجم المؤلفين (3/ 150) وكشف الظنون (1/ 296 - 308). (¬2) الأنساب (1/ 444).

يفتحونها أو يدخلونها ويسلم أهلها لا ينشر فيها إلا العقيدة السلفية. ولكن بعد دخول طاغوت الكلام الذي عكر الجو، وأفسده وجد له دعاة ينشرونه في البلاد التي كانت لا تعرف إلا العقيدة السلفية. وبلاد المغرب والأندلس من البلاد التي فتحها الصدر الأول ونشر فيها عقيدة السلف. - يقول المؤرخ الكبير الذهبي في كتاب السير في ترجمة أبي ذر الهروي: أخذ الكلام ورأي أبي الحسن عن القاضي أبي بكر بن الطيب، وبث ذلك بمكة، وحمله عنه المغاربة إلى المغرب والأندلس، وقبل ذلك كانت علماء المغرب لا يدخلون في الكلام؛ بل يتقنون الفقه أو الحديث أو العربية، ولا يخوضون في المعقولات وعلى ذلك كان الأصيلي وأبو الوليد بن الفرضي وأبو عمر الطلمنكي ومكي القيسي وأبو عمرو الداني وأبو عمر بن عبد البر والعلماء. (¬1) قلت: وهذا ما يؤكده المؤرخ المغربي الكبير؛ أبو العباس أحمد الناصري في كتاب الاستقصا وهو يتحدث عن حال أهل المغرب قال: وأما حالهم في الأصول والاعتقادات، فبعد أن طهرهم الله تعالى من نزعة الخارجية أولا والرافضية ثانيا، أقاموا على مذهب أهل السنة والجماعة مقلدين للجمهور من السلف -يعني متبعون لهم- رضي الله عنهم في الإيمان بالمتشابه وعدم التعرض له بالتأويل مع التنزيه عن الظاهر، وهو والله أحسن المذاهب وأسلمها ولله در القائل: ¬

(¬1) السير (17/ 557).

عقيدتنا أن ليس مثل صفاته ... ولا ذاته شيء، عقيدة صائب نسلم آيات الصفات بأسرها ... وأخبارها للظاهر المتقارب ونؤيس عنها كنه فهم عقولنا ... وتأويلنا، فعل اللبيب المراقب ونركب للتسليم سفنا، فإنها ... لتسليم دين المرء خير المراكب واستمر الحال على ذلك مدة إلى أن ظهر محمد بن تومرت مهدي الموحدين في صدر المائة السادسة فرحل إلى المشرق وأخذ عن علمائه مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري ومتأخري أصحابه من الجزم بعقيدة السلف مع تأويل المتشابه من الكتاب والسنة، وتخريجه على ما عرف في كلام العرب من فنون مجازاتها وضروب بلاغتها، مما يوافق عليه النقل والشرع ويسلمه العقل والطبع ثم عاد محمد بن تومرت إلى المغرب، ودعا الناس إلى سلوك هذه الطريقة وجزم بتضليل من خالفها بل بتكفيره، وسمى أتباعه الموحدين تعريضا بأن من خالف طريقته ليس بموحد وجعل ذلك ذريعة إلى الانتزاء على ملك المغرب حسب ما تقف عليه مفصلا بعد إن شاء الله، لكنه ما أتى بطريقة الأشعري خالصة بل مزجها بشيء من الخارجية والشيعية حسبما يعلم ذلك بإمعان النظر في أقواله وأحواله وأحوال خلفائه من بعده، ومن ذلك الوقت أقبل علماء المغرب على تعاطي مذهب الأشعري وتقريره وتحريره درسا وتأليفا إلى الآن وإن كان قد ظهر بالمغرب قبل ابن تومرت فظهورا ما والله أعلم. (¬1) ¬

(¬1) الاستقصا (1/ 140 - 141).

المهلب بن أحمد بن أسيد (435 هـ)

من تصانيفه: قال الذهبي: ولأبي ذر الهروي مصنف في الصفات على منوال كتاب أبي بكر البيهقي بحدثنا وأخبرنا. (¬1) المُهَلَّب بن أحمد بن أَسِيد (¬2) (435 هـ) المهلب بن أحمد بن أبي صفرة أبو القاسم الأندلسي، سكن المرية، وصحب الأصيلي، وسمع منه، وتفقه معه، وسمع من غيره عن شيوخ الأندلس ثم رحل إلى القيروان ومصر وسمع من جماعة منهم أبو الحسن القابسي، وأبو ذر الهروي وحدث عنه القاضي بن المرابط، وأبو عمر بن الحذاء، وأبو العباس الدلائي. وكان من أهل العلم الراسخين فيه، والمتفننين في الفقه والحديث. قال أبو عمر بن الحذاء: كان أذهن من لقيته وأفصحهم وأفهمهم. له شرح واختصار لصحيح البخاري سماه: 'كتاب النصيح في اختصار الصحيح'. توفي سنة خمس وثلاثين وأربعمائة. موقفه من المبتدعة: قال الحافظ في فتح الباري: قال المهلب: هذا الباب والذي قبله -يعني باب (إثم من دعا إلى ضلالة أو سن سنة سيئة) وباب (قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لتتبعن ¬

(¬1) السير (17/ 559). (¬2) ترتيب المدارك (2/ 313) وسير أعلام النبلاء (17/ 579) وشذرات الذهب (3/ 255) وتاريخ الإسلام (حوادث 431 - 440/ص.422) وشجرة النور الزكية (1/ 114) والديباج المذهب (2/ 346).

موقف السلف من المرتضى الشريف الرافضي الخبيث (436 هـ)

سنن من كان قبلكم» (¬1) - في معنى التحذير من الضلال، واجتناب البدع ومحدثات الأمور في الدين، والنهي عن مخالفة سبيل المؤمنين. (¬2) موقف السلف من المرتضى الشريف الرافضي الخبيث (436 هـ) بيان رفضه: جاء في السير: قال ابن حزم: الإمامية كلهم على أن القرآن مبدل، وفيه زيادة ونقص سوى المرتضى، فإنه كفر من قال ذلك، وكذلك صاحباه أبو يعلى الطوسي، وأبو القاسم الرازي. قال الذهبي: وفي تواليفه سب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنعوذ بالله من علم لا ينفع. (¬3) قال ابن كثير ناقلا عن ابن الجوزي: وأعجب منها -أي من أقواله ومذاهبه العجيبة- ذم الصحابة رضي الله عنهم. ثم سرد -أي ابن الجوزي- من كلامه شيئا قبيحا في تكفير عمر بن الخطاب وعثمان وعائشة وحفصة رضي الله عنهم وأخزاه الله وأمثاله من الأرجاس الأنجاس، أهل الرفض والارتكاس، إن لم يكن تاب؛ فقد روى ابن الجوزي قال: أنبأنا ابن ناصر عن أبي الحسن بن الطيوري قال سمعت أبا القاسم بن برهان يقول: دخلت ¬

(¬1) تقدم تخريجه ضمن مواقف علي بن المديني سنة (234هـ). (¬2) الفتح (13/ 302). (¬3) السير (17/ 590).

مكي بن أبي طالب (437 هـ)

على الشريف المرتضى وإذا هو قد حول وجهه إلى الجدار وهو يقول: أبو بكر وعمر ولِّيا فعدلا واسترحما فرحما؛ فأنا أقول: ارتدا بعدما أسلما؟ قال: فقمت عنه فما بلغت عتبة داره حتى سمعت الزعقة عليه. (¬1) مكي بن أبي طالب (¬2) (437 هـ) أبو محمد مكي بن أبي طالب حموش بن محمد بن مختار القيسي القيرواني ثم القرطبي، ولد سنة خمس وخمسين وثلاثمائة. سمع من أبي محمد بن أبي زيد وأبي الحسن القابسي وأحمد بن فراس المكي وعدة، تلا عليه خلق منهم: عبد الله بن سهل ومحمد بن أحمد بن مطرف، كان من أوعية العلم مع الدين والسكينة والفهم، غلب عليه علم القرآن وكان من الراسخين فيه. وكان خيرا فاضلا، متدينا، متواضعا، مشهورا بالصلاح، أقرأ بجامع قرطبة، وعظم اسمه، وبعد صيته. قال ابن بشكوال: قلده أبو الحزم جَهْوَر خطابة قرطبة. توفي رحمه الله في المحرم سنة سبع وثلاثين وأربعمائة. موقفه من القدرية: قال الحافظ في الفتح: وقال مكي بن أبي طالب في إعراب القرآن له قالت المعتزلة (ما) في قوله تعالى: {وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} (¬3) موصولة فرارا من أن ¬

(¬1) البداية والنهاية (12/ 57) وانظر المنتظم (15/ 294 - 300). (¬2) ترتيب المدارك (2/ 304) ووفيات الأعيان (5/ 274 - 277) وتاريخ الإسلام (حوادث 431 - 440/ص.452 - 455) والسير (17/ 591 - 593). (¬3) الصافات الآية (96).

عبد الله بن يوسف الجويني (438 هـ)

يقروا بعموم الخلق لله تعالى، يريدون أنه خلق الأشياء التي تنحت منها الأصنام، وأما الأعمال والحركات فإنها غير داخلة في خلق الله، وزعموا أنهم أرادوا بذلك تنزيه الله تعالى عن خلق الشر، ورد عليهم أهل السنة بأن الله تعالى خلق إبليس وهو الشر كله، وقال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} (¬1) فأثبت أنه خلق الشر، وأطبق القراء حتى أهل الشذوذ على إضافة شر إلى "ما" إلا عمرو بن عبيد رأس الاعتزال فقرأها بتنوين شر ليصحح مذهبه، وهو محجوج بإجماع من قبله على قراءتها بالإضافة، قال: وإذا تقرر أن الله خالق كل شيء من خير وشر وجب أن تكون "ما" مصدرية، والمعنى خلقكم وخلق عملكم انتهى. (¬2) عبد الله بن يوسف الجُوَيْنِي (¬3) (438 هـ) شيخ الشافعية، أبو محمد، عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيويه، الطائي السنبسي الجويني، والد إمام الحرمين. وجوين ناحية كبيرة من نواحي نيسابور تشتمل على قرى كثيرة. سمع وتفقه على أبي الطيب الصعلوكي وأبي بكر القفال وأبي نعيم الاسفراييني وطائفة. وروى عنه ابنه أبو المعالي، وعلي بن أحمد بن الأحزم وسهل بن إبراهيم المسجدي ¬

(¬1) الفلق الآيتان (1و2). (¬2) فتح الباري (13/ 529). (¬3) السير (17/ 617 - 618) والكامل في التاريخ (9/ 535) ووفيات الأعيان (3/ 47 - 48) والبداية والنهاية (12/ 59) وشذرات الذهب (3/ 261 - 262).

موقفه من الجهمية:

وغيرهم. كان فقيها مدققا محققا، نحويا مفسرا، مجتهدا في العبادة، مهيبا بين التلامذة، صاحب جد ووقار وسكينة. قال ابن شهبة في طبقاته: كان يلقب ركن الإسلام. وقال أبو عثمان الصابوني: لو كان الشيخ أبو محمد في بني إسرائيل لنقلت إلينا شمائله، وافتخروا به. توفي في ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة. موقفه من الجهمية: هذا والد أبي المعالي عبد الملك المشهور بإمام الحرمين، وإذا أطلق الجويني انصرف إلى الابن. وكان الوالد بحرا في شتى العلوم كما بين ذلك ابن السبكي في طبقاته، وهو كغيره في وقته تربى على الأشعرية وتلقى العلوم على مشايخها، وبصيرته بنصوص القرآن والسنة والفطرة السلفية جعلته يتوقف ويشك في صحة ما يقوله مشايخ الأشاعرة من التأويل والتعطيل. ثم أخيرا هداه الله وشرح صدره لعقيدة السلف، فكتب في ذلك رسالته التي بين فيها أعظم المسائل في العقيدة السلفية وهي إثبات الفوقية والاستواء والحرف والصوت لله رب العالمين. وهذه الرسالة طبعت منفردة ومع مجموعة الرسائل المنيرية. وأما ابنه عبد الملك فسبح في بحر الأشعرية وتخبط مدة طويلة من الزمن، ثم رجع وكتب رجوعه في العقيدة النظامية، ولكن إلى عقيدة التفويض. انظر الصفات الإلهية بين الخلف والسلف. (¬1) نموذج من رسالة الجويني الوالد: ¬

(¬1) (ص.82 وما بعدها).

وبعد أن ذكر خطبة الرسالة قال: وبعد، فهذه نصيحة كتبتها إلى إخواني في الله أهل الصدق والصفاء والإخلاص والوفاء لما تعين علي من محبتهم في الله ونصيحتهم في صفات الله عز وجل، فإن المرء لا يكمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه. وفي الصحيح عن جرير بن عبد الله البجلي قال: بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم (¬1). وعن تميم الداري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الدين النصيحة» ثلاثا، قال: لمن؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» (¬2). أعرفهم أيدهم الله تعالى بتأييده ووفقهم لطاعته ومزيده أنني كنت برهة من الدهر متحيرا في ثلاث مسائل: مسألة الصفات، ومسألة الفوقية، ومسألة الحرف والصوت في القرآن المجيد، وكنت متحيرا في الأقوال المختلفة الموجودة في كتب أهل العصر في جميع ذلك من تأويل الصفات وتحريفها أو إمرارها والوقوف فيها أو إثباتها بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل، فأجد النصوص في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ناطقة منبئة بحقائق هذه الصفات وكذلك في إثبات العلو والفوقية وكذلك في الحرف والصوت. ثم أجد المتأخرين من المتكلمين في كتبهم منهم من يؤول الاستواء بالقهر والاستيلاء ويؤول النزول بنزول الأمر ¬

(¬1) أحمد (4/ 365) والبخاري (1/ 182 - 183/ 57) ومسلم (1/ 75/56) والترمذي (4/ 286/1925) ورواه أبو داود (5/ 234/4945) والنسائي (7/ 158 - 159/ 4168) كلاهما بلفظ: « ... على السمع والطاعة وأن أنصح لكل مسلم». (¬2) أخرجه: أحمد (4/ 102) ومسلم (1/ 74/55) وأبو داود (5/ 233 - 234/ 4944) والنسائي (7/ 176/4208) عن تميم الداري. والحديث ذكره البخاري تعليقا (1/ 182). قال ابن حجر في الفتح: "هذا الحديث أورده المصنف هنا ترجمة باب، ولم يخرجه مسندا في هذا الكتاب لكونه على غير شرطه، ونبه بإيراده على صلاحيته في الجملة".

ويؤول اليدين بالقدرتين أو النعمتين ويؤول القدم بقدم صدق عند ربهم وأمثال ذلك ثم أجدهم مع ذلك يجعلون كلام الله تعالى معنى قائما بالذات بلا حرف ولا صوت ويجعلون هذه الحروف عبارة عن ذلك المعنى القائم. وممن ذهب إلى هذه الأقوال وبعضها، قوم لهم في صدري منزلة مثل طائفة من فقهاء الأشعرية الشافعيين، لأني على مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه عرفت فرائض ديني وأحكامه فأجد مثل هؤلاء الشيوخ الأجلة يذهبون إلى مثل هذه الأقوال، وهم شيوخي ولي فيهم الاعتقاد التام لفضلهم وعلمهم ثم إنني مع ذلك أجد في قلبي من هذه التأويلات حزازات لا يطمئن قلبي إليها، وأجد الكدر والظلمة منها وأجد ضيق الصدر وعدم انشراحه مقرونا بها. فكنت كالمتحير المضطرب في تحيره المتململ من قلبه في تقلبه وتغيره. وكنت أخاف من إطلاق القول بإثبات العلو والاستواء والنزول مخافة الحصر والتشبيه ومع ذلك فإذا طالعت النصوص الواردة في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أجدها نصوصا تشير إلى حقائق هذه المعاني وأجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد صرح بها مخبرا عن ربه واصفا له بها، وأعلم بالاضطرار أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحضر في مجلسه: الشريف والعالم والجاهل والذكي والبليد والأعرابي والجافي، ثم لا أجد شيئا يعقب تلك النصوص التي كان يصف ربه بها لا نصا ولا ظاهرا مما يصرفها عن حقائقها ويؤولها كما تأولها هؤلاء مشايخي الفقهاء المتكلمين، مثل تأويلهم الاستيلاء بالاستواء ونزول الأمر للنزول وغير ذلك ولم أجد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يحذر الناس من الإيمان بما يظهر من كلامه في صفته لديه من الفوقية واليدين وغيرها، ولم ينقل عنه مقالة تدل على أن لهذه الصفات معاني

أخر باطنة غير ما يظهر من مدلولها مثل فوقية المرئية ويد النعمة والقدرة وغير ذلك. وأجد الله عز وجل يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (¬1) .. ثم ذكر آيات الاستواء وأحاديثه ثم قال -فصل-: إذا علمنا ذلك واعتقدناه تخلصنا من شبه التأويل وعماوة التعطيل وحماقة التشبيه والتمثيل وأثبتنا علو ربنا سبحانه وفوقيته واستواءه على عرشه كما يليق بجلاله وعظمته والحق واضح في ذلك والصدور تنشرح له فإن التحريف تأباه العقول الصحيحة مثل تحريف الاستواء بالاستيلاء وغيره، والوقوف في ذلك جهل وعي مع كون أن الرب تعالى وصف لنا نفسه بهذه الصفات لنعرفه بها فوقوفنا عن إثباتها ونفيها عدول عن المقصود منه في تعريفنا إياها فما وصف لنا نفسه بها إلا لنثبت ما وصف به نفسه لنا ولا نقف في ذلك وكذلك التشبيه والتمثيل حماقة وجهالة فمن وفقه الله تعالى للإثبات بلا تحريف ولا تكييف ولا وقوف فقد وقع على الأمر المطلوب منه إن شاء الله تعالى. ثم قال -فصل-: والذي شرح الله صدري في حال هؤلاء الشيوخ الذين أولوا الاستواء بالاستيلاء، والنزول بنزول الأمر واليدين بالنعمتين والقدرتين هو علمي بأنهم ما فهموا في صفات الرب تعالى إلا ما يليق بالمخلوقين، فما فهموا عن الله استواء يليق به ولا نزولا يليق به ولا يدين تليق بعظمته بلا تكييف ولا تشبيه فلذلك حرفوا الكلم عن مواضعه وعطلوا ما وصف الله تعالى نفسه به. (¬2) ¬

(¬1) طه الآية (5). (¬2) مجموعة الرسائل المنيرية (1/ 175 - 181).

محمد بن علي الصوري (441 هـ)

التعليق: ماذا يقول علماء الأشاعرة في هذه الرسالة السلفية؟ هل اخترعت على الجويني أم هي حقيقة من تأليفه ينبغي أن يؤول ما فيها أو يرفض لأنه لا يتفق والعقيدة الأشعرية. والله إن هذا لهو الحق المبين مهما كان الأمر ومهما قيل. انظر رحمك الله إلى عبارات هذا الإمام في التأويل والتشبيه يستطيع شيخ الإسلام ومن سار على طريقه أن يعبر أكثر من هذا التعبير في الوصف بالعماوة والحماقة؟ فهذا تعبير لا مزيد عليه. وابن تيمية إنما يشرح كلام أمثال هؤلاء الفحول ويبينها لا غير، إذا فليرجع أئمة الأشاعرة إلى عقيدة السلف ويكفنوا عقيدة أهل اليونان ويرموها في مكان سحيق حتى لا يتأذى الناس بشرها. أو يندبون خدودهم على مثل هذه العقائد السلفية من أئمة كانوا فحولا في العقيدة الأشعرية، فنرجو الله أن يرجع بإخواننا إلى الصراط المستقيم إنه سميع مجيب. محمد بن علي الصوري (¬1) (441 هـ) الإمام الحافظ الحجة، أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الله الشامي الصوري ولد سنة ست أو سبع وسبعين وثلاثمائة. سمع محمد بن أحمد بن جميع الصيداوي، ومحمد بن عبد الصمد الزرافي وعبد الغني بن سعيد المصري. وحدث عنه شيخه الحافظ عبد الغني، وأبو بكر الخطيب، والقاضي أبو عبد الله ¬

(¬1) السير (17/ 627 - 631) وتاريخ بغداد (3/ 103) وتذكرة الحفاظ (3/ 1114) والأنساب (3/ 565).

موقفه من المبتدعة:

الدامغاني، قال الخطيب: كان الصوري من أحرص الناس على الحديث. قال أبو الحسين بن الطيوري: كتبت عن عدة، فما رأيت فيهم أحفظ من الصوري، كان يكتب بفرد عين، وكان متفننا يعرف من كل علم، وقوله حجة، وعنه أخذ الخطيب علم الحديث. قال الذهبي: كان من أئمة السنة وله شعر رائق. توفي سنة إحدى وأربعين وأربعمائة. موقفه من المبتدعة: روى له الخطيب أبياتا في أهل الحديث وهي: قل لمن عاند الحديث وأضحى ... عائبا أهله ومن يدعيه أبعلم تقول هذا أبن لي ... أم بجهل فالجهل خلق السفيه أيعاب الذين هم حفظوا الديـ ... ـن من الترهات والتمويه وإلى قولهم وما قد رووه ... راجع كل عالم وفقيه (¬1) القزويني الحربي (¬2) (442 هـ) الإمام القدوة شيخ العراق أبو الحسن، علي بن عمر بن محمد البغدادي الحربي الزاهد، سمع أبا حفص بن الزيات وأبا بكر بن شاذان والقاضي أبا الحسن الجراحي وطبقتهم وأملى عدة مجالس، حدث عنه: الخطيب وابن ¬

(¬1) شرف أصحاب الحديث (77 - 78). (¬2) السير (17/ 609 - 613) والعبر (1/ 459) والبداية والنهاية (12/ 66) والنجوم الزاهرة (5/ 49) وشذرات الذهب (3/ 268 - 269).

موقفه من المبتدعة:

خيرون وأبو الوليد الباجي وخلق. قال الخطيب: كتبنا عنه، وكان أحد الزهاد، ومن عباد الله الصالحين، يقرئ القرآن، ويروي الحديث، ولا يخرج من بيته إلا للصلاة. عليه بعض المؤاخذات فيما حكي عنه من مبالغات في بعض الكرامات كشهوده عرفة وهو ببغداد!!! توفي سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة. موقفه من المبتدعة: من آثاره السلفية: 'السنة' ذكره في 'الحجة في بيان المحجة'. (¬1) عثمان أبو عمرو الدَّانِي (¬2) (444 هـ) الإمام، الحافظ، عالم الأندلس، أبو عمرو، عثمان بن سعيد بن عثمان ابن سعيد بن عمر الأموي مولاهم القرطبي المقرئ، الداني، ويعرف قديما بابن الصيرفي، والداني: نسبة إلى دانية، مدينة بالأندلس. كان مولده سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة. سمع أبا مسلم محمد بن أحمد الكاتب وأحمد بن فراس المكي وعبد الرحمن بن عثمان القشيري الزاهد وعدة. وحدث عنه وقرأ عليه عدد كثير، منهم ولده أبو العباس وخلف بن إبراهيم الطليطلي. ¬

(¬1) (ص.171). (¬2) السير (18/ 77 - 85) وتذكرة الحفاظ (3/ 1120 - 1121) والديباج المذهب (2/ 84 - 85) وشذرات الذهب (3/ 272) وشجرة النور الزكية (1/ 115) وتاريخ الإسلام (حوادث 441 - 450/ص.97 - 101).

موقفه من المبتدعة والجهمية والرافضة والخوارج والمرجئة:

قال ابن بشكوال: كان أبو عمرو أحد الأئمة في علم القرآن، رواياته وتفسيره ومعانيه، وطرقه وإعرابه، وجمع في ذلك كله تواليف حسانا مفيدة، وله معرفة بالحديث وطرقه، وأسماء رجاله ونقلته، وكان حسن الخط، جيد الضبط، من أهل الذكاء والحفظ، والتفنن في العلم، دينا فاضلا، ورعا سنيا. قال الذهبي: إلى أبي عمرو المنتهى في تحرير علم القراءات وعلم المصاحف، مع البراعة في علم الحديث والتفسير والنحو، وغير ذلك. مات سنة أربع وأربعين وأربعمائة، ودفن بمقبرة دانية. موقفه من المبتدعة والجهمية والرافضة والخوارج والمرجئة: كان أبو عمرو الداني من كبار العلماء في بلاد الأندلس، من الله عليه بدراسة عقيدة السلف، وبدا ذلك عليه في أرجوزته المسماة بالمنبهة فذكر في مطلعها عقيدة أصول البدع وبينها. وعلى كل حال، فأبو عمرو في هذه الأرجوزة دافع عن عقيدة السلف. وكان صاحب سنة كما قال فيه الذهبي. دفاعه عن العقيدة السلفية في أرجوزته المنبهة: القول في عقود السنة: ومن عقود السنة الايمان ... بكل ما جاء به القرآن وبالحديث المسند المروي ... عن الأئمة عن النبي وأن ربنا قديم لم يزل ... وهو دائم إلى غير أجل ليس له شبه ولا نظير ... ولا شريك لا ولا وزير ولا له ند ولا عديل ... ولا انتقال لا ولا تحويل ولا له صاحبة ولا ولد ... بل هو فرد صمد وتر أحد

كان وما كان شيء قبله ... أجل ولا شيء يكون مثله جل عن الوصف وكيف كانا ... سبحانه من بارئ سبحانا كلم موسى عنده تكليما ... ولم يزل مدبرا حكيما كلامه وقوله قديم ... وهو فوق عرشه العظيم والقول من كتابه المفضل ... بأنه كلامه المنزل على رسوله النبي الصادق ... ليس بمخلوق ولا بخالق من قال فيه انه مخلوق ... أو محدث فقوله مروق والوقف فيه بدعة مضلة ... ومثل ذاك اللفظ عند الجلة كلا الفريقين من الجهمية ... الواقفون فيه واللفظية هو القرآن لا يسوغ فيه ... مقال ذي الشك وذي التمويه بل الذي أجمع أهل السنة ... عليه كابن حنبل ذي المحنة ونظرائه من الأئمة ... ذوي التقى سرج هذه الأمة أهون بقول جهم الخسيس ... وواصل وبشر المريسي ذي السخف والجهل وذي العناد ... ومعمر وابن أبي دؤاد وابن عبيد شيخ الاعتزال ... وشارع البدع والضلال والجاحظ القادح في الاسلام ... وجبت هذه الأمة النظام والفاسق المعروف بالجبائي ... ونجله السفيه ذي الخناء واللاحقي وأبي الهذيل ... مؤيد الزيغ بكل ويل وذي العمى ضرار المرتاب ... وشبههم من أهل الارتياب جميعهم قد غالط الجهالا ... وأظهر البدعة والضلال

وعد ذاك شرعة ودينا ... فمنهم لله قد برينا وعن قريب منهم ينقم ... ومن مضى من مجهم سيندم وبعد فالايمان قول وعمل ... ونية عن ذاك ليس ينفصل هو على ثلاثة مبني ... خلاف ما يقوله المرجي وتارة يزيد بالتشمير ... وتارة ينتقص بالتقصير القول في حب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما كان من عصيان أو من طاعة ... فماله فيه من استطاعة بل للإله العلم والقضية ... في كل شيء وله المشيئة وحب أصحاب النبي فرض ... ومدحهم تزلف وقرض وأفضل الصحابة الصديق ... وبعده المهذب الفاروق وبعده عثمان ذو النورين ... وبعده علي أبو السبطين وبعد هؤلاء باقي العشرة ... الأتقياء المرتضين البررة أهل الخشوع والتقى والخوف ... طلحة والزبير وابن عوف ثمت سعد بعدهم وعامر ... ثم سعيد بن نفيل العاشر وسائر الصحب فهم أبرار ... منتخبون سادة أخيار وربنا جللهم إنعامه ... وخصهم بالفضل والكرامه والسمع والطاعة للأئمة ... مفترض على جميع الأمة وهم على ما جاء من قريش ... بذا أدين الله طول عيشي وأمراؤهم كلهم في الطاعة ... هذا الذي تقوله الجماعة من مات وهو لا يرى إماما ... فقد هوى إذ فارق الاسلاما ...

ومن يمت منا على العصيان ... فهو في مشيئة الرحمان ان شاء عذب وان شاء غفر ... وليس يصلى النار إلا من كفر والنار والجنة قد خلقتا ... وللخلود دائما أعدتا فالمومنون في النعيم سرمدا ... والجاحدون في العذاب أبدا وكل ما أحدثه أهل البدع ... فبدعة مضلة لا تتبع والبدع الأصول فاعلم أربعة ... قول الشراة مذهب ما أفظعه أخسس بهم وما به قد جاءوا ... والرفض والقدر والإرجاء وكل فرقة فقد تفرقت ... على ثماني عشرة تمزقت فاستكملت صدقا بغير مين ... فرقهم سبعين واثنتين وهي التي في مسند الأخبار ... بأنها بجمعها في النار كذا رويناه عن أولينا ... فالزم هديت الواضح المبينا القول في باقي العقود: ومن صريح السنة الاقرار ... بكل ما صحت به الآثار فمن صحيح ما أتى به الأثر ... وشاع في الناس قديما وانتشر نزول ربنا بلا امتراء ... في كل ليلة إلى السماء بغير ما حد ولا تكييف ... سبحانه من قادر لطيف ورؤية المهيمن الجبار ... وأنه نراه بالأبصار يوم القيامة بلا ازدحام ... وضغطة القبر على المقبور ... كرؤية البدر بلا غمام ... وفتنة المنجر والمنكر ونحو هذا من أصول الدين ... كالجائي في الصفات واليمين

موقفه من القدرية:

وكالذي جاء من البيان ... في الحوض والصراط والميزان والعرش والكرسى والحساب ... والعرض والثواب والعقاب والكتب والسؤال والشفاعة ... في كل عاص تارك للطاعة من الموحدين أهل القبلة ... إذ كلهم مستمسك بالملة فيتمتعون في الجنان ... بعد خروجهم من النيران كما أتى ذلك في الأنباء ... بعدا لأهل الزيغ والأهواء ماذا يردون من الآثار ... فهم كما جاء كلاب النار يعطلون شرعة الاسلام ... وما لهم في الدين من إمام كم أحدثوا من بدعة في الدين ... وأنكروا من خبر يقين وحرفوا من محكم التنزيل ... واخترعوا من باطل التأويل وزخرفوا من كذب وزور ... واستهزءوا بالوارد المسطور عن النبي وعن الكرام ... أصحابه في العقد والأحكام قد أنكروا سخفا نزول عيسى ... وشأنه تعسا لهم وبؤسا وأنكروا الدجال والاشراطا ... وأسقطوا جميعها اسقاطا فالحمد لله الذي هدانا ... لواضح السنة واجتبانا فهذه عقود أهل السنة ... فالتزمنها وارجون الجنة (¬1) موقفه من القدرية: له فصل جيد في 'الرسالة الوافية لمذهب أهل السنة في الاعتقادات ¬

(¬1) أطروحة دكتوراه للشيخ الحسن وجاج (2/ 347 - 366 مخطوط).

وأصول الديانات' تحدث فيه عن القدر على مذهب أهل السنة فقال: ومن قولهم: إن الأقدار كلها خيرها وشرها، حلوها ومرها: قد علمها تبارك وتعالى وقدرها، وأن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا. وكذا جميع الأعمال قد علمها وكونها وأحصاها وكتبها في اللوح المحفوظ، فكلها بقضائه جارية وعلى من سعد أو شقي في بطن أمه ماضية، لا محيص لخلقه عن إرادته، ولا عمل من خير ولا شر إلا مشيئته. وقال عز من قائل: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ} (¬1). ومشيئته تبارك وتعالى، ومحبته، ورضاه، ورحمته وغضبه، وسخطه، وولايته، وعداوته هو أجمع راجع إلى إرادته. والإرادة صفة لذاته غير مخلوقة، وهو يريد بها لكل حادث في سمائه وأرضه، مما ينفرد سبحانه بالقدرة على إيجاده. وما يجعله منه كسبا لعباده من خير وشر، ونفع وضر، وهوى وضلال، وطاعة، وعصيان، ولا يكون حادث إلا بإرادته، ولا يخرج مخلوق عن مشيئته. وما شاء كونه كان. وما لم يشأ لم يكن. يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، لا مضل لمن هداه، ولا هادي لمن أضله، كما أخبر عن نفسه في قوله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} (¬2)، وقال: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ ¬

(¬1) يس الآية (12). (¬2) الكهف الآية (17).

فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} (¬1). وقال: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)} (¬2)، وقال: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (¬3)، وقال: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (¬4) وقال: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬5) وقال: {سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يتكبرون فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (¬6) عن الإيمان بها بالخذلان المانع منه. وقال مخبرا عن موسى عليه السلام: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} (¬7)، وقال: {فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} (¬8)، وقال: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} (¬9) الآية، وقال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ ¬

(¬1) الزمر الآيتان (36و37). (¬2) النحل الآية (37). (¬3) المدثر الآية (31). (¬4) إبراهيم الآية (27). (¬5) الأنعام الآية (39). (¬6) الأعراف الآية (146). (¬7) الأعراف الآية (155). (¬8) الفتح الآية (11). (¬9) المائدة الآية (41).

يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} (¬1) الآية. وقال مخبرا عن نوح عليه السلام: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ} (¬2) أي: يضلكم. وقال: {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ} في آي كثيرة. فهو جل جلاله موفق أهل محبته وولايته لطاعته، وخاذل أهل معصيته، وذلك كله عدل من تدبيره وكلمته. وكذا ما يبتليهم به ويقضيه عليهم من خير وشر، ونفع وضر، وغنى وفقر، وألم ولذة، وسقم وصحة، وضلال وهداية، هو عدل منه في جميعهم: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (¬3) {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (¬4) {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} (¬5) {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} (¬6) وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} (¬7) الآية. وقال: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} (¬8) الآية. فجعل تبارك وتعالى ¬

(¬1) الأنعام الآية (125). (¬2) هود الآية (34). (¬3) الأنبياء الآية (23). (¬4) الأنعام الآية (149). (¬5) يونس الآية (99). (¬6) الأنعام الآية (35). (¬7) السجدة الآية (13). (¬8) يونس الآية (25).

الدعاء عموما، والهداية خصوصا. وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} (¬1) أي: للحال اليسرى، وهي العمل بالطاعة. {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (¬2) أي: للحال العسرى، وهي العمل بالمعصية. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «كل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة» ثم تلا الآيتين. (¬3) فالمؤمنون بالتوفيق آثروا الإيمان، وأقدرهم الله عزوجل عليه، وعلى ترك الكفر. والكافرون بالخذلان آثروا الكفر وأقدرهم الله تعالى عليه وعلى ترك الإيمان. ومعنى قوله: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} (¬4) إن قوما من ثمود آمنوا ثم ارتدوا فاستحبوا العمى على الهدى، أي: اختاروا الكفر على الإيمان. ومعنى قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (¬5) الخصوص يريد بعضهم وهم الذين علم أنهم يعبدونه، لأنه قال في آية أخرى: {وَلَقَدْ ¬

(¬1) الليل الآيات (5 - 7). (¬2) الليل الآيات (8 - 10). (¬3) سيأتي تخريجه في مواقف عبد الرحمن بن ناصر السعدي سنة (1376هـ). (¬4) فصلت الآية (17). (¬5) الذاريات الآية (56).

ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} (¬1) ومن ذرأه لجنهم لم يخلقه لعبادته. وقال مجاهد: معنى {ليعبدون} ليعرفون. أي: ليعرفوا أن لهم خالقا ورازقا، وقوله عزوجل: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} (¬2) الحسنة هاهنا: الخصب والغنيمة، والسيئة: الجدب والنكبة، لأنهم كانوا يتشاءمون بالأنبياء عليهم السلام كما أخبر بذلك في قوله: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ} يعني الرخاء والعافية {قَالُوا لَنَا هَذِهِ} أي: بحق أصابتنا {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} يعني بلاء وشدة {يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} فقال الله تعالى رادا عليهم متعجبا من قولهم: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} (¬3) {مَا أَصَابَكَ} أي: يقولون: ما أصابك {مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (¬4)، وإضمار القول في القرآن والكلام كثير. قال الله تعالى: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ ¬

(¬1) الأعراف الآية (179). (¬2) النساء الآية (78). (¬3) الأعراف الآية (131). (¬4) النساء الآية (79).

عبيد الله أبو نصر السجزي (444 هـ)

كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} (¬1) أي: يقولون: سلام عليكم. ومثله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} (¬2) أي: يقولون: {وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} (¬3) أي: يقولون: أخرجوا. ومثله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ} (¬4) أي: يقولون: ما نعبدهم، فكذلك ما تقدم سواء. (¬5) عبيد الله أبو نصر السِّجْزِي (¬6) (444 هـ) الإمام العالم، شيخ السنة، أبو نصر، عبيد الله بن سعيد بن حاتم الوائلي البكري، نزيل مصر. سمع من أبي عبد الله الحاكم وأبي أحمد الفرضي وطبقتهما. وحدث عنه أبو إسحاق الحبال وسهل بن بشر الإسفراييني وخلق. كان متقنا مكثرا بصيرا بالحديث والسنة، واسع الرحلة. قال محمد بن طاهر: سألت الحافظ أبا إسحاق الحبال عن أبي نصر السجزي، وأبي عبد الله ¬

(¬1) الرعد الآيتان (22و23). (¬2) آل عمران الآية (191). (¬3) الأنعام الآية (93). (¬4) الزمر الآية (3). (¬5) الرسالة الوافية (ص.63 - 68). (¬6) السير (17/ 654 - 657) وتذكرة الحفاظ (3/ 1118 - 1120) والعقد الثمين (5/ 307 - 308) وشذرات الذهب (3/ 271 - 272).

موقفه من الجهمية:

الصوري، أيهما أحفظ؟ فقال: كان السجزي أحفظ من خمسين مثل الصوري. صنف 'الإبانة الكبرى' في أن القرآن غير مخلوق، وهو مجلد كبير دال على سعة علم الرجل بفن الأثر. توفي أبو نصر بمكة، في المحرم سنة أربع وأربعين وأربعمائة. موقفه من الجهمية: له من الآثار السلفية: 1 - 'الإبانة في مسألة القرآن'، ذكره شيخ الإسلام في كثير من كتبه ونقل منه. 2 - 'الرد على من أنكر الحرف والصوت'، حقق رسالة علمية في مرحلة الماجستير قسم العقيدة بالجامعة الإسلامية بتحقيق الأخ الفاضل محمد باكريم الزهراني. - قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: وقال السجزي في 'الإبانة' وأئمتنا كالثوري، ومالك، وابن عيينة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وابن المبارك، والفضيل، وأحمد وإسحاق: متفقون على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش، وأن علمه بكل مكان، وأنه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا، وأنه يغضب، ويرضى ويتكلم بما شاء. فمن خالف شيئا من ذلك فهو منهم بريء، وهم منه برءاء. (¬1) - وقال شيخ الإسلام أيضا في الدرء: وقال الحافظ أبو نصر السجزي في رسالته المعروفة إلى أهل زبيد في الواجب من القول في ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (3/ 222).

القرآن: اعلموا -أرشدنا الله وإياكم- أنه لم يكن خلاف بين الخلق على اختلاف نحلهم من أول الزمان إلى الوقت الذي ظهر فيه ابن كلاب والقلانسي والأشعري وأقرانهم الذين يتظاهرون بالرد على المعتزلة وهم معهم، بل أخس حالا منهم في الباطن، من أن الكلام لا يكون إلا حرفا وصوتا ذا تأليف واتساق، وإن اختلفت به اللغات، وعبر عن هذا المعنى الأوائل الذين تكلموا في العقليات وقالوا: الكلام حروف متسقة وأصوات مقطعة، وقالت -يعني علماء العربية-: الكلام اسم وفعل وحرف جاء لمعنى، فالاسم مثل زيد وعمرو، والفعل مثل جاء وذهب، والحرف الذي يجيء لمعنى مثل هل وبل وقد، وما شاكل ذلك، فالإجماع منعقد بين العقلاء على كون الكلام حرفا وصوتا، فلما نبغ ابن كلاب وأضرابه، وحاولوا الرد على المعتزلة من طريق مجرد العقل، وهم لا يخبرون أصول السنة ولا ما كان السلف عليه، ولا يحتجون بالأخبار الواردة في ذلك زعما منهم أنها أخبار آحاد وهي لا توجب علما، وألزمتهم المعتزلة الاتفاق على أن الاتفاق حاصل على أن الكلام حرف وصوت، ويدخله التعاقب والتأليف، وذلك لا يوجد في الشاهد إلا بحركة وسكون، ولا بد له من أن يكون ذا أجزاء وأبعاض، وما كان بهذه المثابة لا يجوز أن يكون من صفات ذات الله تعالى، لأن ذات الحق لا توصف بالاجتماع والافتراق، والكل والبعض، والحركة والسكون، وحكم الصفة الذاتية حكم الذات. قالوا: فعلم بهذه الجملة أن الكلام المضاف إلى الله تعالى خلق له، أحدثه وأضافه إلى نفسه، كما نقول: (خلق الله، وعبد الله، وفعل الله). قال: فضاق بابن كلاب وأضرابه النفس عند هذا

الإلزام، لقلة معرفتهم بالسنن، وتركهم قبولها، وتسليمهم العنان إلى مجرد العقل. فالتزموا ما قالته المعتزلة وركبوا مكابرة العيان وخرقوا الإجماع المنعقد بين الكافة: المسلم والكافر، وقالوا للمعتزلة: الذي ذكرتموه ليس بحقيقة الكلام، وإنما سمي ذلك كلاما على المجاز لكونه حكاية أو عبارة عنه، وحقيقة الكلام معنى قائم بذات المتكلم، فمنهم من اقتصر على هذا القدر، ومنهم من احترز عما علم دخوله على هذا الحد، فزاد فيه "تنافي السكوت والخرس والآفات المانعة فيه من الكلام" ثم خرجوا من هذا إلى أن إثبات الحرف والصوت في كلام الله تجسيم، وإثبات اللغة فيه تشبيه، وتعلقوا بشبه، منها قول الأخطل: إن البيان من الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا فغيروه، وقالوا: "إن الكلام من الفؤاد" وزعموا أن لهم حجة على مقالتهم في قول الله تعالى: {ويقولون فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} (¬1) وفي قول الله عز وجل: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} (¬2). واحتجوا بقول العرب: "أرى في نفسك كلاما، وفي وجهك كلاما" فألجأهم الضيق مما دخل عليهم في مقالتهم إلى أن قالوا: الأخرس متكلم، وكذلك الساكت والنائم، ولهم في حال الخرس والسكوت والنوم كلام هم ¬

(¬1) المجادلة الآية (8). (¬2) يوسف الآية (77).

متكلمون به، ثم أفصحوا بأن الخرس والسكوت والآفات المانعة من النطق ليست بأضداد الكلام. وهذه مقالة تبين فضيحة قائلها في ظاهرها من غير رد عليه، ومن علم منه خرق إجماع الكافة ومخالفة كل عقلي وسمعي قبله لم يناظر، بل يجانب ويُقمع. (¬1) - وفيه أيضا: قال أبو نصر: خاطبني بعض الأشعرية يوما في هذا الفصل، وقال: التجزؤ على القديم غير جائز، فقلت له: أتقر بأن الله أسمع موسى كلامه على الحقيقة بلا ترجمان؟ فقال: نعم -وهم يطلقون ذلك، ويموهون على من لم يخبر مذهبهم- وحقيقة سماع كلام الله من ذاته، على أصل الأشعري، محال، لأن سماع الخلق -على ما جبلوا عليه من البنية، وأجروا عليه من العادة- لا يكون ألبتة إلا لما هو صوت أو في معنى الصوت، وإذا لم يكن كذلك كان الواصل إلى معرفته بضرب من العلم والفهم، وهما يقومان في وقت مقام السماع، لحصول العلم بهما كما يحصل بالسماع، وربما سمي ذلك سماعا على التجوز لقربه من معناه، فأما حقيقة السماع لما يخالف الصوت فلا يتأتى للخلق في العرف الجاري. قال: فقلت لمخاطبي الأشعري: قد علمنا جميعا أن حقيقة السماع لكلام الله منه على أصلكم محال، وليس ههنا من تتقيه وتخشى تشنيعه، وإنما مذهبك أن الله يفهم من شاء كلامه بلطيفة منه، حتى يصير عالما متيقنا بأن الذي فهمه كلام الله، والذي أريد أن ألزمك وارد على الفهم وروده على السماع، فدع التمويه، ¬

(¬1) درء التعارض (2/ 83 - 86).

ودع المصانعة. ما تقول في موسى عليه السلام حيث كلمه الله. أفهم كلام الله مطلقا أم مقيدا؟ فتلكأ قليلا، ثم قال: ما تريد بهذا؟ فقلت: دع إرادتي وأجب بما عندك، فأبى وقال: ما تريد بهذا؟ فقلت: أريد أنك إن قلت: إنه عليه السلام فهم كلام الله مطلقا اقتضى أن لا يكون لله كلام من الأزل إلى الأبد إلا وقد فهمه موسى، وهذا يؤول إلى الكفر، فإن الله تعالى يقول: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} (¬1) ولو جاز ذلك لصار من فهم كلام الله عالما بالغيب وبما في نفس الله تعالى، وقد نفى الله تعالى ذلك بما أخبر به عن عيسى عليه السلام أنه يقول: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)} (¬2) وإذا لم يجز إطلاقه، وألجئت إلى أن تقول: "أفهمه الله ما شاء من كلامه" دخلت في التبعيض الذي هربت منه، وكفرت من قال به، ويكون مخالفك أسعد منك، لأنه قال بما اقتضاه النص الوارد من قبل الله عز وجل ومن قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنت أبيت أن تقبل ذلك، وادعيت أن الواجب، المصير إلى حكم العقل في هذا الباب، وقد ردك العقل إلى موافقة النص خاسئا. فقال: هذا يحتاج إلى تأمل، وقطع الكلام. (¬3) ¬

(¬1) البقرة الآية (255) .. (¬2) المائدة الآية (116). (¬3) درء التعارض (2/ 90 - 92).

الحسن الأهوازي (446 هـ)

الحسن الأهوازي (¬1) (446 هـ) الشيخ أبو علي، الحسن بن علي بن إبراهيم بن يزداد بن هرمز، مقرئ الشام، ولد سنة اثنتين وستين وثلاث مئة. سكن دمشق، وقرأ القرآن بروايات كثيرة، وصنف كتبا في القراءات. قال الكتاني: كان حسن التصنيف في القراءات مكثرا من الحديث وفي إسناده القراءات غرائب، كان يذكر أنه أخذها رواية وتلاوة، وإن شيوخها أخذوها كذلك وقال: انتهت إليه الرياسة في القراءات ما رأيت منه إلا خيرا. قال ابن الجزري: وانتصب للكلام في الإمام أبي الحسن الأشعري فبالغ الأشعرية في الحطِّ عليه مع أنه إمام جليل القدر، أستاذ في الفن، ولكنه لا يخلو من أغاليط وسهو وكثرة الشره أوقع الناس في الكلام فيه، ولكنه ذكر الحافظ أبو طاهر السلفي في معجمه قال: سمعت أبا البركات الخدير بن الحسن الحازمي صاحبنا بدمشق يقول: سمعت الشريف النسيب علي بن إبراهيم العلوي يقول: أبو علي الأهوازي ثقة ثقة. وقال الحافظ أبو عبد الله الذهبي: ولقد تلقى الناس رواياته بالقبول، وكان يقرئ بدمشق من بعد سنة أربعمائة وذلك في حياة بعض شيوخه. توفي أبو علي في رابع ذي الحجة سنة ست وأربعين وأربعمائة. موقفه من الجهمية: - هذا الرجل اشتهر بحملته على الأشعري والأشعرية، وألف تأليفا في ¬

(¬1) السير (18/ 13) وميزان الاعتدال (1/ 512 - 513) ولسان الميزان (2/ 237 - 240) وشذرات الذهب (3/ 274). غاية النهاية (1/ 220 - 222).

حكم بن محمد بن حكم بن إفرانك (447 هـ)

ثلبه وله كتاب في الصفات قال الذهبي عنه: لو لم يجمعه لكان خيرا له. (¬1) - وله شرح البيان في عقود أهل الإيمان - قال ابن عساكر أودعه أحاديث منكرة. (¬2) التعليق: أخاف أن يكون التحامل على الحسن الأهوازي من قبل الأشاعرة لأنه كما قدمنا كان كثير الحط على الأشعري. فيدخل عليه في كتبه ما ليس منها وينسب إليه، كما فعل ابن الجويني لما ذكر كتاب الآجري وصفه بأوصاف لا علاقة لها بالكتاب ولا وجود لها. حكم بن محمد بن حكم بن إِفْرانك (¬3) (447 هـ) حكم بن محمد بن حكم بن إفرانك، أبو العاص الجذامي القرطبي. حدث عن أبي بكر بن المهندس، وإبراهيم بن علي التمار، وعبد المنعم بن غلبون. وروى عنه أبو زوان الطنبي، وأبو علي الغساني. قال عنه الغساني: كان رجلا صالحا ثقة مسندا، صلبا في السنة، مشددا على أهل البدع، عفيفا ورعا. توفي رحمه الله في ربيع الآخر سنة سبع وأربعين وأربعمائة. موقفه من المبتدعة: جاء في السير: قال الغساني: كان رجلا صالحا، ثقة مسندا، صلبا في ¬

(¬1) الميزان (1/ 512). (¬2) تاريخ دمشق (13/ 145). (¬3) السير (17/ 659 - 660) وشذرات الذهب (3/ 287).

موقف السلف من القادسي الرافضي (447 هـ)

السنة، مشددا على أهل البدع. (¬1) موقف السلف من القادسي الرافضي (447 هـ) بيان رفضه: قال أبو بكر الخطيب: حضرته يوم الجمعة بعد الإملاء، وطالبته بأن يريني أصوله، فدفع إلي عن ابن شاذان وغيره أصولا كان سماعه فيها صحيحاً، ولم يدفع إلي عن ابن مالك شيئا، فقلت له: أرني أصلك عن ابن مالك. فقال: أنا لا يشك في سماعي من ابن مالك، أسمعني منه خالي هبة الله ابن سلامة المفسر 'المسند' كله. فقلت له: لا تروين هاهنا شيئا إلا بعد أن تحضر أصولك وتوقف عليها أصحاب الحديث، فانقطع عن حضور الجامع بعد هذا القول، ومضى إلى مسجد براثا فأملى فيه، وكانت الرافضة تجتمع هناك، وقال لهم: قد منعني النواصب أن أروي في جامع المنصور فضائل أهل البيت. ثم جلس في مسجد الشرقية واجتمعت إليه الرافضة ولهم إذ ذاك قوة، وكلمتهم ظاهرة، فأملى عليهم العجائب من الأحاديث الموضوعة في الطعن على السلف. (¬2) ¬

(¬1) السير (17/ 660). (¬2) تاريخ بغداد (8/ 17) وانظر السير (18/ 11 - 12).

أبو عثمان الصابوني (449 هـ)

أبو عثمان الصابوني (¬1) (449 هـ) شيخ الإسلام، إسماعيل بن عبد الرحمن النيسابوري الواعظ، المفسر، المصنف، أحد الأعلام. ولد سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة. حدث عن أبي طاهر بن خزيمة، والحاكم أبي عبد الله الحافظ وأبي علي السرخسي وأبي عبد الرحمن السلمي، وخلق سواهم. وروى عنه عبد العزيز الكتاني والبيهقي، وأبو القاسم بن أبي العلاء وغيرهم. قدم دمشق حاجا سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، وحدث بها وذكر. قال أبو بكر البيهقي: أخبرنا إمام المسلمين حقا وشيخ الإسلام صدقا أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني بحكاية ذكرها. وقال عبد الغافر الفارسي: رزق العز والجاه في الدين والدنيا، وكان جمالا للبلد، زينا للمحافل والمجالس، مقبولا عند الموافق والمخالف، مجمعا على أنه عديم النظير، وسيف السنة، ودامغ أهل البدعة. وقال أيضا: قرأت في كتاب كتبه زين الإسلام من طوس في التعزية لشيخ الإسلام: أليس لم يجسر مفتر أن يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وقته؟ أليست السنة كانت بمكانه منصورة، والبدعة لفرط حشمته مقهورة؟ أليس كان داعيا إلى الله، هاديا عباد الله، شابا لا صبوة له، كهلا لا كبوة له، شيخا لا هفوة له؟ يا أصحاب المحابر، وطئوا رحالكم، قد غيب من كان عليه إلمامكم، ويا أرباب المنابر، أعظم الله أجوركم، فقد مضى سيدكم وإمامكم. وقال الكتاني: ما رأيت ¬

(¬1) شذرات الذهب (3/ 282 - 283) والسير (18/ 40 - 44) والأنساب (3/ 506) والكامل في التاريخ (9/ 638) والوافي بالوفيات (9/ 143 - 144) والبداية والنهاية (12/ 81 - 82) وطبقات الشافعية للسبكي (3/ 117) وغاية النهاية (1/ 220 - 221).

موقفه من المبتدعة:

شيخا في معنى أبي عثمان زهدا وعلما، كان يحفظ من كل فن لا يقعد به شيء، وكان يحفظ التفسير من كتب كثيرة، وكان من حفاظ الحديث. توفي رحمه الله سنة تسع وأربعين وأربعمائة. موقفه من المبتدعة: آثاره السلفية: مصنف 'عقيدة السلف وأصحاب الحديث'. "ما رآه منصف إلا اعترف له" قاله في السير (¬1) وقد طبع منفردا ومع الرسائل المنيرية. وقد ذكره شيخ الإسلام في كتبه. انظر الدرء. (¬2) ومما جاء فيه مما يبين نصره للسنة وأهلها: - قال رحمه الله عن السلف وأصحاب الحديث: ويتحابون في الدين ويتباغضون فيه، ويتقون الجدال في الله والخصومات فيه، ويجانبون أهل البدع والضلالات، ويعادون أصحاب الأهواء والجهالات، ويقتدون بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وبأصحابه الذين هم كالنجوم بأيهم اقتدوا اهتدوا، كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوله فيهم (¬3)، ويقتدون بالسلف الصالحين، من أئمة الدين وعلماء المسلمين، ويتمسكون بما كانوا به متمسكين، من الدين المتين والحق المبين. ويبغضون أهل البدع، الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه، ولا يحبونهم، ¬

(¬1) (18/ 43). (¬2) (2/ 26). (¬3) أخرجه ابن عبد البر في جامعه (2/ 925/1760) وابن حزم في الأحكام (6/ 82) من طريق سلام بن سليم قال: حدثنا الحارث بن غصين عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر مرفوعا به، وقال ابن عبد البر: "هذا اسناد لا تقوم به حجة لأن الحارث بن غصين مجهول". وقال ابن حبان: "سلام بن سليم يروى الموضوعات كأنه المتعمد لها". وقال ابن حزم: "يروي الموضوعات، وهذا منها بلا شك" وروي نحوه عن ابن عباس وعمر بن الخطاب، وابنه عبد الله انظرها في الضعيفة (1/رقم 58 - 61).

ولا يصحبونهم، ولا يسمعون كلامهم، ولا يجالسونهم، ولا يجادلونهم في الدين ولا يناظرونهم، ويرون صون آذانهم عن سماع أباطيلهم، التي إذا مرت بالآذان، وقرت في القلوب ضرت، وجرت إليها من الوساوس والخطرات الفاسدة ما جرت، وفيه أنزل الله عزوجل قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (¬1). وعلامات البدع على أهلها ظاهرة بادية، وأظهر آياتهم وعلاماتهم: شدة معاداتهم لحملة أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم -، واحتقارهم لهم، وتسميتهم إياهم حشوية، وجهلة، وظاهرية، ومشبهة. اعتقادا منهم في أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنها بمعزل عن العلم، وأن العلم ما يلقيه الشيطان إليهم، من نتائج عقولهم الفاسدة، ووساوس صدورهم المظلمة، وهواجس قلوبهم الخالية عن الخير العاطلة، وحججهم بل شبههم الداحضة الباطلة {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)} (¬2)، {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)} (¬3).اهـ (¬4) - وقال أيضا: وإحدى علامات أهل السنة: حبهم لأئمة السنة وعلمائها، وأنصارها وأوليائها، وبغضهم لأئمة البدع، الذين يدعون إلى ¬

(¬1) الأنعام الآية (68). (¬2) محمد الآية (23). (¬3) الحج الآية (18). (¬4) عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص.298 - 299).

النار، ويدلون أصحابهم على دار البوار. وقد زين الله سبحانه قلوب أهل السنة، ونورها بحب علماء السنة، فضلا منه جل جلاله ومنة. أخبرنا الحاكم أبو عبد الله الحافظ، أسكنه الله وإيانا الجنة، ثنا محمد بن إبراهيم بن الفضل المزكى، ثنا أحمد بن سلمة، قرأ علينا أبو رجاء قتيبة بن سعيد كتاب 'الإيمان' له، فكان في آخره: فإذا رأيت الرجل يحب سفيان الثوري، ومالك بن أنس، والأوزاعي، وشعبة، وابن المبارك، وأبا الأحوص، وشريكا، ووكيعا، ويحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، فاعلم أنه صاحب سنة. قال أحمد بن سلمة رحمه الله: فألحقت بخطي تحته: ويحيى بن يحيى، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، فلما انتهى إلى هذا الموضع نظر إلينا أهل نيسابور وقال: هؤلاء القوم يتعصبون ليحيى بن يحيى، فقلنا له: يا أبا رجاء ما يحيى بن يحيى؟ قال: رجل صالح إمام المسلمين، وإسحاق بن إبراهيم إمام، وأحمد بن حنبل أكبر ممن سميتهم كلهم. وأنا ألحقت بهؤلاء الذين ذكرهم قتيبة رحمه الله، أن من أحبهم فهو صاحب سنة، من أئمة أهل الحديث الذين بهم يقتدون، وبهديهم يهتدون، ومن جملتهم ومتبعيهم وشيعتهم أنفسهم يعدون، وفي اتباعهم آثارهم يجدون، جماعة آخرين: منهم: محمد بن إدريس الشافعي المطلبي، الإمام المقدم، والسيد المعظم، العظيم المنة على أهل الإسلام والسنة، الموفق الملقن الملهم المسدد، الذي عمل في دين الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - من النصر لهما والذب عنهما- ما لم يعمله أحد من علماء عصره، ومن بعدهم.

ومنهم الذين كانوا قبل الشافعي رحمه الله: كسعيد بن جبير، والزهري، والشعبي، ... والتيمي. ومن بعدهم: كالليث بن سعد، والأوزاعي، والثوري، وسفيان بن عيينة الهلالي، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، ويونس بن عبيد، وأيوب، وابن عون، ونظرائهم. ومن بعدهم: مثل يزيد بن هارون، وعبد الرزاق، وجرير بن عبد الحميد. ومن بعدهم: مثل محمد بن يحيى الذهلي، ومحمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج القشيري، وأبي داود السجستاني، وأبي زرعة الرازي، وأبي حاتم، وابنه، ومحمد بن مسلم بن وارة، ومحمد بن أسلم الطوسي، وعثمان بن سعيد الدارمي، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة -الذي كان يدعى إمام الأئمة، ولعمري كان إمام الأئمة في عصره ووقته-، وأبي يعقوب إسحاق بن إسماعيل البستي وجدَّيَّ منْ قِبَلِ أَبَوَيَّ: أبي سعيد يحيى بن منصور الزاهد الهروي، وعدي بن حمدويه الصابوني، وولديه سيفي السنة أبي عبد الله الصابوني، وأبي عبد الرحمن الصابوني. وغيرهم من أئمة السنة، الذين كانوا متمسكين بها، ناصرين لها، داعين إليها، دالين عليها. وهذه الجمل التي أثبتها في هذا الجزء كانت معتقد جميعهم، لم يخالف فيها بعضهم، بل أجمعوا عليها كلها، واتفقوا مع ذلك على القول بقهر أهل البدع، وإذلالهم وإخزائهم، وإبعادهم وإقصائهم، والتباعد منهم، ومن مصاحبتهم ومعاشرتهم، والتقرب إلى الله عزوجل بمجانبتهم ومهاجرتهم. وأنا -بفضل الله عزوجل- متبع لآثارهم، مستضيء بأنوارهم، ناصح

موقفه من الرافضة:

إخواني وأصحابي ألا يزيغوا عن منارهم، ولا يتبعوا غير أقوالهم، ولا يشتغلوا بهذه المحدثات من البدع، التي اشتهرت فيما بين المسلمين، وظهرت وانتشرت، ولو جرت واحدة منها على لسان واحد في عصر أولئك الأئمة لهجروه، وبدعوه، ولكذبوه، وأصابوه بكل سوء ومكروه. ولا يغرن إخواني -حفظهم الله- كثرة أهل البدع، ووفور عددهم، فإن ذلك من أمارات اقتراب الساعة، إذ الرسول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن من علامات الساعة واقترابها أن يقل العلم ويكثر الجهل» (¬1) والعلم هو السنة والجهل هو البدعة. ومن تمسك اليوم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمل بها واستقام عليها، ودعا بالسنة إليها، كان أجره أوفر وأكثر من أجر من جرى على هذه الجملة، في أوائل الإسلام والملة، إذ الرسول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - قال: «له أجر خمسين» فقيل: خمسين منهم؟ قال: «بل منكم» (¬2). وإنما قال - صلى الله عليه وسلم - ذلك لمن يعمل بسنته عند فساد أمته. اهـ (¬3) ومن أقواله رحمه الله: ما ترك أحد شيئا من السنة إلا لكبر في نفسه. (¬4) موقفه من الرافضة: - جاء في عقيدة السلف له أنه قال: ويشهدون ويعتقدون أن أفضل ¬

(¬1) أحمد (3/ 213 - 214) والبخاري (1/ 235/80) ومسلم (4/ 2056/2671) والترمذي (4/ 426/2205) وابن ماجه (2/ 1343/4045) من حديث أنس. (¬2) تقدم تخريجه ضمن مواقف علي بن المديني سنة (234هـ). (¬3) عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص.307 - 318). (¬4) الاقتضاء (2/ 612).

أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وأنهم الخلفاء الراشدون، الذين ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلافتهم بقوله -فيما رواه سعيد بن جمهان عن سفينة-: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة» (¬1) وبعد انقضاء أيامهم عاد الأمر إلى الملك العضوض، على ما أخبر عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ويثبت أصحاب الحديث خلافة أبي بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باختيار الصحابة واتفاقهم عليه، وقولهم قاطبة: رضيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا فرضيناه لدنيانا، يعني أنه استخلفه في إقامة الصلوات المفروضات بالناس أيام مرضه -وهي الدين- فرضيناه خليفة للرسول - صلى الله عليه وسلم - علينا في أمور دنيانا. وقولهم: قدمك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن ذا الذي يؤخرك وأرادوا أنه - صلى الله عليه وسلم - قدمك في الصلاة بنا أيام مرضه، فصلينا وراءك بأمره، فمن ذا الذي يؤخرك بعد تقديمه إياك؟. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتكلم في شأن أبي بكر في حال حياته، بما يبين للصحابة أنه أحق الناس بالخلافة بعده، فلذلك اتفقوا عليه واجتمعوا، فانتفعوا بمكانه والله، وارتفعوا به وارتفقوا، حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه: والله الذي لا إله إلا هو لولا أن أبا بكر استخلف لما عبد الله، ولما قيل له: مه يا أبا هريرة، قام بحجة صحة قوله فصدقوه فيه وأقروا به. ثم خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه باستخلاف أبي بكر رضي الله عنه إياه، واتفاق الصحابة عليه بعده، وإنجاز الله سبحانه -بمكانه في إعلاء الإسلام وإعظام شأنه- وعده. ¬

(¬1) تقدم تخريجه ضمن مواقف سفينة أبي عبد الرحمن (توفي بعد 70هـ).

ثم خلافة عثمان رضي الله عنه بإجماع أهل الشورى، وإجماع الأصحاب كافة، ورضاهم به، حتى جعل الأمر إليه. ثم خلافة علي رضي الله عنه، ببيعة الصحابة إياه، عرفه ورآه كل منهم رضي الله عنهم أحق الخلق وأولاهم في ذلك الوقت بالخلافة، ولم يستجيزوا عصيانه وخلافه. فكان هؤلاء الأربعة الخلفاء الراشدين، الذين نصر الله بهم الدين، وقهر وقسر بمكانهم الملحدين وقوى بمكانهم الإسلام، ورفع في أيامهم للحق الأعلام، ونور بضيائهم ونورهم وبهائهم الظلام، وحقق بخلافتهم وعده السابق في قوله عزوجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ} (¬1) الآية، وفي قوله: {أشداء عَلَى الْكُفَّارِ} (¬2). فمن أحبهم وتولاهم ودعا لهم، ورعى حقهم وعرف فضلهم فاز في الفائزين، ومن أبغضهم وسبهم ونسبهم إلى ما تنسبهم الروافض، والخوارج، لعنهم الله، فقد هلك في الهالكين. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تسبوا أصحابي، ¬

(¬1) النور الآية (55). (¬2) الفتح الآية (29).

موقفه من الجهمية:

فمن سبهم فعليه لعنة الله». (¬1) وقال: «من أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن سبهم فعليه لعنة الله» (¬2). (¬3) - وفيها عنه أيضا قال: ويرون الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمن عيبا لهم، ونقصا فيهم. ويرون الترحم على جميعهم، والموالاة لكافتهم. وكذلك يرون تعظيم قدر أزواجه رضي الله عنهن، والدعاء لهن، ومعرفة فضلهن، والإقرار بأنهن أمهات المؤمنين. (¬4) موقفه من الجهمية: قال رحمه الله: أصحاب الحديث -حفظ الله تعالى أحياءهم ورحم أمواتهم- يشهدون لله تعالى بالوحدانية، وللرسول - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة والنبوة، ويعرفون ربهم عز وجل بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله، أو شهد له بها رسوله - صلى الله عليه وسلم -، على ما وردت الأخبار الصحاح به، ونقلت العدول الثقات عنه، ¬

(¬1) ابن عدي في الكامل (1/ 377) بلفظ: "إن الناس يكثرون وأصحابي يقلون فلا تسبوهم فمن سبهم فلعنه الله". وفي إسناده أبو الربيع السمان أشعث بن سعيد. قال في التقريب "متروك". وأخرجه الخطيب في التاريخ (3/ 149) ينحوه. وفي إسناده محمد بن الفضل بن عطية. كذبوه كما في التقريب. قال ابن عدي: "ولا أعلم من روى هذا الحديث عن عمرو بن دينار، غير أبي الربيع السمان، ومحمد بن الفضل بن عطية، عن عمرو". (¬2) أحمد (5/ 54/58)، الترمذي (5/ 653/3862) وقال: "هذا حديث غريب". وابن حبان (16/ 244/7256). قال المناوي في فيض القدير (2/ 98): "فيه عبد الرحمن بن زياد"، قال الذهبي: "لا يعرف". وفي الميزان: "في الحديث اضطراب". وانظر الضعيفة (2901). (¬3) عقيدة السلف (289 - 294). (¬4) عقيدة السلف (294).

ويثبتون له جل جلاله ما أثبته لنفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يعتقدون تشبيها لصفاته بصفات خلقه، فيقولون إنه خلق آدم بيديه، كما نص سبحانه عليه في قوله -عز من قائل-: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (¬1) ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، بحمل اليدين على النعمتين، أو القوتين، تحريف المعتزلة، الجهمية -أهلكهم الله- ولا يكيفونهما، بكيف، أو شبهها- بأيدي المخلوقين، تشبيه المشبهة -خذلهم الله-. وقد أعاذ الله تعالى أهل السنة من التحريف، والتشبيه، والتكييف، ومن عليهم بالتعريف والتفهيم، حتى سلكوا سبيل التوحيد والتنزيه، وتركوا القول بالتعطيل والتشبيه، واتبعوا قول الله عز وجل: {ليس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (¬2). وكما ورد القرآن بذكر اليدين بقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (¬3)، وقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} (¬4)، ووردت الأخبار الصحاح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذكر اليد، كخبر محاجة موسى وآدم، وقوله له: ¬

(¬1) ص الآية (75). (¬2) الشورى الآية (11). (¬3) ص الآية (75). (¬4) المائدة الآية (64).

«خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته» (¬1)، ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا أجعل صالح ذرية من خلقته بيدي كمن قلت له: كن فكان» (¬2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «خلق الله الفردوس بيده» (¬3) ... ]. وكذلك يقولون في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن، ووردت به الأخبار الصحاح، من السمع، والبصر والعين، والوجه، والعلم، والقوة والقدرة، والعزة والعظمة، والإرادة والمشيئة، والقول والكلام، والرضى والسخط، والحب والبغض، والفرح والضحك، وغيرها، من غير تشبيه لشيء من ذلك بصفات المربوبين المخلوقين، بل ينتهون فيها إلى ما قاله الله تعالى وقاله رسوله صلى الله - صلى الله عليه وسلم -، من غير زيادة عليه، ولا إضافة إليه، ولا تكييف له، ولا تشبيه، ولا تحريف، ولا تبديل، ولا تغيير، ولا إزالة للفظ الخبر عما تعرفه العرب، وتضعه عليه، بتأويل منكر يستنكر، ويجرون على ¬

(¬1) تقدم تخريجه. انظر مواقف أمير المؤمنين هارون الرشيد سنة (193هـ). (¬2) رواه الطبراني في الأوسط (7/ 99 - 100/ 6169) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وفيه طلحة بن زيد، قال الهيثمي في المجمع (1/ 82): "كذاب". ورواه في الكبير كما في تفسير ابن كثير (3/ 51) والمجمع (1/ 82). وفيه إبراهيم بن عبد الله بن خالد المصيصي. قال الهيثمي: "كذاب متروك". ورواه عثمان بن سعيد في النقض على المريسي (1/ 256 - 257). وفيه عبد الله بن صالح كاتب الليث وهو ضعيف. ورواه ابن عساكر (52/ 139) من حديث أنس في ترجمة محمد بن أيوب بن الحسن أبي بكر ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا. ورواه من حديث الأنصاري البيهقي في الأسماء والصفات (2/ 121 - 122/ 688) وعبد الله بن أحمد في السنة (2/ 469/1065) والأنصاري لا يدرى هل هو صحابي أم تابعي. وبالجملة فأسانيد الحديث كلها واهية خلا إسناد عبد الله بن أحمد. والحديث ضعفه شارح الطحاوية سندا ومتنا (ص.306). (¬3) رواه أبو نعيم في صفة الجنة رقم (23) والدارقطني في الصفات رقم (28) وأبو الشيخ في العظمة (5/ 1555/1017) والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 125/692) من حديث عبد الله بن الحارث بلفظ: «غرس الفردوس بيده». قال البيهقي: "هذا مرسل".

الظاهر، ويكلون علمه إلى الله تعالى، ويقرون بأن تأويله لا يعلمه إلا الله، كما أخبر الله عن الراسخين في العلم أنهم يقولونه في قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)} (¬1). ويشهد أهل الحديث ويعتقدون أن القرآن كلام الله، وكتابه، ووحيه، وتنزيله غير مخلوق، ومن قال بخلقه واعتقده فهو كافر عندهم. والقرآن -الذي هو كلام الله ووحيه- هو الذي نزل به جبريل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا، كما قال عز وجل: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} (¬2). وهو الذي بلغه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمته، كما أمر به في قوله تعالى: {* يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (¬3)، فكان الذي بلغهم -بأمر الله تعالى- كلامه عز وجل، وفيه قال - صلى الله عليه وسلم -: «أتمنعونني أن أبلغ كلام ربي». (¬4) وهو الذي تحفظه الصدور، وتتلوه الألسنة، ويكتب في المصاحف، كيفما تصرف بقراءة قارئ، ولفظ لافظ، وحفظ حافظ، وحيث تلي وفي ¬

(¬1) آل عمران الآية (7). (¬2) الشعراء الآيات (192 - 195). (¬3) المائدة الآية (67). (¬4) سيأتي تخريجه. انظر مواقف يحيى بن سالم العمراني سنة (558هـ).

أي موضع قرئ وكتب في مصاحف أهل الإسلام، وألواح صبيانهم، وغيرها، كله كلام الله جل جلاله غير مخلوق، فمن زعم أنه مخلوق فهو كافر بالله العظيم. (¬1) - وقال: ويعتقد أصحاب الحديث ويشهدون أن الله سبحانه فوق سبع سمواته، على عرشه مستو، كما نطق به كتابه، في قوله عز وجل في سورة الأعراف: {إِن رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (¬2). وقوله في سورة يونس: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} (¬3). وقوله في سورة الرعد: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (¬4). وقوله في سورة الفرقان: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)} (¬5). وقوله في سورة السجدة: {الرحمن اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (¬6). وقوله في سورة طه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ ¬

(¬1) عقيدة السلف (160 - 166). (¬2) الأعراف الآية (54). (¬3) يونس الآية (3). (¬4) الرعد الآية (2). (¬5) الفرقان الآية (59). (¬6) السجدة الآية (4).

اسْتَوَى (5)} (¬1). وأخبر الله سبحانه عن فرعون اللعين أنه قال لهامان: {ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} (¬2). وإنما قال ذلك لأنه سمع موسى عليه السلام يذكر أن ربه في السماء، ألا ترى إلى قوله: {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} يعني في قوله: إن في السماء إلها، وعلماء الأمة وأعيان الأئمة من السلف رحمهم الله لم يختلفوا في أن الله تعالى على عرشه، وعرشه فوق سماواته. يثبتون من ذلك ما أثبته الله تعالى، ويؤمنون به، ويصدقون الرب جل جلاله في خبره، ويطلقون ما أطلقه سبحانه وتعالى، من استوائه على عرشه، ويمرونه على ظاهره، ويكلون علمه إلى الله، ويقولون: {آمنا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)} (¬3)، كما أخبر الله تعالى عن الراسخين في العلم أنهم يقولون ذلك ورضي منهم فأثنى عليهم به. (¬4) - وقال أيضا: ويثبت أصحاب الحديث نزول الرب سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، من غير تشبيه له بنزول المخلوقين، ولا تمثيل، ولا ¬

(¬1) طه الآية (5). (¬2) غافر الآيتان (36و37). (¬3) آل عمران الآية (7). (¬4) عقيدة السلف (175 - 176).

تكييف، بل يثبتون ما أثبته رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وينتهون فيه إليه، ويمرون الخبر الصحيح الوارد بذكره على ظاهره، ويكلون علمه إلى الله. وكذلك يثبتون ما أنزله الله -عز اسمه- في كتابه، من ذكر المجيء، والإتيان، المذكورين في قوله عز وجل: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} (¬1)، وقوله عز اسمه: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} (¬2).اهـ (¬3) - قال شيخ الإسلام: قلت: فلما صح خبر النزول عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬4) أقر به أهل السنة، وقبلوا الخبر، وأثبتوا النزول، على ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يعتقدوا تشبيها له بنزول خلقه ولم يبحثوا عن كيفيته، إذ لا سبيل إليها بحال، وعلموا وتحققوا، واعتقدوا أن صفات الله سبحانه، لا تشبه صفات الخلق، كما أن ذاته لا تشبه ذوات الخلق، تعالى الله عما يقول المشبهة، والمعطلة، علوا كبيرا، ولعنهم لعنا كبيرا. (¬5) - وقال: ويشهد أهل السنة أن المؤمنين يرون ربهم تبارك وتعالى بأبصارهم، وينظرون إليه، على ما ورد به الخبر الصحيح، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) البقرة الآية (210). (¬2) الفجر الآية (22). (¬3) عقيدة السلف (191 - 192). (¬4) تقدم تخريجه ضمن مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ). (¬5) عقيدة السلف (ص.232).

موقفه من الخوارج:

في قوله: «إنكم ترون ربكم، كما ترون القمر ليلة البدر» (¬1). (¬2) موقفه من الخوارج: - جاء في عقيدة السلف له قال: ويعتقد أهل السنة: أن المؤمن وإن أذنب ذنوبا كثيرة، صغائر وكبائر، فإنه لا يكفر بها. وإن خرج عن الدنيا، غير تائب منها، ومات على التوحيد والإخلاص، فإن أمره إلى الله عزوجل: إن شاء عفا عنه، وأدخله الجنة يوم القيامة، سالما غانما، غير مبتلى بالنار، ولا معاقب على ما ارتكبه واكتسبه، ثم استصحبه إلى يوم القيامة من الآثام والأوزار. وإن شاء عاقبه وعذبه مدة بعذاب النار، وإذا عذبه لم يخلده فيها، بل أعتقه وأخرجه منها إلى نعيم دار القرار. (¬3) - وقال فيها أيضا: ويرى أصحاب الحديث الجمعة، والعيدين، وغيرهما من الصلوات خلف كل إمام مسلم، برا كان، أو فاجرا. ويرون جهاد الكفرة معهم، وإن كانوا جورة فجرة. ويرون الدعاء لهم بالإصلاح والتوفيق والصلاح. ولا يرون الخروج عليهم بالسيف، وإن رأوا منهم العدول عن العدل إلى الجور والحيف. ويرون قتال الفئة الباغية، حتى ترجع إلى طاعة الإمام العدل. (¬4) ¬

(¬1) تقدم تخريجه من حديث أبي هريرة ضمن مواقف عبد العزيز الماجشون سنة (164هـ). (¬2) عقيدة السلف (ص.263). (¬3) عقيدة السلف (276). (¬4) عقيدة السلف (294).

موقفه من المرجئة:

موقفه من المرجئة: - قال رحمه الله في كتابه عقيدة السلف: ومن مذهب أهل الحديث: أن الإيمان قول وعمل ومعرفة يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. (¬1) - وقال أيضا: فمن كانت طاعته وحسناته أكثر، فإنه أكمل إيمانا ممن كان قليل الطاعة كثير المعصية والغفلة والإضاعة. (¬2) موقفه من القدرية: قال في عقيدته: ويشهد أهل السنة ويعتقدون: أن الخير والشر، والنفع والضر بقضاء الله وقدره. لا مرد لها ولا محيص ولا محيد عنها، ولا يصيب المرء إلا ما كتبه له ربه، ولو جهد الخلق أن ينفعوا المرء بما لم يكتبه الله له لم يقدروا عليه، ولو جهدوا أن يضروه بما لم يقضه الله لم يقدروا. على ما ورد به خبر عبد الله بن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3). قال الله عز وجل: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} (¬4) الآية. ومن مذهب أهل السنة وطريقتهم مع قولهم بأن الخير والشر من الله وبقضائه أنه لا يضاف إلى الله تعالى ما يتوهم منه نقص على الانفراد فيقال: يا خالق القردة والخنازير، والخنافس والجعلان، وإن كان لا مخلوق إلا ¬

(¬1) عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص.264). (¬2) عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص.271). (¬3) أحمد (1/ 293) والترمذي (4/ 575 - 576/ 2516) من حديث ابن عباس، وقال: "حسن صحيح". (¬4) يونس الآية (107).

والرب خالقه وفي ذلك ورد قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دعاء الاستفتاح «تباركت وتعاليت، والشر ليس إليك». (¬1) ومعناه والله أعلم، والشر ليس مما يضاف إليك إفرادا وقصدا، حتى يقال لك في المناداة: يا خالق الشر، ويا مقدر الشر، وإن كان الخالق والمقدر لهما جميعا. لذلك أضاف الخضر عليه السلام إرادة العيب إلى نفسه. فقال فيما أخبر الله عنه في قوله: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} (¬2) ولما ذكر الخير والبر والرحمة، أضاف إرادتها إلى الله عزوجل فقال: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} (¬3). ولذلك قال مخبرا عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)} (¬4) فأضاف المرض إلى نفسه والشفاء إلى ربه وإن كان الجميع منه. ومن مذهب أهل السنة والجماعة: أن الله عزوجل مريد لجميع أعمال العباد خيرها وشرها، ولم يؤمن أحد إلا بمشيئته، ولو شاء لجعل الناس أمة واحدة، ولو شاء أن لا يعصى ما خلق إبليس. فكفر الكافرين، وإيمان ¬

(¬1) أخرجه من حديث علي: أحمد (1/ 102،103) ومسلم (1/ 534 - 536/ 771) وأبو داود (1/ 481 - 482/ 760) والترمذي (5/ 453 - 454/ 3422) والنسائي (2/ 467 - 468/ 896). (¬2) الكهف الآية (79). (¬3) الكهف الآية (82). (¬4) الشعراء الآية (80).

ابن بطال علي بن خلف (449 هـ)

المؤمنين، بقضائه سبحانه وتعالى وقدره، وإرادته ومشيئته، أراد كل ذلك وشاءه وقضاه. ويرضى الإيمان والطاعة، ويسخط الكفر والمعصية. قال الله عزوجل: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِن اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} (¬1). ويعتقد ويشهد أصحاب الحديث: أن عواقب العباد مبهمة، لا يدري أحد بم يختم له، ولا يحكمون لواحد بعينه أنه من أهل الجنة، ولا يحكمون على أحد بعينه أنه من أهل النار، لأن ذلك مغيب عنهم، لا يعرفون على ما يموت عليه الإنسان. (¬2) ابن بطال علي بن خلف (¬3) (449 هـ) العلامة أبو الحسن علي بن خلف بن بطال البكري، القرطبي، ثم البلنسي، ويعرف بابن اللجام، أصلهم من قرطبة وأخرجتهم الفتنة إلى بلنسية. أخذ عن أبي عمر الطلمنكي، وابن عفيف وأبي المطرف القنازعي، ويونس بن مغيث وغيرهم. روى عنه أبو داود المقرئ، وعبد الرحمن بن بشر وغيرهم. قال ابن بشكوال: كان من أهل العلم والمعرفة عني بالحديث العناية ¬

(¬1) الزمر الآية (7). (¬2) عقيدة السلف (ص.284 - 286). (¬3) ترتيب المدارك (2/ 365) والديباج المذهب (2/ 105 - 106) وتاريخ الإسلام (حوادث 441 - 450/ص.233) والسير (18/ 47) وشذرات الذهب (3/ 283).

موقفه من الرافضة:

التامة شرح 'الصحيح' في عدة أسفار رواه الناس عنه، واستقضي بحصن لورقة. له كتاب في 'الزهد والرقائق'. كان رحمه الله من علماء المالكية الكبار. توفي في صفر سنة تسع وأربعين وأربعمائة. موقفه من الرافضة: جاء في الفتح نقلا من كتاب ابن بطال قال: ويؤخذ منه (يعني حديث عمر لما جعل الأمر بعده شورى) بطلان قول الرافضة وغيرهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على أن الإمامة في أشخاص بأعيانهم، إذ لو كان كذلك لما أطاعوا عمر في جعلها شورى، ولقال قائل منهم ما وجه التشاور في أمر كفيناه ببيان الله لنا على لسان رسوله، ففي رضا الجميع بما أمرهم به دليل على أن الذي كان عندهم من العهد في الإمامة أوصاف من وجدت فيه استحقها، وإدراكها يقع بالاجتهاد، وفيه أن الجماعة الموثوق بديانتهم إذا عقدوا عقد الخلافة لشخص بعد التشاور والاجتهاد لم يكن لغيرهم أن يحل ذلك العقد، إذ لو كان العقد لا يصح إلا باجتماع الجميع، لقال قائل لا معنى لتخصيص هؤلاء الستة، فلما لم يعترض منهم معترض بل رضوا وبايعوا، دل ذلك على صحة ما قلناه. (¬1) موقفه من الجهمية: - جاء في الفتح: قال ابن بطال اختلف الناس في الاستواء المذكور هنا فقالت المعتزلة معناه الاستيلاء بالقهر والغلبة واحتجوا بقول الشاعر: ¬

(¬1) الفتح (13/ 198).

قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق وقالت الجسمية معناه الاستقرار، وقال بعض أهل السنة معناه ارتفع، وبعضهم معناه علا، وبعضهم معناه الملك والقدرة ومنه استوت له الممالك، يقال لمن أطاعه أهل البلاد، وقيل معنى الاستواء التمام والفراغ من فعل الشيء، ومنه قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} (¬1) فعلى هذا فمعنى استوى على العرش أتم الخلق، وخص لفظ العرش لكونه أعظم الأشياء وقيل أن "على" في قوله على العرش بمعنى: إلى، فالمراد على هذا انتهى إلى العرش أي فيما يتعلق بالعرش لأنه خلق الخلق شيئا بعد شيء، ثم قال ابن بطال: فأما قول المعتزلة فإنه فاسد لأنه لم يزل قاهرا غالبا مستوليا، وقوله: {ثم اسْتَوَى} يقتضي افتتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن، ولازم تأويلهم أنه كان مغالبا فيه فاستولى عليه بقهر من غالبه، وهذا منتف عن الله سبحانه، وأما قول المجسمة ففاسد أيضا، لأن الاستقرار من صفات الأجسام ويلزم منه الحلول والتناهي، وهو محال في حق الله تعالى، ولائق بالمخلوقات لقوله تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} (¬2) وقوله: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} (¬3) قال: وأما تفسير استوى: علا فهو صحيح وهو المذهب الحق، وقول أهل السنة لأن الله سبحانه ¬

(¬1) القصص الآية (14). (¬2) المؤمنون الآية (28). (¬3) الزخرف الآية (13).

موقفه من الخوارج:

وصف نفسه بالعلي، وقال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} (¬1) وهي صفة من صفات الذات. (¬2) - وفيه قال ابن بطال: ذهب أهل السنة وجمهور الأمة إلى جواز رؤية الله في الآخرة ومنع الخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة، وتمسكوا بأن الرؤية توجب كون المرئي محدثا وحالا في مكان، وأولوا قوله {ناظرة} بمنتظرة وهو خطأ لأنه لا يتعدى بإلى. (¬3) - قال ابن بطال: غرضه الرد على المعتزلة في زعمهم أن أمر الله مخلوق، فتبين أن الأمر هو قوله تعالى للشيء كن فيكون بأمره له وأن أمره وقوله بمعنى واحد، وأنه يقول كن حقيقة، وأن الأمر غير الخلق لعطفه عليه بالواو. (¬4) موقفه من الخوارج: قال ابن بطال في حديث ابن عباس مرفوعا: «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية» (¬5): في الحديث حجة في ترك الخروج على السلطان ولو جار، وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه وأن طاعته ¬

(¬1) الزمر الآية (67). (¬2) الفتح (13/ 405 - 406). (¬3) الفتح (13/ 426). (¬4) الفتح (13/ 444). (¬5) أحمد (1/ 275،297،310) والبخاري (13/ 6/7054) ومسلم (3/ 1477/1849).

خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء، وحجتهم هذا الخبر وغيره مما يساعده، ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح فلا تجوز طاعته في ذلك بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها. (¬1) - وقال ابن بطال في حديث أبي هريرة مرفوعا: «هلاك أمتي على يدي غلمة من قريش ... » (¬2): وفي هذا الحديث أيضا حجة لما تقدم من ترك القيام على السلطان ولو جار، لأنه - صلى الله عليه وسلم - أعلم أبا هريرة بأسماء هؤلاء وأسماء آبائهم ولم يأمرهم بالخروج عليهم مع إخباره أن هلاك الأمة على أيديهم لكون الخروج أشد في الهلاك وأقرب إلى الاستئصال من طاعتهم، فاختار أخف المفسدتين وأيسر الأمرين. (¬3) - وقال أيضا في حديث حذيفة «كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير ... » (¬4): فيه حجة لجماعة الفقهاء في وجوب لزوم جماعة المسلمين وترك الخروج على أئمة الجور، لأنه وصف الطائفة الأخيرة بأنهم «دعاة على أبواب جهنم» ولم يقل فيهم «تعرف وتنكر» كما قال في الأولين، وهم لا يكونون كذلك إلا وهم على غير حق، وأمر مع ذلك بلزوم الجماعة. (¬5) ¬

(¬1) الفتح (13/ 7). (¬2) أحمد (2/ 324) والبخاري (6/ 760/3605). (¬3) الفتح (13/ 11). (¬4) البخاري (6/ 763 - 764/ 3606) ومسلم (3/ 1475 - 1476/ 1847) وابن ماجه (2/ 1317/3979) من طريق بسر بن عبيد الله الحضرمي قال: حدثني أبو إدريس الخولاني أنه سمع حذيفة ابن اليمان يقول: فذكره. وأخرجه: أحمد (5/ 386 - 387) وأبو داود (4/ 447/4246) وابن حبان (الإحسان 13/ 298 - 299/ 5963) من طرق عن سليمان بن المغيرة عن حميد عن نصر بن عاصم الليثي قال: أتينا اليشكري في رهط ... فذكره. (¬5) الفتح (13/ 37).

موقفه من المرجئة:

موقفه من المرجئة: - قال رحمه الله: مذهب جماعة أهل السنة من سلف الأمة وخلفها أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص، والحجة على زيادته ونقصانه ما أورده البخاري من كتاب الله من ذكر الزيادة في الإيمان وبيان ذلك أنه من لم تحصل له بذلك الزيادة، فإيمانه أنقص من إيمان من حصلت له. فإن قيل: إن الإيمان في اللغة التصديق وبذلك نطق القرآن، قال الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)} (¬1) أي: ما أنت بمصدق يعني: في إخبارهم عن أكل الذئب ليوسف فلا ينقص التصديق. قال المهلب: فالجواب في ذلك أن التصديق وإن كان يسمى إيماناً في اللغة، فإن التصديق يكمل بالطاعات كلها، فما ازداد المؤمن من أعمال البر كان من كمال إيمانه، وبهذه الجملة يزيد الإيمان وبنقصانها ينقص. ألا ترى قول عمر بن عبد العزيز أن للإيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فمتى نقصت أعمال البر نقص كمال الإيمان، ومتى زادت زاد الإيمان كمالاً، هذا توسط القول في الإيمان. وأما التصديق بالله وبرسله فلا ينقص؛ ولذلك توقف مالك في بعض الروايات عنه عن القول بالنقصان فيه، إذ لا يجوز نقصان التصديق؛ لأنه إن نقص صار شكا، وانتقل عن اسم الإيمان. ¬

(¬1) يوسف الآية (17).

وقال بعض العلماء: إنما توقف مالك عن القول بنقصان الإيمان خشية أن يتأول عليه موافقة الخوارج الذين يكفرون أهل المعاصي من المؤمنين بالذنوب. وقد قال مالك بنقصان الإيمان مثل قول جماعة أهل السنة، ذكر أحمد بن خالد قال: حدثنا عبيد بن محمد بصنعاء قال: حدثنا مسلمة بن شبيب ومحمد بن يزيد قالا: سمعت عبد الرزاق يقول: سمعت من أدركت من شيوخنا وأصحابنا سفيان الثوري، ومالك بن أنس، وعبد الله بن عمر، والأوزاعي، ومعمر بن راشد، وابن جريج، وسفيان بن عيينة يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. ومن غير رواية عبد الرزاق وهو قول ابن مسعود وحذيفة والنخعي. وحكى الطبري: أنه قول الحسن البصري، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وعبد الله بن المبارك. فإن قيل: قد تقدم من قولكم أن الإيمان في اللغة التصديق، وأنه لا ينقص، فكيف يكون الإيمان قولا وعملا؟ قيل: كذلك نقول: التصديق في نفسه لا ينقص إلا أنه لا يتم بغير عمل، إلا لرجل أسلم ثم مات في حين إسلامه قبل أن يدرك العمل فهذا معذور؛ لأنه لم يتوجه إليه فرض الأمر والنهي ولا لزمه. وأما من لزمه فرض الأمر والنهي فلا يتم تصديقه لقوله إلا بفعله. قال الطبري: ألا ترى أن من وعد عدة ثم أنجز وعده وحقق بالفعل قوله، أنه يقال: صدق فلان قوله بفعله، فالتصديق يكون بالقلب وباللسان وبالجوارح، والمعنى الذي يستحق به العبد المدح والولاية من المؤمنين هو

إتيانه بهذه المعاني الثلاثة، وذلك أنه لا خلاف بين الجميع أنه لو أقر وعمل على غير علم منه ومعرفة بربه أنه لا يستحق اسم مؤمن، ولو عرفه وعمل وجحد بلسانه وكذب ما عرف من توحيد ربه أنه غير مستحق اسم مؤمن، وكذلك لو أقر بالله وبرسله ولم يعمل الفرائض لا يسمى مؤمنا بالإطلاق، وإن كان في كلام العرب قد يجوز أن يسمى بالتصديق مؤمنا فغير مستحق ذلك في حكم الله؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (¬1)، فأخبر تعالى أن المؤمن على الحقيقة من كانت هذه صفته، دون من قال ولم يعمل وضيع ما أمر به وفرط. (¬2) - وقال أيضا: تفاضل المؤمنين في أعمالهم لا شك فيه، وأن الذي خرج من النار بما في قلبه من مقدار حبة من خردل من إيمان معلوم أنه كان ممن انتهك المحارم وارتكب الكبائر، ولم تفِ طاعته لله عند الموازنة بمعاصيه. ومَن أطاع الله وقام بما وجب عليه وبرئ من مظالم العباد: فلا شك أن عمله أفضل من عمل الرجل المنتهك. وقد مثَّل ذلك عليه السلام بالقمص التي كانت تبلغ الثدي، وبقميص ¬

(¬1) الأنفال الآيات (2 - 4). (¬2) شرح صحيح البخاري لابن بطال (1/ 56 - 58).

عمر الذي كان يجرُّه (¬1). ومعلوم أن عمل عمر في إيمانه أفضل من عمل من بلغ قميصه ثدييه. فإيمانه أفضل من إيمانه بما زاد عليه من العمل. وتأويله عليه السلام ذلك بالدين يدل أن الإيمان الواقع على العمل يُسمى ديناً، كالإيمان الواقع على القول. وهذا يرد قول أهل البدع الذين يزعمون أن إيمان المذنبين كإيمان جبريل، وأنه لا تفاضل في الإيمان، وقولهم غلط لا يخفى؛ لأن الملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وسائر الخلق يملُّون ويفترون. فكيف يبلغ أحد منهم منزلتهم في العمل. وفي كتاب الله حجة لتفاضل المؤمنين في الإيمان؛ وذلك أن إبراهيم سأل ربه تعالى أن يريه كيف يحيي الموتى، فطلب المعاينة التي هي أعلى منازل العلم التي تسكن النفوس إليها، وتقع الطمأنينة بها، ولا يجوز أن نظن بإبراهيم خليل الله ونبيه أنه حين سأل المعاينة لم يكن مؤمناً، أو أنه اعترضه شك في إيمانه. والدليل على صحة هذا قوله لربه حين قال له: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (¬2)، فأوجب لنفسه الإيمان قبل أن يعاين ما طلب معاينته، وعَذَرَه الله تعالى في طلب ذلك؛ لأن المعاينة أشفى ويهجم على النفوس منها ما لا يهجم من الخبر. ألا ترى أن موسى حين كلمه ربه لم يشك أن الله هو المتكلم له، ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (3/ 86) والبخاري (1/ 100/23) ومسلم (4/ 1859/2390) والترمذي (4/ 467 - 468/ 2268) والنسائي (8/ 467/5026) كلهم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬2) البقرة الآية (260).

موقف السلف من أبي العلاء المعري أحمد بن عبد الله بن سليمان (449 هـ)

ولكن طلب ما هو أرفع من ذلك وهي المعاينة، فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} (¬1)، فأعلمه ربه أنه لا يجوز أن تقع عليه حاسة البصر، وأنه لا تدركه الأبصار بما أراه الله من الآيات في الجبل الذي صار دكا بتجليه له تعالى. ومما يشبه هذا المعنى أن الله تعالى أخبر موسى عن بني إسرائيل بعبادة العجل، فلم يشك في صدق خبره، فلما رجع إلى قومه وعاين حالهم حدث في نفسه من الإنكار والتغيير ما لم يحدث بالخبر، فألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه. وقد نبّه عليه السلام على ذلك فقال: «ليس الخبر كالمعاينة» (¬2). (¬3) موقف السلف من أبي العلاء المعري أحمد بن عبد الله بن سليمان (449 هـ) بيان زندقته: - قال عنه ابن عقيل: من العجائب أن المعري أظهر ما أظهر من الكفر البارد الذي لا يبلغ منه مبلغ شبهات الملحدين، بل قصر فيه كل التقصير، وسقط من عيون الكل، ثم اعتذر بأن لقوله باطنا، وأنه مسلم في الباطن، فلا عقل له ولا دين ... (¬4) ¬

(¬1) الأعراف الآية (143). (¬2) أخرجه: أحمد (1/ 215 و271) والحاكم (2/ 321) وصححه ووافقه الذهبي وصححه ابن حبان (14/ 96/6213) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬3) شرح البخاري لابن بطال (1/ 74 - 75). (¬4) المنتظم (16/ 23).

- قال ابن الجوزي: وقد رأيت للمعري كتابا سماه 'الفصول والغايات' يعارض به السور والآيات، وهو كلام في نهاية الركة والبرودة، فسبحان من أعمى بصره وبصيرته. (¬1) - أشعاره عديدة، وأفكاره فيها ليست سديدة، فيها خبث وزندقة وإلحاد منها ما ذكره ابن كثير في البداية نقلا عن ابن الجوزي: إذا كان لا يحظى برزقك عاقل فلاذنب يارب السماء على امرىء ... وترزق مجنونا وترزق أحمقا رأى منك ما لا يشتهي فتزندقا وقوله: ألا إن البرية في ضلال ... وقد نظر اللبيب لما اعتراها تقدم صاحب التوراة موسى ... وأوقع في الخسار من افتراها فقال رجاله وحي أتاه ... وقال الناظرون بل افتراها وما حجي إلى أحجار بيت ... كروس الحمرتشرف في ذراها إذا رجع الحليم إلى حجاه ... تهاون بالمذاهب وازدراها وقوله: عفت الحنيفة والنصارى اهتدت ... ويهود جارت والمجوس مضلله اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا ... دين وآخر ذو دين ولا عقل له ¬

(¬1) المنتظم (16/ 24).

وقوله: فلا تحسب مقال الرسل حقا ... ولكن قول زور سطروه فكان الناس في عيش رغيد ... فجاؤوا بالمحال فكدروه وقلت أنا -أي ابن كثير- معارضة عليه: فلا تحسب مقال الرسل زورا ... ولكن قول حق بلغوه وكان الناس في جهل عظيم ... فجاؤوا بالبيان فأوضحوه وقوله: إن الشرائع ألقت بيننا إحنا ... وأورثتنا أفانين العداوات وهل أبيح نساء الروم عن عرض ... للعرب إلا بأحكام النبوات وقوله: وما حمدي لآدم أو بنيه ... وأشهد أن كلهم خسيس وقوله: أفيقوا أفيقوا يا غواة فإنما ... دياناتكم مكرا من القدما وقوله: صرف الزمان مفرق الالفين ... فاحكم إلهي بين ذاك وبيني ونهيت عن قتل النفوس تعمدا ... وبعثت تقبضها مع الملكين وزعمت أن لها معادا ثانيا ... ما كان أغناها عن الحالين

وقوله: ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة ... وحق لسكان البسيطة أن يبكوا تحطمنا الأيام حتى كأننا ... زجاج ولكن لا يعود له سبك وقوله: أمور تستخف بها حلوم ... وما يدري الفتى لمن الثبور كتاب محمد وكتاب موسى ... وإنجيل ابن مريم والزبور وقوله: قالت معاشرلم يبعث إلهكم ... إلى البرية عيساها ولا موسى وإنما جعلوا الرحمن مأكلة ... وصيروا دينهم في الناس ناموسا وذكر ابن الجوزي وغيره أشياء كثيرة من شعره تدل على كفره، بل كل واحدة من هذه الأشياء تدل على كفره، وزندقته وانحلاله، ويقال إنه أوصى أن يكتب على قبره: هذا جناه أبي علي ... وما جنيت على أحد معناه أن أباه بتزوجه لأمه أوقعه في هذه الدار، حتى صار بسبب ذلك إلى ما إليه صار، وهو لم يجن على أحد بهذه الجناية، وهذا كله كفر وإلحاد قبحه الله. (¬1) ¬

(¬1) البداية (12/ 79 - 81).

أبو القاسم بن المسلمة (450 هـ)

أبو القاسم بن المسلمة (¬1) (450 هـ) الوزير القائم بأمر الله، الصدر المعظم، أبو القاسم علي بن الحسن بن الشيخ أبي الفرج بن المسلمة. استكتبه القائم ثم استوزره وكان عزيزا عليه جدا. وكان من خيار الوزراء العادلين. ولد سنة سبع وتسعين وثلاثمائة. وسمع من جده وابن أبي مسلم الفرضي، وإسماعيل الصرصري. حدث عنه الخطيب، وكان خصيصا به، وقال: اجتمع فيه من الآلات ما لم يجتمع في أحد قبله مع سداد مذهب ووفور عقل وأصالة رأي. كان من علماء الكبراء ونبلائهم. وقد مكث في الوزارة ثنتي عشرة سنة وشهرا، ثم قتله البساسيري بعدما شهره وذلك سنة خمسين وأربعمائة. وله من العمر ثنتان وخمسون سنة وخمسة أشهر. موقفه من الرافضة: جاء في البداية والنهاية: وأمر رئيس الرؤساء -أبو القاسم- الوالي بقتل أبي عبد الله بن الجلاب شيخ الروافض، لما كان تظاهر به من الرفض والغلو فيه، فقتل على باب دكانه، وهرب أبو جعفر الطوسي ونهبت داره. (¬2) ¬

(¬1) تاريخ بغداد (11/ 391 - 392) وتاريخ الإسلام (حوادث 441 - 450/ص.250 - 252) والسير (18/ 216 - 218) والبداية والنهاية (12/ 86). (¬2) البداية والنهاية (12/ 73).

عبد الله بن ياسين (451 هـ)

عبد الله بن ياسين (¬1) (451 هـ) الفقيه أبو محمد، عبد الله بن ياسين بن مكو الجزولي المصمودي، ذو الأنباء العظيمة، والقصص الغريبة، القائم بدعوة المرابطين وجامع شملهم، وصاحب الدعوة الإصلاحية فيهم، كان من طلبة العلم بالسوس "بدار المرابطين". قال القاضي عياض: ولقد ذكر أنه ضرب بالسوط أبا بكر بن عمر وهو إذ ذاك أمير المسلمين، لحق تعين عليه عنده، والكل له مطيع، وسيرته في أموره هناك وتقريراته معروفة، محفوظة، يتأثر عليها مشيخة المرابطين، ويحفظون في فتاويه وأجوبته ما لا يعدلون عنه. توفي سنة إحدى وخمسين وأربعمائة. ودفن بموضع يعرف بكريفلة. موقفه من الرافضة: جاء في الاستقصا: وكان أبو بكر بن عمر رجلا صالحا ورعا فجعل على مقدمته ابن عمه يوسف بن تاشفين اللمتوني، ثم سار حتى انتهى إلى بلاد السوس. فغزا جزولة من قبائلها وفتح مدينة ماسة وتارودانت قاعدة بلاد السوس وكان بها قوم من الرافضة يقال لهم: البجلية نسبة إلى علي بن عبد الله البجلي الرافضي. كان سقط إلى بلاد السوس أيام قيام عبيد الله الشيعي بإفريقية فأشاع هنالك مذهب الرافضة فتوارثوه عنه جيلا بعد جيل وعضوا عليه، فكانوا لا يرون الحق إلا ما في يدهم فقاتلهم عبد الله بن ياسين وأبو بكر بن عمر حتى فتحوا مدينة تارودانت عنوة، وقتلوا بها خلقا كثيرا، ¬

(¬1) الاستقصا (2/ 7 - 18) والأعلام للزركلي (4/ 144) وترتيب المدارك (2/ 333).

ابن حزم (456 هـ)

ورجع من بقي منهم إلى مذهب السنة والجماعة. (¬1) التعليق: وهكذا الرافضة مثل الذباب لا يتركون مكانا إلا دخلوه. فجزى الله هذا القائد خيرا إذ أبادهم وأراح المسلمين من شرهم. ابن حزم (¬2) (456 هـ) الإمام العلامة الحافظ الفقيه المجتهد أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم اليزيدي القرطبي الظاهري صاحب التصانيف كان جدهم خلف أول من دخل إلى الأندلس في صحابة عبد الرحمن الداخل. ولد بقرطبة في سنة أربع وثمانين وثلاثمائة. وسمع من أبي عمر بن الحسور، ويحيى بن مسعود بن وجه الجنة ويوسف بن عبد الله القاضي وابن عبد البر وغيرهم. وروى عنه أبو عبد الله الحميدي فأكثر وابنه أبو رافع الفضل وطائفة. كان شافعيا ثم انتقل إلى القول بالظاهر ونفي القول بالقياس وتمسك بالعموم والبراءة الأصلية، وكان صاحب فنون فيه دين وتورع وتزهد وتحر للصدق. وزر للمستظهر بالله ثم نبذ الوزارة وأقبل على العلم. له عدة مصنفات منها: 'الإيصال إلى فهم كتاب الخصال' و'الأحكام' و'المحلى' و'الفصل' وعدة. ¬

(¬1) الاستقصا (2/ 14). (¬2) وفيات الأعيان (3/ 325 - 330) وتاريخ الإسلام (حوادث 451 - 460/ص.403 - 417) والسير (18/ 184 - 212) وتذكرة الحفاظ (3/ 1146 - 1155) والبداية والنهاية (12/ 98) وشذرات الذهب (3/ 299 - 300).

موقفه من المبتدعة:

وقال صاحب بن أحمد: كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام، وأوسعهم معرفة. ومع هذا، فقد أخطأ رحمه الله في غير ما مسألة في العقيدة حتى قال ابن عبد الهادي: ولكن تبين لي منه أنه جهمي جلد، لا يثبت معاني أسماء الله الحسنى إلا القليل، كالخالق والحق، وسائر الأسماء عنده لا يدل على معنى أصلا كالرحيم والعليم والقدير، بل العلم عنده هو القدرة، والقدرة هي العلم، وهما عين الذات. وقال ابن كثير: وكان مع هذا من أشد الناس تأويلا في باب الأصول وآيات الصفات وأحاديث الصفات. وقال الذهبي رحمه الله: ولي أنا ميل إلى أبي محمد لمحبته في الحديث الصحيح، ومعرفته به، وإن كنت لا أوافقه في كثير مما يقوله في الرجال والعلل، والمسائل البشعة في الأصول والفروع، وأقطع بخطئه في غير ما مسألة، ولكن لا أكفره، ولا أضلله، وأرجو له العفو والمسامحة وللمسلمين. قال أبو الخطاب بن دحية: كان ابن حزم قد برص من أكل اللبان وأصابه زمانة وعاش اثنتين وسبعين سنة إلا شهرا. توفي ليومين بقيا من شعبان سنة ست وخمسين وأربعمائة. موقفه من المبتدعة: - قال ابن حزم: والواجب إذا اختلف الناس أو نازع واحد في مسألة ما أن يرجع إلى القرآن وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا إلى شيء غيرهما ولا يجوز الرجوع إلى عمل أهل المدينة ولا غيرهم. برهان ذلك قول الله عزوجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ

وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} (¬1) فصح أنه لا يحل الرد عند التنازع إلى شيء غير كلام الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفي هذا تحريم الرجوع إلى قول أحد دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن من رجع إلى قول إنسان دونه عليه السلام فقد خالف أمر الله تعالى بالرد إليه وإلى رسوله لا سيما مع تعليقه تعالى ذلك بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} ولم يأمر الله تعالى بالرجوع إلى قول بعض المؤمنين دون جميعهم، وقد كان الخلفاء رضي الله عنهم كأبي بكر وعمر وعثمان بالمدينة وعمالهم باليمن ومكة وسائر البلاد وعمال عمر بالبصرة والكوفة ومصر والشام. ومن الباطل المتيقن الممتنع الذي لا يمكن أن يكونوا رضي الله عنهم طووا علم الواجب والحلال والحرام عن سائر الأمصار واختصوا به أهل المدينة فهذه صفة سوء قد أعاذهم الله تعالى منها وقد عمل ملوك بني أمية بإسقاط بعض التكبير من الصلاة وبتقديم الخطبة على الصلاة في العيدين حتى فشا ذلك في الأرض فصح أنه لا حجة في عمل أحد دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) - وقال رحمه الله: ولا يحل لأحد أن يقلد أحدا لا حيا ولا ميتا وعلى كل أحد من الاجتهاد حسب طاقته، فمن سأل عن دينه فإنما يريد معرفة ما ألزمه الله عزوجل في هذا الدين، ففرض عليه إن كان أجهل البرية أن يسأل ¬

(¬1) النساء الآية (59). (¬2) المحلى (1/ 55/99).

عن أعلم أهل موضعه بالدين الذي جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا دل عليه سأله، فإذا أفتاه قال له: هكذا قال الله عزوجل ورسوله؟ فإن قال له نعم أخذ بذلك وعمل به أبدا، وإن قال له هذا رأيي أو هذا قياس أو هذا قول فلان وذكر له صاحبا (¬1) أو تابعا أو فقيها قديما أو حديثا أو سكت أو انتهره أو قال له لا أدري، فلا يحل له أن يأخذ بقوله ولكنه يسأل غيره. برهان ذلك قول الله عزوجل: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (¬2) فلم يأمرنا عزوجل قط بطاعة بعض أولي الأمر، فمن قلد عالما أو جماعة علماء فلم يطع الله تعالى ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا أولي الأمر، وإذا لم يرد إلى من ذكرنا فقد خالف أمر الله عزوجل ولم يأمر الله عزوجل قط بطاعة بعض أولي الأمر دون بعض. فإن قيل: فإن الله عزوجل قال: {فسألوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} (¬3) وقال تعالى: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ} (¬4). قلنا: نعم ولم يأمر الله عزوجل أن يقبل من النافر للتفقه في الدين رأيه، ولا أن يطاع أهل الذكر في رأيهم ولا في دين يشرعونه لم يأذن به الله عزوجل وإنما أمر تعالى أن يسأل أهل الذكر عما يعلمونه في الذكر الوارد من عند الله تعالى فقط لا ¬

(¬1) هذا مذهب ابن حزم في رد قول الصحابي، والراجح أن قول الصحابي حجة ما لم يخالف. انظر إعلام الموقعين (4/ 118 فما بعدها). (¬2) النساء الآية (59). (¬3) النحل الآية (43). (¬4) التوبة الآية (122).

عمن قاله من لا سمع له ولا طاعة، وإنما أمر الله تعالى بقبول نذارة النافر للتفقه في الدين فيما تفقه فيه من دين الله تعالى الذي أتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا في دين لم يشرعه الله عزوجل، ومن ادعى وجود تقليد العامي للمفتي فقد ادعى الباطل وقال قولا لم يأت به قط نص قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قياس، وما كان هكذا فهو باطل لأنه قول بلا دليل، بل البرهان قد جاء بإبطاله، قال تعالى ذاما لقوم قالوا: {إنا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67)} (¬1) والاجتهاد إنما معناه بلوغ الجهد في طلب دين الله عزوجل الذي أوجبه على عباده، وبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أن المسلم لا يكون مسلما إلا حتى يقر بأن الله تعالى إلهه لا إله غيره وأن محمدا هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الدين إليه وإلى غيره، فإذ لا شك في هذا فكل سائل في الأرض عن نازلة في دينه فإنما يسأل عما حكم الله تعالى به في هذه النازلة، فإذ لا شك في هذا ففرض عليه أن يسأل إذا سمع فتيا: أهذا حكم الله وحكم رسوله - صلى الله عليه وسلم -؟ وهذا لا يعجز عنه من يدري ما الاسلام ولو أنه كما جلب من قوقوا وبالله تعالى التوفيق. (¬2) - وقال رحمه الله: والمجتهد المخطئ أفضل عند الله تعالى من المقلد المصيب، هذا في أهل الإسلام خاصة، وأما غير أهل الإسلام فلا عذر للمجتهد المستدل ولا للمقلد، وكلاهما هالك. برهان هذا ما ذكرناه آنفا باسناده من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا اجتهد ¬

(¬1) الأحزاب الآية (67). (¬2) المحلى (1/ 66 - 67/ 103).

الحاكم فأخطأ فله أجر» (¬1) وذم الله التقليد جملة، فالمقلد عاص والمجتهد مأجور، وليس من اتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقلدا لأنه فعل ما أمره الله تعالى به، وإنما المقلد من اتبع من دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه فعل ما لم يأمره الله تعالى به، وأما غير أهل الإسلام فإن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} (¬2).اهـ (¬3) - وقال رحمه الله: والحق من الأقوال في واحد منها وسائرها خطأ. وبالله تعالى التوفيق. قال الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} (¬4)، وقال تعالى: {ولو كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} (¬5) وذم الله الاختلاف فقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} (¬6) وقال تعالى: {ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} (¬7) وقال تعالى: {تبياناً لِكُلِّ شَيْءٍ} (¬8) فصح أن الحق ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (4/ 204 - 205) والبخاري (13/ 393/7352) ومسلم (3/ 1342/1716) وأبو داود (4/ 6 - 7/ 3574) والترمذي (3/ 615/1326) وابن ماجه (2/ 772/2314). (¬2) آل عمران الآية (85). (¬3) المحلى (1/ 69 - 70/ 108). (¬4) يونس الآية (32). (¬5) النساء الآية (82). (¬6) آل عمران الآية (105). (¬7) الأنفال الآية (46). (¬8) النحل الآية (89).

في الأقوال ما حكم الله تعالى به فيه، وهو واحد لا يختلف، وأن الخطأ ما لم يكن من عند الله عزوجل. ومن ادعى أن الأقوال كلها حق وأن كل مجتهد مصيب فقد قال قولا لم يأت به قرآن ولا سنة ولا اجماع ولا معقول، وما كان هكذا فهو باطل، ويبطله أيضا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر» فنص عليه الصلاة والسلام أن المجتهد قد يخطئ، ومن قال: إن الناس لم يكلفوا إلا اجتهادهم فقد أخطأ، بل ما كلفوا إلا إصابة ما أمر الله به قال الله عزوجل: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (¬1) فافترض عزوجل اتباع ما أنزل الينا وأن لا نتبع غيره وأن لا نتعدى حدوده، وإنما أجر المجتهد المخطئ أجرا واحدا على نيته في طلب الحق فقط، ولم يأثم إذا حرم الإصابة، فلو أصاب الحق أجر أجرا آخر كما قال عليه السلام: «إنه إذا أصاب أجر أجرا ثانيا». حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد أخبرنا ابراهيم بن أحمد الفربري حدثنا البخاري حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ حدثنا حيوة بن شريح حدثنا يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن ابراهيم بن الحرث عن بسر بن سعيد عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص انه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر». ولا يحل الحكم بالظن أصلا لقول الله تعالى: {إِنْ ¬

(¬1) الأعراف الآية (3).

يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)} (¬1) ولقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» (¬2) وبالله تعالى التوفيق. (¬3) - ومن شعره يصف ما أحرق له من كتبه ابن عباد قوله: فإن تَحْرِقوا القِرْطَاس لا تحرقوا الذي ... تضمنه القرطاس بل هو في صدري يسير معي حيث استقلت ركائبي ... وينزل إن أنزل ويدفن في قبري دعوني من إحراق رَقّ وكاغد ... وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري وإلا فعودوا في المكاتب بدأة ... فكم دون ما تبغون لله من ستر كذاك النصارى يحرقون إذا علت ... أكفهم القرآن في مدن الثغر (¬4) - وقال: أشهد الله والملائكة أني ... لا أرى الرأي والمقاييس دينا حاش لله أن أقول سوى ما ... جاء في النص والهدى مستبينا كيف يخفى على البصائر هذا ... وهو كالشمس شهرة ويقينا (¬5) فقال الذهبي مجيبا له: ¬

(¬1) النجم الآية (28). (¬2) أخرجه من حديث أبي هريرة: أحمد (4/ 312) والبخاري (9/ 248/5143) ومسلم (4/ 1985/2563) وأبو داود (5/ 216 - 217/ 4917) والترمذي (4/ 313/1988). (¬3) المحلى (1/ 70 - 71/ 109). (¬4) السير (18/ 205). (¬5) السير (18/ 205 - 206).

موقفه من المشركين:

لو سلمتم من العموم الذي ... نعلم قطعا تخصيصه ويقينا وترطبتم فكم قد يبستم ... لرأينا لكم شفوفا مبينا - وله: أنائم أنت عن كتب الحديث وما ... أتى عن المصطفى فيها من الدين كمسلم والبخاري اللذين هما ... شدا عرى الدين في نقل وتبيين أولى بأجر وتعظيم ومحمدة ... يا من هدى بهما اجعلني كمثلهما ... من كل قول أتى من رأي سحنون في نصر دينك محضا غير مفتون (¬1) - وقال: قالوا تحفظ فإن الناس قد كثرت ... أقوالهم وأقاويل الورى محن فقلت: هل عيبهم لي غير أني ... لا أقول بالرأي إذ في رأيهم فتن وأنني مولع بالنص لست إلى ... سواه أنحو ولا في نصره أهن لا أنثني لمقاييس يقال بها ... في الدين بل حسبي القرآن والسنن يا برد ذا القول في قلبي وفي كبدي ... ويا سروري به لو أنهم فطنوا دعهم يعضوا على صم الحصى كمدا ... من مات من قوله عندي له كفن (¬2) موقفه من المشركين: من مواقفه الجليلة رده المفحم على قصيدة الأرمني المرتد: قال ابن كثير: وها أنا أذكر القصيدة الأرمنية المخذولة الملعونة، وأتبعها بالفريدة الإسلامية المنصورة الميمونة قال المرتد الكافر الأرمني على لسان ¬

(¬1) السير (18/ 209). (¬2) السير (18/ 212).

ملكه لعنهما الله وأهل ملتهم أجمعين أكتعين أبتعين أبصعين آمين يا رب العالمين. ومن خط ابن عساكر كتبتها، وقد نقلوها من كتاب صلة الصلة للفرغاني: من الملك الطهر المسيحي مالك ... إلى خلف الأملاك من آل هاشم إلى الملك الفضل المطيع أخي العلا ... ومن يرتجى للمعضلات العظائم أما سمعت أذناك ما أنا صانع ... ولكن دهاك الوهن عن فعل حازم فإن تك عما قد تقلدت نائما ... فإني عما همني غير نائم ثغوركم لم يبق فيها لوهنكم ... وضعفكم إلا رسوم المعالم فتحنا الثغور الأرمنية كلها ... بفتيان صدق كالليوث الضراغم ونحن صلبنا الخيل تعلك لجمها ... وتبلغ منها قضمها للشكائم إلى كل ثغر بالجزيرة آهل ... إلى جند قنسرينكم فالعواصم وملطية مع سميساط وكركر ... وفي البحر أضعاف الفتوح التواخم وبالحدث الحمراء جالت عساكري ... وكيسوم بعد الجعفري للمعالم وكم قد ذللنا من أعزة أهلها ... فصاروا لنا من بين عبد وخادم وسد سروج إذ خربنا بجمعنا ... لنا رتبة تعلو على كل قائم وأهل الرها لاذوا بنا وتحزبوا وصبح رأس العين منا بطارق ... بمنديل مولى جل عن وصف آدمي ببيض غزوناها بضرب الجماجم ودارا وميافارقين وأزرنا ... أذقناهم بالخيل طعم العلاقم واقريطش جازت إليها مراكبي ... على ظهر بحر مزبد متلاطم فحزتم أسرى وسيقت نساؤهم ... ذوات الشعور المسبلات النواعم

هناك فتحنا عين زربة عنوة ... نعم وأبدنا كل طاغ وظالم إلى حلب حتى استبحنا حريمها ... وهدم منها سورها كل هادم أخذنا النسا ثم البنات نسوقهم ... وصبيانهم مثل المماليك خادم وقد فر عنها سيف دولة دينكم ... وناصركم منا على رغم راغم وملنا على طرسوس ميلة حازم ... أذقنا لمن فيها لحز الحلاقم فكم ذات عز حرة علوية ... منعمة الأطراف ريا المعاصم سبينا فسقنا خاضعات حواسرا ... بغير مهور لا ولا حكم حاكم وكم من قتيل قد تركنا مجندلا ... يصب دما بين اللها واللهازم وكم وقعة في الدرب أفنت كماتك ... وسقناهم قسرا كسوق البهائم وملنا على أرياحكم وحريمها ... مدوخة تحت العجاج السواهم فأهوت أعاليها وبدل رسمها ... من الأنس وحشا بعد بيض نواعم إذا صاح فيها البوم جاوبه الصدى ... وأتبعه في الربع نوح الحمائم وإنطاك لم تبعد علي وإنني ... سأفتحها يوما بهتك المحارم ومسكن آبائي دمشق فإنني ... سأرجع فيها ملكنا تحت خاتمي ومصر سأفتحها بسيفي عنوة وأجزي كافورا بما يستحقه ... ألا شمروا يا أهل حمدان شمروا ... وآخذ أموالي بها وبهائمي ... بمشط ومقراض وقص محاجم أتتكم جيوش الروم مثل الغمائم فإن تهربوا تنجوا كراما وتسلموا ... من الملك الصادي بقتل المسالم كذاك نصيبين وموصلها إلى ... جزيرة آبائي وملك الأقادم سأفتح سامرا وكوثا وعكبرا ... وتكريتها مع ماردين العواصم

وأقتل أهليها الرجال بأسرها ... وأغنم أموالا بها وحرائم ألا شمروا يا أهل بغداد ويلكم ... فكلكم مستضعف غير رائم رضيتم بحكم الديلمي ورفضه ... فصرتم عبيدا للعبيد الديالمي ويا قاطني الرملات ويلكم ارجعوا ... إلى أرض صنعا راعيين البهائم وعودوا إلى أرض الحجاز أذلة ... وخلوا بلاد الروم أهل المكارم سألقي جيوشا نحو بغداد سائرا ... إلى باب طاق حيث دار القماقم وأحرق أعلاها وأهدم سورها ... وأسبي ذراريها على رغم راغم وأحرز أموالا بها وأسرة ... وأقتل من فيها بسيف النقائم وأسري بجيشي نحو أهواز مسرعا ... لإحراز ديباج وخز السواسم وأشعلها نهبا وأهدم قصورها ... وأسبي ذراريها كفعل الأقادم ومنها إلى شيراز والري فاعلموا ... خراسان قصري والجيوش بحارم إلى شاس بلخ بعدها وخواتها ... وفرغانة مع مروها والمخازم وسابور أهدمها وأهدم حصونها ... وأوردها يوما كيوم السمائم وكرمان لا أنسى سجستان كلها ... وكابلها النائي وملك الأعاجم أسير بجندي نحو بصرتها التي ... لها بحر عج رائع متلازم إلى واسط وسط العراق وكوفة ... كما كان يوما جندنا ذو العزائم وأخرج منها نحو مكة مسرعا ... أجر جيوشا كالليالي السواجم فأملكها دهرا عزيزا مسلما ... أقيم بها للحق كرسي عالم وأحوي نجدا كلها وتهامها ... وسرا واتهام مذحج وقحاطم وأغزو يمانا كلها وزبيدها ... وصنعاءها مع صعدة والتهائم

فأتركها أيضا خرابا بلاقعا ... خلاء من الأهلين أهل نعائم وأحوي أموال اليمانين كلها ... وما جمع القرماط يوم محارم أعود إلى القدس التي شرفت بنا ... بعز مكين ثابت الأصل قائم وأعلو سريري للسجود معظما ... وتبقى ملوك الأرض مثل الخوادم هنالك تخلو الأرض من كل مسلم ... لكل نقي الدين أغلف زاعم نصرنا عليكم حين جارت ولاتكم ... وأعلنتموا بالمنكرات العظائم قضاتكم باعوا القضاء بدينهم ... كبيع ابن يعقوب ببخس الدراهم عدو لكم بالزور يشهد ظاهرا ... وبالإفك والبرطيل مع كل قائم سأفتح أرض الله شرقا ومغربا ... وأنشر دينا للصليب بصارمي فعيسى علا فوق السموات عرشه ... يفوز الذي والاه يوم التخاصم وصاحبكم بالترب أودى به الثرى ... فصار رفاتا بين تلك الرمائم تناولتم أصحابه بعد موته ... بسب وقذف وانتهاك المحارم هذا آخرها لعن الله ناظمها وأسكنه النار، {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)} (¬1) يوم يدعو ناظمها ثبورا ويصلى نارا سعيرا، {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ ¬

(¬1) غافر الآية (52).

خَذُولًا (29)} (¬1) إن كان مات كافرا. وهذا جوابها لأبي محمد بن حزم الفقيه الظاهري الأندلسي قالها ارتجالا حين بلغته هذه الملعونة غضبا لله ولرسوله ولدينه كما ذكر ذلك من رآه، فرحمه الله وأكرم مثواه وغفر له خطاياه. (¬2) من المحتمي بالله رب العوالم ... ودين رسول الله من آل هاشم محمد الهادي إلى الله بالتقى ... وبالرشد والإسلام أفضل قائم عليه من الله السلام مرددا ... إلى أن يوافي الحشر كل العوالم إلى قائل بالإفك جهلا وضلة ... عن النقفور المفتري في الأعاجم دعوت إماما ليس من أمرائه ... بكفيه إلا كالرسوم الطواسم دهته الدواهي في خلافته كما ... دهت قبله الأملاك دهم الدواهم ولا عجب من نكبة أو ملمة ... تصيب كريم الجد ابن الأكارم ولو أنه في حال ماضي جدوده ... لجرعتم منه سموم الأراقم عسى عطفة لله في أهل دينه ... تجدد منه دارسات المعالم فخرتم بما لو كان فيكم حقيقة ... لكان بفضل الله أحكم حاكم إذن لاعترتكم خجلة عند ذكره ... وأخرس منكم كل فاه مخاصم سلبناكم كَرّاً ففزتم بغرة ... من الكر أفعال الضعاف العزائم فطرتم سرورا عند ذاك ونشوة ... كفعل المهين الناقص المتعالم وما ذاك إلا في تضاعيف عقله ... عريقا وصرف الدهر جم الملاحم ¬

(¬1) الفرقان الآيات (27 - 29). (¬2) البداية والنهاية (11/ 260 - 269).

ولما تنازعنا الأمور تخاذلا ... ودانت لأهل الجهل دولة ظالم وقد شعلت فينا الخلائف فتنة ... لعُبدانهم مع تُركهم والدلائم بكفر أياديهم وجحد حقوقهم ... بمن رفعوه من حضيض البهائم وثبتم على أطرافنا عند ذاكم ... وثوب لصوص عند غفلة نائم ألم تنتزع منكم بأعظم قوة ... جميع بلاد الشام ضربة لازم ومصرا وأرض القيروان بأسرها ... وأندلسا قسرا بضرب الجماجم ألم ننتزع منكم على ضعف حالنا ... صقلية في بحرها المتلاطم مشاهد تقديساتكم وبيوتها ... لنا وبأيدينا على رغم راغم أما بيت لحم والقمامة بعدها ... بأيدي رجال المسلمين الأعاظم وسركيسكم في أرض اسكندرية ... وكرسيكم في القدس في أدرثاكم ضممناكم قسرا برغم أنوفكم ... وكرسي قسطنطينية في المعادم ولابد من عود الجميع بأسره ... إلينا بعز قاهر متعاظم أليس يزيدٌ حل وسط دياركم ... على باب قسطنطينية بالصوارم ومسلمة قد داسها بعد ذاكم ... بجيش تهام قد دوى بالضراغم وأخدمكم بالذل مسجدنا الذي ... بنى فيكم في عصره المتقادم إلى جنب قصر الملك من دار ملككم ... ألا هذه حق صرامة صارم وأدى لهارون الرشيد مليككم ... رفادة مغلوب وجزية غارم سلبناكم مصرا شهودٌ بقوة ... حبانا بها الرحمن أرحم راحم إلى بيت يعقوب وأرباب دومة ... إلى لجة البحر المحيط المحاوم فهل سرتم في أرضنا قط جمعة ... أبى الله ذا كم يا بقايا الهزائم

فمالكم إلا الأماني وحدها ... بضائع نوكى تلك أحلام نائم رويدا فما بعد الخلافة نورها ... وسفر مغير أوجوه الهواشم وحينئذ تدرون كيف قراركم ... إذا صدمتكم خيل جيش مصادم على سالف العادات منا ومنكم ... ليالي بهم في عداد الغنائم سبيتم سبايا يحصر العد دونها ... وسبيكم فينا كقطر الغمائم فلو رام خلق عدها رام معجزا ... وأنى بتعداد لرش الحمائم بابني حميدان وكافور صلتم ... أرذال أنجاس قصارالمعاصم دعي وحجام سطوتم عليهما ... وما قدرهم مصاص دم المحاجم فهلا على دميانة قبل ذلك أو ... على محل أرباض رماة الضراغم ليالي قادوكم كما اقتادكم ... أقيال جرجان بحز الحلاقم وساقوا على رسل بنات ملوككم ... سبايا كما سيقت ظباء الصرائم ولكن سلوا عنا هرقلا ومن خلى ... لكم من ملوك مكرمين قماقم يخبركم عنا التنوخ وقيصر ... وكم قد سبينا من نساء كرائم وعما فتحنا من منيع بلادكم ... وعما أقمنا فيكم من مآتم ودع كل نذل مفتر لا تعده ... إماما ولا الدعوى له بالتقادم فهيهات سامرا وتكريت منكم ... إلى جبل تلكم أماني هائم منى يتمناها الضعيف ودونها ... نظائرها ... وحز الغلاصم تريدون بغداد سوقا جديدة ... مسيرة شهر للفنيق القواصم محلة أهل الزهد والعلم والتقى ... ومنزلة يختارها كل عالم دعوا الرملة الصهباء عنكم فدونها ... من المسلمين الغر كل مقاوم

ودون دمشق جمع جيش كأنه ... سحائب طير ينتحي بالقوادم وضرب يلقي الكفر كل مذلة ... كما ضرب السِّكِّي بِيض الدراهمِ ومن دون أكناف الحجاز جحافل ... كقطر الغيوم الهائلات السواجم بها من بني عدنان كل سميدع ... ومن حي قحطان كرام العمائم ولو قد لقيتم من قضاعة كبة ... لقيتم ضراما في يبيس الهشائم إذا أصبحوكم ذكَّروكم بما خلا ... لهم معكم من صادق متلاحم زمان يقودون الصوافن نحوكم ... فجئتم ضمانا أنكم في الغنائم سيأتيكم منهم قريبا عصائب ... تنسيكم تذكار أخذ العواصم وأموالكم حل لهم ودماؤكم ... بها يشتفي حر الصدور الحوايم وأرضيكم حقا سيقتسمونها ... كما فعلوا دهرا بعدل المقاسم ولو طرقتكم من خراسان عصبة ... وشيراز والري الملاح القوائم لما كان منكم عند ذلك غير ما ... عهدنا لكم: ذل وعض الأباهم فقد طالما زاروكم في دياركم ... مسيرة عام بالخيول الصوادم فأما سجستان وكرمان بالأولى ... وكابل حلوان بلاد المراهم وفي فارس والسوس جمع عرمرم ... وفي أصبهان كل أروع عارم فلو قد أتاكم جمعهم لغدوتم ... فرائس كالآساد فوق البهائم وبالبصرة الغراء والكوفة التي ... سمت وبآدي واسط بالعظائم جموع تسامي الرمل عدا وكثرة ... فما أحد عادوه منهم بسالم ومن دون بيت الله في مكة التي ... حباها بمجد للبرايا مراحم محل جميع الأرض منها تيقنا ... محلة سفل الخف من فص خاتم

دفاع من الرحمن عنها بحقها ... فما هو عنها رد طرف برائم بها وقع الأحبوش هلكى وفيلهم ... بحصباء طير في ذرى الجو حائم وجمع كجمع البحر ماض عرمرم ... حمى بنية البطحاء ذات المحارم ومن دون قبر المصطفى وسط طيبة ... جموع كمسود من الليل فاحم يقودهم جيش الملائكة العلى ... دفاعا ودفعا عن مصل وصائم فلو قد لقيناكم لعدتم رمائما ... كما فرق الإعصار عظم البهائم وباليمن الممنوع فتيان غارة ... إذا مالقوكم كنتم كالمطاعم وفي جانبي أرض اليمامة عصبة ... معاذر أمجاد طوال البراجم ونستفتكم والقرمطيين دولة ... تقووا بميمون التقية حازم خليفة حق ينصر الدين حكمه ... ولا يتقي في الله لومة لائم إلى ولد العباس تنمي جدوده ... بفخر عميم مزبد الموج ناعم ملوك جرى بالنصر طائر سعدهم ... فأهلا بماض منهم وبقادم محلهم في مسجد القدس أو لدى ... منازل بغداد محل المكارم وإن كان من عليا عدي وتيمها ... ومن أسد هذا الصلاح الحضارم فأهلا وسهلا ثم نعمى ومرحبا بهم ... من خيار سالفين أقادم هم نصروا الإسلام نصرا مؤزرا ... وهم فتحوا البلدان فتح المراغم رويدا فوعد الله بالصدق وارد ... بتجريع أهل الكفر طعم العلاقم سنفتح قسطنطينية وذواتها ... ونجعلكم فوق النسور القعاشم ونفتح أرض الصين والهند عنوة ... بجيش لأرض الترك والخزر حاطم مواعيد للرحمن فينا صحيحة وليست ... كآمال العقول السواقم

ونملك أقصى أرضكم وبلادكم ... ونلزمكم ذل الحراب المخارم إلى أن ترى الإسلام قد عم حكمه ... جميع الأراضي بالجيوش الصوارم أتقرن يا مخذول دينا مثلثا ... بعيدا عن المعقول بادي المآثم تدين لمخلوق يدين لغيره ... فيالك سحقا ليس يخفى لعالم أناجيلكم مصنوعة قد تشابهت ... كلام الأولى فيها أتوا بالعظائم وعود صليب ما تزالون سجدا ... له يا عقول الهاملات السوائم تدينون تضلالا بصلب إلهكم ... بأيدي يهود أرذلين الآثم إلى ملة الإسلام توحيد ربنا ... فما دين ذي دين لها بمقاوم وصدق رسالات الذي جاء بالهدى ... محمد الآتي برفع المظالم وأذعنت الأملاك طوعا لدينه ... ببرهان صدق طاهر في المواسم كما دان في صنعاء مالك دولة ... وأهل عمان حيث رهط الجهاضم وسائر أملاك اليمانين أسلموا ... ومن بلد البحرين قوم اللهازم أجابوا لدين الله لا من مخافة ... ولا رغبة يحظى بها كف عادم فحلوا عرى التيجان طوعا ورغبة ... بحق يقين بالبراهين فاحم وحاباه بالنصر المكين إلهه ... وصير من عاداه تحت المناسم فقير وحيد لم تعنه عشيرة ... ولا دفعوا عنه شتيمة شاتم ولا عنده مال عتيد لناصر ... ولا دفع مرهوب ولا لمسالم ولا وعد الأنصار مالا يخصهم ... بلى كان معصوما لأقدر عاصم ولم تنهه في الحق قوة آسر ... ولا مكنت من جسمه يد ظالم كما يفتري إفكا وزورا وضلة ... على وجه عيسى منكم كل لاطم

على أنكم قد قتلتموا هو ربكم ... فيا لضلال في القيامة عائم أبى الله أن يدعى له ابن وصاحب ... ستلقى دعاة الكفر حالة نادم ولكنه عبد نبي مكرم ... من الناس مخلوق ولا قول زاعم أيلطم وجه الرب؟ تبا لدينكم ... لقد فقتم في قولكم كل ظالم وكم آية أبدى النبي محمد ... وكم علم أبداه للشرك حاطم تساوى جميع الناس في نصر حقه ... بلى ولكل في العطا حال خادم فعرب وأحبوش وفرس وبربر ... وكرديهم قد فاز قدح المراحم وقبط وأنباط وخزر وديلم ... وروم رموكم دونه بالقواصم أبوا كفر أسلاف لهم فتمنعوا ... فآبوا بحظ في السعادة لازم به دخلوا في ملة الحق كلهم ... ودانوا لأحكام الإله اللوازم به صح تفسير المنام الذي أتى ... به دانيال قبله حتم حاتم وهند وسند أسلموا وتدينوا ... بدين الهدى رفض لدين الأعاجم وشق له بدر السموات آية ... وأشبع من صاع له كل طاعم وسالت عيون الماء في وسط كفه ... فأروى به جيشا كثيرا هماهم وجاء بما تقضي العقول بصدقه ... ولا كدعاء غير ذات قوائم عليه سلام الله ما ذر شارق ... تعقبه ظلماء أسحم قاتم براهينه كالشمس لا مثل قولكم ... وتخليطكم في جوهر وأقانم لنا كل علم من قديم ومحدث ... وأنتم حمير داميات المحازم أتيتم بشعر بارد متخاذل ... ضعيف معاني النظم جم البلاعم فدونكها كالعقد فيه زمرد ... ودر وياقوت بإحكام حاكم

موقفه من الرافضة:

وجاء في ميزان الاعتدال: قال ابن حزم: قالت فرقة عادية بنبوة المغيرة ابن سعيد وكان لعنه الله مولى بجيلة. وكان لعنه الله يقول: إن معبوده على صورة رجل على رأسه تاج وإن أعضاءه على عدد حروف الهجاء. وإنه لما أراد أن يخلق تكلم باسمه فطار فوقع على تاجه، ثم كتب بأصبعه أعمال العباد. فلما رأى المعاصي ارفض عرقا، فاجتمع من عرقه بحران ملح وعذب؛ وخلق الكفار من البحر الملح. تعالى الله عما يقول. وحاكي الكفر ليس بكافر؛ فإن الله تبارك وتعالى قص علينا في كتابه صريح كفر النصارى واليهود، وفرعون ونمرود، وغيرهم. (¬1) موقفه من الرافضة: - قال الذهبي في سيره: وكان في هذا الحين المتكلم البارع هشام بن الحكم الكوفي الرافضي المشبه المعثر، وله نظر وجدل، وتواليف كثيرة. قال ابن حزم: جمهور متكلمي الرافضة كهشام بن الحكم، وتلميذه أبي علي الصكاك وغيرهما يقولون بأن علم الله محدث، وأنه لم يعلم شيئا في الأزل، فأحدث لنفسه علما. قال: وقال هشام بن الحكم في مناظرته لأبي الهذيل: إن ربه طوله سبعة أشبار بشبر نفسه. قال: وكان داود الجواربي من كبار متكلميهم يزعم أن ربه لحم ودم على صورة الآدمي. قال: ولا يختلفون في رد الشمس لعلي مرتين. ومن قول كلهم: إن القرآن مبدل زيد فيه ونقص منه إلا الشريف المرتضى وصاحبيه. قال النديم: هو من أصحاب جعفر ¬

(¬1) الميزان (4/ 162).

الصادق، هذب المذهب، وفتق الكلام في الإمامة. (¬1) - قال في الملل والنحل: ومن قول الإمامية كلها قديما وحديثا أن القرآن مبدل زيد فيه ما ليس منه، ونقص منه كثير، وبدل منه كثير حاشا علي بن الحسن بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد ابن علي ابن الحسن بن علي بن أبي طالب. وكان إماميا يظاهر بالاعتزال مع ذلك؛ فإنه كان ينكر هذا القول ويكفر من قاله، وكذلك صاحباه أبو يعلى ميلاد الطوسي وأبو القاسم الرازي. قال أبو محمد: القول بأن بين اللوحين تبديلا كفر صحيح وتكذيب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقالت طائفة من الكيسانية بتناسح الأرواح، وبهذا يقول السيد الحميري الشاعر لعنه الله؛ ويبلغ الأمر بمن يذهب إلى هذا إلى أن يأخذ أحدهم البغل أو الحمار فيعذبه ويضربه ويعطشه ويجيعه على أن روح أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فيه، فاعجبوا لهذا الحمق الذي لا نظير له. وما الذي خص هذا البغل الشقي أو الحمار المسكين بنقله الروح إليه دون سائر البغال والحمير. وكذلك يفعلون بالعنز على أن روح أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- فيها ... (¬2) - ثم ذكر من سخافاتهم إلى أن قال: فهذه مذاهب الإمامية، وهي المتوسطة في الغلو من فرق الشيعة، وأما الغالية من الشيعة فهم قسمان: قسم أوجبت النبوة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - لغيره، والقسم الثاني أوجبوا الإلهية لغير الله عز ¬

(¬1) السير (10/ 543 - 544). (¬2) الملل والنحل (4/ 182).

وجل فلحقوا بالنصارى واليهود وكفروا أشنع الكفر، فالطائفة التي أوجبت النبوة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فرق؛ فمنهم الغرابية وقولهم إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان أشبه بعلي من الغراب بالغراب، وإن الله عز وجل بعث جبريل عليه السلام بالوحي إلى علي فغلط جبريل بمحمد ولا لوم على جبريل في ذلك لأنه غلط. وقالت طائفة منهم بل تعمد ذلك جبريل، وكفروه ولعنوه لعنهم الله. قال أبو محمد: فهل سمع بأضعف عقولا وأتم رقاعة من قوم يقولون إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان يشبه علي بن أبي طالب، فيا للناس أين يقع شبه ابن أربعين سنة من صبي ابن إحدى عشرة سنة حتى يغلط به جبريل عليه السلام، ثم محمد عليه السلام فوق الربعة، إلى الطول، قويم القناة، كث اللحية، أدلج العينين، ممتلي الساقين - صلى الله عليه وسلم -، قليل شعر الجسد، أفرع. وعليّ دون الربعة إلى القصر، منكب شديد الانكباب كأنه كسر ثم جبر، عظيم اللحية قد ملأت صدره من منكب إلى منكب إذ التحي (¬1) ثقيل العينين دقيق الساقين أصلع عظيم الصلع ليس في رأسه شعر إلا في مؤخره يسير، كثير شعر اللحية. فاعجبوا لحمق هذه الطبقة، ثم لو جاز أن يغلط جبريل -وحاشا لروح القدس الأمين-كيف غفل الله عز وجل عن تقويمه وتنبيهه؟ وتركه على غلطه ثلاثا وعشرين سنة، ثم أظرف من هذا كله، من أخبرهم بهذا الخبر؟ ومن خرفهم بهذه الخرافة وهذا لا يعرفه إلا من شاهد أمر الله تعالى لجبريل عليه السلام، ثم شاهد خلافه، فعلى هؤلاء لعنة الله ولعنة اللاعنين ولعنة الناس أجمعين ما دام لله في عالمه خلق. وفرقة قالت بنبوة علي، وفرقة قالت بأن ¬

(¬1) كذا في الأصل.

موقفه من الخوارج:

علي بن أبي طالب والحسن والحسين رضي الله عنهم وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد ابن علي والحسن بن محمد والمنتظر بن الحسن أنبياء كلهم. وفرقة قالت بنبوة محمد بن إسماعيل بن جعفر فقط، وهم طائفة من القرامطة. وفرقة قالت بنبوة علي وبنيه الثلاثة الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية فقط، وهم طائفة من الكيسانية، وقد حام المختار حول أن يدعي النبوة لنفسه، وسجع إسجاعا وأنذر بالغيوب عن الله، واتبعه على ذلك طوائف من الشيعة الملعونة. وقال بإمامة محمد بن الحنفية. وفرقة قالت بنبوة المغيرة بن سعيد مولى بجيلة بالكوفة، وهو الذي أحرقه خالد بن عبد الله القسري بالنار، وكان لعنه الله يقول: إن معبوده صورة رجل على رأسه تاج، وإن أعضاءه على عدد حرف الهجا؛ الألف للساقين ونحو ذلك مما لا ينطلق لسان ذي شعبة من دين به. تعالى الله عما يقول الكافرون علواً كبيراً. (¬1) موقفه من الخوارج: - له كتاب 'الفصل في الملل والأهواء والنحل' بيَّن فيه زيغ الفرق الضالة كالخوارج فشنع عليهم رحمه الله وبين زيف أصولهم، وتشتت جمعهم إلى طرائق قددا كل منها مناقضة للأخرى. (¬2) - قال فيه: من وافق الخوارج من إنكار التحكيم وتكفير أصحاب الكبائر والقول بالخروج على أئمة الجور وأن أصحاب الكبائر مخلدون في ¬

(¬1) الملل والنحل (4/ 183 - 184). (¬2) انظر الفصل (4/ 188 - 192).

النار وأن الإمامة جائزة في غير قريش فهو خارجي، وإن خالفهم فيما عدا ذلك مما اختلف فيه المسلمون خالفهم فيما ذكرنا فليس خارجيا. (¬1) وقال: ويكون من المتأولين قوم لا يعذرون ولا أجر لهم كما روينا من طريق البخاري نا عمر بن حفص بن غياث نا أبي نا الأعمش نا خيثمة نا سويد بن غفلة قال: قال علي سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «سيخرج قوم في آخر الزمان، أحداث الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة» (¬2). وروينا من طريق مسلم نا محمد بن المثنى نا محمد بن أبي عدي عن سليمان هو الأعمش عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر قوما يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس سيماهم التحالق هم شر الخلق -أو من شر الخلق- تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق. وذكر الحديث (¬3). قال أبو محمد: ففي هذا الحديث نص جلي بما قلنا وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر هؤلاء القوم فذمهم أشد الذم، وأنهم من شر الخلق وأنهم يخرجون في فرقة من الناس، فصح أن أولئك أيضا مفترقون وأن الطائفة المذمومة تقتلها أدنى الطائفتين المفترقتين إلى الحق. فجعل عليه السلام في الافتراق تفاضلا وجعل إحدى الطائفتين المفترقتين لها دنو من الحق وإن كانت الأخرى أولى به، ولم يجعل للثالثة شيئا ¬

(¬1) الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/ 113). (¬2) البخاري (12/ 350/6930) ومسلم (2/ 746 - 747/ 1066). (¬3) مسلم (2/ 745/1065).

موقفه من المرجئة:

من الدنو إلى الحق فصح أن التأويل يختلف؛ فأي طائفة تأولت في بغيتها طمسا لشيء من السنة كمن قام برأي الخوارج ليخرج الأمر عن قريش أو ليرد الناس إلى القول بإبطال الرجم أو تكفير أهل الذنوب أو استقراض المسلمين أو قتل الأطفال والنساء وإظهار القول بإبطال القدر أو إبطال الرؤية أو إلى أن الله تعالى لا يعلم شيئا إلا حتى يكون أو إلى البراءة عن بعض الصحابة أو إبطال الشفاعة أو إلى إبطال العمل بالسنن الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعا إلى الرد إلى من دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو إلى المنع من الزكاة أو من أداء حق من مسلم أو حق لله تعالى فهؤلاء لا يعذرون بالتأويل الفاسد لأنها جهالة تامة. (¬1) موقفه من المرجئة: قال في 'الفصل': غلاة المرجئية طائفتان إحداهما الطائفة القائلة بأن الإيمان قول باللسان وان اعتقد الكفر بقلبه فهو مؤمن عند الله عز وجل ولي له عز وجل من أهل الجنة، وهذا قول محمد بن كرام السجستاني وأصحابه وهو بخراسان وبيت المقدس، والثانية الطائفة القائلة أن الإيمان عقد بالقلب وإن أعلن الكفر بلسانه بلا تقية وعبد الأوثان أو لزم اليهودية أو النصرانية في دار الإسلام وعبد الصليب وأعلن التثليت في دار الإسلام ومات على ذلك فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله عز وجل ولي لله عز وجل من أهل الجنة. وهذا قول محرز جهم بن صفوان السمرقندي مولى بني راسب كاتب الحارث ابن سريج التميمي أيام قيامه على نصر بن سيار بخراسان وقول أبي الحسن ¬

(¬1) المحلى (11/ 97 - 98).

علي بن إسماعيل بن أبي اليسر الأشعري البصري وأصحابهما ... -إلى أن قال رحمه الله - ... وقالت طائفة من الكرامية: المنافقون مؤمنون مشركون من أهل النار. وقالت طائفة منهم أيضاً: من آمن بالله وكفر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فهو مؤمن كافر معاً ليس مؤمناً على الإطلاق ولا كافراً على الإطلاق. وقال مقاتل بن سليمان وكان من كبار المرجئة: لا يضر مع الإيمان سيئة جلت أو قلت أصلا، ولا ينفع مع الشرك حسنة أصلاً. (¬1) أحداث السنة الثامنة والخمسين بعد الأربعمائة (458 هـ) جاء في البداية والنهاية: ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وأربعمائة في يوم عاشوراء أغلق أهل الكرخ دكاكينهم وأحضروا نساء ينحن على الحسين كما جرت به عادتهم السالفة في بدعتهم المتقدمة الخالفة، فحين وقع ذلك أنكرته العامة، وطلب الخليفة أبا الغنائم وأنكر عليه ذلك، فاعتذر إليه بأنه لم يعلم به، وأنه حين علم أزاله، وتردد أهل الكرخ إلى الديوان يعتذرون من ذلك، وخرج التوقيع بكفر من سب الصحابة وأظهر البدع. (¬2) التعليق: هذا حين كان عامة المسلمين لهم دين وعقيدة، أما الآن فلا دين ولا عقيدة، شغلهم الشاغل هو الانهماك في الملذات مهما كانت حراما أو حلالا، ففتن الناس في بيوتهم بأنواع الملاهي التي سلطها أعداء الله على المسلمين ¬

(¬1) الفصل (4/ 204 - 205). (¬2) البداية والنهاية (12/ 99).

الإمام القاضي أبو يعلى (458 هـ)

وشغلوهم بها فكيف يكون هؤلاء آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر فضلا عن الغيرة على عقيدتهم إلا من شاء الله إخلاصه فهو مخلص وقلبه يشتعل نارا لما يرى من منكرات. الإمام القاضي أبو يعلى (¬1) (458 هـ) محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد، أبو يعلى المعروف بابن الفراء البغدادي الحنبلي. ولد سنة ثمانين وثلاثمائة. حدث عن أبي القاسم بن حبابة وعلي بن معروف البزاز، وعلي بن عمر الحربي وخلق. وحدث عنه الخطيب البغدادي وأبو الوفاء بن عقيل وأبو علي الأهوازي. قال أبو بكر الخطيب: كتبنا عنه وكان ثقة. قال ابن الجوزي: كان من سادات الثقات، وشهد عند قاضي القضاة أبي عبد الله بن ماكولا والدامغاني، فقبلا شهادته وتولى النظر في الحكم بحريم دار الخلافة، وكان إماما في الفقه، له التصانيف الحسان الكثيرة، في مذهب أحمد، ودرس وأفتى سنين، وانتهى إليه المذهب. وكان متعففا، نزه النفس، كبير القدر، ذا عبادة وتهجد، وملازمة للتصنيف، مع الجلالة والمهابة، ولم تكن له يد طولى في معرفة الحديث. توفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، ودفن في مقبرة باب حرب. ¬

(¬1) السير (18/ 89 - 92) وتاريخ بغداد (2/ 256) وطبقات الحنابلة (2/ 193 - 230) والأنساب (4/ 351 - 352) والكامل في التاريخ (10/ 52) والوافي بالوفيات (3/ 7 - 8) والبداية والنهاية (12/ 101) وشذرات الذهب (3/ 306 - 307).

موقفه من المشركين:

موقفه من المشركين: - قال شيخ الإسلام: قال القاضي في سابِّ النبي - صلى الله عليه وسلم -: فإنه لا تقبل توبته، ويتحتم قتله، ولا يخير الإمام في قتله وتركه؛ لأن قذف النبي - صلى الله عليه وسلم - حق لميت فلا يسقط بالتوبة كقذف الآدمي. (¬1) - وقال أيضا: قال القاضي في 'المجرد' وغيره من أصحابنا: والردة تحصل بجحد الشهادتين، وبالتعريض بسب الله تبارك وتعالى، وبسب النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) آثاره السلفية: 'الرد على الباطنية'. (¬3) موقفه من الرافضة: قال القاضي أبو يعلى: الذي عليه الفقهاء في سب الصحابة: إن كان مستحلا لذلك كفر، وإن لم يكن مستحلا فسق ولم يكفر، سواء كفرهم أو طعن في دينهم مع إسلامهم. (¬4) آثاره السلفية: كتاب 'إثبات إمامة الخلفاء الأربعة'. (¬5) موقفه من الجهمية: آثاره السلفية: لقد ألف الشيخ جملة من الكتب في العقيدة السلفية كل واحد منها يعتبر ردا على طائفة معينة من أهل البدع. وقد ذكر ابنه في الطبقات جملة ¬

(¬1) الصارم (276). (¬2) الصارم (309). (¬3) طبقات الحنابلة (2/ 205). (¬4) الصارم (572). (¬5) ذكره ابنه في طبقات الحنابلة (2/ 205).

من عقائد الشيخ لكنها مفرقة فمن شاء رجع إليها. وإليك الآن آثاره السلفية. 1 - 'الرد على المجسمة'. (¬1) 2 - 'القطع على خلود الكفار في النار'. (¬2) 3 - 'الكلام في الاستواء'. (¬3) 4 - 'الرد على الكرامية'. (¬4) 5 - 'الرد على الأشعرية'. (¬5) 6 - 'إبطال التأويلات لأخبار الصفات'. (¬6) ولشيخ الإسلام عليه ملاحظات ذكرها في درء التعارض. في كتابه 'إبطال التأويلات' بعد المقدمة وذكر مواقف الناس من الصفات: واعلم أنه لا يجوز رد هذه الأخبار على ما ذهب إليه جماعة من المعتزلة ولا التشاغل بتأويلها على ما ذهب إليه الأشعرية والواجب حملها على ظاهرها وأنها صفات لله تعالى لا تشبه سائر الموصوفين بها من الخلق، ولا نعتقد التشبيه فيها لكن على ما روي عن شيخنا وإمامنا أبي عبد الله أحمد ابن محمد بن حنبل وغيره من أئمة أصحاب الحديث أنهم قالوا في هذه ¬

(¬1) ذكره في طبقات الحنابلة (2/ 205) والذهبي في السير (18/ 91). (¬2) ذكره ابنه في طبقات الحنابلة (2/ 205). (¬3) ذكره في طبقات الحنابلة (2/ 205) والذهبي في السير (18/ 91). (¬4) ذكره في طبقات الحنابلة (2/ 205) والذهبي في السير (18/ 91). (¬5) ذكره ابنه في طبقات الحنابلة (2/ 205). (¬6) ذكره ابن تيمية في درء التعارض (5/ 237) والذهبي في السير (18/ 90).

موقفه من الخوارج:

الأخبار: أمروها كما جاءت، فحملوها على ظاهرها في أنها صفات لله تعالى لا تشبه سائر الموصوفين. (¬1) موقفه من الخوارج: - قال: وقد اختلف الناس في الفاسق الملي، فذهب الخوارج إلى أن الفاسق يكون كافرا بكل معصية، ومنهم من يكفره بالكبائر دون غيرها. وحكي عن الحسن وعمرو بن عبيد أنه يكون منافقا. وقالت المعتزلة: "لا يكون مؤمنا ولا كافرا، ولكن يكون فاسقا"، فسلبوه اسم الإيمان في الجملة وجعلوا له منزلة بين المنزلتين، وقيل: إن أول من قال هذا عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وبه سموا معتزلة. وقالت الأشعرية: "هو مؤمن كامل الإيمان"، وبنوا هذا على أن الإيمان عندهم هو التصديق، وأن ترك الطاعات وارتكاب المحظورات لا يؤثر في التصديق. فالدلالة على بطلان قول الخوارج في قولهم: "يكون كافرا" أشياء، منها: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬2)، فأثبت أن غير الشرك مغفور، فلو كانت الكبائر كفرا لم تكن مغفورة لأنها كفر. وأيضا قوله تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ ¬

(¬1) إبطال التأويلات (1/ 43 - 44). (¬2) النساء الآيتان (48) والآية (116).

وَالْعِصْيَانَ} (¬1)، فجعل المعاصي ضروبا وعطف بعضها على بعض فوجب أن يكون بعضها ليس بكفر، وإلا لم يكن للعطف معنى ويكون تكرارا وعطف الشيء على نفسه. وقال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كبائر مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (¬2)، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} (¬3)، وهذا يدل على أنه يغفر له ما دون الكبائر، وعند بعضهم هو كافر بجميع ذلك. وأيضا فإن الله تعالى أوجب على القاذف الجلد إذا لم يأت بالشهود، وأوجب رد شهادته وسماه فاسقا، ولو كان ذلك كفرا لم ينه عن رد شهادته لأن ذلك من الأحكام التي لا تصح إلا مع الحياة، والكفر يمنع بقاء الحياة. وكذلك أمر الله تعالى من يرمي زوجته باللعان، ولو كان ذلك كفرا لم يصح ذلك من جهات: أحدها: أنه كان يجب أن لا يكون راميا لزوجته لأنها إن كانت زانية فقد بانت منه على قولهم وإن لم تكن كذلك فقد بانت برميه لها وذلك كفر، فكان يجب أن يكون راميا لأجنبية. الثاني: ما كان يجب أن تقف الفرقة بينهما على اللعان لأن أحدهما قد كفر وارتد على قولهم، فكان يجب أن تكون قد بانت منه وفي ذلك خروج ¬

(¬1) الحجرات الآية (7). (¬2) النساء الآية (31). (¬3) النجم الآية (32).

عن الإجماع. الثالث: أن القصد باللعان إذا لم يكن ولد إزالة الفراش وقد زال على قولهم فلا وجه للتعبد باللعان. وأيضا الحديث المشهور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - رواه أبو سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أهل النار الذين هم أهلها لا يموتون ولا يحيون، ولكن أناس تمسهم النار بذنوبهم -أو قال- بخطاياهم، ليميتهم إماتة حتى إذا صاروا فحما أذن في الشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فيلقون على أنهار الجنة فيقال: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة في حميل السيل». (¬1) وأيضا فإنه إجماع الصحابة وذلك أنهم نسبوا الكفر إلى مانع الزكاة وقاتلوه وحكموا عليه بالردة، ولم يفعلوا مثل ذلك بمن ظهر منه الكبائر، ولو كان الجميع كفرا لسووا بين الجميع. وأيضا فإن القول بالكفر في جميع المعاصي يوجب تكفير الأنبياء صلوات الله عليهم، لأنه قد وجد منهم وقوع الصغائر. وأيضا فإن الكفر يختص بأحكام لا توجد في مرتكب الكبائر منها انقطاع التوارث بين المسلم والكافر، ومنها امتناع المناكحة ولا يثبت ذلك بين مرتكب الكبائر وبين من لم يرتكبها. فإن منعوا ذلك وقالوا أثبت ذلك فالإجماع يحجهم لأنه قد كان في أيام الخلفاء من يقدم على الشراب والفسق فيقام عليه الحد ولم يفرق بينه وبين امرأته، ولا منعوه من التوارث وظهر ¬

(¬1) أخرجه أحمد (3/ 11،20،79) ومسلم (1/ 172/184) وابن ماجه (2/ 1441/4309). وأصله عند البخاري (1/ 98 - 99/ 22).

ذلك في أيام علي عليه السلام ولم يقض بذلك فدل على فساد قولهم. واحتجوا في ذلك بأشياء، منها: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} (¬1)، فدل على أن كل مكلف ليس بمؤمن فهو كافر. والجواب: أن الآية تدل على أن بعضا من خلقه كافر وبعضه مؤمن، وهذا لا يمنع أن يكون هناك ثالث كما قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} (¬2)، ولم يمنع ذلك أن يكون فيهم من يمشي على أكثر من ذلك وهو الشنظان، وعلى أنا نقول بظاهرها وأن الخلق مؤمن وكافر، وعندنا هذا مؤمن في الحقيقة لكنه ناقص الإيمان ونقصانه لا يسلبه الاسم لأن إقدامه على المعاصي لا يخرجه من كونه مؤمنا بإيمانه لأن أحد الأمرين لا ينفي الآخر. واحتج بقوله تعالى: {وهل نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)} (¬3) فدل على أن الذي يجازى بالنار هو الكفور وهذا ممن يجازى به. والجواب: أنه محمول على الجزاء الذي تقدم ذكره وهو قصة سبأ لأنه ¬

(¬1) التغابن الآية (2). (¬2) النور الآية (45). (¬3) سبأ الآية (17).

جل وعز قال: {فأرسلنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)} (¬1). وقد أجرى سبحانه العادة بأنه لا يجازي بالجزاء المعجل في دار الدنيا على جهة الاستئصال إلا من كفر وكذب بالرسل. واحتج بقوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)} (¬2)، فدل على أنه لا منزلة للمكلف إلا هذين وكذلك قوله تعالى: {قال هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} (¬3). والجواب: أن الفاسق لا يمتنع أن يكون شاكرا، فليس هو بخارج عن هذين الأمرين، لأن إقدامه على الزنا والقتل لا يخرجه من كونه شاكرا لنعمه لأن أحد الأمرين لا ينافي الآخر. واحتج بقوله تعالى: {ولله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)} (¬4)، فدل على أن ترك الحج كفر. ¬

(¬1) سبأ الآيتان (16و17). (¬2) الإنسان الآية (3). (¬3) النمل الآية (40). (¬4) آل عمران الآية (97).

والجواب: أنه محمول على جحد الإيجاب للحج، وهذا هو الظاهر، لأن الذي تقدم إيجابه فوجب أن يكون ذلك كفرا بما أوجب عليه، يبين صحة هذا أنه لا فائدة لتخصيصه الحج بذلك وغيره من الطاعات إذا تركه كفرا عنده. واحتج بقوله تعالى: {ومن لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} (¬1) وظاهر هذا يوجب إكفار أئمة الجور وهذا قولنا. والجواب: أن المراد بتلك اليهود، يبين ذلك أنه جل وعز ذكر اليهود فقال: {فإن جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} إلى قوله: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} ثم قال بعد: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} ثم لم يقطع ذكرهم بل قال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إلى قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)} {وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} (¬2). فإذا كانت القصة أولها وآخرها في اليهود حملت عليهم. واحتج بقوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ ¬

(¬1) المائدة الآية (44). (¬2) المائدة الآيات (42 - 46).

الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)} (¬1) دل على أن كل من يدخل النار لابد من أن يكون كافرا. والجواب: أنه محمول على من خفت موازينه بكفره أنهم في جهنم خالدون. واحتج بقوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (¬2). فنرى أن كل من يسود وجهه لابد من أن يكون كافرا، لأن أهل النار لابد أن يكون هذا وصفهم. والجواب: أنا لا نسلم أن أهل الكبائر لابد أن تسود وجوههم لأنهم معرضون للغفران. وهكذا الجواب عن قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)} (¬3). وذلك أنا لا نقطع عليهم بالغبرة والقترة حتى يدخلوا تحت اسم الكفر. ¬

(¬1) المؤمنون الآيات (102 - 105). (¬2) آل عمران الآية (106). (¬3) عبس الآيات (38 - 42).

واحتج بقوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)} (¬1)، فدل على أن كل من يدخل النار من الفساق لا يكون إلا كافرا. والجواب: أن المراد بالفاسق ها هنا الكافر، لأن الفاسق الملي لا يأوي النار عندنا. واحتج بقوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)} (¬2). والجواب: أنا لا نسلم أنه معرض عن ذكر ربه لوجود الإيمان الذي فيه، فعلم أن المراد به الكافر. واحتج بقوله: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)} (¬3) فدل أنه لا فاسق إلا كافر. ¬

(¬1) السجدة الآيات (18 - 20). (¬2) طه الآية (124). (¬3) النور الآية (55).

والجواب: أن الآية واردة فيمن ارتد، لأنه قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ثم قال: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)} (¬1). ومن هذه حاله فهو كافر. واحتج بقوله تعالى مخبرا عن إبليس: {فبعزتك لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} (¬2). فدل على أن من لم يكن مخلصا فهو كافر. والجواب: أنه لا يدل على ذلك، بل يجوز أن يكون مؤمنا فاسقا. واحتج بأنه إذا كان عز وجل قد أمر بالصلاة والزكاة كأمره بالمعرفة والتوحيد وتصديق الرسول ثم كان مضيع هذه الأمور كافرا، كذلك مضيع الفرائض، ولأن منكر أحدهما يكفر كما يكفر منكر الآخر. والجواب: أن هذه المعرفة وتصديق الرسل هو أصل الإيمان وبه كان مؤمنا في صدر الإسلام وإنما زيد فيه بالعبادات فهو أعظم من غيره من المأمورات فلا يجب أن يلحق بما دونه كما لم يجب أن تلحق الكبائر بالصغائر في باب التأثم والوعيد، ومن قال أن قدرهما في العقاب سواء لزمه أن يقول أن قدرهما في الثواب سواء، ولوجب أن لا يتفاضل المطيعون في الطاعات ¬

(¬1) النور الآية (55). (¬2) ص الآيتان (82و83).

وقد قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} (¬1). واحتج بأن جميع المعاصي طاعة لإبليس، لأنه يدعو إلى جميعها وطاعته عبادة له ولا يكون ذلك إلا كفرا. والجواب: أنه ليس إذا كان طاعة له كان عبادة لأن العبادة هي الخضوع والتعظيم والإجلال، وهذا غير موجود ممن أطاع إبليس يبين صحة هذا أنه ليس كل طاعة لله هي عبادة له كالنظر في معرفة الله قبل لزومها، ولأن هذا يوجب أن تكون طاعة الولد لوالده عبادة له لأنه قد أطاعه، وأحد لا يقول هذا. واحتج بأن ولاية الله تعالى من جهة الدين لابد أن تكون إيمانا وجب أن تكون كل عداوة من جهة الدين لابد من أن تكون كفرا والفسق عداوة من جهة الدين. والجواب: إنا لسنا نقول في كل طاعة أنها ولاية، ولا في كل معصية أنها عداوة، ولهذا لا نقول في معاصي الأنبياء الصغائر أنها عداوة لله ولا في طاعة الكافر أنها ولاية، وإنما صار بذلك من أهل الثواب والعقاب من جهة الدين. واحتج بأنه قد ثبت أن سلم النبي - صلى الله عليه وسلم - سلم للمؤمنين وحربه حرب للمؤمنين، ثم ثبت أن سلمه إيمان كذلك سلم المؤمنين فيجب أن يكون ¬

(¬1) الحديد الآية (10).

موقفه من المرجئة:

حربهم كحرب النبي كفرا. قالوا: "وهذا يوجب أن سائر البغاة ومن يحارب المؤمنين أن يكون كافرا"، قالوا: "وهو مذهبنا". والجواب: أن حرب النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان كفرا لا لأنه ذنب ومعصية، لكن لأنه استخفاف به والاستخفاف بالرسول كفر، وحرب المؤمن استخفاف به والاستخفاف بالمؤمن لا يجب أن يكون كفرا، فلهذا فرقنا فيهما. (¬1) موقفه من المرجئة: قال في مسائل الإيمان: إن حقيقة الإيمان في اللغة وأصل الوضع: تصديق القلب المتضمن للعلم بالمصدق به. وقد ذكر أبو عبد الله بن بطة في كتاب الإبانة الصغير فقال: الإيمان اسم ومعناه التصديق، قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)} (¬2)، يريد بمصدق لنا. وأما حده في الشرع فهو جميع الطاعات الباطنة والظاهرة، فالباطنة أعمال القلب وهو تصديق القلب، والظاهرة هي أفعال البدن الواجبات والمندوبات، وقد نص أحمد على هذا في مواضع: فقال في رواية أبي الحارث: السنة أن تقول الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. وكذلك قال في رواية محمد بن موسى: الإيمان قول وعمل يزيد ¬

(¬1) مسائل الإيمان (323 - 353). (¬2) يوسف الآية (17).

وينقص، وإذا عملت الحسن زاد وإذا ضيعت نقص، والإيمان لا يكون إلا بعمل. وكذلك قال في رواية المروذي: قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (¬1)، وقال سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} (¬2)، وهذا من الإيمان، فالإيمان قول وعمل والزيادة في العمل والنقصان في الزنا وإذا زنا وسرق. وكذلك قال في كتابه إلى أبي عبد الرحيم محمد بن أحمد بن الجواح الجوزجاني رواية أبي بكر المروزي ومحمد بن حاتم المروزي: من زعم أن الإيمان الإقرار، فما يقول في المعرفة؟ هل يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار؟ وهل يحتاج أن يكون مصدقا بما عرف؟ فإن زعم أنه يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار فقد زعم أنه من شيئين. وإن زعم أنه يحتاج أن يكون مقرا مصدقا بما عرف فهو من ثلاثة أشياء فإن جحد وقال لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق فقد قال عظيما ولا أحسب أحدا يدفع المعرفة والتصديق كذلك العمل مع هذه الأشياء، وقد سأل وفد عبد القيس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان فقال: «شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا الخمس من المغنم» (¬3)، فجعل ذلك كله من الإيمان. وقال ¬

(¬1) التوبة الآية (11). (¬2) البقرة الآية (43). (¬3) سيأتي تخريجه ضمن مواقف ابن الصلاح سنة (643هـ).

النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الحياء من الإيمان» (¬1)، وقال: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» (¬2)، وقال: «البذاذة من الإيمان» (¬3)، وقال: «الإيمان بضع وسبعون بابا فأدناه إماطة الأذى عن الطريق وأرفعها قول لا إله إلا الله» (¬4) مع أشياء كثيرة. وذكر الكلام بطوله. وهذا ظاهر من كلام أحمد. وإن الإيمان الشرعي جميع الطاعات الباطنة والظاهرة، الواجبة والمندوبة، وهذا قول أكثر المعتزلة. وقال منهم أبو هاشم والجبائي: إن ذلك مختص بالواجبات دون التطوع. وقال ابن قتيبة في غريب القرآن: من صفاته المؤمن إلى أن قال: وأما إيمان العبد بالله فتصديقه به قولا وعقدا وعملا. قال: وقد سمى الله الصلاة إيمانا، فقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (¬5) يعنى صلاتكم إلى بيت المقدس. وقالت الأشعرية: "الإيمان هو التصديق في اللغة والشريعة جميعا وأن الأفعال والأعمال من شرائع الإيمان لا من نفس الإيمان". وقال المرجئة والكرامية: "الإيمان هو التصديق باللسان، وهو الإقرار ¬

(¬1) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي إسحاق الفزاري سنة (186هـ). (¬2) أحمد (509) وأبو داود (5/ 60/4689) والترمذي (3/ 466/1162) وقال: "حسن صحيح" والحاكم (1/ 3) وابن حبان (الإحسان 2/ 227/479) من حديث أبي هريرة وفي الباب عن عائشة وابن عباس. (¬3) أبو داود (4/ 393 - 394/ 41619) ابن ماجه (2/ 1379/4118) والحاكم (1/ 9) من حديث أبي أمامة. (¬4) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي إسحاق الفزاري سنة (186هـ). (¬5) البقرة الآية (143).

بالشهادتين دون طمأنينة القلب". ويفيد هذا أن الأفعال ليست من الإيمان ولا من شرائعه وأنه إذا أتى بالشهادتين فهو كامل الإيمان وإن لم يأت بالأفعال. وقال الجهمية: "الإيمان هو المعرفة بالله فحسب". والأدلة على أن الطاعات إيمان قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (¬1) فبين أن جميع ما تقدم مما به يصير المؤمن مؤمنا. وقول تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (¬2) إلى آخر الآيات، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} وإنما عنى به الصلاة التي استقبلوا بها بيت المقدس، وقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)} (¬3) فدل ¬

(¬1) الأنفال الآيتان (2و3). (¬2) المؤمنون الآيتان (1و2). (¬3) التوبة الآية (71).

على أن كل ذلك مما يصير المؤمن مؤمنا. فإن قيل: ذكر الصلاة والزكاة والأمر بالمعروف من شرائع الإيمان يعني من أحكامه الواجب فعلها فيه لا أنها من نفس الإيمان أو نحمل ذلك على أنه سماه إيمانا على طريق المجاز أو نحمل ذلك على أنها من الإيمان يعني دالة عليه لأنه يستدل بها على تصديقه. قيل: أما قولك إنها من شرائعه فإن أردت به أنها من واجباته فهو معنى قولنا إنها من الإيمان وأنه بوجودها يكمل إيمانه وبعدمها ينقص، فيحصل الخلاف بيننا في عبارة يبين هذا أن شرائع الشيء منه ولهذا يقال شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - وشريعة موسى عليه السلام وذلك عبارة عن جميع أوامره ونواهيه. وأما قولهم إنا نحمله على أنه دال على الإيمان فلا يصح لأن هذه الأفعال توجد من الكافر ولا تدل على إيمانه. وأما حمله على المجاز فالأصل في كلام الله تعالى الحقيقة والمجاز يحتاج إلى دليل ولأنه قال في بعضها: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}، وهذا تأكيد بوصفه الإيمان بذلك. ويدل عليه أيضا ما روي بالأسانيد الصحاح ما يدل على ذلك فروى أحمد بإسناده في كتاب الإيمان عن النعمان بن مرة أن رجلا ذكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بحياء فقال: «إن الإيمان ذو شعب وإن الحياء شعبة من الإيمان». (¬1) وروى أيضا بإسناده عن ابن عباس قال: إن وفد عبد القيس لما قدموا ¬

(¬1) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي إسحاق الفزاري سنة (186هـ).

على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالإيمان بالله عز وجل قال: «أتدرون ما الإيمان بالله؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا الخمس من المغنم» (¬1) ... فإن قيل: هذه الأخبار كلها تدل على أن الخصال المذكورة من شرائع الإيمان لا أنها من نفس الإيمان أو على أنها دالة عليه. أو نقول سماها إيمانا على طريق المجاز، أو نحمل ذلك على أنها من الإيمان يعنى دالة عليه لأنه يستدل بها على تصديقه. قيل: قد أجبنا عن هذا فيما تقدم. فإن قيل: نحمل قوله: «الإيمان بضع وسبعون خصلة» أراد به الإسلام فعبر عن الإسلام بالإيمان وأحدهما غير الآخر. ألا ترى إلى قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا} أَسْلَمْنَا (¬2) وفي حديث جبريل: ما الإيمان؟ ما الإسلام؟ فنحمل الخبر على الإسلام الذي لم يحصل معه طمأنينة القلب. ويحتمل أن يكون قوله: «بضع وسبعون خصلة» يرجع إلى التصديق بمخبراته بالعلم به وبصفاته الأزلية وما يجوز عليه والاقرار بنبوة رسوله والعلم به وقد يبلغ ذلك بضع وسبعون خصلة، وعلى أن قوله: «أعلاها قول لا إله إلا الله» ليس فيه قول باللسان فنحن نحمله على الشهادة بالقلب والاعتراف ¬

(¬1) سيأتي تخريجه ضمن مواقف ابن الصلاح سنة (643هـ). (¬2) الحجرات الآية (14).

بالقلب. قيل: أما حمله على الإسلام الذي لم يحصل معه طمأنينة القلب لا يصح لأن ذلك ليس بإسلام لأن الإسلام لا يحصل بعدم التصديق. أما قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} معناه استسلمنا لتسلم أموالنا. وليس المراد به الإسلام يدل على ذلك أن هذه الآية نزلت في جهينة ومزينة وأسلم وغفار وأشجع كانت منازلهم بين مكة والمدينة فكانوا إذا مرت بهم سرية من سرايا النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: آمنا ليأمنوا على دمائهم وأموالهم. فلما سار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الحديبية مر بهم فاستنفرهم معه فلم يسيروا معه فنزلت فيهم الآية. وعلى أن الإسلام في الشرع عبارة عن الشهادتين ولهذا لو حلف لا أسلمت فشهد الشهادتين حنث. وإذا كان عبارة عن ذلك لم يصح حمل الخبر عليه. أما قوله: إنني أحمله على الإيمان الذي هو التصديق دون القول باللسان والفعل بالبدن فلا يصح أيضا لأنه قال: «أعلاها قول لا إله إلا الله»، وإطلاق الأمر بالشهادتين في الشرع ينصرف إلى القول باللسان فلهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله». (¬1) وقوله: «إذا لقيتم عدوكم من المشركين فادعوهم إلى شهادة أن لا إله ¬

(¬1) البخاري (13/ 311/7284و7285) ومسلم (1/ 51 - 52/ 20) وأبو داود (2/ 198/1556) والترمذي (5/ 5 - 6/ 2607) والنسائي (7/ 88/3980) من حديث أبي هريرة.

إلا الله» (¬1)، وغير ذلك، فإنه ينصرف إلى القول باللسان، كذلك ها هنا وعلى أن التصديق لا يتنوع والخبر يقتضي أقوالا وأفعالا متنوعة. فإن قيل: فاختلاف العدد في هذه الأخبار يدل على أنها متناقضة. قيل: أجاب أبو عبيد عن هذا في كتاب الإيمان فقال: نزول الفرائض بالإيمان متفرقا فكلما نزلت واحدة ألحق رسول الله عددها بالإيمان حتى جاوز ذلك سبعين خلة وليست هذه الزيادة بخلاف ما قبله إنما تلك دعائم وأصول، وهذه فروعها وزيادات في شعب الإيمان، فنرى -والله أعلم- إن هذا القول هو آخر ما وصف به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإيمان لأن العدد تناها إليه وبه كملت خصاله والمصدق له قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (¬2) فروى طارق بن شهاب أن اليهود قالوا لعمر بن الخطاب رحمة الله عليه: إنكم لتقرؤون آية لو نزلت فينا لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، فذكر هذه الآية فقال عمر: إني لأعلم حيث أنزلت وأي يوم أنزلت، أنزلت بعرفة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقف بعرفة (¬3).اهـ (¬4) ¬

(¬1) أحمد (352) ومسلم (3/ 1356 - 1358/ 1731) وأبو داود (3/ 83 - 85/ 2613) والترمذي (4/ 138 - 139/ 1617) وابن ماجه (2/ 953 - 954/ 2858). (¬2) المائدة الآية (3). (¬3) البخاري (1/ 141/45) ومسلم (4/ 2312/3017) والترمذي (5/ 233/3043) وقال: "حسن صحيح". النسائي (5/ 277/3002). (¬4) (ص.151 - 184).

البيهقي (458 هـ)

البيهقي (¬1) (458 هـ) الإمام الحافظ، العلامة، أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى أبو بكر البيهقي، شيخ خراسان وصاحب التصانيف. وبيهق هي قرى مجتمعة بنواحي نيسابور على عشرين فرسخا منها. ولد سنة أربع وثمانين وثلاثمائة. سمع من أبي الحسن محمد بن الحسين العلوي وأبي عبد الله الحاكم وأبي عبد الرحمن السلمي وخلق سواهم. وروى عنه أبو إسماعيل الأنصاري بالإجازة، وأبو زكريا بن مندة الحافظ، وأبو عبد الله الفراوي، وطائفة سواهم. قال عبد الغافر بن إسماعيل: أبو بكر الفقيه، الحافظ الأصولي، الدين، الورع، واحد زمانه في الحفظ، وفرد أقرانه في الإتقان والضبط، وقال: كان البيهقي على سيرة العلماء، قانعا باليسير متجملا في زهده وورعه. قال أبو المعالي الجويني: ما من فقيه شافعي إلا وللشافعي عليه منة إلا أبا بكر البيهقي، فإن المنة له على الشافعي لتصانيفه في نصرة مذهبه. توفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، ودفن ببيهق. موقفه من الجهمية: خلف آثارا سلفية جيدة غير أنه هو في حد ذاته لم يتخذ السلفية منهجا له، فالأشعرية هي الغالبة عليه وأحيانا يميل إلى مذهب السلف كما هو واضح في كتابه الأسماء والصفات. فليكن القارئ على حذر منه، ¬

(¬1) شذرات الذهب (3/ 304 - 305) والسير (18/ 163 - 170) والأنساب (1/ 438) والكامل في التاريخ (10/ 52) ووفيات الأعيان (1/ 75 - 76) وتذكرة الحفاظ (3/ 1132 - 1135) والوافي بالوفيات (6/ 354) والبداية والنهاية (12/ 100).

وليستفد من كتبه ما يناسب العقيدة السلفية. ولقد أشبع الأستاذ الفاضل: أحمد بن عطية الزهراني في كتابه: 'البيهقي وموقفه من الإلهيات' القول عنه. وكتبه التي في العقيدة: 1 - 'الأسماء والصفات' طبع بتحقيق حامل راية الجهمية وقد عبث فيه كما يحلو له، وقد طبع مؤخرا في مجلدين، بتحقيق عبد الله محمد الحاشدي وقدم له الشيخ مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله. 2 - 'الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد'. طبع. 3 - 'البعث والنشور'. حقق رسالة علمية في الجامعة الإسلامية. 4 - 'إثبات عذاب القبر'. قال الزهراني ويوجد من هذا الكتاب نسخة مخطوطة بمكتبة أحمد الثالث ضمن مكتبة المتحف بإستنبول ضمن مجموعة رقمها: 4288. 5 - 'الجامع لشعب الإيمان' وهو كتاب كبير ملأه البيهقي بكل ما هب ودب من صحيح وسقيم ودجل وخرافة وأشعرية. وقد وزع رسائل علمية في الجامعة الإسلامية. 6 - 'دلائل النبوة' وقد طبع والحمد لله. 7 - 'الزهد الكبير' وقد طبع. قال البيهقي في 'كتاب الاعتقاد' القرآن كلام الله وكلام الله صفة من صفات ذاته، وليس شيء من صفات ذاته مخلوقا ولا محدثا ولا حادثا. قال

تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)} (¬1) فلو كان القرآن مخلوقا لكان مخلوقا بكن ويستحيل أن يكون قول الله لشيء بقول لأنه يوجب قولا ثانيا وثالثا فيتسلسل وهو فاسد، وقال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3)} (¬2) فخص القرآن بالتعليم لأنه كلامه وصفته، وخص الإنسان بالتخليق لأنه خلقه ومصنوعه، ولولا ذلك لقال خلق القرآن والإنسان، وقال الله تعالى: {وكلم اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} (¬3) ولا يجوز أن يكون كلام المتكلم قائما بغيره، وقال الله تعالى: {* وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} (¬4) الآية، فلو كان لا يوجد إلا مخلوقا في شيء مخلوق لم يكن لاشتراط الوجوه المذكورة في الآية معنى لاستواء جميع الخلق في سماعه عن غير الله فبطل قول الجهمية أنه مخلوق في غير الله، ويلزمهم في قولهم أن الله خلق كلاما في شجرة كلم به موسى أن يكون من سمع كلام الله من ملك أو نبي أفضل في سماع الكلام من موسى، ويلزمهم أن تكون الشجرة هي المتكلمة بما ذكر الله أنه كلم به موسى وهو قوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} (¬5) وقد أنكر الله تعالى قول ¬

(¬1) النحل الآية (40). (¬2) الرحمن الآيات (1 - 3). (¬3) النساء الآية (164). (¬4) الشورى الآية (51). (¬5) طه الآية (14).

موقفه من الخوارج:

المشركين {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)} (¬1)، ولا يعترض بقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)} (¬2) لأن معناه قول تلقاه عن رسول كريم كقوله تعالى: {فأجره حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (¬3) ولا بقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا} (¬4) لأن معناه سميناه قرآنا، وهو كقوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)} (¬5) وقوله: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} (¬6) وقوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} (¬7) فالمراد أن تنزيله إلينا هو المحدث لا الذكر نفسه، وبهذا احتج الإمام أحمد. (¬8) موقفه من الخوارج: لقد ضمن كتاب قتال أهل البغي من سننه أبوابا في الخوارج منها: باب ما جاء في قتال أهل البغي والخوارج. (¬9) باب لا يبدأ الخوارج بالقتال حتى يسألوا ما نقموا ثم يؤمروا بالعود ثم ¬

(¬1) المدثر الآية (25) .. (¬2) التكوير الآية (19). (¬3) التوبة الآية (6). (¬4) الزخرف الآية (3). (¬5) الواقعة الآية (82). (¬6) النحل الآية (62). (¬7) الأنبياء الآية (2). (¬8) الفتح (13/ 454) بتصرف من الحافظ وانظر الاعتقاد للبيهقي (ص.94 - 98). (¬9) السنن الكبرى (8/ 168 - 172).

موقفه من المرجئة:

يؤذنوا بالحرب. (¬1) باب أهل البغي إذا فاؤوا لم يتبع مدبرهم ولم يقتل أسيرهم ولم يجهز على جريحهم ولم يستمتع بشيء من أموالهم. (¬2) باب الرجل يقتل واحدا من المسلمين على التأويل أو جماعة غير ممتنعين يقتلون واحدا كان عليهم القصاص. (¬3) باب القوم يظهرون رأي الخوارج لم يحل به قتالهم. (¬4) باب الخوارج يعتزلون جماعة الناس ويقتلون واليهم من جهة الإمام العادل قبل أن ينصبوا إماما ويعتقدوا ويظهروا حكما مخالفا لحكمه كان في ذلك عليهم القصاص. (¬5) باب المقتول من أهل البغي يغسل ويصلى عليه. (¬6) موقفه من المرجئة: جاء في كتاب الاعتقاد: باب: القول في الإيمان. قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ ¬

(¬1) السنن الكبرى (8/ 178 - 181). (¬2) السنن الكبرى (8/ 181 - 183). (¬3) السنن الكبرى (8/ 183). (¬4) السنن الكبرى (8/ 184). (¬5) السنن الكبرى (8/ 184 - 185). (¬6) السنن الكبرى (8/ 185).

الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (¬1). فأخبر أن المؤمنين هم الذين جمعوا هذه الأعمال التي بعضها يقع في القلب، وبعضها باللسان، وبعضها بهما وسائر البدن، وبعضها بهما أو بأحدهما وبالمال، وفيما ذكره الله من هذه الأعمال تنبيه على ما لم يذكره، وأخبر بزيادة إيمانهم بتلاوة آياته عليهم، وفي كل ذلك دلالة على أن هذه الأعمال وما نبّه بها عليه من جوامع الإيمان، وأن الإيمان يزيد، وإذا قَبِلَ الزيادة قبل النقصان. وبهذه الآية وما في معناها من الكتاب والسنة ذهب أكثر أصحاب الحديث إلى أن اسم الإيمان لجميع الطاعات فرضها ونفلها، وأنها على ثلاثة أقسام: فقسم يُكفَّر بتركه، وهو اعتقاد ما يجب اعتقاده، والإقرار بما اعتقده. وقسم يُفسَّق بتركه أو يعصي ولا يكفر به إذا لم يجحده، وهو مفروض الطاعات كالصلاة والزكاة والصيام والحج واجتناب المحارم. وقسم يكون بتركه مخطئاً للأفضل غير فاسق ولا كافر، وهو ما يكون من العبادات تطوعاً. واختلفوا في كيفية تسمية جميع ذلك إيماناً. فمنهم من قال: جميع ذلك إيمان بالله تبارك وتعالى وبرسوله - صلى الله عليه وسلم -، لأن الإيمان في اللغة هو التصديق، وكل طاعة تصديق لأن أحداً لا يطيع من لا ¬

(¬1) الأنفال الآيات (2 - 4).

يُثبِتُهُ ولا يثبت أمره. ومنهم من قال: الاعتقاد والإقرار إيمان بالله وبرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وبسائر الطاعات إيمان لله ولرسوله، فيكون التصديق بالله إثباته والاعتراف بوجوده، والتصديق له قبول شرائعه واتباع فرائضه على أنها صواب وحكمة وعدل، وكذلك التصديق بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والتصديق له، وقد ذكرنا بيانه ودليله في كتاب الإيمان، وفي كتاب الجامع، ونحن نذكر هاهنا طرفاً من ذلك. أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ ومحمد بن موسى، قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا إبراهيم بن مرزوق، حدثنا أبو عامر، عن إسرائيل، عن سِماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أرأيت الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (¬1). (¬2) ورواه أيضا البراء بن عازب أتمّ منه. (¬3) وفي هذا دلالة على أنه سمّى صلاتهم إلى بيت المقدس إيماناً، وإذا ثبت ذلك في الصلاة، ثبت ذلك في سائر الطاعات، وقد سمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطهور إيماناً. فقال في حديث أبي مالك الأشعري عنه: «الطُّهور شطر ¬

(¬1) البقرة الآية (143). (¬2) أخرجه أحمد (1/ 295) وأبو داود (5/ 59 - 60/ 4680) والترمذي (5/ 192/2964). (¬3) أخرجه: أحمد (4/ 283) والبخاري (1/ 128 - 129/ 40) ومسلم (1/ 374/525) والترمذي (2/ 169 - 170/ 340) والنسائي (1/ 262 - 263/ 487) وابن ماجه (1/ 322 - 323/ 1010). أخرجه: أحمد (5/ 342 و343 - 344) ومسلم (1/ 203/223) والترمذي (5/ 501/3517) وقال: "هذا حديث صحيح". والنسائي (5/ 8/2436) وفي الكبرى (2/ 5/2217) وابن ماجه (1/ 102 - 103/ 280).

الإيمان) ... » (¬1) ثم ساقه بسنده. (¬2) وقال: والأحاديث في تسمية شرائع الإسلام إيماناً، وأن الإيمان والإسلام عبارتان عن دين واحد إذا كان الإسلام حقيقة، ولم يكن بمعنى الاستسلام، وأن الإيمان يزيد وينقص سوى ما ذكرنا كثيرة، وفيما ذكرنا هاهنا كفاية. وقد روينا في ذلك عن الخلفاء الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ثم عن عبد الله بن رواحة، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن مسعود، وعمّار بن ياسر، وأبي الدرداء، وعبد الله بن عباس، وأبي هريرة، وعثمان بن حُنيف، وعُمير بن حبيب، وجندب، وعقبة بن عامر رضي الله عنهم. ثم من التابعين وأتباعهم، عن جماعة يكثر تعدادهم. وهو قول فقهاء الأمصار رحمهم الله: مالك بن أنس، والأوزاعي، وسفيان بن سعيد الثوري، وسفيان بن عيينة، وحمّاد بن زيد، وحمّاد بن سلمة، ومحمد بن إدريس الشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي، وغيرهم من أهل الحديث. ورويناه عن قتيبة بن سعيد، عن أبي يوسف القاضي. وكل ذلك مذكور في كتاب الإيمان. (¬3) وقال أيضا: أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ قال: حدثني الزبير بن ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (5/ 342 و343 - 344) ومسلم (1/ 203/223) والترمذي (5/ 501/3517) وقال: "هذا حديث صحيح". والنسائي (5/ 8/2436) وفي الكبرى (2/ 5/2217) وابن ماجه (1/ 102 - 103/ 280). (¬2) الاعتقاد للبيهقي (ص.287 - 290). (¬3) الاعتقاد للبيهقي (ص.295 - 296).

عبد الواحد الحافظ بأسدآباد قال: حدثني يوسف بن عبد الأحد قال: حدثنا الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. قال الشيخ رحمه الله: وأما الاستثناء في الإيمان، فقد كان يستثني جماعة من الصحابة والتابعين وأتباعهم، وإنما رجع استثناؤهم إلى كمال الإيمان وإلى بقائهم على إيمانهم في ثاني الحال، فأما أصل الإيمان، فكانوا لا يشكون في وجوده في الحال، وبأن يتغير حال إنسان في الإيمان، ولم يمنع كونه مؤمن بأنه في الحال قبل التغير، والله أعلم. وقد أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثني أبو أحمد الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن شادل الهاشمي، حدثنا أحمد بن نصر المقرئ الزاهد، حدثنا عبد الله بن عبد الجبار الحمصي، حدثنا بقية بن الوليد، عن تمام بن نجيح قال: سأل رجل الحسن البصري عن الإيمان فقال: الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن، وإن كنت تسألني عن قول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (¬1). فوالله ما أدري منهم أنا أم لا؟ ¬

(¬1) الأنفال الآيات (2 - 4).

فلم يتوقف الحسن في أصل إيمانه في الحال، وإنما توقف في كماله الذي وعد الله -عز وجل- لأهله الجنة بقوله: {لهم دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)} (¬1). أخبرنا أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي، أخبرنا بشر بن أحمد المهرجاني، حدثنا داود بن الحسين البيهقي، سمعت محمد بن مقاتل المروزي وسعيد بن يعقوب، قالا: حدثنا المؤمل بن إسماعيل قال: سمعت الثوري يقول: قد خالفنا المرجئة في ثلاث: نحن نقول: الإيمان قول وعمل، وهم يقولون: الإيمان قول بلا عمل. ونحن نقول: يزيد وينقص، وهم يقولون: لا يزيد ولا ينقص. ونحن نقول: أهل القبلة عندنا مؤمنون وأما عند الله فالله أعلم، وهم يقولون: نحن عند الله مؤمنون. فسفيان الثوري رحمه الله أخبر عن أهل السنة أنهم لا يقطعون بكونهم مؤمنين عند الله يعني: في ثاني الحال، لأن الله تعالى يعلم الغيب، فهو عالم بما يَصير إليه حال العبد ثم يموت عليه، ونحن لا نعلمه فَنَكِل الأمر فيما لا نعلمه إلى عالمه خوفاً من سوء العاقبة، ونستثني على هذا المعنى، ونرجو من الله تعالى أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، والأحاديث التي وردت في جريان القلم بما هو كائن، ورجوع كل إنسان إلى ما كتب له من الشقاوة والسعادة، وموته عليه، مانعة من قطع القول بما يكون في العاقبة، ¬

(¬1) الأنفال الآية (4).

موقفه من القدرية:

حاملة على الاستثناء، وعلى الخوف من تبدل الحالة، والله يعصمنا من ذلك بفضله وسعة رحمته. (¬1) موقفه من القدرية: قال في كتاب الاعتقاد له (باب القول في خلق الأفعال): قال الله عزوجل: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (¬2)، فدخل فيه الأعيان والأفعال من الخير والشر. وقال: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (¬3). فنفى أن يكون خالق غيره، ونفى أن يكون شيء سواه غير مخلوق. فلو كانت الأفعال غير مخلوقة، لكان الله سبحانه خالق بعض الأشياء دون جميعها، وهذا خلاف الآية. ومعلوم أن الأفعال أكثر من الأعيان، فلو كان الله خالق الأعيان، والناس خالقي الأفعال، لكان خلق الناس أكثر من خلقه، ولكانوا أتم قوة منه، وأولى بصفة المدح من ربهم سبحانه، ولأن الله تعالى قال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} (¬4). فأخبر أن أعمالهم مخلوقة لله عزوجل. أخبرنا أبو عبد الله الحافظ: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب: ثنا محمد ابن عبيد الله بن المنادي: ثنا يونس بن محمد: ثنا شيبان، عن قتادة في قوله: ¬

(¬1) الاعتقاد للبيهقي (ص.296 - 299). (¬2) غافر الآية (62). (¬3) الرعد الآية (16). (¬4) الصافات الآية (96).

{أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95)} (¬1). قال: الأصنام. {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} (¬2). قال: خلقكم وخلق ما تعملون بأيديكم. قلنا: ولأن الله تعالى قال: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)} (¬3). فامتدح بالقولين جميعا، فكما لا يخرج شيء من علمه، لا يخرج شيء غيره من خلقه. ولأنه قال: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} (¬4) فأخبر أن قولهم وسرهم وجهرهم خلقه، وهو بجميع ذلك عليم. وقال: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43)} (¬5). كما قال: {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44)} (¬6). فكما كان مميتا محييا، بأن خلق الموت والحياة، كان مضحكا مبكيا، بأن خلق الضحك والبكاء. وقد يضحك الكافر سرورا بقتل المسلمين، وهو منه كفر، وقد يبكي حزنا بظهور المسلمين، وهو منه كفر. فثبت أن الأفعال كلها خيرها وشرها، صادرة عن خلقه وإحداثه إياها. (¬7) ¬

(¬1) الصافات الآية (95). (¬2) الصافات الآية (96). (¬3) الأنعام الآية (101). (¬4) الملك الآيتان (13و14). (¬5) النجم الآية (43). (¬6) النجم الآية (44). (¬7) الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد (ص.142 - 143).

السهروردي (458 سنة وفاة البيهقي وهو من أقرانه)

وله فصل في الرد على القدرية في كتابه شعب الإيمان طبع في رسالة مستقلة. السهروردي (¬1) (458 سنة وفاة البيهقي وهو من أقرانه) الإمام أبو عمرو عثمان بن أبي الحسن بن الحسين السهروردي. موقفه من الجهمية: له من الآثار السلفية: كتاب في أصول الدين، ذكره ابن القيم ونقل منه ما يتعلق بمسألة الاستواء، وكلامه من أجود ما يكون. قال عنه الإمام ابن القيم في اجتماع الجيوش: له كتاب في أصول الدين قال في أوله: الحمد لله الذي اصطفى الإسلام على الأديان. وزين أهله بزينة الإيمان. وجعل السنة عصمة أهل الهداية. ومجانبتها إمارة أهل الغواية، وأعز أهلها بالاستقامة، ووصل عزهم بالقيامة، وصلى الله على محمد وسلم وعلى آله أجمعين. وبعد. فإن الله تعالى لما جعل الإسلام ركن الهدى، والسنة سبب النجاة من الردى، ولم يجعل من ابتغى غير الإسلام دينا هاديا، ولا من انتحل غير الإسلام نحلة ناجيا، جمعت أصول السنة الناجي أهلها التي لا يسع الجاهل نكرها، ولا العالم جهلها، ومن سلك غيرها من المسالك. فهو في أودية البدع هالك. إلى أن قال: ودعاني إلى جمع هذا المختصر في اعتقاد السنة على مذهب ¬

(¬1) اجتماع الجيوش الإسلامية (ص.169).

الشافعي وأصحاب الحديث، إذ هم أمراء العلم، وأئمة الإسلام قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «تكون البدع في آخر الزمان محنة، فإذا كان كذلك فمن كان عنده علم فليظهره، فإن كاتم العلم يومئذ ككاتم ما أنزل الله على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -» (¬1)، ثم ساق الكلام في الصفات إلى أن قال: فصل: ومن صفاته تبارك وتعالى فوقيته واستواؤه على عرشه بذاته، كما وصف نفسه في كتابه، وعلى لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلا كيف. ودليله قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (¬2). وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} (¬3). وقوله تعالى في خمس مواضع: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}. وقوله تعالى في قصة عيسى عليه السلام: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (¬4). وساق آيات العلو ثم قال: وعلماء الأمة وأعيان الأئمة من السلف لم يختلفوا في أن الله سبحانه مستو على عرشه، وعرشه فوق سبع سمواته، ثم ذكر كلام عبد الله بن المبارك: نعرف ربنا بأنه فوق سبع سمواته على عرشه بائن من خلقه، وساق قول ابن خزيمة: من لم يقر بأن الله تعالى فوق عرشه ¬

(¬1) ابن عساكر (54/ 80) من طريق خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن معاذ مرفوعا بلفظ: «إذا ظهرت البدع، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فمن كان عنده علم فلينشره فإن كاتم العلم يومئذ ككاتم ما أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم -». والحديث ضعفه الشيخ الألباني رحمه الله (انظر الضعيفة 1506). (¬2) طه الآية (5). (¬3) الفرقان الآية (59). (¬4) آل عمران الآية (55).

ملك المغرب أبو بكر بن عمر (462 هـ)

قد استوى فوق سبع سمواته، فهو كافر. بإسناده من كتاب معرفة علوم الحديث، ومن كتاب تاريخ نيسابور للحاكم ... ثم قال: وإمامنا في الأصول والفروع أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي -رحمه الله تعالى ورضي عنه- احتج في كتابه المبسوط على المخالف في مسألة إعتاق الرقبة المؤمنة في الكفارة، وأن الرقبة الكافرة لا يصح التكفير بها بخبر معاوية بن الحكم السلمي -رضي الله عنه-، وأنه أراد أن يعتق الجارية السوداء عن الكفارة، وسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ليعرف أنها مؤمنة أم لا، فقال لها: «أين ربك؟» فأشارت إلى السماء، إذ كانت أعجمية، فقال لها: «من أنا؟» فأشارت إليه وإلى السماء، تعني أنك رسول الله الذي في السماء، فقال: «أعتقها فإنها مؤمنة» (¬1) فحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسلامها وإيمانها لما أقرت بأن ربها في السماء، وعرفت ربها بصفة العلو والفوقية. هذا لفظه. (¬2) ملك المغرب أبو بكر بن عمر (¬3) (462 هـ) أبو بكر بن عمر اللمتوني البربري ظهر بعد الأربعين وأربعمائة. بايعه الفقيه عبد الله بن ياسين، ولقبوه بأمير المسلمين، وقام معه طائفة من قومه (لمتونة) وطائفة من قبيلة جدالة وحرضهم ابن ياسين على الجهاد وسماهم ¬

(¬1) أحمد (5/ 447) ومسلم (1/ 381 - 382/ 537) وأبو داود (1/ 570 - 571/ 930) والنسائي (3/ 19 - 22/ 1217) وفي الكبرى (1/ 362/1141) من حديث معاوية بن الحكم. (¬2) اجتماع الجيوش (169 - 171). (¬3) وفيات الأعيان (7/ 113) والكامل (9/ 618 - 622) وسير أعلام النبلاء (18/ 425 - 430) وتاريخ الإسلام (حوادث 461 - 470/ص.79 - 84) والبداية والنهاية (12/ 74و143).

موقفه من المشركين:

المرابطين. وقام بالجهاد ودانت له الصحراء. ثم ضاقت الصحراء بهم وأرادوا إعلان الحق وأن يسيروا إلى الأندلس للغزو، فأتوا السوس (وعاصمتها طنجة) فحاربهم أهلها فقتل ابن ياسين وانهزم أبو بكر بن عمر. ثم انتصر بعد ذلك. وتمكن من سجلماسة أيضا. فاستناب أبو بكر عليها يوسف بن تاشفين ابن عمه. ورجع هو إلى الصحراء وخطب لنفسه. وقال صاحب "المغرب عن سيرة ملك المغرب": إن أبا بكر بن عمر كان رجلا ساذجا خير الطباع مؤثرا لبلاده المغرب غير ميال إلى الرفاهية. توفي رحمه الله بالصحراء في سنة اثنتين وستين وأربعمائة، فتملك بعده ابن تاشفين. موقفه من المشركين: قال الذهبي: ظهر بعد الأربعين وأربع مئة، فذكر علي بن أبي فنون قاضي مراكش أن جوهرا -رجلا من المرابطين- قدم من الصحراء إلى بلاد المغرب ليحج- والصحراء برية واسعة جنوبي فاس وتلمسان، متصلة بأرض السودان، ويذكر لمتونة أنهم من حمير نزلوا في الجاهلية بهذه البراري، وأول ما فشا فيهم الإسلام في حدود سنة أربع مئة، ثم آمن سائرهم، وسار إليهم من يذكر لهم جملا من الشريعة، فحسن إسلامهم -ثم حج الفقيه المذكور، وكان دينا خيرا، فمر بفقيه يقرئ مذهب مالك -ولعله أبو عمران الفاسي بالقيروان- فجالسه وحج، ورجع إليه، ثم قال: يا فقيه ما عندنا في الصحراء من العلم إلا الشهادتين والصلاة في بعضنا. قال: خذ معك من يعلمهم الدين. قال جوهر: نعم وعلي كرامته. فقال لابن أخيه: يا عمر اذهب مع هذا. فامتنع، فقال لعبد الله بن ياسين: اذهب معه. فأرسله. وكان عالما قوي

النفس، فأتيا لمتونة، فأخذ جوهر بزمام جمل ابن ياسين تعظيما له، فأقبلت المشيخة يهنئونه بالسلامة، وقالوا: من ذا؟ قال: حامل السنة. فأكرموه، وفيهم أبو بكر بن عمر، فذكر لهم قواعد الإسلام، وفهمهم، فقالوا: أما الصلاة والزكاة فقريب، وأما من قتل يقتل، ومن سرق يقطع، ومن زنى يجلد، فلا نلتزمه، فاذهب، فأخذ جوهر بزمام راحلته، ومضيا. وفي تلك الصحاري المتصلة بإقليم السودان قبائل ينسبون إلى حمير، ويذكرون أن أجدادهم خرجوا من اليمن زمن الصديق، فأتوا مصر، ثم غزوا المغرب مع موسى بن نصير، ثم أحبوا الصحراء وهم: لمتونة، وجدالة، ولمطة، وإينيصر، ومسوفة. قال: فانتهيا إلى جدالة، قبيلة جوهر، فاستجاب بعضهم، فقال ابن ياسين للذين أطاعوه: قد وجب عليكم أن تقاتلوا هؤلاء الجاحدين، وقد تحزبوا لكم، فانصبوا راية وأميرا. قال جوهر: فأنت أميرنا. قال: لا، أنا حامل أمانة الشرع، بل أنت الأمير. قال: لو فعلت لتسلطت قبيلتي، وعاثوا، قال: فهذا أبو بكر بن عمر رأس لمتونة، فسر إليه، واعرض عليه الأمر، إلى أن قال: فبايعوا أبا بكر، ولقبوه: أمير المسلمين، وقام معه طائفة من قومه وطائفة من جدالة، وحرضهم ابن ياسين على الجهاد، وسماهم المرابطين، فثارت عليهم القبائل، فاستمالهم أبو بكر وكثر جمعه، وبقي أشرار، فتحيلوا عليهم حتى زربوهم في مكان، وحصروهم، فهلكوا جوعا، وضعفوا، فقتلوهم، واستفحل أمر أبي بكر بن عمر، ودانت له الصحراء، ونشأ حول ابن ياسين جماعة فقهاء وصلحاء، وظهر الإسلام هناك. وأما جوهر، فلزم الخير والتعبد، ورأى أنه لا وضع له، فتألم، وشرع في إفساد الكبار، فعقدوا له مجلسا، ثم

أوجبوا قتله بحكم أنه شق العصا، فقال: وأنا أحب لقاء الله. فصلى ركعتين، وقتل. وكثرت المرابطون، وقتلوا، ونهبوا، وعاثوا، وبلغت الأخبار إلى ذلك الفقيه بما فعل ابن ياسين، فاسترجع وندم، وكتب إليه ينكر عليه كثرة القتل والسبي، فأجاب يعتذر بأن هؤلاء كانوا جاهلية يزنون، ويغير بعضهم على بعض، وما تجاوزت الشرع فيهم. وفي سنة خمسين وأربع مئة قحطت بلادهم، وماتت مواشيهم، فأمر ابن ياسين ضعفاءهم بالمسير إلى السوس وأخذ الزكاة، فقدم سجلماسة منهم سبع مئة، وسألوا الزكاة، فجمعوا لهم مالا، فرجعوا به، ثم ضاقت الصحراء بهم، وأرادوا إعلان الحق، وأن يسيروا إلى الأندلس للغزو، فأتوا السوس، فحاربهم أهلها، فقتل عبد الله بن ياسين، وانهزم أبو بكر بن عمر، ثم حشد وجمع وأقبل، فالتقوه، فانتصر، وأخذ أسلابهم، وقوي جأشه، ثم نازل سجلماسة، وطالب أهلها بالزكاة، فبرز لحربهم مسعود الأمير، وطالت بينهم الحرب مرات، ثم قتلوا مسعودا، وملكوا سجلماسة، فاستناب أبو بكر عليها يوسف بن تاشفين ابن عمه، فأحسن السيرة، وذلك في سنة ثلاث وخمسين وأربع مئة، ورجع الملك أبو بكر إلى الصحراء، ثم قدم سجلماسة، وخطب لنفسه، واستعمل عليها ابن أخيه، وجهز جيشه مع ابن تاشفين، فافتتح السوس، وكان ابن تاشفين ذا هيئة شجاعا، سائسا. توفي الملك أبو بكر اللمتوني بالصحراء في سنة اثنتين وستين وأربع مئة، فتملك بعده ابن تاشفين، ودانت له الأمم. (¬1) ¬

(¬1) السير (18/ 425 - 428).

ابن عبد البر (463 هـ)

ابن عبد البر (¬1) (463 هـ) الإمام، شيخ الإسلام، حافظ المغرب، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي. ولد سنة ثمان وستين وثلاثمائة. حدث عن خلف بن القاسم وعبد الوارث بن سفيان وعبد الله بن محمد بن عبد المؤمن وسعيد بن نصر، وعدة. وحدث عنه أبو محمد بن حزم، والحافظ أبو عبد الله الحميدي، وأبو علي الغساني. قال أبو الوليد الباجي: لم يكن بالأندلس مثل أبي عمر بن عبد البر في الحديث، وقال: أبو عمر أحفظ أهل المغرب. وقال الحميدي: أبو عمر فقيه حافظ مكثر، عالم بالقراءات وبالخلاف، وبعلوم الحديث والرجال، قديم السماع. وقال الذهبي: كان إماما دينا، ثقة، متقنا، علامة، متبحرا، صاحب سنة واتباع. وقال: كان في أصول الديانة على مذهب السلف، لم يدخل في علم الكلام، بل قفا آثار مشايخه رحمهم الله. من تصانيفه كتاب 'التمهيد' و'الاستذكار' و'الاستيعاب' و'جامع بيان العلم' وغيرهما كثير. وقال ابن حزم عن التمهيد: لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله فكيف أحسن منه. توفي بشاطبة سنة ثلاث وستين وأربعمائة عن خمس وتسعين سنة وخمسة أيام، رحمه الله. ¬

(¬1) السير (18/ 153 - 163) وترتيب المدارك (2/ 352 - 353) ووفيات الأعيان (7/ 66 - 72) وتذكرة الحفاظ (3/ 1128 - 1132) والبداية والنهاية (12/ 111) والديباج المذهب (2/ 367 - 370) وشذرات الذهب (3/ 314 - 316).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: - جاء في التمهيد: مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب، أو ورق بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن مثل هذا، إلا مثلا بمثل، فقال له معاوية: ما أرى بهذا بأسا، فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية؟ أنا أخبره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويخبرني عن رأيه لا أساكنك أرضا أنت بها، ثم قدم أبو الدرداء على عمر فذكر ذلك له، فكتب عمر إلى معاوية أن لا يبيع ذلك إلا مثلا بمثل، وزنا بوزن. (¬1) ثم ساق أبو عمر بسنده أن عبادة أنكر على معاوية شيئا فقال: لا أساكنك بأرض أنت بها ورحل إلى المدينة فقال له عمر: ما أقدمك؟ فأخبره فقال: ارجع إلى مكانك فقبح الله أرضا لست فيها ولا أمثالك، وكتب إلى معاوية: لا إمارة لك عليه. قال أبو عمر: فقول عبادة: لا أساكنك بأرض أنت بها، وقول أبي الدرداء، على ما في حديث زيد بن أسلم يحتمل أن يكون القائل ذلك قد خاف على نفسه الفتنة لبقائه بأرض ينفذ فيها في العلم قول خلاف الحق عنده، وربما كان ذلك منه أنفة لمجاورة من رد عليه سنة علمها من سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برأيه، وقد تضيق صدور العلماء عند مثل هذا، وهو عندهم عظيم: رد السنن بالرأي. وجائز للمرء أن يهجر من خاف الضلال عليه، ولم يسمع منه، ولم ¬

(¬1) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي الدرداء سنة (32هـ).

يطعه، وخاف أن يضل غيره، وليس هذا من الهجرة المكروهة؛ ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر الناس أن لا يكلموا كعب بن مالك حين أحدث في تخلفه عن تبوك ما أحدث، حتى تاب الله عليه (¬1)، وهذا أصل عند العلماء في مجانبة من ابتدع، وهجرته، وقطع الكلام معه. وقد حلف ابن مسعود أن لا يكلم رجلا رآه يضحك في جنازة: أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى، قال: حدثنا أحمد بن سعيد، قال: حدثنا عبد الملك بن بحر، قال: حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا العباس بن الوليد، قال: حدثنا سفيان عن عبد الرحمن بن حميد الرؤاسي، عن رجل من عبس، أن ابن مسعود رأى رجلا يضحك في جنازة، فقال: تضحك وأنت في جنازة؟ والله لا أكلمك أبدا. وغير نكير أن يجهل معاوية ما قد علم أبو الدرداء وعبادة؛ فإنهما جليلان من فقهاء الصحابة وكبارهم. (¬2) - وقال رحمه الله عقب إيراده لحديث: «إن الله يرضى لكم ثلاثا، ويسخط لكم ثلاثا، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم، ويسخط لكم: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال» (¬3): وفيه الحض على الاعتصام والتمسك بحبل الله في حال اجتماع وائتلاف، وحبل الله في هذا الموضع ¬

(¬1) أحمد (3/ 456 - 459) والبخاري (8/ 436/4677) ومسلم (4/ 2120 - 2128/ 2769) وأخرجه أبو داود (2/ 652/2202) والترمذي (5/ 263 - 264/ 3102) والنسائي (6/ 464 - 465/ 3423) مختصرا. (¬2) فتح البر (1/ 178 - 179). (¬3) أحمد (2/ 327) ومسلم (3/ 1340/1715) عن أبي هريرة.

فيه قولان: أحدهما: كتاب الله، والآخر: الجماعة -ولا جماعة إلا بإمام. وهو -عندي- معنى متداخل متقارب، لأن كتاب الله يأمر بالألفة، وينهى عن الفرقة، قال الله -عزوجل-: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} (¬1) الآية. وقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (¬2).اهـ (¬3) - قال أبو عمر: ليس أحد من خلق الله إلا وهو يوخذ من قوله، ويترك، إلا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لا يترك من قوله، إلا ما تركه هو ونسخه، قولا أو عملا، والحجة فيما قال - صلى الله عليه وسلم -، وليس في قول غيره حجة ... (¬4) - قال أبو عمر: يقال لمن قال بالتقليد: لم قلت به وخالفت السلف في ذلك فإنهم لم يقلدوا؟ فإن قال: قلدت لأن كتاب الله لا علم لي بتأويله، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم أحصها، والذي قلدته قد علم ذلك، فقلدت من هو أعلم مني. قيل له: أما العلماء إذا أجمعوا على شيء من تأويل الكتاب أو حكاية عن سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو اجتمع رأيهم على شيء فهو الحق لا شك فيه، ولكن قد اختلفوا فيما قلدت فيه بعضهم دون بعض، فما حجتك في تقليد بعضهم دون بعض وكلهم عالم؟ ولعل الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه، فإن قال: "قلدته لأني أعلم أنه على صواب". قيل له: علمت ذلك بدليل من كتاب الله أو سنة أو إجماع؟ فإن قال: "نعم" أبطل ¬

(¬1) آل عمران الآية (105). (¬2) آل عمران الآية (103). (¬3) فتح البر (1/ 120). (¬4) فتح البر (9/ 336).

التقليد، وطولب بما ادعاه من الدليل، وإن قال: "قلدته لأنه أعلم مني" قيل له: فقلد كل من هو أعلم منك، فإنك تجد من ذلك خلقا كثيرا، ولا تخص من قلدته إذ علتك فيه أنه أعلم منك، فإن قال: "قلدته لأنه أعلم الناس" قيل له: فإنه إذا أعلم من الصحابة، وكفى بقول مثل هذا قبحا. فإن قال: "أنا أقلد بعض الصحابة" قيل له: فما حجتك في ترك من لم تقلد منهم؟ ولعل من تركت قوله منهم أفضل ممن أخذت بقوله، على أن القول لا يصح لفضل قائله، وإنما يصح بدلالة الدليل عليه. وقد ذكر ابن مزين عن عيسى بن دينار قال: عن القاسم عن مالك قال: ليس كلما قال رجل قولا وإن كان له فضل يتبع عليه، لقول الله عز وجل: {الذين يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (¬1) فإن قال: "قصري وقلة علمي يحملني على التقليد" قيل له: أما من قلد فيما ينزل به من أحكام شريعته عالما يتفق له على علمه فيصدر في ذلك عما يخبره فمعذور، لأنه قد أدى ما عليه، وأدى ما لزمه فيما نزل به لجهله، ولا بد له من تقليد عالم فيما جهله لإجماع المسلمين أن المكفوف يقلد من يثق بخبره في القبلة، لأنه لا يقدر على أكثر من ذلك، ولكن من كانت هذه حاله هل تجوز له الفتيا في شرائع دين الله فيحمل غيره على إباحة الفروج وإراقة الدماء واسترقاق الرقاب وإزالة الأملاك ويصيرها إلى غير ما كانت في يديه بقول لا يعرف صحته ولا قام الدليل عليه، وهو مقر أن قائله يخطئ ويصيب، وأن مخالفه في ¬

(¬1) الزمر الآية (18).

موقفه من الرافضة:

ذلك ربما كان المصيب فيما خالفه فيه؟ فإن أجاز الفتوى لمن جهل الأصل والمعنى لحفظه الفروع لزمه أن يجيزه للعامة، وكفى بهذا جهلا وردا للقرآن وقال الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (¬1) وقال: {أتقولون عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)} (¬2) وقد أجمع العلماء على أن ما لم يتبين ولم يتيقن فليس بعلم وإنما هو ظن والظن لا يغني من الحق شيئا. (¬3) موقفه من الرافضة: - قال ابن عبد البر: وكل من أحدث في الدين ما لا يرضاه الله ولم يأذن به الله، فهو من المطرودين عن الحوض، المبعدين عنه -والله أعلم، وأشدهم طردا من خالف جماعة المسلمين، وفارق سبيلهم مثل الخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها، فهؤلاء كلهم يبدلون. (¬4) - قال أبو عمر: الخلفاء الراشدون المهديون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وهم أفضل الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬5) - قال أبو عمر: ومن أوكد آلات السنن المعينة عليها، والمؤدية إلى حفظها، معرفة الذين نقلوها عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس كافة، وحفظوها عليه، ¬

(¬1) الإسراء الآية (36). (¬2) الأعراف الآية (28). (¬3) جامع بيان العلم وفضله (2/ 994 - 996). (¬4) التمهيد (20/ 262) وانظر فتح البر (1/ 200 - 201). (¬5) جامع بيان العلم وفضله (2/ 1168).

وبلغوها عنه، وهم صحابته الحواريون الذين وعوها وأدوها ناصحين محسنين، حتى كمل بما نقلوه الدين، وثبتت بهم حجة الله تعالى على المسلمين، فهم خير القرون، وخير أمة أخرجت للناس، ثبتت عدالة جميعهم بثناء الله عزوجل عليهم وثناء رسوله عليه السلام، ولا أعدل ممن ارتضاه الله لصحبة نبيه ونصرته، ولا تزكية أفضل من ذلك، ولا تعديل أكمل منه. قال الله تعالى ذكره: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (¬1) الآية. فهذه صفة من بادر إلى تصديقه والإيمان به، وآزره ونصره، ولصق به وصحبه، وليس كذلك جميع من رآه ولا جميع من آمن به، وسترى منازلهم من الدين والإيمان، وفضائل ذوي الفضل والتقدم منهم، فالله قد فضل بعض النبيين على بعض، وكذلك سائر المسلمين، والحمد لله رب العالمين، وقال عزوجل: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (¬2) ... الآية. (¬3) ¬

(¬1) الفتح الآية (29). (¬2) التوبة الآية (100). (¬3) مقدمة الاستيعاب (1/ 1 - 2).

موقفه من الصوفية:

موقفه من الصوفية: - قال رحمه في الاستذكار: وفي حديث سويد بن النعمان (¬1) إباحة اتخاذ الزاد في السفر، وفي ذلك رد على الصوفية الذين يقولون: لا ندخر بعد، فإن غدا له رزق جديد. (¬2) - وقال في التمهيد: وفي هذا الحديث دليل على أن الصالحين والفضلاء لا يستغنون عن الزاد في سفرهم، وهو يبطل مذهب الصوفية الذين لا يدخرون لغد. (¬3) موقفه من الجهمية: هذا الإمام أجمع الناس على علمه وحفظه وتبحره في كل الفنون، وأصبح مرجعا لمن جاء بعده، وترك تراثا قيما شكره عليه الأولون والآخرون، لما فيه من جواهر غالية. وركز في كتابين له على بيان العقيدة السلفية: جامع بيان العلم وفضله وهو من أحسن المراجع في هذا الباب، وكتاب التمهيد ذكر فيه عقيدة كاملة بحججها وبراهينها، وشبه المبتدعة وردها والجواب عنها. وسألخص ما جاء في التمهيد حتى يكون أنموذجا ومثالا لما يقول. وذلك في سياق حديث أبي هريرة «ينزل ربنا إلى السماء ¬

(¬1) وهو "أنه خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر حتى إذا كانوا بالصهباء نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى العصر، ثم دعا بالأزواد فلم يؤت إلا بالسويق، فأمر به فثري، فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكلنا ... ". أخرجه: أحمد (3/ 462) والبخاري (1/ 412/209) والنسائي (1/ 117/186) وابن ماجه (1/ 165/492). (¬2) الاستذكار (2/ 151). (¬3) فتح البر (3/ 379).

الدنيا ... » الحديث). (¬1) - قال أبو عمر: وفيه دليل على أن الله عز وجل في السماء على العرش من فوق سبع سموات كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم: إن الله عز وجل في كل مكان، وليس على العرش. والدليل على صحة ما قاله أهل الحق في ذلك، قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (¬2) ثم ساق الآيات التي تدل على استواء الله على عرشه ثم قال: وهذه الآيات كلها واضحات في إبطال قول المعتزلة، وأما ادعاؤهم المجاز في الاستواء وقولهم في تأويل استوى: استولى، فلا معنى له لأنه غير ظاهر في اللغة ومعنى الاستيلاء في اللغة: المغالبة والله لا يغالبه ولا يعلوه أحد وهو الواحد الصمد. ومن حق الكلام أن يحمل على حقيقته حتى تتفق الأمة أنه أريد به المجاز إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا إلا على ذلك وإنما يوجه كلام الله عز وجل إلى الأشهر والأظهر من وجوهه، ما لم يمنع من ذلك ما يجب له التسليم، ولو ساغ ادعاء المجاز لكل مدع ما ثبت شيء من العبارات، وجل الله عز وجل عن أن يخاطب إلا بما تفهمه العرب في معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين، والاستواء معلوم في اللغة ومفهوم وهو العلو والارتفاع على الشيء والاستقرار والتمكن فيه. قال أبو عبيدة في قوله تعالى: {استوى} قال: علا، قال: وتقول العرب: استويت ¬

(¬1) تقدم من حديث أبي هريرة ضمن مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ). (¬2) طه الآية (5).

فوق الدابة واستويت فوق البيت وقال غيره: استوى أي انتهى شبابه واستقر فلم يكن في شبابه مزيد. قال أبو عمر: الاستواء: الاستقرار في العلو وبهذا خاطبنا الله عز وجل وقال: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} (¬1) وقال: {واستوت عَلَى الْجُودِيِّ} (¬2) وقال: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} (¬3) وقال الشاعر: فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة ... وقد حلق النجم اليماني فاستوى وهذا لا يجوز أن يتأول فيه أحد: استولى: لأن النجم لا يستولي. وقد ذكر النضر بن شميل وكان ثقة مأمونا جليلا في علم الديانة واللغة قال: حدثني الخليل وحسبك بالخليل قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان من أعلم من رأيت، فإذا هو على سطح فسلمنا فرد علينا السلام وقال لنا: استووا! فبقينا متحيرين ولم ندر ما قال. قال: فقال لنا أعرابي إلى جنبه: إنه أمركم أن ترتفعوا. قال الخليل: هو من قول الله عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} (¬4) فصعدنا إليه فقال: هل لكم في خبز فطير ولبن هجير وماء نمير؟ فقلنا الساعة فارقناه فقال: سلاما فلم ندر ما قال، فقال الأعرابي: إنه ¬

(¬1) الزخرف الآية (13). (¬2) هود الآية (44). (¬3) المؤمنون الآية (28). (¬4) فصلت الآية (11).

سالمكم متاركة لا خير فيها ولا شر قال الخليل: هو من قول الله عز وجل: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)} (¬1). (¬2) شبه الجهمية والجواب عليها: وأما نزع من نزع منهم بحديث يرويه عبد الله بن واقد الواسطي عن إبراهيم بن عبد الصمد عن عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (¬3): على جميع بريته، فلا يخلو منه مكان فالجواب عن هذا: أن هذا حديث منكر عن ابن عباس ونقلته مجهولون ضعفاء، فأما عبد الله بن داود الواسطي وعبد الوهاب بن مجاهد فضعيفان، وإبراهيم بن عبد الصمد مجهول لا يعرف وهم لا يقبلون أخبار الآحاد العدول، فكيف يسوغ لهم الاحتجاج بمثل هذا من الحديث لو عقلوا أوأنصفوا؟ أما سمعوا الله عز وجل حيث يقول: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} (¬4)، فدل على أن موسى عليه السلام كان يقول: إلهي في السماء وفرعون يظنه كاذبا. ¬

(¬1) الفرقان الآية (63). (¬2) التمهيد (7/ 129 - 132) وانظر فتح البر (2/ 7 - 10). (¬3) طه الآية (5). (¬4) غافر الآيتان (36و37).

فسبحان من لا يقدر الخلق قدره ... ومن هو فوق العرش فرد موحد مليك على عرش السماء مهيمن ... لعزته تعنو الوجوه وتسجد وهذا الشعر لأمية بن أبي الصلت وفيه يقول في وصف الملائكة: فمن حامل إحدى قوائم عرشه ... ولولا إله الخلق كلوا وأبلدوا قيام على الأقدام عانون تحته ... فرائصهم من شدة الخوف ترعد قال أبو عمر: فإن احتجوا بقول الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} (¬1) وبقوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} (¬2) وبقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} (¬3). وزعموا أن الله تبارك وتعالى في كل مكان بنفسه وذاته تبارك وتعالى قيل لهم: لا خلاف بيننا وبينكم وبين سائر الأمة: أنه ليس في الأرض دون السماء بذاته فوجب حمل هذه الآيات على المعنى الصحيح المجتمع عليه وذلك أنه في السماء إله معبود من أهل السماء وفي الأرض إله معبود من أهل الأرض وكذلك قال أهل العلم بالتفسير. فظاهر التنزيل يشهد على أنه على العرش، والاختلاف في ذلك بيننا فقط وأسعد الناس به من ساعده الظاهر، وأما قوله في الآية الأخرى: {وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} فالإجماع والاتفاق قد بين المراد بأنه معبود من أهل الأرض فتدبر هذا، فإنه قاطع إن شاء الله. ومن ¬

(¬1) الزخرف الآية (84). (¬2) الأنعام الآية (3). (¬3) المجادلة الآية (7).

الحجة أيضا في أنه عز وجل على العرش فوق السماوات السبع: أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم إذا كربهم أمر أو نزلت بهم شدة رفعوا وجوههم إلى السماء يستغيثون ربهم تبارك وتعالى وهذا أشهر وأعرف عند الخاصة والعامة من أن يحتاج فيه إلى أكثر من حكايته، لأنه اضطرار لم يؤنبهم عليه أحد ولا أنكره عليهم مسلم، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - للأَمَة التي أراد مولاها عتقها إن كانت مؤمنة فاختبرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن قال لها: «أين الله؟» فأشارت إلى السماء ثم قال لها: «من أنا؟» قالت: رسول الله قال: «أعتقها، فإنها مؤمنة» (¬1) فاكتفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها برفعها رأسها إلى السماء ... ثم قال: وأما احتجاجهم: لو كان في مكان لأشبه المخلوقات لأن ما أحاطت به الأمكنة واحتوته مخلوق فشيء لا يلزم ولا معنى له لأنه عز وجل ليس كمثله شيء من خلقه ولا يقاس بشيء من بريته، لا يدرك بقياس ولا يقاس بالناس، لا إله إلا هو كان قبل كل شيء، ثم خلق الأمكنة والسماوات والأرض وما بينهما، وهو الباقي بعد كل شيء وخالق كل شيء لا شريك له. وقد قال المسلمون وكل ذي عقل: إنه لا يعقل كائن لا في مكان ما وما ليس في مكان فهو عدم. وقد صح في المعقول وثبت بالواضح من الدليل أنه كان في الأزل لا في مكان، وليس بمعدوم فكيف يقاس على شيء من خلقه؟ أو يجري بينه وبينهم تمثيل أو تشبيه؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا الذي لا يبلغ من وصفه إلا إلى ما وصف به نفسه، أو وصفه به نبيه ورسوله، أو اجتمعت عليه الأمة الحنيفية عنه. فإن قال قائل منهم: إنا وصفنا ربنا أنه ¬

(¬1) تقدم تخريجه صمن مواقف أبي عمرو عثمان السهروردي سنة (458هـ).

كان لا في مكان ثم خلق الأماكن فصار في مكان وفي ذلك إقرار منا بالتغيير والانتقال، إذ زال عن صفته في الأزل وصار في مكان دون مكان، قيل له: وكذلك زعمت أنت أنه كان لا في مكان وانتقل إلى صفة هي الكون في كل مكان، فقد تغير عندك معبودك وانتقل من لا مكان إلى كل مكان، وهذا لا ينفك منه لأنه إن زعم أنه في الأزل في كل مكان كما هو الآن فقد أوجب الأماكن والأشياء موجودة معه في أزله وهذا فاسد. فإن قيل: فهل يجوز عندك أن ينتقل من لا مكان في الأزل إلى مكان؟ قيل له: أما الانتقال وتغير الحال فلا سبيل إلى إطلاق ذلك عليه لأن كونه في الأزل لا يوجب مكانا وكذلك نقله لا يوجب مكانا، وليس في ذلك كالخلق لأن كون ما كونه يوجب مكانا من الخلق ونقلته توجب مكانا، ويصير منتقلا من مكان إلى مكان والله عز وجل ليس كذلك لأنه في الأزل غير كائن في مكان وكذلك نقلته لا توجب مكانا وهذا ما لا تقدر العقول على دفعه ولكنا نقول: استوى من لا مكان إلى مكان ولا نقول انتقل وإن كان المعنى في ذلك واحدا. ألا ترى أنا نقول: له عرش ولا نقول له سرير ومعناهما واحد: ونقول: هو الحكيم ولا نقول: هو العاقل ونقول: خليل إبراهيم ولا نقول: صديق إبراهيم وإن كان المعنى في ذلك كله واحدا لا نسميه ولا نصفه ولا نطلق عليه إلا ما سمى به نفسه على ما تقدم ذكرنا له من وصفه لنفسه لا شريك له، ولا ندفع ما وصف به نفسه لأنه دفع للقرآن وقد قال الله عز

وجل: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} (¬1) وليس مجيئه حركة ولا زوالا ولا انتقالا لأن ذلك إنما يكون إذا كان الجائي جسما أو جوهرا، فلما ثبت أنه ليس بجسم ولا جوهر لم يجب أن يكون مجيئه حركة ولا نقلة ولو اعتبرت ذلك بقولهم: جاءت فلانا قيامته وجاءه الموت وجاءه المرض وشبه ذلك. مما هو موجود نازل به ولا مجيء، لبان لك وبالله العصمة والتوفيق. فإن قال: إنه لا يكون مستويا على مكان إلا مقرونا بالتكييف؛ قيل: قد يكون الاستواء واجبا والتكييف مرتفع وليس رفع التكييف يوجب رفع الاستواء ولو لزم هذا لزم التكييف في الأزل لأنه لا يكون كائن في لا مكان إلا مقرونا بالتكييف، وقد عقلنا وأدركنا بحواسنا أن لنا أرواحا في أبداننا ولا نعلم كيفية ذلك، وليس جهلنا بكيفية الأرواح يوجب أن ليس لنا أرواح، وكذلك ليس جهلنا بكيفيته على عرشه يوجب أنه ليس على عرشه ... قال أبو عمر: وأما احتجاجهم بقوله عز وجل: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (¬2) فلا حجة لهم في ظاهر هذه الآية لأن علماء الصحابة والتابعين الذين حملت عنهم التآويل في القرآن قالوا في تأويل هذه الآية: هو على العرش، وعلمه في كل مكان وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله. ¬

(¬1) الفجر الآية (22). (¬2) المجادلة الآية (7).

ثم قال أبو عمر بعد كلام وسياق لأحاديث بعض الصفات: أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة. وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئا منها على الحقيقة ويزعمون أن من أقر بها مشبه وهم عند من أثبتها نافون للمعبود. والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله وهم أئمة الجماعة والحمد لله. ثم قال أبو عمر بعد سياق لمجموعة من الصفات: الذي أقول: إنه من نظر إلى إسلام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وسعد وعبد الرحمن وسائر المهاجرين والأنصار، وجميع الوفود الذين دخلوا في دين الله أفواجا، علم أن الله عز وجل لم يعرفه واحد منهم إلا بتصديق النبيين بأعلام النبوة ودلائل الرسالة لا من قبل حركة ولا من باب الكل والبعض ولا من باب كان ويكون. ولو كان النظر في الحركة والسكون عليهم واجبا في الجسم ونفيه والتشبيه ونفيه لازما، ما أضاعوه ولو أضاعوا الواجب ما نطق القرآن بتزكيتهم وتقديمهم ولا أطنب في مدحهم وتعظيمهم ولو كان ذلك من عملهم مشهورا أو من أخلاقهم معروفا لاستفاض عنهم ولشهروا به كما شهروا بالقرآن والروايات. ثم قال أبو عمر بعد سوق رواية أحاديث الرؤية: وأهل البدع المخالفون لنا في هذا التأويل يقولون: إن من جوز مثل هذا وأمكن عنده فقد كفر، فيلزمهم تكفير موسى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وكفى بتكفيره كفرا وجهلا. (¬1) ¬

(¬1) التمهيد (7/ 132 - 155) وانظر فتح البر (2/ 10 - 31).

التعليق: ما أدري ماذا يقول متعصبة الأشاعرة المنتسبون إلى المالكية خصوصا والأشاعرة عموما في كلام هذا الإمام، هل سيعدونه مشبها أو حنبليا متعصبا أو حشويا متبلدا، أو سيضعون الرمال فوق هذه الوديان والبحار المنسابة بالحق ونور النبوة المتوارث، فلا أدري كم يكفيهم من مقدار لسد ذلك وتغطيته، أو سيقولون إن أبا عمر لم يكن في العلم والحفظ بذلك. أو سيقولون: إن حافظ المشرق والمغرب أعلم بمذاهب الناس وأكثرهم فهما لها، فالحق معه وهذا الذي قرره ينبغي لكل مسلم يؤمن بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يتبعه وهذا هو الظن بهم إن شاء الله وبأمثالهم ممن يطلب الحق ويبحث عنه. بقية آراء ومواقف أبي عمر: - جاء في جامع بيان العلم وفضله بعد أن ساق قول مالك في بدعة الكلام قال: والذي قاله مالك رحمه الله، عليه جماعة الفقهاء والعلماء قديما وحديثا من أهل الحديث والفتوى، وإنما خالف ذلك أهل البدع -المعتزلة وسائر الفرق- وأما الجماعة على ما قال مالك رحمه الله، إلا أن يضطر أحد إلى الكلام فلا يسعه السكوت إذا طمع برد الباطل وصرف صاحبه عن مذهبه أو خشي ضلال عامة أو نحو هذا. (¬1) - وفيه قال رحمه الله: أجمع أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ ولا يعدون عند الجميع في طبقات الفقهاء وإنما ¬

(¬1) جامع بيان العلم وفضله (2/ 938).

العلماء أهل الأثر والتفقه فيه ويتفاضلون فيه بالإتقان والميز والفهم. (¬1) - وجاء فيه عنه قال رحمه الله: وتناظر القوم وتجادلوا في الفقه ونهوا عن الجدال في الاعتقاد لأنه يؤول إلى الانسلاخ من الدين. ألا ترى مناظرة بشر في قول الله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} (¬2) قال: هو بذاته في كل مكان فقال له خصمه: فهو في قلنسوتك وفي حشك وفي جوف حمارك، تعالى الله عما يقولون. حكى ذلك وكيع. وأنا والله أكره أن أحكي كلامهم قبحهم الله. (¬3) - وفيه قال رحمه الله: في الكلام على الصفات: رواها السلف وسكتوا عنها وهم كانوا أعمق الناس علما وأوسعهم فهما وأقلهم تكلفا ولم يكن سكوتهم عن عي فمن لم يسعه ما وسعهم فقد خاب وخسر. (¬4) - وجاء فيه عند الكلام على الصفات: ليس في الاعتقاد في صفات الله وأسمائه إلا ما جاء منصوصا في كتاب الله أو صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أجمعت عليه الأمة، وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحوه يسلم له ولا يناظر فيه. (¬5) ¬

(¬1) جامع بيان العلم وفضله (2/ 942). (¬2) المجادلة الآية (7). (¬3) جامع بيان العلم وفضله (2/ 948). (¬4) جامع بيان العلم وفضله (2/ 946). (¬5) جامع بيان العلم وفضله (2/ 943).

موقفه من الخوارج:

آثاره السلفية: 1 - 'كتاب الشواهد في إثبات خبر الواحد'. 2 - 'كتاب الإنصاف في أسماء الله تعالى'. (¬1) موقفه من الخوارج: - قال أبو عمر: كان للخوارج مع خروجهم تأويلات في القرآن ومذاهب سوء مفارقة لسلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، الذين أخذوا الكتاب والسنة عنهم، وتفقهوا معهم، فخالفوا في تأويلهم مذاهبهم الصحابة والتابعين وكفروهم، وأوجبوا على الحائض الصلاة، ودفعوا رجم المحصن الزاني، ومنهم من دفع الظهر والعصر، وكفروا المسلمين بالمعاصي، واستحلوا بالذنوب دماءهم، وكان خروجهم فيما زعموا -تغييرا للمنكر ورد الباطل- فكان ما جاءوا به أعظم المنكر وأشد الباطل إلى قبيح مذاهبهم، مما قد وقفنا على أكثرها، وليس هذا والحمد لله موضع ذكرها، فهذا أصل أمر الخوارج، وأول خروجهم كان على علي رضي الله عنه فقتلهم بالنهروان، ثم بقيت منهم بقايا من أنسابهم ومن غير أنسابهم على مذاهبهم، يتناسلون ويعتقدون مذاهبهم، وهم بحمد الله -مع الجماعة مستترون بسوء مذهبهم، غير مظهرين لذلك ولا ظاهرين به- والحمد لله، وكان للقوم صلاة بالليل والنهار، وصيام، يحتقر الناس أعمالهم عندها، وكانوا يتلون القرآن آناء الله والنهار، ولم يكن يتجاوز حناجرهم ولا تراقيهم، لأنهم كانوا يتأولونه بغير علم بالسنة المبينة، فكانوا قد حرموا فهمه ¬

(¬1) التذكرة (3/ 1129).

والأجر على تلاوته، فهذا والله أعلم -معنى قوله: لا يجاوز حناجرهم- يقول: لا ينتفعون بقراءته، كما لا ينتفع الآكل والشارب من المأكول والمشروب بما لا يجاوز حنجرته. وقد قيل: إن معنى ذلك: أنهم كانوا يتلونه بألسنتهم ولا تعتقده قلوبهم، وهذا إنما هو في المنافقين. (¬1) حكم من شق عصا المسلمين: - قال أبو عمر: أجمع العلماء على أن من شق العصا وفارق الجماعة، وشهر على المسلمين السلاح، وأخاف السبيل، وأفسد بالقتل والسلب، فقتلهم وإراقة دمائهم واجب، لأن هذا من الفساد العظيم في الأرض، والفساد في الأرض موجب لإراقة الدماء بإجماع، إلا أن يتوب فاعل ذلك من قبل أن يقدر عليه، والانهزام عندهم ضرب من التوبة، وكذلك من عجز عن القتال، لم يقتل إلا بما وجب عليه قبل ذلك. ومن أهل الحديث طائفة تراهم كفارا على ظواهر الأحاديث فيهم مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من حمل علينا السلاح فليس منا» (¬2) ومثل قوله: «يمرقون من الدين» (¬3)، وهي آثار يعارضها غيرها فيمن لا يشرك بالله شيئا، ويريد بعمله وجهه، -وإن أخطأ في حكمه واجتهاده- والنظر يشهد أن الكفر لا يكون إلا بضد الحال التي يكون بها ¬

(¬1) فتح البر (1/ 458 - 459). (¬2) أحمد (2/ 329) والبخاري (12/ 192/6873) ومسلم (1/ 98/98 - 99 - 100 - 101) عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم، منهم ابن عمر وأبو موسى وأبو هريرة وغيرهم. (¬3) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي سعيد الخدري سنة (63هـ).

الإيمان، لأنهما ضدان. (¬1) - وقال رحمه الله: والمعنى فيه (¬2) عند أهل الفقه والأثر: أهل السنة والجماعة: النهي عن أن يكفر المسلم أخاه المسلم بذنب، أو تأويل لا يخرجه من الإسلام عند الجميع، فورد النهي عن تكفير المسلم في هذا الحديث وغيره بلفظ الخبر دون لفظ النهي، وهذا موجود في القرآن والسنة، ومعروف في لسان العرب. وفي سماع أشهب: سئل مالك عن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قال لرجل يا كافر فقد باء بها أحدهما» (¬3)، قال: أرى ذلك في الحرورية، فقلت له: أفتراهم بذلك كفارا؟ فقال: ما أدري ما هذا؟ ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما»، قوله - صلى الله عليه وسلم -: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» (¬4)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» (¬5) وقوله: «لا ترغبوا عن آبائكم، فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم» (¬6). ومثل هذا كثير من الآثار التي وردت بلفظ التغليظ، وليست على ظاهرها عند أهل ¬

(¬1) فتح البر (1/ 473). (¬2) أي حديث ابن عمر مرفوعا: «من قال لأخيه يا كافر فقد باء بهما أحدهما». أخرجه: أحمد (2/ 11و18و44) والبخاري (10/ 514/6104) ومسلم (1/ 79/111 [60]) والترمذي (5/ 22/2637). (¬3) انظر الذي قبله. (¬4) أحمد (1/ 439) والبخاري (1/ 110/48) ومسلم (1/ 81/116 - 117) والترمذي (4/ 353/1983) والنسائي (7/ 137 - 139/ 4115 - 4124) وابن ماجه (1/ 28/69) عن ابن مسعود وسعد وأبي هريرة رضي الله عنهم. (¬5) البخاري (1/ 217/121) ومسلم (1/ 81/118) وأبو داود (5/ 63/4686) والترمذي (4/ 486/2193) والنسائي (7/ 126 - 128/ 4135 - 4143) وابن ماجه (2/ 1300/3942) عن جماعة من الصحابة: جرير، ابن عمر، ابن عباس ... رضي الله عنهم. (¬6) البخاري (12/ 54/6768) ومسلم (1/ 80/113).

الحق والعلم، لأصول تدفعها أقوى منها من الكتاب والسنة المجتمع عليها، والآثار الثابتة أيضا من جهة الإسناد، وهذا باب يتسع القول فيه ويكثر، فنذكر منه ههنا ما فيه كفاية -إن شاء الله-، وقد ضلت جماعة من أهل البدع من الخوارج والمعتزلة في هذا الباب، فاحتجوا بهذه الآثار ومثلها في تكفير المذنبين. واحتجوا من كتاب الله بآيات ليست على ظاهرها، مثل قوله عز وجل: {ومن لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} (¬1) وقوله: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} (¬2) وقوله: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)} (¬3) وقوله: {إن هم إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)} (¬4) وقوله: {وهم يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} (¬5) ونحو هذا. وروي عن ابن عباس في قول الله عز وجل: {ومن لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} قال: ليس بكفر ينقل عن الملة، ولكنه كفر دون كفر. وقد أوضحنا معنى الكفر في اللغة في مواضع من هذا الكتاب، والحجة عليهم قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ ¬

(¬1) المائدة الآية (44). (¬2) الحجرات الآية (2). (¬3) الجاثية الآية (32). (¬4) الزخرف الآية (20). (¬5) الكهف الآية (104).

يَشَاءُ} (¬1). ومعلوم أن هذا بعد الموت لمن لم يتب، لأن الشرك ممن تاب منه -قبل الموت- وانتهى عنه غفر له، كما تغفر الذنوب كلها بالتوبة جميعا، قال الله عز وجل: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (¬2). وقد وردت آيات في القرآن محكمات، تدل أنه لا يكفر أحد إلا بعد العلم والعناد، منها قول الله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)} (¬3) و {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)} (¬4) وقوله: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)} (¬5) وقوله: {ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (¬6) وقوله: {مهما تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)} إلى قوله: {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)}، ثم قال على إثر ذلك: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ ¬

(¬1) النساء الآية (48) والآية (116). (¬2) الأنفال الآية (38). (¬3) آل عمران الآية (71). (¬4) آل عمران الآية (70). (¬5) آل عمران الآية (75). (¬6) النساء الآية (153).

كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)} (¬1)، ثم قال: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)} (¬2)، ثم ذكر الأمم فقال: {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ (5)} (¬3) ثم ذكر الأمم فقال: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)} (¬4) ولذلك قال: {تشابهت قُلُوبُهُمْ} (¬5). {وخضتم كَالَّذِي خَاضُوا} (¬6). وقال: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} (¬7)، وقال: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا ¬

(¬1) الأعراف الآيات (132 - 135). (¬2) المؤمنون الآية (76). (¬3) غافر الآية (5). (¬4) الذاريات الآيتان (52و53) .. (¬5) البقرة الآية (118). (¬6) التوبة الآية (69). (¬7) الصف الآية (5).

بَيْنَهُمْ} (¬1) وقال: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} (¬2) وقال: {بل جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)} (¬3) وقال: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} (¬4) وقال: {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} (¬5) وقال: {فلما جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ} الآية (¬6) وقال: {وشاقوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} (¬7) وقال: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} (¬8) إلى آيات كثيرة في معنى ما ذكرنا، كلها تدل على معاندة الكفار، وأنهم إنما كفروا بالمعاندة والاستكبار، وقال عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} (¬9) وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} (¬10)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من مات لا يشرك بالله ¬

(¬1) الشورى الآية (14). (¬2) البقرة الآية (22). (¬3) المؤمنون الآية (70). (¬4) الجاثية الآية (23). (¬5) التوبة الآية (17). (¬6) فاطر الآيتان (42و43). (¬7) محمد الآية (32). (¬8) النمل الآية (14). (¬9) الإسراء الآية (15). (¬10) التوبة الآية (115).

شيئا دخل الجنة، ومن مات وهو يشرك بالله شيئا فهو في النار» (¬1). وجعل الله عز وجل في بعض الكبائر حدودا جعلها طهرة، وفرض كفارات في كتابه للذنوب من التقرب إليه بما يرضيه، فجعل على القاذف جلد ثمانين إن لم يأت بأربعة شهداء، ولم يجعله بقذفه كافرا، وجعل على الزاني مائة، وذلك طهرة له، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في التي رجمها: «لقد خرجت من ذنوبها كيوم ولدتها أمها». وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من أقيم عليه الحد فهو له كفارة، ومن لم يقم عليه حده فأمره إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه» (¬2) وما لم يجعل فيه حدا فرض فيه التوبة منه، والخروج عنه إن كان ظلما لعباده، وليس في شيء من السنن المجتمع عليها ما يدل على تكفير أحد بذنب، وقد أحاط العلم بأن العقوبات على الذنوب كفارات، وجاءت بذلك السنن الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما جاءت بكفارة الأيمان والظهار والفطر في رمضان، وأجمع علماء المسلمين أن الكافر لا يرث المسلم، وأجمعوا أن المذنب -وإن مات مصرا- يرثه ورثته، ويصلى عليه، ويدفن في مقابر المسلمين. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا ونسك نسكنا فهو المسلم، له ما للمسلم وعليه ما على المسلم» (¬3)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «الندم توبة» (¬4) رواه عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ¬

(¬1) البخاري (3/ 110/1237) ومسلم (1/ 94/92). (¬2) الدارمي (2/ 182) وذكره الهيثمي في المجمع (6/ 268) وقال: "رواه الطبراني وأحمد بنحوه وفيه راو لم يسم وهو ابن خزيمة، وبقية رجاله ثقات". (¬3) البخاري (2/ 448/955) ومسلم (3/ 1553/1961). (¬4) أحمد (1/ 376 - 423 - 433) وابن ماجه (2/ 1420/4252) والحاكم (4/ 243) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وأقره الذهبي.

وقال: - صلى الله عليه وسلم - «ليس أحد من خلق الله إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة، إلا يحيى بن زكرياء» (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لولا أنكم تذنبون وتستغفرون لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم، إن الله يحب أن يغفر لعباده» (¬2). ومن هذا قول الأول: إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما فهذه الأصول كلها تشهد على أن الذنوب لا يكفر بها أحد، وهذا يبين لك أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما»، أنه ليس على ظاهره، وأن المعنى فيه النهي عن أن يقول أحد لأخيه: كافر، أو يا كافر. قيل لجابر بن عبد الله: يا أبا محمد، هل كنتم تسمون شيئا من الذنوب كفرا أو شركا أو نفاقا؟ قال: معاذ الله، ولكنا نقول: مؤمنين مذنبين، روي ذلك عن جابر من وجوه، ومن حديث الأعمش عن أبي سفيان قال: قلت لجابر: أكنتم تقولون لأحد من أهل القبلة: كافر؟ قال: لا، قلت: فمشرك؟ قال: معاذ الله، وفزع!. وقد قال جماعة من أهل العلم في قول الله عز وجل: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} (¬3)، هو قول الرجل لأخيه: يا كافر، يا فاسق، وهذا موافق لهذا الحديث، فالقرآن والسنة ينهيان عن ¬

(¬1) أحمد (1/ 254 - 292 - 295 - 301 - 320) وفيه علي بن زيد .. (¬2) أحمد (5/ 414) ومسلم (4/ 2105/2748) والترمذي (5/ 512/3539). (¬3) الحجرات الآية (11).

تفسيق المسلم وتكفيره ببيان لا إشكال فيه. ومن جهة النظر الصحيح الذي لا مدفع له، أن كل من ثبت له عقد الإسلام في وقت بإجماع من المسلمين، ثم أذنب ذنبا أو تأول تأويلا، فاختلفوا بعد في خروجه من الإسلام، لم يكن لاختلافهم بعد إجماعهم معنى يوجب حجة، ولا يخرج من الإسلام المتفق عليه إلا باتفاق آخر، أو سنة ثابتة لا معارض لها. وقد اتفق أهل السنة والجماعة -وهم أهل الفقه والأثر- على أن أحدا لا يخرجه ذنبه -وإن عظم- من الإسلام، وخالفهم أهل البدع، فالواجب في النظر أن لا يكفر إلا من اتفق الجميع على تكفيره، أوقام على تكفيره دليل لا مدفع له من كتاب أو سنة. (¬1) - قال رحمه الله: وأما قوله: «وأن لا ننازع الأمر أهله» (¬2)، فاختلف الناس في ذلك، فقال قائلون: أهله أهل العدل والإحسان والفضل والدين، فهؤلاء لا ينازعون لأنهم أهله، وأما أهل الجور والفسق والظلم، فليسوا له بأهل، ألا ترى إلى قول الله عزوجل لإبراهيم عليه السلام قال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)} (¬3) وإلى منازعة الظالم الجائر، ذهبت طوائف من المعتزلة وعامة الخوارج. وأما ¬

(¬1) فتح البر (1/ 475 - 480). (¬2) أحمد (3/ 441) والبخاري (13/ 238/7200) ومسلم (3/ 1470/1709) والنسائي (7/ 155/4160) وابن ماجه (2/ 957/2866) من حديث عبادة بن الصامت. (¬3) البقرة الآية (124).

موقفه من المرجئة:

أهل الحق وهم أهل السنة، فقالوا: هذا هو الاختيار: أن يكون الإمام فاضلا عدلا محسنا، فإن لم يكن، فالصبر على طاعة الجائرين من الأئمة أولى من الخروج عليه، لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف، ولأن ذلك يحمل على هراق الدماء وشن الغارات والفساد في الأرض، وذلك أعظم من الصبر على جوره وفسقه، والأصول تشهد والعقل والدين أن أعظم المكروهين أولاهما بالترك، وكل إمام يقيم الجمعة والعيد، ويجاهد العدو ويقيم الحدود على أهل العداء، وينصف الناس من مظالمهم بعضهم لبعض، وتسكن له الدهماء وتأمن به السبل، فواجب طاعته في كل ما يأمر به من الصلاح أو من المباح. (¬1) موقفه من المرجئة: قال في 'التمهيد': أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل، ولا عمل إلا بنية، والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والطاعات كلها عندهم إيمان إلا ما ذكر عن أبي حنيفة وأصحابه فإنهم ذهبوا إلى أن الطاعات لا تسمى إيمانا قالوا إنما الإيمان التصديق والإقرار، ومنهم من زاد والمعرفة. -ثم ذكر ما احتجوا به ... - إلى أن قال: وأما سائر الفقهاء من أهل الرأي والآثار بالحجاز والعراق والشام ومصر منهم مالك بن أنس، والليث ابن سعد، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وداود بن علي، وأبو جعفر الطبري، ومن سلك سبيلهم؛ فقالوا: الإيمان قول وعمل، قول باللسان ¬

(¬1) فتح البر (1/ 111).

وهو الإقرار واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح مع الإخلاص بالنية الصادقة قالوا: وكل مايطاع الله عز وجل به من فريضة ونافلة فهو من الإيمان، والإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وأهل الذنوب عندهم مؤمنون غير مستكملي الإيمان من أجل ذنوبهم، وإنما صاروا ناقصي الإيمان بارتكابهم الكبائر. ألا ترى إلى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» (¬1) يريد مستكمل الإيمان، ولم يرد به نفي جميع الإيمان عن فاعل ذلك، بدليل الإجماع على توريث الزاني والسارق وشارب الخمر -إذا صلوا للقبلة وانتحلوا دعوة الإسلام- من قرابتهم المؤمنين الذين ليسوا (¬2) بتلك الأحوال، وفي إجماعهم على ذلك مع إجماعهم على أن الكافر لا يرث المسلم، أوضح الدلائل على صحة قولنا: أن مرتكب الذنوب ناقص الإيمان بفعله ذلك، وليس بكافر كما زعمت الخوارج في تكفيرهم المذنبين، وقد جعل الله في ارتكاب الكبائر حدودا، جعلها كفارة وتطهيرا كما جاء في حديث عبادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فمن واقع منها شيئا -يعني من الكبائر- وأقيم عليه الحد فهو له كفارة، ومن لا فأمره إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه» (¬3). وليس هذا حكم الكافر لأن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في مواقف الحسن البصري سنة (110هـ). (¬2) في التمهيد: (آمنوا) والتصويب من مجموع الفتاوى (7/ 330) .. (¬3) البخاري (1/ 87/18).

والإيمان مراتب بعضها فوق بعض، فليس الناقص فيها كالكامل، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (¬1) أي: إنما المؤمن حق الإيمان من كانت هذه صفته، ولذلك قال: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (¬2). ومثل هذه الآية في القرآن كثير. وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم» (¬3) أن هو المؤمن المسلم حقا. ومن هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» (¬4) ومعلوم معمول أنه لا يكون هذا أكمل حتى يكون غيره أنقص، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله» (¬5) وقوله: «لا إيمان لمن لا صلاة له ولا من لا ¬

(¬1) الأنفال الآية (2). (¬2) الأنفال الآية (4). (¬3) الترمذي (5/ 18/2627) وقال: "حسن صحيح". والنسائي (8/ 479/5010) والحاكم (1/ 10) وقال: "قد اتفقا على إخراج طرق حديث: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» ولم يخرجا هذه الزيادة وهي صحيحة على شرط مسلم" ووافقه الذهبي. (¬4) أحمد (2/ 250، 472) وأبو داود (5/ 60/4682) والترمذي (3/ 466/1162) وقال: "حسن صحيح". والحاكم (1/ 3) وصححه ووافقه الذهبي. (¬5) أحمد (4/ 286) من حديث البراء. وابن أبي شيبة (6/ 172/30443) من حديث ابن مسعود. وله طرق لا تخلوا من مقال، أوردها الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (1728) وقال: "فالحديث بمجموع طرقه يرتقي إلى درجة الحسن على الأقل، والله أعلم".

أمانة له» (¬1) كل ذلك يدل على أنه ليس بإيمان كامل، وأن بعض الإيمان أوثق عروة وأكمل من بعض، كما قال: «ليس المسكين بالطواف عليكم» الحديث (¬2) يريد ليس الطواف بالمسكين حقا، لأن ثم من هو أشد مسكنة منه، وهو الذي لا يسأل الناس ويتعفف. ويدلك على ذلك قول عائشة: إن المسكين ليقف على بابي ... الحديث. وروى مجاهد بن جبر وأبو صالح السمان جميعا عن عبد الله بن جمرة عن كعب قال: «من أحب في الله وأبغض في الله وأعطى في الله ومنح لله فقد استكمل الإيمان» (¬3). ومن الدلائل على أن الإيمان قول وعمل كما قالت الجماعة والجمهور، قول الله عز وجل: {وما كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (¬4).لم يختلف المفسرون أنه أراد صلاتكم إلى بيت المقدس، فسمى الصلاة إيمانا، ومثل هذا القول: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} الآية إلى قوله: {أولئك هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)} (¬5). ¬

(¬1) أحمد (3/ 135) وابن حبان (1/ 423/195) والبغوي في شرح السنة (1/ 74/38) وحسنه. وفي الباب من حديث أبي أمامة وابن مسعود رضي الله عنهما. (¬2) أحمد (1/ 384) والبخاري (3/ 433/1476) والنسائي (5/ 89/2570). (¬3) ابن أبي شيبة في كتاب الإيمان (133) موقوفا عليه، وقد ورد مرفوعا من حديث أبي أمامة عند أبي داود (5/ 60/4681)، ومن حديث سعد بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عند أحمد (3/ 440)، والترمذي (4/ 578/2521) وحسنه. والحاكم (2/ 164) وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. (¬4) البقرة الآية (143). (¬5) البقرة الآية (177).

موقفه من القدرية:

وأما من السنة فكثير جدا، من ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان» (¬1) وقد كان معاذ بن جبل يقول لأصحابه: تعالوا بنا نؤمن ساعة. (¬2) أي: نذكر الله. فجعل ذكر الله من الإيمان، ومثل هذا حديث طلحة ابن عبيد الله: أن أعرابيا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام فقال: «خمس صلوات ... » الحديث (¬3) ... -إلى أن قال- وعلى أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، جماعة أهل الآثار؛ والفقهاء من أهل الفتوى بالأمصار وقد روى ابن القاسم عن مالك أن الإيمان يزيد ووقف في نقصانه. وروى عنه عبد الرزاق ومعن (¬4) بن عيسى وابن نافع وابن وهب أنه يزيد وينقص يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية؛ وعلى هذا مذهب الجماعة من أهل الحديث، والحمد لله. (¬5) موقفه من القدرية: - قال رحمه الله: وجملة القول في القدر أنه سر الله لا يدرك بجدال ولا نظر ولا تشفى منه خصومة ولا احتجاج، وحسب المؤمن من القدر أن يعلم أن الله لا يقوم شيء دون إرادته، ولا يكون شيء إلا بمشيئته، له الخلق ¬

(¬1) أحمد (2/ 26) والبخاري (1/ 68/8) ومسلم (1/ 45/22) والنسائي (8/ 481 - 482/ 5016) من حديث ابن عمر. (¬2) تقدم في مواقفه رضي الله عنه. (¬3) البخاري (1/ 142/46) ومسلم (1/ 40/8) وأبو داود (1/ 242/391) والنسائي (1/ 246/457). (¬4) في التمهيد معمر بن عيسى وهو تحريف والتصويب ما أثبتناه من مجموع الفتاوى (7/ 331). (¬5) فتح البر (1/ 432 - 445)، ونقله عن ابن عبد البر شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (7/ 330 - 331).

والأمر كله لا شريك له، نظام ذلك قوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (¬1). وقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (¬2). وحسب المؤمن من القدر، أن يعلم أن الله لا يظلم مثقال ذرة، ولا يكلف نفسا إلا وسعها، وهو الرحمن الرحيم فمن رد على الله تعالى خبره في الوجهين أو في أحدهما كان عنادا، وكفرا، وقد تظاهرت الآثار في التسليم للقدر والنهي عن الجدل فيه، والاستسلام له والإقرار بخيره وشره والعلم بعدل مقدره وحكمته. وفي نقض عزائم الانسان برهان فيما قلنا، وتبيان، والله المستعان. (¬3) - وقال رحمه الله -شارحا لحديث مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتنكح، فإنما لها ما قدر لها» (¬4) -: في هذا الخبر من الفقه أنه لا ينبغي أن تسأل المرأة زوجها أن يطلق ضرتها لتنفرد به، فإنما لها ما سبق به القدر عليها، لا ينقصها طلاق ضرتها شيئا مما جرى به القدر لها ولا يزيدها. وقال الأخفش: كأنه يريد أن تفرغ صحفة تلك من خير الزوج وتأخذه هي وحدها. قال أبو عمر: وهذا الحديث من أحسن أحاديث القدر عند أهل العلم ¬

(¬1) الإنسان الآية (30). (¬2) القمر الآية (49). (¬3) التمهيد (فتح البر 2/ 196). (¬4) أحمد (2/ 489) والبخاري (11/ 604/6601) ومسلم (2/ 1033/1413) وأبو داود (2/ 630/2176) والنسائي (6/ 380 - 381/ 3239).

والسنة، وفيه أن المرء لا يناله إلا ما قدر له. قال الله عزوجل: {قل لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} (¬1). والأمر في هذا واضح لمن هداه الله، والحمد لله. (¬2) - وقال -تعليقا على حديث مالك عن زياد بن سعد عن عمرو بن مسلم، عن طاوس اليماني أنه قال: أدركت ناسا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون: كل شيء بقدر. قال طاوس: وسمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس، أو الكيس والعجز» (¬3) -: وفي هذا الحديث أدل الدلائل وأوضحها على أن الشر والخير كل من عند الله، وهوخالقهما لا شريك له، ولا إله غيره، لأن العجز شر، ولوكان خيرا ما استعاذ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد استعاذ من الكسل والعجز والجبن والدين، ومحال أن يستعيذ من الخير، وفي قول الله عزوجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} (¬4) كفاية لمن وفق، وقال عزوجل: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (¬5).اهـ (¬6) ¬

(¬1) التوبة الآية (51). (¬2) التمهيد (فتح البر 2/ 273). (¬3) أحمد (2/ 110) ومسلم (4/ 2045/2655). (¬4) الفلق الآيتان (1و2). (¬5) النحل الآية (93). فاطر الآية (8). (¬6) التمهيد (فتح البر 2/ 277 - 278).

الخطيب البغدادي (463 هـ)

- وقال رحمه الله: قال الله عزوجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (¬1). وقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬2). فليس لأحد مشيئة تنفذ، إلا أن تنفذ منها مشيئة الله تعالى، وإنما يجرى الخلق فيما سبق من علم الله. والقدر سر الله لا يدرك بجدال، ولايشفى منه مقال، والحجاج فيه مرتجة، لا يفتح شيء منها إلا بكسر شيء وغلقه، وقد تظاهرت الآثار، وتواترت الأخبار فيه عن السلف الأخيار، الطيبين الأبرار، بالاستسلام والانقياد والاقرار، بأن علم الله سابق، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (¬3).اهـ (¬4) الخطيب البغدادي (¬5) (463 هـ) أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي، أبو بكر الخطيب البغدادي، العلامة المفتي، الحافظ الناقد، محدث الوقت. ولد سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة. سمع من القاضي أبي عبد الله القضاعي، وأبي نعيم الحافظ ¬

(¬1) القمر الآية (49). (¬2) التكوير الآية (29). (¬3) فصلت الآية (46). (¬4) التمهيد (فتح البر 2/ 293 - 294). (¬5) السير (18/ 270 - 297) والأنساب (2/ 384) والكامل في التاريخ (10/ 68) ووفيات الأعيان (1/ 92 - 93) وتذكرة الحفاظ (3/ 1135 - 1146) والوافي بالوفيات (7/ 190 - 199) والبداية والنهاية (12/ 108 - 110) وشذرات الذهب (3/ 311 - 312).

موقفه من المبتدعة:

وابن ماكولا، وغيرهم كثير. وحدث عنه أبو بكر البرقاني وأبو الفضل بن خيرون والحميدي وخلق يطول ذكرهم. قال السلفي: سألت شجاعا الذهلي عن الخطيب، فقال: إمام مصنف حافظ، لم ندرك مثله. قال الذهبي: طلب هذا الشأن ورحل فيه إلى الأقاليم وبرع، وصنف وجمع وسارت بتصانيفه الركبان وتقدم في عامة فنون الحديث. وقال ابن السمعاني: كان إمام عصره بلا مدافعة، وحافظ وقته بلا منازعة، صنف قريبا من مائة مصنف، صارت عمدة لأهل الحديث. وقال: كان الخطيب مهيبا وقورا، ثقة متحريا، حجة حسن الخط، كثير الضبط، فصيحا، ختم به الحفاظ. وقال ابن ماكولا: كان أبو بكر الخطيب آخر الأعيان ممن شاهدناه معرفة وحفظا واتقانا وضبطا لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال أبو إسحاق الشيرازي الفقيه: أبو بكر الخطيب يشبه بالدارقطني ونظرائه في معرفة الحديث وحفظه. وقال مؤتمن الساجي: ما أخرجت بغداد بعد الدارقطني مثل الخطيب. توفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة. موقفه من المبتدعة: - قال في مطلع كتابه 'شرف أصحاب الحديث': أما بعد، وفقكم الله لعمل الخيرات، وعصمنا وإياكم من اقتحام البدع والشبهات، فقد وقفنا على ما ذكرتم من عيب المبتدعة لأهل السنن والآثار، وطعنهم على من شغل نفسه بسماع الأحاديث وحفظ الأخبار، وتكذيبهم بصحيح ما نقله إلى الأمة الأئمة الصادقون، واستهزائهم بأهل الحق فيما وضعه عليهم الملحدون؛

{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بهم وَيَمُدُّهُمْ في طغيانهم يَعْمَهُونَ (15)} (¬1). وليس ذلك عجيبا من متبعي الهوى ومن أضلهم الله عن سلوك سبيل الهدى. ومن واضح شأنهم الدال على خذلانهم: صدوفهم عن النظر في أحكام القرآن، وتركهم الحجاج بآياته الواضحة البرهان، واطراحهم السنن من ورائهم، وتحكمهم في الدين بآرائهم. فالحدث منهوم بالغزل، وذو السن مفتون بالكلام والجدل، قد جعل دينه غرضا للخصومات، وأرسل نفسه في مراتع الهلكات، ومناه الشيطان دفع الحق بالشبهات، إن عرض عليه بعض كتب الأحكام المتعلقة بآثار نبينا عليه أفضل السلام، نبذها جانبا، وولى ذاهبا عن النظر فيها، يسخر من حاملها وراويها، معاندة منه للدين وطعنا على أئمة المسلمين. ثم هو يفتخر على العوام بذهاب عمره في درس الكلام، ويرى جميعهم ضالين سواه، ويعتقد أن ليس ينجو إلا إياه؛ لخروجه زعم عن حد التقليد وانتسابه إلى القول بالعدل والتوحيد؛ وتوحيده إذا اعتبر كان شركا وإلحادا؛ لأنه يجعل لله من خلقه شركاء وأندادا، وعدله عدول عن نهج الصواب الى خلاف محكم السنة والكتاب. وكم يرى البائس المسكين إذا ابتلي بحادثة في الدين يسعى إلى الفقيه يستفتيه ويعمل على ما يقوله ويرويه راجعا إلى التقليد بعد فراره منه، وملتزما حكمه بعد صدوفه عنه، وعسى أن يكون في حكم حادثته من الخلاف ما يحتاج إلى إنعام النظر فيه والاستكشاف، فكيف استحل التقليد بعد تحريمه، وهون الإثم فيه بعد ¬

(¬1) البقرة الآية (15).

تعظيمه، ولقد كان رفضه ما لا ينفعه في الآخرة والأولى واشتغاله بأحكام الشريعة أحرى وأولى. (¬1) التعليق: انظر رحمك الله إلى هذا الإمام كيف صور حالة المبتدع الأخلاقية والنفسية، وما ثمن العلم الذي يحمله وما ثمن العلم الذي يجهله. علم يقود إلى الشرك والعياذ بالله، وجهل بالضروريات من أمور الدين. ومع هذه الفضائح، صاحبه يفتخر به على الأقران وكان الأولى به الخجل والتحسر والندم. وعلم لو مضى فيه قليلا من العمر لنور الله بصيرته فعرف به ربه ودينه والله المستعان. - قال أبو بكر: ولو أن صاحب الرأي المذموم شغل نفسه بما ينفعه من العلوم، وطلب سنن رسول رب العالمين، واقتفى آثار الفقهاء والمحدثين، لوجد في ذلك ما يغنيه عما سواه، واكتفى بالأثر عن رأيه الذي رآه؛ لأن الحديث يشتمل على معرفة أصول التوحيد، وبيان ما جاء من وجوه الوعد والوعيد، وصفات رب العالمين، تعالى عن مقالات الملحدين، والإخبار عن صفات الجنة والنار، وما أعد الله تعالى فيهما للمتقين والفجار، وما خلق الله في الأرضين والسموات من صنوف العجائب وعظيم الآيات، وذكر الملائكة المقربين، ونعت الصافين والمسبحين. وفي الحديث قصص الأنبياء، وأخبار الزهاد والأولياء، ومواعظ البلغاء، وكلام الفقهاء، وسير ملوك العرب ¬

(¬1) شرف أصحاب الحديث (3 - 5).

والعجم، وأقاصيص المتقدمين من الأمم، وشرح مغازي الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسراياه وجمل أحكامه وقضاياه، وخطبه وعظاته، وأعلامه ومعجزاته، وعدة أزواجه وأولاده وأصهاره وأصحابه، وذكر فضائلهم ومآثرهم، وشرح أخبارهم ومناقبهم، ومبلغ أعمارهم، وبيان أنسابهم. وفيه تفسير القرآن العظيم، وما فيه من النبأ والذكر الحكيم، وأقاويل الصحابة في الأحكام المحفوظة عنهم، وتسمية من ذهب إلى قول كل واحد منهم من الأئمة الخالفين والفقهاء المجتهدين. وقد جعل الله تعالى أهله أركان الشريعة، وهدم بهم كل بدعة شنيعة، فهم أمناء الله من خليقته، والواسطة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته، والمجتهدون في حفظ ملته، أنوارهم زاهرة، وفضائلهم سائرة، وآياتهم باهرة، ومذاهبهم ظاهرة، وحججهم قاهرة؛ وكل فئة تتحيز إلى هوى ترجع إليه، أو تستحسن رأيا تعكف عليه، سوى أصحاب الحديث، فإن الكتاب عدتهم، والسنة حجتهم، والرسول فئتهم، وإليه نسبتهم لا يعرجون على الأهواء، ولا يلتفتون إلى الآراء، يقبل منهم ما رووا عن الرسول، وهم المأمونون عليه والعدول، حفظة الدين وخزنته، وأوعية العلم وحملته. إذا اختلف في حديث كان إليهم الرجوع، فما حكموا به، فهو المقبول المسموع. ومنهم كل عالم فقيه، وإمام رفيع نبيه، وزاهد في قبيلة، ومخصوص بفضيلة، وقارئ متقن، وخطيب محسن. وهم الجمهور العظيم، وسبيلهم السبيل المستقيم. وكل مبتدع باعتقادهم يتظاهر، وعلى الإفصاح بغير مذاهبهم لا يتجاسر. من كادهم قصمه الله، ومن عاندهم خذلهم الله. لا يضرهم من خذلهم، ولا يفلح من اعتزلهم. المحتاط لدينه إلى إرشادهم فقير، وبصر الناظر بالسوء إليهم

حسير {وإن اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)} (¬1).اهـ (¬2) - وقال: ولعمري إن السنن ووجوه الحق لتأتي كثيرا على خلاف الرأي، ومجانبته خلافا بعيدا، فما يجد المسلمون بدا من اتباعها والانقياد لها، ولمثل ذلك ورع أهل العلم والدين فكفهم عن الرأي، ودلهم على غوره وغورته، ... ولكن السنن من الإسلام، بحيث جعلها الله، هي ملاك الدين وقيامه الذي بني عليه الإسلام، وأي قول أجسم وأعظم خطرا مما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع حين خطب الناس فقال: «وقد تركت فيكم أيها الناس ما إن اعتصتم به فلن تضلوا أبدا أمرا بينا: كتاب الله وسنة نبيه» (¬3). فقرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما، وأيم الله إن كنا لنلتقط السنن من أهل الفقه والثقة، ونتعلمها شبيها بتعليمنا آي القرآن، وما برح من أدركنا من أهل الفضل والفقه من خيار الناس يعيبون أهل الجدل والتنقيب ومن (¬4) - أخذ بالرأي أشد العيب، وينهوننا عن لقائهم ومجالستهم، ويحذروننا مقاربتهم أشد التحذير، ويخبروننا أنهم أهل ضلال وتحريف، بتأويل كتاب الله وسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى كره المسائل وناحية التنقيب والبحث عن الأمور وزجر عن ذلك وحذره المسلمين في غير موطن حتى كان من قوله - صلى الله عليه وسلم - كراهية ذلك أن قال: «ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك الذين من ¬

(¬1) الحج الآية (39). (¬2) الشرف (7 - 9). (¬3) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي الزناد عبد الله بن ذكوان سنة (130هـ). (¬4) زيادة اقتضاها المعنى.

قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم» (¬1). فأي أمر أكف لمن يعقل عن التنقيب من هذا؟. ولم يبلغ الناس يوم قيل لهم هذا القول من الكشف عن الأمور جزءا من مائة جزء مما بلغوا اليوم، وهل هلك أهل الأهواء وخالفوا الحق إلا بأخذهم بالجدل، والتفكير في دينهم، فهم كل يوم على دين ضلال وشبهة جديدة لا يقيمون على دين، وإن أعجبهم إلا نقلهم الجدل والتفكير إلى دين سواه، ولو لزموا السنن وأمر المسلمين وتركوا الجدل لقطعوا عنهم الشك، وأخذوا بالأمر الذي حضهم عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورضيه لهم، ولكنهم تكلفوا ما قد كفوا مؤنته وحملوا على عقولهم من النظر في أمر الله ما قصرت عنه عقولهم، وحق لها أن تقصر عنه وتحسر دونه، فهنالك تورطوا وأين ما أعطى الله العباد من العلم في قلته وزهادته مما تناولوا، قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} (¬2)، وقد قص الله تعالى ما عير -أو غير هذه الكلمة- به موسى عليه السلام، من أمر الرجل الذي لقيه فقال: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)} (¬3)، فكان منه في خرقه السفينة، وقتله الغلام، وبنائه الجدار، ما قد قال الله تعالى ¬

(¬1) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي الزناد سنة (130هـ). (¬2) الإسراء الآية (85). (¬3) الكهف الآية (65) ..

موقفه من الرافضة:

في كتابه، فأنكر موسى ذلك عليه، وجاءه ذلك في ظاهر الأمر منكرا لا تعرفه القلوب، ولا يهتدي له التفكير، حتى كشف الله ذلك لموسى فعرفه، وكذلك ما جاء من سنن الإسلام وشرائع الدين التي لا توافق الرأي، ولا تهتدي لها العقول، ولو كشف للناس عن أصولها لجاءت للناس واضحة بينة غير مشكلة على مثل ما جاء عليه أمر السفينة وأمر الغلام وأمر الجدار، فإن ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - كالذي جاء به موسى يعتبر بعضه ببعض، ويشبه بعضه بعضا، ومن أجهل وأضل وأقل معرفة بحق الله وحق رسوله وبنور الإسلام وبرهانه ممن قال لا أقبل سنة ولا أمرا مضى من أمر المسلمين حتى يكشف لي غيبه وأعرف أصوله؟ أو لم يقل ذلك بلسانه، فكان عليه رأيه وفعله، ويقول الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (¬1).اهـ (¬2) موقفه من الرافضة: - جاء في الكفاية عنه قال: كل حديث اتصل إسناده بين من رواه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يلزم العمل به إلا بعد ثبوت عدالة رجاله، ويجب النظر في أحوالهم سوى الصحابي الذي رفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم في نص القرآن. (¬3) ¬

(¬1) النساء الآية (65). (¬2) الفقيه والمتفقه (1/ 393 - 396) وقد مر معنا بطوله في مواقف أبي الزناد عبد الله بن ذكوان سنة (130هـ). (¬3) الكفاية (ص.46).

- وفيها قال: وذهبت طائفة من أهل البدع إلى أن حال الصحابة كانت مرضية إلى وقت الحروب التي ظهرت بينهم، وسفك بعضهم دماء بعض فصار أهل تلك الحروب ساقطي العدالة، ولما اختلطوا بأهل النزاهة وجب البحث عن أمور الرواة منهم، وليس في أهل الدين، والمتحققين بالعلم من يصرف إليهم خبر ما لا يحتمل نوعا من التأويل وضربا من الاجتهاد فهم بمثابة المخالفين من الفقهاء المجتهدين في تأويل الأحكام لإشكال الأمر والتباسه، ويجب أن يكونوا على الأصل الذي قدمناه من حال العدالة والرضا، إذ لم يثبت ما يزيل ذلك عنهم. (¬1) - قال الخطيب في الحسن بن محمد بن أشناس المتوكلي الحمامي: رافضي خبيث كتبت عنه؛ كان يقرأ على الشيعة مثالب الصحابة. (¬2) - قال الخطيب في عيسى بن مهران المستعطف: كان من شياطين الرافضة ومردتهم، وقع إلي كتاب من تصنيفه في الطعن على الصحابة وتكفيرهم، فلقد قف شعري وعظم تعجبي مما فيه من الموضوعات والبلايا. (¬3) - وقال الخطيب: وتجوز فتاوى أهل الأهواء، ومن لم تخرجه بدعته إلى فسق، فأما الشراة والرافضة الذين يشتمون الصحابة، ويسبون السلف الصالح، فإن فتاويهم مرذولة، وأقاويلهم غير مقبولة. (¬4) ¬

(¬1) الكفاية (ص.49). (¬2) الميزان (1/ 521). (¬3) الميزان (3/ 324 - 325). (¬4) الفقيه والمتفقه (2/ 333).

موقفه من القادسي الرافضي:

موقفه من القادسي الرافضي: قال أبو بكر الخطيب: حضرته يوم الجمعة بعد الإملاء، وطالبته بأن يريني أصوله، فدفع إلي عن ابن شاذان وغيره أصولا كان سماعه فيها صحيحاً، ولم يدفع إلي عن ابن مالك شيئا، فقلت له: أرني أصلك عن ابن مالك. فقال: أنا لا يشك في سماعي من ابن مالك، أسمعني منه خالي هبة الله ابن سلامة المفسر 'المسند' كله. فقلت له: لا تروين هاهنا شيئا إلا بعد أن تحضر أصولك وتوقف عليها أصحاب الحديث، فانقطع عن حضور الجامع بعد هذا القول، ومضى إلى مسجد براثا فأملى فيه، وكانت الرافضة تجتمع هناك، وقال لهم: قد منعني النواصب أن أروي في جامع المنصور فضائل أهل البيت. ثم جلس في مسجد الشرقية واجتمعت إليه الرافضة ولهم إذ ذاك قوة، وكلمتهم ظاهرة، فأملى عليهم العجائب من الأحاديث الموضوعة في الطعن على السلف. (¬1) موقفه من الجهمية: عقيدة الخطيب ودفاعه عن العقيدة السلفية: جاء في مقدمة مختصر العلو: قال الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله: وهنا يطيب لي بهذه المناسبة أن أنقل من بعض المخطوطات فصلا رائعا من كلام بعض علماء السلف مما لم يطبع حتى الآن -فيما علمت- وهو للخطيب البغدادي الحافظ المؤرخ المشهور، وقد ذكر المصنف طرفا ¬

(¬1) تاريخ بغداد (8/ 17) وانظر السير (18/ 11 - 12).

منه في ترجمته كما يأتي فرأيت أن أذكره هنا بنصه إتماما للحجة على الخلف الذين يتوهم الكثير منهم أن القول بوجوب الإيمان بحقائق الصفات ومعانيها كما يليق بالله تعالى هو مذهب تفرد به ابن تيمية ومن اقتدوا به فيها، ولم يعلموا أنه رحمه الله تابع لهم في ذلك وإنما فضله في بيانه وشرحه له وإقامة الأدلة عليه بالمنقول والمعقول، ودفع الشبهات عنه، وإلا فهو سلفي المعتقد وهو الواجب على كل مسلم ولذلك بادرنا إلى نشر كتاب الذهبي هذا الذي بين يديك لتعلم به ما قد يكون خافيا عليك كما خفي على غيرك. فكان ذلك سببا قويا من أسباب الابتعاد عن العقيدة السلفية والطريقة المحمدية. قال الحافظ الخطيب رحمه الله تعالى: أما الكلام في الصفات فإن ما روي منها في السنن الصحاح مذهب السلف رضوان الله عليهم اثباتها وإجراؤها على ظواهرها ونفي الكيفية والتشبيه عنها، وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله سبحانه، وحققها من المثبتين قوم فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف، والقصد إنما هو سلوك الطريقة المتوسطة بين الأمرين، ودين الله بين الغالي فيه والمقصر عنه. والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات ويحتذي في ذلك حذوه ومثاله، فإذا كان معلوما أن إثبات رب العالمين عز وجل إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف. فإذا قلنا: لله تعالى يد وسمع وبصر، فإنما هي صفات أثبتها الله تعالى لنفسه ولا نقول: إن معنى اليد: القدرة ولا أن معنى السمع والبصر: العلم ولا نقول: إنها

جوارح ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل ونقول: إنما وجب إثباتها لأن التوقيف ورد بها ووجب نفي التشبيه عنها لقوله تبارك وتعالى: {ليس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (¬1) وقوله عز وجل: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4)} (¬2) ولما تعلق أهل البدع على عيب أهل النقل برواياتهم هذه الأحاديث، ولبسوا على من ضعف علمه، بأنهم يروون ما لا يليق بالتوحيد ولا يصح في الدين، ورموهم بكفر أهل التشبيه وغفلة أهل التعطيل، أجيبوا بأن في كتاب الله تعالى آيات محكمات يفهم منها المراد بظاهرها وآيات متشابهات لا يوقف على معناها إلا بردها إلى المحكم، ويجب تصديق الكل والإيمان بالجميع فكذلك أخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - جارية هذا المجرى ومنزلة على هذا التنزيل، يرد المتشابه منها إلى المحكم ويقبل الجميع، وتنقسم الأحاديث المروية في الصفات ثلاثة أقسام: منها أخبار ثابتة أجمع أئمة النقل على صحتها لاستفاضتها وعدالة ناقليها فيجب قبولها والإيمان بها، مع حفظ القلب أن يسبق إليه اعتقاد ما يقتضي تشبيها لله بخلقه، ووصفه بما لا يليق به من الجوارح والأدوات والتغير والحركات. القسم الثاني: أخبار ساقطة بأسانيد واهية وألفاظ شنيعة أجمع أهل العلم بالنقل على بطولها فهذه لا يجوز الاشتغال بها ولا التعريج عليها. والقسم الثالث: أخبار اختلف أهل العلم في أحوال نقلتها فقبلهم البعض دون ¬

(¬1) الشورى الآية (11). (¬2) الإخلاص الآية (4) ..

الكل، فهذه يجب الاجتهاد والنظر فيها لتلحق بأهل القبول أو تجعل في حيز الفساد والبطول. (¬1) قلت: وهذه العقيدة التي نقل الشيخ، من مخطوطات الظاهرية، نقل الذهبي بعضها في سير أعلام النبلاء. (¬2) التعليق: أليس هذا هو الذي سماه شيخ الإسلام في الحموية بعنوان: الأصلان والمثلان، ثم فصل القول رحمه الله في ذلك، فأين ابن تيمية والخطيب؟ الأول عاش في القرن الخامس والثاني عاش في القرن الثامن؟ ويقرر الثاني ما قرره الأول، وسيبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها لأنه ما ثبت ولا وجدنا أحدا ولا سمعنا أن فلانا تاب من العقيدة السلفية ولكن العكس، التاريخ والتراجم طافحة بتوبة فلان كان على مذهب المتكلمين أو الفلاسفة. فلذا السلفي يكون ثابت العقيدة، ثابت المواقف، غير متلون ولا متقلب كما قال هرقل لما سأل أبا سفيان عن أصحاب رسول الله: أيرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا. قال: وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. (¬3) ¬

(¬1) مختصر العلو (46 - 48) والتذكرة (3/ 1142 - 1143). (¬2) السير (18/ 283 - 284). (¬3) أحمد (1/ 262 - 263) والبخاري (1/ 42/7) ومسلم (3/ 1393/1773) مطولا والترمذي (5/ 65 - 66/ 2717) والنسائي في الكبرى (5/ 265/8845) مختصراً.

القائم بأمر الله (467 هـ)

القائم بأمر الله (¬1) (467 هـ) أمير المؤمنين، القائم بأمر الله، أبو جعفر عبد الله بن القادر بالله أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر بالله جعفر بن المعتضد العباسي البغدادي. مولده في سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة. بويع سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة. ونكب سنة خمسين في كائنة البساسيري ففر إلى البرية في ذمام أمير للعرب ثم عاد إلى خلافته بعد عام. كان أبيض وسيما، عالما مهيبا فيه دين وعدل. وكان ذا حظ من تعبد وصيام وتهجد وكان تاركا للملاهي رحمه الله وكانت خلافته خمسا وأربعين سنة. وغسله شيخ الحنابلة أبو جعفر بن أبي موسى الهاشمي وعاش ستا وسبعين سنة، وبويع بعده ابن ابنه المقتدي بالله. توفي في شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة. موقفه من المشركين: جاء في البداية: وفيها -أي سنة تسع وعشرين وأربعمائة- استدعى الخليفة بالقضاة والفقهاء وأحضر جاثليق النصارى ورأس جالوت اليهود، وألزموا بالغيار (¬2).اهـ (¬3) ¬

(¬1) تاريخ بغداد (9/ 399 - 404) وطبقات الحنابلة (2/ 240) والكامل في التاريخ (10/ 94 - 95) وتاريخ الإسلام (حوادث 461 - 470/ص.226 - 231) والسير (18/ 307 - 318) والبداية والنهاية (12/ 117) وشذرات الذهب (3/ 326 - 327). (¬2) الغيار: مخالفة المسلمين باللباس. (¬3) البداية (12/ 46)

الداوودي عبد الرحمن بن محمد (467 هـ)

الداوودي عبد الرحمن بن محمد (¬1) (467 هـ) الإمام العلامة الورع القدوة، جمال الإسلام مسند الوقت، أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر بن محمد الداوودي البوشنجي. مولده في ربيع الآخر سنة أربع وسبعين وثلاثمائة. سمع 'الصحيح' و'مسند عبد بن حميد' وتفسيره ومسند الدارمي من أبي محمد بن حمويه السرخسي، وتفرد في الدنيا بعلو ذلك. وسمع من عبد الرحمن بن أبي شريح وأبي عبد الله الحاكم وابن الصلت وتفقه على أبي حامد وأبي بكر القفال وعلى أبي الطيب الصعلوكي. قيل: إنه كان يتقوت بما يحمل إليه من ملك له ببوشنج ويبالغ في الورع ومحاسنه جمة ومن شعره: رب تقبل عملي ... أصلح أموري كلها ... ولا تخيب أملي قبل حلول الأجل قال السلفي سألت المؤتمن عن الداوودي فقال: كان من سادات رجال خراسان، ترك أكل الحيوانات وما يخرج منها، منذ دخل التركمان ديارهم. وقال أبو سعد السمعاني: له قدم في التقوى راسخ. وقال: فضله في الفنون مشهور، وذكره في الكتب مسطور، وأيامه غرر، وكلامه درر. توفي رحمه الله ببوشنج في شوال سنة سبع وستين وأربعمائة. موقفه من الخوارج: ونقل ابن التين عن الداوودي قال: الذي عليه العلماء في أمراء الجور ¬

(¬1) المنتظم (16/ 168 - 169) وتاريخ الإسلام (حوادث 461 - 470/ص.232 - 236) والسير (18/ 222 - 226) والبداية والنهاية (12/ 121) وشذرات الذهب (3/ 327).

عبيد الله بن محمد بن الحسين الفراء (469 هـ)

أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب، وإلا فالواجب الصبر. (¬1) عبيد الله بن محمد بن الحسين الفَرَّاء (¬2) (469 هـ) أبو القاسم عبيد الله بن محمد بن الحسين الفراء الأخ الأكبر لصاحب طبقات الحنابلة. ولد سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة. وسمع الحديث من أبي محمد الجوهري، وجده لأمه جابر بن ياسين، وأبي الحسين بن المهتدي. ورحل إلى الآفاق في طلب العلم. وكان ذا عفة وديانة وصيانة. وكان له معرفة بالجرح والتعديل وأسماء الرجال والكنى وكان حسن الخط صحيحا، فهما لقراءة الحديث. توفي سنة تسع وستين وأربعمائة. موقفه من المبتدعة: جاء في طبقات الحنابلة: ولما ظهرت البدع في سنة تسع وستين وأربعمائة هاجر من بلدنا إلى حرم الله وكانت وفاته في مضيه إلى مكة، بموضع يعرف بمعدن النقرة، في أواخر ذي القعدة من هذه السنة. (¬3) أبو منصور الديلمي (¬4) (469 هـ) اسبهندوست بن محمد بن الحسن أبو منصور الديلمي، الشاعر، لقي أبا ¬

(¬1) الفتح (13/ 8). (¬2) طبقات الحنابلة (2/ 235 - 236). (¬3) طبقات الحنابلة (2/ 236). (¬4) المنتظم (16/ 184 - 185) والبداية والنهاية (12/ 123 - 124) والكامل لابن الأثير (10/ 106) والنجوم الزاهرة (5/ 104).

موقفه من الرافضة:

عبد الله بن الحجاج وعبد العزيز بن نباتة، وغيرهما من الشعراء وكان شيعيا يهجو الصحابة وغيرهم، فتاب كما في قصيدته التي ذكر فيها اعتقاده، وهي قصيدة طويلة جدا، اقتطف منها كل من ترجم له. توفي سنة تسع وستين وأربعمائة. موقفه من الرافضة: جاء في المنتظم: شاعر مجود لقي أبا عبد الله بن الحجاج، وعبد العزيز ابن نباتة، وغيرهما من الشعراء، وكان يتشيع ثم تاب من ذلك. وذكر توبته في قصيدة يقول فيها: لاح الهدى فجلا عن الأبصار ... كالليل يجلوه ضياء نهار ورأت سبيل الرشد عيني بعدما ... غطى عليها الجهل بالأستار لابد فاعلم للفتى من توبة ... قبل الرحيل إلى ديار بوار يمحو بها ما قد مضى من ذنبه ... وينال عفو إلهه الغفار يا رب إني قد أتيتك تائبا ... من زلتي يا عالم الأسرار وعلمت أنهم هداة قادة ... وأئمة مثل النجوم دراري وعدلت عما كنت معتقدا له والسيد الصديق والعدل الرضى ... في الصحب صحب نبيه المختار عمر وعثمان شهيد الدار وعلي الطهر المفضل بعدهم ... سيف الإله وقاتل الفجار صحب النبي الغُرِّ بَلْ خلفاؤه ... فينا بأمر الواحد القهار رحماء بينهم بذاك صفاتهم ... وردت أشداء على الكفار وتراهم من راكعين وسجد ... يستغفرون الله بالأسحار

أبو عبد الله محمد بن جعفر الكوفي (470 هـ)

أيقنت حقا أن من والاهم ... سيفوز بالحسنى بدار قرار فعدلت نحوهم مقرا بالولا ... ومخالفا للعصبة الأشرار مترجيا عفو الإله ومحوه ... ما قدمته يدي من الأوزار وإذا سئلت عن اعتقادي قلت ما ... كانت عليه مذاهب الأبرار وأقول خير الناس بعد محمد ... صديقه وأنيسه في الغار ثم الثلاثة بعده خير الورى ... أكرم بهم من سادة أطهار هذا اعتقادي والذي أرجو به ... فوزي وعتقي من عذاب النار أبو عبد الله محمد بن جعفر الكوفي (¬1) (470 هـ) أبو عبد الله محمد بن جعفر الكوفي، كان فقيه القيروان وعالمها في زمانه، وكان فصيحا لسنا سنيا مباينا لأهل البدع شديدا عليهم. وجرت عليه محنة ذكر سببها صاحب معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان ففر على إثرها من القيروان ونزل مصر ثم الشام بعدها وتوفي هنالك سنة سبعين وأربعمائة. موقفه من المبتدعة: جاء في معالم الإيمان: كان فصيحا لسنا، سنيا مباينا لأهل البدع، شديدا عليهم. ولما أمر المعز بن باديس بلعنة عبيد الله في الخطب وذلك في يوم عيد الفطر من سنة أربعين وأربعمائة، خطب القاضي محمد بن جعفر هذا ¬

(¬1) معالم الإيمان (3/ 196).

المظفر بن الأفطس (470 هـ)

فقال -بعد ذكر ما جرت العادة به في خطبة الفطر-: اللهم والعن الفسقة الكفار المرائين الفجار، أعداء الدين وأنصار الشياطين، المخالفين لأمرك والناقضين لعهدك، المتبعين غير سبيلك والمبدلين لكتابك، اللهم العنهم لعنا وبيلا، واخزهم خزيا عريضا طويلا، اللهم وإن مولانا وسيدنا أبا تمام المعز بن باديس بن المنصور القائم بدينك، والناصر لسنة نبيك، والرافع للواء أولئك، يقول مصدقا لكتابك وتابعا لأمرك، مباينا لمن غير الدين وسلك غير سبيل المرشدين المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)} (¬1)، (هكذا بإسقاط "قل" من أول السورة وترك "لكم دينكم ولي دين" لتعلق الأمر بالمراد)، وأمر السلطان خطيب جامع القيروان أن يفعل مثل ذلك على المنبر في الجمع في كل خطبة، وهذا دليل على فصاحته ومباينته لأهل البدع ومحبته لأهل السنة، وجرت عليه محنة أعقبها التأخر عن قضائهم، والزهد في جوارهم. (¬2) المظفر بن الأفطس (¬3) (470 هـ) أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن مسلمة التجيبي، سلطان الثغر ¬

(¬1) الكافرون الآيات (1 - 5). (¬2) معالم الإيمان (3/ 196 - 197). (¬3) الكامل في التاريخ (9/ 288) ووفيات الأعيان (7/ 123) والسير (18/ 594 - 596) والوافي بالوفيات (3/ 323).

موقفه من المشركين:

الشمالي من الأندلس، ودار ملكه بطليوس. كان رأسا في العلم والأدب والشجاعة والرأي فكان منافرا للروم شجى في حلوقهم لا ينفس لهم مخنقا ولا يوجد لهم إلى الظهور عليه مرتقى. له تفسير للقرآن كبير. كان مع استغراقه في الجهاد لا يفتر عن العلم، ولا يترك العدل، صنع مدرسة يجلس فيها كل جمعة ويحضره العلماء. وكان يبيت في منظرة له، فإذا سمع صوتا وجه أعوانا لكشف الخبر لا ينام إلا قليلا. توفي بعد السبعين وأربعمائة أو قبلها، قاله الذهبي. موقفه من المشركين: - قال الذهبي: كان رأسا في العلم والأدب والشجاعة والرأي، فكان مناغرا للروم، شجى في حلوقهم، لا ينفس لهم مخنقا، ولا يوجد لهم إلى الظهور عليه مرتقى، ... ومن نثره -وقد غنم بلاد شلمنكة وهي مجاورته، فكتب إلى المعتمد بالله يفخر، وينكت عليه بمسالمته للروم، فقيل: إنه حصل من هذه الغزوة ألف جارية حسناء من بنات الأصفر-: من يصد صيدا فليصد كما صيدي، صيدي الغزالة من مرابض الأسد. أيها الملك إن الروم إذا لم تغز غزت، ولو تعاقدنا تعاقد الأولياء المخلصين فللنا حدهم، وأذللنا جدهم، ورأي السيد المعتمد على الله سراجٌ تضيء به ظلمات المنى. (¬1) - وقال: وكان كاتبه الوزير أبو محمد عبد الله بن النحوي أحد البلغاء، فكتب أذفونش -لعنه الله- يرعد ويبرق، فأجاب: وصل إلى الملك المظفر من عظيم الروم كتاب مدع في المقادير، يرعد ويبرق، ويجمع تارة ويفرق، ¬

(¬1) السير (18/ 594 - 595).

عبد الرحمن بن منده (470 هـ)

ويهدد بالجنود الوافرة، ولم يدر أن لله جنودا أعز بهم الإسلام، وأظهر بهم دين نبينا عليه الصلاة والسلام، يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم، فأما تعييرك للمسلمين فيما وهن من أحوالهم، فبالذنوب المركوبة، والفرق المنكوبة، ولو اتفقت كلمتنا علمت أي صائب أذقناك، كما كانت آباؤك مع آبائنا، وبالأمس كانت قطيعة المنصور على سلفك، أهدى ابنته إليه مع الذخائر التي كانت تفد في كل عام عليه، ونحن فإن قَلَّتْ أعدادُنا، وعدم من المخلوقين استمدادنا، فما بيننا وبينك بحر تخوضه، ولا صعب تروضه، إلا سيوف يشهد بحدها رقاب قومك، وجلاد تبصره في يومك، وبالله وملائكته (¬1) نتقوى عليك، ليس لنا سواه مطلب، ولا إلى غيره مهرب، وهل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين، شهادة، أو نصر عزيز. (¬2) عبد الرحمن بن مَنْدَه (¬3) (470 هـ) الشيخ الإمام، المحدث، المفيد الكبير، المصنف، أبو القاسم عبد الرحمن ابن الحافظ الكبير أبي عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده العبدي الأصبهاني. ولد سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة. كان صاحب خلق وفتوة وسخاء وبهاء. قال ابن رجب: وكان متمسكا بالسنة، معرضا عن أهل ¬

(¬1) كان الاولى أن يقول: وبالله ثم بملائكته نتقوى عليك. (¬2) السير (18/ 595 - 596) (¬3) السير (18/ 349 - 355) وذيل طبقات الحنابلة (1/ 26 - 31) والكامل في التاريخ (10/ 108) وتذكرة الحفاظ (3/ 1165 - 1170) وفوات الوفيات (1/ 288 - 289) والبداية والنهاية (12/ 126) وشذرات الذهب (3/ 337 - 338) والمنتظم (16/ 194 - 195).

موقفه من المبتدعة:

البدع، آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم. قال القاضي أبو الحسين: لم يكن في عصره وبلده مثله في ورعه وزهده وصيانته، وحاله أظهر من ذلك. من أقواله: علامة الرضاء إجابة الله تبارك وتعالى من حيث دعا بالكتاب والسنة، وعلامة الورع: الخروج من الشبهات بالأخبار والآيات، وعلامة القناعة: السكوت على الكتاب والسنة في الوقوف عند الشبهة، وعلامة الإخلاص: زيادة السر على الإعلان في إيثار قول الله تعالى وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم - على الأقاويل كلها بالإيمان والاحتساب، وعلامة الصبر: حبس النفس في استحكام الدرس بالكتاب والسنة، وعلامة التسليم: الثقة بالله الحكيم في قوله، والسكون إلى الله العليم بقول رسوله - صلى الله عليه وسلم - في جميع الأشياء. توفي في سادس عشر شوال سنة سبعين وأربعمائة. موقفه من المبتدعة: - قال ابن أبي يعلى: وكان قدوة أهل السنة بأصبهان، وشيخهم في وقته، وكان مجتهدا متبعا آثار النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويحرض الناس عليها، وكان شديدا على أهل البدع، مباينا لهم. وما كان في عصره وبلده مثله في ورعه، وزهده وصيانته. وحاله أظهر من ذلك. (¬1) - وقال ابن رجب: وكان متمسكا بالسنة، معرضا عن أهل البدع، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم. (¬2) - وقال أبو زكريا يحيى بن عبد الوهاب: كان عمي سيفا على أهل ¬

(¬1) طبقات الحنابلة (2/ 242). (¬2) طبقات الحنابلة (3/ 27).

البدع وهو أكبر من أن يثني عليه مثلي. (¬1) - وله تصانيف كثيرة، وردود جمة على المبتدعين والمنحرفين في الصفات وغيرها. (¬2) - جاء في السير عنه قال: قد عجبت من حالي، فإني وجدت أكثر من لقيته إن صدقته فيما يقوله مداراة له سماني موافقا، وإن وقفت في حرف من قوله أوفى شيء من فعله سماني مخالفا، وإن ذكرت في واحد منهما أن الكتاب والسنة بخلاف ذلك، سماني خارجيا، وإن قرئ علي حديث في التوحيد سماني مشبها، وإن كان في الرؤية سماني سالميا ... -إلى أن قال-: وأنا متمسك بالكتاب والسنة، متبرئ إلى الله من الشبه والمثل والند والضد والأعضاء والجسم والآلات، ومن كل ما ينسبه الناسبون إٍلَيَّ، ويدعيه المدعون عليَّ، من أن أقول في الله تعالى شيئا من ذلك، أو قلته، أو أراه، أو أتوهمه، أو أصفه به. (¬3) التعليق: هذا الإمام يحكي حاله مع أهل زمنه الذين لا يتورعون في نبزه بالألقاب؛ فكل صاحب هوى يرميه بوصمة عار. وسبحان الله! التاريخ يعيد نفسه، فأهل هذا الزمن على هذا المنوال، وعلى المرء -كما قال هذا الإمام- أن يتمسك بالكتاب والسنة ولا عليه من لمز فلان وعلان. ¬

(¬1) التذكرة (3/ 1166). (¬2) طبقات الحنابلة (3/ 28). (¬3) السير (18/ 351) وتذكرة الحفاظ (3/ 1167).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: له من الآثار السلفية: - الرد على الجهمية: ذكره في طبقات الحنابلة (¬1). ونقل منه قولة تكتب بماء الذهب وهي (التأويل عند أصحاب الحديث نوع من التكذيب). (¬2) عبد الخالق بن عيسى الشريف أبو جعفر (¬3) (470 هـ) الإمام شيخ الحنبلية، أبو جعفر، عبد الخالق بن أبي موسى عيسى بن أحمد، الهاشمي، العباسي، الحنبلي، البغدادي. قال ابن الجوزي: ولد سنة إحدى عشرة وأربعمائة. وكان عالما، فقيها، ورعا عابدا زاهدا، قوالا بالحق لا يحابي أحدا، ولا تأخذه في الله لومة لائم. قال ابن السمعاني: إمام الحنابلة في عصره بلا مدافعة، مليح التدريس، حسن الكلام في المناظرة، ورع زاهد، متقن عالم بأحكام القرآن والفرائض، مرضي الطريقة. قال ابن رجب: وكان شديد القول واللسان على أهل البدع ولم تزل كلمته عالية عليهم. وكان له المنزلة والصيت عند الخاص والعام وعند الحاكم والمحكوم، معظما عندهم، زاهدا في الدنيا إلى الغاية، قائما في إنكار المنكرات بيده ولسانه، مجتهدا في ذلك. وإذا ذكرت فتنة ابن القشيري والصدع بالحق فيها فلا ينصرف ذلك ¬

(¬1) (3/ 29). (¬2) (3/ 31). (¬3) السير (18/ 546 - 548) والبداية والنهاية (12/ 127 - 128) وطبقات الحنابلة (3/ 15 - 26) وشذرات الذهب (3/ 336 - 337) والمنتظم (16/ 195 - 197).

موقفه من المبتدعة:

إلا إليه، وقد أخذ في هذه الفتنة وحبس أياما. توفي ليلة الخميس للنصف من صفر، سنة سبعين بعد الأربعمائة. موقفه من المبتدعة: قال ابن أبي يعلى: وكان إذا بلغه منكر قد ظهر عظم عليه ذلك جدا، وعرف فيه الكراهة الشديدة، وكان شديد القول واللسان في أصحاب البدع، والقمع لباطلهم، ودحض كلمتهم وإبطالها. ولم تزل كلمته عالية عليهم، وأصحابه متظاهرين على أهل البدع، لا يرد يدهم عنهم أحد. (¬1) موقفه من الجهمية: كان هذا الإمام يضرب به المثل في الزهد والورع، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان شوكة في حلق المبتدعة، وكان له المنزلة والصيت عند الخاص والعام وعند الحاكم والمحكوم. وإذا ذكرت فتنة ابن القشيري والصدع بالحق فيها فلا ينصرف إلا إلى الشريف أبي جعفر وسنوردها إن شاء الله. جاء في طبقات الحنابلة: (وفي سنة ستين وأربعمائة كان أبو علي بن الوليد -شيخ المعتزلة- قد عزم على إظهار مذهبه، لأجل موت الشيخ الأجل أبي منصور بن يوسف، فقام الشريف أبو جعفر، وعبر إلى جامع المنصور هو وأهل مذهبه وسائر الفقهاء وأعيان أهل الحديث وبلغوا ذلك. ففرح أهل ¬

(¬1) طبقات الحنابلة (2/ 238).

موقفه من فتنة ابن القشيري:

السنة بذلك وقرأوا كتاب التوحيد لابن خزيمة ثم حضروا الديوان وسألوا إخراج الاعتقاد الذي جمعه الخليفة القادر فأجيبوا إلى ذلك وقرئ هناك بمحضر من الجميع واتفقوا على لعن من خالفه وتكفيره). (¬1) موقفه من فتنة ابن القشيري: جاء في طبقات الحنابلة: ومضمون ذلك أن أبا نصر بن القشيري ورد بغداد سنة تسع وستين وأربعمائة، وجلس في النظامية، وأخذ يذم الحنابلة وينسبهم إلى التجسيم، وكان يتعصب له أبو سعد الصوفي، ومال إلى نصره أبو إسحاق الشيرازي، وكتب إلى نظام الملك الوزير يشكو الحنابلة، ويسأله المعونة فاتفق جماعة من أتباعه على الهجوم على الشريف أبي جعفر في مسجده والإيقاع به، فرتب الشريف جماعة أعدهم لرد خصومة إن وقعت. فلما وصل أولئك إلى باب المسجد رماهم هؤلاء بالآجر. فوقعت الفتنة وقتل من أولئك رجل من العامة وجرح آخرون وأخذت ثياب .. وأغلق أتباع ابن القشيري أبواب سوق مدرسة النظام، وصاحوا: المستنصر بالله يا منصور -يعنون العبيدي صاحب مصر- وقصدوا بذلك التشنيع على الخليفة العباسي وأنه ممالئ للحنابلة، لاسيما والشريف أبو جعفر ابن عمه. وغضب أبو إسحاق وأظهر التأهب للسفر، وكاتب فقهاء الشافعية نظام الملك لما جرى فورد كتابه بالامتعاض من ذلك والغضب لتسلط الحنابلة على الطائفة الأخرى. وكان الخليفة يخاف من السلطان ووزيره نظام الملك ويداريهما. وحكى أبو المعالي صالح بن شافع عن شيخه أبي الفتح الحلواني وغيره. ممن ¬

(¬1) طبقات الحنابلة (3/ 19).

شاهد الحال أن الخليفة لما خاف من تشنيع الشافعية عليه عند النظام أمر الوزير أن يجيل الفكر فيما تنحسم به الفتنة، فاستدعى الشريف أبا جعفر بجماعة من الرؤساء منهم ابن جردة، فتلطفوا به حتى حضر في الليل وحضر أبو إسحاق وأبو سعد الصوفي وأبو نصر ابن القشيري، فلما حضر الشريف عظمه الوزير ورفعه وقال: إن أمير المؤمنين ساءه ما جرى من اختلاف المسلمين في عقائدهم وهؤلاء يصالحونك على ما تريد وأمرهم بالدنو من الشريف فقام إليه أبو إسحاق وكان يتردد في أيام المناظرة إلى مسجده بدرب المطبخ فقال: أنا ذاك الذي تعرف وهذه كتبي في أصول الفقه أقول فيها خلافا للأشعرية ثم قبل رأسه. فقال له الشريف: قد كان ما تقول إلا أنك لما كنت فقيرا لم تظهر لنا ما في نفسك فلما جاء الأعوان والسلطان وخواجا بزرك -يعني النظام- أبديت ما كان مخفيا، ثم قام أبو سعد الصوفي فقبل يد الشريف وتلطف به فالتفت مغضبا وقال: أيها الشيخ إن الفقهاء إذا تكلموا في مسائل الأصول فلهم فيها مدخل، وأما أنت فصاحب لهو وسماع وتعبير فمن زاحمك على ذلك حتى داخلت المتكلمين، والفقهاء فأقمت سوق التعصب؟ ثم قام ابن القشيري -وكان أقلهم احتراما للشريف- فقال الشريف: من هذا؟ فقيل: أبو نصر بن القشيري فقال لو جاز أن يشكر أحد على بدعته لكان هذا الشاب، لأنه باد هنا بما في نفسه ولم ينافقنا كما فعل هذان، ثم التفت إلى الوزير فقال: أي صلح يكون بيننا؟ إنما يكون الصلح بين مختصمين على ولاية أو دنيا أو تنازع في ملك. فأما هؤلاء القوم فإنهم يزعمون أنا كفار، ونحن نزعم أن من لا يعتقد ما نعتقده كان كافرا، فأي

صلح بيننا؟ وهذا الإمام يصدع المسلمين وقد كان جداه -القائم والقادر- أخرجا اعتقادهما للناس، وقرئ عليهم في دواوينهم وحمله عنهم الخراسانيون والحجيج إلى أطراف الأرض ونحن على اعتقادهما. وأنهى الوزير إلى الخليفة ما جرى وخرج في الجواب: عرف ما أنهيته من حضور ابن العم -كثر الله في الأولياء مثله- وحضور من حضر من أهل العلم والحمد لله الذي جمع الكلمة وضم الألفة، فليؤذن للجماعة في الانصراف وليقل لابن أبي موسى: أنه قد أفرد له موضع قريب من الخدمة ليراجع في كثير من الأمور المهمة وليتبرك بمكانه، فلما سمع الشريف هذا قال: فعلتموها. فحمل إلى موضع أفرد له بدار الخلافة وكان الناس يدخلون عليه مدة مديدة ثم قيل له: قد كثر استطراق الناس دار الخلافة فاقتصر على من تعين دخوله فقال: مالي غرض في دخول أحد علي، فامتنع الناس. ثم إن الشريف مرض مرضا أثر في رجليه فانتفختا. فيقال: إن بعض المتفقهة من الأعداء ترك له في مداسه سما والله تعالى أعلم. ثم إن أبا نصر بن القشيري أخرج من بغداد وأمر بملازمة بلده لقطع الفتنة وذلك نفي في الحقيقة. قال ابن النجار: كوتب نظام الملك الوزير بأن يأمره بالرجوع إلى وطنه وقطع هذه الثائرة، فبعث واستحضره وأمره بلزوم وطنه فأقام به إلى حين وفاته. (¬1) التعليق: ما يستفاد من هذا الحادث: ¬

(¬1) طبقات الحنابلة (3/ 19 - 22).

الملك أقسيس (471 هـ)

- ما كان يمثله السلفيون من قوة حسية ومعنوية وعلمية. - حسن قصد السلفيين وسلامة فطرتهم، وبالمقابل كيد المبتدعة ومكرهم. - ما كان عليه معظم خلفاء بني العباس من حسن العقيدة. - الصلح في أمر الدنيا جائز، وأما العقيدة فلا بيع فيها ولا شراء ولا مصالحة. - منقبة للشريف أبي جعفر. الملك أقسيس (¬1) (471 هـ) هو أَتْسِز بن أوق الخوارزمي، صاحب دمشق، كان يلقب بالمعظم، وكانت تسميه العامة بأقسيس. قال ابن كثير: وكان من خيار الملوك وأجودهم سيرة وأصحهم سريرة، أزال الرفض عن أهل الشام، وأبطل الأذان بحي على خير العمل، وأمر بالترضي عن الصحابة أجمعين. قال ابن عساكر: ولي دمشق في ذي القعدة سنة ثمان وستين وأربعمائة بعد حصاره إياها دفعات، وأقام بها الدعوة لبني العباس، وتغلب على أكثر الشام، وقصد مصر ليأخذها فلم يتم له ذلك ثم رجع إلى دمشق، ووجه المصريون إليه عسكرا ثقيلا فلما خاف من ظفرهم به راسل تتش بن ألب أرسلان يستنجد به، فقدم دمشق سنة إحدى وسبعين وأربعمائة فغلب على البلد، وقتل أتسز لإحدى عشرة خلت من شهر ربيع الآخر من هذه السنة واستقام الأمر لتتش. ¬

(¬1) السير (18/ 431 - 432) والكامل في التاريخ (10/ 99 - 100) والوافي بالوفيات (6/ 195) والبداية والنهاية (12/ 127) وتاريخ دمشق لابن عساكر (7/ 348).

موقفه من الرافضة:

موقفه من الرافضة: جاء في البداية والنهاية: وقد كان إقسيس هذا ... من خيار الملوك وأجودهم سيرة، وأصحهم سريرة، أزال الرفض عن أهل الشام، وأبطل الأذان بحي على خير العمل، وأمر بالترضي عن الصحابة أجمعين. (¬1) سعد بن علي الزَّنْجاني (¬2) (471 هـ) سعد بن علي بن محمد بن علي بن حسين، أبو القاسم الزنجاني الحافظ. ولد في حدود سنة ثمانين وثلاثمائة. سمع أبا عبد الله محمد بن الفضل بن نظيف وأبا الحسن الحبان وعلي بن سلامة وعبد الرحمن بن ياسر والحسين بن ميمون الصدفي وجماعة. وروى عنه أبو بكر الخطيب وأبو المظفر السمعاني ومحمد ابن طاهر المقدسي وهبة الله بن فاخر، وآخرون. قال أبو سعد: كان أبو القاسم حافظا، متقنا، ثقة، ورعا، كثير العبادة. وقال محمد بن طاهر: ما رأيت مثله، سمعت أبا إسحاق الحبال يقول: لم يكن في الدنيا مثل أبي القاسم سعد بن علي الزنجاني في الفضل. وقال الذهبي: وقد كان الحافظ سعد بن علي هذا من رؤوس أهل السنة وأئمة الأثر وممن يعادي الكلام وأهله، ويذم الآراء والأهواء. وله قصيدة مشهورة في السنة. وسئل إسماعيل الطلحي عنه فقال: إمام كبير ¬

(¬1) البداية والنهاية (12/ 127). (¬2) الأنساب (3/ 168) والمنتظم (16/ 201) والسير (18/ 385 - 389) وتاريخ الإسلام (حوادث 471 - 480/ 45 - 49) وتذكرة الحفاظ (3/ 1174 - 1178) والوافي بالوفيات (15/ 180) وشذرات الذهب (3/ 339 - 340).

موقفه من المبتدعة والجهمية:

عارف بالسنة. توفي رحمه الله سنة إحدى وسبعين وأربعمائة، وقيل سنة سبعين بمكة. موقفه من المبتدعة والجهمية: قال الذهبي في التذكرة: وقد كان الحافظ سعد بن علي هذا من رؤوس أهل السنة وأئمة الأثر وممن يعادي الكلام وأهله ويذم الآراء والأهواء فنسأل الله أن يختم لنا بخير وأن يتوفانا على الإيمان والسنة، فلقد قل من يتمسك بمحض السنة بل تراه يثني على السنة وأهلها وقد تلطخ ببدع الكلام ويجسر على الخوض في أسماء الله وصفاته وبادر إلى نفيها وبالغ بزعمه في التنزيه، وإنما كمال التنزيه تعظيم الرب عز وجل ونعته بما وصف به نفسه تعالى. (¬1) له من الآثار السلفية: قصيدة أبدى عقيدته السلفية فيها، ونقل منها الإمام ابن القيم في اجتماع الجيوش (¬2) والذهبي في السير (¬3) وهي من أبلغ القصائد، قال رحمه الله: تدبر كلام الله واعتمد الخبر ... ودع عنك رأيا لا يلائمه الأثر ونهج الهدى فالزمه واقتد بالألى ... هم شهدوا التنزيل علك تنجبر وكن موقنا أنا وكل مكلف ... أمرنا بقفو الحق والأخذ بالحذر وحكم فيما بيننا قول مالك ... قدير حليم عالم الغيب مقتدر سميع بصير واحد متكلم ... مريد لما يجري على الخلق من قدر ¬

(¬1) التذكرة (3/ 1177 - 1178). (¬2) (179 - 180). (¬3) (18/ 387 - 389).

فمن خالف الوحي المبين بعقله ... فذاك امرء قد خاب حقا وقد خسر وفي ترك أمر المصطفى فتنة فذر ... خلاف الذي قد قاله واتل واعتبر (¬1) إلى أن قال: وما أجمعت فيه الصحابة حجة ... وتلك سبيل المؤمنين لمن سبر ففي الأحذ بالإجماع فاعلم سعادة ... كما في شذوذ القول نوع من الخطر وفي اجتماع الجيوش: تمسك بحبل الله واتبع الأثر ... ودع عنك رأيا لا يلائمه خبر ثم قال ابن القيم: وقال في شرح هذه القصيدة: والصواب عند أهل الحق أن الله تعالى خلق السماوات والأرض وكان عرشه على الماء مخلوقا قبل خلق السماوات والأرض، ثم استوى على العرش بعد خلق السماوات والأرض على ما ورد به النص ونطق به القرآن، وليس معنى استوائه أنه ملكه واستولى عليه لأنه كان مستوليا عليه قبل ذلك وهو أحدثه، لأنه مالك جميع الخلائق ومستول عليها، وليس معنى الاستواء أيضا أنه ماس العرش أو اعتمد عليه أو طابقه فإن كل ذلك ممتنع في وصفه جل ذكره ولكنه مستو بذاته على عرشه بلا كيف كما أخبر عن نفسه. (¬2) ¬

(¬1) السير (18/ 387 - 388). (¬2) اجتماع الجيوش (ص.180).

موقف السلف من ابن العجوز محمد بن عبد الرحمن (474 هـ)

وضغطة القبر، وخلق الجنة والنار والحور العين، وقالوا: ليس للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة شفاعة، ولا له حوض، وكذبوا بالأخبار الواردة في ذلك، وقالوا: لا يجوز أن يرى الله عزوجل أحد لا في الدنيا ولا في الآخرة لا مؤمن ولا كافر، وقالوا: كلام الله محدث مخلوق، وقالوا: أسماء الله مخلوقة، وما كان له اسم حتى خلق له الخلق اسما، ويبقى عند عدم الخلق بلا اسم ولا صفة، وقالوا: يجوز أن يقال: بأن الله قادر على الظلم والكذب وغيرهما من القبائح، وقال الجبائي: يجوز أن يقال: بأن الله محبل نساء العالمين، وقالوا: يجب على الله أن يعوض الثواب والجزاء، وأهل السنة يقولون ذلك تفضل منه غير واجب عليه. وعندنا جميع أفعال العباد خلق لله تعالى كسب لهم خيرها وشرها، وعند القدرية هي خلق لهم لا رب لها ولا إله، وعندنا صانع العالم واحد، وعندهم عدد كثير يشركونه في الصنعة والخلق. (¬1) موقف السلف من ابن العجوز محمد بن عبد الرحمن (474 هـ) بيان زندقته وتحريفه لكلام الله: قال الذهبي: لقي أبا إسحاق التونسي بالقيروان، وعليه وعلى ابن البريا كانت العمدة في الفتوى، وكانت بينهما إحن، فجرت محنة للفظة قالها أبو عبد الله، قرأ الخطيب: (وأعدوا لهم ما استطعتم من) عدة، بدل: (قوة) (¬2) ¬

(¬1) المختار في أصول السنة له (ص.87). (¬2) الأنفال الآية (60).

أحمد بن علي بن عبد الله المقرئ أبو الخطاب (476 هـ)

فقال: الوزن واحد. فكفروه، وأفتوا باستتابته، وسجن. (¬1) أحمد بن علي بن عبد الله المقرئ أبو الخطاب (¬2) (476 هـ) أحمد بن علي بن عبد الله المقرئ الصوفي أبو الخطاب البغدادي. ولد سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة قرأ على أبي الحسن الحمامي وغيره. تلا على الحمامي المذكور بالسبع وقرأ عليه خلق كثير منهم أبو الفضل بن المهتدي وهبة الله بن المجلى وغيرهما. وروى عنه الحديث أبو بكر بن عبد الباقي وله مصنف في السبعة وقصيدة في السنة وقصيدة في عدد الآي وكان من شيوخ الإقراء ببغداد المشهورين بتجويد القراءة وتحسينها. توفي يوم الثلاثاء سادس وعشرين رمضان سنة ست وسبعين وأربعمائة ودفن بباب حرب. موقفه من الجهمية: قال رحمه الله: وإن كتاب الله ليس بمحدث ... على ألسن تتلو، وفي الصدر يجمع وما كتب الحفاظ في كل مصحف ... كذلك إن أبصرت، أوكنت تسمع وللجبل الرحمن لما بدا ... له تدكدك خوفا كالشطى يتقطع وكلم موسى ربه فوق عرشه ... على الطور تكليما، فما زال يخضع (¬3) ¬

(¬1) السير (18/ 551). (¬2) ذيل طبقات الحنابلة (3/ 45 - 48) وغاية النهاية (1/ 85) ومعرفة القراء الكبار (1/ 446 - 447) وتاريخ الإسلام (32/ 183) وشذرات الذهب (3/ 353). (¬3) ذيل الطبقات (1/ 47).

أبو الفتح عبد الوهاب ابن جلبة (476 هـ)

أبو الفتح عبد الوهاب ابن جَلَبَة (¬1) (476 هـ) عبد الوهاب بن أحمد بن جلبة الحراني أبو الفتح مفتي حران وقاضيها، تفقه بالقاضي أبي يعلى بن الفراء، وكتب تصانيفه وسمع من أبي علي بن شاذان وأبي بكر البرقاني والحسن بن شهاب العكبري. أخذ عنه مكي الرميلي والرحالة، وكان ولي قضاء حران نيابة من أبي يعلى. درس ووعظ وخطب ونشر السنة. قتله ابن قريش العقيلي في سنة ست وسبعين وأربعمائة. عند قيام أهل حران على ابن قريش لما أظهر سب الصحابة. موقفه من المبتدعة والرافضة: - قال ابن أبي يعلى: واختار الله العظيم له الشهادة على يدي ابن قريش العقيلي في سنة ست وسبعين وأربعمائة، عند اضطراب أهل حران على ابن قريش. لما أظهر سب السلف بها. (¬2) - جاء في السير: وكان ولي قضاء حران نيابة من أبي يعلى. درس ووعظ وخطب ونشر السنة. ¬

(¬1) السير (18/ 560 - 561) والعبر (2/ 9) والكامل في التاريخ (10/ 129 - 130) وشذرات الذهب (3/ 352). (¬2) طبقات الحنابلة (2/ 245) والسير (18/ 561) وذيل طبقات الحنابلة (1/ 43).

أبو إسحاق الشيرازي (476 هـ)

أبو إسحاق الشِّيرَازِي (¬1) (476 هـ) الشيخ الإمام، القدوة، المجتهد، شيخ الإسلام، أبو إسحاق إبراهيم بن علي ابن يوسف، الفيروز أبادي، الشيرازي الشافعي. ولد سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة. وقيل سنة ست وتسعين. سمع من أبي علي بن شاذان، وأبي بكر البرقاني، ومحمد بن عبيد الله الخرجوشي. وعنه الخطيب، وأبو الوليد الباجي، والحميدي وآخرون. قال ابن كثير: كان زاهدا عابدا ورعا، كبير القدر معظما محترما إماما في الفقه والأصول والحديث وفنون كثيرة، وله المصنفات الكثيرة النافعة. قال أبو بكر الشاشي: أبو إسحاق حجة الله على أئمة العصر. وقال الموفق الحنفي: أبو إسحاق أمير المؤمنين في الفقهاء. وقال شيرويه الديلمي: وكان ثقة فقيها زاهدا في الدنيا على التحقيق أوحد زمانه. وقال الذهلي: إمام أصحاب الشافعي والمقدم عليهم في وقته ببغداد، كان ثقة، ورعا، صالحا، عالما بالخلاف علما لا يشاركه فيه أحد. وقال القاضي ابن هانئ: إمامان ما اتفق لهما الحج، أبو إسحاق وأبو عبد الله الدامغاني، أما أبو إسحاق فكان فقيرا، ولو أراده لحملوه على الأعناق ... توفي سنة ست وسبعين وأربعمائة. موقفه من الجهمية: لقد اختلفت الآراء في أبي إسحاق، هل هو سلفي أو أشعري، والذي رجحه الكثير من الباحثين أنه كان على عقيدة السلف. وقد ذكر الدكتور ¬

(¬1) السير (18/ 452 - 464) والأنساب (9/ 361 - 362) والمنتظم (16/ 228 - 231) والكامل في التاريخ (10/ 132 - 133) ووفيات الأعيان (1/ 29 - 31) والوافي بالوفيات (6/ 62 - 66) والبداية والنهاية (12/ 133) وشذرات الذهب (3/ 349 - 351).

عبد الله بن عطاء الهروي (476 هـ)

زكريا عبد الرزاق في مقدمة تحقيقه لكتاب النكت في المسائل المختلف فيها بين الشافعي وأبي حنيفة مرجحات ثمانية لسلفية الشيخ، ثم عقد فصلا للجواب عن شبه من ادعى أنه أشعري وكذلك الدكتور عبد المجيد التركي في مقدمته لكتاب 'الوصول إلى مسائل الأصول' للشيخ أبي إسحاق فقال: (والمرجح أن ابن الصباغ لم يكن يقول بمقالة الأشاعرة، وإنما كان على غرار الشيرازي على عقيدة السلف الصالح ويبدو هذا من خلال كتابه الوحيد الذي وصل إلينا من كامل كتبه -أي كتاب الطريق السالم-). ومن أكبر المرجحات ما تركه من الآثار السلفية: 'عقيدة السلف'. كان الشيخ أبو إسحاق يقول: إنما نفقت الأشعرية عند الناس بانتسابهم إلى الحنابلة. (¬1) عبد الله بن عطاء الهروي (¬2) (476 هـ) عبد الله بن عطاء بن عبد الله الإبراهيمي الهروي المحدث الحافظ أبو محمد. أحد الحفاظ المشهورين الرحالين سمع من عبد الواحد المليحي وشيخ الإسلام الأنصاري ومن عبد الرحمن وعبد الوهاب ابني منده وجماعة. وكتب بخطه الكثير وخرج التخاريج وحدث. روى عنه أبو محمد سبط الخياط وأبو بكر بن الزعفراني وآخر من ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (4/ 17). (¬2) ذيل طبقات الحنابلة (3/ 44 - 45) وشذرات الذهب (3/ 352 - 353) والميزان (2/ 462) واللسان (3/ 316) والمنتظم (16/ 231 - 232).

موقفه من الجهمية:

روى عنه أبو المعالي بن النحاس ووثقه طائفة من حفاظ وقته في الحديث منهم المؤتمن الساجي. قال شهردار الديلمي عنه كان صدوقا حافظا متقنا واعظا حسن التذكير. وقال يحيى بن منده: كان أحد من يفهم الحديث ويحفظ صحيح النقل كثير الكتابة حسن الفهم وكان واعظا حسن التذكير. وتوفي في طريق مكة بعد عوده منها على يومين من البصرة سنة ست وسبعين وأربعمائة رحمه الله تعالى. موقفه من الجهمية: قال خميس الجوزي: رأيته ببغداد ملتحقا بأصحابنا، ومتخصصا بالحنابلة، يخرج لهم الأحاديث المتعلقة بالصفات، ويرويها لهم. وأضداده من الأشعرية يقولون: هو يضعها. وما علمت فيه ذلك. وكان يعرفه. (¬1) موقف السلف من البكري أبي بكر عتيق الأشعري (476 هـ) بيان فضائحه الأشعرية: جاء في السير: وفد على النظام الوزير -أي البكري-،فنفق عليه، وكتب له توقيعا بأن يعظ بجوامع بغداد، فقدم وجلس، واحتفل الخلق، فذكر ¬

(¬1) ذيل الطبقات (1/ 45).

الحنابلة، وحط وبالغ، ونبزهم بالتجسيم، فهاجت الفتنة، وغلت بها المراجل، وكفر هؤلاء هؤلاء، ولما عزم على الجلوس بجامع المنصور، قال نقيب النقباء: قفوا حتى أنقل أهلي، فلابد من قتل ونهب. ثم أغلقت أبواب الجامع، وصعد البكري، وحوله الترك بالقسي، ولقب بعلم السنة، فتعرض لأصحابه طائفة من الحنابلة، فشدت الدولة منه، وكبست دور بني القاضي ابن الفراء، وأخذت كتبهم، وفيها كتاب في الصفات، فكان يقرأ بين يدي البكري، وهو يشنع ويشغب، ثم خرج البكري إلى المعسكر متشكيا من عميد بغداد أبي الفتح بن أبي الليث. وقيل: إنه وعظ وعظم الإمام أحمد، ثم تلا: {وما كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} (¬1) فجاءته حصاة ثم أخرى، فكشف النقيب عن الحال فكانوا ناسا من الهاشميين حنابلة قد تخبؤوا في بطانة السقف، فعاقبهم النقيب، ثم رجع البكري عليلا، وتوفي في جمادى الآخرة سنة ست وسبعين وأربعمائة. (¬2) التعليق: من هذه الحادثة يستفاد: - ما كان عليه نظام الملك من نصرة لعقيدة الأشاعرة. - جرأة الأشاعرة على أهل الإثبات. - مصادرة كتب السلف. ¬

(¬1) البقرة الآية (102). (¬2) السير (18/ 561 - 562).

موقف السلف من مسعود بن ناصر (477 هـ)

- تمسك السلفيين بعقيدتهم مهما كان المقابل. - تشويه الأشاعرة لأهل الإثبات ومحاولة التستر وراء الإمام أحمد وهو بريء منهم. موقف السلف من مسعود بن ناصر (477 هـ) بيان ضلاله في باب القدر: قال أبو بكر بن الخاضبة: وكان مسعود قدريا، سمعته يقرأ الحديث، فلما أتى على حديث أبي هريرة: «احتج آدم وموسى» (¬1) في الحديث، وقال: «فحج آدم موسى» فجعل موسى فاعلا وآدم محجوجا، نوزع في ذلك وجرت قصة. (¬2) عبد الملك الجُوَيْنِي (¬3) (478 هـ) إمام الحرمين، الإمام الكبير، شيخ الشافعية، أبو المعالي، عبد الملك بن الإمام أبي محمد عبد الله بن يوسف الجويني، ثم النيسابوري، ضياء الدين الشافعي، صاحب التصانيف. ولد في ثامن عشر المحرم سنة تسع عشرة وأربعمائة. سمع من والده، وأبي حسان محمد بن أحمد المزكي، وأبي ¬

(¬1) تقدم في مواقف هارون الرشيد سنة (193هـ). (¬2) المنتظم (16/ 238) والتذكرة (4/ 1217). (¬3) السير (18/ 468 - 477) والأنساب (3/ 386 - 387) والمنتظم (16/ 244 - 247) والكامل في التاريخ (10/ 145) ووفيات الأعيان (1/ 167 - 170) والبداية والنهاية (12/ 136 - 137) والعقد الثمين (5/ 127 - 128) وشذرات الذهب (3/ 358 - 362).

موقفه من الجهمية:

عبد الرحمن محمد بن عبد العزيز النبلي وآخرين. وعنه جماعة منهم أبو عبد الله الفراوي، وزاهر الشمامي، وأحمد بن سهل المسجدي. سمع الحديث الكثير في البلاد وفي بغداد، وخرج إلى الحجاز فأقام بمكة أربع سنين، وعاد إلى نيسابور فجلس للتدريس ثلاثين سنة، وقد سلم إليه التدريس والمحراب والمنبر والخطابة ومجلس التذكير يوم الجمعة، وكان يحضر درسه كل يوم نحو ثلاثمائة، وتخرج به جماعة من الأكابر، حتى درسوا في حياته. قال أبو إسحاق الفيروز أبادي: تمتعوا من هذا الإمام، فإنه نزهة هذا الزمان، يعني أبا المعالي الجويني. كان من أئمة أهل الكلام، فتاب منه وتبرأ من أهله، ورجع إلى مذهب السلف. توفي رحمه الله ليلة الأربعاء بعد العشاء الخامس والعشرين من ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة. موقفه من الجهمية: هذا الرجل تركه أبوه وعمره عشرون سنة مع أن أباه رجع إلى عقيدة السلف ونبذ الأشعرية، ولا أدري كيف لم يستفد عبد الملك من أبيه عبد الله الذي تقدم الحديث عنه. والمهم أن أبا المعالي تربى على الأشعرية وعلم الكلام وترعرع في ذلك، حتى أصبح العمدة عند الأشاعرة على الخصوص وعند علماء الكلام على العموم، وألف لهم كتبا أصبحت المصدر الأول للعقيدة الأشعرية، منها 'الإرشاد' وقد طبع، و'الشامل' وهو الذي سماه شيخ الإسلام بـ'زبور الأشاعرة'، والحق أنه قطع الطريق على الأشعري وأصحابه، وأصبحت العقيدة الأشعرية مستمدة على ما قعده أبو المعالي. والكلام على أبي المعالي يحتاج إلى تأليف خاص، والمهم عندنا الإشارة إلى المواقف السلفية،

ومن كان واقفا عقبة أمام العقيدة السلفية، فكان هذا الرجل من أكبر العقبات التي واجهت العقيدة السلفية واسمع ما يقوله في السلف وكتبهم. قال أبو المعالي: إن أئمة السنة وأخيار الأمة بعد صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم، لم يودع أحد منهم كتابه الأخبار المتشابهات، فلم يورد مالك رضي الله عنه في الموطأ منها شيئا مما أورده الآجري وأمثاله، وكذلك الشافعي وأبو حنيفة وسفيان والليث والثوري ولم يفتوا بنقل المشكلات. ونبغت ناشئة ضروا بنقل المشكلات وتدوين المتشابهات، وتبويب أبواب ورسم تراجم على ترتيب فطرة المخلوقات، ورسموا بابا في ضحك الباري، وبابا في نزوله وانتقاله وعروجه ودخوله وخروجه، وبابا في إثبات الأضراس، وبابا في خلق الله آدم على صورة الرحمن، وبابا في إثبات القدم والشعر القطط، وبابا في إثبات الأصوات والنغمات، تعالى الله عن قول الزائغين. قال: وليس يعتمد جمع هذه الأبواب وتمهيد هذه الأنساب إلا مشبه على التحقيق أو متلاعب زنديق. (¬1) التعليق: انظر إلى هذا الحقد على السلف وكتبهم حتى جعله يخترع ما لم يوجد، ولا خطر ببال، وأين هذه الدعاوى في كتاب الآجري الذي مثل به. ودعواه أن الأئمة لم يوردوا شيئا من أحاديث الصفات جهل واضح. وقد ¬

(¬1) الفتاوى الكبرى (5/ 291).

بين شيخ الإسلام ذلك بيانا مفصلا في الفتاوى الكبرى. (¬1) وكانت بضاعة أبي المعالي في الحديث قليلة وربما منعدمة. يقول الإمام الذهبي: كان هذا الإمام مع فرط ذكائه وإمامته في الفروع وأصول المذهب وقوة مناظرته، لا يدري الحديث كما يليق به، لا متنا ولا إسنادا. ذكر في كتاب البرهان حديث معاذ في القياس فقال: هو مدون في الصحاح متفق على صحته. (¬2) التعليق: فمن كان حاله كما وصف الذهبي، هل له أن يقول إن الأئمة لم يوردوا شيئا من أحاديث الصفات. فكل فن له أربابه، ومن تكلم فيما لا يحسنه كان ساقط الحجة. وقوعه في الحيرة لمخالفة عقيدة السلف في العلو: - قال محمد بن طاهر: حضر المحدث أبو جعفر الهمذاني مجلس وعظ أبي المعالي، فقال: كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان عليه. فقال أبو جعفر: أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها، ما قال عارف قط: يا ألله إلا وجد من قلبه ضرورة تطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف ندفع هذه الضرورة عن أنفسنا، أو قال: فهل عندك دواء لدفع هذه الضرورة التي نجدها؟ قال: يا حبيبي ما ثم إلا الحيرة. ولطم على رأسه، ونزل، وبقي ¬

(¬1) (5/ 292 - 307). (¬2) السير (18/ 471).

وقت عجيب، وقال فيما بعد: حيرني الهمذاني. (¬1) - ونقل أن أبا المعالي تاب ورجع إلى عقيدة السلف نحسن الظن به أنه رجع في نيته إلى عقيدة السلف، ولكن العبارة التي يستدل بها من قال إنه رجع في كتابه المسمى العقيدة النظامية، والعبارة عبارة عن التعبير عن التفويض لا عن الإثبات وهذه هي العبارة بعينها من العقيدة النظامية قال: اختلفت مسالك العلماء في الظواهر التي وردت في الكتاب والسنة، وامتنع على أهل الحق فحواها فرأى بعضهم تأويلها والتزم ذلك في القرآن وما يصح من السنن وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب تعالى، والذي نرتضيه رأيا وندين الله به عقد اتباع سلف الأمة، فالأولى الاتباع والدليل السمعي القاطع في ذلك إجماع الأمة حجة متبعة وهو مستند معظم الشريعة وقد درج صحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها وهم صفوة الإسلام المستقلون بأعباء الشريعة ... (¬2) - ومن أقواله في رجوعه عن الكلام إلى الحديث والآثار ما جاء في السير: قال الحافظ محمد بن طاهر: سمعت أبا الحسن القيرواني الأديب -وكان يختلف إلى درس الأستاذ أبي المعالي في الكلام- فقال: سمعت أبا المعالي اليوم يقول: يا أصحابنا: لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما اشتغلت به. ¬

(¬1) السير (18/ 474 - 475). (¬2) العقيدة النظامية (ص.23) والسير (18/ 473).

- وحكى الفقيه أبو عبد الله الحسن بن العباس الرستمي قال: حكى لنا أبو الفتح الطبري الفقيه قال: دخلت على أبي المعالي في مرضه، فقال: اشهدوا علي أني قد رجعت عن كل مقالة تخالف السنة وأني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور. (¬1) - قال ابن الجوزي: وكان أبو المعالي الجويني يقول لقد جلت أهل الإسلام جولة وعلومهم وركبت البحر الأعظم وغصت في الذي نهوا عنه كل ذلك في طلب الحق وهربا من التقليد والآن فقد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق عليكم بدين العجائز فإن لم يدركني الحق بلطيف بره فأموت على دين العجائز ويختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص فالويل لابن الجويني. وكان يقول لأصحابه يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما تشاغلت به. (¬2) - قال المازري في شرح 'البرهان' في قوله: إن الله يعلم الكليات لا الجزئيات: وددت لو محوتها بدمي. وقيل: لم يقل بهذه المسألة تصريحا، بل ألزم بها لأنه قال بمسألة الاسترسال فيما ليس بمتناه من نعيم أهل الجنة، فالله أعلم. قلت -أي الذهبي-: هذه هفوة اعتزال، هجر أبو المعالي عليها، وحلف أبو القاسم القشيري لا يكلمه، ونفي بسببها، فجاور وتعبد، وتاب - ولله الحمد- منها، كما أنه في الآخر رجح مذهب السلف في الصفات ¬

(¬1) السير (18/ 474) ومجموع الفتاوى (5/ 11). (¬2) تلبيس إبليس (104 - 105).

موقف السلف من مسلم بن قريش صاحب الموصل (478 هـ)

وأقره. (¬1) - قال الفقيه الغانم الموشيلي: سمعت الإمام أبا المعالي يقول لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما اشتغلت بالكلام. (¬2) موقف السلف من مسلم بن قريش صاحب الموصل (478 هـ) بيان رفضه وتسلطه: جاء في السير: السلطان شرف الدولة، أبو المكارم، مسلم بن ملك العرب قريش بن بدران بن الملك حسام الدولة مقلد بن المسيب بن رافع العقيلي. كان يترفض كأبيه. ونهب أبوه دور الخلافة في فتنة البساسيري، وأجار القائم بأمر الله. ومات سنة ثلاث وخمسين كهلا، فولي ابنه ديار ربيعة ومضر، وتملك حلب، وأخذ الأتاوة من بلاد الروم، وحاصر دمشق، وكاد أن يأخذها، فنزع أهل حران طاعته، فبادر إليها، فحاربوه، فافتتحها، وبذل السيف في السنة بها، وأظهر سب الصحابة، ودانت له العرب، ورام الإستيلاء على بغداد بعد طغرلبك، وكان يجيد النظم، وله سطوة وسياسة وعدل بعنف، وكان يعطي جزية بلاده للعلوية. عمر سور الموصل وشيدها. ثم إنه عمل المصاف مع سلطان الروم سليمان بن قتلمش في سنة 478 بظاهر ¬

(¬1) السير (18/ 472). (¬2) السير (18/ 473).

شيخ الإسلام عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي (481 هـ)

أنطاكية، فقتل مسلم وله بضع وأربعون سنة. وقيل: بل خنقه خادم في الحمام. وملكوا أخاه إبراهيم، وله سيرة طويلة وحروب وعجائب. (¬1) شيخ الإسلام عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي (481 هـ) كان هذا الإمام سدا منيعا في وجوه المبتدعة، برز ذلك في شخصه وكتبه ومناظراته، لقد عرض على السيف خمس مرات ومع ذلك رزقه الله الصمود في وجه من أراد أن يجعله أشعريا أو كلابيا. ولأبي إسماعيل أخطاء تمنينا وتمنى أهل العلم قبلنا عدم صدورها من الشيخ يتمثل ذلك في كتابه: 'منازل السائرين' ذكر فيه أشياء يتبرأ السلف منها، وربما فيه ما يؤدي إلى الحلول. وقد قال الإمام الذهبي في 'منازل السائرين': فيه أشياء مطربة وفيه أشياء مشكلة ومن تأمله لاح له ما أشرت إليه. (¬2) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد كلام له على إبطال أن الله في كل مكان: وإن قالوا بحلوله بذاته في قلوب العارفين كان هذا قولا بالحلول الخالص وقد وقع في ذلك طائفة من الصوفية حتى صاحب: 'منازل السائرين' في توحيده المذكور في آخر المنازل في مثل هذا الحلول. (¬3) وقال الذهبي: ورأيت أهل الاتحاد يعظمون كلامه في منازل السائرين ويدعون أنه موافقهم، ذائق لوجدهم، ورامز لتصوفهم الفلسفي، وأنى يكون ¬

(¬1) السير (18/ 482 - 483). (¬2) السير (18/ 509). (¬3) مجموع الفتاوى (5/ 230).

ذلك وهو من دعاة السنة وعصبة آثار السلف؟. (¬1) وقال أيضاً: ... فإن طائفة من صوفة الفلسفة والاتحاد يخضعون لكلامه في منازل السائرين وينتحلونه، ويزعمون أنه موافقهم، كلا بل هو رجل أثري، لهج بإثبات نصوص الصفات، منافر للكلام وأهله جداً. (¬2) وقال ابن رجب: وقد اعتنى بشرح كتابه منازل السائرين جماعة، وهو كثير الإشارة إلى مقام الفناء في توحيد الربوبية، واضمحلال ما سوى الله تعالى في الشهود لا في الوجود. فيتوهم فيه أنه يشير إلى الاتحاد حتى انتحله قوم من الاتحادية، وعظموه لذلك. وذمه قوم من أهل السنة، وقدحوا فيه بذلك. وقد برأه الله من الاتحاد. وقد انتصر له شيخنا أبو عبد الله ابن القيم في كتابه الذي شرح فيه المنازل، وبين أن حمل كلامه على قواعد الاتحاد زور وباطل. (¬3) وإليك نماذج من مواقف شيخ الإسلام الهروي من الجهمية: محن الشيخ: - قال شيخ الإسلام الهروي: ثم إني لا أعلم أني سمعت في عمري بشرا واحدا في بلدتنا يقر على نفسه بذلك المذهب أو يصرح بشيء من الكلام، وهو يعرفه أو يظهر شيئا من كتبهم إلا من أحد وجوه أربعة: أحدها: أن يكون رجل عُلِم منه أنه قرأ الكلام فهو يحلف أنه إنما قرأه ليصول به على خصم لا ليدين به دينا. ¬

(¬1) تذكرة الحفاظ (3/ 1183). (¬2) سير أعلام النبلاء (18/ 510). (¬3) ذيل طبقات الحنابلة (1/ 67).

والثاني: رجل أخذ عن أستاذ متهم به فهو يحلف بالله أنه إنما أخذ عنه الفقه لا الكلام. والثالث: قوم لحقهم داء من الصحبة حتى لحظتهم الأعين بالهوان بصحبة أهل التهمة والركون إليهم، فهم إذا خلوا يتناجون، وإذا برزوا يتهاجون. والرابع: رجل ظهر عليه شيء من كتب الكلام بخطه أو قراءته أو أخذه حيا أو ميتا، فكلهم يحمل من أعباء الذل والهجران والطرد ما لا يحمل عيار ولا يعالجه ماجن ولا مخنث، ولا مريضهم يعاد ولا جنائزهم تشيع، على أنك لا تعدم منهم قلة الورع وقسوة القلب، وقلة الورد وسوء الصلاة والاستخفاف بالسنة والتهاون بالحديث والوضع من أهله وترك الجماعات والشماتة بفواجع أهل السنة والهزوء بهم. وقد سمعت بعض المتهمين يقول: وما الكلام كل ما خرج من الفم من النطق فهو كلام، فهو والله حمق ظاهر أن يكون يلبسه بالشافعي الإمام المطلبي باعترائه الكاذب إليه، وزعمه الباهت عليه، وهو من أشد خلق الله تعالى على المتكلمين وأثقلهم عليه، كما نظمنا عنه من أقاويله الغر في ذمهم، ثم هذا المراوغ يدعي أنه لا يدري ما الكلام، وهؤلاء أئمة الإسلام. وكل هذا التحذير وإيذانه قديما بالضرر الكبير، فليبرزوا به إذا من الخباء، وليخرجوا الطبل من الكساء ويقيموا الخطأ على أولئك السادة الهداة، وليشيروا بنا إلى كل مسلم أدركه في الكلام رشد، أو لقي به خيرا، فلا والله لا دين المتناجين دين، ولا رأي

المتسترين متين. (¬1) - قال ابن تيمية: وشيخ الإسلام، وإن كان رحمه الله من أشد الناس مباينة للجهمية في الصفات، وقد صنف كتابه 'الفاروق في الفرق بين المثبتة والمعطلة' وصنف كتاب 'تكفير الجهمية'وصنف كتاب 'ذم الكلام وأهله' وزاد في هذا الباب، حتى صار يوصف بالغلو في الإثبات للصفات، لكنه في القدر على رأي الجهمية، نفاة الحكم والأسباب. (¬2) - جاء في سير أعلام النبلاء: قال ابن طاهر: سمعته يقول: عرضت على السيف خمس مرات لا يقال لي ارجع عن مذهبك، لكن يقال اسكت عمن خالفك. فأقول لا أسكت. (¬3) وقال الحافظ أبو النضر الفامي: كان شيخ الإسلام أبو إسماعيل بكر الزمان وواسطة عقد المعاني وصورة الإقبال في فنون الفضائل وأنواع المحاسن منها، نصرة الدين والسنة من غير مداهنة ولا مراقبة لسلطان ولا وزير، وقد قاسى بذلك قصد الحساد في كل وقت وسعوا في روحه مرارا وعمدوا إلى إهلاكه أطوارا، فوقاه الله شرهم، وجعل قصدهم أقوى سبب لارتفاع شأنه. (¬4) - وسمعت خادمه أحمد بن أميرجه يقول: حضرت مع الشيخ للسلام على الوزير نظام الملك، وكان أصحابنا كلفوه الخروج إليه وذلك بعد المحنة ورجوعه إلى وطنه من بلخ -يعني أنه كان قد غرب- قال: فلما دخل عليه ¬

(¬1) ذم الكلام (4/ 425 - 428 الأنصاري). (¬2) المنهاج (5/ 358). (¬3) السير (18/ 509) وطبقات الحنابلة (1/ 53 - 54). (¬4) السير (18/ 510).

أكرمه وبجله وكان هناك أئمة من الفريقين فاتفقوا على أن يسألوه بين يدي الوزير فقال العلوي الدبوسي: يأذن الشيخ الإمام أن يسأل؟ قال: سل؟ قال: لم تلعن أبا الحسن الأشعري؟ فسكت الشيخ وأطرق الوزير. فلما كان بعد ساعة قال الوزير: أجبه؟ فقال: لا أعرف أبا الحسن وإنما ألعن من لم يعتقد أن الله في السماء وأن القرآن في المصحف ويقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - اليوم ليس بنبي. ثم قام وانصرف فلم يمكن أحدا أن يتكلم من هيبته فقال الوزير للسائل: هذا أردتم، أن نسمع ما كان يذكره بهراة بآذاننا وما عسى أن أفعل به؟ ثم بعث إليه بصلة وخلع فلم يقبلها وسافر من فوره إلى هراة. (¬1) - قال: وسمعت أصحابنا بهراة يقولون: لما قدم السلطان ألب أرسلان هراة في بعض قدماته اجتمع مشائخ البلد ورؤساؤه، ودخلوا على أبي إسماعيل وسلموا عليه، وقالوا ورد السلطان ونحن على عزم أن نخرج ونسلم عليه، فأحببنا أن نبدأ بالسلام عليك، وكانوا قد تواطؤوا على أن حملوا معهم صنما من نحاس صغيرا وجعلوه في المحراب تحت سجادة الشيخ وخرجوا وقام الشيخ إلى خلوته ودخلوا على السلطان واستغاثوا من الأنصاري وأنه مجسم وأنه يترك في محرابه صنما يزعم أن الله تعالى على صورته وإن بعث السلطان الآن يجده. فعظم ذلك على السلطان وبعث غلاما وجماعة فدخلوا وقصدوا المحراب فأخذوا الصنم فألقى الغلام الصنم فبعث السلطان من أحضر الأنصاري فأتى فرأى الصنم والعلماء وقد اشتد غضب السلطان فقال له السلطان: ما هذا؟ قال: صنم يعمل من الصفر شبه اللعبة. قال: لست عن ذا ¬

(¬1) السير (18/ 511) وذيل طبقات الحنابلة (1/ 54 - 55).

أسألك. قال: فعم يسألني السلطان؟ قال: إن هؤلاء يزعمون أنك تعبد هذا وأنك تقول: إن الله على صورته. فقال شيخ الإسلام بصولة وصوت جهوري: سبحانك هذا بهتان عظيم. فوقع في قلب السلطان أنهم كذبوا عليه فأمر به فأخرج إلى داره مكرما وقال لهم: اصدقوني وهددهم فقالوا: نحن في يدي هذا في بلية من استيلائه علينا بالعامة فأردنا أن نقطع شره عنا. فأمر بهم ووكل بهم وصادرهم وأخذ منهم وأهانهم. (¬1) التعليق: هكذا مكائد المبتدعة في كل زمان ومكان، لا يراقبون الله ولا يخافونه، فالرجل ينافح عن مذهب السلف ويدافع عنه، وهم يتهمونه بالتشبيه والتمثيل وتصل بهم الوقاحة إلى ما فعلوا. ولكن الله لطيف بعباده وهو للظالمين بالمرصاد مهما علا شأنهم وارتفع. مناظرات الشيخ وفحمه للخصم: - قال ابن طاهر: حكى لي أصحابنا، أن السلطان ألب أرسلان قدم هراة ومعه وزيره نظام الملك، فاجتمع إليه أئمة الحنفية وأئمة الشافعية للشكوى من الأنصاري ومطالبته بالمناظرة، فاستدعاه الوزير فلما حضر قال: إن هؤلاء قد اجتمعوا لمناظرتك فإن يكن الحق معك رجعوا إلى مذهبك، وإن يكن الحق معهم رجعت أو تسكت عنهم، فوثب الأنصاري وقال: أناظر على ما في كمي قال: وما في كمك؟ قال: كتاب الله -وأشار إلى كمه ¬

(¬1) السير (18/ 512) وذيل طبقات الحنابلة (1/ 55 - 56).

اليمين- وسنة رسوله -وأشار إلى كمه اليسار- وكان فيه: الصحيحان فنظر الوزير إليهم مستفهما لهم؟ فلم يكن فيهم من ناظره من هذا الطريق. (¬1) - وجاء في ذيل طبقات الحنابلة: وذكر الرهاوي أن الحسين بن محمد الكتبي، ذكر في تاريخه أن مسعود ابن محمود بن سبكتكين قدم هراة سنة ثلاثين وأربعمائة فاستحضر شيخ الإسلام وقال له: أتقول: إن الله عز وجل يضع قدمه في النار؟ فقال: أطال الله بقاء السلطان المعظم إن الله عز وجل لا يتضرر بالنار والنار لا تضره، والرسول لا يكذب عليه وعلماء هذه الأمة لا يتزيدون في ما يروون عنه، ويسندون إليه فاستحسن جوابه ورده مكرما. (¬2) التعليق: كان السلاح عند علماء السلف الكتاب والسنة. فما وافقهما استعانوا به، وما خالفهما نبذوه وراءهم ظهريا. والأمر إلى يومنا هذا كذلك، فمن تمسك بالكتاب والسنة وطلب الحجة منهما تجده دائما هو القوي والغالب مهما كان شأن المناظر، ومن قصر فيهما يكون كل واحد بحسبه، فعلمه بهما يفيده بقدر ذلك وجهله بهما يجعله مذموما مدحورا. - جاء في السير: قال المؤتمن وسمعته يقول: تركت الحيري لله، قال: وإنما تركه لأنه سمع منه شيئا يخالف السنة. قال الإمام الذهبي: كان يدري الكلام على رأي الأشعري وكان شيخ الإسلام أثريا قحا، ينال من المتكلمة فلهذا أعرض عن الحيري، والحيري فثقة ¬

(¬1) السير (18/ 510 - 511) وذيل طبقات الحنابلة (1/ 54). (¬2) ذيل طبقات الحنابلة (1/ 57).

عالم. (¬1) - وجاء في طبقات الحنابلة: وكان شديدا على الأشعرية. (¬2) ولشيخ الإسلام قصيدة نونية طويلة مشهورة ذكر فيها أصول السنة. (¬3) آثار الشيخ السلفية: 1 - 'الفاروق في الصفات': نقل منه ابن القيم في اجتماع الجيوش (¬4)، وشيخ الإسلام في الفتاوى الكبرى (¬5) والمنهاج (¬6)، وقال فيه الإمام الذهبي: غالب ما رواه في كتاب 'الفاروق' صحاح وحسان وفيه باب إثبات استواء الله على عرشه فوق السماء السابعة بائنا من خلقه، من الكتاب والسنة ... (¬7) 2 - 'ذم الكلام': وهو من خيرة المصادر السلفية، وتوجد منه نسخة في الجامعة الإسلامية، ونسخة أخرى في تركيا، وقد سجل رسالة علمية بالجامعة الإسلامية: قسم العقيدة من قبل الطالب عبد الرحمان الشبلي، في مرحلة الماجستير -وقد نفعنا الله به في هذا البحث المبارك- وأكثر من النقل عنه العلماء في كتبهم. ولخصه السيوطي في صون المنطق وهو أشهر من أن يعرف به. 3 - 'الأربعون في أصول الدين'، وقد طبع الكتاب بحمد الله بتحقيق الشيخ علي ناصر فقيهي. ¬

(¬1) السير (18/ 506) وتذكرة الحفاظ (3/ 1186) وذيل طبقات الحنابلة (1/ 51). (¬2) ذيل الطبقات (2/ 247). (¬3) ذيل الطبقات (1/ 53). (¬4) (ص.253 - 254). (¬5) (5/ 49). (¬6) (5/ 358). (¬7) السير (18/ 514).

4 - 'الرد على الجهمية'، ذكره شيخ الإسلام في المنهاج. (¬1) السنة الثانية والثمانون بعد الأربعمائة فضائح الشيعة وموقف المسلمين منهم (482 هـ) جاء في البداية والنهاية: ثم دخلت سنة ثنتين وثمانين وأربعمائة، وفيها كانت فتن عظيمة بين الروافض والسنة ورفعوا المصاحف، وجرت حروب طويلة وقتل فيها خلق كثير، نقل ابن الجوزي في المنتظم من خط ابن عقيل، أنه قتل في هذه السنة قريب من مائتي رجل قال: وسب أهل الكرخ الصحابة وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -. فلعنة الله على من فعل ذلك من أهل الكرخ. وإنما حكيت هذا ليعلم ما في طوايا الروافض من الخبث والبغض لدين الإسلام وأهله ومن العداوة الباطنة الكامنة في قلوبهم لله ولرسوله وشريعته. (¬2) التعليق: لا أدري ماذا يقول دعاة التقارب في مثل هذه الوقائع المؤلمة، وماذا يقولون في تعبير الإمام ابن كثير هذا: هل هو جاهل بالوقائع التاريخية أو بالأحكام الشرعية، أو لا يعرف الفرق بين السنة والشيعة ومدى إمكانية التقارب بينهما. كل هذه أسئلة ينبغي لها أن توضع، ويجد دعاة التقارب لها جوابا حتى يقنعونا بفكرتهم الفاشلة التي منطلقها الضعف والخور، أو الأغراض الشخصية والمذهبية ... ¬

(¬1) (5/ 358). (¬2) البداية والنهاية (12/ 144).

الحبال (482 هـ)

الحَبَّال (¬1) (482 هـ) إبراهيم بن سعيد بن عبد الله النعماني أبو إسحاق الإمام الحافظ المتقن العالم المصري الكتبي الوراق الحبال، ولد سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة. وسمع من الحافظ عبد الغني بن سعيد في سنة سبع وأربعمائة. فكان آخر من سمع منه، وسمع من أحمد بن عبد العزيز بن ثرثال ومن أبي محمد عبد الرحمن بن عمر بن النحاس ومحمد بن الفضل بن نظيف وخلق سواهم. وكان يتجر في الكتب ويخبرها، وحصل من الأصول والأجزاء ما لا يوصف كثرة. روى عنه أبو عبد الله الحميدي وإبراهيم بن الحسن العلوي النقيب ومحمد بن إبراهيم البكري وعدة. قال ابن ماكولا: كان الحبال ثقة ثبتا ورعا خيرا. قال ابن طاهر: رأيت الحبال وما رأيت أتقن منه. مات سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة وله إحدى وتسعون سنة. موقفه من المشركين: جاء في السير: وكانت الدولة الباطنية قد منعوه من التحديث، وأخافوه، وهددوه، فامتنع من الرواية، ولم ينتشر له كبير شيء. قال القاضي أبو علي الصدفي: منعت من الدخول إليه إلا بشرط أن لا يسمعني، ولا يكتب إجازة، فأول ما فاتحته الكلام خلط في كلامه، وأجابني على غير سؤالي حذرا من أن أكون مدسوسا عليه، حتى بسطته، وأعلمته أني أندلسي ¬

(¬1) السير (18/ 495 - 503) والعبر (2/ 15) وتذكرة الحفاظ (3/ 1191 - 1196) والوافي بالوفيات (5/ 355) والنجوم الزاهرة (5/ 129) وشذرات الذهب (3/ 356).

موقف السلف من أبي منصور بن شكرويه الأشعري (482 هـ)

أريد الحج، فأجاز لي لفظا، وامتنع من غير ذلك. - قال الذهبي: قبح الله دولة أماتت السنة ورواية الأثارة النبوية، وأحيت الرفض والضلال، وبثت دعاتها في النواحي تغوي الناس، ويدعونهم إلى نحلة الإسماعيلية، فبهم ضلت جبلية الشام، وتعثروا، فنحمد الله على السلامة في الدين. (¬1) موقف السلف من أبي منصور بن شكرويه الأشعري (482 هـ) بيان أشعريته: قال السمعاني: سألت أبا سعد البغدادي عن أبي منصور بن شكرويه، فقال: كان أشعريا، لا يسلم علينا، ولا نسلم عليه، ولكنه كان صحيح السماع. (¬2) نِظَام الملك (¬3) (485 هـ) الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي أبو علي الوزير الكبير نظام الملك، عاقل سائس خبير سعيد متدين، محتشم عامر المجلس بالقراء والفقهاء، أنشأ ¬

(¬1) السير (18/ 497). (¬2) السير (18/ 494). (¬3) السير (19/ 94 - 96) والمنتظم (16/ 302 - 307) ووفيات الأعيان (2/ 128 - 131) والوافي بالوفيات (12/ 123 - 127) والبداية والنهاية (12/ 149 - 151) وشذرات الذهب (3/ 373 - 375).

موقفه من المشركين:

المدرسة الكبرى ببغداد وأخرى بنيسابور وأخرى بطوس. ورغب في العلم وأدر على الطلبة الصلات وأملى الحديث وبعد صيته، تنقلت به الأحوال إلى أن وزر للسلطان ألب أرسلان ثم لابنه ملكشاه، فدبر ممالكه على أتم ما ينبغي وخفف المظالم ورفق بالرعايا. سمع من القشيري وأبي مسلم بن مهربزد وأبي حامد الأزهري. روى عنه علي بن طراد الزينبي ونصر بن نصر العكبري وجماعة. وكان فيه تمشعر وفيه خير وتقوى وميل إلى الصالحين وخضوع لموعظتهم يعجبه من يبين له عيوب نفسه فينكسر ويبكي. قتله باطني في هيئة صوفي ليلة الجمعة سنة خمس وثمانين وأربعمائة. موقفه من المشركين: جاء في السير: مولده في سنة ثمان وأربع مئة، وقتل صائما في رمضان، أتاه باطني في هيئة صوفي يناوله قصة، فأخذها منه، فضربه بالسكين في فؤاده، فتلف، وقتلوا قاتله، وذلك ليلة جمعة سنة خمس وثمانين وأربعمائة، بقرب نهاوند، وكان آخر قوله: لا تقتلوا قاتلي، قد عفوت، لا إله إلا الله. (¬1) أبو الفرج عبد الواحد بن محمد (¬2) (486 هـ) الإمام العلم، القدوة، سيد الوعاظ، شيخ الإسلام أبو الفرج عبد الواحد ابن علي الأنصاري الشيرازي الأصل، الحراني المولد الدمشقي المقر. ¬

(¬1) السير (19/ 95). (¬2) السير (19/ 51 - 53) وطبقات الحنابلة (2/ 248 - 249) والكامل (10/ 228) وتذكرة الحفاظ (3/ 1199) وشذرات الذهب (3/ 378).

موقفه من الجهمية:

سمع من أبي الحسن بن السمسار، وأبي عثمان الصابوني، وعبد الرزاق ابن الفضل الكلاعي وآخرين. قال ابن أبي يعلى: كانت له كرامات ظاهرة ووقعات مع الأشاعرة، وظهر عليهم بالحجة في مجالس السلاطين ببلاد الشام. قال ابن العماد: وكان إماما عارفا بالفقه والأصول صاحب حال وعبادة وتأله. توفي رحمه الله في ذي الحجة سنة ست وثمانين وأربعمائة. موقفه من الجهمية: - جاء في السير: قال أبو الحسين بن الفراء: وكانت له كرامات ظاهرة ووقعات مع الأشاعرة وظهر عليهم بالحجة في مجلس السلاطين بالشام. (¬1) - قال ابن أبي يعلى: وكان أبو الفرج ناصرا لاعتقادنا متجردا في نشره، مبطلا لتأويلات أخبار الصفات. (¬2) وله من الآثار السلفية: كتاب 'التبصرة في أصول الدين'، والكتاب مخطوط وهو في مكتبتي، أخذته من جامعة سعود بالرياض. وقد سجل رسالة علمية في مرحلة الماجستير في جامعة الإمام وفيه مباحث قيمة. ¬

(¬1) السير (19/ 52) وطبقات الحنابلة (2/ 248). (¬2) طبقات الحنابلة (2/ 249).

هبة الله بن عبد الوارث (486 هـ)

هبة الله بن عبد الوارث (486 هـ) موقفه من الصوفية: قال أبو نصر الفاشاني: كنت إذا أتيت هبة الله بالرباط، أخرجني إلى الصحراء، وقال: اقرأ هنا، فالصوفية يتبرمون بمن يشتغل بالعلم والحديث، يقولون: يشوشون علينا أوقاتنا. (¬1) التعليق: ما حاجتهم إلى العلم، وهم يعتمدون على الكشف والعلم المباشر، الذي يحصل بطريق الفتح، كما في كتاب 'الإبريز' للمسمى عبد العزيز الدباغ. وكما ذكر الغزالي في الإحياء وغيرهما مما سيأتي إن شاء الله. ابن الأخضر (¬2) (486 هـ) علي بن محمد بن محمد بن يحيى بن شعيب الشيباني بن الأخضر أبو الحسن الشيخ العالم الخطيب المسند. ولد سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة. سمع أبا أحمد بن أبي مسلم الفرضي وأبا عمر بن مهدي وأبا الحسن بن رزقويه وغيرهم. روى عنه إسماعيل بن محمد الحافظ وأبو نصر الغازي وأبو سعد بن البغدادي ونصر الله بن محمد مفتي دمشق وعدة. وكان فقيها خطيبا بالأنبار عمر وارتحل الناس إليه. قال السمعاني: كان ثقة نبيلا صدوقا معمرا مسندا ¬

(¬1) السير (19/ 19). (¬2) السير (18/ 605 - 606) والمنتظم (14/ 8) والبداية والنهاية (12/ 155) وتذكرة الحفاظ (3/ 1199) وشذرات الذهب (3/ 379).

موقفه من الرافضة:

انتشرت رواياته في الآفاق. أمره البساسيري أن يخطب للمستنصر، فلما خطب دعا للقائم، فأمر البساسيري بقطع يده على المنبر. توفي في شوال سنة ست وثمانين وأربعمائة. موقفه من الرافضة: جاء في السير: قال صالح بن علي بن الخطيب الأنباري: أمر البساسيري -الرافضي- جدنا عليا الخطيب أن يخطب للمستنصر صاحب مصر، فلما خطب، دعا للقائم، ولم يمتثل أمر البساسيري، فأمر بقطع يده على المنبر. (¬1) موقف السلف من صاحب سمرقند الزنديق (487 هـ) بيان زندقته: جاء في السير: الخان أحمد، كان جبارا مارقا، قام عليه الأمراء، وأمسكوه، ثم عقدوا له مجلسا، فادعوا أنه زنديق، فجحد، فأقاموا الشهود عليه بعظائم، فأفتى الفقهاء بقتله، فخنقوه، وسلطنوا بعده ابن عمه مسعودا سنة سبع وثمانين وأربعمائة. (¬2) التعليق: نقرأ مثل هذه الوقائع ونبكي الدم على أحوالنا: كم من الزنادقة الذين يحتاجون إلى تنفيذ الحدود فيهم؟ والله المستعان. ¬

(¬1) السير (18/ 606). (¬2) السير (19/ 127 - 128).

موقف السلف من المستنصر العبيدي الرافضي (487 هـ)

موقف السلف من المستنصر العبيدي الرافضي (487 هـ) بيان رفضه: - جاء في السير: وكان ناصر الدولة، يظهر التسنن، ويعيب المستنصر لخبث رفضه وعقيدته. (¬1) - وفيها: مات المستنصر في ذي الحجة سنة سبع وثمانين وأربعمائة، وقد قارب السبعين. وكان سب الصحابة فاشيا في أيامه، والسنة غريبة مكتومة، حتى إنهم منعوا الحافظ أبا إسحاق الحبال من رواية الحديث، وهددوه، فامتنع. ثم قام بعد المستنصر ابنه أحمد. (¬2) الحُمَيْدِي (¬3) (488 هـ) الإمام الحافظ شيخ المحدثين محمد بن أبي نصر فتوح بن عبد الله أبو عبد الله الأزدي الحميدي الأندلسي. ولد قبل سنة عشرين وأربعمائة. لازم أبا محمد علي بن أحمد بن حزم، فأكثر عنه، وأخذ عن أبي عمر بن عبد البر وارتحل إلى مصر والحجاز والعراق وسمع الحديث هنالك من طائفة من أهل الحديث. حدث عنه الحافظ أبو عامر العبدري، ومحمد بن طرخان التركي وغيرهما. قال عنه يحيى بن إبراهيم السلماسي: كان ورعا تقيا إماما في ¬

(¬1) السير (15/ 191). (¬2) السير (15/ 195 - 196). (¬3) السير (19/ 120 - 127) ونفح الطيب (2/ 112) ومعجم الأدباء (18/ 282) وتذكرة الحفاظ (4/ 1218).

موقفه من المبتدعة:

الحديث ... على مذهب أصحاب الحديث بموافقة الكتاب والسنة. قال أحمد ابن محمد المقري: كان إماما من أئمة المسلمين في حفظه ومعرفته واتقانه وثقته ونبله وديانته. ومن نظمه: طريق الزهد أفضل ما طريق ... وتقوى الله تأدية الحقوق فثق بالله يكفك واستعنه ... يعنك وذر بنيات الطريق وقال أيضا: لقاء الناس ليس يفيد شيئا ... سوى الهذيان من قيل وقال فأقلل من لقاء الناس إلا ... لأخذ العلم أو إصلاح حال توفي رحمه الله سنة ثمان وثمانين وأربعمائة. موقفه من المبتدعة: له أبيات يبين فيها منهجه السلفي: كتاب الله عز وجل قولي ... وما صحت به الآثار ديني وما اتفق الجميع عليه بدءا ... وعودا فهو عن حق مبين فدع ما صد عن هذي وخذها ... تكن منها على عين اليقين (¬1) وقال رحمه الله: زين الفقيه حديث يستضيء به ... عند الحجاج وإلا كان في ظلم إن تاه ذو مذهب في قفر مشكلة ... لاح الحديث له في الوقت كالعلم (¬2) وقال أيضا: ¬

(¬1) السير (19/ 127). (¬2) الإلماع (ص.40).

موقف السلف من أبي يوسف القزويني المعتزلي (488 هـ)

الناس نبت، وأرباب العلوم معا ... روض، وأهل الحديث الماء والزهر من كان قول رسول الله حاكمه ... فلا شهود له إلا الأولى ذكروا (¬1) موقف السلف من أبي يوسف القزويني المعتزلي (488 هـ) بيان اعتزاله: من تآليفه التي بث فيها اعتزاله: قال السمعاني: كان أحد الفضلاء المقدمين، جمع 'التفسير' الكبير الذي لم ير في التفاسير أكبر منه، ولا أجمع للفوائد، لولا أنه مزجه بالاعتزال، وبث فيه معتقده، ولم يتبع نهج السلف. أقام بمصر سنين، وحصل أحمالا من الكتب، وحملها إلى بغداد وكان داعية إلى الاعتزال. وقال ابن عساكر: سكن طرابلس مدة. سمعت الحسين بن محمد البلخي يقول: إن أبا يوسف صنف 'التفسير' في ثلاث مئة مجلد ونيف. وقال: من قرأه علي وهبت له النسخة. فلم يقرأه أحد. (¬2) قال ابن عقيل في 'فنونه': قدم علينا من مصر القاضي أبو يوسف القزويني، وكان يفتخر بالاعتزال، ويتوسع في قدح العلماء، وله جرأة، وكان إذا قصد باب نظام الملك، يقول: استأذنوا لأبي يوسف المعتزلي. وكان طويل اللسان بعلم تارة، وبسفه تارة، لم يكن محققا إلا في التفسير، فإنه لهج بذلك ¬

(¬1) المصدر نفسه. (¬2) السير (18/ 617).

أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني (489 هـ)

حتى جمع كتابا بلغ خمس مئة مجلد، فيه العجائب، رأيت منه مجلدة في آية واحدة، وهي: {واتبعوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} (¬1) فذكر السحر والملوك الذين نفق عليهم السحر، وتأثيراته وأنواعه. (¬2) نصره لمذهب الاعتزال وبغضه السلف: قال أبو علي بن سكرة: أبو يوسف كان معتزليا داعية يقول: لم يبق من ينصر هذا المذهب غيري، وكان قد أسن، وكاد أن يخفى في مجلسه، وله لسان شاب، ذكر لي أن 'تفسيره' ثلاث مئة مجلد، منها سبعة في سورة الفاتحة. وكان عنده جزء من حديث أبي حاتم الرازي، عن الأنصاري، فقرأت عليه بعضه، عن القاضي عبد الجبار، عن رجل عنه، قرأته لولدي شيخنا ابن سوار المقرئ، وقرأت لهما جزءا من حديث المحاملي، وسمعه في سنة تسع وتسعين وثلاث مئة وهو ابن أربع سنين أو نحوها. وكان لا يسالم أحدا من السلف، ويقول لنا: اخرجوا تدخل الملائكة. (¬3) أبو المظفر منصور بن محمد السَّمْعاني (¬4) (489 هـ) إمام عصره بلا مدافعة، وعديم النظير في فنه بلا منازعة، مفتي خراسان، ¬

(¬1) البقرة الآية (102). (¬2) السير (18/ 618). (¬3) السير (18/ 619 - 620). (¬4) السير (19/ 114 - 119) والأنساب (7/ 139 - 140) والمنتظم (17/ 37 - 38) ووفيات الأعيان (3/ 211) والبداية والنهاية (12/ 164) وشذرات الذهب (3/ 393 - 394).

موقفه من المبتدعة:

شيخ الشافعية، أبو المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار التميمي، السمعاني، المروزي. ولد سنة ست وعشرين وأربعمائة. سمع بمرو أباه، وأبا غانم أحمد ابن علي الكراعي، وأبا بكر محمد بن عبد الصمد الترابي وآخرين. وعنه أولاده، وعمر بن محمد السرخسي، ومحمد بن أبي بكر السنجي وأبو نصر الغازي وغيرهم. قال عبد الغافر في تاريخه: هو وحيد عصره في وقته فضلا، وطريقة، وزهدا وورعا، من بيت العلم والزهد، تفقه بأبيه، وصار من فحول أهل النظر، وأخذ يطالع كتب الحديث، وحج ورجع، وترك طريقته التي ناظر عليها ثلاثين سنة، وتحول شافعيا. له تصانيف عديدة، وكان شوكا في أعين المخالفين وحجة لأهل السنة. وكان مناظرا فقيها. قال الإمام أبو علي بن الصفار: إذا ناظرت أبا المظفر، فكأني أناظر رجلا من أئمة التابعين، مما أرى عليه من آثار الصالحين. وقال حفيده في الأنساب: لا أقدر أن أصف بعض مناقبه، ومن طالع تصانيفه وأنصف، عرف محله من العلم. توفي رحمه الله في ربيع الأول سنة تسع وثمانين بعد الأربعمائة. موقفه من المبتدعة: هذا الإمام ممن شاع صيته وبارك الله له في العمر وجعل من نسله العلماء، ألف تراثا عظيما سلفيا، يقول الذهبي عنه: تعصب لأهل الحديث والسنة والجماعة وكان شوكا في أعين المخالفين وحجة لأهل السنة. (¬1) آثاره السلفية: ¬

(¬1) السير (19/ 116).

1 - 'الانتصار لأهل الحديث'، ذكره حفيده في الأنساب (¬1) والذهبي في السير (¬2) وذكره السيوطي في صون المنطق ولخصه (¬3) وذكره حاجي خليفة في كشف الظنون (¬4) وابن الجوزي في المنتظم. (¬5) 2 - 'التفسير'، مطبوع متداول وذكره حفيده في الأنساب (¬6). وقد نحا فيه نحو السلف. 3 - 'منهاج أهل السنة'، ذكره حفيده في الأنساب. (¬7) 4 - 'تقويم الأدلة'، ذكره شيخ الإسلام في منهاج السنة (¬8) وقال: نقل فيه الإجماع من علماء السنة أن أبا بكر أعلم من علي. وله من المواقف الطيبة والكلام البليغ الذي مَن قرأه عرف قيمة الرجل العلمية والسلفية منها على سبيل المثال ما ذكره في كتابه 'الانتصار لأهل الحديث': قال السيوطي: قال في كتابه 'الانتصار لأهل الحديث': قد لهج بذم أصحاب الحديث صنفان: أهل الكلام، وأهل الرأي. فهم في كل وقت يقصدونهم بالثلب والعيب وينسبونهم إلى الجهل وقلة العلم، واتباع السواد ¬

(¬1) (3/ 299). (¬2) (19/ 117). (¬3) (147 - 183). (¬4) (1/ 173). (¬5) (17/ 38). (¬6) (3/ 299). (¬7) (3/ 299). (¬8) (7/ 502).

على البياض، وقالوا غثاء وغثر، وزوامل أسفار، وقالوا أقاصيص وحكايات وأخبار، وربما قرأوا {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} (¬1). وفي الحقيقة: ما ثلموا إلا دينهم ولا سعوا إلا في هلاك أنفسهم، وما للأساكفة وصوغ الحلي وصناعة البز، وما للحدادين وتقليب العطر والنظر في الجواهر. أما يكفيهم صدأ الحديد، ونفخ في الكير وشواظ الذيل والوجه وغبرة في الحدقة، وما لأهل الكلام ونقد حملة الأخبار، وما أحسن قول من قال: بلاء ليس يشبهه بلاء ... عداوة غير ذي حسب ودين ينيلك منه عرضا لم يصنه ... ويرتع منك في عرض مصون لكن الحق عزيز، وكل مع عزته يدعيه. ودعواهم الحق تحجبهم عن مراجعة الحق. نعم إن على الباطل ظلمة وإن على الحق نورا، ولا يبصر نور الحق إلا من حشى قلبه بالنور {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)} (¬2) فالمتخبط في ظلمات الهوى والمتردي في مهاوي الهلكة، والمتعسف في المقال لا يوفق للعود إلى الحق، ولا يرشد إلى طريق الهدى ليظهر وعورة مسلكه وعز جانبه، وتأبيه إلا على أهله {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)} (¬3). - ثم قال (باب الحث على السنة، والجماعة، والاتباع، وكراهة التفرق ¬

(¬1) الجمعة الآية (5). (¬2) النور الآية (40). (¬3) الأنعام الآية (108).

والابتداع): اعلم أن الله تعالى أمر خلقه بلزوم الجماعة، ونهاهم عن الفرقة، وندبهم إلى الاتباع، وحثهم عليه، وذم الابتداع، وأوعدهم عليه، وذلك بين في كتابه وسنة رسوله، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (¬1) وقال: {* شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (¬2). وقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} (¬3) وأمر تعالى باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - في آيات من كتابه. وقد وردت الأحاديث حاثة على لزوم سنته واجتناب كل بدعة. (¬4) - ثم قال: فهؤلاء الأئمة هم المرجوع إليهم في أمر الدين وبيان الشرع ومن سلك طريقا في الاسلام بعدهم فإياهم يتبع وبهم يقتدى وموافقتهم تتحرى، فلا يجوز لمسلم أن يظن بهم ظن السوء وإنهم قالوا ذلك عن جهل وقلة علم وخبرة في الدين وما هذا إلا من الغل الذي أمر الله بالاستعاذة منه فقال: {وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا} (¬5) فتبين لنا أن الطريق عند ¬

(¬1) آل عمران الآية (103). (¬2) الشورى الآية (13). (¬3) الأنعام الآية (153). (¬4) صون المنطق (ص.147 - 149). (¬5) الحشر الآية (10).

الأئمة الهادية اتباع السلف والاقتداء بهم دون الرجوع إلى الآراء. (¬1) - ثم قال: واعلم أنك متى تدبرت سيرة الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح وجدتهم ينهون عن جدال أهل البدعة بأبلغ النهي، ولا يرون رد كلامهم بدلائل العقل، وإنما كانوا إذا سمعوا بواحد من أهل البدعة أظهروا التبري منه، ونهوا الناس عن مجالسته ومحاورته والكلام معه، وربما نهوا عن النظر إليه. وقد قالوا: إذا رأيت مبتدعا في طريق فخذ في طريق آخر. ولقد ظهرت هذه الأهواء الأربع التي هي رأس الأهواء، أعني القدر والإرجاء، ورأي الحرورية والرافضة في آخر زمان الصحابة. فكان إذا بلغهم أمرهم أمروا بما ذكرنا ولم يبلغنا عن أحد منهم أنه جادلهم بدلائل العقل، أو أمر بذلك، وقد كانوا إلى عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقرب. وقد شاهدوا الوحي والتنزيل وعدلهم الله في القرآن، وشهد لهم بالصدق وشهد لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخيرية في الدين. وكانت طاعتهم أجل، وقلوبهم أسلم، وصدورهم أطهر، وعلمهم أوفر، وكانوا من الهوى والبدع أبعد. ولو كان طريق الرد على المبتدعة هو الكلام ودلائل العقل والجدال معهم لاشتغلوا به وأمروا بذلك وندبوا إليه، وإنما ظهرت المجادلات في الدين والخصومات بعد مضي قرن التابعين ومن يليهم، حين ظهر الكذب، وفشت شهادات الزور، وشاع الجهل، واندرس أمر السنة بعض الاندراس، وأتى على الناس زمان حذر منه النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة من بعده. ولقد صدق إبراهيم النخعي حيث يقول: إن القوم لم يؤخر عنهم شيء خبي لكم لفضل عندكم، وإنما كان غايتهم ¬

(¬1) صون المنطق (ص.151).

التبري، وإظهار المجانبة، والأمر بالتباعد، والمشهور عن ابن عمر أنه لما بلغه قول أهل القدر قال: أبلغوهم أنى منهم بريء، ولو وجدت أعوانا لجاهدتهم، وقال ابن عباس: لو رأيت بعضهم لضربت رأسه. وأتى رجل علي بن أبي طالب، فقال: أخبرني عن القدر، قال طريق مظلم فلا تسلكه، قال أخبرني عن القدر. قال بحر عميق فلا تلجه. قال أخبرني عن القدر، قال سر الله فلا تكلفه، وعن القاسم بن محمد بن أبي بكر قال: يستتاب القدري، فإن تاب وإلا نفي من بلاد المسلمين. وقال عمر بن عبد العزيز: ينبغي أن نتقدم إليهم فيما أحدثوا من القدر، فإن كفوا وإلا استلت ألسنتهم من أقفيتهم استلالا. فهذا طريق القوم في أمر البدع وأهلها. قال رجل من أهل البدع لأيوب السختياني: يا أبا بكر أسألك عن كلمة، فولى وهو يقول ولا نصف كلمة. وقال ابن طاووس لابن له، وتكلم رجل من أهل البدع: يا بني أدخل أصبعيك في أذنيك، ثم قال اشدد اشدد، وقال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضا للخصومات، أكثر التنقل. وقال رجل للحكم بن عتيبة: ما حمل أهل الأهواء على هواهم؟ قال الخصومات. وقال معاوية بن قرة -وكان أبوه من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: إياكم وهذه الخصومات فإنها تحبط الأعمال. وقال أبو قلابة وكان قد أدرك غير واحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تجالسوا أصحاب الأهواء، أو قال: أصحاب الخصومات، ولا تكلموهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم بعض ما تعرفون. ودخل رجلان من أصحاب الأهواء على محمد بن سيرين، فقالا: يا أبا بكر نحدثك بحديث. قال: لا. قالا نقرأ عليك آية من كتاب الله. قال لا لتقومان أو لأقومن.

وكانوا يقولون إن القلب ضعيف، وإنا نخاف إن استمعت منهم شيئا أن يميل قلبك إلى قولهم. وقال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: اعلموا أن اتباع الكتاب والسنة أسلم، والخوض في أمر الدين بالمنازعة والرد حرام. والاجتناب عنه سلامة. وأرجو أن يجوز القياس على الأصل الثابت من العالم الفطن المتيقظ. ولا تكاد تجد شيئا من تأويل الكتاب مخالفا لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صحت الرواية، وعامة تاركي العلم والسنة وأصحاب الأهواء والرأي والمقاييس لثقل السنة عليهم ولا أعرف حديثين يخالف أحدهما الآخر، ولكل ما روي من الأحاديث المختلفة معان يعلمها أهل العلم بها. فهذا الذي نقلناه طريقة السلف وما كانوا عليه. واعلم أن الأئمة الماضين وأولي العلم من المتقدمين لم يتركوا هذا النمط من الكلام وهذا النوع من النظر عجزا عنه، ولا انقطاعا دونه. وقد كانوا ذوي عقول وافرة وأفهام ثاقبة. وقد كانت هذه الفتن قد وقعت في زمانهم، وظهرت. وإنما تركوا هذه الطريقة، وأضربوا عنها لما تخوفوه من فتنتها، وعلموه من سوء عاقبتها وسيء مغبتها، وقد كانوا على بينة من أمورهم وعلى بصيرة من دينهم، لما هداهم الله بنوره، وشرح صدورهم بضياء معرفته، فرأوا أن فيما عندهم من علم الكتاب وحكمته، وتوقيف السنة وبيانها غناء ومندوحة مما سواها، وأن الحجة قد وقعت وتمت بهما، وأن العلة والشبهة قد أزيحت بمكانهما، فلما تأخر الزمان بأهله وفترت عزائمهم في طلب حقائق علوم الكتاب والسنة، وقلت عنايتهم بها، واعترضهم الملحدون بشبههم، والطاعنون في الدين بجدلهم، حسبوا أنهم إن لم يردوهم عن أنفسهم بهذا النمط من الكلام ودلائل العقل، لم يقووا عليهم،

ولم يظهروا في الحجاج عليهم فكان ذلك ضلة من الرأي، وخدعة من الشيطان. فلو سلكوا سبيل القصد، ووقفوا عند ما انتهى بهم التوقيف لوجدوا برد اليقين، وروح القلوب، ولكثرت البركة، وتضاعف النماء، وانشرحت الصدور، وأضاءت فيها مصابيح النور، وإنما وقعوا فيما وقعوا فيه عند أهل الحق بعد ما تدبروا. وظهر لهم بتوفيق الله سبب ذلك، وهو أن الشيطان صار اليوم بلطيف حيلته يسول لكل من أحس من نفسه زيادة فهم، وفضل ذكاء وذهن يوهمه أنه إن رضي في عمله ومذهبه بظاهر من السنة، واقتصر على واضح بيان منها، كان أسوة العامة، وعد واحدا من الجمهور والكافة. وأنه قد ضل فهمه، واضمحل عقله وذهنه، فحركهم بذلك على التنطع في النظر والتبدع لمخالفة السنة والأثر، ليمتازوا بذلك عن طبقة الدهماء، ويتبينوا في الرتبة عمن يرونه دونهم في الفهم والذكاء. فاختدعهم بهذه المقدمة حتى استزلهم عن واضح المحجة، وأورطهم في شبهات تعلقوا بزخارفها، وتاهوا عن حقائقها، ولم يخلصوا منها إلى شفا نفس ولا قبلوه بيقين علم. ولما رأوا كتاب الله ينطق بخلاف ما انتحلوه، ويشهد عليه بباطل ما اعتقدوه، ضربوا بعض آياته ببعض، وتأولوها على ما يسنح لهم في عقولهم، واستوى عندهم على ما وضعوه من أصولهم. ونصبوا العداوة لأخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولسنته المأثورة عنه، وردوها على وجوهها. وأساءوا في نقلتها القالة، ووجهوا عليهم الظنون، ورموهم بالتزيد، ونسبوهم إلى ضعف المنة، وسوء المعرفة بمعاني ما يرونه من الحديث. ولو أنهم أحسنوا الظن بسلفهم، وآثروا متابعتهم، وسلموا حيث سلموا، وطلبوا المعاني حيث طلبوا،

واجتهدوا في رد الهوى وخداع الشيطان لانشرحت صدورهم، وظهر لهم من برد اليقين وروح المعرفة، وضياء التسليم ما ظهر لسلفهم، وبرز لهم من أعلام الحق ما كان مكشوفا لهم غير أن الحق عزيز، والدين غريب والزمان مفتن {ومن لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)} (¬1).اهـ (¬2) ثم قال: والذي يزيد ما قلناه إيضاحا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سئل عن الفرقة الناجية. قال: «ما أنا عليه وأصحابي» (¬3)، بمعنى من كان على ما أنا عليه وأصحابي، فلا بد من تعرف ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وليس طريق معرفتنا إلا النقل، فيجب الرجوع إلى ذلك. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تنازعوا الأمر أهله» (¬4) فكما يرجع في معرفة مذاهب الفقهاء، الذين صاروا قدوة في هذه الأمة إلى أهل الفقه، ويرجع في معرفة اللغة إلى أهل اللغة، ويرجع في معرفة النحو إلى أهل النحو، فكذلك يجب أن يرجع في معرفة ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى أهل النقل والرواية، لأنهم عنوا بهذا الشأن، واشتغلوا بحفظه والتفحص عنه ونقله، ولولاهم لاندرس علم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقف أحد على سنته وطريقته. فإن قال قائل: إن أهل الفقه مجمعون على قول الفقهاء وطريق كل واحد منهم في الفروع. وأهل النحو مجمعون على طريق البصريين والكوفيين في النحو وكذلك أهل الكلام مجمعون على ¬

(¬1) النور الآية (40). (¬2) صون المنطق (153 - 157). (¬3) تقدم تخريجه ضمن مواقف الآجري سنة (360هـ). (¬4) الطبراني (18/ 247 - 248/ 621) والطحاوي في المشكل (3/ 221 - 222/ 1185) والحاكم (1/ 96) من حديث العرباض بن سارية وقال: "صحيح على شرطهما، ولا أعرف له علة" ووافقه الذهبي.

طريق كل واحد منهم: من متقدميهم وسلفهم. فأما ما يرجع إلى العقائد فلم يجتمع أهل الإسلام على ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه وأصحابه، بل كل فريق يدعي دينه وينتسب إلى ملته ويقول نحن الذين تمسكنا بملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتبعنا طريقته، ومن كان على غير ما نحن عليه، فهو مبتدع صاحب هوى، فلم يجز اعتبار الذي تنازعنا فيه بما قلتم. الجواب: أن كل فريق من المبتدعة إنما يدعي أن الذي يعتقده هو ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنهم كلهم يدعون شريعة الإسلام، ملتزمون في الظاهر شعائرها، يرون أن ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الحق، غير أن الطرق تفرقت بهم بعد ذلك، وأحدثوا في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله فزعم كل فريق أنه هو المتمسك بشريعة الإسلام، وأن الحق الذي قام به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يعتقده وينتحله، غير أن الله تعالى أبى أن يكون الحق والعقيدة الصحيحة، إلا مع أهل الحديث والآثار، لأنهم أخذوا دينهم وعقائدهم خلفا عن سلف، وقرنا عن قرن، إلى أن انتهوا إلى التابعين، وأخذه التابعون عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا طريق إلى معرفة ما دعا إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس من الدين المستقيم، والصراط القويم إلا هذا الطريق، الذي سلكه أصحاب الحديث، وأما سائر الفرق فطلبوا الدين لا بطريقه، لأنهم رجعوا إلى معقولهم، وخواطرهم، وآرائهم. فطلبوا الدين من قبله، فإذا سمعوا شيئا من الكتاب والسنة عرضوه على معيار عقولهم، فإن استقام قبلوه، وإن لم يستقم في ميزان عقولهم ردوه، فإن اضطروا إلى قبوله حرفوه بالتأويلات البعيدة، والمعاني المستنكرة،

فحادوا عن الحق، وزاغوا عنه ونبذوا الدين وراء ظهورهم، وجعلوا السنة تحت أقدامهم، تعالى الله عما يصفون. وأما أهل الحق فجعلوا الكتاب والسنة أمامهم وطلبوا الدين من قبلهما وما وقع لهم من معقولهم وخواطرهم، عرضوه على الكتاب والسنة، فإن وجدوه موافقا لهما قبلوه، وشكروا الله عزوجل حيث أراهم ذلك ووقفهم عليه، وإن وجدوه مخالفا لهما تركوا ما وقع لهم وأقبلوا على الكتاب والسنة ورجعوا بالتهمة على أنفسهم، فإن الكتاب والسنة لا يهديان إلا إلى الحق، ورأي الإنسان قد يرى الحق وقد يرى الباطل، وهذا معنى قول أبي سليمان الداراني، وهو واحد زمانه في المعرفة: ما حدثتني نفسي بشيء إلا طلبت منه شاهدين من الكتاب والسنة، فإن أتى بهما وإلا رددته في نحره (¬1). أو كلام هذا معناه، ومما يدل على أن أهل الحديث هم على الحق أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم قديمهم وحديثهم مع اختلاف بلدانهم وزمانهم وتباعد ما بينهم في الديار وسكون كل واحد منهم قطرا من الأقطار وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة ونمط واحد يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد وفعلهم واحد لا ترى بينهم اختلافا ولا تفرقا في شيء ما وإن قل، بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم، وجدته كأنه جاء من قلب واحد وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا. قال الله تعالى: ¬

(¬1) انظر تخريجه في مواقف أبي سليمان الصوفي.

{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} (¬1)، وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (¬2) وأما إذا نظرت إلى أهل الأهواء والبدع رأيتهم متفرقين مختلفين وشيعا وأحزابا لا تكاد تجد اثنين منهم على طريقة واحدة في الاعتقاد، يبدع بعضهم بعضا، بل يترقون إلى التكفير، يكفر الابن أباه، والرجل أخاه، والجار جاره. تراهم أبدا في تنازع وتباغض واختلاف، تنقضي أعمارهم ولما تتفق كلماتهم، {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)} (¬3). أو ما سمعت أن المعتزلة مع اجتماعهم في هذا اللقب يكفر البغداديون منهم البصريين والبصريون منهم البغداديين ويكفر أصحاب أبي علي الجبائي ابنه أبا هاشم وأصحاب أبي هاشم يكفرون أباه أبا علي وكذلك سائر رؤوسهم وأرباب المقالات منهم. إذا تدبرت أقوالهم رأيتهم متفرقين يكفر بعضهم بعضا ويتبرأ بعضهم من بعض وكذلك الخوارج والروافض فيما بينهم وسائر المبتدعة بمثابتهم، وهل على الباطل دليل أظهر من هذا قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا ¬

(¬1) النساء الآية (82). (¬2) آل عمران الآية (103) .. (¬3) الحشر الآية (14).

شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} (¬1) وكان السبب في اتفاق أهل الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة وطريق النقل فأورثهم الاتفاق والايتلاف، وأهل البدعة أخذوا الدين من المعقولات والآراء فأورثهم الافتراق والاختلاف، فإن النقل والرواية من الثقات والمتقنين قلما يختلف، وإن اختلف في لفظ أو كلمة فذلك اختلاف لا يضر الدين ولا يقدح فيه. وأما دلائل العقل فقلما يتفق بل عقل كل واحد يري صاحبه غير ما يرى الآخر وهذا بين والحمد لله. وبهذا يظهر مفارقة الاختلاف في مذاهب الفروع اختلاف العقائد في الأصول فإنا وجدنا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم من بعده واختلفوا في أحكام الدين، فلم يفترقوا ولم يصيروا شيعا. لأنهم لم يفارقوا الدين ونظروا فيما أذن لهم فاختلفت أقوالهم وآراؤهم في مسائل كثيرة، مثل مسألة الحد والمشتركة وذوي الأرحام ومسألة الحرام وفي أمهات الأولاد، وغير ذلك مما يكثر تعداده من مسائل البيوع والنكاح والطلاق، وكذلك في مسائل كثيرة من باب الطهارة وهيآت الصلاة وسائر العبادات. فصاروا باختلافهم في هذه الأشياء محمودين، وكان هذا النوع من الاختلاف رحمة من الله لهذه الأمة حيث أيدهم باليقين، ثم وسع على العلماء النظر فيما لم يجدوا حكمه في التنزيل والسنة فكانوا مع هذا الاختلاف، أهل مودة ونصح، وبقيت بينهم أخوة الإسلام ولم ينقطع عنهم نظام الألفة. فلما حدثت هذه الأهواء المردية الداعية صاحبها إلى النار ظهرت العداوة وتباينوا ¬

(¬1) الأنعام الآية (159).

وصاروا أحزابا، فانقطعت الأخوة في الدين، وسقطت الألفة، فهذا يدل على أن هذا التباين والفرقة إنما حدثت من المسائل المحدثة التي ابتدعها الشيطان فألقاها على أفواه أوليائه ليختلفوا ويرمي بعضهم بعضا بالكفر. فكل مسألة حدثت في الإسلام فخاض فيها الناس، فتفرقوا واختلفوا فلم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضا ولا تفرقا وبقيت بينهم الألفة والنصيحة والمودة والرحمة والشفقة، علمنا أن ذلك من مسائل الإسلام يحل النظر فيها، والأخذ بقول من تلك الأقوال لا يوجب تبديعا ولا تكفيرا كما ظهر مثل هذا الاختلاف بين الصحابة والتابعين مع بقاء الألفة والمودة، وكل مسألة حدثت فاختلفوا فيها فأورث اختلافهم في ذلك التولي والإعراض والتدابر والتقاطع، وربما ارتقى إلى التكفير علمت أن ذلك ليس من أمر الدين في شيء بل يجب على كل ذي عقل أن يجتنبها ويعرض عن الخوض فيها لأن الله شرط تمسكنا بالإسلام أنا نصبح في ذلك إخوانا، فقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (¬1). فإن قال قائل: إن الخوض في مسائل القدر، والصفات، وشرط الإيمان يورث التقاطع والتدابر والاختلاف فيجب طرحها والإعراض عنها على ما زعمتم. الجواب: إنما قلنا هذا في المسائل المحدثة، فأما الإيمان في هذه المسائل من شرط أصل الدين، فلابد من قبولها على نحو ما ثبت فيه النقل عن رسول الله ¬

(¬1) آل عمران الآية (103).

موقفه من الرافضة:

- صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ولا يجوز لنا الإعراض عن نقلها وروايتها وبيانها لتفرق الناس في ذلك كما في أصل الإسلام والدعاء إلى التوحيد، وإظهار الشهادتين، وقد ظهر بما قدمنا، وذكرنا بحمد الله ومنه أن الطريق المستقيم مع أهل الحديث، وأن الحق ما نقلوه ورووه، ومن تدبر ما كتبناه وأعطى من قلبه النصفة وأعرض عن هواه واستمع وأصغى بقلب حاضر، وكان مسترشدا مستهديا ولم يكن متعنتا وأمده الله بنور اليقين عرف صحة جميع ما قلناه ولم يخف عليه شيء من ذلك، والله الموفق {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)} (¬1).اهـ (¬2) موقفه من الرافضة: جاء في المنهاج: وقد نقل غير واحد الإجماع على أن أبا بكر أعلم من علي، منهم الإمام منصور بن عبد الجبار السمعاني المروزي أحد أئمة الشافعية، وذكر في كتابه 'تقويم الأدلة' الإجماع من علماء السنة: أن أبا بكر أعلم من علي، كيف وأبو بكر كان بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - يفتي ويأمر وينهى ويخطب، كما كان يفعل ذلك إذا خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - هو وإياه- يدعو الناس إلى الإسلام، ولما هاجرا، ويوم حنين، وغير ذلك من المشاهد، وهو ساكت يقره، ولم تكن هذه المرتبة لغيره. (¬3) موقفه من الجهمية: ¬

(¬1) الأنعام الآية (39). (¬2) صون المنطق (165 - 170) والحجة في بيان المحجة (2/ 222 - 230). (¬3) منهاج السنة (7/ 502).

هذا الإمام ممن شاع صيته، وبارك الله له في العمر، وجعل من نسله العلماء، ألف تراثا عظيما سلفيا، يقول الذهبي عنه: تعصب لأهل الحديث والسنة والجماعة، وكان شوكا في أعين المخالفين وحجة لأهل السنة. (¬1) وله من المواقف الطيبة والكلام البليغ الذي من قرأه عرف قيمة الرجل العلمية والسلفية، وعلى سبيل المثال، ما نقله الحافظ في الفتح من موقفه من الأشاعرة والمتكلمين عموما. - جاء في فتح الباري: قال الحافظ عند قول البخاري: باب قول الله تعالى: {* يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (¬2). واستدل أبو المظفر بن السمعاني بآيات الباب وأحاديثه على فساد طريقة المتكلمين في تقسيم الأشياء إلى جسم وجوهر وعرض، قالوا: فالجسم، ما اجتمع من الافتراق، والجوهر ما حمل العرض، والعرض: مالا يقوم بنفسه، وجعلوا الروح من الأعراض، وردوا الأخبار في خلق الروح قبل الجسد والعقل قبل الخلق، واعتمدوا على حدسهم وما يؤدي إليه نظرهم ثم يعرضون عليه النصوص، فما وافقه قبلوه وما خالفه ردوه، ثم ساق هذه الآيات ونظائرها من الأمر بالتبليغ، قال وكان مما أمر بتبليغه التوحيد بل هو أصل ما أمر به فلم يترك شيئا من أمور الدين، أصوله وقواعده وشرائعه، إلا بلغه ثم لم ¬

(¬1) السير (19/ 116). (¬2) المائدة الآية (67).

يدع إلى الاستدلال بما تمسكوا به من الجوهر والعرض، ولا يوجد عنه ولا عن أحد من أصحابه من ذلك حرف واحد فما فوقه، فعرف بذلك أنهم ذهبوا خلاف مذهبهم، وسلكوا غير سبيلهم، بطريق محدث مخترع لم يكن عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه رضي الله عنهم، ويلزم من سلوكه العود على السلف بالطعن والقدح، ونسبتهم إلى قلة المعرفة، واشتباه الطرق، فالحذر من الاشتغال بكلامهم، والاكتراث بمقالاتهم فإنها سريعة التهافت كثيرة التناقض، وما من كلام تسمعه لفرقة منهم إلا وتجد لخصومهم عليه كلاما يوازنه أو يقاربه فكل بكل مقابل، وبعض ببعض معارض، وحسبك من قبيح ما يلزم من طريقتهم أنا إذا جرينا على ما قالوه، وألزمنا الناس بما ذكروه، لزم من ذلك تكفير العوام جميعا لأنهم لا يعرفون إلا الاتباع المجرد، ولو عرض عليهم هذا الطريق ما فهمه أكثرهم، فضلا عن أن يصير منهم صاحب نظر، وإنما غاية توحيدهم التزام ما وجدوا عليه أئمتهم في عقائد الدين، والعض عليها بالنواجذ والمواظبة على وظائف العبادات وملازمة الأذكار بقلوب سليمة طاهرة عن الشبه والشكوك، فتراهم لا يحيدون عما اعتقدوه ولو قطعوا إربا إربا، فهنيئا لهم هذا اليقين، وطوبى لهم هذه السلامة. فإذا كفر هؤلاء وهم السواد الأعظم وجمهور الأمة فما هذا إلا طي بساط الإسلام وهدم منار الدين والله المستعان. (¬1) التعليق: ¬

(¬1) الفتح (13/ 507).

هذا الكلام فيه البيان الكافي لمن يعقل عن الله وعن رسوله وعن السلف الصالح الذين يتكلمون من مشكاة النبوة. فأين الذين يتبجحون، ويقولون: إن ابن تيمية وابن القيم هما اللذان أحدثا هذه الطرق، التي اعتمد عليها السلفيون. فهذا الإمام بعيد عن الشيخين بعد الثرى من الثريا، فهما -كما يزعمون- حنابلة وهذا الإمام شافعي، وهما عاشا في القرن الثامن، وهو عاش في القرن الخامس، وكلامه رضي الله عنه في الإنكار على الأشاعرة والمتكلمين، ربما كان أشد في اللهجة من كلام الشيخين، وإن كانت طريقة الشيخين أكثر تفصيلا، ولكن هذه شذرة من شجرة هذا الإمام فمن رجع إلى كتابه: الانتصار لأهل الحديث، الذي لخصه السيوطي في 'صون المنطق' لرأى كلام الرجل السلفي بحق، وهذا الكتاب أحد تراث الشيخ السلفي. - قال الحافظ في الفتح: وقال أبو المظفر بن السمعاني: تعقب بعض أهل الكلام قول من قال إن السلف من الصحابة والتابعين لم يعتنوا بإيراد دلائل العقل في التوحيد، بأنهم لم يشتغلوا بالتعريفات في أحكام الحوادث، وقد قبل الفقهاء ذلك واستحسنوه فدونوه في كتبهم، فكذلك علم الكلام، ويمتاز علم الكلام بأنه يتضمن الرد على الملحدين وأهل الأهواء، وبه تزول الشبهة عن أهل الزيغ ويثبت اليقين لأهل الحق وقد علم الكل أن الكتاب لم تعلم حقيته، والنبي لم يثبت صدقه إلا بأدلة العقل، وأجاب: أما أولا فإن الشارع والسلف الصالح نهوا عن الابتداع وأمروا بالاتباع، وصح عن السلف

أنهم نهوا عن علم الكلام وعدوه ذريعة للشك والارتياب ... (¬1) - وقال الحافظ أيضا: وقال أبو المظفر بن السمعاني أيضا ما ملخصه: إن العقل لا يوجب شيئا ولا يحرم شيئا، ولا حظ له في شيء من ذلك، ولو لم يرد الشرع بحكم، ما وجب على أحد شيء، لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} (¬2) وقوله: {لئلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (¬3) وغير ذلك من الآيات. فمن زعم أن دعوة رسل الله عليهم الصلاة والسلام إنما كانت لبيان الفروع، لزمه أن يجعل العقل هو الداعي إلى الله دون الرسول ويلزمه أن وجود الرسول وعدمه بالنسبة إلى الدعاء إلى الله سواء، وكفى بهذا ضلالا، ونحن لا ننكر أن العقل يرشد إلى التوحيد وإنما ننكر أنه يستقل بإيجاب ذلك حتى لا يصح إسلام إلا بطريقه، مع قطع النظر عن السمعيات لكون ذلك خلاف ما دلت عليه آيات الكتاب والأحاديث الصحيحة التي تواترت ولو بالطريق المعنوي، ولو كان كما يقول أولئك لبطلت السمعيات التي لا مجال للعقل فيها أو أكثرها، بل يجب الإيمان بما ثبت من السمعيات، فان عقلناه فبتوفيق الله، وإلا اكتفينا باعتقاد حقيقته على وفق مراد الله سبحانه وتعالى. انتهى. (¬4) - وجاء في كتاب الحجة للأصبهاني عن أبي المظفر أنه قال: واعلم: أن ¬

(¬1) الفتح (13/ 352). (¬2) الإسراء الآية (15). (¬3) النساء الآية (165). (¬4) الفتح (13/ 353).

فصل ما بيننا وبين المبتدعة هو مسألة العقل فإنهم أسسوا دينهم على المعقول، وجعلوا الاتباع والمأثور تبعا للمعقول، وأما أهل السنة، قالوا: الأصل في الدين الاتباع والمعقول تبع، ولو كان أساس الدين على المعقول لاستغنى الخلق عن الوحي، وعن الأنبياء، ولبطل معنى الأمر والنهي، ولقال من شاء ما شاء، ولو كان الدين بني على المعقول لجاز للمؤمنين أن لا يقبلوا شيئا حتى يعقلوا. ونحن إذا تدبرنا عامة ما جاء في أمر الدين من ذكر صفات الله، وما تعبد الناس به من اعتقاده، وكذلك ما ظهر بين المسلمين، وتداولوه بينهم، ونقلوه عن سلفهم، إلى أن أسندوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذكر عذاب القبر، وسؤال منكر ونكير، والحوض، والميزان، والصراط، وصفات الجنة، وصفات النار وتخليد الفريقين فيهما، أمور لا ندرك حقائقها بعقولنا، وإنما ورد الأمر بقبولها والإيمان بها، فإذا سمعنا شيئا من أمور الدين، وعقلناه، وفهمناه، فلله الحمد في ذلك والشكر، ومنه التوفيق، وما لم يمكنا إدراكه وفهمه ولم تبلغه عقولنا آمنا به، وصدقنا، واعتقدنا أن هذا من قبل ربوبيته وقدرته، واكتفينا في ذلك بعلمه ومشيئته، وقال الله تعالى في مثل هذا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} (¬1). وقال تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} (¬2) ثم نقول لهذا القائل الذي يقول: بني ديننا على العقل، وأمرنا باتباعه: أخبرنا إذا أتاك ¬

(¬1) الإسراء الآية (85). (¬2) البقرة الآية (255) ..

موقفه من المرجئة:

أمر من الله يخالف عقلك فبأيهما تأخذ؟ بالذي تعقل، أو بالذي تؤمر؟ فإن قال: بالذي أعقل، فقد أخطأ، وترك سبيل الإسلام وإن قال: آخذ بالذي جاء من عند الله، فقد ترك قوله: وإنما علينا أن نقبل ما عقلناه إيمانا وتصديقا، وما لم نعقله قبلناه استسلاما وتسليما، وهذا معنى قول القائل من أهل السنة: إن الإسلام قنطرة لا تعبر إلا بالتسليم. فنسأل الله التوفيق فيه، والثبات عليه، وأن يتوفانا على ملة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بمنه وفضله. (¬1) موقفه من المرجئة: - قال رحمه الله في تفسيره: والإيمان في الشريعة يشتمل على الاعتقاد بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالأركان. (¬2) - وقال أيضا: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (¬3) أي: صلاتكم فجعل الصلاة إيمانا، وهذا دليل على المرجئة، حيث لم يجعلوا الصلاة من الإيمان، وإنما سموا مرجئة لأنهم أخروا العمل عن الإيمان. (¬4) موقفه من القدرية: ¬

(¬1) الحجة في بيان المحجة (1/ 320 - 322). (¬2) تفسير القرآن (1/ 43). (¬3) البقرة الآية (143). (¬4) تفسير القرآن (1/ 150).

آثاره السلفية: 'الرد على القدرية': ذكره حفيده في الأنساب (¬1) والذهبي في السير. (¬2) - قال أبو القاسم الأصبهاني في كتابه 'الحجة': قال أبو المظفر السمعاني: قد ذكرنا أن سبيل معرفة هذا الباب التوقيف من قبل الكتاب والسنة، دون محض القياس، ومجرد المعقول فمن عدل عن التوقيف في هذا الباب، ضل وتاه في بحار الحيرة، ولم يبلغ شفاء النفس، ولا وصل إلى ما يطمئن به القلب. وذلك لأن القدر سر من سر الله وعلم من علمه. ضربت دونه الأستار، وكفت عليه الأزرار، واختص الله به علام الغيوب، حجبه عن عقول البشر ومعارفهم، لما علم من الحكمة. وسبيلنا أن ننتهي إلى ما حد لنا فيه، وأن لا نتجاوز إلى ما وراءه. فالبحث عنه تكلف، والاقتحام فيه تعمق وتهور. قال: وجماع هذا الباب أن يعلم أن الله تعالى طوى عن العالم علم ما قضاه وقدره على عباده، فلم يطلع عليه نبيا مرسلا، ولا ملكا مقربا، لأنه خلقهم ليتعبدهم، ويمتحنهم. قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} (¬3). وقد نقلنا عن علي رضي الله عنه: أنه خلقهم ليأمرهم بالعبادة. فلو كشف لهم عن سر ما قضى وقدر لهم وعليهم في عواقب أمورهم لافتتنوا، وفتروا عن العمل، واتكلوا على مصير الأمر في العاقبة فيكون ¬

(¬1) (3/ 299). (¬2) (19/ 117). (¬3) الذاريات الآية (56).

نصر بن إبراهيم (490 هـ)

قصاراهم عند ذلك أمن أو قنوط. وفي ذلك بطلان العبادة وسقوط الخوف والرجاء. فلطف الله سبحانه بعباده وحجب عنهم علم القضاء والقدر، وعلقهم بين الخوف والرجاء، والطمع والوجل: ليبلو سعيهم واجتهادهم، وليميز الله الخبيث من الطيب، ولله الحجة البالغة. (¬1) نصر بن إبراهيم (¬2) (490 هـ) نصر بن إبراهيم بن نصر بن إبراهيم بن داود المقدسي أبو الفتح شيخ الإسلام العلامة القدوة الفقيه المحدث صاحب التصانيف والأمالي ولد قبل سنة عشر وأربعمائة، وارتحل إلى دمشق قبل الثلاثين فسمع صحيح البخاري من أبي الحسن بن السمسار صاحب الفقيه أبي زيد المروزي وسمع من عبد الرحمن بن الطبيز وأبي الحسن محمد بن عوف المزني، وابن سلوان وطبقتهم. حدث عنه الخطيب وهو من شيوخه ومكي الرميلي ومحمد بن طاهر وخلق كثير. وكان فقيها إماما زاهدا عاملا لم يقبل صلة من أحد بدمشق. حكى ناصر النجار وكان يخدمه من زهده وتقلله وتركه الشهوات أشياء عجيبة. قال نصر: درست على الفقيه سليم الرازي من سنة سبع وثلاثين وأربعمائة إلى سنة أربعين ما فاتني منها درس ولا وجعت إلا يوما واحدا وعوفيت. وجرى على منهاج السلف من التقشف، وتجنب السلاطين ورفض الطمع، ¬

(¬1) الحجة في بيان المحجة (2/ 30 - 31). (¬2) السير (19/ 136 - 143) وشذرات الذهب (3/ 395 - 396) تهذيب الأسماء واللغات (القسم الأول/2/ 125 - 126).

موقفه من الرافضة:

والاجتزاء باليسير مما يصل إليه من غلة أرض له كانت بنابلس، وكانت أوقاته كلها مستغرقة في عمل الخير إما في نشر علم وإما في صلاح عمل. توفي في المحرم سنة تسعين وأربعمائة. موقفه من الرافضة: جاء في الاعتصام: قال ابن العربي: وقد كان قال لي أصحابنا النصرية بالمسجد الأقصى: إن شيخنا أبا الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي اجتمع برئيس من الشيعة، فشكا إليه فساد الخلق، وأن هذا لا يصلح إلا بخروج الإمام المنتظر، فقال نصر: هل لخروجه ميقات أم لا؟ قال الشيعي: نعم. قال له أبو الفتح: ومعلوم هو أو مجهول؟ قال: معلوم. قال نصر: ومتى يكون؟ قال: إذا فسد الخلق. قال أبو الفتح: فهل تحبسونه عن الخلق وقد فسد جميعهم إلا أنتم، فلو فسدتم؛ لخرج، فأسرعوا به وأطلقوه من سجنه وعجلوا بالرجوع إلى مذهبنا، فبهت. (¬1) موقفه من الجهمية: قال شيخ الإسلام في الدرء: وقال الشيخ نصر المقدسي الشافعي الشيخ المشهور في كتاب 'الحجة' له: إن قال قائل: قد ذكرت ما يجب على أهل الإسلام من اتباع كتاب الله وسنة رسوله، وما أجمع عليه الأئمة والعلماء، والأخذ بما عليه أهل السنة والجماعة، فاذكر مذاهبهم وما أجمعوا عليه من اعتقادهم، وما يلزمنا من المصير إليه من إجماعهم. فالجواب: أن الذي ¬

(¬1) الاعتصام (1/ 205).

ابن جزلة (493 هـ)

أدركت عليه أهل العلم ومن لقيتهم وأخذت عنهم، ومن بلغني قوله من غيرهم ... فذكر جمل اعتقاد أهل السنة وفيه: أن الله مستو على عرشه بائن من خلقه، كما قال في كتابه: {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} (¬1)، {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)} (¬2).اهـ (¬3) له من الآثار السلفية: 'الحجة على تارك المحجة': ذُكِرَ في السير (¬4) وشذرات الذهب (¬5) ودرء التعارض (¬6) وهدية العارفين. (¬7) وهو كتاب مفقود تتبعت الكثير من الفهارس ولم أجد له خبرا. فلعل الله ييسر وجوده فيما بعد إن كان له وجود. وله مختصر في مخطوطات الجامعة الإسلامية، وقد سجل رسالة علمية وهو تحت التحقيق بإشراف الشيخ الفاضل عبد المحسن بن حمد العباد. ابن جَزْلَة (¬8) (493 هـ) ¬

(¬1) الطلاق الآية (12). (¬2) الجن الآية (28). (¬3) درء التعارض (6/ 251). (¬4) (19/ 137). (¬5) (3/ 396). (¬6) (6/ 251). (¬7) (2/ 490). (¬8) السير (19/ 188) ووفيات الأعيان (6/ 267 - 268) والبداية والنهاية (12/ 170) والمنتظم (17/ 61) والنجوم الزاهرة (5/ 166) والكامل في التاريخ (10/ 302).

موقفه من المشركين:

يحيى بن عيسى بن جزلة أبو علي البغدادي إمام الطب كان نصرانيا فأسلم في كهولته على يد قاضي القضاة الدامغاني وقيل على أبي علي بن الوليد المعتزلي، وحسن إسلامه، وصنف يرد على النصارى. ثم كان يطبب الناس بعد ذلك بلا أجر وربما ركب لهم الأدوية من ماله تبرعا، وكان يتفقد الفقراء ويحسن إليهم، ووقف كتبه قبل وفاته. وتوفي في سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة. موقفه من المشركين: قال ابن خلكان: وصنف رسالة في الرد على النصارى وبيان عوار مذاهبهم، ومدح فيها الإسلام وأقام الحجة على أنه الدين الحق، وذكر فيها ما قرأه في التوراة والإنجيل من ظهور النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه نبي مبعوث وأن اليهود والنصارى أخفوا ذلك ولم يظهروه، ثم ذكر فيها معايب اليهود والنصارى. وهي رسالة حسنة أجاد فيها. (¬1) حوادث أربع وتسعين وأربعمائة (494 هـ) وقال ابن كثير في حوادث سنة أربع وتسعين وأربعمائة: عظم الخطب بأصبهان ونواحيها بالباطنية فقتل السلطان منهم خلقا كثيرا، وأبيحت ديارهم وأموالهم للعامة، ونودي فيهم إن كل من قدرتم عليه منهم فاقتلوه وخذوا ماله، وكانوا قد استحوذوا على قلاع كثيرة، وأول قلعة ملكوها في ¬

(¬1) وفيات الأعيان (6/ 267).

محمد بن الفرج الطلاعي (497 هـ)

سنة ثلاث وثمانين، وكان الذي ملكها الحسن بن صباح، أحد دعاتهم، وكان قد دخل مصر وتعلم من الزنادقة الذين بها، ثم صار إلى تلك النواحي ببلاد أصبهان، وكان لا يدعو إليه من الناس إلا غبيا جاهلا، لا يعرف يمينه من شماله، ثم يطعمه العسل بالجوز والشونيز، حتى يحرق مزاجه ويفسد دماغه، ثم يذكر له أشياء من أخبار أهل البيت، ويكذب له من أقاويل الرافضة الضلال، أنهم ظلموا ومنعوا حقهم الذي أوجبه الله لهم ورسوله، ثم يقول له فإذا كانت الخوارج تقاتل بني أمية لعلي، فأنت أحق أن تقاتل في نصرة إمامك علي بن أبي طالب، ولا يزال يسقيه العسل وأمثاله ويرقيه حتى يستجيب له ويصير أطوع له من أمه وأبيه، ويظهر له أشياء من المخرقة والنيرنجيات والحيل التي لا تروج إلا على الجهال، حتى التف عليه بشر كثير، وجم غفير، وقد بعث إليه السلطان ملكشاه يتهدده وينهاه عن ذلك، وبعث إليه بفتاوى العلماء، فلما قرأ الكتاب بحضرة الرسول قال لمن حوله من الشباب: إني أريد أن أرسل منكم رسولا إلى مولاه، فاشرأبت وجوه الحاضرين، ثم قال لشاب منهم: اقتل نفسك، فأخرج سكينا فضرب بها غلصمته فسقط ميتا، وقال لآخر منهم: ألق نفسك من هذا الموضع، فرمى نفسه من رأس القلعة إلى أسفل خندقها فتقطع. ثم قال لرسول السلطان. هذا الجواب. فمنها امتنع السلطان من مراسلته. (¬1) محمد بن الفرج الطَّلاَعِي (¬2) (497 هـ) ¬

(¬1) البداية والنهاية (12/ 170 - 171). (¬2) السير (19/ 199 - 202) وشذرات الذهب (3/ 407) وشجرة النور الزكية (1/ 123).

موقفه من المبتدعة:

الشيخ الإمام القدوة أبو عبد الله محمد بن الفرج القرطبي المالكي. ولد سنة أربع وأربعمائة. حدث عن يونس بن عبد الله القاضي، ومكي بن أبي طالب، وأبي عبد الله بن عابد. وروى عنه أبو جعفر البطروجي، ومحمد بن عبد الخالق الخزرجي، ومحمد بن عبد الله بن خليل. وكان رأسا في العلم والعمل قوالا بالحق رحل الناس إليه من الأقطار لسماع الموطأ والمدونة لعلوه في ذلك. قال عنه الذهبي: كان ذا دين وخير وفضل، وطول صلاة، قوالا للحق وإن أوذي لا تأخذه في الله لومة لائم، معظما عند الخاصة والعامة. قال ابن بشكوال: هو بقية الشيوخ الأكابر في وقته، وزعيم المفتين بحضرته. توفي سنة سبع وتسعين وأربعمائة. موقفه من المبتدعة: جاء في السير: قال القاضي عياض: كان صالحا، قوالا للحق، شديدا على المبتدعة. وفيها: وكان شديدا على أهل البدع، مجانبا لمن يخوض في غير الحديث. (¬1) السلطان بركياروق (¬2) (498 هـ) بركياروق السلطان ركن الدين بن ملكشاه أبو المظفر، أحد الملوك ¬

(¬1) السير (19/ 200). (¬2) المنتظم (17/ 93) والسير (19/ 195 - 196) والبداية والنهاية (12/ 175 - 176) وشذرات الذهب (3/ 407 - 408) والوافي بالوفيات (10/ 121 - 122) والنجوم الزاهرة (5/ 191).

موقفه من المشركين:

السلجوقية، ولي بعد موت أبيه وهو حدث، له ثلاث عشرة سنة. وكان شابا شهما شجاعا فيه كرم وحلم، لم يكن فيه عيب سوى ملازمته للشراب والإدمان عليه. مات ببروجرد في شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وأربعمائة. موقفه من المشركين: قال ابن الأثير: وفي هذه السنة -أي سنة أربع وتسعين وأربعمائة- أمر السلطان بركياروق بقتل الباطنية، وهم الإسماعيلية، وهم الذين كانوا قديما يسمون القرامطة. (¬1) جاء في المنتظم: قتل السلطان بركيارق خلقا من الباطنية ممن تحقق مذهبه. ومن اتهم به، فبلغت عدتهم ثمانمائة ونيفا، ووقع التتبع لأموال من قتل منهم، فوجد لأحدهم سبعون بيتا من الزوالي المحفور، وكتب بذلك كتاب إلى الخليفة، فتقدم بالقبض على قوم يظن فيهم ذلك المذهب، ولم يتجاسر أحد أن يشفع في أحد لئلا يظن ميله إلى ذلك المذهب، وزاد تتبع العوام لكل من أرادوا، وصار كل من في نفسه شيء من إنسان يرميه بهذا المذهب، فيقصد وينهب حتى حسم هذا الأمر فانحسم، وأول ماعرف من أحوال الباطنية في أيام ملك شاه جلال الدولة، فإنهم اجتمعوا فصلوا صلاة العيد في ساوة، ففطن بهم الشحنة، فأخذهم وحبسهم، ثم أطلقهم، ثم اغتالوا مؤذنا من أهل ساوة، فاجتهدوا أن يدخل معهم فلم يفعل، فخافوا أن ينم عليهم فاغتالوه فقتلوه، فبلغ الخبر إلى نظام الملك، وتقدم بأخذ من يتهم بقتله فقتل ¬

(¬1) الكامل (10/ 313)

يوسف بن تاشفين (500 هـ)

المتهم، وكان نجارا، فكانت أول فتكة لهم قتل نظام الملك وكانوا يقولون: قتلتم منا نجارا، وقتلنا به نظام الملك، فاستفحل أمرهم بأصبهان لما مات ملك شاه، فآل الأمر إلى أنهم كانوا يسرقون الإنسان فيقتلونه ويلقونه في البئر، فكان الإنسان إذا دنا وقت العصر ولم يعد إلى منزله يئسوا منه، وفتش الناس المواضع، فوجدوا امرأة في دار الأزج فوق حصير، فأزالوها تحت الحصير أربعين قتيلا، فقتلوا المرأة، وأخربوا الدار والمحلة، وكان يجلس رجل ضرير على باب الزقاق الذي فيه الدار، فإذا مر به إنسان سأله أن يقوده خطوات إلى الزقاق، فإذا حصل هناك جذبه من في الدار، واستولوا عليه، فجد المسلمون في طلبهم بأصبهان، وقتلوا منهم خلقا كثير. (¬1) يوسف بن تاشفين (¬2) (500 هـ) يوسف بن تاشفين أبو يعقوب اللمتوني أمير المسلمين الملثم البربري، بنى مراكش وصيرها دار ملكه، قال ابن الأثير: وكان حسن السيرة خيرا، عادلا يميل إلى أهل الدين والعلم، ويكرمهم ويصدر عن رأيهم وكان يحب العفو والصفح عن الذنوب العظام. قال ابن خلكان: وكان حازما سائسا للأمور، ضابطا لمصالح مملكته مؤثرا لأهل العلم والدين، كثير المشورة لهم. وكان رجلا شجاعا مقداما، استقدمه ملوك الأندلس لغزو الفرنج فعبر البحر ¬

(¬1) المنتظم (17/ 62 - 63). (¬2) السير (19/ 252 - 254) والكامل في التاريخ (10/ 417 - 418) ووفيات الأعيان (7/ 112 - 130) والعبر (2/ 39) والنجوم الزاهرة (5/ 195) وشذرات الذهب (3/ 412 - 413).

موقفه من المشركين:

وكانوا قد جاءوا بجيوش كثيرة فسحقهم ثم تملك الأندلس بعد ذلك فجمع الفقهاء وأحسن إليهم فقالوا له: ينبغي أن تكون ولايتك من الخليفة لتجب طاعتك على الكافة فأرسل إلى الخليفة المستظهر بالله يخبره بما فتح من بلاد الفرنج ويطلب تقليدا بولاية البلاد فكتب له تقليدا من ديوان الخلافة بما أراد ولقب أمير المسلمين وبقي على ملكه إلى سنة خمسمائة فتوفي وملك بعده البلاد ولده علي بن يوسف. موقفه من المشركين: قال الذهبي: قال ابن خلكان: كان الأذفونش قد قوي أمره، وكانت الملوك بالأندلس يصالحونه، ويحملون إليه ضرائب، وأخذ طليطلة في سنة ثمان وسبعين بعد حصار شديد، من القادر بن ذي النون، فكان ذلك أول وهن دخل من الفرنج على المسلمين، وكان المعتمد يؤدي إليه، فلما تمكن لم يقبل الضريبة، وتهدده، وطلب منه أن يسلم حصونا، فضرب الرسول، وقتل من معه، فتحرك اللعين، واجتمع العلماء، واتفقوا على أن يكاتبوا الأمير أبا يعقوب بن تاشفين صاحب مراكش لينجدهم، فعبر ابن تاشفين بجيوشه إلى الجزيرة، ثم اجتمع بالمعتمد، وأقبلت المطوعة من النواحي وركب الأذفونش في أربعين ألف فارس، وكتب إلى ابن تاشفين يتهدده، فكتب في ظهر كتابه: "الذي يكون ستراه" ثم التقى الجمعان، واصطدم الجبلان بالزلاقة من أرض بطليوس، فانهزم الكلب، واستؤصل جمعه، وقل من نجا، في رمضان سنة تسع وسبعين، وجرح المعتمد في بدنه ووجهه، وشهد له بالشجاعة والإقدام،

السراج (500 هـ)

وغنم المسلمون ما لا يوصف ... (¬1) السَّرَّاج (¬2) (500 هـ) الشيخ الإمام أبو محمد جعفر بن أحمد بن الحسن البغدادي، السراج القارئ. ولد سنة ست عشرة وأربعمائة. سمع أبا علي بن شاذان وأبا محمد الخلال والحافظ أبا نصر عبيد الله السجزي وأبا بكر الخطيب، وعدة. وحدث عنه ابنه ثعلب ومحمد بن ناصر وأبو طاهر السلفي وإسماعيل بن السمرقندي وعبد الوهاب الأنماطي. قال السلفي: كان ممن يفتخر برؤيته ورواياته لديانته ودرايته. وقال ابن ناصر: كان ثقة مأمونا، عالما فهما صالحا. وقال أبو بكر ابن العربي: ثقة، عالم مقرئ، له أدب ظاهر واختصاص بالخطب. وقال أبو علي الصدفي: هو شيخ فاضل، جميل وسيم، مشهور يفهم، عنده لغة وقراءات، وكان الغالب عليه الشعر. توفي رحمه الله في صفر سنة خمسمائة. موقفه من المبتدعة: من شعره قوله: قتل الذين بجهلهم ... أضحوا يعيبون المحابر ¬

(¬1) السير (19/ 61 - 62). (¬2) المنتظم (17/ 102 - 103) والسير (19/ 228 - 231) وتاريخ الإسلام (حوادث 491 - 500/ص.315) والوافي بالوفيات (11/ 92 - 93) والبداية والنهاية (12/ 179 - 180).

موقف السلف من أحمد بن غطاش الباطني (500 هـ)

والحاملين لها من الـ ... أيدي بمجتمع الأساور لولا المحابر والمقا ... لم والصحائف والدفاتر والحافظون شريعة الـ ... والناقلون حديثه عن ... لرأيت من بشع الضلا ... ـمبعوث من خير العشائر كل يقول بجهله ... كابر ثبت وكابر ... ل عساكرا تتلو عساكر سميتهم أهل الحديث ... والله للمظلوم ناصر هم حشو جنات النعيم ... أولي النهي وأولي البصائر رفقاء أحمد كلهم ... على الأسرة والمنابر عن حوضه ريان صادر (¬1) موقف السلف من أحمد بن غطاش الباطني (500 هـ) بيان زندقته: جاء في السير: طاغية الإسماعيلية، هو الرئيس أحمد بن عبد الملك بن غطاش العجمي. كان أبوه من كبار دعاة الباطنية، ومن أذكياء الأدباء، له بلاغة وسرعة جواب، استغوى جماعة، ثم هلك، وخلفه في الرياسة ابنه هذا، فكان جاهلا، لكنه شجاع مطاع، تجمع له أتباع، وتحيلوا، حتى ملكوا قلعة أصبهان التي ¬

(¬1) البداية والنهاية (12/ 179 - 180).

القرن 6

غرم عليها السلطان ملكشاه ألفي ألف دينار، وصاروا يقطعون السبل، والتف عليهم كل فاجر، ودام البلاء بهم عشر سنين، حتى نازلهم محمد بن ملكشاه أشهرا، فجاعوا، ونزل كثير منهم بالأمان، وعصى ابن غطاش في برج أياما، وجرت أمور طويلة، ثم أخذ وسلخ، وتأمر على الباطنية بعده ابن صباح، وكانوا بلاء على المسلمين، وقتلوا عددا من الأعيان بشغل السكين. (¬1) وقال ابن الجوزي: كان هذا ابن عطاش في أول أمره طبيبا، فأخذ أبوه في أيام طغرلبك لأجل مذهبه، فأراد قتله فأظهر التوبة ومضى إلى الري، وصاحب أبا علي النيسابوري وهو متقدمهم هناك وصاهره وصنف رسالة في الدعاء إلى هذا المذهب سماها (العقيقة). ومات في سواد الري. (¬2) الرُّويَانِي (¬3) (501 هـ) القاضي، العلامة، أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني الطبري الشافعي. ولد سنة خمس عشرة وأربعمائة. سمع أبا منصور محمد بن عبد الرحمن الطبري وشيخ الإسلام أبا عثمان الصابوني وأبا نصر أحمد بن محمد البلخي وجده أبا العباس أحمد بن محمد الروياني وعدة. وحدث عنه أبو طاهر السلفي وإسماعيل بن محمد التيمي وأبو الفتوح الطائي. تفقه ببخارى ¬

(¬1) السير (19/ 267). (¬2) المنتظم (17/ 102). (¬3) المنتظم (17/ 113) والسير (19/ 260 - 262) وتهذيب الأسماء واللغات (القسم الأول/2/ 277) وتاريخ الإسلام (حوادث 501 - 510/ص.62 - 63) والبداية والنهاية (12/ 182) وطبقات الشافعية لابن كثير (2/ 524 - 526) وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي (4/ 264 - 265).

موقفه من المشركين:

مدة، وبرع في المذهب حتى قال العماد محمد بن أبي سعد صدر الري في عصره: أبو المحاسن القاضي شافعي عصره. وكان يقول: لو احترقت كتب الشافعي أمليتها من حفظي. وقال السبكي: كان يلقب فخر الإسلام، وله الجاه العريض في تلك الديار والعلم الغزير والدين المتين، والمصنفات السائرة في الآفاق، والشهرة بحفظ المذهب يضرب المثل باسمه في ذلك. قتل سنة إحدى وخمسمائة. موقفه من المشركين: قال الذهبي: قال معمر بن الفاخر: قتل بجامع آمل يوم جمعة حادي عشر المحرم، قتلته الملاحدة يعني الإسماعيلية. (¬1) الغزالي (¬2) (505 هـ) محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي أبو حامد الغزالي الشيخ الإمام صاحب التصانيف والذكاء، لازم إمام الحرمين فبرع في الفقه في مدة قريبة ومهر في الكلام والجدل، تعاطى الفلسفة وخاض فيها وليس له علم بالآثار ولا خبرة بالسنن النبوية القاضية على العقل، وقد ألف في الرد عليهم كتاب التهافت، ووقع في بعض ضلالهم وغلا فيها حتى قال عنه أبو بكر بن العربي: شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة وأراد أن يتقيأهم فما استطاع. ودخل ¬

(¬1) السير (19/ 262). (¬2) السير (19/ 322 - 346) والمنتظم (17/ 124 - 127) والكامل في التاريخ (10/ 491) ووفيات الأعيان (4/ 216 - 219) والوافي بالوفيات (1/ 273 - 277) والبداية (12/ 185 - 186).

التصوف وصنف فيه أغلب تواليفه المشهورة، أخذ عليه فيها مواضع وساءت به الظنون حتى أمر سلطان المغرب ابن تاشفين بحرق كتبه بفتوى الفقهاء. كان من أذكياء العالم في كل ما يتكلم فيه وساد في شبيبته حتى إنه درس بالنظامية ببغداد في سنة أربع وثمانين وله أربع وثلاثون سنة فحضر عنده رؤوس العلماء فتعجبوا من فصاحته واطلاعه. رحل إلى دمشق وبيت المقدس مدة ثم إلى نيسابور فدرس بنظاميتها ثم عاد إلى طوس فأقام بها وابتنى رباطا واتخذ دارا حسنة وغرس فيها بستانا أنيقا ورجع عما كان فيه من الكلام والفلسفة والتصوف وأقبل على تلاوة القرآن وحفظ الأحاديث الصحاح، حكى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره. وكانت وفاته يوم الاثنين الرابع عشر من جمادى الآخرة سنة خمس وخمسمائة. إن الكلام على الغزالي يحتاج إلى تفصيل أكثر لما فيه من تشعب. ويكفينا نحن في بحثنا هذا الإشارة، لأن القصد بيان المواقف السلفية والعقبات التي تعرضت لها العقيدة السلفية. وكان أبو حامد هذا من الذين كان ضررهم على العقيدة الإسلامية على العموم واضحا، ولا ينكر هذا إلا مكابر أو معاند، أو صاحب هوى. فما يزال المسلمون يتجرعون سموم كتبه التي خلفها ما بين باطنية مدسوسة أو ظاهرة. وقد هيأ الله لهذه الأمة من يفضح مثل هذه الأباطيل. فمن المضنون به على غير أهله إلى مشكاة الأنوار إلى إحياء علوم الدين ومع الأسف قد انتشرت كتبه المليئة بالضلال انتشارا فاحشا لا نظير له، وقد فرح بها الدجاجلة والمغرضون.

أما المضنون به على غير أهله فقد أفرد بالرد عليه كتاب مستقل، وسيمر بنا إن شاء الله. وقد بين شيخ الإسلام في غير ما موضع من كتبه ما فيه من الضلال وأكتفي بنقل عبارة له في درء التعارض: كصاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها ومن مشى خلفه من القائلين بالوحدة المطلقة والاتحاد. (¬1) وأما مشكاة الأنوار فقد ردَّ عليها الشيخ في كثير من كتبه، انظر الدرء. (¬2) وأما إحياء علوم الدين فقد رد عليه جماعة من أهل العلم عددهم يفوق الحصر، وقد أمر سلطان مراكش ابن تاشفين بحرقه بفتوى أهل العلم في عصره. وسيمر بنا ذلك إن شاء الله. نماذج من مواقف العلماء من أبي حامد وكتبه: قال الغزالي: وحد الاقتصاد بين هذا وهذا دقيق غامض لا يطلع عليه إلا الموفقون الذين يدركون الأمور بنور إلهي لا بالسماع. ثم إذا انكشفت لهم أسرار الأمور على ما هم عليه ونظروا إلى السمع والألفاظ الواردة فيه فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين قرروه وما خالف أولوه. فأما من يأخذ هذه الأمور كلها من السمع فلا يستقر له قدم. قال شيخ الإسلام: هذا الكلام مضمونه أنه لا يستفاد من خبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - شيء من الأمور العلمية، بل إنما يدرك ذلك كل إنسان بما حصل له من المشاهدة والنور والمكاشفة. وهذان أصلان للإلحاد، فإن كل ذي مكاشفة ¬

(¬1) (5/ 82). (¬2) (1/ 317) و (5/ 354) و (6/ 223).

إن لم يزنها بالكتاب والسنة وإلا دخل في الضلالات. (¬1) وقال الإمام ابن الجوزي في التلبيس: وجاء أبو حامد الغزالي، فصنف لهم كتاب الإحياء على طريقة القوم وملأه بالأحاديث الباطلة وهو لا يعلم بطلانها، وتكلم في علم المكاشفة وخرج عن قانون الفقه، وقال: إن المراد بالكوكب والشمس والقمر اللواتي رآهن إبراهيم صلوات الله عليه أنوار هي حجب الله عز وجل، ولم يرد هذه المعروفات. وهذا من جنس كلام الباطنية. وقال في كتابه المفصح بالأحوال: إن الصوفية في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتا ويقتبسون منهم فوائد، ثم يترقى الحال من مشاهدة الصورة إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق. (¬2) التعليق: قال جامعه: هذه نقطة من بحر، وكم كنت أتمنى أن تفرد هذه الكتب بالرد والبيان في رسائل علمية جامعية مركزة حتى يعلم الناس خبثها وما فيها من السموم والأفاعي المفتكة. (¬3) - قال الذهبي في السير: وأدخله سيلان ذهنه في مضايق الكلام، ومزال الأقدام، ولله سر في خلقه. (¬4) - وفيها قال: ومما نقم عليه ما ذكر من الألفاظ المستبشعة بالفارسية في ¬

(¬1) درء التعارض (5/ 348). (¬2) التلبيس (ص.205). (¬3) وقد يسر الله إخراج كتاب في بيان ضلالات ما في الإحياء تحت عنوان: 'الأسباب الحقيقية لحرق إحياء علوم الدين' فليراجعه من أراد الاستزادة، والله الموفق للصواب. (¬4) السير (19/ 323).

كتاب كيمياء السعادة والعلوم وشرح بعض الصور والمسائل بحيث لا توافق مراسم الشرع وظواهر ما عليه قواعد الملة، وكان الأولى به -والحق أحق ما يقال- ترك ذلك التصنيف، والإعراض عن الشرح له، فإن العوام ربما لا يحكمون أصول القواعد بالبراهين والحجج، فإذا سمعوا شيئا من ذلك، تخيلوا منه ما هو المضر بعقائدهم، وينسبون ذلك إلى بيان مذهب الأوائل. (¬1) وفيها: ولأبي المظفر يوسف سبط ابن الجوزي في كتاب رياض الأفهام في مناقب أهل البيت قال: ذكر أبو حامد في كتابه سر العالمين وكشف ما في الدارين فقال في حديث: «من كنت مولاه، فعلي مولاه» (¬2) إن عمر قال لعلي: بخ بخ، أصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة. قال أبو حامد: وهذا تسليم ورضى، ثم بعد هذا غلب عليه الهوى حبا للرياسة، وعقد البنود، وأمر الخلافة ونهيها، فحملهم على الخلاف، فنبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنا قليلا، فبئس ما يشترون، وسرد كثيرا من هذا الكلام الفسل الذي تزعمه الإمامية، وما أدري ما عذره في هذا؟ والظاهر أنه رجع عنه، وتبع الحق، فإن الرجل من بحور العلم، والله أعلم. هذا إن لم يكن هذا وضع هذا وما ذاك ببعيد، ففي هذا التأليف بلايا لا تتطبب، وقال في أوله: إنه قرأه عليه محمد بن تومرت المغربي سرا بالنظامية، قال: وتوسمت فيه الملك. قال الذهبي: قد ألف الرجل في ذم الفلاسفة كتاب التهافت، وكشف ¬

(¬1) السير (19/ 326). (¬2) أخرجه: أحمد (1/ 118) والترمذي (5/ 591/3713) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي في الكبرى (5/ 134/8478)، وصححه ابن حبان (15/ 375 - 376/ 6931).

عوارهم، ووافقهم في مواضع ظنا منه أن ذلك حق، أو موافق للملة، ولم يكن له علم بالآثار ولا خبرة بالسنن النبوية القاضية على العقل، وحبب إليه إدمان النظر في كتاب رسائل إخوان الصفا وهو داء عضال، وجرب مرد، وسم قتال، ولولا أن أبا حامد من كبار الأذكياء، وخيار المخلصين، لتلف. فالحذار الحذار من هذه الكتب، واهربوا بدينكم من شبه الأوائل، وإلا وقعتم في الحيرة، فمن رام النجاة والفوز، فليلزم العبودية، وليدمن الاستغاثة بالله، وليبتهل إلى مولاه في الثبات على الإسلام وأن يتوفى على إيمان الصحابة، وسادة التابعين، والله الموفق، فبحسن قصد العالم يغفر له وينجو إن شاء الله. وقال أبو عمرو بن الصلاح: فصل لبيان أشياء مهمة أنكرت على أبي حامد: ففي تواليفه أشياء لم يرتضها أهل مذهبه من الشذوذ، منها قوله في المنطق: هو مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط به، فلا ثقة له بمعلوم أصلا. قال: فهذا مردود، إذ كل صحيح الذهن منطقي بالطبع، وكم من إمام ما رفع بالمنطق رأسا. (¬1) - وفيها أيضا: وقد رأيت كتاب الكشف والإنباء عن كتاب الإحياء للمازري، أوله: الحمد لله الذي أنار الحق وأداله، وأبار الباطل وأزاله، ثم أورد المازري أشياء مما نقده على أبي حامد، يقول: ولقد أعجب من قوم مالكية يرون مالكا الإمام يهرب من التحديد، ويجانب أن يرسم رسما، وإن كان فيه أثر ما، أو قياس ما، تورعا وتحفظا من الفتوى فيما يحمل الناس عليه، ثم يستحسنون من رجل فتاوى مبناها على ما لا حقيقة له، وفيه كثير ¬

(¬1) السير (19/ 328 - 329).

من الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لفق فيه الثابت بغير الثابت، وكذا ما أورد عن السلف لا يمكن ثبوته كله، وأورد من نزغات الأولياء ونفثات الأصفياء ما يجل موقعه، لكن مزج فيه النافع بالضار، كإطلاقات يحكيها عن بعضهم لا يجوز إطلاقها لشناعتها، وإن أخذت معانيها على ظواهرها، كانت كالرموز إلى قدح الملحدين. (¬1) - وفيها: وقال: وذهبت الصوفية إلى العلوم الإلهامية دون التعليمية، فيجلس فارغ القلب، مجموع الهم يقول: الله الله الله، على الدوام، فليفرغ قلبه، ولا يشتغل بتلاوة ولا كتب حديث. قال: فإذا بلغ هذا الحد، التزم الخلوة في بيت مظلم، وتدثر بكسائه، فحينئذ يسمع نداء الحق: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} (¬2) و {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)} (¬3). قال الذهبي: سيد الخلق إنما سمع (يا أيها المدثر) من جبريل عن الله، وهذا الأحمق لم يسمع نداء الحق أبدا، بل سمع شيطانا، أو سمع شيئا لا حقيقة من طيش دماغه، والتوفيق في الاعتصام بالسنة والإجماع. (¬4) - وفيها: قال أبو بكر بن العربي في شرح الأسماء الحسنى: قال شيخنا أبو حامد قولا عظيما انتقده عليه العلماء، فقال: وليس في قدرة الله أبدع من هذا العالم في الإتقان والحكمة، ولو كان في القدرة أبدع أو أحكم منه ولم ¬

(¬1) السير (19/ 330). (¬2) المدثر الآية (1). (¬3) المزمل الآية (1). (¬4) السير (19/ 333 - 334).

يفعله، لكان ذلك منه قضاء للجود، وذلك محال. ثم قال: والجواب أنه باعد في اعتقاد عموم القدرة ونفي النهاية عن تقدير المقدورات المتعلقة بها، ولكن في تفاصيل هذا العالم المخلوق، لا في سواه، وهذا رأي فلسفي قصدت به الفلاسفة قلب الحقائق، ونسبت الإتقان إلى الحياة مثلا، والوجود إلى السمع والبصر، حتى لا يبقى في القلوب سبيل إلى الصواب، وأجمعت الأمة على خلاف هذا الاعتقاد، وقالت عن بكرة أبيها: إن المقدورات لا نهاية لها لكل مقدر الوجود، لا لكل حاصل الوجود، إذ القدرة صالحة، ثم قال: وهذه وهلةٌ لاَ لَعًا لَها، ومزلة لا تماسك فيها، ونحن وإن كنا نقطة من بحره، فإنا لا نرد عليه إلا بقوله. قال الذهبي: كذا فليكن الرد بأدب وسكينة. (¬1) - وفيها: ولأبي الحسن بن سكر رد على الغزالي في مجلد سماه: إحياء ميت الأحياء في الرد على كتاب الإحياء. (¬2) - وفيها: وللإمام محمد بن علي المازري الصقلي كلام على الإحياء يدل على إمامته، يقول: وقد تكررت مكاتبتكم في استعلام مذهبنا في الكتاب المترجم بإحياء علوم الدين، وذكرتم أن آراء الناس فيه قد اختلفت، فطائفة انتصرت وتعصبت لإشهاره، وطائفة حذرت منه ونفرت، وطائفة لكتبه أحرقت، وكاتبني أهل المشرق أيضا يسألوني، ولم يتقدم لي قراءة هذا الكتاب سوى نبذ منه، فإن نفس الله في العمر، مددت فيه الأنفاس، وأزلت ¬

(¬1) السير (19/ 337). (¬2) السير (19/ 342).

عن القلوب الالتباس: اعلموا أن هذا رأيت تلامذته، فكل منهم حكى لي نوعا من حاله ما قام مقام العيان، فأنا أقتصر على ذكر حاله، وحال كتابه ... وأما مذاهب الصوفية، فلا أدري على من عول فيها، لكني رأيت فيما علق بعض أصحابه أنه ذكر كتب ابن سينا وما فيها، وذكر بعد ذلك كتب أبي حيان التوحيدي، وعندي أنه عليه عول في مذهب التصوف ... وفي الإحياء من الواهيات كثير. قال: وعادة المتورعين أن لا يقولوا: قال مالك، وقال الشافعي، فيما لم يثبت عندهم. ثم قال: ويستحسن أشياء مبناها على ما لا حقيقة له ... ثم قال: وقال: من مات بعد بلوغه ولم يعلم أن البارئ قديم، مات مسلما إجماعا. قال: فمن تساهل في حكاية الإجماع في مثل هذا الذي الأقرب أن يكون الإجماع في خلافه، فحقيق أن لا يوثق بما روى، ورأيت له في الجزء الأول يقول: إن في علومه ما لا يسوغ أن يودع في كتاب، فليت شعري أحق هو أو باطل؟. فإن كان باطلا، فصدق، وإن كان حقا، وهو مراده بلا شك، فَلِمَ لا يودع في الكتب، ألغموضه ودقته؟. فإن كان هو فهمه، فما المانع أن يفهمه غيره؟ (¬1) - وذكر شيخ الإسلام في المنهاج رجوع أبي حامد الغزالي من الكلام والتصوف قال: وكذلك أبو حامد في آخر عمره استقر أمره على الوقف والحيرة، بعد أن نظر فيما كان عنده من طرق النظار: أهل الكلام والفلسفة، وسلك ما تبين له من طرق العبادة والرياضة والزهد، وفي آخر عمره اشتغل ¬

(¬1) السير (19/ 340 - 342).

موقفه من المشركين:

بالحديث: بالبخاري ومسلم. (¬1) موقفه من المشركين: - قال شيخ الإسلام: قال أبو حامد الغزالي عن الفلسفة: هي بين علوم صادقة لا منفعة فيها، ونعوذ بالله من علم لا ينفع، وبين ظنون كاذبة لا ثقة بها، وإن بعض الظن إثم. قال ابن تيمية عقبه: فإن ما يقوم عليه الدليل، من الرياضي ونحوه، كثير التعب قليل الفائدة، لحم جمل غث، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى، وما لم يقم عليه الدليل فظنون وأباطيل. (¬2) - وقال الشاطبي: قال أبو حامد رحمه الله: ينبغي أن يعرف الإنسان أن رتبة هذه الفرقة هي أخس من رتبة كل فرقة من فرق الضلال، إذ لا تجد فرقة تنقض مذهبها بنفس المذهب سوى هذه التي هي الباطنية، إذ مذهبها إبطال النظر وتغيير الألفاظ عن موضوعاتها بدعوى الرمز، وكل ما يتصور أن تنطق به ألسنتهم، فإما نظر أو نقل، أما النظر؛ فقد أبطلوه، وأما النقل؛ فقد جوزوا أن يراد باللفظ غير موضوعه، فلا يبقى لهم معتصم، والتوفيق بيد الله. (¬3) - وقال شيخ الإسلام: وصنف كتابا سماه 'القسطاس المستقيم'، ذكر فيه خمس موازين: الثلاث الحمليات؛ والشرطي المتصل، والشرطي المنفصل. وغير عباراتها إلى أمثلة أخذها من كلام المسلمين وذكر أنه خاطب بذلك ¬

(¬1) المنهاج (5/ 269). (¬2) درء التعارض (5/ 71). (¬3) الاعتصام (1/ 324 - 325).

موقفه من الرافضة:

بعض أهل التعليم، وصنف كتابا في تهافتهم، وبين كفرهم بسبب مسألة قدم العالم وإنكار العلم بالجزئيات وإنكار المعاد؛ وبين في آخر كتبه؛ أن طريقهم فاسدة، لا توصل إلى يقين، وذمها أكثر مما ذم طريقة المتكلمين. وكان أولا يذكر في كتبه كثيرا من كلامهم: إما بعبارتهم، وإما بعبارة أخرى. ثم في آخر أمره بالغ في ذمهم، وبين أن طريقهم متضمنة من الجهل والكفر ما يوجب ذمها وفسادها أعظم من طريق المتكلمين. (¬1) وقال الشيخ أيضا: وصرح الغزالي بأن قتل من ادعى أن رتبة الولاية أعلى من رتبة النبوة أحب إليه من قتل مائة كافر، لأن ضرر هذا في الدين أعظم. (¬2) موقفه من الرافضة: جاء في مجموع الفتاوى: قال أبو حامد الغزالي -في كتابه الذي صنفه في الرد عليهم (أي على الإسماعيلية) - ظاهر مذهبهم الرفض، وباطنه الكفر المحض. (¬3) موقفه من الجهمية: قال أبو حامد الغزالي: أكثر الناس شكا عند الموت أهل الكلام. (¬4) المعمر بن علي أبو سعد البغدادي (¬5) (506 هـ) ¬

(¬1) الفتاوى (9/ 184 - 185). (¬2) مجموع الفتاوى (4/ 173). (¬3) مجموع الفتاوى (4/ 320). (¬4) مجموع الفتاوى (4/ 28). (¬5) السير (19/ 451 - 452) وذيل طبقات الحنابلة (3/ 107 - 110) وشذرات الذهب (4/ 14 - 15) وتاريخ الإسلام (35/ 150) والمنتظم (17/ 130 - 132) والبداية والنهاية (12/ 187).

موقفه من الجهمية:

المفتي الواعظ الكبير أبو سعد المعمر بن علي بن المعمر بن أبي عمامة البغدادي الحنبلي. ولد سنة تسع وعشرين وأربعمائة. وسمع من ابن غيلان والحسن بن محمد الخلال وأبي القاسم التنوخي وروى اليسير. حدث عنه ابن ناصر وأبو المعمر الأنصاري. قال ابن النجار: درس الفقه على شيوخ زمانه وأفتى وناظر وحفظ من الآداب والشعر والنوادر في الجد والهزل ما لم يحفظه غيره. وانفرد بالوعظ وانتفعوا بمجالسه فكان يبكي الناس ويضحكهم، وله قبول عظيم عند الخاص والعام. مات في ربيع الأول سنة ست وخمسمائة وشيعه خلق كثير. موقفه من الجهمية: جاء في ذيل طبقات الحنابلة: وكان في زمن أبي علي بن الوليد شيخ المعتزلة، يجلس في مجلسه، ويلعن المعتزلة. (¬1) الأَبيوَرْدِي (¬2) (507 هـ) العلامة أبو المظفر محمد بن أبي العباس أحمد بن محمد الأموي، الأبيوردي اللغوي، الشاعر المشهور. سمع إسماعيل بن مسعدة الإسماعيلي وأبا بكر بن خلف الشيرازي. وأخذ العربية عن عبد القاهر الجرجاني. وروى عنه ¬

(¬1) ذيل طبقات الحنابلة (1/ 107). (¬2) المنتظم (17/ 135 - 136) والأنساب (1/ 79 - 80) ووفيات الأعيان (4/ 444 - 449) وسير أعلام النبلاء (19/ 283 - 292) وطبقات الشافعية الكبرى (4/ 62 - 63) والوافي بالوفيات (2/ 91 - 93).

موقفه من الجهمية:

ابن طاهر المقدسي وأبو الفتوح الطائي وأبو طاهر السلفي، وجماعة. قال السلفي: كان الأبيوردي -والله- من أهل الدين والخير والصلاح والثقة. وقال عبد الغافر: فخر العرب أبو المظفر الأبيوردي الكوفني، الرئيس الأديب، الكاتب النسابة من مفاخر العصر وأفاضل الدهر، له الفضائل الرائقة والفصول الفائقة والتصانيف المعجزة، والتواليف المعجبة. وقال أبو زكريا بن منده: فخر الرؤساء أفضل الدولة، حسن الاعتقاد، جميل الطريقة، متصرف في فنون جمة من العلوم، عارف بأنساب العرب، فصيح الكلام، حاذق في تصنيف الكتاب. قال الذهبي: هو ريان من العلوم، موصوف بالدين والورع إلا أنه تياه، معجب بنفسه، قد قتله حب السؤدد. توفي رحمه الله سنة سبع وخمسمائة. موقفه من الجهمية: قال يحيى بن منده: سئل الأديب أبو المظفر عن أحاديث الصفات، فقال: تقر وتمر. النَّسيب أبو القاسم (¬1) (508 هـ) الشيخ الإمام، النسيب أبو القاسم علي بن إبراهيم بن العباس، الحسيني الدمشقي الخطيب، مولده سنة أربع وعشرين وأربعمائة. حدث عن أبيه وعمه أبي البركات وأبي علي الأهوازي وأبي بكر الخطيب وسليم بن أيوب ¬

(¬1) تاريخ دمشق (41/ 244 - 247) والكامل في التاريخ (10/ 508) وسير أعلام النبلاء (19/ 358 - 360) وتاريخ الإسلام (حوادث 501 - 510/ص.209) وشذرات الذهب (4/ 21).

موقفه من الرافضة:

وأبي القاسم الحنائي. وروى عنه هبة الله الأكفاني وأبو المعالي بن صابر، وأبو القاسم والصائن ابنا ابن عساكر وخلق سواهم. قال ابن عساكر: كان مكثرا ثقة، وله أصول بخطوط الوراقين، وكان متسننا، وسبب تسننه مؤدبه أبو عمران الصقلي وكثرة سماعه للحديث. وقال الذهبي: كان صدرا، نبيلا، مرضيا، ثقة، محدثا، مهيبا، سنيا، ممدوحا بكل لسان. توفي رحمه الله سنة ثمان وخمسمائة. ودفن بالمقبرة الفخرية في المصلى. موقفه من الرافضة: جاء في السير: قال ابن عساكر: وكانت له جنازة عظيمة، وأوصى أن يصلي عليه جمال الإسلام أبو الحسن الفقيه، وأن يسنم قبره، وأن لا يتولاه أحد من الشيعة. (¬1) ابن حَمْدِين (¬2) (508 هـ) محمد بن علي بن محمد بن عبد العزيز أبو عبد الله العلامة قاضي الجماعة الأندلسي، صاحب فنون ومعارف وتصانيف ولي القضاء ليوسف بن تاشفين الملك، فسار أحسن سيرة وحمل عن أبيه. روى عنه القاضي عياض وعظمه، ولي قضاء قرطبة، وله إجازة من أبي عمر بن عبد البر وأبي العباس ابن دلهاث وتفقه بأبيه وبمحمد بن عتاب وحاتم بن محمد وكان ذكيا بارعا في العلم ¬

(¬1) السير (19/ 360) وهو في تاريخ دمشق (41/ 247). (¬2) السير (19/ 422) وتاريخ الإسلام (حوادث 501 - 510/ص.212 - 213).

موقفه من الصوفية:

متفننا أصوليا لغويا شاعرا حميد الأحكام. وقال القاضي عياض: أجل رجال الأندلس وزعيمها في وقته ومقدمها جلالة ووجاهة وفهما ونباهة ... تقلد الشورى بقرطبة لأول الدولة المرابطية. توفي سنة ثمان وخمسمائة في محرم لثلاث بقين منه عن تسع وستين سنة. موقفه من الصوفية: - جاء في السير: وكان يحط على الإمام أبي حامد في طريقة التصوف وألف في الرد عليه. (¬1) - وفيها أيضا: وقال قاضي الجماعة أبو عبد الله محمد بن حمدين القرطبي: إن بعض من يعظ ممن كان ينتحل رسم الفقه، ثم تبرأ منه شغفا بالشرعة الغزالية، والنحلة الصوفية، أنشأ كراسة تشتمل على معنى التعصب لكتاب أبي حامد إمام بدعتهم، فأين هو من شنع مناكيره، ومضاليل أساطيره المباينة للدين؟! وزعم أن هذا من علم المعاملة المفضي إلى علم المكاشفة الواقع بهم على سر الربوبية الذي لا يسفر عن قناعه، ولا يفوز باطلاعه إلا من تمطى إليه ثبج ضلالته التي رفع لهم أعلامها، وشرع أحكامها. قال أبو حامد: وأدنى النصيب من هذا العلم التصديق به، وأقل عقوبته أن لا يرزق المنكر منه شيئا، فاعرض قوله على قوله، ولا يشتغل بقراءة قرآن، ولا بكتب حديث، لأن ذلك يقطعه عن الوصول إلى إدخال رأسه في كم جبته، والتدثر بكسائه، فيسمع نداء الحق، فهو يقول: ذروا ما كان السلف عليه، وبادروا ما آمركم به. (¬2) ¬

(¬1) السير (19/ 422). (¬2) السير (19/ 332).

أبو الخطاب محفوظ بن أحمد (510 هـ)

أبو الخطاب محفوظ بن أحمد (¬1) (510 هـ) الإمام العلامة، أبو الخطاب محفوظ بن أحمد بن الحسن بن أحمد الكلوذاني ثم البغدادي الأزجي. ولد سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة. سمع أبا محمد الجوهري وأبا طالب العشاري وأبا يعلى محمد بن الحسين بن الفراء وغيرهم. وروى عنه ابن ناصر وأبو المعمر الأنصاري وأبو الكرم بن الغسال، وجماعة من الأئمة. قال أبو الكرم بن الشهرزوري: كان إلكيا إذا رأى أبا الخطاب الكلوذاني مقبلا قال: قد جاء الجبل. وقال السمعاني: أحد الفقهاء، وكان مفتيا، فاضلا، ورعا، دينا غزير الفضل، وافر العقل، وكان له شعر رقيق. وقال الذهبي: كان أبو الخطاب من محاسن العلماء، خيرا صادقا حسن الخلق، حلو النادرة، من أذكياء الرجال، روى الكثير، وطلب الحديث وكتبه. توفي رحمه الله سنة عشر وخمسمائة. موقفه من الجهمية والرافضة والمرجئة والقدرية: قال أبو الخطاب رحمه الله: ¬

(¬1) الأنساب (5/ 90) والمنتظم (17/ 152 - 155) والسير (19/ 348 - 350) وذيل طبقات الحنابلة (3/ 116 - 127) والنجوم الزاهرة (5/ 212) وشذرات الذهب (4/ 27 - 28) وتاريخ الإسلام (حوادث 501 - 510/ص.251 - 253).

دع عنك تذكار الخليط المنجد ... والشوق نحو الآنسات الخرد والنوح في أطلال سعدى إنما ... تذكار سعدى شغل من لم يسعد واسمع مقالي إن أردت تخلصا ... يوم الحساب وخذ بهديي تهتد واقصد فإني قد قصدت موفقا ... نهج ابن حنبل الإمام الأوحد خير البرية بعد صحب محمد ... والتابعين إمام كل موحد ذي العلم والرأي الأصيل ومن حوى ... شرفا علا فوق السها والفرقد واعلم بأني قد نظمت مسائلا ... لم آل فيها النصح غير مقلد وأجبت عن تسآل كل مهذب ... ذي صولة عند الجدال مسود هجر الرقاد وبات ساهر ليله ... ذي همة لا يستلذ بمرقد قوم طعامهم دراسة علمهم ... يتسابقون إلى العلا والسؤدد قالوا بما عرف المكلف ربه؟ ... فأجبت بالنظر الصحيح المرشد قالوا فهل رب الخلائق واحد؟ ... قلت الكمال لربنا المتفرد قالوا فهل لله عندك مشبه؟ ... قلت المشبه في الجحيم الموصد قالوا فهل تصف الإله؟ أبن لنا ... قلت الصفات لذي الجلال السرمد قالوا فهل تلك الصفات قديمة ... كالذات؟ قلت كذاك لم تتجدد قالوا فأنت تراه جسما مثلنا؟ ... قلت المجسم عندنا كالملحد قالوا فهل هو في الأماكن كلها؟ ... فأجبت بل في العلو مذهب أحمد قالوا أتزعم أن على العرش استوى ... قلت الصواب كذاك أخبر سيدي قالوا فما معنى استواه أبن لنا ... فأجبتهم هذا سؤال المعتدي قالوا النزول؟ فقلت ناقلة له ... قوم تمسكهم بشرع محمد

قالوا فكيف نزوله؟ فأجبتهم ... لم ينقل التكييف لي في مسند قالوا فينظر بالعيون؟ أبن لنا ... فأجبت رؤيته لمن هو مهتدي قالوا فهل لله علم؟ قلت ما ... من عالم إلا بعلم مرتدي قالوا فيوصف أنه متكلم؟ ... قلت السكوت نقيصة المتوحد قالوا فما القرآن؟ قلت كلامه ... من غير ما حدث وغير تجدد قالوا الذي نتلوه؟ قلت كلامه ... لا ريب فيه عند كل مسدد قالوا فأفعال العباد؟ فقلت ما ... من خالق غير الإله الأمجد قالوا فهل فعل القبيح مراده؟ ... قلت الإرادة كلها للسيد لو لم يرده لكان ذاك نقيصة ... سبحانه عن أن يعجز في الردي قالوا فما الإيمان؟ قلت مجاوبا ... عمل وتصديق بغير تبلد قالوا فمن بعد النبي خليفة؟ ... قلت الموحد قبل كل موحد حاميه في يوم العريش ومن له ... في الغار مسعد يا له من مسعد خير الصحابة والقرابة كلهم ... ذاك المؤيد قبل كل مؤيد قالوا فمن صديق أحمد؟ قلت من ... تصديقه بين الورى لم يجحد قالوا فمن تالي أبي بكر الرضا؟ ... قلت الإمارة في الإمام الأزهد فاروق أحمد والمهذب بعده ... نصر الشريعة باللسان وباليد قالوا فثالثهم؟ فقلت مسارعا ... من بايع المختار عنه باليد صهر النبي على ابنتيه ومن حوى ... فضلين فضل تلاوة وتهجد أعني ابن عفان الشهيد ومن دعي ... في الناس ذا النورين صهر محمد قالوا فرابعهم؟ فقلت مبادرا ... من جاز دونهم أخوة أحمد

أبو شجاع السلطان صاحب العراق (511 هـ)

زوج البتول وخير من وطئ الحصى ... بعد الثلاثة والكريم المحتد أعني أبا الحسن الإمام ومن له ... بين الآنام فضائل لم تجحد ولعم سيدنا النبي مناقب ... لو عددت لم تنحصر بتعدد أعني أبا الفضل الذي استسقى به ... عمر أوان الجدب بين الشهد ذاك الهمام أبو الخلائف كلهم ... نسقا إلى المستظهر بن المقتدي صلى الإله عليه ما هبت صبا ... وعلى بنيه الراكعين السجد وأدام دولتهم علينا سرمدا ... ما حن في الأسحار كل مغرد قالوا أبان الكلوذاني الهدى ... قلت الذي فوق السماء مؤيدي (¬1) وله أيضا: ومذ كنت من أصحاب أحمد لم أزل ... أناضل عن أعراضهم وأحامي وما صدني عن نصرة الحق مطمع ... ولا كنت زنديقا حليف خصام ولا خير في دنيا تنال بذلة ... ولا في حياة أولعت بسقام ومن جانب الأطماع عز وإنما ... مذلته تطلابه لحطام أبو شجاع السلطان صاحب العراق (¬2) (511 هـ) محمد بن السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان التركي السلجوقي أبو ¬

(¬1) المنتظم (17/ 153 - 155). (¬2) السير (19/ 506 - 507) والمنتظم (17/ 159) والكامل في التاريخ (10/ 525 - 527) ووفيات الأعيان (5/ 71) والوافي بالوفيات (5/ 62) والبداية والنهاية (12/ 193) وشذرات الذهب (4/ 30).

موقفه من المشركين:

شجاع الملك صاحب العراق، لما مات أبوه سنة خمس وثمانين وأربعمائة، اقتسموا الأقاليم، وكانت نزاعات بينه وبين أخويه ثم عظم شأن محمد وتفرد بالسلطنة، ودانت له البلاد وكان أخوه يخطب له بخراسان، وقد كان محمد فحل آل سلجوق وله بر في الجملة وحسن سيرة مشوبة، فمن عدله أنه أبطل ببغداد المكس والضرائب ومنع من استخدام يهودي أو نصراني، وكسا في نهار أربعمائة فقير وكان قد كف مماليكه عن الظلم. ملك العراق وخراسان وغير ذلك من البلاد الشاسعة والأقاليم الواسعة، كان من خيار الملوك وأحسنهم سيرة، عادلا رحيما سهل الأخلاق محمود العشرة، لما حضرته الوفاة استدعى ولده محمودا وضمه إليه وبكى كل منهما، ثم أمره بالجلوس على سرير المملكة وعمره إذ ذاك أربعة عشر سنة فحكم بعد وفاة أبيه سنة إحدى عشرة وخمسمائة. توفي السلطان محمد عن تسع وثلاثين سنة وأربعة أشهر وأيام. موقفه من المشركين: - قال ابن كثير: ومما وقع في هذه السنة -أي خمسمائة- من الحوادث أن السلطان محمد بن ملكشاه حاصر قلاعا كثيرة من حصون الباطنية، فافتتح منها أماكن كثيرة وقتل خلقا منهم، منها قلعة حصينة كان أبوه قد بناها بالقرب من أصبهان في رأس جبل منيع هناك ... أنفق عليها ألف ألف دينار، ومائتي ألف دينار، ثم استحوذ عليها بعد ذلك رجل من الباطنية يقال له أحمد

ابن عقيل (513 هـ)

ابن عبد الله بن عطاء، فتعب المسلمون بسببها، فحاصرها ابنه السلطان محمد سنة حتى افتتحها، وسلخ هذا الرجل، وحشا جلده تبنا وقطع رأسه وطاف به في الأقاليم، ثم نقض هذه القلعة حجرا حجرا، وألقت امرأته نفسها من أعلى القلعة فتلفت، وهلك ما كان معها من الجواهر النفيسة، وكان الناس يتشاءمون بهذه القلعة يقولون: كان دليلها كلبا والمشير بها كافرا والمتحصن بها زنديقا. (¬1) - وجاء في السير: وقد حارب الإسماعلية وأباد منهم وأخذ منهم قلعة أصبهان وقتل ابن غطاش ملكهم. (¬2) ابن عَقِيل (¬3) (513 هـ) علي بن عقيل بن محمد أبو الوفاء الإمام العلامة البحر شيخ الحنابلة صاحب التصانيف المفيدة. ولد سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة. وسمع أبا بكر ابن بشران وأبا الفتح بن شيطا وأبا محمد الجوهري، وتلا بالعشر على ابن شيطا وأخذ العربية على أبي القاسم بن برهان وأخذ علم العقليات على شيخي الاعتزال أبي علي بن الوليد وأبي القاسم بن التبان فانحرف عن السنة، وكان يجتمع بجميع العلماء من كل مذهب فربما لامه بعض أصحابه فلا ¬

(¬1) البداية والنهاية (12/ 178). (¬2) السير (19/ 507). (¬3) السير (19/ 443 - 451) وطبقات الحنابلة (2/ 259) والمنتظم (17/ 179 - 182) والكامل في التاريخ (10/ 561) وميزان الاعتدال (3/ 146) والبداية والنهاية (12/ 197) ولسان الميزان (4/ 243 - 244) وشذرات الذهب (4/ 35 - 40).

موقفه من المشركين:

يلوي عليهم. فلهذا برز على أقرانه وساد أهل زمانه في فنون كثيرة مع صيانة وديانة وحسن صورة وكثرة اشتغال وكان فيه شيء من الاعتزال. قال ابن حجر: ثم أشهد على نفسه أنه تاب عن ذلك، وصحت توبته ثم صنف في الرد عليهم، وقد أثنى عليه أهل عصره ومن بعدهم. حدث عنه أبو حفص المغازلي وأبو المعمر الأنصاري وأبو طاهر السلفي وابن ناصر وآخرون. قال السلفي: ما رأت عيني مثل أبي الوفاء بن عقيل الفقيه ما كان أحد يقدر أن يتكلم معه لغزارة علمه وحسن إيراده وبلاغة كلامه وقوة حجته. كان يقول: عصمني الله في شبابي بأنواع من العصمة وقصر محبتي على العلم، وما خالطت لعابا قط ولا عاشرت إلا أمثالي من طلاب العلم. توفي بكرة الجمعة ثاني عشر جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة وخمسمائة. وصلى عليه ابن شافع بجامع القصر وكان الجمع ما لا يحصى. موقفه من المشركين: - قال ابن الجوزي: قال أبو الوفاء علي بن عقيل رضي الله عنه: صبئت قلوب أهل الإلحاد لانتشار كلمة الحق وثبوت الشرائع بين الخلق والامتثال لأوامرها كابن الراوندي ومن شاكله كأبي العلاء. ثم مع ذلك لا يرون لمقالتهم نباهة ولا أثرا بل الجوامع تتدفق زحاما والأذانات تملأ أسماعهم بالتعظيم لشأن النبي - صلى الله عليه وسلم - والإقرار بما جاء به، وإنفاق الأموال والأنفس في الحج مع ركوب الأخطار ومعاناة الأسفار ومفارقة الأهل والأولاد. فجعل بعضهم يندس في أهل النقل فيضع المفاسد على الأسانيد، ويضع السير والأخبار، وبعضهم يروي ما يقارب المعجزات من ذكر خواص في أحجار

وخوارق العادات في بعض البلاد وأخبار عن الغيوب عن كثير من الكهنة والمنجمين ويبالغ في تقرير ذلك حتى قالوا إن سطيحا قال في الخبيء الذي خبئ له: حبة بر، في إحليل مهر. والأسود كان يعظ ويقول الشيء قبل كونه. وههنا اليوم معزمون يكلمون الجني الذي في باطن المجنون فيكلمهم بما كان ويكون وما شاكل ذلك من الخرافات فمن رأى مثل هذا قال بقلة عقله وقلة تلمحه لقصد هؤلاء الملحدة وهل ما جاءت به النبوات إلا مقارب هذا، وليس قول الكاهن. حبة بر في إحليل مهر، وقد أخفيت كل الإخفاء بأكثر من قوله: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} (¬1) وهل بقي لهذا وقع في القلوب وهذا التقويم ينطق بالمنع من الركوب اليوم، وهل ترك تلمح هذا إلا النبي، والله ما قصدوا بذلك إلا قصدا ظاهرا ولمحوا إلا لمحا جليا، فقالوا تعالوا نكثر الجولان في البلاد والأشخاص والنجوم والخواص فلا يخلو مع الكثرة من مصادفة الاتفاق لواحدة من هذه. فيصدق بها الكل ويبطل أن يكون ما جاء به الأنبياء خرقا للعادات. ثم دس قوم من الصوفية أن فلانا أهوى بإنائه إلى دجلة فامتلأ ذهبا فصار هذا كالعادة بطريق الكرامات من المتصوفين. وبطريق العادات في حق المنجمين وبطريق الخواص في حق الطبائعيين. وبطريق الكهانة في حق المعزمين والعرافين. فأي حكم بقي لقول عيسى عليه السلام. {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} وأي خرق بقي للعادات وهل العادات إلا استمرار الوجود وكثرة الحصول. ¬

(¬1) آل عمران الآية (49).

فإذا نبههم العاقل المتدين على ما في هذا من الفساد، قال الصوفي: أتنكر كرامات الأولياء، وقال أهل الخواص: أتنكر المغناطيس الذي يجذب الحديد، والنعامة تبلع النار فتسكت عن جحد ما لم يكن لأجل ما كان، فويل للمحق معهم. هذا، والباطنية من جانب والمنجمون من جانب مع أرباب المناصب لا يحلون ولا يعقدون إلا بقولهم فسبحان من يحفظ هذه الملة ويعلي كلمتها حتى إن كل الطوائف تحت قهرها إقبالا من الله عز وجل على حراسة النبوات وقمعا لأهل المحال. (¬1) - وقال ابن رجب: وكتب ابن عقيل إلى السلطان جلال الدولة (ملكشاه) وقد كانت الباطنية أفسدوا عقيدته، ودعوه إلى إنكار الصانع: أيها الملك، اعلم أن هؤلاء العوام والجهال يطلبون الله من طريق الحواس، فإذا فقدوه جحدوه. وهذا لا يحسن بأرباب العقول الصحيحة. وذلك أن لنا موجودات ما نالها الحس، ولم يجحدها العقل، ولا يمكننا جحدها لقيام دلالة العقل على إثباتها. فإن قال لك أحد من هؤلاء: لا تثبت إلا ما ترى. فمن هاهنا دخل الإلحاد على جهال العوام، الذين يستثقلون الأمر والنهي، وهم يرون أن لنا هذه الأجساد الطويلة العميقة، التي تنمي ولا تفسد، وتقبل الأغذية وتصدر عنها الأعمال المحكمة، كالطب، والهندسة. فعلموا أن ذلك صادر عن أمر وراء هذه الأجساد المستحيلة، وهو الروح والعقل. فإذا سألناهم: هل أدركتم هذين الأمرين بشيء من إحساسكم قالوا: لا، لكننا أدركناهما من طريق الاستدلال بما صدر عنهما من التأثيرات، قلنا: فما لكم ¬

(¬1) التلبيس (85 - 87).

موقفه من الرافضة:

جحدتم الإله، حيث فقدتموه حسا، مع ما صدر عنه من إنشاء الرياح والنجوم، وإدارة الأفلاك، وإنبات الزرع، وتقليب الأزمنة؟ وكما أن لهذا الجسد عقلا وروحا بهما قوامه ولا يدركهما الحس، لكن شهدت بهما أدلة العقل من حيث الآثار، كذلك الله سبحانه -وله المثل الأعلى- ثبت بالعقل، لمشاهدة الإحساس من آثار صنائعه، وإتقان أفعاله. وأرسل هذا الفصل إلى السلطان مع بعض خواصه. قال: فحكى لي أنه أعاده عليه فاستحسنه، وهش إليه، ولعن أولئك، وكشف إليه ما يقولون له. (¬1) - وجاء في البداية والنهاية: وفي شوال قتل رجل باطني عند باب النوبي، كان قد شهد عليه عدلان: أحدهما ابن عقيل، أنه دعاهما إلى مذهبه فجعل يقول: أتقتلونني وأنا أقول لا إله إلا الله؟ فقال ابن عقيل: قال الله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (¬2) الآية وما بعدها. (¬3) موقفه من الرافضة: - جاء في التلبيس: قال ابن عقيل: الظاهر أن من وضع مذهب الرافضة قصد الطعن في أصل الدين والنبوة، وذلك أن الذي جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر غائب عنا، وإنما نثق في ذلك بنقل السلف وجودة نظر الناظرين إلى ذلك منهم. فكأننا نظرنا إذ نظر لنا من نثق بدينه وعقله. فإذا قال قائل: إنهم أول ما بدأوا بعد موته بظلم أهل بيته في الخلافة وابنته في إرثها وما هذا ¬

(¬1) ذيل طبقات الحنابلة (3/ 148 - 149). (¬2) غافر الآية (84). (¬3) البداية والنهاية (12/ 164 - 165).

موقفه من الصوفية والجهمية:

إلا لسوء اعتقاد في المتوفى. فإن الاعتقادات الصحيحة سيما في الأنبياء توجب حفظ قوانينهم بعدهم لا سيما في أهليهم وذريتهم. فإذا قالت الرافضة إن القوم استحلوا هذا بعده خابت آمالنا في الشرع لأنه ليس بيننا وبينه إلا النقل عنهم والثقة بهم. فإذا كان هذا محصول ما حصل لهم بعد موته خبنا في المنقول. وزالت ثقتنا فيما عولنا عليه من اتباع ذوي العقول. ولم نأمن أن يكون القوم لم يروا ما يوجب اتباعه. فراعوه مدة الحياة وانقلبوا عن شريعته بعد الوفاة ولم يبق على دينه إلا الأقل من أهله فطاحت الاعتقادات، وضعفت النفوس عن قبول الروايات في الأصل وهو المعجزات، فهذا من أعظم المحن على الشريعة. (¬1) التعليق: انظر هذا الإمام الحنبلي كيف عبر عن أصل الرفض. وهذا الذي ذكره لا يشك فيه من له علم بأحوال القوم، قاتلهم الله وأخزاهم. موقفه من الصوفية والجهمية: - جاء في تلبيس إبليس: وقال ابن عقيل: عَبَّرت الصوفية عن الحرام بعبارات غيروا لها الأسماء مع حصول المعنى، فقالوا في الاجتماع على الطيبة والغناء والخنكرة: أوقات. وقالوا في المردان: شب. وفي المعشوقة: أخت. وفي المحبة: مريدة. وفي الرقص والطرب: وجد، وفي مناخ اللهو والبطالة: رباط. وهذا التغيير للأسماء لا يباح. (¬2) ¬

(¬1) تلبيس إبليس (ص.120). (¬2) التلبيس (424).

- وفيه عنه قال: والصوفية يوهمون التشبيه. فأكثر كلامهم يشير إلى إسقاط السفارة والنبوات. فإذا قالوا عن أصحاب الحديث، قالوا: أخذوا علمهم ميتا عن ميت. فقد طعنوا في النبوات وعولوا على الواقع. ومتى أزري على طريق سقط الأخذ به. ومن قال حدثني قلبي عن ربي فقد صرح أنه غني عن الرسول، ومن صرح بذلك فقد كفر. فهذه كلمة مدسوسة في الشريعة تحتها هذه الزندقة، ومن رأيناه يزري على النقل علمنا أنه قد عطل أمر الشرع. وما يؤمن هذا القائل (حدثني قلبي عن ربي) أن يكون ذلك من إلقاء الشياطين. فقد قال الله عز وجل: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أوليائهم} (¬1). وهذا هو الظاهر لأنه ترك الدليل المعصوم وعول على ما يلقى في قلبه الذي لم يثبت حراسته من الوساوس، وهؤلاء يسمون ما يقربهم خاطرا. قال: والخوارج على الشريعة كثير إلا أن الله عز وجل يؤيدها بالنقلة الحفاظ الذابين عن الشريعة حفظها لأصلها، وبالفقهاء لمعانيها: وهم سلاطين العلماء لا يتركون لكذاب رأسا ترتفع. - قال ابن عقيل: والناس يقولون إذا أحب الله خراب بيت تاجر: عاشر الصوفية قال وأنا أقول: وخراب دينه. لأن الصوفية قد أجازوا لُبْس النساء الخرقة من الرجال الأجانب فإذا حضروا السماع والطرب فربما جرى في خلال ذلك مغازلات واستخلاء بعض الأشخاص ببعض، فصارت الدعوة عرسا للشخصين فلا يخرج إلا وقد تعلق قلب شخص بشخص، ومال طبع ¬

(¬1) الأنعام الآية (121).

إلى طبع وتتغير المرأة على زوجها، فإن طابت نفس الزوج سمي بالديوث، وإن حبسها طلبت الفرقة إلى من تلبس منه المرقعة والاختلاط بمن لا يضيق الخنق ولا يحجر على الطباع. ويقال: تبات فلانة وألبسها الشيخ الخرقة وقد صارت من بناته. ولم يقنعوا أن يقولوا هذا لعب وخطأ، حتى قالوا هذا من مقامات الرجال وجرت على هذه السنون وبرد حكم الكتاب والسنة في القلوب. (¬1) - قال ابن الجوزي في المنتظم في ترجمة حماد بن مسلم الصوفي: وكان ابن عقيل ينفر الناس عنه، حتى إنه بلغه أنه يعطي كل من يشكو إليه الحصى لوزة وزبيبة ليأكلها فيبرأ. فبعث إليه ابن عقيل إن عدت إلى مثل هذا ضربت عنقك. (¬2) التعليق: وقد أسهب القول رحمه الله في بيان ضلال الصوفية وخطرهم، جاعلا مقارنة بينهم وبين أهل الكلام من الجهمية وغيرهم كما سيأتي قريبا. كان هذا الإمام آية في الذكاء والصبر على طلب العلم. وحكوا في ترجمته أن له كتابا اسمه: الفنون قال الذهبي في سيره (¬3) وهو أزيد من أربع مئة مجلد، حشد فيه كل ما كان يجري له مع الفضلاء والتلامذة وما يسنح له من الدقائق والغوامض، وما يسمعه من العجائب والحوادث. وذكر في ترجمته في الطبقات أنه مال إلى مذهب المعتزلة وهجر بسبب ¬

(¬1) التلبيس (452). (¬2) المنتظم (17/ 266). (¬3) (19/ 445).

ذلك. وأحضر وتاب على ملأ منهم، وأعلن توبته وبراءته من الحلاج، وبين أنه كان مقتنعا بأهل البدع وذكر براءته منهم ونقتطف له بعض المواقف التي توافق طريقة السلف. - جاء في ذيل طبقات الحنابلة: أنه قال: أنا أقطع أن الصحابة ماتوا، وما عرفوا الجوهر والعرض، فإن رضيت أن تكون مثلهم فكن، وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيت. وذكر عنه أنه قال: لقد بالغت في الأصول طول عمري، ثم عدت القهقرى إلى مذهب المكتب. وقد حكى هذا عنه القرطبي في شرح مسلم. وله من الكلام في السنة والانتصار لها والرد على المتكلمين شيء كثير وقد صنف في ذلك مصنفاً. (¬1) التعليق: هذه الكلمات من إمام مجرب ذكي، لها وزنها وقيمتها العلمية، فهل للسادة الأشاعرة أن يعتبروا بهذا الإمام ويقتنعوا بعقيدة أبي بكر وعمر، ولا يضيعوا الأوقات في تحليل الجوهر والعرض، مع أن النظريات العلمية أبطلت وهم الجوهر والعرض، وبينت تحليل الخلايا إلى أصغر جزء. - وقال: فصل: المتكلمون وقفوا النظر في الشرع بأدلة العقول فتفلسفوا واعتمد الصوفية المتوهمة على واقعهم فتكهنوا لأن الفلاسفة ¬

(¬1) ذيل طبقات الحنابلة (1/ 152).

اعتمدوا على كشف حقائق الأشياء بزعمهم، والكهان اعتمدوا على ما يلقى إليهم من الاطلاع، وجميعا خوارج على الشرائع، هذا يتجاسر أن يتكلم في المسائل التي فيها صريح نقل بما يخالف ذلك المنقول، بمقتضى ما يزعم أنه يجب في العقل، وهذا يقول: قال لي قلبي عن ربي، فلا على هؤلاء أصبحت، ولا على هؤلاء أمسيت، لا كان مذهب جاء على غير طريق السفراء والرسل، يريد تعلم بيان الشرائع، وبطلان المذاهب والتوهمات، والطرايق المخترعات، هل لعلم الصوفية عمل في إباحة دم أو فرج، أو تحريم معاملة، أو فتوى معمول بها في عبادة أو معاقدة؟ أو للمتكلمين بحكم الكلام حاكم ينفذ حكمه في بلد أو رستاق؟ أو تصيب للمتوهمة فتاوى وأحكام؟ إنما أهل الدولة الإسلامية والشريعة المحمدية المحدثون والفقهاء: هؤلاء يروون أحاديث الشرع، وينفون الكذب عن النقل، ويحمون النقل عن الاختلاف. وهؤلاء المفتون ينفون عن الأخبار تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، هم الذين سماهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: الحملة العدول، فقال: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين» (¬1). فالخارج -وإن خفقت بنوده، وكثرت جموعه، وسمي بالملك- يبعد أن يضرب له دينار أو درهم، أو ¬

(¬1) أخرجه البزار (1/ 86/143 كشف الأستار) وابن عبد البر في التمهيد (1/ 59) عن أبي قبيل عن عبد الله بن عمرو وأبي هريرة مرفوعا. وأخرجه العقيلي في الضعفاء (4/ 256) وابن عدي في الكامل (1/ 146) وابن عبد البر في التمهيد (1/ 58 - 59) والخطيب في شرف أصحاب الحديث (ص.29) والبيهقي (10/ 209) عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري مرسلا .. قال القسطلاني في إرشاد الساري (1/ 13): وهذا الحديث رواه من الصحابة علي وابن عمر وابن عمرو وابن مسعود وابن عباس وجابر بن سمرة ومعاذ وأبو هريرة رضي الله عنهم وأورده ابن عدي من طرق كثيرة كلها ضعيفة كما صرح به الدارقطني وأبو نعيم وابن عبد البر، لكن يمكن أن يتقوى بتعدد طرقه ويكون حسنا كما جزم به ابن كيكلدي العلائي.

يخطب له على منبر، أو تكون أموره إلا على المغالطة والمخالسة، بينا هو على حاله يتضعضع لكتاب الملك، ويتخشى من أن يقابله بقتال، أو يصافه بحرب، لأن في نفس الخارجي بقية من انخساس الباطل، وللملك -وإن قل جمعه- صولة الحق، وكذلك البرخشتي مع الطبيب المقيم: هذا مختار يطلب من الأدوية ما يسكن الألم في الحال، ويضع على الأمراض الأدوية الجواد العاملة بسرعة، فيأخذ العطية والخلعة لسكون الألم وإزالة المرض، ويصبح على أرض أخرى، ومنزل بعيد، وطبه مجازفة، لأنه يأمن الموافقة والمعاينة. والأطباء المقيمون يلامون على تطويل العلاج، وإنما سلكوا الملاطفة بالأدوية المتركبة دون الحادة، لأن الحادة من الأدوية، وإن عجلت سكون الألم، فإنها غير مأمونة الغوائل، ولا سليمة العواقب، لأن ما تعطي الأدوية الحادة من السكون إنما هو لغلبة المرض، وحيثما غلبت الأمراض أوهت قوى المحل الذي حلته الأمراض، فهو كما قيل: الدواء للبدن كالصابون للثوب ينقيه ويبليه، كذلك كلما احتد الصابون وجاد أخلق الثوب، فكذلك الفقهاء والمحدثون يقصرون عن إزالة الشبه لأنهم عن النقل يتكلمون، وللخوف على قلوب العوام من الشكوك يقصرون القول ويقللون، فهم حال الأجوبة ينظرون في العاقبة، والمبتدعة والمتوهمة يتهجمون، كتهجم البرخشتي، فعلومهم فرح ساعة، ليس لعلومهم ثبات، فإن اشتبه على قوم ما دلسه الصوفية عليهم من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن في أمتي محدثين ومكلمين» (¬1) وهو ما يلقى من الفراسات ¬

(¬1) أحمد (2/ 339) والبخاري (7/ 52/3689) والنسائي في الكبرى (5/ 40/8120) كلهم أخرجه من حديث أبي هريرة. وفي الباب من حديث عائشة رضي الله عنها.

والدرايات، كما نطق به عمر. قيل لهم: لو نطق عمر برأيه ولم يصدقه الوحي على لسان السفير، لما التفت إلى واقعته، ولا يبتنى الشرع على فراسته. ألا تراه لما مات السفير قال من هو أعلى طبقة منه: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا قلت في كتاب الله برأيي؟ (¬1) وقال في الكلالة ما قال. يقول الصديق هذا، وأسلم اليوم لشيخ رباط يخلو بأمرد في سمعه، ويسمع الغناء من أمرد وحرة، ويأكل من الحرام شبعة، ويرقص كما تشمس الخيل، لا يسأل الفقهاء، ولا يبني أمره على النقل، يقول بواقعة، ويقول أتباعه: الشيخ يسلم إليه طريقته، وأي طريقة مع الشرع؟ وهل أبقت الشريعة لقائل قولا؟ وهل جاءت إلا بهدم العوايد ونقض الطرايق؟ ما على الشريعة أضر من المتكلمين والمتصوفين. هؤلاء يفسدون العقول بتوهمات شبهات العقول، وهؤلاء يفسدون الأعمال ويهدمون قوانين الأديان، يحبون البطالات، والاجتماع على اللذات، وسماع الأصوات المشوشات للمعايش والطاعات، وأولئك يجرئون الشباب والأحداث، على البحث وكثرة السؤال والاعتراضات، وتتبع الشرع بالمناقضات. وما عرفنا للسلف الصالح أعمال هؤلاء الصوفية، بل كانت أحوالهم الجد لا الهزل، ولا أحوال المتكلمين: لا التكشف ولا البحث، بل كانوا عبيد تسليم وتحكيم في المعتقدات، وجد وتشهير في الأعمال والطاعات، فنصيحتي لإخواني من المؤمنين الموحدين أن ¬

(¬1) ضعيف. أخرجه: أبو عبيد في فضائل القرآن (2/ 211/842) وابن أبي شيبة (10/ 513) والبيهقي في الشعب (2/ 424) وهو منقطع كما حكم عليه ابن حجر في الفتح (13/ 336 - 337) وابن كثير في التفسير ((1/ 11) تحقيق سامي السلامة).

لا يقرع أبكار قلوبهم كلام المتكلمين، ولا تصغى مسامعهم إلى خرافات المتصوفين، بل الشغل بالمعايش أولى من بطالة المتصوفة، والوقوف مع الظواهر أولى من توغل المنتحلة للكلام. وقد خبرت طريقة الفريقين: غاية هؤلاء الشك، وغاية هؤلاء الشطح. والمتكلمون عندي خير من المتصوفة، لأن المتكلمين مرادهم مع التحقيق مزيد الشكوك في بعض الأشخاص، ومؤدى المتصوفة إلى توهم الإشكال، والتشبيه هو الغاية في الإبطال، بل هو حقيقة المحال، مما يسقط المشايخ من عيني، وإن نبلوا في أعين الناس أقدارا وأنسابا، وعلوما وأخطارا، إلا قول القائل منهم إذا خوطب بمقتضى الشرع: عادتي كذا وكذا، يشير إلى طريقة قد قننها لنفسه، تخرج عن سمت الشرع، فذاك مختلق طريقة، وكل مختلق مبتدع، ولو كان في ترك النوافل، لأن الاستمرار على ترك السنن خذلان. قال أحمد رضي الله عنه وقد سئل عن رجل استمر على ترك الوتر: هذا رجل سوء. أنا أنصح بحكم العلم والتجارب: إياك أن تتبع شيخا يقتدي بنفسه، ولا يكون له إمام يعزي إليه ما يدعوك إليه، ويتصل ذلك بشيخ إلى شيخ إلى السفير - صلى الله عليه وسلم -، الله الله، الثقة بالأشخاص ضلال، والركون إلى الآراء ابتداع، اللين والانطباع في الطريقة مع السنة، أحب إلي من الخشونة والانقباض مع البدعة، الله لا يتقرب إليه بالامتناع مما لم يمنع منه، كما لا يتقرب إليه بأعمال لم يأمر بها. أصحاب الحديث رسل السفير: الفقهاء المترجمون لما أراد السفير من معاني كتابه، ولا يتم اتباع إلا بمنقول، ولا يتم فهم المنقول إلا بترجمان، وما عداهما تكلف لا يفيد. وإلى هذين القسمين انقسم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نقلة وفقهاء، ولا نعرف فيهم

ثالثا. أصحاب أسواق وصفقات وتجارات، لا ربط ولا مناخ للبطالات، يا أصحاب المخالطات والمعاملات، عليكم بالورع، يا أصحاب الزوايا والانقطاعات عليكم بحسم مواد الطمع. يا طراق المبتدئين إياكم واستحسان طرائق أهل التوهم والخدع، ليس السني عندي المحب لمعاوية ويزيد، ولا لأبي بكر وعمر، ولا الشيعة عندي من زار المشاهد، وأنشد المراثي والقصايد. السني عندي من تتبع آثار الرسول فعمل بها بحسب ما يفتيه الفقهاء، واحتذى الرسم، واتبع الأمر وكف عن النهي، وتنزه عن الشبه، ووقف عند الشك، وتفرغ من كل علم خالف النقل، وإن كانت له طلاوة في السمع، وقبول في القلب، ليس قلبك معيارا على الشرع، ما لله طائفة أجل من قوم حدثوا عنه، وما أحدثوا وعولوا على ما رووا، ولا على ما رأوا، الصبر على الرواية مقام الصديقين. قال الخضر للسفير: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67)} (¬1) لأن مستحسنا برأيه ومستقبحا برأيه لا يتبع، لأنه قد بان لك بنص القرآن أن استحسان عقل السفير الكليم واستقباحه ما كان على القانون الصحيح، حتى كشف له عن العذر فيما كان استقبحه. (¬2) مخالطته للمعتزلة ونهي السلف له عن ذلك: ثم قال: وكان أصحابنا الحنابلة يريدون مني هجران جماعة من العلماء، وكان ذلك يحرمني علما نافعا. قال الذهبي: كانوا ينهونه عن مجالسة المعتزلة، ويأبى حتى وقع في ¬

(¬1) الكهف الآية (67). (¬2) درء التعارض (8/ 61 - 68) والصواعق المرسلة (4/ 1342 - 1349).

حبائلهم وتجسر على تأويل النصوص نسأل الله السلامة. (¬1) تلبسه بمذهب الاعتزال وتوبته منه: وفي تاريخ ابن الأثير قال: كان قد اشتغل بمذهب المعتزلة في حداثته على ابن الوليد، فأراد الحنابلة قتله، فاستجار بباب المراتب عدة سنين، ثم أظهر التوبة. (¬2) قال ابن رجب رحمه الله: والأذية التي ذكرها من أصحابه له، وطلبهم منه هجران جماعة من العلماء، نذكر بعض شرحها، وذلك أن أصحابنا كانوا ينقمون على ابن عقيل تردده إلى ابن الوليد، وابن التبان شيخي المعتزلة. وكان يقرأ عليهما في السر علم الكلام، ويظهر منه في بعض الأحيان نوع انحراف عن السنة، وتأول لبعض الصفات، ولم يزل فيه بعض ذلك إلى أن مات رحمه الله. ففي سنة إحدى وستين اطلعوا له على كتب فيها شيء من تعظيم المعتزلة، والترحم على الحلاج وغير ذلك. ووقف على ذلك الشريف أبو جعفر وغيره، فاشتد ذلك عليهم، وطلبوا أذاه، فاختفى. ثم التجأ إلى دار السلطان، ولم يزل أمره في تخبيط إلى سنة خمس وستين، فحضر في أولها إلى الديوان، ومعه جماعة من الأصحاب، فاصطلحوا ولم يحضر الشريف أبو جعفر؛ لأنه كان عاتبا على ولاة الأمر بسبب إنكار منكر قد سبق ذكره في ترجمته. فمضى ابن عقيل إلى بيت الشريف وصالحه وكتب خطه: ¬

(¬1) السير (19/ 447). (¬2) السير (19/ 448).

ببغداد، وبالغ في التعصب للأشاعرة، والغض من الحنابلة، فقامت الفتنة على ساق، واشتد الخطب، وشمر لذلك أبو سعد أحمد بن محمد الصوفي عن ساق الجد، وبلغ الأمر إلى السيف، واختبطت بغداد، وظهر مبادر البلاء، ثم حج ثانيا، وجلس، والفتنة تغلي مراجلها، وكتب ولاة الأمر إلى نظام الملك ليطلب أبا نصر بن القشيري إلى الحضرة إطفاء للنائرة، فلما وفد عليه، أكرمه وعظمه، وأشار عليه بالرجوع إلى نيسابور، فرجع، ولزم الطريق المستقيم، ثم ندب إلى الوعظ والتدريس، فأجاب، ثم فتر أمره، وضعف بدنه، وأصابه فالج، فاعتقل لسانه إلا عن الذكر نحوا من شهر، ومات. (¬1) وقد تقدمت قصته مطولة مع أبي جعفر عبد الخالق بن عيسى الشريف (سنة 470هـ). ¬

(¬1) السير (19/ 425).

البغوي (516 هـ)

البَغَوِي (¬1) (516 هـ) الحسين بن مسعود بن محمد البغوي أبو محمد الشيخ الإمام العلامة القدوة الحافظ شيخ الإسلام محيي السنة المفسر صاحب التصانيف الجليلة، تفقه على شيخ الشافعية، القاضي حسين بن محمد وسمع من أبي عمر عبد الواحد المليحي وأبي الحسن محمد بن محمد وعبد الرحمن بن محمد الداودي وغيرهم. حدث عنه أبو منصور محمد بن أسعد العطاري وأبو الفتوح محمد ابن محمد الطائي وأبو المكارم فضل الله بن محمد وآخرون. كان سيدا إماما عالما علامة زاهدا قانعا باليسير، بورك له في تصانيفه ورزق فيها القبول التام لحسن قصده وصدق نيته وتنافس العلماء في تحصيلها، وكان على منهاج السلف حالا وعقدا، وكان لا يلقي الدرس إلا على طهارة. قال السبكي: قل أن رأيناه يختار شيئا إلا وإذا بحث عنه وجد أقوى من غيره، هذا مع اختصار كلامه وهو يدل على نبل كثير وهو حري بذلك فإنه جامع لعلوم القرآن والسنة والفقه، توفي بمرو الروذ في شوال سنة ست عشرة وخمسمائة. ودفن بجانب شيخه القاضي حسين وعاش بضعا وسبعين سنة. • موقفه من المبتدعة: - له كتاب: شرح السنة. قال رحمه الله مبينا الغاية من جمعه لهذا الكتاب: والقصد بهذا الجمع -مع وقوع الكفاية بما عملوه (أي علماء السلف)، وحصول الغنية فيما فعلوه- ¬

(¬1) السير (19/ 439 - 443) ووفيات الأعيان (2/ 136 - 137) وتذكرة الحفاظ (4/ 1257 - 1259) والوافي بالوفيات (13/ 26) والبداية والنهاية (12/ 206) وشذرات الذهب (4/ 48).

الاقتداء بأفعالهم، والانتظام في سلك أحد طرفيه متصل بصدر النبوة، والدخول في غمار قوم جدوا في إقامة الدين، واجتهدوا في إحياء السنة، شغفا بهم، وحبا لطريقتهم -وإن قصرت في العمل عن مبلغ سعيهم- طمعا في موعود الله سبحانه وتعالى على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن «المرء مع من أحب» (¬1)، ولأني رأيت أعلام الدين عادت إلى الدروس، وغلب على أهل الزمان هوى النفوس، فلم يبق من الدين إلا الرسم، ولا من العلم إلا الاسم، حتى تصور الباطل عند أكثر أهل الزمان بصورة الحق، والجهل بصورة العلم، وظهر فيهم تحقيق قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا». (¬2) ولما كان الأمر على ما وصفته لك، أردت أن أجدد لأمر العلم ذكرا، لعله ينشط فيه راغب متنبه، أو ينبعث له واقف متثبط، فأكون كمن يسعى لإيقاد سراج في ظلمة مطبقة، فيهتدي به متحير أو يقع على الطريق مسترشد، فلا يخيب من الساعي سعيه، ولا يضيع حظه، والله المستعان وعليه التكلان، وهو حسبي ونعم الوكيل. (¬3) - وقال رحمه الله: (باب مجانبة أهل الأهواء): قال الله سبحانه ¬

(¬1) أحمد (3/ 192) والبخاري (10/ 677/6167) ومسلم (4/ 2032/2639) وأبو داود (5/ 345/5127) والترمذي (4/ 513/2385) من حديث أنس رضي الله عنه. (¬2) أخرجه: البخاري (13/ 349/7307) ومسلم (4/ 2058/2673) والترمذي (5/ 30 - 31/ 2652) وابن ماجه (1/ 20/52). (¬3) شرح السنة (1/ 3 - 4).

وتعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} (¬1) وقال الله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} (¬2) وقال عزوجل: {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} (¬3) وقال الله عزوجل: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا} (¬4) أي: صاروا أحزابا وفرقا على غير دين ولا مذهب، وقيل: اختلفوا في الاعتقاد والمذاهب. وقال سعيد بن جبير في قوله: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45)} (¬5) قال: الأيدي: القوة في العمل، والأبصار: بصراء بما هم فيه من دينهم. قال مجاهد في قوله تعالى: {مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} قال: الحلال والحرام. {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} يصدق بعضها بعضا، كقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)} (¬6) وكقوله تعالى: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)} (¬7) وكقوله تعالى: {وَالَّذِينَ ¬

(¬1) الأنعام الآية (68). (¬2) الكهف الآية (28). (¬3) الجاثية الآية (17). (¬4) المؤمنون الآية (53). (¬5) ص الآية (45). (¬6) البقرة الآية (26). (¬7) يونس الآية (100).

اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} (¬1) .. -ثم ساق بسنده- عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)} (¬2)، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم». هذا حديث متفق على صحته ... (¬3) وقوله: {آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} أي: غير منسوخات، وقوله: {آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} (¬4) أي: المحكم، وقوله: {أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} (¬5) أي: أحكمت بالأمر والنهي، والحلال والحرام، ثم فصلت بالوعد والوعيد. وقيل: المحكم: هو الذي يعرف بظاهره معناه. وأما المتشابه، ففيه أقاويل: أحدها -ما قال الخطابي وجماعة-: ما اشتبه منه، فلم يُتلق معناه من لفظه، ¬

(¬1) محمد الآية (17). (¬2) آل عمران الآية (7). (¬3) تقدم تخريجه في مواقف الإمام أحمد سنة (241هـ). (¬4) يونس الآية (1). (¬5) هود الآية (1).

وذلك عن ضربين: أحدهما: إذا رد إلى المحكم عرف معناه، والآخر: ما لا سبيل إلى معرفة كنهه، والوقوف على حقيقته، ولا يعلمه إلا الله، وهو الذي يتبعه أهل الزيغ يبتغون تأويله، كالإيمان بالقدر والمشيئة، وعلم الصفات ونحوها مما لم نتعبد به، ولم يكشف لنا عن سره، فالمتبع لها مبتغ للفتنة، لأنه لا ينتهي منه إلى حد تسكن إليه نفسه، والفتنة: الغلو في التأويل المظلم. وقوله: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} أي: معظمه، يقال لمعظم الطريق: أم الطريق، وقوله عزوجل: {حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} (¬1) أي: في معظمها. (¬2) - وقال (¬3): (باب ثواب من دعا إلى هدى أو أحيا سنة وإثم من ابتدع أو دعا إليها): قال الله سبحانه وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (¬4)، وقال الله سبحانه وتعالى: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)} (¬5)، وقال الله عزوجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (¬6)، وقال الله تعالى: ¬

(¬1) القصص الآية (59). (¬2) شرح السنة (1/ 219 - 222). (¬3) شرح السنة (1/ 231 - 232). (¬4) النحل الآية (125). (¬5) الحج الآية (67). (¬6) يوسف الآية (108).

{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)} (¬1) قال: أئمة نقتدي بمن قبلنا، ويقتدي بنا من بعدنا. وقال الله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} (¬2) أي بنبيهم، وقيل: بكتابهم، وقيل: بإمامهم الذي اقتدوا به. وقال الله عزوجل: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬3)، وقال الله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)} (¬4) قال عبد الله بن مسعود: ما قدمت من خير، وما أخرت من سنة استن بها بعده، فله مثل أجر من اتبعه، أو سيئة فعليه مثل وزر من عمل بها. وكذلك قوله سبحانه وتعالى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)} (¬5). أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي، أنا أبو الحسن الطيسفوني، أنا عبد الله بن عمر الجوهري، ثنا أحمد بن علي الكشميهني، نا علي بن حجر، نا إسماعيل بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل ¬

(¬1) الفرقان الآية (74). (¬2) الإسراء الآية (71). (¬3) النحل الآية (25). (¬4) الانفطار الآية (5). (¬5) القيامة الآية (13).

أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا». هذا حديث صحيح أخرجه مسلم عن علي بن حجر. (¬1) وقال (¬2): (باب الاعتصام بالكتاب والسنة): قال الله سبحانه وتعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} (¬3) وقال الله سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (¬4) حبل الله: عهده، وقال أبو عبيد: الاعتصام بحبل الله: هو اتباع القرآن، وترك الفرقة. وقال الله سبحانه وتعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} (¬5) يعني: اتبعوا القرآن كما قال الله تعالى: {نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} (¬6) وقال الله سبحانه وتعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ} (¬7) قال الحسن: تدبر آياته، اتباعه والعمل بعلمه، ما هو بحفظ ¬

(¬1) مسلم (4/ 2060/2674) وأبو داود (5/ 15 - 16/ 4609) والترمذي (5/ 42/2674) وابن ماجه (1/ 75/206). (¬2) شرح السنة (1/ 189 - 192). (¬3) المائدة الآيتان (15و16). (¬4) آل عمران الآية (103). (¬5) الزمر الآية (55). (¬6) الزمر الآية (23). (¬7) ص الآية (29).

حروفه، وإضاعة حدوده. وقال مجاهد في قوله تعالى: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} (¬1) قال: يعملون به حق عمل به. وقال جل ذكره: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ} (¬2) يعني: هذا القرآن ذو بلاغ، أي ذو بيان كاف، والبلاغة: هي البيان الكافي. وقوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ} (¬3) أي: لا يتفكرون فيعتبروا، يقال: تدبرت الأمر: إذا نظرت في أدباره وعواقبه. وقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} (¬4) أي: لم يتفهموا ما خوطبوا به في القرآن. وقال الله: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا} إلى قوله تعالى: {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)} (¬5) أي: تذكرا. وقوله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)} (¬6) قيل: معناه: من يعرض عن ذكر القرآن وما فيه من الحكم إلى أقاويل المضلين وأباطيلهم نعاقبه بشيطان نقيضه له حتى يضله ويلازمه قرينا له. ¬

(¬1) البقرة الآية (121). (¬2) إبراهيم الآية (52). (¬3) النساء الآية (82). (¬4) المؤمنون الآية (68). (¬5) طه الآية (113). (¬6) الزخرف الآية (36).

وقال الله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} (¬1) وقال مجاهد: أمروا أن يدعوه في لين وتواضع، وقيل: لا تجعلوا دعاء الرسول إذا دعاكم لأمر أو نهي، كدعاء بعضكم بعضا تجيبون إذا شئتم، وتمتنعون إذا شئتم. وسأل رجل مالكا مسألة، فقال مالك: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ... فقال الرجل: أرأيت؟ قال مالك: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)}. (¬2) وقال الله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا} (¬3) أي: مستقيما. وقال الله عز وجل: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} (¬4) أي: تبيين الطريق المستقيم، والدعاء إليه بالحجج والبراهين الواضحة {وَمِنْهَا جائر} أي: طريق غير قاصد. وقال الله سبحانه وتعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (¬5) ¬

(¬1) النور الآية (63). (¬2) النور الآية (63). (¬3) الأنعام الآية (161). (¬4) النحل الآية (9). (¬5) النساء الآية (80).

{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (¬1) وقال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}. (¬2) وقال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} (¬3) أي: الاختيار. وقال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (¬4) أي: قدوة، يقال: تأسى به، أي: اتبع فعله، واقتدى به، ويقال للتعزية: التأسية، كأنه يقول: قد أصاب فلانا ما أصابك، فصبر، فتأس به واقتد. ثم احتج من السنة بأحاديث كثيرة، منها حديث العرباض بن سارية فقال رحمه الله (¬5): وقوله: «فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا» (¬6) إشارة إلى ظهور البدع والأهواء -والله أعلم- فأمر بلزوم سنته، وسنة الخلفاء الراشدين، والتمسك بها بأبلغ وجوه الجد، ومجانبة ما أحدث على خلافها. - وقال رحمه الله: (باب رد البدع والأهواء): قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} (¬7)، وقال الله تعالى: ¬

(¬1) النور الآية (54). (¬2) الحشر الآية (7). (¬3) الأحزاب الآية (36) (¬4) الأحزاب الآية (21). (¬5) شرح السنة (1/ 206). (¬6) تقدم تخريجه في مواقف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب سنة (23هـ). (¬7) القصص الآية (50).

{وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1)، وقال الله عز وجل: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} (¬2)، أي: على علم أن الفرقة ضلالة، ولكنهم فعلوه بغيا، أي: للبغي. وقال الله تعالى: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} (¬3)، قيل: العوج فيما لا شخص له، يقال: في الأمر والدين عوج بكسر العين، وفي الجدار والشجر: عوج بفتح العين. وقال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} (¬4)، هم أهل البدع والأهواء، وقال الله تعالى: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} (¬5)، أي: زينته وحسنه بترقيش الكذب، ومنه قوله سبحانه وتعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا} (¬6)، أي: تزينت بألوان نباتها، والزخرف: كمال حسن الشيء. (¬7) - وقال رحمه الله: قد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن افتراق هذه الأمة، وظهور ¬

(¬1) ص الآية (26). (¬2) البقرة الآية (213). (¬3) الأعراف الآية (45). (¬4) الأنعام الآية (159). (¬5) الأنعام الآية (112). (¬6) يونس الآية (24). (¬7) شرح السنة (1/ 210 - 211).

• موقفه من المشركين:

الأهواء والبدع فيهم، وحكم بالنجاة لمن اتبع سنته، وسنة أصحابه رضي الله عنهم، فعلى المرء المسلم إذا رأى رجلا يتعاطى شيئا من الأهواء والبدع معتقدا، أو يتهاون بشيء من السنن أن يهجره، ويتبرأ منه، ويتركه حيا وميتا، فلا يسلم عليه إذا لقيه ولا يجيبه إذا ابتدأ إلى أن يترك بدعته، ويراجع الحق. والنهي عن الهجران فوق الثلاث فيما يقع بين الرجلين من التقصير في حقوق الصحبة والعشرة دون ما كان ذلك في حق الدين، فإن هجرة أهل الأهواء والبدع دائمة إلى أن يتوبوا. (¬1) - وقال عقب إيراده لقصة الثلاثة الذين خلفوا (¬2): وفيه دليل على أن هجران أهل البدع على التأبيد، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاف على كعب وأصحابه النفاق حين تخلفوا عن الخروج معه، فأمر بهجرانهم إلى أن أنزل الله توبتهم، وعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - براءتهم، وقد مضت الصحابة والتابعون وأتباعهم، وعلماء السنة على هذا مجمعين متفقين على معاداة أهل البدعة، ومهاجرتهم. (¬3) • موقفه من المشركين: - أورد رحمه الله في (باب قتل المرتد) (¬4) حديث ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من بدل دينه فاقتلوه». وحديث عكرمة قال: لما بلغ ابن عباس أن عليا حرق المرتدين أو الزنادقة، قال: لو كنت أنا، لم أحرقهم ¬

(¬1) شرح السنة (1/ 224). (¬2) تقدم تخريجه في مواقف ابن عبد البر سنة (463هـ). (¬3) شرح السنة (1/ 226 - 227). (¬4) شرح السنة (10/ 237 - 241).

ولقتلتهم، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من بدل دينه فاقتلوه» ولم أحرقهم لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينبغي لأحد أن يعذب بعذاب الله». (¬1) ثم قال: والعمل على هذا عند أهل العلم أن المسلم إذا ارتد عن دينه يقتل، واختلفوا في استتابته، فذهب بعضهم إلى أنه لا يستتاب، يروى ذلك عن الحسن وطاووس، وإليه ذهب عبيد بن عمير، وقال عطاء: إن كان أصله مسلما، فارتد لا يستتاب، وإن كان مشركا فأسلم، ثم ارتد، فإنه يستتاب. وذهب أكثر أهل العلم إلى أنه لا يقتل حتى يستتاب، إلا أنهم اختلفوا في مدة الاستتابة، فذهب قوم -وهو القياس- أنه يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل مكانه، وهو أظهر قولي الشافعي، ويروى ذلك عن معاذ وأبي موسى، وقال الزهري: يستتاب ثلاث مرات، فإن تاب، وإلا ضرب عنقه، وقال أصحاب الرأي: ثلاث مرات في ثلاثة أيام. وذهب بعضهم إلى أنه يتأنى به ثلاثا لعله يرجع، وإليه ذهب عمر رضي الله عنه، وهو قول أحمد وإسحاق، وقال مالك: أرى الثلاث حسنا. واختلفوا في المرأة إذا ارتدت عن الإسلام، فذهبت طائفة إلى أنها تقتل كالرجل، وهو قول الأوزاعي والشافعي، وأحمد وإسحاق، وذهبت طائفة إلى أنها تحبس ولا تقتل، وهو قول سفيان الثوري، وأصحاب الرأي. واختلف أهل العلم في قتل الساحر، روي عن عمرو بن دينار أنه سمع ¬

(¬1) تقدم تخريجه في مواقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سنة (40هـ).

بجالة يقول: كتب عمر أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، فقتلنا ثلاث سواحر (¬1). وروي عن حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن جارية لها سحرتها، فأمرت بها فقتلت (¬2). وإلى هذا ذهب جماعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم من أهل العلم، وهو قول مالك، وسئل الزهري أعلى من سحر من أهل العهد قتل؟ قال: بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنع به ذلك، فلم يقتل من صنعه، وكان من أهل الكتاب. وعند الشافعي يقتل الساحر إن كان ما يسحر به كفرا إن لم يتب، فإن لم يبلغ عمله الكفر، فلا يقتل، وتعلم السحر لا يكون كفرا عنده إلا أن يعتقد قلب الأعيان منه، وذهب قوم إلا أن تعلمه كفر، وهو قول أصحاب الرأي. ولو قتل الساحر رجلا بسحره وأقر: أني سحرته، وسحري يقتل غالبا، فيجب عليه القود عند الشافعي، وعند أصحاب الرأي: لا يجب به القود، ولو قال: سحري قد يقتل، وقد لا يقتل، فهو شبه عمد، وإن قال: أخطأت إليه من غيره، فهو خطأ تجب به الدية مخففة، وتكون في ماله، لأنه ثبت باعترافه إلا أن تصدقه العاقلة، فتكون عليهم. ولو قاتل أهل الإسلام أهل الردة، فلا يجب على المسلمين ضمان ما أتلفوا على أهل الردة من نفس ومال. واختلفوا في أهل الردة هل يجب عليهم ضمان ما أتلفوا على المسلمين في حال القتال من نفس ومال؟ فقد روي عن أبي بكر أنه قال لقوم جاؤوه تائبين: تدون ¬

(¬1) أحمد (1/ 190 - 191) وأبو داود (3/ 431 - 432/ 3043) وأخرجه مختصرا: البخاري (6/ 316/3156 - 3157) والترمذي (4/ 124 - 125/ 1586) وحسنه. والنسائي في الكبرى (5/ 234 - 235/ 8768). (¬2) رواه مالك بلاغا في كتاب العقول (2/ 871/14) ووصله عبد الرزاق في مصنفه (10/ 180 - 181/ 18747) وابن أبي شيبة (10/ 135 - 136/ 9029) والبيهقي في السنن الكبرى (8/ 136).

• موقفه من الرافضة:

قتلانا ولا ندي قتلاكم، فقال عمر: لا نأخذ لقتلانا دية، فرأى أبو بكر عليهم الضمان، وهو أصح قولي الشافعي. وأما قول عمر: "فلا نأخذ لقتلانا دية". فيحتمل أنه ذهب إلى أنه لا ضمان عليهم على خلاف رأي أبي بكر، كما لا يجب على أهل الحرب ضمان ما أتلفوا على المسلمين ويحتمل أنه كان يرى رأي أبي بكر في وجوب الضمان غير أنه رأى الإعراض عنه ترغيبا لهم في الثبات على الإسلام. قال شعبة: سألت الحكم عن العبد يأبق، فيلحق بأرض الشرك؟ قال: لا تزوج امرأته، وسألت حمادا، فقال: تزوج امرأته. • موقفه من الرافضة: قال رحمه الله (¬1) تحت حديث العرباض (¬2): والحديث يدل على تفضيل الخلفاء الراشدين على من سواهم من الصحابة، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فهؤلاء أفضل الناس بعد النبيين والمرسلين صلى الله عليهم، وترتيبهم في الفضل، كترتيبهم في الخلافة، فأفضلهم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي. وكما خص النبي - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء من بين الصحابة باتباع سنتهم، فقد خص من بينهم أبا بكر وعمر في حديث حذيفة عن النبي عليه السلام قال: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر». (¬3) • موقفه من الجهمية: - قال رحمه الله: الأصبع المذكورة في الحديث صفة من صفات الله عز ¬

(¬1) شرح السنة (1/ 208). (¬2) تقدم قريبا. (¬3) تقدم تخريجه في مواقف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب سنة (23هـ).

وجل (¬1)، وكذلك كل ما جاء به الكتاب أو السنة من هذا القبيل في صفات الله تعالى، كالنفس، والوجه، والعين، واليد، والرجل، والإتيان، والمجيء، والنزول إلى السماء الدنيا، والاستواء على العرش، والضحك والفرح. قال الله سبحانه وتعالى لموسى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)} (¬2) وقال الله عز وجل: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)} (¬3) وقال الله سبحانه وتعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (¬4) وقال الله عز وجل: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} (¬5) وقال عز وجل: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (¬6) وقال: {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (¬7)، {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (¬8)، {هَلْ ¬

(¬1) يشير إلى حديث ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع رب العالمين إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغ ... أخرجه: أحمد (4/ 182) وابن ماجه (1/ 72/199) والنسائي في الكبرى (4/ 414/7738) وصححه ابن حبان ((3/ 222 - 223/ 943) الإحسان) والحاكم (1/ 706 - 707/ 1926) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي. (¬2) طه الآية (41). (¬3) طه الآية (39). (¬4) القصص الآية (88). (¬5) الرحمن الآية (27). (¬6) المائدة الآية (64). (¬7) ص الآية (75). (¬8) الزمر الآية (67).

يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} (¬1) وقال الله سبحانه وتعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} (¬2) وقال الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (¬3) وقال الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} (¬4) وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر» (¬5) وروى أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تزال جهنم يلقى فيها، وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه» (¬6)، وفي رواية أبي هريرة: «حتى يضع الله رجله» (¬7) وفي حديث أبي هريرة في آخر من يخرج من النار: «فيضحك الله منه، ثم يأذن له في دخول الجنة» (¬8) وفي حديث جابر: «فيتجلى لهم يضحك» (¬9) وفي حديث أنس وغيره: «الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يسقط على بعيره وقد أضله في أرض ¬

(¬1) البقرة الآية (210). (¬2) الفجر الآية (22). (¬3) طه الآية (5). (¬4) الفرقان الآية (59) .. (¬5) تقدم من حديث أبي هريرة. انظر مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ). (¬6) تقدم تخريجه. انظر مواقف عبد العزيز الماجشون سنة (164هـ). (¬7) تقدم تخريجه. انظر مواقف إبراهيم بن أحمد بن شاقلا سنة (369هـ). (¬8) أخرجه من حديث أبي هريرة: أحمد (2/ 275 - 276) والبخاري (11/ 543 - 544/ 6573) ومسلم (1/ 163 - 167/ 182). وفي الباب عن ابن مسعود وأبي سعيد الخدري. (¬9) جزء من حديث طويل أخرجه أحمد (3/ 345) ومسلم (1/ 177/191).

فلاة» (¬1) فهذه ونظائرها صفات لله تعالى، ورد بها السمع يجب الإيمان بها، وإمرارها على ظاهرها معرضا فيها عن التأويل، مجتنبا عن التشبيه، معتقدا أن الباري سبحانه وتعالى لا يشبه شيء من صفاته صفات الخلق، كما لا تشبه ذاته ذوات الخلق، قال الله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (¬2) وعلى هذا مضى سلف الأمة، وعلماء السنة، تلقوها جميعا بالإيمان والقبول، وتجنبوا فيها عن التمثيل والتأويل، ووكلوا العلم فيها إلى الله عز وجل، كما أخبر الله سبحانه وتعالى عن الراسخين في العلم، فقال عز وجل: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (¬3).اهـ (¬4) - وقال أيضا: (باب الرد على من قال بخلق القرآن): قال الله سبحانه وتعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} (¬5) فالقرآن كلام الله ووحيه، وتنزيله وصفته، ليس بخالق، ولا مخلوق، ولا محدث ولا حادث، مكتوب في المصاحف، محفوظ في القلوب، متلو بالألسن، مسموع بالآذان، قال الله ¬

(¬1) أخرجه من حديث أنس: أحمد (3/ 213) والبخاري (11/ 123/6309) ومسلم (4/ 2104 - 2105/ 2747). وفي الباب عن ابن مسعود وأبي هريرة وغيرهما. (¬2) الشورى الآية (11) .. (¬3) آل عمران الآية (7). (¬4) شرح السنة للبغوي (1/ 168 - 171). (¬5) الجاثية الآية (29).

تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} (¬1) وقال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ} (¬2) وقال الله تعالى: {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3)} (¬3) وقال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)} (¬4) وقال الله سبحانه وتعالى: {بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} (¬5) وقال الله عزوجل: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ} (¬6) وقال الله عزوجل لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ} (¬7) وقال الله عزوجل: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} (¬8) وقال الله عزوجل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)} (¬9) وقال ابن عباس: لولا أن يسره على لسان الآدميين ما استطاع ¬

(¬1) الحجر الآية (9). (¬2) ص الآية (29). (¬3) الطور الآيات (1 - 3). (¬4) البروج الآيتان (21و22). (¬5) العنكبوت الآية (49). (¬6) الشعراء الآيتان (193و194). (¬7) النمل الآيتان (91و92) (¬8) الأحزاب الآية (34). (¬9) القمر الآية (17).

أحد أن يتكلم بكلام الله. وقال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (¬1) وقال عزوجل: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ} (¬2) وقال عزوجل: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ} (¬3) وقوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} (¬4) ليس ذلك حدث الخلق، إنما هو حدوث أمر، كما قال الله عزوجل: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)} (¬5) وقال ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يحدث من أمره شيئا، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة» (¬6). وقوله عزوجل: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} (¬7) يريد: ذكر القرآن لهم، وتلاوته عليهم، وعلمهم به، كل ذلك محدث، فالمذكور المتلو المعلوم غير محدث، كما أن ذكر العبد لله محدث، والمذكور غير محدث. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله عزوجل: ¬

(¬1) التوبة الآية (6) .. (¬2) الأحقاف الآية (29). (¬3) الجن الآيتان (1و2) (¬4) الأنبياء الآية (2). (¬5) الطلاق الآية (1). (¬6) أخرجه أحمد (1/ 377) والبخاري (13/ 607) تعيلقا وأبو داود (1/ 567 - 568/ 924) والنسائي (3/ 23/1220) وصححه ابن حبان (6/ 15 - 16/ 2243). (¬7) الأنبياء الآية (2).

{قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} (¬1) قال: غير مخلوق. وقال سفيان بن عيينة: بين الله الخلق من الأمر، فقال تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} (¬2) وقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3)} (¬3) فلم يجمع القرآن مع الإنسان في الخلق، بل أوقع اسم الخلق على الإنسان، والتعليم على القرآن. وقال الله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} (¬4) وقال الله عزوجل: {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} (¬5). عن أبي هريرة أن رجلا من أسلم قال: ما نمت هذه الليلة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أي شيء؟» قال: لدغتني عقرب، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أما إنك لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات التامات من شر ما خلق، لم يضرك إن شاء الله» (¬6). هذا حديث صحيح أخرجه مسلم من وجه آخر عن أبي صالح. وفي هذا الحديث وفي أمثاله مما جاء فيه الاستعاذة بكلمات الله دليل ¬

(¬1) الزمر الآية (28). (¬2) الأعراف الآية (54). (¬3) الرحمن الآيات (1 - 3). (¬4) الكهف الآية (109) .. (¬5) لقمان الآية (27). (¬6) أخرجه: أحمد (2/ 357) ومسلم (4/ 2081) وأبو داود (4/ 221/3898) والترمذي في الدعوات كما في التحفة (10/ 48/3839) (سقط الحديث من طبعة الشيخ أحمد شاكر وأثبتناه من تحفة الأحوذي) والنسائي في الكبرى (6/ 152/10452) وابن ماجه (2/ 1162/3518). وفي الباب عن خولة بنت حكيم رضي الله عنها.

على أن كلام الله غير مخلوق، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعاذ به، كما استعاذ بالله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: {أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)} (¬1) وقال: {أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)} (¬2) وقال: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم». واستعاذ بصفاته، كما جاء في دعاء المشتكي: «قل: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد» (¬3) ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ بمخلوق من مخلوق. وبلغني عن أحمد بن حنبل رحمه أنه كان يستدل بقوله: «أعوذ بكلمات الله التامات» على أن القرآن غير مخلوق، لأنه ما من مخلوق إلا وفيه نقص. وقيل: كلمات الله في هذا الحديث: القرآن، وروي عن عكرمة قال: صلى ابن عباس على جنازة، فقال رجل من القوم: اللهم رب القرآن العظيم اغفر لي، فقال ابن عباس: لا تقل مثل هذا، إن القرآن منه بدأ وإليه يعود. وقد مضى سلف هذه الأمة، وعلماء السنة على أن القرآن كلام الله، ووحيه ليس بخالق ولا مخلوق، والقول بخلق القرآن ضلالة وبدعة، لم يتكلم بها أحد في عهد الصحابة والتابعين رحمهم الله، وخالف الجماعة الجعد بن درهم، فقتله خالد بن عبد الله القسري بذلك، فخطب بواسط في يوم أضحى، وقال: ارجعوا أيها الناس فضحوا تقبل الله منكم، فإني مضح بالجعد ابن درهم، فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، ¬

(¬1) المؤمنون الآيتان (97و98). (¬2) الفلق الآية (1). (¬3) أخرجه من حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي: أحمد (4/ 21) ومسلم (4/ 1728/2202) وأبو داود (4/ 217/3891) والترمذي (4/ 355/2080) وابن ماجه (2/ 1163/3522) والنسائي في الكبرى (6/ 248 - 249/ 10839).

سبحانه وتعالى عما يقول الجعد. ثم نزل فذبحه. وكان الجهم بن صفوان صاحب الجهمية أخذ هذا الكلام من الجعد بن درهم. (¬1) - قال رحمه الله: واتفق علماء السلف من أهل السنة على النهي عن الجدال والخصومات في الصفات، وعلى الزجر عن الخوض في علم الكلام وتعلمه. سأل رجل عمر بن عبد العزيز عن شيء من الأهواء، فقال: الزم دين الصبي في الكتاب والأعرابي، واله عما سوى ذلك. وقال أيضا: من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل. وقال الزهري: من الله الرسالة، وعلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - البلاغ، وعلينا التسليم. وقال مالك بن أنس: إياكم والبدع، قيل: يا أبا عبد الله وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته، ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان. روى عبد الرحمن بن مهدي عن مالك: لو كان الكلام علما، لتكلم فيه الصحابة والتابعون، كما تكلموا في الأحكام والشرائع، ولكنه باطل يدل على باطل. وسئل سفيان الثوري عن الكلام فقال: دع الباطل، أين أنت عن الحق، اتبع السنة، ودع البدعة. وقال: وجدت الأمر الاتباع، وقال: عليكم بما عليه ¬

(¬1) شرح السنة للبغوي (1/ 181 - 186).

الجمالون والنساء في البيوت، والصبيان في الكتاب من الإقرار والعمل. قال الربيع عن الشافعي: لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من الأهواء. وقال يونس بن عبد الأعلى عن الشافعي: لأن يبتلى المرء بما نهى الله عنه خلا الشرك بالله خير له من أن يبتليه بالكلام. وقال أبو ثور عن الشافعي: ما ارتدى أحد الكلام فأفلح. وقال الحسن بن محمد بن الصباح: سمعت الشافعي يقول: حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد، ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأخذ في الكلام. وقال الربيع عن الشافعي: لو أن رجلا أوصى بكتبه من العلم لآخر، وكان فيها كتب الكلام، لم يدخل في الوصية، لأنه ليس من العلم. وقال: لو أوصى لأهل العلم، لم يدخل أهل الكلام. وقال يحيى بن سعيد: سمعت أبا عبيد يقول: جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - جميع أمر الآخرة في كلمة: «من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد» (¬1) وجميع أمر الدنيا في كلمة: «إنما الأعمال بالنيات» (¬2) يدخلان في كل باب. (¬3) - وقال معقبا على الخطابي الذي أول صفتي الفرح والضحك بالرضى: والمتقدمون من أهل الحديث فهموا من هذه الأحاديث ما وقع الترغيب فيه من ¬

(¬1) تقدم تخريجه في مواقف الخلال سنة (311هـ). (¬2) تقدم تخريجه في مواقف الإمام الشافعي سنة (204هـ). (¬3) شرح السنة (1/ 216 - 218).

الأعمال والإخبار عن فضل الله عزوجل، وأثبتوا هذه الصفات لله عزوجل، ولم يشتغلوا بتفسيرها مع اعتقادهم أن الله سبحانه وتعالى منزه عن صفات المخلوقين {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (¬1).اهـ (¬2) - قال رحمه الله: (باب الرد على الجمهية): قال الله سبحانه وتعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (¬3)، سمى الله نفسه شيئا. وقال الله عزوجل: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} (¬4) وسمى النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن شيئا، فقال لرجل: «أمعك من القرآن شيء؟» قال: نعم. (¬5) وساق بسنده عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخمس كلمات، فقال: «إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، ولكنه يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه». هذا حديث صحيح أخرجه مسلم (¬6).اهـ (¬7) ¬

(¬1) الشورى الآية (11). (¬2) شرح السنة (5/ 88). (¬3) القصص الآية (88). (¬4) الأنعام الآية (19). (¬5) أحمد (5/ 336) والبخاري (9/ 256/5149) ومسلم (2/ 1040 - 1041/ 1425) وأبو داود (2/ 586 - 587/ 2111) والترمذي (3/ 421 - 422/ 1114) وقال: "حديث حسن صحيح". والنسائي (6/ 432 - 433/ 3359) وابن ماجه (1/ 608/1889) مختصرا. (¬6) أحمد (4/ 405) ومسلم (1/ 161 - 162/ 179) وابن ماجه (1/ 70/195). (¬7) شرح السنة (1/ 172).

- وقال رحمه الله -فيما يجب علينا اتجاه الأحاديث المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: والواجب فيه وفي أمثاله الإيمان بما جاء في الحديث، والتلسيم وترك التصرف فيه بالعقل، والله الموفق. وعلى العبد أن يعتقد أن الله سبحانه وتعالى عظيم له عظمة، كبير له كبرياء، عزيز له عزة، حي له حياة، باق له بقاء، عالم وله علم، ومتكلم وله كلام، قوي له قوة، وقادر وله قدرة، وسميع وله سمع، بصير له بصر. قال الله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)} (¬1) وقال الله عزوجل: {وَأَن اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)} (¬2) وقال الله تعالى: {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬3) وقال الله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)} (¬4) وقال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (¬5) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الله عزوجل: «وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله» (¬6). وقال الله سبحانه: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (¬7) {وَعَنَتِ ¬

(¬1) الواقعة الآية (74). (¬2) الحج الآية (62). (¬3) الجاثية الآية (37). (¬4) الفتح الآية (7). (¬5) فاطر الآية (10). (¬6) جزء من حديث الشفاعة الطويل وقد تقدم تخريجه ضمن مواقف السلف من عمرو بن عبيد سنة (144هـ). (¬7) غافر الآية (65).

الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} (¬1) وقال الله سبحانه وتعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} (¬2) وقال الله عزوجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (¬3) وقال الله عزوجل: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} (¬4) وقال عزوجل: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)} (¬5) وقال تبارك وتعالى: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} (¬6) وقال عزوجل: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} (¬7) وقال عزوجل: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} (¬8) وقال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} (¬9) وقال عزوجل: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} (¬10) وقال جل ذكره: {إِن اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)} (¬11) وقال ¬

(¬1) طه الآية (111). (¬2) الرحمن الآية (27). (¬3) القصص الآية (88). (¬4) سبأ الآية (3). (¬5) النساء الآية (17). (¬6) النساء الآية (166). (¬7) فاطر الآية (11) .. (¬8) البقرة الآية (255). (¬9) النساء الآية (164). (¬10) الفتح الآية (15). (¬11) الحج الآية (40).

عزوجل: {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} (¬1) وقال عزوجل: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ} (¬2) وقال سبحانه وتعالى: {إِن اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} (¬3) وقال عزوجل: {عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)} (¬4) وقال الله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)} (¬5) وقال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} (¬6) وقال عزوجل: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (¬7) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «حجابه النور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» (¬8). ويجب أن يعتقد أن الله عز اسمه قديم بجميع أسمائه وصفاته، لا يجوز له اسم حادث، ولا صفة حادثة، كان الله خالقا ولا مخلوق، وربا ولا مربوب، ومالكا ولا مملوك، كما هو الآخر قبل فناء العالم، والوارث قبل فناء الخلق، والباعث قبل مجيء البعث، ومالك يوم الدين قبل مجيء يوم القيامة. وأسماء الله تعالى لا تشبه أسماء العباد، لأن أفعال الله تعالى مشتقة من أسمائه، وأسماء العباد مشتقة من أفعالهم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله سبحانه وتعالى: أنا ¬

(¬1) الذاريات الآية (58). (¬2) الأنعام الآية (65). (¬3) البقرة الآية (20) (¬4) القمر الآية (55). (¬5) النساء الآية (134). (¬6) المجادلة الآية (1). (¬7) طه الآية (46). (¬8) تقدم تخريجه قريبا.

موقفه من الخوارج:

الرحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمي» (¬1) فبين أن أفعاله مشتقة من أسمائه، فلا يجوز أن يحدث له اسم بحدوث فعله، ولا يعتقد في صفات الله تعالى أنها هو ولا غيره، بل هي صفات له أزلية، لم يزل جل ذكره، ولا يزال موصوفا بما وصف به نفسه، ولا يبلغ الواصفون كنه عظمته، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم. (¬2) - له من الآثار السلفية: 1 - مقدمة جيدة في شرح السنة، وله فيها مواقف طيبة من الجهمية وغيرهم. 2 - تفسيره. فيه سلفية وتأويل قد بينته في كتابي 'المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات'. (¬3) موقفه من الخوارج: - قال رحمه الله (¬4): (باب من مات لا يشرك بالله شيئا): قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬5). وأما قوله عز وجل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ ¬

(¬1) أحمد (1/ 194) وأبو داود (2/ 328/1694) والترمذي (4/ 278/1907) وصححه .. وابن حبان (2/ 186 - 187/ 443) والحاكم (4/ 157 - 158) وصححه ووافقه الذهبي. (¬2) شرح السنة (1/ 177 - 180). (¬3) (2/ 587 - 604). (¬4) شرح السنة (1/ 92). (¬5) النساء الآية (48).

جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} (¬1) قيل: نزل هذا في رجل قتل مسلما ثم ارتد، وقيل: معناه: فجزاؤه جهنم إن جازاه ولم يعف عنه، فقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} خبر لا يقع فيه خلف، وقوله سبحانه وتعالى: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} وعيد يرجى فيه العفو. قال الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ... } (¬2) إلى قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ} (¬3). - ثم ساق طائفة من الأحاديث إلى أن قال: اتفق أهل السنة على أن المؤمن لا يخرج عن الإيمان بارتكاب شيء من الكبائر إذا لم يعتقد إباحتها، وإذا عمل شيئا منها، فمات قبل التوبة، لا يخلد في النار، كما جاء به الحديث، بل هو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه بقدر ذنوبه، ثم أدخله الجنة برحمته، كما ورد في حديث عبادة بن الصامت في البيعة (¬4). واختلفوا في ترك الصلاة المفروضة عمدا، فكفره بعضهم، ولم يكفره ¬

(¬1) النساء الآية (93). (¬2) الفرقان الآية (68). (¬3) الفرقان الآية (70). (¬4) أخرجه أحمد (3/ 441) والبخاري (13/ 6/7055و7056) ومسلم (3/ 1470/1709) والنسائي (7/ 157/4164) وابن ماجه (2/ 957/2866).

الآخرون. (¬1) - وقال رحمه الله: كتاب قتال أهل البغي (باب قتال الخوارج والملحدين): -ثم ساق بسنده أحاديث قتال الخوارج، وقد تقدمت معنا مرارا- ثم قال (¬2): إذا بغت طائفة من المسلمين، وخرجت على إمام العدل بتأويل محتمل، ونصبت إماما، وامتنعت عن طاعة إمام العدل، يبعث الإمام إليهم، فيسألهم: ما تنقمون؟ فإن ذكروا مظلمة، أزالها عنهم، وإن لم يذكروا مظلمة بينة، يقول لهم: عودوا إلى طاعتي لتكون كلمتكم، وكلمة أهل دين الله على المشركين واحدة، فإن امتنعوا يدعوهم إلى المناظرة، وإن امتنعوا عن المناظرة، أو ناظروا، وظهرت الحجة عليهم، فأصروا على بغيهم، يقاتلهم الإمام حتى يفيئوا إلى طاعته، قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ طائفتان مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (¬3). وسئل علي عن أهل النهروان أمشركون هم؟ قال: من الشرك فروا، قيل: منافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا، قيل: فما هم؟ قال: إخواننا بغوا علينا، فقاتلناهم. وما أتلفت إحدى الطائفتين على الأخرى في القتال من نفس أو مال، فلا ¬

(¬1) شرح السنة (1/ 103). (¬2) المصدر نفسه (10/ 235 - 237). (¬3) الحجرات الآية (9).

ضمان فيه على قول الأكثرين، وهو قول الشافعي في الجديد، ومذهب أصحاب الرأي. قال الشافعي: أمر الله سبحانه وتعالى أن يصلح بينهم بالعدل، ولم يذكر تباعة في دم ولا مال، فأشبه هذا أن تكون التباعات في الدماء والجراح، وما تلف من الأموال ساقطة بينهم، كما قال ابن شهاب: كانت في تلك الفتنة دماء يعرف في بعضها القاتل والمقتول، وأتلفت فيها أموال، ثم صار الناس إلى أن سكنت الحرب بينهم، وجرى الحكم عليهم، فما علمت اقتص من أحد ولا أغرم مالا أتلفه. وقال في القديم: ما أتلفت الفئة الباغية على العادلة من نفس أو مال، ضمنوه، فأما ما أتلفت إحداهما على الأخرى في غير حال القتال، فيجب ضمانه مالا كان أو نفسا بالاتفاق. ومن ولي من أهل البغي ظهره في الحرب هاربا، لا يتبع، وكذلك لو أثخن واحد، أو أسر، فلا يقتل، نادى منادي علي يوم الجمل: ألا يتبع مدبر، ولا يذفف على جريح يريد: لا يجهز عليه، أي: لا يقتل، وأتي علي يوم صفين بأسير، فقال له علي: لا أقتلك صبرا إني أخاف الله رب العالمين، فخلى سبيله. قال حماد عن إبراهيم: لولا أن عليا قاتل أهل القبلة لم يدر أحد كيف يقاتلهم. وإذا استولى أهل البغي على بلد، فأخذوا صدقات أهلها لا يثنى عليهم، وينفذ قضاء قاضيهم، وتقبل شهادة عدولهم، وإنما تثبت هذه الأحكام في حقهم باجتماع ثلاث شرائط: أحدها: أن يكون لهم قوة ومنعة. والثاني: أن يكون لهم تأويل محتمل.

والثالث: أن ينصبوا إماما بينهم، فلو فقد شرط من هذه الشرائط، فحكمهم حكم قطاع الطريق في المؤاخذة بضمان ما أتلفوا، ورد قضائهم، وجرح شاهدهم. قال الشافعي: ولو أن قوما أظهروا رأي الخوارج، وتجنبوا الجماعات، وأكفروهم، لم يحل بذلك قتالهم، بلغنا أن عليا رضي الله عنه، سمع رجلا يقول: لا حكم إلا لله في ناحية المسجد، فقال علي: كلمة حق أريد بها باطل، لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدؤكم بقتال. قال الشافعي: ولو قتلوا واليهم أو غيره قبل أن ينصبوا إماما، ويظهروا حكما مخالفا لحكم الإمام، كان عليهم في ذلك القصاص. قد أسلموا وأطاعوا واليا عليهم من قبل علي رضي الله عنه، ثم قتلوه، فأرسل إليهم علي: أن ادفعوا إلينا قاتله نقتله به، قالوا: كلنا قتله، قال: فاستسلموا نحكم عليكم، قالوا: لا، فسار إليهم فقاتلهم، فأصاب أكثرهم. ومنع النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر من قتل ذي الخويصرة، لأنه لم يجتمع فيه ما يبيح قتله. وفيه دليل على أن من توجه عليه التعزير لحق الله سبحانه وتعالى، جاز للإمام تركه، والإعراض عنه. (¬1) - وقال رحمه الله: ثم هم مع هجرانهم كفوا عن إطلاق اسم الكفر على أحد من أهل القبلة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلهم كلهم من أمته. (¬2) ¬

(¬1) شرح السنة (10/ 224). (¬2) شرح السنة (1/ 227).

• موقفه من المرجئة:

• موقفه من المرجئة: - قال في شرح السنة: اتفق الصحابة والتابعون، فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان، لقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} إلى قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)} (¬1) فجعل الأعمال كلها إيمانا، وكما نطق به حديث أبي هريرة. (¬2) وقالوا: إن الإيمان قول وعمل وعقيدة، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية على ما نطق به القرآن في الزيادة، وجاء في الحديث بالنقصان في وصف النساء ... (¬3) إلى أن قال: واتفقوا على تفاضل أهل الإيمان في الإيمان وتباينهم في درجاته، قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل. وقال معاذ: اجلس بنا نؤمن ساعة. وكرهوا أن يقول الرجل: أنا مؤمن حقا، بل يقول: أنا مؤمن، ويجوز ¬

(¬1) الأنفال الآيتان (2و3). (¬2) تقدم تخريجه ضمن مواقف الفزاري سنة (186هـ). (¬3) أخرجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أحمد (3/ 373 - 374) والبخاري (3/ 415/1462) ومسلم (1/ 87/132 [80]) والترمذي (5/ 11 - 12/ 2613) والنسائي في الكبرى (5/ 400 - 401/ 9271) وفي الباب عن غير واحد من الصحابة.

أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، لا على معنى الشك في إيمانه واعتقاده من حيث علمه بنفسه، فإنه فيه على يقين وبصيرة، بل على معنى الخوف من سوء العاقبة، وخفاء علم الله تعالى فيه عليه، فإن أمر السعادة والشقاوة يبتني على ما يعلم الله من عبده، ويختم عليه أمره، لا على ما يعلمه العبد من نفسه، والاستثناء يكون في المستقبل، وفيما خفي عليه أمره، لا فيما مضى وظهر، فإنه لا يسوغ في اللغة لمن تيقن أنه قد أكل وشرب أن يقول: أكلت إن شاء الله، وشربت إن شاء الله، ويصح أن يقول: آكل وأشرب إن شاء الله. ولو قال: أنا مؤمن من غير استثناء يجوز، لأنه مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، مقر بها من غير شك. (¬1) - وقال رحمه الله: جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الإسلام اسماً لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسماً لما بطن من الاعتقاد، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، أو التصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد، وجماعها الدين، ولذلك قال: «ذاك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم» (¬2) والتصديق والعمل يتناولها اسم الإيمان والإسلام جميعاً، يدل عليه قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (¬3) {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬4) {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ ¬

(¬1) شرح السنة (1/ 38 - 41). (¬2) تقدم تخريجه ضمن مواقف الطوسي سنة (242هـ). (¬3) آل عمران الآية (19). (¬4) المائدة الآية (3).

موقفه من القدرية:

دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (¬1) فأخبر أن الدين الذي رضيه ويقبله من عباده هو الإسلام، ولن يكون الدين في محل القبول والرضا إلا بانضمام التصديق إلى العمل. (¬2) موقفه من القدرية: - قال رحمه الله: (باب الإيمان بالقدر): قال الله سبحانه وتعالى {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)} (¬3) وقال الله عزوجل: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)} (¬4) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وتؤمن بالقدر خيره وشره» (¬5). -ثم ساق بسنده أحاديث- منها: عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر» (¬6). زاد عبيد الله: «خيره وشره». وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كتب الله مقادير الخلائق كلها قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء» (¬7). وعن أبي هريرة قال: قال ¬

(¬1) آل عمران الآية (85). (¬2) شرح السنة (1/ 10 - 11). (¬3) الأحزاب الآية (38). (¬4) الفرقان الآية (2). (¬5) تقدم تخريجه قريبا وهو حديث جبرائيل. (¬6) أحمد (1/ 97) والترمذي (4/ 393/2145) وابن ماجه (1/ 32/81) وابن حبان (1/ 404 - 405/ 178) والحاكم (1/ 32 - 33) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. (¬7) أحمد (2/ 169) ومسلم (4/ 2044/2653) والترمذي (4/ 398 - 399/ 2156) وقال: "حسن صحيح".

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «احتج آدم وموسى، فقال موسى: يا آدم أنت أبونا وأخرجتنا من الجنة، فقال آدم: يا موسى اصطفاك الله بكلامه، وخط لك التوراة بيده، تلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى». (¬1) ثم ختم الباب قائلا: الإيمان بالقدر فرض لازم، وهو أن يعتقد أن الله تعالى خالق أعمال العباد، خيرها وشرها، كتبها عليهم في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم، قال الله سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} (¬2) وقال الله عزوجل: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (¬3) وقال عزوجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} (¬4) فالإيمان والكفر، والطاعة والمعصية، كلها بقضاء الله وقدره، وإرادته ومشيئته، غير أنه يرضى الإيمان والطاعة، ووعد عليهما بالثواب، ولا يرضى الكفر والمعصية، وأوعد عليهما العقاب، قال سبحانه وتعالى: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)} (¬5) وقال الله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا ¬

(¬1) تقدم تخريجه في مواقف هارون الرشيد سنة (191هـ). (¬2) الصافات الآية (96). (¬3) الرعد الآية (16). (¬4) القمر الآية (49). (¬5) إبراهيم الآية (27).

يُرِيدُ (253)} (¬1) {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)} (¬2) وقال عزوجل: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} (¬3) قال ابن عباس: الحرج: موضع الشجر الملتف لا تصل الراعية إليه، فقلب الكافر لا تصل إليه الحكمة، وكل ضيق حرج وحرج. وقال الله سبحانه وتعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (¬4) أي طبع عليها، فلا تعقل ولا تعي خيرا، ومعنى الختم: التغطية على الشيء، والاستيثاق منه حتى لا يدخله شيء. وقال جل ذكره: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)} (¬5) قيل: المستور هاهنا بمعنى الساتر. والحجاب: الطبع. وقال سبحانه وتعالى: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}. (¬6) فالعبد له كسب، وكسبه مخلوق يخلقه الله حالة ما يكسب، والقدر سر من أسرار الله لم يطلع عليه ملكا مقربا، ولا نبيا مرسلا، لا يجوز الخوض فيه، والبحث عنه بطريق بالعقل، بل يعتقد أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق، ¬

(¬1) البقرة الآية (253). (¬2) الحج الآية (18). (¬3) الأنعام الآية (125). (¬4) البقرة الآية (7). (¬5) الإسراء الآية (45). (¬6) الزمر الآية (7).

فجعلهم فريقين: أهل يمين خلقهم للنعيم فضلا، وأهل شمال خلقهم للجحيم عدلا. قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} (¬1) وقال الله سبحانه وتعالى: {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} (¬2) قال سعيد بن جبير: ما قدر لهم من الخير والشر، ومن الشقوة والسعادة، وقال الله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162)} (¬3) قال مجاهد: بمضلين {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)} (¬4) إلا من كتب الله أنه يصلى الجحيم، وقال الله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)} (¬5) قال سعيد بن جبير: كما كتب عليكم تكونون {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} (¬6) وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)} (¬7) وقيل في قوله سبحانه وتعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)} (¬8) أي طريق الخير، ¬

(¬1) الأعراف الآية (179). (¬2) الأعراف الآية (37). (¬3) الصافات الآية (162). (¬4) الصافات الآية (163). (¬5) الأعراف الآية (29). (¬6) الأعراف الآية (30). (¬7) الإنسان الآية (3). (¬8) البلد الآية (10).

وطريق الشر. وقال عمر بن عبد العزيز: لو أراد الله أن لا يعصى لم يخلق إبليس ويروى هذا مرفوعا. وقال الله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)} (¬1) فنسأل الله التوفيق لطيب المكتسب، ونعوذ به من سوء المنقلب بفضله. (¬2) - وقال: (باب وعيد القدرية): ثم ساق بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء مشركو قريش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاصمونه في القدر، فنزلت هذه الآية: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47)} (¬3) إلى قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} (¬4). هذا حديث صحيح أخرجه مسلم عن أبي كريب عن وكيع عن سفيان الثوري (¬5). قوله: {فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} قيل: في أمر يسعر، أي: يلهب. وقال الأزهري: يقال: ناقة مسعورة، إذا كان بها جنون، وقيل: سعر: جمع سعير. (¬6) ¬

(¬1) السجدة الآية (13). (¬2) شرح السنة (1/ 122 - 145). (¬3) القمر الآية (47). (¬4) القمر الآية (49) (¬5) أخرجه: أحمد (2/ 444و476) ومسلم (4/ 2046/2656) والترمذي (4/ 399/2157) وابن ماجه (1/ 32/83). (¬6) شرح السنة (1/ 150 - 151).

موقف السلف من أسعد بن أبي روح الرافضي (قبل 520 هـ)

السنة الثامنة عشرة بعد الخمسمائة (518 هـ) فضائح الباطنية وموقف المسلمين منهم: قال ابن كثير: ثم دخلت ثمان عشرة وخمسمائة فيها ظهرت الباطنية بآمد فقاتلهم أهلها فقتلوا منهم سبعمائة. (¬1) موقف السلف من أسعد بن أبي روح الرافضي (قبل 520 هـ) قال الذهبي: رأس الرفض بالشام، القاضي أبو الفضل أسعد بن أحمد بن أبي روح الأطرابلسي، صاحب التصانيف. أخذ عن ابن البراج، وسكن صيدا إلى أن أخذتها الفرنج، فقتل بها. (¬2) البُرْسُقِي (¬3) (520 هـ) الملك آقسُنْقُر مملوك بُرْسُق غلام السلطان طُغْرُلْبَك قسيم الدولة أبو سعيد، ولي الموصل والرحبة، وقد ولي شحنكية بغداد، وكان تركيا جيد السيرة محافظا على الصلوات في أوقاتها، كثير البر والصدقات إلى الفقراء، كثير الإحسان إلى الرعايا، ولاه السلطان محمد بعدما استقرت له السلطنة ¬

(¬1) البداية (12/ 207). (¬2) السير (19/ 499). (¬3) السير (19/ 510 - 512) والمنتظم (17/ 230) والكامل في التاريخ (10/ 633 - 635) ووفيات الأعيان (1/ 242 - 243) والبداية والنهاية (12/ 209) وشذرات الذهب (4/ 61).

• موقفه من المشركين:

وتقدم إليه بالتجهز إلى الموصل والاستعداد لقتال الفرنج بالشام، فوصل إلى الموصل فملكها وغزا ودفع الفرنج عن حلب ثم عاد إلى الموصل، وكان خيرا يحب أهل العلم والصالحين، ويرى العدل ويفعله، وكان من خير الولاة كثير التهجد من الليل، وكان من كبراء الدولة السلجوقية، وله شهرة كبيرة بينهم، قتلته الباطنية بجامع الموصل يوم الجمعة التاسع من ذي القعدة سنة عشرين وخمسمائة. وكانوا قد جلسوا له في الجامع بزي الصوفية، فلما انفتل من صلاته قاموا إليه وأثخنوه جراحا، وذلك لأنه كان تصدى لاستئصال شأفتهم وتتبعهم وقتل منهم عصبة كبيرة رحمه الله. • موقفه من المشركين: جاء في السير: وكان قد أباد في الإسماعيلية فشد عليه عشرة بالجامع فقتل بيده منهم ثلاثة. (¬1) الطُّرْطُوشِي (¬2) (520 هـ) محمد بن الوليد بن خلف أبو بكر الطرطوشي الإمام العلامة، القدوة الزاهد، شيخ المالكية الفقيه، لازم القاضي أبا الوليد الباجي بسرقسطة، وسمع بالبصرة من أبي علي التستري وسمع ببغداد من قاضيها أبي عبد الله الدامغاني ورزق الله التميمي، وأبي عبد الله الحميدي وغيرهم، حدث عنه أبو طاهر ¬

(¬1) السير (19/ 511). (¬2) السير (19/ 490 - 496) والأنساب (4/ 68) ووفيات الأعيان (4/ 262 - 265) والوافي بالوفيات (5/ 175) والديباج المذهب (2/ 244 - 248) وشذرات الذهب (4/ 62).

موقفه من المبتدعة:

السلفي والفقيه سلار بن المقدم وجوهر بن لؤلؤ المقرئ وآخرون. قال ابن بشكوال: كان إماما عالما زاهدا ورعا دينا متواضعا متقشفا متقللا من الدنيا راضيا باليسير، سكن الشام مدة ودرس بها، وبعد صيته هناك وأخذ عنه الناس هناك علما كثيرا، وكان سديد السيرة مشتغلا بما يعنيه ملاذا للغرباء والفقهاء. استقر بالإسكندرية ينشر العلم، ويفقه الناس بأمور دينهم، يصلح ما أفسده العبيديون، وكان رحمه الله قد أوذي من الأفضل الوزير العبيدي. وبقي كذلك إلى أن قتل الأفضل وولي مكانه المأمون بن البطائحي، فأكرم الشيخ إكراما كثيرا. توفي بالإسكندرية في جمادى الأولى سنة عشرين وخمسمائة. موقفه من المبتدعة: كان هذا الإمام من الموفقين المهديين -نفع الله به وبعلمه- وترك تراثا في العقيدة السلفية، استفاد منه أهل المغرب والمشرق وكانت له مواقف جيدة في العقيدة. آثاره السلفية: 1 - 'رسالة في الرد على إحياء علوم الدين للغزالي'. المصدر: ذكرها في السير. (¬1) 2 - 'الحوادث والبدع' وقد طبع غير ما مرة. 3 - 'الرد على اليهود'. المصدر: ذكره الذهبي في سيره. (¬2) ¬

(¬1) (19/ 494). (¬2) (19/ 494).

من مواقفه رحمه الله: - قال رحمه الله: فإن قيل لنا: فما أصل البدعة؟ قلنا: أصل هذه الكلمة من الاختراع، وهو الشيء يُحدث من غير أصل سبق، ولا مثال احتُذي، ولا أُلِفَ مثلُهُ. ومنه قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬1)، وقوله: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} (¬2)؛ أي: لم أكن أول رسول إلى أهل الأرض. وهذا الاسم يدخل فيما تخترعه القلوب، وفيما تنطق به الألسنة، وفيما تفعله الجوارح. (¬3) - وقال: اعلم أن علماءنا رضي الله عنهم قالوا: أصول البدع أربعة، وسائر الأصناف الاثنتين وسبعين فرقة عن هؤلاء تفرّقوا وتشعّبوا، وهم: الخوارج -وهي أول فرقة خرجت على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه- والروافض، والقدرية، والمرجئة. ولم يرد علماؤنا أن أصل كل بدعة من هؤلاء الأربع تفرعت وتشعّبت على مقتضى أصل البدع، حتى كملت ثلاثة وسبعين فرقة؛ فإن ذلك لعله لم يدخل في الوجود إلى الآن، وإنما أرادوا أن كل بدعة وضلالة لا تكاد توجد إلا في هذه الأربع فرق، وإن لم تكن البدعة الثانية فرعاً للأولى وشعبة من ¬

(¬1) البقرة الآية (117). (¬2) الأحقاف الآية (9). (¬3) كتاب الحوادث والبدع (ص.39 - 40).

شعبها، بل هي بدعة مستقلّة بنفسها، ليست من الأولى بسبب. (¬1) - ثم ذكر ما أحدثه الناس عند ختم القرآن فقال: وأعظم من ذلك ما يوجد اليوم في هذا الختم من اختلاط الرجال والنساء وازدحامهم، وتلاصق أجساد بعضهم ببعض، حتى بلغني أن رجلاً ضمّ امرأة من خلفها فعبث بها في مزدحم الناس! (¬2) - وقال: فأما ما أحدثه الناس من الخطب في أعقاب الختم؛ فقال مالك: ليس ختم القرآن بسنة لقيام رمضان ... وقال مالك في المدوّنة: الأمر في رمضان الصلاة، وليس بالقصص بالدعاء. (¬3) فتأملوا -رحمكم الله-، فقد نهى مالك أن يقصّ أحد في رمضان بالدعاء، وحكى أن الأمر المعمول به في المدينة إنما هو الصلاة من غير قصص ولا دعاء. - وقال: وسئل مالك عن الرجل يدعو خلف الصلاة قائماً؟ فقال: ليس بصواب، ولا أحب لأحد أن يفعله. فعلقّ بقوله: اعلم أن الحرف الذي يدور عليه هذا المذهب إنما هو حماية الذرائع، وألا يزاد في الفروض ولا في السنن المسنّنة، وألا يُعتقد أيضاً في النوافل المبتدأة أنها سنن مؤقتة. (¬4) ¬

(¬1) كتاب الحوادث والبدع (ص.33 - 34). (¬2) كتاب الحوادث والبدع (ص.46). (¬3) كتاب الحوادث والبدع (ص.64 - 65). (¬4) كتاب الحوادث والبدع (ص.66).

- وقال وهو يرد على من يستدل للمحدثات بشيوع ذلك عند الناس -وهو ما يعبر عنه ما جرى به العمل-: فصل في الكلام على فريق من العامّة وأهل التقليد قالوا: إن هذا الأمر شائع ذائع في أقاليم أهل الإسلام وأقطار أهل الأرض، حتى قال بعض الأغبياء: إن القيروان كانت دار العلم بالمغرب، ولم يزل هذا الأمر بها فاشياً، لا مُنكر له!! فالجواب أن نقول: شيعوعة الفعل وانتشاره لا يدلّ على جوازه؛ كما أن كتمه لا يدل على منعه. ألا ترى أن بيع الباقلاّء في قشرته شائع في أقطار أهل الإسلام وعند الشافعي لا يجوز؟ والاستئجار على الحج شائع في بلاد الإسلام وعند أبي حنيفة لا يجوز؟ واقتعاط العمائم شائع في أهل الإسلام، وهو بدعة منكرة. والاقتعاط: هو التعمّم دون الحنك ... وإسبال الثوب تحت الكعبين شائع في بلاد أهل الإسلام، وهو حرام لا يجوز؟ وأكثر أفعال أهل زمانك على غير السنة، وكيف لا وقد روينا قول أبي الدرداء إذ دخل على أم الدرداء مغضباً، فقالت له: مالك؟ فقال: (والله ما أعرف فيهم شيئاً من أمر محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ إلا أنهم يصلّون جميعاً)، وما روينا هنالك من الآثار!! فإنهم لم يبق فيهم من السنة إلا الصلاة في جماعة، كيف لا تكون معظم أمورهم محدثات؟!

وأما من تعلّق بفعل أهل القيروان؛ فهذا غبي يستدعي الأدب دون المراجعة! فنقول لهؤلاء الأغبياء: إن مالك بن أنس رأى إجماع أهل المدينة حجة، فردّه عليه سائر فقهاء الأمصار، هذا وهو بلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعرصة الوحي، ودار النبوة، ومعدن العلم، فكيف بالقيروان؟! وأيضاً؛ فإنما كان يكون فيه مُتَعلَّق لو نقلتُمْ عن علماء القيروان أنهم أفتوا بهذا؛ لأن الاقتداء إنما يكون بالعلماء لا بالعوامّ، وهذا ما لا ينقلونه أبداً، وإنما كان يفعله العوامّ والغوغاء، فإنكارنا عليهم كإنكارنا عليكم. والدليل على هذا أن الفتيا بالقيروان إنما كانت على مذهب أهل المدينة، وقد كان القوم من أشدّ الناس تمسّكاً بمذهب مالك، فكان علماؤنا إنما يقومون في رمضان في بيوتهم؛ لقول مالك: (قيام الرجل في بيته لمن قوي عليه أحبّ إليّ)، وكان الغالب عليهم الورع والاتباع، وقد قال لهم في المدوّنة: (ليس الشأن في رمضان القصص بالدعاء)، فيبعد من حالهم أن يحدثوا هذه البدعة، وينصبوا المنابر، ويخطبوا عند الختم! ولو كان هذا؛ لشاع وانتشر، وكان يضبطه طلبة العلم، والخَلَف عن السّلف، فيصل ذلك إلى عصرنا، فلما لم ينقل هذا أحد ممن يعتقد علمه، ولا ممن هو في عداد العلماء؛ علم أن هذه حكاية العوامّ والغوغاء. ثم يقال لهم: بمَ تنفصلون ممن يعارضكم بشكل آخر من جنسه، فيقول لكم: إن قرطبة أعظم من القيروان، وهي دار العلم والخلافة -فقد فَضَلَت القيروان بالخلافة-، ثم لم يُعهد فيها قطّ خطبةٌ ولا منبر ولا دعاء ولا

اجتماع عند ختم القرآن في رمضان؟ فإن قيل: فهل يأثم فاعل ذلك؟ فالجواب أن يقال: أما إن كان ذلك على وجه السلامة من اللغط، ولم يكن إلا الرجال، أو الرجال والنساء منفردين بعضهم عن بعض، يستمعون الذكر، ولم تُنتهك فيه شعائر الرحمن؛ فهذه البدعة التي كرهها مالك. وأما إن كان على الوجه الذي يجري في هذا الزمان؛ من اختلاط الرجال والنساء، ومضامة أجسامهم، ومزاحمة من في قلبه مرض من أهل الريبة، ومعانقة بعضهم لبعض -كما حكي لنا أن رجلاً وُجد يطأ امرأة وهم وقوف في زحام الناس! وحكت لنا امرأة أن رجلاً واقعها فما حال بينهما إلا الثياب! وأمثال ذلك من الفسق واللغط-؛ فهذا فسوق، فيُفسّق الذي يكون سبباً لاجتماعهم. فإن قيل: أليس روى عبد الرزاق في التفسير: (أن أنس بن مالك كان إذا أراد أن يختم القرآن جمع أهله)؟ قلنا: فهذا هو الحجة عليكم؛ فإنه كان يصلّي في بيته، ويجمع أهله عند الختم، فأين هذا من نصبكم المنابر، وتلفيق الخطب على رؤوس الأشهاد، فيختلط الرجال والنساء والصبيان والغوغاء، وتكثر الزعقات والصياح، ويختلط الأمر، ويذهب بهاء الإسلام ووقار الإيمان؟! وأيضاً؛ فإنه ما روي أنه دعا، وإنما جمع أهله فحسبُ. (¬1) - وقال: فصل في بيان الوجه الذي يدخل منه الفساد على عامة ¬

(¬1) كتاب الحوادث والبدع (ص.71 - 76).

المسلمين: روى مسلم في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقَ عالم؛ اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا». (¬1) فتدبّر هذا الحديث؛ فإنه يدل على أنه لا يؤتى الناس قطّ من قبل علمائهم، وإنما يؤتون من قِبل أنه إذا مات علماؤهم؛ أفتى من ليس بعالم، فيؤتى الناس من قِبله. وقد صرّف عمر هذا المعنى تصريفاً، فقال: (ما خان أمين قطّ، ولكنه اؤتمن غير أمين فخان). ونحن نقول: ما ابتدع عالم قطّ، ولكنه استُفتي من ليس بعالم؛ فضلّ وأضلّ. (¬2) - وقال: الباب الرابع في نقل غرائب البدع وإنكار العلماء لها: فمن ذلك البدع المحدثة في الكتاب العزيز من الألحان والتطريب: قال الله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4)} (¬3)؛ يعني: فصِّلْهُ تفصيلاً، وبيِّنْهُ تبييناً، وترسَّل فيه ترسيلاً، ولا تعجل في قراءته، وهو من قول العرب: ثغر رَتِلٌ ورَتْلٌ؛ إذا كان مُفْلجاً ذا فُرج. قال مالك: (ولا تعجبني القراءة بالألحان، ولا أحبها في رمضان ولا في غيره؛ لأنه يشبه الغناء، ويُضحك بالقرآن، فيُقال: فلان أقرأُ من فلان). ¬

(¬1) تقدم في مواقف البغوي سنة (516هـ). (¬2) كتاب الحوادث والبدع (ص.76 - 77). (¬3) المزمل الآية (4).

وبلغني أن الجواري يُعلَّمن ذلك كما يُعلمن الغناء! أترى هذا من القراءة التي كان يقرأ بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟!. (¬1) - وقال: ومما ابتدعه الناس في القرآن الاقتصار على حفظ حروفه؛ دون التفقه فيه ... وهذا هو حال المقرئين في هذه الأعصر؛ فإنك تجد أحدهم يروي القرآن بمائة رواية، ويُثقِّف حروفه تثقيف القدح، وهو أجهل الجاهلين بأحكامه، فلو سألته عن حقيقة النّيّة في الوضوء، ومحلّها، وعزوبها، ورفضها، وتفريقها على أعضاء الوضوء؛ لم يخرج جواباً، وهو يتلو عُمُرَهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (¬2). بل لو سألته عن أوّل درجة، فقلت له: أمر الله تعالى على الوجوب هو؟ أم على الندب والاستحباب؟ أم على الوقف؟ أم على الإباحة؟ فطلبته بفهم هذه الدقائق ووجوهها وترتيبها؛ لم يجد جواباً!. (¬3) - وعقد فصلاً نقل فيه أقوال الأئمة ببدعية ما أحدث الناس من الاجتماع في المساجد والدعاء يوم عرفة ثم قال: فاعلموا رحمكم الله أن هؤلاء الأئمة علموا فضل الدعاء يوم عرفة، ولكن علموا أن ذلك بموطن عرفة لا في غيرها، ولم يمنعوا من خلا بنفسه فحضرته نية صادقة أن يدعو الله ¬

(¬1) كتاب الحوادث والبدع (ص.83 - 84). (¬2) المائدة الآية (6). (¬3) كتاب الحوادث والبدع (ص.96 - 98).

تعالى، وإنما كرهوا الحوادث في الدين، وأن يظن العوامّ أن من سنة يوم عرفة بسائر الآفاق الاجتماع والدعاء، فيتداعى الأمر إلى أن يُدخل في الدين ما ليس منه. وقد كنت ببيت المقدس، فإذا كان يوم عرفة؛ حُبس أهل السواد وكثير من أهل البلد، فيقفون في المسجد مستقبلين القبلة مرتفعة أصواتهم كأنه موطن عرفة! وكنت أسمع هناك سماعاً فاشياً منهم: أن من وقف ببيت المقدس أربع وقفات؛ فإنها تعدل حجة، ثم يجعلونه ذريعة إلى إسقاط فريضة الحج إلى بيت الله الحرام!!. (¬1) - وقال: ومن البدع اجتماع الناس بأرض الأندلس على ابتياع الحلوى ليلة سبع وعشرين من رمضان. وكذلك على إقامة 'يَنَير' بابتياع الفواكه؛ كالعجم، وإقامة العنصرة، وخميس إبريل؛ بشراء المجبّنات والإسفنج، وهي من الأطعمة المبتدعة، وخروج الرجال جميعاً أو أشتاتاً مع النساء مختلطين للتفرّج. وكذلك يفعلون في أيام العيد، ويخرجون للمصلّى، ويقمن فيه الخيم للتفرج لا للصلاة. ودخول الحمام للنساء مع الكتابيات بغير مئزر، والمسلمين مع الكفار في الحمام ... ورجع الناس ينافسون في الضحية؛ للافتخار، لا للسنة، ولا لطلب ¬

(¬1) كتاب الحوادث والبدع (ص.127 - 128).

الأجر، بل لإقامة الدنيا. ومن البدع قراءة القارئ يوم الجمعة عشراً من القرآن عند خروج السلطان، وكذلك الدعاء بعد الصلاة، وقراءة الحزب في جماعة، وقراءة سورة الكهف بعد العصر في المسجد في جماعة، وكذلك قول من يقول عند قيام الإمام في المحراب قبل تكبيرة الإحرام: اللهم أقِمْها وأدِمْها ما دامت السماوات والأرض! وهذا دعاء المحال؛ لأن ما بقي لقيام الساعة أقل مما مضى؛ بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «بُعثتُ أنا والساعة كهاتين» (¬1)، وقرن السبابة والوسطى. (¬2) - وقد ردّ على من يتعلق بحديث: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله» الحديث (¬3)، للقراءة الجماعية بقوله: والسّرّ فيه أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: «يتلونه ويتدارسونه» خطاب عربيّ، ومعلوم من لسان العرب أنهم لو رأوا جماعة قد اجتمعوا لقراءة القرآن على أستاذهم، ورجل واحد يقرأ القرآن؛ لجاز أن يقولوا: هؤلاء جماعة يقرؤون القرآن ويتدارسونه. وإن كانوا كلهم سكوتاً. وكذلك لو مرّ العربيّ بجماعة اجتمعوا لتدريس العلم والتفقه فيه ولسماع حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لجاز أن يقول: هذه جماعة يدرسون العلم، ¬

(¬1) أحمد (3/ 124) والبخاري (11/ 422/6504) ومسلم (4/ 2268/2951) والترمذي (4/ 430/2214) من حديث أنس رضي الله عنه. (¬2) كتاب الحوادث والبدع (ص.150 - 153). (¬3) أحمد (2/ 252) ومسلم (4/ 2074/2699) وأبو داود (2/ 148 - 149/ 1455) والترمذي (5/ 179/2945) والنسائي في الكبرى (4/ 309/7287) وابن ماجه (1/ 82/225) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ويقرؤون العلم والحديث، وإن كان القارئ واحداً. (¬1) - وقال في المآتم: والمأتم: هو الاجتماع في الصّبحة، وهو بدعة منكرة لم يُنقل فيه شيء. وكذلك ما بعده من الاجتماع في الثاني والثالث والسابع والشهر والسنة، فهو طامّة. وقد بلغني عن الشيخ أبي عمران الفاسيّ -وكان من أئمة المسلمين- أن بعض أصحابه حضر صبحة، فهجره شهرين وبعض الثالث، حتى استعان الرجل عليه، فقبله وراجعه، وأظنه استتابه ألا يعود. فأما ما يوقد فيها من الشمع والبخور؛ فتبذير وسرف، وإن أنفقه الوصيّ من مال التركة؛ ضمنه، وسقطت به عدالته، واستأنف الحاكم النظر في الوصاية. (¬2) - وقال رحمه الله: اعلم أن ما حدث في سائر أقطار بلاد أهل الإسلام من هذه المنكرات والبدع لا مطمع لأحد في حصرها، لأنها خطأ وباطل، والخطأ لا تنحصر سبله، ولا تتحصل طرقه، فاخط كيف شئت، وإنما الذي تنحصر مداركه وتنضبط مآخذه، فهو الحق، لأنه أمر واحد مقصود، يمكن إعمال الفكر والخواطر في استخراجه. وما مثل هذا إلا كالرامي للهدف، فإن طرق الإصابة تنحصر وتتحصل من إحكام الآلات، وأسباب النزع، وتسديد السهم. ¬

(¬1) كتاب الحوادث والبدع (ص.167). (¬2) كتاب الحوادث والبدع (ص.175 - 176).

فأما من أراد أن يخطئ الهدف، فجهات الأخطاء لا تنحصر ولا تنضبط. (¬1) - وقال: فأما أصحاب الألحان؛ فإنما حدثوا في القرن الرابع؛ منهم: محمد بن سعيد صاحب الألحان، والكرماني، والهيثم، وأبان ... فكانوا مهجورين عند العلماء، فنقلوا القراءة إلى أوضاع لحون الأغاني، فمدوا المقصور، وقصروا الممدود، وحركوا الساكن، وسكنوا المتحرك، وزادوا في الحرف، ونقصوا منه، وجزموا المتحرك، وحركوا المجزوم؛ لاستيفاء نغمات الأغاني المطربة ... ومن ألحانهم في القرآن: النبطي، والرومي، والحساني، والمكي، والإسكندراني، والمصري، والكاروندي، والراعي، والديباجي، والياقوتي، والعروسي، والزّرجون، والمرجي والمجوسي، والزنجي، والمُنمنم، والسِّندي، وغيرها؛ كرهنا ذكر التطويل بها. فهذه أسماء ابتدعوها في كتاب الله تعالى: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} (¬2). فالتالي منهم والسامع لا يقصدون فهم معانيه؛ من أمر، أو نهي، أو وعد، أو وعيد، أو وعظ، أو تخويف، أو ضرب مثل، أو اقتضاء حكم، أو غير ذلك مما أنزل به القرآن، وإنما هو للذة، والطرب، والنغمات، والألحان؛ كنقر الأوتار، وأصوات المزامير؛ كما قال الله عز وجل يذمّ قريشاً: {وَمَا ¬

(¬1) الحوادث والبدع (ص.22). (¬2) النجم الآية (23).

كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} (¬1). وإنما أنزل القرآن لتُتدبّر آياته وتفهم معانيه: قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ} (¬2). وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ} (¬3). وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (¬4). وهذا يمنع أن يقرأ بالألحان المطرِّبة والمشبِّهة للأغاني؛ لأن ذلك يُثمر ضدَّ الخشوع، ونقيضَ الخوف والوجل. وقوله تعالى فيهم: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} (¬5). وهذا يفيد الأمر بتلاوته على هذا الوجه، وأن بكاءهم إنما كان مما فهموا من معانيه، لا من نغمات القارئ. فأين هذا من دقّ الرِّجل، وثني العطف، وتحريك الرأس، والصياح، والزعق، والمكاء، والتصدية؟! ¬

(¬1) الأنفال الآية (35). (¬2) ص الآية (29). (¬3) النساء الآية (82). (¬4) الأنفال الآية (2). (¬5) المائدة الآية (82).

موقفه من المشركين:

قال الله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (¬1). فليت شعري! ما الذي يورث خشية الله تعالى؟! أألحان الكرماني ونغمات الترمذي، أو فهم معانيه، وتدبر آياته، واستخلاص حكمه وعجائب مضمونه؟!. (¬2) موقفه من المشركين: - قال رحمه الله: فانظروا -رحمكم الله- أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها، وينوطون بها المسامير والخرق؛ فهي ذات أنواط؛ فاقطعوها. (¬3) - وقال: ولا يُتمسّح بقبر النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ولا يَمسح كذلك المنبر، ولكن يدنو من المنبر، فيُسلّم على النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ثم يدعو مستقبلاً القبلة؛ يُولّيه ظهره -وقيل: لا يوليه ظهره- ويصلّي ركعتين قبل السلام عليه. وقيل: واسعٌ أن يسلم عليه قبل أن يركع. (¬4) موقفه من الرافضة: جاء في الفكر السامي: ... وكان راضيا من الدنيا بالقليل لورعه، ثم سكن الأسكندرية وتزوج امرأة موسرة، وهبت له دارا سكن أعلاها ¬

(¬1) الحشر الآية (21). (¬2) كتاب الحوادث والبدع (ص.84 - 88). (¬3) الحوادث والبدع (ص.38 - 39). (¬4) كتاب الحوادث والبدع (ص.156 - 157).

موقفه من الصوفية:

وجعل أسفلها مدرسة للطلبة، وكان نزوله بالأسكندرية بعد قتل بني عبيد لعلمائها فنشر العلم بها وأحيا معالمه بعد ما تعطلت دروسه وكان يقول: إن سألني الله عن المقام بالأسكندرية مع ما هي عليه من تعطيل الجمعة وغير ذلك من المناكر التي كانت أيام العبيديين أقول له: وجدت قوما ضلالا فكنت سبب هدايتهم. وهكذا ينبغي للعلماء، بل يجب عليهم هداية الخلق ولا يجوز لهم الهجرة إلا إذا يئسوا الهداية أو خافوا الفتنة على أنفسهم أو دينهم. وامتحنه العبيديون بإخراجه منها وملازمة الفسطاط. (¬1) موقفه من الصوفية: - جاء في السير: أنبأنا ابن علان عن الخشوعي عن الطرطوشي أنه كتب هذه الرسالة جوابا عن سائل سأله من الأندلس عن حقيقة أمر مؤلف الإحياء، فكتب إلى عبد الله بن مظفر: سلام عليك فإني رأيت أبا حامد وكلمته فوجدته امرءا وافر الفهم والعقل وممارسة للعلوم، وكان ذلك معظم زمانه، ثم خالف عن طريق العلماء ودخل في غمار العمال، ثم تصوف فهجر العلوم وأهلها ودخل في علوم الخواطر وأرباب القلوب ووساوس الشيطان، ثم سابها وجعل يطعن على الفقهاء بمذاهب الفلاسفة ورموز الحلاج وجعل ينتحي عن الفقهاء والمتكلمين، ولقد كاد أن ينسلخ من الدين. قال الحافظ أبو محمد: إن محمد بن الوليد هذا، ذكر في غير هذه الرسالة: كتاب الإحياء. قال: وهو -لعمر الله أشبه بإماتة علوم الدين. ثم رجعنا إلى تمام الرسالة. ¬

(¬1) الفكر السامي (2/ 220).

قال: فلما عمل كتابه الإحياء، عمد فتكلم في علوم الأحوال ومرامز الصوفية، وكان غير أنيس بها ولا خبير بمعرفتها. فسقط على أم رأسه، فلا في علماء المسلمين قر، ولا في أحوال الزاهدين استقر، ثم شحن كتابه بالكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا أعلم كتابا على وجه بسيط الأرض أكثر كذبا على الرسول منه، ثم شبكه بمذاهب الفلاسفة ورموز الحلاج ومعاني رسائل إخوان الصفا وهم يرون النبوة اكتسابا، فليس النبي عندهم أكثر من شخص فاضل تخلق بمحاسن الأخلاق وجانب سفسافها، وساس نفسه حتى لا تغلبه شهوة، ثم ساق الخلق بتلك الأخلاق. وأنكروا أن يكون الله يبعث إلى الخلق رسولا، وزعموا أن المعجزات حيل ومخاريق. ولقد شرف الله الإسلام وأوضح حججه، وقطع العذر بالأدلة، وما مثل من نصر الإسلام بمذاهب الفلاسفة والآراء المنطقية إلا كمن يغسل الثوب بالبول، ثم يسوق الكلام سوقا يرعد فيه ويبرق ويمني ويشوق، حتى إذا تشوفت له النفوس قال: هذا من علم المعاملة وما وراءه من علم المكاشفة، لا يجوز تسطيره في الكتب ويقول: هذا من سر الصدر الذي نهينا عن إفشائه. وهذا فعل الباطنية وأهل الدغل والدخل في الدين، يستقل الموجود ويعلق النفوس بالمفقود، وهو تشويش لعقائد القلوب، وتوهين لما عليه كلمة الجماعة فلئن كان الرجل يعتقد ما سطره، لم يبعد تكفيره وإن كان لا يعتقده فما أقرب تضليله. وأما ما ذكرت من إحراق الكتاب، فلعمري إذا انتشر بين من لا معرفة له بسمومه القاتلة، خيف عليهم أن يعتقدوا إِذاً صحة ما فيه، فكان تحريقه في معنى ما حرقته الصحابة من صحف المصاحف التي تخالف

المصحف العثماني. (¬1) التعليق: يا من يقرؤون لدعاة التخريف في العصر الحاضر، اقرأوا كلمة عالم خبير، له معرفة بالعلوم الشرعية والباع الطويل. إذا تكلم في واحد منها يظن أنه لا يحسن غيره. ماذا يقول في كتاب إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي؟ هل تصدقه أو تصدق سعيد حوى في كتابه 'تربيتنا الروحية' وأمثاله كثير، والله المستعان. - جاء في الصاعقة المحرقة: سأله بعضهم فقال: ما تقول سيدنا الفقيه في مذهب الصوفية أنه يجتمع من الرجال فيكثرون من ذكر الله وذكر محمد - صلى الله عليه وسلم -، ثم إنهم يرقصون بالقضيب على شيء من الأديم، ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشيا عليه، ويحضرون شيئا يأكلونه. هل الحضور معهم جائز أم لا؟ أفتونا رحمكم الله. الجواب: رحمك الله، مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله، وأما الرقص والتواجد فأول ما أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار، قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون. فهو دين الكفار وعباد العجل. وأما القضيب فأول من اتخذه الزنادقة، ويشغلون به المسلمين (¬2) عن كتاب الله. ¬

(¬1) السير (19/ 494 - 496). (¬2) في الأصل المسلمون، والصواب ما أثبتناه.

موقفه من القدرية:

وإنما كان مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار. فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعوهم من الحضور في المساجد وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، ولا يعينهم على باطلهم. هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من المسلمين وبالله التوفيق. (¬1) موقفه من القدرية: ذكر حديث افتراق الأمة (¬2) ومثل بالقدرية فقال: وبيان ذلك بالمثال: أن القدر أصل من أصول البدع، ثم اختلف أهله في مسائل من شعب القدر، وفي مسائل لا تعلق لها بالقدر، فجميعهم متفقون أن أفعال العباد خلقٌ لهم من دون الله تعالى، ثم اختلفوا في فرع من فروع القدر: فقال أكثرهم: لا يكون فعل بين فاعلين! وقال بعضهم -وهو المِرْدار-: يجوز فعلٌ بين فاعلين مخلوقين على التولّد. وأحال مثله بين القديم والمُحدَث. ثم اختلفوا فيما لا يعود إلى القدر في مسائل كثيرة؛ كاختلافهم في الصلاح والأصلح: فقال البغداديون منهم: يجب على الله -تعالى عن قولهم- فعلُ الأصلح لعباده في دينهم ودنياهم، ولا يجوز في حكمته تبقية وجهٍ ممكن به الصلاح العاجل والآجل؛ إلا وعليه فعلُ أقصى ما يقدِرُ عليه في استصلاح عباده. قالوا: وواجبٌ على الله -تعالى- ابتداءُ الخلق الذين علم أنه يُكلِّفهم، ¬

(¬1) الصاعقة المحرقة (34). انظر المعيار المعرب (11/ 162 - 163). (¬2) تقدم تخريجه في مواقف الإمام أحمد سنة (241هـ).

أبو الوليد ابن رشد (520 هـ)

ويجب عليه إكمال عقولهم وأقدارهم، وإزاحة عللهم! وقال البصريون منهم: لا يجب على الله -تعالى- إكمال عقولهم، ولا أن يؤتيهم أسبابَ التكليف. وقال البغداديون منهم: يجب على الله -تعالى عن قولهم- عقاب العصاة إذا لم يتوبوا، والمغفرة من غير توبة سفهٌ من الغافر! وأبى البصريون ذلك. وابتدع جعفر بن مبشِّر من القدرية بدعةً، فقال: من استحضر امرأة ليتزوجها، فوثب عليها، فوطئها بلا وليّ ولا شهود ولا رضىً ولا عقد؛ حلّ له ذلك!. وخالفه في ذلك سَلَفه، وخالفه خَلَفُهُ. وقال ثُمامة بن أشرسَ: إن الله -تعالى- يُصيّر الكفار والملحدين وأطفال المشركين والمؤمنين والمجانين تراباً يوم القيامة؛ لا يُعذبهم، ولا يُعوّضهم! وقوله هذا في الكفار والملحدين خرقٌ لإجماع الأمة؛ من أهل الإثبات، وأهل القدر، وغيرهم. (¬1) أبو الوليد ابن رشد (¬2) (520 هـ) الإمام العلامة شيخ المالكية، قاضي الجماعة بقرطبة، أبو الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي المالكي جد ابن رشد الفيلسوف. ولد سنة ¬

(¬1) كتاب الحوادث والبدع (ص.34 - 35). (¬2) السير (19/ 501 - 502) وتاريخ الإسلام (35/ 443 - 444) والديباج المذهب (2/ 248 - 250) وشذرات الذهب (4/ 62) وشجرة النور الزكية (1/ 129).

موقفه من القدرية:

خمس وخمسين وأربعمائة. وتفقه بأبي جعفر أحمد بن رزق وسمع الجياني وأبا عبد الله بن فرج وأبا مروان بن سراج. وأجاز له أبو العباس بن دلهاث. قال ابن بشكوال: كان فقيها عالما، حافظا للفقه مقدما فيه على جميع أهل عصره، عارفا بالفتوى بصيرا بأقوال أئمة المالكية، نافذا في علم الفرائض والأصول، من أهل الرياسة في العلم والبراعة والفهم مع الدين والفضل والوقار والحلم والسمت الحسن. كانت الدراية أغلب عليه من الرواية كثير التصانيف. وله ثناء على أئمة الأشاعرة كما في مسائله (¬1). مات في ذي القعدة سنة عشرين وخمسمائة وصلى عليه ابنه أبو القاسم. موقفه من القدرية: له مواقف من القدرية والرد على ضلالهم حذا فيها حذو الأئمة الأعلام. - جاء في كتاب 'البيان والتحصيل': وسمعت مالكا يقول لرجل سألتني أمس عن القدر؟ فقال له الرجل: نعم، قال: يقول الله تعالى في كتابه: {وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (¬2) حقت كلمته ليملأن جهنم منهم، فلابد من أن يكون ما قال. قال محمد بن رشد: هذه الآية بينة في الرد على أهل القدر كما قال، ¬

(¬1) (1/ 716 - 718) (¬2) السجدة الآية (13).

وذلك أنهم يقولون إن الله تعالى أمر عباده بالطاعة وأرادها منهم ونهاهم عن المعصية ولم يردها منهم، فلم يكن ما أراد من الطاعة وكان ما لم يرد من المعصية، لأن العباد عندهم خالقون لأفعالهم بمشيئتهم وإرادتهم دون إرادة ربهم وخالقهم، وذلك ضلال بين وكفر صريح عند أكثر العلماء، لأنهم يلحقون العجز بالله تعالى في أن يكون ما لا يريد، ويريد ما لا يكون، والجهل به أيضا لأنهم إذا كانوا هم الخالقون لأفعالهم بمشيئتهم، فلا يعلم وقوعها منهم على قولهم حتى يفعلوها، وهذا كفر صريح وتكذيب لقوله تعالى في غير ما آية من كتابه، وذلك قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} (¬1) وقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} (¬2) وقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (¬3) وقال: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (¬4) وقال: {خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (¬5) وقال: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} (¬6) والآيات في الرد عليهم أكثر من أن تحصى وأبين من أن تخفى، وقد قال عون بن معمر سمعت سعيد ابن أبي عروبة وكان يترهب بمذهب أهل القدر يقول: ما في ¬

(¬1) يونس الآية (99). (¬2) الأنعام الآية (125). (¬3) الإنسان الآية (30). (¬4) الرعد الآية (16). (¬5) الصافات الآية (96). (¬6) الملك الآية (14).

القرآن آية أشد علي من قوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} (¬1) قال: فقلت القرآن يشق عليك؟ والله لا أكلمك أبدا فما كلمته حتى مات، فرحم الله عون بن معمر، والآثار في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - متواترة لا تحصى، من ذلك قوله: «كل شيء بقدر» (¬2)، وقوله: «لا تسأل المرأة طلاق أختها ولتنكح فإنما لها ما قدر لها» (¬3) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون»، فقال رجل ففيم العمل؟ فقال رسول الله: «إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار» (¬4)، وقول آدم لموسى في حديث محاجته: أفتلومني على أمر قد قدر علي قبل أن أخلق (¬5) وبالله التوفيق. (¬6) ¬

(¬1) الأعراف الآية (155) .. (¬2) انظر تخريجه في مواقف ابن عبد البر سنة (463هـ). (¬3) تقدم في مواقف ابن عبد البر سنة (463هـ). (¬4) أحمد (4/ 186) من حديث عبد الرحمن بن قتادة وصححه ابن حبان (2/ 50/338) والحاكم (1/ 31) ووافقه الذهبي وذكره الهيثمي (7/ 186) وقال: "رواه أحمد ورجاله ثقات"، وفي الباب عن عدة من الصحابة كأنس وأبي موسى وحكيم بن حزام وأبي سعيد وابن عمر ومعاذ وغيرهم. (¬5) تقدم في مواقف هارون الرشيد سنة (193هـ). (¬6) البيان والتحصيل (16/ 365 - 367).

- وقال: سئل مالك عن القدرية فقال قوم سوء فلا تجالسوهم، قيل ولا نصلي وراءهم؟ قال: نعم، وقال سحنون: كان ابن غانم يقول في كراهية مجالسة أهل الأهواء: أرأيت لو أن أحدكم قعد إلى سارق في كمه بضاعة أما كان يختزنها منه خوفا أن يغتاله فيها فلا يجد بدا أن يقول نعم، قال: فدينكم أولى بأن تحرزوه وتتحفظوا به. وسئل عن الرجل يكون بينه وبين الرجل من أهل القدر في ذلك منازعة حتى يبقى يأتيه القدري فيأخذ بيده وتتصل إليه، فقال: إن كان جاء نازعا تاركا لذلك فليقبل منه ذلك وليكلمه وإن لم يكن جاء لذلك فإني أراه في سعة من ترك كلامه، قيل له: إنه قديتشبت ويتعلق ويأخذ بيدي ويسألني الكلام؟ فقال: لا أرى بأسا أن يترك كلامه. قال محمد بن رشد: قول مالك في هذه الرواية في أهل القدر إنهم قوم سوء فلا يجالسوا ولا يصلي وراءهم، نص منه على أنهم لا يكفروا باعتقادهم خلاف ظاهر قوله في أول رسم من سماع ابن القاسم آية في كتاب الله أشد على أهل الاختلاف من أهل الأهواء من هذه الآية: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} (¬1) الآية، قال فأي كلام أبين من هذا، قال ابن القاسم: ورأيته تأولها على أهل الأهواء، فالقدرية عند عامة العلماء كفار، لأنهم نسبوا إلى الله تعالى العجز والجهل في قولهم إن الله لم يقدر المعاصي ولا الشر، وإن ذلك جار في خلقه وسلطانه بغير قدرته ولا إرادته، فنفوا القدرة والإرادة في ذلك ¬

(¬1) آل عمران الآية (106).

عن الله تعالى ونسبوها لأنفسهم حتى قال بعض طواغيتهم: إنه لو كان طفل على حاجز بين الجنة والنار لكان الله تعالى موصوفا بالقدرة على طرحه إلى الجنة وإبليس موصوفا بالقدرة على طرحه في النار، وأن الله لا يوصف بالقدرة على ذلك، وزعموا أن خلاف هذا كفر وشرك، وعند بعضهم قوم سوء ضلال؛ لأنهم خالفوا أهل السنة والجماعة في عقود الدين؛ لأن الله تعالى أضلهم وأغواهم ولم يرد هداهم وعمى بصائرهم عن الحق ولم يرد شرح صدورهم له كما قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ} (¬1) الآية وقد تواترت الآثار بإخراجهم عن الإسلام وإضافتهم إلى أصناف الكفر، من ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «القدرية مجوس هذه الأمة» (¬2) و «القدرية نصارى هذه الأمة» وقوله: «صنفان من أمتي ليس لهم نصيب في الإسلام المرجئة والقدرية» (¬3)، وقوله: «لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة القدرية لا تعودوهم إذا مرضوا، ولا تصلوا عليهم إذا ماتوا»، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «اتقوا هذه القدرية؛ فإنها شعبة من النصرانية» (¬4) ومن مثل هذا ونحوه كثير، وقد نهى مالك عن مجالستهم وإن لم يرهم كفارا بما لقولهم على هذه الرواية لوجوه ثلاثة، أحدها: أنهم إن لم يكونوا كفارا فهم زائغون ضلال يجب التبرؤ منهم وبغضهم في الله؛ لأن ¬

(¬1) الأنعام الآية (125). (¬2) تقدم في مواقف محمد بن الحسين الآجري سنة (360هـ). (¬3) تقدم في مواقف سفيان الثوري سنة (161هـ) .. (¬4) أخرجه بلفظ: «اتقوا هذا القدر ... » ابن أبي عاصم (1/ 146/332) واللالكائي (4/ 697/1128) وابن عدي (5/ 194) والطبراني (11/ 262/11680) كلهم من طريق نزار بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس، قال الهيثمي في المجمع (7/ 202): "وفيه نزار بن حيان وهو ضعيف"، وقال الشيخ الألباني: "ضعيف جدا" (الضعيفة 1786).

أبو العز القلانسي (521 هـ)

البغض في الله والحب فيه من الإيمان، وقد قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا} الآية، وهم ممن حاد الله ورسوله باعتقادهم الفاسد الذي خرجوا به عن الملة في قول كافة الأمة، والوجه الثاني: مخافة أن يعرض بنفسه سوء الظن بمجالستهم فيظن به أنه يميل إلى هواهم، والثالث: مخافة أن يستمع كلامهم فيدخل عليه شك في اعتقاده بشبههم وكفى من التحرير عن ذلك المثل الصحيح الذي ضربه مالك في رواية ابن غانم عنه ونهى عن الصلاة خلفهم على مقتضى هذه الرواية من أنهم كفار لأنهم وإن لم يكونوا كفارا هم زائغون ضلال ... (¬1) وردد ذلك مرارا كلما جاء ذكرهم كما في (17/ 265و503و575) و (18/ 149و210). (¬2) أبو العز القَلاَنِسِي (¬3) (521 هـ) الإمام الكبير شيخ القراء أبو العز محمد بن الحسين بن بندار الواسطي القلانسي، صاحب التصانيف في القراءات مقرئ العراق. ولد سنة خمس وثلاثين وأربعمائة. وتلا بالعشرة على أبي علي غلام الهراس، وأخذ أيضا عن أبي القاسم الهذلي، وأبي جعفر بن المسلمة، وقرأ ختمة لعاصم على أبي الفوارس الأواني. كان بصيرا بالقراءات وعللها وغوامضها عارفا بطرقها عالي ¬

(¬1) البيان والتحصيل (16/ 380 - 382). (¬2) من كتابه البيان والتحصيل. (¬3) المنتظم (10/ 8) والسير (19/ 496 - 498) وميزان الاعتدال (3/ 525) والوافي بالوفيات (3/ 4) وغاية النهاية (2/ 128 - 129) ومعرفة القراء الكبار (1/ 473 - 475) وشذرات الذهب (4/ 64).

موقفه من الرافضة:

الإسناد. وتصدر للإقراء دهرا ورحل إليه من الأقطار. قال السلفي: سألت خميسا الحوزي عن أبي العز، فقال: هو أحد الأئمة الأعيان في علوم القرآن، برع في القراءات، وسمع من جماعة، وهو جيد النقل ذو فهم فيما يقوله. توفي رحمه الله في شوال سنة إحدى وعشرين وخمسمائة بواسط. موقفه من الرافضة: - جاء في السير: قال السمعاني: قرأ عليه عالم من الناس، ورحل إليه من الأقطار، وسمعت عبد الوهاب الأنماطي يسيء الثناء عليه، ونسبه إلى الرفض، ثم وجدت لأبي العز أبياتا في فضيلة الصحابة. (¬1) - أنشد أبو العز القلانسي: إن من لم يقدم الصديقا ... لم يكن لي حتى الممات صديقا والذي لا يقول قولي في الفا ... روق أهوى لشخصه تفريقا وبنار الجحيم باغض عثما ... ن ويهوي منها مكانا سحيقا من يوالي عندي عليا وعادا ... هم جميعا عددته زنديقا (¬2) موقف السلف من المهدي بن تومرت (524 هـ) كان هذا الرجل قنبلة مشؤومة على العقيدة السلفية. ارتحل من المغرب ¬

(¬1) السير (19/ 497). (¬2) لسان الميزان (5/ 144).

إلى المشرق والتقى بعلماء أشاعرة مع ما تعلمه من مكر الشيعة الباطنية. فرجع إلى المغرب ونفسه تتشوق إلى الرئاسة وحب الظهور. فدخل المغرب وهو يحمل في رأسه كل حيلة ومكر وخداع. فادعى أنه الإمام المعصوم. واستخدم في ذلك أنواع الدجل حتى إنه يحكى عنه أنه كان يتفق مع مجموعة فينومهم في القبور ويأتيهم، ويأمرهم بالقيام من قبورهم فيخرجون، ثم يقتلهم حتى لا يخبرون عن دجله. وتذرع أيضا بعقيدة مزج فيها الأشعرية والاعتزال وسماها عقيدة الموحدين. وسمى العقيدة السلفية التي كان عليها المرابطون عقيدة التجسيم على عادة المبتدعة في تشويه العقيدة السلفية. جاء في السير: قال اليسع ابن حزم: سمى ابن تومرت المرابطين بالمجسمين، وما كان أهل المغرب يدينون إلا بتنزيه الله تعالى عما لا يجب وصفه بما يجب له، مع ترك خوضهم عما تقصر العقول عن فهمه ... فكفرهم ابن تومرت لجهلهم العرض والجوهر، وأن من لم يعرف ذلك لم يعرف المخلوق من الخالق، وبأن من لم يهاجر إليه ويقاتل معه فإنه حلال الدم والحريم، وذكر أن غضبه لله وقيامه حسبة. (¬1) جاء في المنهاج: وأصحاب ابن تومرت الذي ادعى أنه المهدي يقولون: إنه معصوم، ويقولون في خطبة الجمعة: الإمام المعصوم والمهدي المعلوم، ويقال: إنهم قتلوا بعض من أنكر أن يكون معصوما. ومعلوم أن كل هذه الأقوال مخالفة لدين الإسلام: للكتاب والسنة ¬

(¬1) السير (19/ 550 - 551).

وإجماع سلف الأمة وأئمتها. فإن الله تعالى يقول: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬1) الآية، فلم يأمرنا بالرد عند التنازع إلا إلى الله والرسول، فمن أثبت شخصا معصوما غير الرسول، أوجب رد ما تنازعوا فيه إليه، لأنه لايقول عنده إلا الحق كالرسول. وهذا خلاف القرآن. وأيضا فإن المعصوم تجب طاعته مطلقا بلا قيد، ومخالفه يستحق الوعيد. والقرآن إنما أثبت هذا في حق الرسول خاصة. قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} (¬2). وقال: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)} (¬3) فدل القرآن في غير موضع على أن من أطاع الرسول كان من أهل السعادة، ولم يشترط في ذلك طاعة معصوم آخر، ومن عصى الرسول كان من أهل الوعيد، وإن قدر أنه أطاع من ظن أنه معصوم، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي فرق الله به بين أهل الجنة وأهل النار، وبين الأبرار والفجار، وبين الحق والباطل، وبين الغي والرشاد، والهدى والضلال، وجعله القسيم الذي قسم الله به ¬

(¬1) النساء الآية (59). (¬2) النساء الآية (69). (¬3) الجن الآية (23).

عباده إلى شقي وسعيد، فمن اتبعه فهو السعيد، ومن خالفه فهو الشقي. وليست هذه المرتبة لغيره. ولهذا اتفق أهل العلم -أهل الكتاب والسنة- على أن كل شخص سوى الرسول فإنه يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى عليه وسلم، فإنه يجب تصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر، فإنه المعصوم الذي لاينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وهو الذي يسأل الناس عنه يوم القيامة كما قال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)} (¬1) وهو الذي يمتحن به الناس في قبورهم، فيقال لأحدهم: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ ويقال: ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، فيقول: هو عبد الله ورسوله، جاءنا بالبينات والهدى فّآمنا به واتبعناه. ولو ذكر بدل الرسول من ذكره من الصحابة والأئمة والتابعين والعلماء لم ينفعه ذلك، ولا يمتحن في قبره بشخص غير الرسول. (¬2) وجاء في السير: وسار ابن تومرت إلى أغمات، فنزلوا على الفقيه عبد الحق المصمودي، فأكرمهم، فاستشاروه، فقال: هنا لا يحميكم هذا الموضع، فعليكم بتينمل فهي يوم عنا، وهو أحصن الأماكن، فأقيموا به برهة كي ينسى ذكركم. فتجدد لابن تومرت بهذا الاسم ذكر لما عنده، فلما ¬

(¬1) الأعراف الآية (6). (¬2) المنهاج (6/ 189 - 191).

رآهم أهل الجبل على تلك الصورة، علموا أنهم طلبة علم، فأنزلوهم، وأقبلوا عليهم، ثم تسامع به أهل الجبل، فتسارعوا إليهم، فكان ابن تومرت من رأى فيه جلادة، عرض عليه ما في نفسه، فإن أسرع إليه، أضافه إلى خواصه، وإن سكت، أعرض عنه، وكان كهولهم ينهون شبانهم ويحذرونهم وطالت المدة، ثم كثر أتباعه من جبال درن، وهو جبل الثلج، وطريقه وعر ضيق. قال اليسع في 'تاريخه': لا أعلم مكانا أحصن من تينملل لأنها بين جبلين، ولا يصل إليهما إلا الفارس، وربما نزل عن فرسه في أماكن صعبة، وفي مواضع يعبر على خشبة، فإذا أزيلت الخشبة، انقطع الدرب، وهي مسافة يوم، فشرع أتباعه يغيرون ويقتلون، وكثروا وقووا، ثم غدر بأهل تينملل الذين آووه، وأمر خواصه، فوضعوا فيهم السيف، فقال له الفقيه الإفريقي أحد العشرة من خواصه: ما هذا؟! قوم أكرمونا وأنزلونا نقتلهم!! فقال لأصحابه: هذا شك في عصمتي، فاقتلوه فقتل. قال اليسع: وكل ما أذكره من حال المصامدة، فقد شاهدته، أو أخذته متواترا، وكان في وصيته إلى قومه إذا ظفروا بمرابط أو تلمساني أن يحرقوه. فلما كان عام تسعة عشر وخمس مائة، خرج يوما، فقال: تعلمون أن البشير -يريد الونشريسي- رجل أمي، ولا يثبت على دابة، فقد جعله الله مبشرا لكم، مطلعا على أسراركم، وهو آية لكم، قد حفظ القرآن، وتعلم الركوب، وقال: اقرأ، فقرأ الختمة في أربعة أيام، وركب حصانا وساقه، فبهتوا، وعدوها آية لغباوتهم، فقام خطيبا، وتلا: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ

الطَّيِّبِ} (¬1)، وتلا: {مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)} (¬2)، فهذا البشير مطلع على الأنفس، ملهم، ونبيكم - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن في هذه الأمة محدثين، وإن عمر منهم» (¬3) وقد صحبنا أقوام أطلعه الله على سرهم، ولا بد من النظر في أمرهم، وتيمم العدل فيهم، ثم نودي في جبال المصامدة: من كان مطيعا للإمام، فليأت، فأقبلوا يهرعون، فكانوا يعرضون على البشير، فيخرج قوما على يمينه، ويعدهم من أهل الجنة، وقوما على يساره، فيقول: هؤلاء شاكون في الأمر، وكان يؤتى بالرجل منهم، فيقول: هذا تائب ردوه على اليمين تاب البارحة، فيعترف بما قال، واتفقت له فيهم عجائب، حتى كان يطلق أهل اليسار، وهم يعلمون أن مآلهم إلى القتل، فلا يفر منهم أحد، وإذا تجمع منهم عدة، قتلهم قراباتهم حتى يقتل الأخ أخاه. قال: فالذي صح عندي أنهم قتل منهم سبعون ألفا على هذه الصفة، ويسمونه التمييز، فلما كمل التمييز، وجه جموعه مع البشير نحو أغمات، فالتقاهم المرابطون، فهزمهم المرابطون، وثبت خلق من المصامدة، فقتلوا، وجرح عمر الهنتاتي، عدة جراحات، فحمل على أعناقهم مثخنا، فقال لهم البشير: إنه لا يموت حتى تفتح البلاد، ثم بعد مدة، فتح عينيه، وسلم، فلما أتوا، عزاهم ابن تومرت، وقال: يوم بيوم، وكذلك حرب الرسل. (¬4) ¬

(¬1) الأنفال الآية (37). (¬2) آل عمران الآية (110). (¬3) أحمد (2/ 339) والبخاري (7/ 52/3689) والنسائي في الكبرى (5/ 40/8120) كلهم أخرجه من حديث أبي هريرة. وفي الباب من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬4) السير (19/ 544 - 547).

وفيها: قال عبد الواحد المراكشي: وكان جل ما يدعو إليه الاعتقاد على رأي الأشعري، وكان أهل الغرب ينافرون هذه العلوم، فجمع متولي فاس الفقهاء، وناظروه، فظهر، ووجد جوا خاليا، وقوما لا يدرون الكلام، فأشاروا على الأمير بإخراجه، فسار إلى مراكش، فبعثوا بخبره إلى ابن تاشفين، فجمع له الفقهاء، فناظره ابن وهيب الفيلسوف، فاستشعر ذكاءه وقوة نفسه، فأشار على ابن تاشفين بقتله، وقال: إن وقع إلى المصامدة، قوي شره، فخاف الله فيه، فقال: فاحبسه، قال: كيف أحبس مسلما لم يتعين لنا عليه حق؟ بل يسافر، فذهب ونزل بتينمل، ومنه ظهر، وبه دفن، فبث في المصامدة العلم، ودعاهم إلى الأمر بالمعروف، واستمالهم، وأخذ يشوق إلى المهدي، ويروي أحاديث فيه، فلما توثق منهم قال: أنا هو، وأنا محمد بن عبد الله، وساق نسبا له إلى علي، فبايعوه، وألف لهم كتاب 'أعز ما يطلب'، ووافق المعتزلة في شيء، والأشعرية في شيء، وكان فيه تشيع، ورتب أصحابه، فمنهم العشرة، فهم أول من لباه، ثم الخمسين، وكان يسميهم المؤمنين، ويقول: ما في الأرض من يؤمن إيمانكم، وأنتم العصابة الذين عنى النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «لا يزال أهل الغرب ظاهرين» (¬1) وأنتم تفتحون الروم، وتقتلون الدجال، ومنكم الذي يؤم بعيسى، وحدثهم بجزئيات اتفق وقوع أكثرها، فعظمت فتنة القوم به حتى قتلوا أبناءهم وإخوتهم لقسوتهم وغلظ طباعهم، وإقدامهم على الدماء، فبعث جيشا، وقال: اقصدوا هؤلاء المارقين المبدلين الدين، فادعوهم إلى إماتة المنكر وإزالة البدع، والإقرار بالمهدي ¬

(¬1) مسلم (3/ 1525/1925) من حديث سعد أبي وقاص ..

المعصوم، فإن أجابوا، فهم إخوانكم، وإلا فالسنة قد أباحت لكم قتالهم، فسار بهم عبد المؤمن يقصد مراكش، فالتقاه الزبير بن أمير المسلمين، فكلموهم بالدعوة، فردوا أقبح رد، ثم انهزمت المصامدة، وقتل منهم ملحمة، فلما بلغ الخبر ابن تومرت، قال: أنجى عبد المؤمن؟ قيل: نعم، قال: لم يفقد أحد، وهون عليهم، وقال: قتلاكم شهداء. (¬1) وفيها: وأهل العشرة هم: عبد المؤمن، والهزرجي، وعمر بن يحيى الهنتاتي، وعبد الله البشير، وعبد الواحد الزواوي طير الجنة، وعبد الله بن أبي بكر، وعمر بن أرناق، وواسنار أبو محمد، وإبراهيم بن جامع، وآخر. وفي أول سنة أربع وعشرين؛ جهز عشرين ألف مقاتل عليهم البشير، وعبد المؤمن بعد أمور يطول شرحها، فالتقى الجمعان، واستحر القتل بالموحدين، وقتل البشير، ودام الحرب إلى الليل، فصلى بهم عبد المؤمن صلاة الخوف، ثم تحيز بمن بقي إلى بستان يعرف بالبحيرة، فراح منهم تحت السيف ثلاثة عشر ألفا، وكان ابن تومرت مريضا، فأوصى باتباع عبد المؤمن، وعقد له، ولقبه أمير المؤمنين، وقال: هو الذي يفتح البلاد، فاعضدوه بأنفسكم وأموالكم، ثم مات في آخر سنة أربع وعشرين وخمس مائة. (¬2) وخلاصة القول إن ابن تومرت أحدث بدعا شنيعة لم تكن بأرض المغرب منها: 1 - فرض العقيدة الأشعرية الممزوجة بالاعتزال بالسيف؛ وقد تقدم قول اليسع. ¬

(¬1) السير (19/ 548 - 549). (¬2) السير (19/ 550).

القاضي أبو الحسين محمد بن أبي يعلى بن الفراء (526 هـ)

2 - بدعة المهدية والإمام المعصوم. 3 - بدعة الحزب بعد صلاة المغرب والصبح، وهذه البدعة ما تزال إلى يومنا هذا، وقد وضعت لها أوقاف في جميع بلاد المغرب. (¬1) 4 - بدعة "أصبح ولله الحمد" في الأذان، ومجموعة من البدع الأخرى. (¬2) القاضي أبو الحسين محمد بن أبي يعلى بن الفَرَّاء (¬3) (526 هـ) الإمام العلامة الفقيه القاضي، أبو الحسين محمد بن القاضي الكبير أبي يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن الفراء الحنبلي البغدادي. ولد سنة إحدى وخمسين وأربعمائة. سمع أباه، وأبا جعفر بن المسلمة، وأبا بكر الخطيب، وأبا المظفر هناد النسفي، وعدة. وأجاز له أبو محمد الجوهري، وتفقه بعد موت أبيه، وبرع وناظر، ودرس وصنف، وكان يبالغ في السنة، ويلهج بالصفة وجمع طبقات الفقهاء الحنابلة. حدث عنه السلفي، وابن عساكر، وأبو موسى المديني، ومظفر بن البري وعدة. قال ابن النجار: تميز وصنف في الأصلين والخلاف والمذهب وكان دينا ثقة حميد السيرة. قال ابن الجوزي: كان يبيت في داره بباب المراتب وحده، فعلم من كان يخدمه بأن له مالا فذبحوه ليلا، وأخذوا المال ليلة عاشوراء سنة ست وعشرين وخمسمائة، ثم وقعوا بهم فقتلوا. ¬

(¬1) انظر الاعتصام (2/ 585). (¬2) انظر الاعتصام (1/ 327). (¬3) المنتظم (17/ 274) والسير (19/ 601 - 602) والوافي بالوفيات (1/ 159 - 160) والبداية والنهاية (12/ 219) وذيل طبقات الحنابلة (1/ 176 - 177) وشذرات الذهب (4/ 79).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: آثاره السلفية: 1 - 'طبقات الحنابلة' وهو مطبوع مشهور. 2 - 'إيضاح الأدلة في الرد على الفرق الضالة المضلة'. 3 - 'الرد على زائفي الاعتقادات في منعهم من سماع الآيات'. 4 - 'شرف الاتباع وسرف الابتداع'. المصدر: ذيل طبقات الحنابلة. (¬1) - قال رحمه الله وهو يتحدث عن فضائل أحمد بن حنبل: الثالثة: أنه ما أحبه أحد -إما محب صادق، وإما عدو منافق- إلا وانتفت عنه الظنون، وأضيفت إليه السنن. ولا انزوى عنه رفضا، وأظهر له عنادا وبغضا، إلا واتفقت الألسن على ضلالته، وسفه في عقله وجهالته، وقد قدمنا قول الشافعي: من أبغض أحمد بن حنبل فقد كفر. (¬2) موقفه من الرافضة: له كتاب: تنزيه معاوية بن أبي سفيان. ذكره في ذيل طبقات الحنابلة. (¬3) موقفه من الجهمية: - قال السلفي: كان أبو الحسين متعصبا في مذهبه، وكان كثيرا ما ¬

(¬1) (1/ 177). (¬2) طبقات الحنابلة (1/ 15). (¬3) (1/ 177).

تاج الملوك (526 هـ)

يتكلم في الأشاعرة ويسمعهم، لا تأخذه في الله لومة لائم، وله تصانيف في مذهبه، وكان دينا ثقة ثبتا، سمعنا منه. (¬1) - قال القاضي أبو الحسين رحمه الله: حسبك لشيخي الإسلام، وإمامي الهدى، وخليفتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الهاديين الراشدين، وتوقفهما وإحجامهما عن تفسير آية من كتاب الله عز وجل، وهما أعلم الخلق بالله عز وجل، بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبرسوله، وبكتاب الله وتأويله، فماذا عسى أن نقول في جسارة المعتزلة، والأشاعرة، وبقية المتكلمين الضالين في تأويل صفات الرحمن عز وجل، التي نطق بها القرآن ونقلها الأئمة الأثبات، والعلماء الثقات؟ (¬2) - وقال: ومعتقدنا ومعتقد الوالد السعيد، ومن تقدمه من أئمتنا: مبني على حرفين: السكوت عن "لم؟ " في أفعاله عز وجل، وعن "كيف؟ " في أوصافه تبارك وتعالى. (¬3) تاج الملوك (¬4) (526 هـ) صاحب دمشق تاج الملوك بوري بن صاحب دمشق الأتابك طغتكين مولى السلطان تتش السلجوقي. كان ذا علم وحلم وكرم، له أثر كبير في قتل الإسماعيلية. ولد سنة ثمان وسبعين وأربعمائة. قال ابن الأثير: وكان ¬

(¬1) السير (19/ 602). (¬2) طبقات الحنابلة (2/ 148). (¬3) الطبقات (2/ 226). (¬4) السير (19/ 573 - 575) والكامل في التاريخ (10/ 679 - 680) والوافي بالوفيات (10/ 322) والبداية والنهاية (12/ 218) والنجوم الزاهرة (5/ 249) وشذرات الذهب (4/ 78).

موقفه من المشركين:

بوري كثير الجهاد شجاعا مقداما سد مسد أبيه وفاق عليه، وكان ممدحا، أكثر الشعراء مدائحه لا سيما ابن الخياط. توفي على إثر جرح اشتد عليه وأضعفه كان من تحايل الإسماعيلية على قتله فأصابه بعضهم بسكين، ثم توفي بعد في رجب سنة ست وعشرين وخمسمائة. موقفه من المشركين: - قال الذهبي: كان عجبا في الجهاد، لا يفتر من غزو الفرنج، ولو كان له عسكر كثير، لاستأصل الفرنج. (¬1) - جاء في السير: تملك بعد أبيه في صفر سنة اثنين وعشرين، وكان ذا حلم وكرم، له أثر كبير في قتل وزيره والإسماعيلية. ولما علم ابن صباح صاحب الألموت بما جرى على أشياعه الإسماعيلية بدمشق، تنمر، وندب طائفة لقتل تاج الملوك، فعين اثنين بشربوشين في زي الجند، ثم قدما، فاجتمعا بناس منهم أجناد، وتحيلا على أن صارا من السلحدانة، وضمنوهما، ثم وثبا عليه فقتلاه. قال أبو يعلى ابن القلانسي: وثبوا عليه في خامس جمادى الآخرة سنة خمس وعشرين، فضربه الواحد بالسيف قصد رأسه، فجرحه في رقبته جرحا سليما، وضربه الآخر بسكين في خاصرته، فمرت بين الجلد واللحم. (¬2) ¬

(¬1) السير (19/ 575). (¬2) السير (19/ 574).

أبو الحسن ابن الزاغوني (527 هـ)

أبو الحسن ابن الزَّاغُونِي (¬1) (527 هـ) الإمام العلامة، شيخ الحنابلة، ذو الفنون، أبو الحسن علي بن عبيد الله ابن نصر بن عبيد الله بن سهل بن الزاغوني البغدادي، صاحب التصانيف. ولد سنة خمس وخمسين وأربعمائة. وسمع من أبي جعفر بن المسلمة، وعبد الصمد بن المأمون، وابن النقور، وعدد كثير. وعني بالحديث وقرأ الكثير. حدث عنه السلفي، وابن ناصر وابن عساكر، وابن الجوزي وعدة. وكان من بحور العلم، كثير التصانيف، يرجع إلى دين وتقوى وزهد وعبادة. قال الذهبي: كان إماما فقيها، متبحرا في الأصول والفروع، متفننا، واعظا، مناظرا، ثقة، مشهورا بالصلاح. قال ابن الجوزي: مات في سابع عشر المحرم سنة سبع وعشرين وخمسمائة. موقفه من الجهمية: قال ابن الزاغوني في قصيدة له: إني سأذكر عقد ديني صادقا ... نهج ابن حنبل الإمام الأوحد منها: عال على العرش الرفيع بذاته ... سبحانه عن قول غاو ملحد (¬2) ¬

(¬1) المنتظم (18/ 278 - 279) والكامل في التاريخ (11/ 9) وتاريخ الإسلام (حوادث 521 - 530/ص.154 - 156) والسير (19/ 605 - 607) وشذرات الذهب (4/ 80 - 81). (¬2) السير (19/ 606).

مردنيش المغربي (527 هـ)

مَرْدَنِيش المغربي (¬1) (527 هـ) محمد الجذامي أبو عبد الله مردنيش المغربي الزاهد المجاهد، ولمردنيش مغازي ومواقف مشهودة وفضائل، وهو جد الملك محمد بن سعد بن محمد صاحب شرق الأندلس. كان معه عدة رجال أبطال يغير بهم يمنة ويسرة وكانوا يحرثون على خيلهم كما يحرث أهل الثغر، وكان أمير المسلمين ابن تاشفين يمدهم بالمال والآلات ويبرهم. توفي سنة سبع وعشرين وخمسمائة. موقفه من المشركين: جاء في السير: فمن عجيب ما صح عندي من مغازيه -يقول ذلك اليسع بن حزم- أنه أغار يوما، فغنم غنيمة كثيرة، واجتمع عليه من الروم أكثر من ألف فارس، فقال لأصحابه وكانوا ثلاث مئة فارس: ما ترون؟ فقالوا: نشغلهم بترك الغنيمة. فقال: ألم يقل القائل: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (¬2) فقال له ابن مورين: يا رئيس، الله قال هذا. فقال: الله يقول هذا وتقعدون عن لقائهم؟ قال: فثبتوا، فهزموا الروم. (¬3) ¬

(¬1) المنتظم (17/ 278 - 279) والكامل في التاريخ (11/ 9) وتاريخ الإسلام (حوادث 521 - 530/ص.154 - 156) والسير (19/ 605 - 607) وشذرات الذهب (4/ 80 - 81). (¬2) الأنفال الآية (65). (¬3) السير (20/ 233).

المسترشد بالله (529 هـ)

المسترشد بالله (¬1) (529 هـ) المسترشد بالله الفضل بن المستظهر بالله أبو منصور أمير المؤمنين. ولد في شعبان سنة ست وثمانين وأربعمائة في أيام المقتدي. سمع في سنة أربع وتسعين من أبي الحسن ابن العلاف وسمع من أبي القاسم بن بيان ومن مؤدبه أبي البركات ابن السيبي. روى عنه وزيره علي بن طراد وحمزة ابن علي الرازي وإسماعيل بن الملقب. له خط بديع ونثر صنيع ونظم جيد مع دين ورأي وشهامة وشجاعة، وكان خليقا للإمامة قليل النظير. كان يتنسك في أول زمنه، وختم القرآن وتفقه. لم يكن في الخلفاء من كتب أحسن منه وكان يستدرك على كتابه، ويصلح أغاليط في كتبهم. ألب عليه الباطنية جماعة من الملاحدة فقتلوه في يوم الخميس سادس عشر ذي القعدة سنة تسع وعشرين وخمسمائة. موقفه من المشركين: - قال ابن النجار: أنشدنا هبة الله بن الحسن بن السبط حفظا للمسترشد بالله: قالوا تقيم وقد أحا ... ط بك العدو ولا تفر فأجبتهم المرء ما لم ... يتعظ بالوعظ غر لا نلت خيرا ما حييت ... ولا عداني الدهر شر إن كنت أعلم أن غير ... الله ينفع أو يضر ¬

(¬1) السير (19/ 561 - 568) والمنتظم (17/ 294 - 299) والكامل في التاريخ (11/ 27 - 28) والعبر (2/ 71) والبداية والنهاية (12/ 222 - 224) وشذرات الذهب (4/ 86 - 88).

وله: أنا الأشقر الموعود بي في الملاحم ... ومن يملك الدنيا بغير مزاحم ستبلغ أرض الروم خيلي وتنتضى ... بأقصى بلاد الصين بيض صوارمي وقيل: إنه قال لما أسر مستشهدا: ولا عجبا للأسد إن ظفرت بها ... كلاب الأعادي من فصيح وأعجم فحربة وحشي سقت حمزة الردى ... وموت علي من حسام ابن ملجم (¬1) - قتل الباطنية له: نقل ابن كثير ما حدث بين الخليفة المسترشد بالله والسلطان مسعود ثم قال: فلما كان مستهل ذي الحجة جاءت الرسل من جهة الملك سنجر إلى ابن أخيه يستحثه على الإحسان إلى الخليفة، وأن يبادر إلى سرعة رده إلى وطنه، وأرسل مع الرسل جيشا ليكونوا في خدمة الخليفة إلى بغداد فصحب الجيش عشرة من الباطنية، فلما وصل الجيش حملوا على الخليفة فقتلوه في خيمته وقطعوه قطعا، ولم يلحق الناس منه إلا الرسوم، وقتلوا معه أصحابه منهم عبيد الله بن سكينة، ثم أخذ أولئك الباطنية فأحرقوا قبحهم الله، وقيل: إنهم كانوا مجهزين لقتله فالله أعلم. (¬2) ¬

(¬1) السير (19/ 562 - 563). (¬2) البداية والنهاية (12/ 223).

أبو جعفر الهمذاني (531 هـ)

أبو جعفر الهَمذَانِي (¬1) (531 هـ) أبو جعفر محمد بن أبي علي الحسن بن محمد الهمذاني، الحافظ الصدوق، رحل وروى عن ابن النقور وأبي صالح المؤذن، والفضل بن المحب وطبقتهم بخراسان والعراق والحجاز والنواحي. قال ابن السمعاني: ما أعرف أن أحدا في عصره سمع أكثر منه. توفي في ذي القعدة سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة. موقفه من الجهمية: نقل الذهبي في العلو عن أبي جعفر بن أبي علي قال: سمعت أبا المعالي الجويني وقد سئل عن قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (¬2) فقال: كان الله ولا عرش -وجعل يتخبط في الكلام- فقلت: قد علمنا ما أشرت إليه، فهل عندك للضرورات من حيلة؟ فقال: ما نريد بهذا القول، وما تعني بهذه الإشارة؟ فقلت: ما قال عارف قط يا رباه إلا قبل أن يتحرك لسانه، قام من باطنه قصد لا يلتفت يمنة ولا يسرة يقصد الفوق، فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة؟ فنبئنا نتخلص من الفوق ومن التحت، وبكيت وبكى الخلق، فضرب الأستاذ بكمه على السرير وصاح: يا للحيرة، وخرق ما كان عليه وانخلع، وصارت قيامة في المسجد، ونزل، ولم يجبني إلا: يا حبيبي الحيرة الحيرة، والدهشة الدهشة. فسمعت بعد ذلك أصحابه يقولون: ¬

(¬1) العبر (2/ 75) وشذرات الذهب (4/ 97) وتاريخ الإسلام (حوادث 531 - 540/ص.251 - 252) والسير (20/ 101 - 102). (¬2) طه الآية (5).

محمد بن عبد الملك الكرجي (532 هـ)

سمعناه يقول: حيرني الهمذاني. (¬1) محمد بن عبد الملك الكَرَجِي (¬2) (532 هـ) محمد بن عبد الملك بن محمد أبو الحسن الكرجي، فقيه، محدث، مفسر أديب، شاعر، ولد سنة ثمان وخمسين وأربعمائة بالكرج، وسمع بها، وبهمذان وأصبهان وبغداد، ومن شيوخه في الحديث مكي بن علان الكرجي وأبو القاسم علي بن أحمد الرزازة، وأبو علي محمد بن سعيد بن نبهان وغيرهم. وروى عنه ابن السمعاني وأبو موسى المدني وجماعة، وصنف تصانيف كثيرة، منها: الفصول في اعتقاد الأئمة الفحول، وتفسير ومؤلف في الفقه الشافعي، وكان لا يقنت في الفجر، ويقول: لم يصح في ذلك حديث، وقد كان إمامنا الشافعي، يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي، واضربوا بقولي الحائط. وقد كان حسن الصورة، جميل المعاشرة، قال ابن السمعاني: رأيته بالكرج، إمام، ورع، فقيه، مفت، محدث، خير، أديب شاعر. أفنى عمره في جمع العلم ونشره. توفي سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة. موقفه من المبتدعة: - قال شيخ الإسلام رحمه الله في مجموع الفتاوى: ومن ذلك: ما ذكره شيخ الحرمين: أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي في كتابه الذي سماه ¬

(¬1) مختصر العلو (ص.276 - 277). (¬2) المنتظم (17/ 331 - 332) وطبقات الشافعية (4/ 81 - 86) والبداية والنهاية (12/ 229) وشذرات الذهب (4/ 100) ومعجم المؤلفين (10/ 258) وتاريخ الإسلام (حوادث 531 - 540/ص.294 - 296).

'الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول إلزاما لذوي البدع والفضول' وكان من أئمة الشافعية -ذكر فيه من كلام الشافعي، ومالك، والثوري، وأحمد بن حنبل، والبخاري -صاحب الصحيح- وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك، والأوزاعي، والليث بن سعد، وإسحق بن راهويه في أصول السنة ما يعرف به اعتقادهم. وذكر في تراجمهم ما فيه تنبيه على مراتبهم ومكانتهم في الإسلام، وذكر أنه اقتصر في النقل عنهم -دون غيرهم- لأنهم هم المقتدى بهم والمرجوع شرقا وغربا إلى مذاهبهم، ولأنهم أجمع لشرائط القدوة والإمامة من غيرهم، وأكثر لتحصيل أسبابها وأدواتها: من جودة الحفظ والبصيرة، والفطنة والمعرفة بالكتاب والسنة، والإجماع والسند والرجال، والأحوال، ولغات العرب، ومواضعها، والتاريخ، والناسخ والمنسوخ، والمنقول والمعقول، والصحيح، والمدخول في الصدق، والصلابة، وظهور الأمانة، والديانة ممن سواهم. قال: وإن قصر واحد منهم في سبب منها جبر تقصيره قرب عصره من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، باينوا هؤلاء بهذا المعنى من سواهم، فإن غيرهم من الأئمة -وإن كانوا في منصب الإمامة- لكن أخلوا ببعض ما أشرت إليه مجملا من شرائطها، إذ ليس هذا موضعا لبيانها. قال: ووجه ثالث لا بد من أن نبين فيه، فنقول: إن في النقل عن هؤلاء إلزاما للحجة على كل من ينتحل مذهب إمام يخالفه في العقيدة، فإن أحدهما لا محالة يضلل صاحبه، أو يبدعه، أو يكفره، فانتحال مذهبه -مع مخالفته له في العقيدة- مستنكر، والله شرعا وطبعا، فمن قال: أنا شافعي الشرع، أشعري الاعتقاد،

قلنا له: هذا من الأضداد، لا بل من الارتداد، إذ لم يكن الشافعي أشعري الاعتقاد. ومن قال: أنا حنبلي في الفروع، معتزلي في الأصول، قلنا: قد ضللت إذا عن سواء السبيل فيما تزعمه، إذ لم يكن أحمد معتزلي الدين والاجتهاد. قال: وقد افتتن أيضا خلق من المالكية بمذاهب الأشعرية، وهذه والله سبة وعار، وفلتة تعود بالوبال والنكال وسوء الدار، على منتحل مذاهب هؤلاء الأئمة الكبار، فإن مذهبهم ما رويناه من تكفيرهم: الجهمية، والمعتزلة والقدرية والواقفية، وتكفيرهم اللفظية. وبسط الكلام في مسألة اللفظ، إلى أن قال: فأما غير ما ذكرناه من الأئمة: فلم ينتحل أحد مذهبهم، فلذلك لم نتعرض للنقل عنهم. قال: فإن قيل: فهلا اقتصرتم إذا على النقل عمن شاع مذهبه وانتحل اختياره من أصحاب الحديث، وهم الأئمة: الشافعي، ومالك، والثوري، وأحمد، إذ لا نرى أحدا ينتحل مذهب الأوزاعي والليث وسائرهم؟ قلنا: لأن من ذكرناه من الأئمة -سوى هؤلاء- أرباب المذاهب في الجملة، إذ كانوا قدوة في عصرهم، ثم اندرجت مذاهبهم الآخرة تحت مذاهب الأئمة المعتبرة. وذلك أن ابن عيينة كان قدوة، ولكن لم يصنف في الذي كان يختاره من الأحكام، وإنما صنف أصحابه، وهم الشافعي، وأحمد وإسحق، فاندرج مذهبه تحت مذاهبهم. وأما الليث بن سعد فلم يقم أصحابه بمذهبه، قال الشافعي: لم يرزق الأصحاب إلا أن قوله يوافق قول مالك أو قول الثوري لا يخطئهما، فاندرج مذهبه تحت مذهبهما. وأما الأوزاعي فلا نرى له في أعم المسائل قولا إلا ويوافق قول مالك أو قول

الثوري، أو قول الشافعي: فاندرج اختياره أيضا تحت اختيار هؤلاء، وكذلك اختيار إسحق يندرج تحت مذهب أحمد لتوافقهما. قال: فإن قيل: فمن أين وقعت على هذا التفصيل والبيان في اندراج مذاهب هؤلاء تحت مذاهب الأئمة؟ قلت: من التعليقة للشيخ أبي حامد الاسفرائيني، التي هي ديوان الشرائع، وأم البدائع: في بيان الأحكام، ومذاهب العلماء الأعلام، وأصول الحجج العظام، في المختلف والمؤتلف. قال: وأما اختيار أبي زرعة، وأبي حاتم في الصلاة والأحكام -مما قرأته وسمعته من مجموعيهما- فهو موافق لقول أحمد ومندرج تحته وذلك مشهور. وأما البخاري فلم أر له اختيارا، ولكن سمعت محمد بن طاهر الحافظ يقول: استنبط البخاري في الاختيارات مسائل موافقة لمذهب أحمد وإسحاق. فلهذه المعاني نقلنا عن الجماعة الذين سميناهم دون غيرهم، إذ هم أرباب المذاهب في الجملة، ولهم أهلية الاقتداء بهم لحيازتهم شرائط الإمامة، وليس من سواهم في درجتهم، وإن كانوا أئمة كبراء قد ساروا بسيرهم. ثم ذكر بعد ذلك الفصل الثاني عشر: في ذكر خلاصة تحوي مناصيص الأئمة بعد أن أفرد لكل منهم فصلا- قال: لما تتبعت أصول ما صح لي روايته، فعثرت فيها بما قد ذكرت من عقائد الأئمة، فرتبتها عند ذلك على ترتيب الفصول التي أثبتها، وافتتحت كل فصل بنيف من المحامد، يكون لإمامتهم إحدى الشواهد، داعية إلى اتباعهم، ووجوب وفاقهم، وتحريم خلافهم وشقاقهم، فإن اتباع من ذكرناه من الأئمة في الأصول في زماننا بمنزلة اتباع الإجماع الذي يبلغنا عن الصحابة والتابعين، إذ لا يسع مسلما

خلافه، ولا يعذر فيه فإن الحق لا يخرج عنهم، لأنهم الأدلاء، وأرباب مذاهب هذه الأمة، والصدور والسادة، والعلماء القادة، أولوا الدين والديانة، والصدق والأمانة، والعلم الوافر، والاجتهاد الظاهر، ولهذا المعنى اقتدوا بهم في الفروع، فجعلوهم فيها وسائل بينهم وبين الله، حتى صاروا أرباب المذاهب في المشارق والمغارب، فليرضوا كذلك بهم في الأصول فيما بينهم وبين ربهم وبما نصوا عليه ودعوا إليه. قال: فإنا نعلم قطعا أنهم أعرف قطعا بما صح من معتقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من بعده، لجودة معارفهم وحيازتهم شرائط الإمامة ولقرب عصرهم من الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، كما بيناه في أول الكتاب. قال: ثم أردت -ووافق مرادي سؤال بعض الإخوان- أن أذكر خلاصة مناصيصهم متضمنة بعض ألفاظهم. فإنها أقرب إلى الحفظ، وهي اللباب لما ينطوي عليه الكتاب، فاستعنت بمن عليه التكلان، وقلت: إن الذي آثرناه من مناصيصهم يجمعه فصلان: أحدهما: في بيان السنة وفضلها. والثاني: في هجران البدعة وأهلها. أما الفصل الأول: فاعلم أن السنة طريقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والتسنن بسلوكها وإصابتها، وهي أقسام ثلاثة: أقوال، وأعمال، وعقائد. فالأقوال: نحو الأذكار والتسبيحات المأثورة. والأفعال: مثل سنن الصلاة والصيام والصدقات المذكورة، ونحو السير المرضية، والآداب المحكية، فهذان القسمان في عداد التأكيد والاستحباب، واكتساب الأجر والثواب. والقسم الثالث:

سنة العقائد، وهي من الإيمان إحدى القواعد. قال: وهاأنذا أذكر بعون الله خلاصة ما نقلته عنهم مفرقا، وأضيف إليه ما دون في كتب الأصول مما لم يبلغني عنهم مطلقا، وأرتبها مرشحة، وببعض مناصيصهم موشحة، بأوجز لفظ على قدر وسعي، ليسهل حفظه على من يريد أن يعي، فأقول: ليعلم المستن أن سنة العقائد على ثلاثة أضرب: ضرب يتعلق بأسماء الله، وذاته، وصفاته. وضرب يتعلق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبه ومعجزاته، وضرب يتعلق بأهل الإسلام في أولاهم وأخراهم. أما الضرب الأول: فلنعتقد أن لله أسماء وصفات قديمة غير مخلوقة، جاء بها كتابه، وأخبر بها الرسول أصحابه، فيما رواه الثقات، وصححه النقاد الأثبات، ودل القرآن المبين والحديث الصحيح المتين على ثبوتها. قال رحمه الله تعالى: وهي أن الله تعالى أول لم يزل، وآخر لا يزال، أحد قديم وصمد كريم، عليم حليم علي عظيم، رفيع مجيد، وله بطش شديد، وهو يبدئ ويعيد، فعال لما يريد، قوي قدير، منيع نصير، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (¬1) إلى سائر أسمائه وصفاته من النفس، والوجه، والعين، والقدم، واليدين، والعلم، والنظر، والسمع، والبصر، والإرادة، والمشيئة، والرضى، والغضب، والمحبة، والضحك، والعجب، والاستحياء، والغيرة، والكراهة، والسخط، والقبض، والبسط، والقرب، والدنو، والفوقية والعلو والكلام، والسلام، والقول، والنداء والتجلي واللقاء والنزول، ¬

(¬1) الشورى الآية (11).

والصعود والاستواء، وأنه تعالى في السماء، وأنه على عرشه بائن من خلقه. قال مالك: إن الله في السماء وعلمه في كل مكان، وقال عبد الله بن المبارك: نعرف ربنا فوق سبع سمواته على العرش بائنا من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية: إنه ههنا- وأشار إلى الأرض وقال سفيان الثوري: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (¬1) قال: علمه. قال الشافعي: إنه على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء، قال أحمد: إنه مستو على العرش عالم بكل مكان، وإنه ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا كيف شاء، وإنه يأتي يوم القيامة كيف شاء، وإنه يعلو على كرسيه، والإيمان بالعرش والكرسي وما ورد فيهما من الآيات والأخبار. ثم ذكر الأدلة من السنة على ذلك ثم قال: إلى غيرها من الأحاديث، هالتنا أو لم تهلنا، بلغتنا أو لم تبلغنا، اعتقادنا فيها وفي الآي الواردة في الصفات: أنا نقبلها ولا نحرفها ولا نكيفها، ولا نعطلها ولا نتأولها، وعلى العقول لا نحملها، وبصفات الخلق لا نشبهها، ولا نعمل رأينا وفكرنا فيها، ولا نزيد عليها ولا ننقص منها بل نؤمن بها ونكل علمها إلى عالمها، كما فعل ذلك السلف الصالح، وهم القدوة لنا في كل علم. روينا عن إسحاق أنه قال: لا نزيل صفة مما وصف الله بها نفسه، أو وصفه بها الرسول عن جهتها، لا بكلام ولا بإرادة، إنما يلزم المسلم الأداء ويوقن بقلبه أن ما وصف الله به نفسه في القرآن إنما هي صفاته، ولا يعقل نبي مرسل، ولا ملك مقرب تلك ¬

(¬1) الحديد الآية (4).

موقفه من الجهمية:

الصفات إلا بالأسماء التي عرفهم الرب عز وجل. فأما أن يدرك أحد من بني آدم تلك الصفات فلا يدركه أحد. وكما روينا عن مالك، والأوزاعي وسفيان، والليث وأحمد بن حنبل أنهم قالوا في الأحاديث في الرؤية والنزول: أمروها كما جاءت وكما روي عن محمد بن الحسن -صاحب أبي حنيفة- أنه قال في الأحاديث التي جاءت: «إن الله يهبط إلى السماء الدنيا» (¬1) ونحو هذا من الأحاديث: إن هذه الأحاديث قد رواها الثقات، فنحن نرويها ونؤمن بها. ولا نفسرها انتهى كلام الكرجي رحمه الله. (¬2) موقفه من الجهمية: هذا الإمام كان من كبار سيوف السنة المهندين، أعطاه الله قوة البيان وفصاحة اللسان وقوة البلاغة، يعرف ذلك من قرأ له الأبيات التي سنذكرها إن شاء الله، وهذا الإمام من الأئمة الذين أغضبوا الشيخ النجدي -الكوثري- وحمل عليهم، فذكره في السيف الصقيل بأبشع الألقاب، وأما ابن السبكي فلا تسأل عن حماقته وتأويله البارد ورده السمج على القصيدة الرائعة التي تسمى عروس القصائد. وهي من خيرة الآثار التي خلفها الشيخ. وهاك نزرا يسيرا منها: جاء في طبقات الشافعية: ثم قال ابن السمعاني وله قصيدة تائية في السنة شرح فيها اعتقاده واعتقاد السلف تزيد على مائتي بيت، قرأتها عليه في داره بالكرج. ¬

(¬1) تقدم من حديث أبي هريرة. انظر مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ). (¬2) مجموع الفتاوى (4/ 175 - 186).

ثم قال السبكي: فاعلم أنا وقفنا على قصيدة تعزى إلى هذا الشيخ وتلقب بـ: عروس القصائد في شموس العقائد. منها: عقائدهم أن الإله بذاته ... على عرشه مع علمه بالغوائب ومنها: ففي كرج والله من خوف أهلها ... يذوب بها البدعي يا شر ذائب يموت ولا يقوى لإظهار بدعة ... مخافة جز الرأس من كل جانب ومنها: طرائق تجسيم وطرق تجهم ... وسبل اعتزال مثل نسج العناكب وفي قدر والرفض طرق عمية ... وما قيل في الإرجاء من نعب ناعب وخبث مقال الأشعري تخنث ... يضاهي تلويه تلوى الشغازب يزين هذا الأشعري مقاله ... ويشبه بالسم يا شر آشب فينفي تفاصيلا ويثبت جملة ... كناقضة من بعد شد الذوائب يؤول آيات الصفات برأيه ... فجرأته في الدين جرأة خارب ويجزم بالتأويل في سنن الهدى ... ويخلب أغمارا فاسئم بخالب ومنها: ولم يك ذا علم ودين وإنما ... بضاعته كانت مخوق مداعب وكان كلاميا بالأحشاء موته ... تأسوا بموت ماته ذو السوائب

ومنها: كذا كل رأس للضلالة قد مضى ... بقتل وصلب باللحى والشوارب كجعد وجهم والمريسي بعده ... وذا الأشعري المبتلى شر دائب ومنها: معايبهم توفي على مدح غيرهم ... وذا المبتلى المفتون عيب المعايب (¬1) التعليق: انظر رحمك الله إلى هذا النفس السلفي القوي في هذه الأبيات، ثم انظر إلى أول الأبيات، كيف يعبر الشيخ عن حالة السلفيين في بلاده كرج، وأنهم أهل البلاد، وأن المبتدعة أذلة خاسئون، وأنه بمجرد ظهورهم تجز رؤوسهم، فكانت البدع مقموعة، وانقلب الحال والله المستعان. وذكر رؤوس المبتدعة وأوصافهم وعاقبة أمرهم، غير أن ذكر الشيخ للأشعري بتلك الأوصاف التي لا يحق أن يرمى بها بعد أن نبذ التأويل ورجع إلى مذهب السلف، فلعل الشيخ لم تبلغه توبته فقال فيه ما قال. وللشيخ كتاب مهم بين فيه عقيدة السلف ومذاهبهم سماه الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول إلزاما لذوي البدع والفضول، ذكره شيخ الإسلام في غير ما موضع من كتبه، ونقل منه جملة كبيرة. انظر مجموع الفتاوى. (¬2) وكذلك الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية قال رحمه الله: وله ¬

(¬1) طبقات الشافعية (4/ 82 - 85). (¬2) (4/ 175 - 186).

إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي الأصبهاني (535 هـ) الملقب بـ 'قوام السنة'

مصنفات كثيرة منها 'الفصول في اعتقاد الأئمة الفحول'، يذكر فيه مذاهب السلف في باب الاعتقاد. (¬1) إسماعيل بن محمد بن الفضل التَّيْمِي الأصبهاني (¬2) (535 هـ) الملقب بـ 'قوام السنة' الإمام، العلامة، الحافظ، شيخ الإسلام، أبو القاسم، إسماعيل بن محمد ابن الفضل التيمي الأصبهاني الملقب بقوام السنة، مصنف الترغيب والترهيب. ولد سنة سبع وخمسين وأربعمائة. سمع: أبا عمرو عبد الوهاب بن أبي عبد الله ابن منده، وعائشة بنت الحسن، وسليمان بن إبراهيم الحافظ، وغيرهم بأصبهان، وخلقا ببغداد وبنيسابور وسمع بمكة، وجاور سنة، وأملى وصنف وجرح وعدل. حدث عنه أبو سعد السمعاني، وأبو العلاء الهمذاني، وأبو طاهر السلفي، وأبو القاسم ابن عساكر، وأبو موسى المديني وغيرهم. قال أبو موسى المديني: أبو القاسم إسماعيل الحافظ، إمام أئمة وقته وأستاذ علماء عصره، وقدوة أهل السنة في زمانه، وكان أبوه صالحا ورعا، وأمه كانت من ذرية طلحة بن عبيد الله التيمي، أحد العشرة رضي الله عنهم. وقال أيضا: ولا أعلم أحدا عاب عليه قولا ولا فعلا، ولا عانده أحد إلا نصره الله. وكان نزه النفس عن المطامع، لا يدخل على السلاطين، ولا على من اتصل بهم، قد ¬

(¬1) (12/ 229). (¬2) السير (20/ 80 - 88) والأنساب (3/ 368 - 369) والمنتظم (18/ 10) والكامل في التاريخ (11/ 80) وتذكرة الحفاظ (4/ 1277 - 1282) والوافي بالوفيات (9/ 211) والبداية والنهاية (12/ 233) وشذرات الذهب (4/ 105 - 106).

موقفه من المبتدعة:

أخلى دارا من ملكه لأهل العلم مع خفة ذات يده، ولو أعطاه الرجل الدنيا بأسرها لم يرتفع عنده، وقال الحافظ يحيى بن منده: كان أبو القاسم حسن الاعتقاد، جميل الطريقة، قليل الكلام، ليس في وقته مثله. توفي سنة خمس وثلاثين وخمسمائة. موقفه من المبتدعة: - قال رحمه الله: وحين رأيت قوام الإسلام بالتمسك بالسنة، ورأيت البدعة قد كثرت، والوقيعة في أهل السنة قد فشت، ورأيت اتباع السنة عند قوم نقيصة، والخوض في الكلام درجة رفيعة، رأيت أن أملي كتابا في السنة يعتمد عليه من قصد الاتباع وجانب الابتداع، وأبين فيه اعتقاد أئمة السلف وأهل السنة في الأمصار، والراسخين في العلم في الأقطار، ليلزم المرء اتباع الأئمة الماضين، ويجانب طريقة المبتدعين، ويكون من صالحي الخلف لصالحي السلف، وسميته كتاب 'الحجة في بيان المحجة وشرح التوحيد ومذهب أهل السنة'. أعاذنا الله من مخالفة السنة ولزوم الابتداع، وجعلنا ممن يلزم طريق الاتباع وصلى الله على محمد أفضل صلاة وأزكاها وأطيبها وأنماها، وأحيانا على ملته، وأماتنا على سنته، وحشرنا في زمرته، إنه المنعم الوهاب. (¬1) - وقال رحمه الله: قوله: ما أنا عليه وأصحابي (¬2) الذي كان عليه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ما مضى عليه أئمة الدين المشهورون في الآفاق. (¬3) ¬

(¬1) الحجة في بيان المحجة (1/ 83 - 84). (¬2) تقدم تخريجه ضمن مواقف الآجري سنة (360هـ). (¬3) الحجة في بيان المحجة 1/ 109).

- وقال: ثم من السنة ترك الرأي والقياس في الدين، وترك الجدال والخصومات، وترك مفاتحة القدرية وأصحاب الكلام، وترك النظر في كتب الكلام وكتب النجوم، فهذه السنة التي اجتمعت عليها الأئمة، وهي مأخوذة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمر الله تبارك وتعالى قال الله عز وجل: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (¬1) وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (¬2)، وقال: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬3). فأمر الله عز وجل رسوله بالبلاغ فقال: {* يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (¬4) فبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرسالة، ودعا إلى الله عز وجل بالكتاب والسنة، فأمر الناس باتباع الصحابة العالمين بالله، وأولي الأمر من العلماء من بعدهم لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (¬5). فأفضل العلماء بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أولي الأمر: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم، ثم الأكابر فالأكابر من العشرة وغيرهم من الصحابة الذين أبان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضائلهم، وأمر ¬

(¬1) التغابن الآية (12). (¬2) النساء الآية (80). (¬3) الحشر الآية (7). (¬4) المائدة الآية (67). (¬5) النساء الآية (59).

بالاقتداء بهم، فقال عليه السلام: «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر». (¬1) وقال عليه السلام: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم». (¬2) فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السنة عن الله عز وجل، وأخذ الصحابة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخذ التابعون عن الصحابة وهؤلاء الصحابة الذين أشار إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء بهم، ثم أشار الصحابة إلى التابعين بعدهم. (¬3) - وقال: فمن نظر بعين الإنصاف، علم أنه لا يكون أحد أسوأ مذهبا ممن يدع قول الله وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقول الصحابة رضوان الله عليهم، وقول العلماء والفقهاء بعدهم، ممن يبني مذهبه ودينه على كتاب الله تعالى، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتبع من ليس بعالم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، كيف لا يأمن أن يكون متبعا للشيطان أعاذنا الله من متابعة الشيطان. (¬4) - وقال: ولا يجوز مجالسة أهل المعاصي الذين ظهر فسقهم، ولا مجالسة أهل البدع الذين ظهرت بدعهم، ولا يجوز دخول الحمام إلا بمئزر، والحب في الله والبغض في الله من الإيمان. (¬5) - وقال: ومن صفة أهل السنة الأخذ بكتاب الله عز وجل، وبأحاديث ¬

(¬1) أحمد (5/ 382و385و402) والترمذي (5/ 569/3662) وابن ماجه (1/ 37/97) وابن حبان (15/ 327 - 328/ 6902) والحاكم (3/ 75) من طرق عن ربعي بن حراش عن حذيفة مرفوعا. قال الترمذي: "حديث حسن، وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه". وقال الحاكم بعد ذكره طرق هذا الحديث: "فثبت بما ذكرنا صحة هذا الحديث"، ووافقه الذهبي .. (¬2) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي عثمان الصابوني سنة (449هـ). (¬3) الحجة في بيان المحجة (1/ 235 - 237). (¬4) الحجة في بيان المحجة (1/ 311). (¬5) الحجة في بيان المحجة (2/ 267).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبأحاديث أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وترك الرأي والابتداع. (¬1) - وقال: قال أهل اللغة: السنة: السيرة والطريقة. فقولهم فلان على السنة ومن أهل السنة، أي هو موافق للتنزيل والأثر في الفعل والقول، ولأن السنة لا تكون مع مخالفة الله ومخالفة رسوله. فإن قيل كل فرقة تنتحل اتباع السنة، وتنسب مخالفيها إلى خلاف الحق، فما الدليل على أنكم أهلها دون من خالفكم؟ قلنا: الدليل على ذلك قول الله تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬2). فأمر باتباعه وطاعته فيما أمر ونهى. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي» (¬3)، و «من رغب عن سنتي فليس مني». (¬4) وعرفنا سنته بالآثار المروية بالأسانيد الصحيحة، وهذه الفرقة الذين هم أصحاب الحديث لها أطلب، وفيها أرغب ولصحاحها أتبع. فعلمنا بالكتاب والسنة أنهم أهلها دون سائر الفرق لأن مدعي كل صناعة إذا لم يكن معه دلالة من صناعته يكون مبطلا في دعواه، وإنما يستدل على صناعته كل صاحب صنعة بآلته فإذا رأيت الرجل فتح باب دكانه، وبين يديه الكير، ¬

(¬1) الحجة في بيان المحجة (2/ 269). (¬2) الحشر الآية (7). (¬3) تقدم تخريجه ضمن مواقف اللالكائي سنة (418هـ). (¬4) أحمد (3/ 241و259) والبخاري (9/ 129/5063) ومسلم (2/ 1020/1401) والنسائي (6/ 368 - 369/ 3217) من حديث أنس.

والمطرقة، والسندان، علمت أنه حداد، وإذا رأيت بين يديه الإبرة، والمقراض علمته أنه خياط، وكذلك ما أشبه هذا، ومتى قال صاحب التمر لصاحب العطر: أنا عطار. قال له: كذبت، أنا هو وشهد له بذلك كل من أبصره من العامة. وقد وجدنا أصحابنا دخلوا في طلب الآثار التي تدل على سنن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذوها من معادنها وجمعوها من مظانها وحفظوها، ودعوا إلى اتباعها. وعابوا من خالفها وكثرت عندهم وفي أيديهم، حتى اشتهروا بها كما اشتهر البزاز ببزه، والتمار بتمره والعطار بعطره، ورأينا قوما تنكبوا معرفتها واتباعها، وطعنوا فيها وزهدوا الناس في جمعها ونشرها، وضربوا لها ولأهلها أسوأ الأمثال، فعلمنا بهذه الدلائل أن هؤلاء الراغبين فيها، وفي جمعها، وحفظها، واتباعها أولى بها من سائر الفرق الذين تنكبوها لأن الإتباع عند العلماء هو الأخذ بسنن النبي - صلى الله عليه وسلم - التي صحت عنه التي أمر بالأخذ بما أمر، والانتهاء عما نهى وهذه دلالة ظاهرة لأهل السنة باستحقاقهم هذا الاسم دون من اتبع الرأي والهوى. فإن قيل: الأمر كما قلت، غير أن كل فرقة تحتج لمذهبها بحجة، قيل: من احتج بحديث ضعيف في معارضة حديث صحيح، أو حديث مرسل في معارضة حديث مسند، أو احتج بقول تابعي في معارضة قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتساويان. فإن من اتبع قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد استمسك بما هو الحجة قطعا، ومن احتج بالثابت القوي أحسن حالا ممن احتج بالواهي الضعيف، وبهذا استبان الاتباع من غيره، لأن صاحب السنة لا يتبع إلا ما هو الأقوى،

وأصحاب الأهواء وصاحب الهوى يتبع ما يهوى. (¬1) - وقال: قال بعض علماء السنة: كل من صح عنده شيء من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونهيه، صغيره وكبيره، بلا معارض له يعرفه من حديثه أو ناسخ له، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا، وأنا أقول بخلافه؛ فقد تكلم بعظيم، وإن كان ذلك الشيء مما لا يضل الرجل بتركه؛ لأن أدنى معاندة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أدنى شيء من أمره ونهيه عظيم، فمن قبل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنما يقبل عن الله، ومن رد عليه؛ فإنما يرد على الله، قال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (¬2). وقول من قال: تعرض السنة على القرآن؛ فإن وافقت ظاهره وإلا استعملنا ظاهر القرآن وتركنا الحديث، فهذا جهل؛ لأن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع كتاب الله عزوجل تقام مقام البيان عن الله عزوجل، ليس شيء من سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخالف كتاب الله؛ لأن الله عزوجل أعلم خلقه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهدي إلى صراط مستقيم فقال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} (¬3)؛ وليس لنا مع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأمر شيء إلا الاتباع والتسليم، ولا يعرض على قياس، ولا غيره، وكل ما سواها من قول الآدميين تبع لها، ولا عذر لأحد يتعمد ترك السنة، ويذهب إلى غيرها؛ لأنه لا حجة لقول أحد مع قول ¬

(¬1) الحجة في بيان المحجة (2/ 384 - 386). (¬2) النساء الآية (80). (¬3) الشورى الآية (52).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صح. فإذا لم يوجد في الحادثة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء ووجد فيها عن أصحابه رضي الله عنهم شيء فهم الأئمة بعده والحجة، اعتبارا بكتاب الله وبأخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما وصفهم في كتابه من الخير والصدق والأمانة، وأنه رضي الله عنهم وعن من اتبعهم بإحسان وقال: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (¬1) واختلف المفسرون في أولي الأمر فقال بعضهم: هم العلماء، وقال بعضهم: هم الأمراء، وكل هذا قد اجتمع في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان فيهم الأمراء، والخلفاء، والعلماء والفقهاء. قال الله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (¬2) أخبر الله عزوجل أنه رضي الله عنهم ورضي أعمالهم ورضي عمن اتبعهم بإحسان، فهم القدوة في الدين بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإصابة الحق وأقربهم إلى التوفيق لما يقرب إلى رضاه، وكذلك وصفهم الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (¬3).اهـ (¬4) - وقال: وينبغي للمرء أن يحذر محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، ¬

(¬1) النساء الآية (59). (¬2) التوبة الآية (100). (¬3) أخرجه: أحمد (1/ 434) والبخاري (5/ 324/2652) ومسلم (4/ 1963/2533 [212]) والترمذي (5/ 652/3859) وابن ماجه (2/ 791/2362) عن ابن مسعود. (¬4) الحجة في بيان المحجة (2/ 397 - 399)

والسنة إنما هي التصديق لآثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وترك معارضتها بكيف، ولم، والكلام والخصومات في الدين، والجدال محدث وهو يوقع الشك في القلوب، ويمنع من معرفة الحق والصواب، وليس العلم بكثرة الرواية، وإنما هو الاتباع، والاستعمال. يقتدى بالصحابة، والتابعين وإن كان قليل العلم، ومن خالف الصحابة والتابعين فهو ضال وإن كان كثير العلم. (¬1) - وقال: قال بعض علماء أهل السنة: نحن لا نرى الكلام، والخوض في الدين والمراء والخصومات، فمهما وقع الخلاف في مسألة رجعنا إلى كتاب الله عزوجل، وإلى سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإلى قول الأئمة، فإن لم نجد ذلك في كتاب الله، ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقله الصحابة والتابعون، سكتنا عن ذلك ووكلنا علمه إلى الله تعالى، لأن الله تعالى أمرنا بذلك فقال عز من قائل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬2).اهـ (¬3) - وقال: وعلى المرء محبة أهل السنة، أي موضع كانوا رجاء محبة الله له، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وجبت محبتي للمتاحبين فيّ والمتجالسين فيّ والمتلاقين فيّ» (¬4)، وعليه بغض أهل البدع أي موضع كانوا حتى يكون ممن ¬

(¬1) الحجة في بيان المحجة (2/ 437 - 438). (¬2) النساء الآية (59). (¬3) الحجة في بيان المحجة (2/ 452). (¬4) أخرجه أحمد (5/ 247) ومالك في الموطأ (2/ 953 - 954) وابن حبان (2/ 335/575) والطبراني ... (20/ 80 - 81/ 150،152،153) والحاكم (4/ 168،169،170) من طرق عن أبي ادريس الخولاني عن معاذ بن جبل قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: «قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في والمتزاورين في» وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين" ووافقه الذهبي.

موقفه من الرافضة:

أحب في الله وأبغض في الله، ولمحبة أهل السنة علامة، ولبغض أهل البدعة علامة. فإذا رأيت الرجل يذكر مالك بن أنس، وسفيان بن سعيد الثوري، وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وعبد الله بن المبارك، ومحمد بن إدريس الشافعي، والأئمة المرضيين بخير، فاعلم أنه من أهل السنة. وإذا رأيت الرجل يخاصم في دين الله ويجادل في كتاب الله فإذا قيل له: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: حسبنا كتاب الله، فاعلم أنه صاحب بدعة، وإذا رأيت الرجل إذا قيل له لم لا تكتب الحديث؟ يقول: العقل أولى، فاعلم أنه صاحب بدعة، وإذا رأيته يمدح الفلسفة والهندسة ويمدح الذين ألفوا الكتب فيها فاعلم أنه ضال، وإذا رأيت الرجل يسمي أهل الحديث حشوية، أو مشبهة، أو ناصبة فاعلم أنه مبتدع، وإذا رأيت الرجل ينفي صفات الله، أو يشبهها بصفات المخلوقين فاعلم أنه ضال. قال علماء أهل السنة: ليس في الدنيا مبتدع إلا وقد نزع حلاوة الحديث من قلبه. (¬1) موقفه من الرافضة: عقد رحمه الله في كتابه 'الحجة' فصولا في فضل الصحابة رضي الله عنهم خصوصا الخلفاء الأربعة، ومعاوية وعائشة، وحث على حبهم رضوان الله عليهم ونشر محاسنهم والترحم عليهم والاستغفار لهم والكف عن مساوئهم. (¬2) ¬

(¬1) الحجة في بيان المحجة (2/ 500 - 501). (¬2) انظر الحجة في بيان المحجة (2/ 319 - 378).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: - جاء في الحجة في بيان المحجة: قال بعض علماء أهل السنة: ويجب الإيمان بصفات الله تعالى كقوله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (¬1)، وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (¬2) وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (¬3)، وقوله: {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ} (¬4)، وقوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} (¬5). وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ينزل الله كل ليلة إلى سماء الدنيا» (¬6) رواه ثلاثة وعشرون من الصحابة، سبعة عشر رجلا وست نساء. وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن». (¬7) فهذا وأمثاله مما صح نقله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن مذهبنا فيه ومذهب السلف إثباته وإجراؤه على ظاهره ونفي الكيفية والتشبيه عنه، وقد نفى قوم الصفات فأبطلوا ما أثبته الله تعالى، وتأولها قوم على خلاف الظاهر، فخرجوا من ذلك إلى ضرب من التعطيل والتشبيه، والقصد إنما هو سلوك الطريقة المتوسطة بين الأمرين؛ لأن دين الله تعالى بين الغالي والمقصر عنه. والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، ¬

(¬1) طه الآية (5). (¬2) ص الآية (75). (¬3) القمر الآية (14). (¬4) النور الآية (9). (¬5) البينة الآية (8). (¬6) تقدم من حديث أبي هريرة. انظر مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ). (¬7) تقدم تخريجه. انظر مواقف سفيان بن عيينة سنة (198هـ).

وإثبات الله تعالى إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فإذا قلنا يد، وسمع، وبصر، ونحوها؛ فإنما هي صفات أثبتها الله لنفسه ولم يقل: معنى اليد القوة، ولا معنى السمع والبصر: العلم والإدراك، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار، ونقول إنما وجب إثباتها؛ لأن الشرع ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (¬1)، كذلك قال علماء السلف في أخبار الصفات: أمروها كما جاءت. فإن قيل: فكيف يصح الإيمان بما لا يحيط علمنا بحقيقته؟ أو كيف يتعاطى وصف شيء لا درك له في عقولنا؟ فالجواب، أن إيماننا صحيح بحق ما كلفنا منها، وعلمنا محيط بالأمر الذي ألزمناه فيها وإن لم نعرف لما تحتها حقيقة كافية، كما قد أمرنا أن نؤمن بملائكة الله وكتبه ورسله واليوم الآخر، والجنة ونعيمها، والنار وأليم عذابها، ومعلوم أنا لا نحيط علما بكل شيء منها على التفصيل، وإنما كلفنا الإيمان بها جملة واحدة، ألا ترى أنا لا نعرف أسماء عدة من الأنبياء وكثير من الملائكة، ولا يمكننا أن نحصي عددهم، ولا أن نحيط بصفاتهم، ولا نعلم خواص معانيهم، ثم لم يكن ذلك قادحا في إيماننا بما أمرنا أن نؤمن به من أمرهم. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في صفة الجنة: يقول الله تعالى: «أعددت لعبادي ¬

(¬1) الشورى الآية (11).

الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» (¬1).اهـ (¬2) - وفيها: قال بعض علماء أهل السنة: أما بعد فإني وجدت جماعة من مشائخ السلف وكثيرا ممن تبعهم من الخلف ممن عليهم المعتمد في أبواب الديانة، وبهم القدوة في استعمال السنة قد أظهروا ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (2/ 466) والبخاري (6/ 391 - 392/ 3244) ومسلم (4/ 2174/2824) والترمذي (5/ 323/3197) وابن ماجه (2/ 1447/4328) كلهم من حديث أبي هريرة. (¬2) الحجة في بيان المحجة (1/ 287 - 289).

اعتقادهم، وما انطوت عليه ضمائرهم في معاني السنن ليقتدي بهم المقتفي، وذلك حين فشت البدع في البلدان وكثرت دواعيها في الزمان، فحينئذ وقع الاضطرار إلى الكشف والبيان ليهتدي بها المسترشد في الخلف، كما فاز لها من مضى من السلف، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتقين، وأن يعصمنا من اختراع المبتدعين، وأنا أذكر بتوفيق الله تعالى جماعة من أئمتنا من السلف ممن شرعوا في هذه المعاني فمنهم أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري فإنه قد أظهر اعتقاده، ومذهبه في السنة في غير موضع، وقد أملاه على شعيب بن حرب. ومنهم أبو محمد سفيان بن عيينة الهلالي فإنه قد أجاب في اعتقاده حين سئل عنه كما رواه محمد بن إسحاق الثقفي، ومنهم أبو عمرو عبد الرحمن ابن عمرو الأوزاعي إمام أهل الشام فإنه قد أظهر اعتقاده في زمانه، ورواه ابن إسحاق الفزاري. ومنهم أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك إمام خراسان، والفضيل بن عياض، ووكيع بن الجراح، ويوسف بن أسباط، قد أظهروا اعتقادهم، ومذاهبهم بالسنن، ومنهم شريك بن عبد الله النخعي، ويحيى بن سعيد القطان، وأبو إسحاق الفزاري، ومنهم أبو عبد الله مالك بن أنس الأصبحي المديني إمام دار الهجرة وفقيه الحرمين فانه قد أظهر اعتقاده في باب الإيمان والقرآن، ومنهم أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي المطلبي سيد الفقهاء في زمانه، ومنهم أبو عبيد القاسم بن سلام، والنضر بن شميل، وأبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي من تلاميذ الشافعي، أظهر اعتقاده حين ظهرت المحنة في باب القرآن، ومنهم أبو عبد الله أحمد بن حنبل سيد أهل الحديث في زمانه، وأفضل من تورع في عصره وأوانه، قد أظهر اعتقاده ودعا الناس إليه وثبت في المحنة، وبالغ فيه غاية المبالغة، ومنهم الشيخ الزاهد الفاضل زهير بن نعيم البابي السجستاني، له اعتقاد في رسالة كتبها إلى بعض إخوانه. ثم ذكر طائفة من العلماء ممن ألف في الاعتقاد، إلى أن قال رحمه الله: وكان أبو أحمد بن أبي أسامة القرشي الهروي من أفاضل من بخراسان من العلماء والفقهاء أملى اعتقادا له قال: وينبغي لمن من الله بعلم الهداية والكرامة بالسنة ممن بقي من الخلف القدوة ممن مضى من السلف، وأن مذهبنا ومذهب أئمتنا من أهل الأثر: أن نقول أن الله عز وجل أحد لا شريك له، ولا ضد له ولا ند له ولا شبيه له، إلها واحدا أحدا صمدا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ولم يشرك في حكمه أحدا. قال: ونؤمن بصفاته أنه كما وصف نفسه في كتابه المنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، ونؤمن بما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صفاته جل جلاله بنقل العدول، والأسانيد المتصلة التي

اجتمع عليها أهل المعرفة بالنقل أنها صحيحة ثابتة عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، ونطلقها بألفاظها كما أطلقها، وتعتقد عليها ضمائرنا بصدق وإخلاص أنها كما قال - صلى الله عليه وسلم -، ولا نكيف صفات الله عز وجل، ولا نفسرها تفسير أهل التكييف والتشبيه، ولا نضرب لها الأمثال، بل نتلقاها بحسن القبول تصديقا، ونطلق ألفاظها تصريحا، كما قال الله عز وجل في كتابه، وكما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونقول: إن صفات الله عز وجل كلها غير مخلوقة، ليس من كلامه وعلمه وصفاته شيء مخلوق، جل الله تعالى عن صفات المخلوقين. والكيف عن صفات الله مرفوع. ونقول كما قال السلف من أهل العلم الزهري وغيره: على الله البيان، وعلى رسول الله البلاغ، وعلينا التسليم، ونؤدي أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سمعنا، ولا نقول في صفات الله كما قالت الجهمية والمعطلة، بل نثبت صفات الله تعالى بإيمان وتصديق. قال الأوزاعي: أقروا أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمروها كما جاءت. وقال سفيان الثوري: إني لآخذ الحديث على ثلاثة أوجه: آخذ الحديث على وجه أتخذه دينا، ومن وجه آخر لا أتركه وأتحرج أن أتخذه دينا أو فقها، وآخذه من وجه لا أتخذه دينا، وإنما آخذه لأعرفه. (¬1) - وقال رحمه الله أيضا: أجمع المسلمون أن القرآن كلام الله، وإذا صح أنه كلام الله صح أنه صفة لله تعالى، وأنه عز وجل موصوف به، وهذه الصفة لازمة لذاته. تقول العرب: زيد متكلم، فالمتكلم صفة له، إلا أن ¬

(¬1) الحجة في بيان المحجة (2/ 473 - 477).

موقفه من المرجئة:

حقيقة هذه الصفة الكلام، وإذا كان كذلك، كان القرآن كلام الله وكانت هذه الصفة لازمة له أزلية. والدليل على أن الكلام لا يفارق المتكلم، أنه لو كان يفارقه لم يكن للمتكلم إلا كلمة واحدة، فإذا تكلم بها لم يبق له كلام، فلما كان المتكلم قادرا على كلمات كثيرة بعد كلمة، دل على أن تلك الكلمات فروع لكلامه الذي هو صفة له ملازمة. والدليل على أن القرآن غير مخلوق: أنه كلام الله، وكلام الله سبب إلى خلق الأشياء. قال الله عز وجل: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)} (¬1). أي أردنا خلقه، وإيجاده، وإظهاره. فقوله: كن، كلام الله وصفته، والصفة التي منها يتفرع الخلق والفعل وبها يتكون المخلوق لا تكون مخلوقة، ولا يكون مثلها للمخلوق. (¬2) موقفه من المرجئة: - قال رحمه الله: ويجوز الزيادة والنقصان في الإيمان، وزيادته بفعل الطاعات، ونقصانه بتركها، وفعل المعاصي، خلافا لمن قال: الإيمان معرفة القلب وتصديقه، وهما عرضان من الأعراض، والزيادة والنقصان لا تجوز على الأعراض. (¬3) - وقال: ولا يتساوى إيمان جميع المكلفين من الملائكة والأنبياء ومن دونهم من الشهداء والصديقين، بل يتفاضلون بقدر رتبهم في الطاعات خلافا ¬

(¬1) النحل الآية (40). (¬2) الحجة في بيان المحجة (2/ 193). (¬3) الحجة في بيان المحجة (1/ 405).

موقفه من القدرية:

لمن قال: الإيمان هو التصديق بالقلب، وإنما يقع التفاضل في العلم بأصناف أدلته، وقد ذكرنا أن الطاعات من الإيمان. (¬1) - ثم قال: ويكره لمن حصل منه الإيمان أن يقول: أنا مؤمن حقا ومؤمن عند الله، ولكن يقول: أنا مؤمن أرجو أو مؤمن إن شاء الله، أو يقول: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله، وليس هذا على طريق الشك في إيمانه، لكنه على معنى أنه لا يضبط أنه قد أتى بجميع ما أمر به، وترك جميع ما نهي عنه، خلافا لقول من قال: إذا علم من نفسه أنه مؤمن جاز أن يقول: أنا مؤمن حقا. (¬2) موقفه من القدرية: - قال مبينا وهاء حجج القدرية: قد تمسك أهل القدر بآيات جهلوا معانيها، وحملوها على غير وجوهها، وجعلوها ذريعة لبدعتهم، وأهوائهم، ومعانيها عند أهل الحق ظاهرة على ما يوافق العقائد الصحيحة، منها قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (¬3). وفي قراءة عبد الله: (وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك) وقيل في التفسير: القول هنا مضمر كأنه قال: (ويقولون ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك). ويدل على هذا قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ ¬

(¬1) الحجة في بيان المحجة (1/ 406). (¬2) الحجة في بيان المحجة (1/ 408 - 409). (¬3) النساء الآية (79).

محمد بن عبد الباقي البغدادي (535 هـ)

الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)} (¬1). وقيل نزلت على سبب: وهو ما فعل الرماة يوم أحد من إخلالهم بالمكان الذي أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بملازمته. فالحسنة ما أصابوا من القتل والسبي والغنائم من الكفار. والسيئة ما أصيب منهم من القتل والجرح. ونحن إن جعلنا أفعال العباد من الله خلقا ومشيئة وتقديرا، فهي من العباد فعل وكسب. وبهذا المعنى صحت إضافة الأفعال إلى العباد وتحققت منهم الأعمال. وقد ورد في الكتاب الدلائل على كل واحد من هذين، فاتبعنا القرآن وجرينا معه بما دل عليه من أن الأعمال مخلوقة لله تعالى مكتسبة من العباد. فالآية الأولى وهي قوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} دلت على أنها من الله خلقا وتقديرا وقضاء. والآية الثانية دلت على أنها من العباد كسبا وفعلا. وعلى هذا يحمل جميع ما ورد في القرآن من تحقيق أعمال العباد، وإثبات أفعالهم، وإضافتهم إليهم. (¬2) محمد بن عبد الباقي البغدادي (¬3) (535 هـ) الشيخ الإمام محمد بن عبد الباقي بن محمد، أبو بكر الأنصاري الكعبي ¬

(¬1) النساء الآية (78). (¬2) الحجة في بيان المحجة (2/ 62 - 64). (¬3) المنتظم (18/ 13 - 15) والأنساب (5/ 495) وتاريخ دمشق (54/ 68 - 70) والكامل في التاريخ (11/ 80) والسير (20/ 23 - 28) وذيل طبقات الحنابلة (1/ 192 - 198) ولسان الميزان (5/ 241 - 243).

موقفه من المشركين:

البغدادي البصري البزاز، قاضي المرستان. كان أبوه يعرف بصهر هبة المقرئ، وكان شيخا صالحا محدثا. ولد الشيخ أبو بكر سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة. سمعه أبوه من أبي إسحاق البرمكي وعلي بن عيسى الباقلاني وغيرهما وسمع بمصر من أبي إسحاق الحبال، وأجاز له أبو القاسم التنوخي وأبو الفتح بن شيطا المقرئ وأبو عبد الله القضاعي. وروى عنه أبو القاسم ابن عساكر وأبو سعد السمعاني وابن الجوزي وأبو موسى المديني وغيرهم. قال ابن الجوزي: وكان حسن الصورة، حلو المنطق، مليح المعاشرة. وقال أيضا: وكان ثقة فهما ثبتا حجة متفننا في علوم كثيرة، متفردا في علم الفرائض. وقال ابن السمعاني: كان أسند شيخ بقي على وجه الأرض، وكانت إليه الرحلة من الأقطار. عارفا بالعلوم، متقنا حسن الكلام، ما رأيت أجمع للفنون منه، نظر في كل علم، وبرع في الحساب والفرائض. توفي رحمه الله سنة خمس وثلاثين وخمسمائة، وله بضع وتسعون سنة. موقفه من المشركين: جاء في ذيل طبقات الحنابلة: قال ابن السمعاني: وسمعته يقول: أسرتني الروم، وبقيت في الأسر سنة ونصفا، وكان خمسة أشهر الغل في عنقي، والسلاسل على يدي ورجلي. وكانوا يقولون لي: قل المسيح ابن الله، حتى نفعل ونصنع في حقك، فامتنعت وما قلت. (¬1) ¬

(¬1) ذيل الطبقات (3/ 193).

عبد الوهاب بن عبد الواحد الشيرازي (536 هـ)

عبد الوهاب بن عبد الواحد الشيرازي (¬1) (536 هـ) الشيخ الإمام، العلامة، الواعظ، شيخ الحنابلة بدمشق، أبو القاسم، عبد الوهاب بن أجل الحنابلة الشيخ أبي الفرج عبد الواحد بن محمد، الأنصاري الشيرازي الأصل الدمشقي، تفقه على أبيه، وحدث بالإجازة عن أبي طالب بن يوسف، وصار له القبول الزائد في الوعظ، وزادت حشمته ورئاسته، وبعثه الملك بوري رسولا إلى المسترشد بالله يستصرخ به على غزو الفرنج وأنهم أخذوا كثيرا من الشام، وقف المدرسة الكبرى شمالي جامع دمشق، وكان ذا لسن وفصاحة وصورة كبيرة. أثنى عليه السلفي ووثقه، سمع من أبيه. وقال أبو يعلى حمزة القلانسي: كان على الطريقة المرضية، والخلال الرضية ووفور العلم، وحسن الوعظ، وقوة الدين، وكان يوم دفنه يوما مشهودا من كثرة المشيعين له والباكين عليه، مات في صفر سنة ست وثلاثين وخمسمائة. وكان يناظر على قواعد عقائد الحنابلة، جرى بينه وبين الفقيه الغندلاوي بحوث وسب، وكان الغندلاوي أشعريا. موقفه من الجهمية: له من الآثار السلفية: 1 - 'البرهان في أصول الدين' ذكره ابن مفلح في المقصد الأرشد (¬2) ¬

(¬1) السير (20/ 103 - 104) وشذرات الذهب (4/ 113 - 114). (¬2) (2/ 147).

المازري (536 هـ)

والعليمي في الدر المنضد (¬1) وابن رجب في ذيل الطبقات (¬2). وعلى عادة ابن رجب رحمه الله، أن من كان فيه اعتزال أو أي انحراف يذكره له وينبه عليه، ومن كان موافقا لعقيدة السلف يترجم له ويطريه أو يذكره ذكرا عاديا. وهذا الإمام منهم. ويؤكد أنه كان على عقيدة السلف كتابه الآتي: 2 - 'رسالة في الرد على الأشعرية' ذكرها في ذيل طبقات الحنابلة. (¬3) المازري (¬4) (536 هـ) الشيخ الإمام الفقيه محمد بن علي بن عمر التيمي، أبو عبد الله المازري، الفقيه المالكي، أحد الأعلام. ومازر بليدة بجزيرة صقلية. كان من كبار أئمة زمانه وآخر المشتغلين من شيوخ إفريقية بتحقيق الفقه ورتبة الاجتهاد ودقة النظر. أخذ عن أبي الحسن اللخمي وعبد الحميد الصائغ وغيرهما. وأخذ عنه أبو حفص الميانشي وأبو محمد البرجيني وابن الحداد المهدوي وأبو عبد الله الشلبي وأبو الحسن صالح بن أبي القاسم وأبو الحسن ابن المقرئ وغيرهم. وممن أخذ عنه بالإجازة القاضي عياض وأبو بكر بن أبي جمرة وأبو بكر بن الخير وابن رشد الحفيد. كان رحمه الله واسع الباع في العلم والاطلاع، حسن الخلق، مليح المجلس، كثير الحكايات وإنشاد قطع الشعر، ¬

(¬1) (1/ 249). (¬2) (1/ 199). (¬3) (1/ 199). (¬4) الوافي بالوفيات (4/ 151) والديباج المذهب (2/ 250 - 252) وشجرة النور الزكية (1/ 127 - 128) وشذرات الذهب (4/ 114).

موقفه من الصوفية:

مع علم بالطب. قال الصفدي: أخبرني من أنسيته عن الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى أنه كان يقول: ما رأيت أعجب من هذا -يعني المازري- لأي شيء ما ادعى الاجتهاد. له تآليف تدل على إمامته منها: كتاب المعلم بفوائد مسلم، وكتاب الرد على الإحياء للغزالي سماه الكشف والإنباء عن كتاب الإحياء، وكتاب التعليقة على المدونة، وكتاب إيضاح المحصول من برهان الأصول لأبي المعالي الجويني، وكتاب الواضح في قطع لسان الكلب النابح وغيرها. إلا أن مما يؤاخذ على المازري أشعريته الواضحة، وكتابه المعلم خير دليل على ذلك، فكلما مر فيه على صفة من صفات الله تعالى إلا وجنح فيها إلى التأويل المذموم. توفي رحمه الله تعالى سنة ست وثلاثين وخمسمائة، وقد نيف على الثمانين. موقفه من الصوفية: قال رحمه الله في كتابه الكشف والإنباء من كتاب الإحياء: ولقد أعجب من قوم مالكية يرون مالكا الإمام يهرب من التحديد، ويجانب أن يرسم رسما وإن كان فيه أثر ما أو قياس ما تورعا وتحفظا من الفتوى فيما يحمل الناس عليه، ثم يستحسنون من رجل فتاوى مبناها على مالا حقيقة له، وفيه كثير من الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لفق فيه الثابت بغير الثابت، وكذا ما أورد عن السلف لا يمكن ثبوته كله، وأورد من نزغات الأولياء ونفثات الأصفياء ما يجل موقعه، لكن مزج فيه النافع بالضار كإطلاقات يحكيها عن بعضهم لا

الأمير علي بن يوسف بن تاشفين (537 هـ)

يجوز إطلاقها لشناعتها وإن أخذت معانيها على ظواهرها كانت كالرموز إلى قدح الملحدين، ولا تنصرف معانيها إلى الحق إلا بتعسف على اللفظ مما لا يتكلف العلماء مثله إلا في كلام صاحب الشرع الذي اضطرت المعجزات الدالة على صدقه المانعة من جهله وكذبه إلى طلب التأويل. (¬1) الأمير علي بن يوسف بن تاشفين (¬2) (537 هـ) السلطان، صاحب المغرب، أمير المسلمين، أبو الحسن، علي بن يوسف ابن تاشفين. تولى بعد أبيه سنة خمسمائة. وكان حسن السيرة، جيد الطوية، عادلا، نزها، حتى كان إلى أن يعد من الزهاد المتبتلين أقرب، وأدخل من أن يعد من الملوك. واشتد إيثاره لأهل العلم والدين، وكان إذا ولى أحدا من قضاته، كان فيما يعهد إليه أن لا يقطع أمرا دون أن يكون بمحضر أربعة من أعيان الفقهاء، يشاورهم في ذلك الأمر، وإن صغر، فبلغ الفقهاء في أيامه مبلغا عظيما. وكان إذا وعظه أحدهم خشع عند استماع الموعظة، ولان قلبه لها، وظهر ذلك عليه. ودان أهل زمانه بعدم الخوض في علم الكلام وأنه بدعة، واعتنى بعلم الرسائل والإنشاء، وعمر. وابتلي بنواب ظلمة، ثم خرج عليه ابن تومرت وحاربه وقوي عليه وأخذ البلاد، ومات رحمة الله عليه سنة سبع وثلاثين وخمسمائة. ¬

(¬1) نقلا عن الذهبي في السير (19/ 330). (¬2) السير (20/ 124 - 125) ووفيات الأعيان (5/ 49و7/ 123 - 126) والعبر (2/ 83) وشذرات الذهب (4/ 115) والاستقصا (2/ 61 - 68) والكامل في التاريخ (10/ 417).

موقفه من الصوفية:

موقفه من الصوفية: تقدم ما ذكره الذهبي في أمره بإحراق كتب أبي حامد، وهذا أمر قد أجمع عليه المؤرخون، بل قد ذكر في المغرب أنه أمر بإحراق كتاب كل بدعة، ولم يقتصر على إحراق الإحياء فقط. وهذا الأمر شكره عليه الأولون والآخرون، ولكن كما تقدم في موقف البربهاري: مثل أصحاب البدع مثل العقارب، يدفنون رؤوسهم وأبدانهم في التراب، ويخرجون أذنابهم، فإذا تمكنوا لدغوا، وكذلك أهل البدع هم مختفون بين الناس، فإذا تمكنوا بلغوا ما يريدون، فرغم المجهودات التي بذلها علماء السلف في دحض البدع، ما تزال إلى الآن بادية أعناقها، فاتحة فمها تريد ابتلاع كل من يدعو الناس إلى الرجوع إلى مذهب السلف، ولعل الله ييسر لها سيفا مهندا فيكسر الفم ويقطعه شقين، ويرميه إلى الكلاب تتناحر عليه. والله المستعان. جاء في الفكر السامي: وكان علي بن يوسف واقفا كأبيه عند إشارة الفقهاء وأهل العلم قد رد جميع الأحكام إليهم، فلما أفتوه بإحراق كتاب الإحياء كتب إلى أهل مملكته في سائر الأمصار والأقطار بأن يبحث عن نسخ الإحياء بحثا أكيدا، ويحرق ما عثر عليه منها، فجمع من نسخها عدد كثير ببلاد الأندلس، ووضعت بصحن جامع قرطبة، وصب عليها الزيت ثم أوقد عليها بالنار. وكذا فعل بما ألفي من نسخها بمراكش، وتوالى الإحراق عليها في سائر بلاد المغرب. وفي سنة ست وثلاثين وخمسمائة توفي الشيخ الفقيه أبو العباس أحمد ابن محمد ... وسعي به إلى أمير المسلمين علي بن يوسف فأمر بإشخاصه إلى

موقفه من الجهمية:

حضرة مراكش. (¬1) التعليق: هكذا كان هذا الملك الصالح مع مبتدعة الصوفية وغيرهم، فما فعله مع أبي العباس أحمد بن محمد بن العريف، ينبغي أن يفعل بكل مبتدع حتى يقف عند حده. موقفه من الجهمية: كان ملوك المرابطين من خيرة الناس في عقائدهم، لم يبتلوا بما ابتلي به غيرهم من رفض أو كلام. وكانوا سدا منيعا في وجوه الفلاسفة والمتكلمين وزنادقة المتصوفة، لولا غلوهم في التمسك بالمذهب المالكي. وسنرى إن شاء الله مواقفهم المشرفة التي تبعث على السرور. - جاء في المعجب لعبد الواحد المراكشي: ... ودان أهل ذلك الزمان بتكفير كل من ظهر منه الخوض في شيء من علوم الكلام، وقرر الفقهاء عند أمير المسلمين -أي علي بن يوسف- تقبيح علم الكلام وكراهة السلف له وهجرهم من ظهر عليه شيء منه، وأنه بدعة في الدين. وربما أدى أكثره إلى اختلال في العقائد في أشباه لهذه الأقوال، حتى استحكم في نفسه بغض علم الكلام وأهله. (¬2) - وجاء في السير: ... وأهينت الفلسفة ومج الكلام ومقت، واستحكم في ذهن علي أن الكلام بدعة ما عرفه السلف، فأسرف في ذلك، ¬

(¬1) الفكر السامي (2/ 75 - 76). (¬2) المعجب (ص.254 - 255).

عباس صاحب الري (541 هـ)

وكتب يتهدد ويأمر بإحراق الكتب وكتب يأمر بإحراق تواليف الشيخ أبي حامد وتوعد بالقتل من كتمها. (¬1) عباس صاحب الري (¬2) (541 هـ) كان عباس من غلمان السلطان محمود، حسن السيرة، عادلا في رعيته، كثير الجهاد للباطنية، قتل منهم خلقا كثيرا، وحكي أنه ما شرب الخمر قط ولا زنى. قتله السلطان مسعود سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وتأسف الناس عليه. موقفه من المشركين: قال ابن كثير: وقد كان عباس من الشجعان المشهورين، قاتل الباطنية مع مخدومه جوهر، فلم يزل يقتل منهم حتى بنى مئذنة من رؤوسهم بمدينة الري. (¬3) عبد الله بن علي سبط الخياط (¬4) (541 هـ) هو أبو محمد عبد الله بن علي بن أحمد الإمام العلامة مقرئ العراق النحوي، سبط الإمام الزاهد أبي منصور الخياط. ولد سنة أربع وستين ¬

(¬1) السير (20/ 124). (¬2) البداية (12/ 238) والمنتظم (18/ 52 - 53) والكامل في التاريخ (11/ 116 - 117). (¬3) البداية والنهاية (12/ 237). (¬4) السير (20/ 130) ومعرفة القراء الكبار (1/ 494 - 497/ت 443) وغاية النهاية في طبقات القراء (1/ 434 - 435).

موقفه من الجهمية:

وأربعمائة. تلقى القرآن من أبي الحسن بن الفاعوس. وسمع من أبي الحسين ابن النقور وأبي منصور محمد العكبري ورزق الله التميمي وعدة. وتلا بالروايات على جده أبي منصور الخياط، وأبي الخطاب بن الجراح، وثابت بن بندار وأبي العز القلانسي وغيرهم. وتصدر للإقراء وصنف الكتب الشهيرة كالمبهج والإيجاز والكفاية وغيرها. حدث عنه ابن عساكر والسمعاني وابن الجوزي وخلق. توفي رحمه الله في الثاني والعشرين من ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وخمسمائة. قال فيه الإمام الذهبي: كان إماما محققا، واسع العلم، متين الديانة، قليل المثل، وكان أطيب أهل زمانه صوتا بالقرآن على كبر السن. ومن شعره: كتبت علوما ثم أيقنت أنني فإن كنت عند الله فيها مخلصا وإن كانت الأخرى فبالله فاسألوا ... سأبلى ويبقى ما كتبت من العلم فذاك لعمر الله قصدي في الحكم إلهي غفرانا من الذنب والجرم موقفه من الجهمية: - جاء في ذيل الطبقات عنه قال: الفقه علم به الأديان ترتفع ... ثم الحديث إذا ما رمته فرج ... ثم الكلام فذره، فهو زندقة ... والنحو عز به الإنسان ينتفع من كل معنى به الإنسان يبتدع وخرقه فهو خرق ليس يرتفع (¬1) ¬

(¬1) ذيل طبقات الحنابلة (1/ 211).

أبو الحسن الآبنوسي (542 هـ)

- وله أيضا: ظهرت في الأنام بدعة قوم عطلوا وصفه، وحادوا عن الحق ... جحدوا الله والقرآن المبينا جميعا، وخالفوه يقينا (¬1) أبو الحسن الآبَنُوسِي (¬2) (542 هـ) الفقيه المفتي العابد، أبو الحسن أحمد بن الإمام المحدث أبي محمد عبد الله ابن علي بن الآبنوسي، البغدادي الشافعي الوكيل. ولد سنة ست وستين وأربعمائة. سمع أبا القاسم ابن البسري، وإسماعيل بن مسعدة، وأبا نصر الزينبي وعدة، وتفقه على القاضي الحموي (أبي بكر ابن المظفر). روى عنه السمعاني وابن عساكر والكندي وسليمان الموصلي وآخر من روى عنه بنته شرف النساء. وكان ثقة مصنفا على سنن السلف، والتقشف وسبيل أهل السنة في الاعتقاد، وكان يخلو بالأذكار والأوراد من بكرة إلى وقت الظهر ثم يقرأ عليه بعد الظهر، وكان عالي السند. توفي ثامن ذي الحجة سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة. موقفه من الجهمية: - قال الذهبي: ونظر في الاعتزال، ثم أنقذه الله وتسنن. ثم قال: جمع ¬

(¬1) ذيل طبقات الحنابلة (1/ 212). (¬2) المنتظم (18/ 57) وتذكرة الحفاظ (4/ 1294) وسير أعلام النبلاء (20/ 162 - 163) وتاريخ الإسلام (حوادث 541 - 550/ص.98 - 99) والوافي بالوفيات (7/ 114) طبقات الشافعية للسبكي (4/ 39) وشذرات الذهب (4/ 130).

ابن عياض المجاهد (542 هـ)

وصنف، ودعا إلى السنة. (¬1) - قال ابن الجوزي في المنتظم: وصحب شيخنا أبا الحسن ابن الزاغوني، فحمله على السنة بعد أن كان معتزليا، وكانت له اليد الحسنة في المذهب والخلاف والفرائض والحساب والشروط، وكان ثقة مصنفا على سنن السلف والتقشف وسبيل أهل السنة في الاعتقاد، وكان ينابذ من أصحاب الشافعي من يخالف ذلك من المتكلمين. (¬2) ابن عياض المجاهد (¬3) (542 هـ) عبد الله وقيل عبد الرحمن أبو محمد بن عياض المجاهد في ¬

(¬1) السير (19/ 279). (¬2) المنتظم (18/ 57). (¬3) السير (20/ 237 - 239) ونفح الطيب (4/ 465) وتاريخ ابن خلدون (4/ 357).

موقفه من المشركين:

سبيل الله، فارس الأندلس، وبطلها المشهور، اتفق عليه أهل شرق الأندلس. قال عبد الواحد المراكشي: كان من الصالحين الكبار، فإذا ركب الخيل لا يقوم له أحد. كان النصارى يعدونه بمائة فارس، فحمى الله به الناحية مدة إلى أن توفي. وله مواقف مشهودة، وكان فارس الإسلام في زمانه. قال عنه اليسع ابن حزم: أشجع من ركب الخيل وأفرس من سام الروم الويل. توفي سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة بسبب سهم أصابه في النخاع. موقفه من المشركين: وقال اليسع بن حزم في أخبار المغرب: حدثني الأمير الملك المجاهد في سبيل الله أبو محمد عبد الله بن عياض أشجع من ركب الخيل، وأفرس من سام الروم الويل، قال: نزلت محلة الفرنج علينا، فكانوا إذا رمونا بالنبل صار حائلا بيننا وبين الشمس كالجراد، والذي صح عندنا أن عدد خيلهم مئة ألف فارس، ومن الرجل مئتا ألف أو أزيد، وكنا نعد على مقربة من سورنا أربع مئة خيمة ديباج أو نحوها نحقق هذا، فاشتد علينا الحصار، فخرجنا في مئتي فارس، فشققنا الروم نقتل فيهم، ولجأنا إلى حصن الزيتونة قاصدين بلنسية، قال اليسع: قال لي مسعود بن عز الناس: أبصرت ابن عياض وهو شاب حدث، وقد صارع روميا غلب جميع من في بلاد الأندلس، فجاءه الرومي، فدفعه ابن عياض عن نفسه دفعة حسبت أن الرومي انتفضت أوصاله، ثم أمسك بخاصرة الرومي حتى رأيت الدم تحت أصابع ابن عياض، ثم رفعه، وألقى به الأرض، فطار دماغه. وله قصة أخرى: وذلك أنه وقف فارس من جملة خيالة الروم على لارِدَة، وطلب المبارزة، فخرج ابن عياض عليه قميص طويل الكم قد أدخل فيه حجرا مدحرجا، وربط رأس الكم، وتقلد سيفه، والرومي شاك في سلاحه، فحمل عليه ابن عياض، فطعنه الرومي في الطارقة، فنشب الرمح، فأطلقها ابن عياض من يده، وبادر فضرب الرومي بكمه، فنثر دماغه، فعجبنا وكبرنا، فاشتهر ذكره على صغر سنه، وأما أنا فحضرت معه أيام مملكته حروبا، كان حجر لا يؤثر فيه، وكان في هيئته كأنه برج غريب الخلقة. قال مسعود: ولما وصلنا الزيتونة بعد قضاء حوائجنا، جئنا لاردة في السحر، فوقعنا في خيام العدو المحيط بالبلد، فجعلنا نضرب على الطوارق ونصيح، فنفرت الخيل، ونحن نقتل من

الحسين بن إبراهيم الجوزقاني (543 هـ)

لقيناه، فدخلنا البلد سالمين. قلت: ولابن عياض مواقف مشهودة، وكان فارس الإسلام في زمانه، لعله بقي إلى بعد الأربعين وخمس مئة، وقام بعده خادمه محمد بن سعد بن مردنيش، استخلفه عند موته على الناس، فدامت أيامه إلى سنة ثمان وستين وخمس مئة. قال اليسع في تاريخ المغرب -وقد خدم ابن عياض، وصار كاتبا له- فذكر أن ابن عياض التقى البرشلوني، وانتصر المسلمون، فلما انفصل المصاف، قصد المسلمون الماء ليشربوا، وتجرد ابن عياض من درعه، ونحو الخمس مئة من الروم في غابة عند الماء، فالتفت ابن عياض إلى أصحابه أن ارموا الروم بالنبل، فجاءه سهم في فقار ظهره، فأخرج منه بعد قتل أولئك الخمس مئة، وإذا بالسهم قد أصاب النخاع، فوصل مرسية، وتوفي بعد ولايته إياها أربع سنين، ووجد المسلمون لفقده. (¬1) الحسين بن إبراهيم الجَوْزَقَانِي (¬2) (543 هـ) الإمام الحافظ أبو عبد الله الحسين بن إبراهيم بن حسين بن جعفر الهمذاني الجوزقاني، مصنف كتاب الأباطيل. روى عن أبي الغنائم شيرويه الديلمي وابن طاهر المقدسي وحمد بن نصر ويحيى بن مندة وجماعة. حدث عنه عبد الرزاق الجيلي وابن أخته نجيب بن غانم الطيان وغيرهما. قال ابن النجار: كتب وحصل وصنف عدة كتب في علم الحديث، منها كتاب ¬

(¬1) السير (20/ 237 - 239). (¬2) السير (20/ 177 - 178) وتذكرة الحفاظ (4/ 1308 - 1309) والوافي بالوفيات (12/ 315 - 316) ولسان الميزان (2/ 269 - 271) وشذرات الذهب (4/ 136) وتاريخ الإسلام (حوادث 541 - 550/ص.140 - 141).

موقفه من المرجئة:

الموضوعات، أجاد تصنيفه، روى لنا عنه عبد الرزاق الجيلي. توفي رحمه الله في سادس عشر رجب سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وهو في السفر. موقفه من المرجئة: - له كتاب الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير، قال فيه عن محمد ابن كرام وضلالاته: واعلم يا أخي، وفقك الله للخيرات، أن أبا عبد الله ابن كرام كان من نواحي سجستان من قرية يقال لها الحروي، وكان يتعبد ويظهر الزهد والتقشف والتخلي والتقلل، وذلك في أصحابه إلى اليوم حيث كانوا من أرض خراسان وغيرها من البلاد. وأكثر ظهورهم بنيسابور وأعمالها، وببيت المقدس منهم طائفة قد عكفوا على قبره، مال إليهم كثير من العامة لاجتهادهم وظلف عيشهم. وكان يقول: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، والمعرفة ليست من الإيمان، والإيمان باللسان مجرد عن عقد القلب، وعمل الأركان، فمن أقر بلسانه بكلمة التوحيد، فهو مؤمن حقا، وإن اعتقد بقلبه الكفر والتثليث وضيع جميع قوانين الشريعة وتركها، وأتى كل فاحشة وكبيرة وارتكبها، إلا أنه مقر بلسانه بكلمة التوحيد، فهو مؤمن موحد ولي الله من أهل الجنة، وأنه لا تضره سيئة، مع إقراره بالوحدانية كما لا تنفعه حسنة مع إظهار الشرك بالله عزوجل. فلزمهم من هذا القول أن المنافقين مؤمنون حقا، وقد أكذبهم الله تعالى في غير موضوع من كتابه، وحقق أنه جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا. وذكر {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ

أبو بكر ابن العربي (543 هـ)

النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)} (¬1). وغير ذلك من الآيات المنصوص الوارد فيهم. (¬2) أبو بكر ابن العربي (¬3) (543 هـ) محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله أبو بكر ابن العربي الإمام العلامة الحافظ القاضي الأندلسي صاحب التصانيف، سأله ابن بشكوال عن مولده فقال: في سنة ثمان وستين وأربعمائة. سمع من خاله الحسن بن عمر الهوزني وطائفة بالأندلس، ارتحل مع أبيه وسمعا ببغداد من طراد بن محمد الزينبي وأبي عبد الله النعالي وأبي الخطاب ابن البطر وغيرهم. وتفقه بأبي حامد الغزالي وأبي بكر الشاشي والتبريزي وجماعة. رجع إلى الأندلس بعد أن دفن أباه في رحلته، وصنف وجمع، وفي فنون العلم برع وكان فصيحا خطيبا بليغا. حدث عنه عبد الخالق بن أحمد اليوسفي وأحمد بن خلف الإشبيلي والحسن ابن علي القرطبي وعدد كثير. وتخرج به أئمة، وكان ثاقب الذهن عذب المنطق كريم الشمائل كامل السؤدد، ولي قضاء إشبيلية فحمدت سياسته ثم عزل، وأقبل على نشر العلم وتدوينه. كان ممن يقال: إنه بلغ رتبة الاجتهاد. توفي بفاس في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة. ¬

(¬1) النساء الآية (145). (¬2) (ص.138). (¬3) السير (20/ 197 - 204) ووفيات الأعيان (4/ 296 - 297) والوافي بالوفيات (3/ 330) والديباج المذهب (2/ 252 - 256) والبداية والنهاية (12/ 245 - 246) والعبر (2/ 92 - 93) والنجوم الزاهرة (5/ 302) وشذرات الذهب (4/ 141 - 142).

موقفه من الرافضة:

موقفه من الرافضة: - جاء في الاعتصام عنه: خرجت من بلادي على الفطرة، فلم ألق في طريقي إلا مهتديا، حتى بلغت هذه الطائفة -يعني: الإمامية والباطنية من فرق الشيعة-، فهي أول بدعة لقيت، فلو فجأتني بدعة مشبهة، كالقول بالمخلوق، أو نفي الصفات، أو الإرجاء، لم آمن. فلما رأيت حماقاتهم، أقمت على حذر، وترددت فيها على أقوام أهل عقائد سليمة، ولبثت بينهم ثمانية أشهر. ثم خرجت إلى الشام، فوردت بيت المقدس، فألفيت فيها ثماني وعشرين حلقة ومدرستين -مدرسة الشافعية بباب الأسباط، وأخرى للحنفية-، وكان فيها من رؤوس العلماء ورؤوس المبتدعة ومن أحبار اليهود والنصارى كثير، فوعيت العلم، وناظرت كل طائفة بحضرة شيخنا أبي بكر الفهري وغيره من أهل السنة. ثم نزلت إلى الساحل لأغراض، وكان مملوءا من هذه النحل الباطنية والإمامية، فطفت في مدن الساحل لتلك الأغراض نحوا من خمسة أشهر، ونزلت عكا، وكان رأس الإمامية بها حينئذ أبو الفتح العكي، وبها من أهل السنة شيخ يقال له الفقيه الديبقي. فاجتمعت بأبي الفتح في مجلسه وأنا ابن العشرين، فلما رآني صغير السن كثير العلم متدربا؛ ولع بي، وفيهم -لعمر الله، وإن كانوا على باطل- انطباع وإنصاف وإقرار بالفضل إذا ظهر، فكان لا يفارقني، ويساومني الجدال، ولا يفاترني، فتكلمت على مذهب الإمامية والقول بالتعميم من

المعصوم بما يطول ذكره. ومن جملة ذلك أنهم يقولون: إن لله في عباده أسرارا وأحكاما، والعقل لا يستقل بدركها، فلا يعرف ذلك إلا من قبل إمام معصوم. فقلت لهم: أمات الإمام المبلغ عن الله لأول ما أمره بالتبليغ أم هو مخلد؟ فقال لي: مات -وليس هذا بمذهبه، ولكنه تستر معي-. فقلت: هل خلفه أحد؟ فقال: خلفه وصيه علي. قلت: فهل قضى بالحق وأنفذه؟ قال: لم يتمكن لغلبة المعاند. قلت: فهل أنفذه حين قدر؟ قال: منعته التقية ولم تفارقه إلى الموت؛ إلا أنها كانت تقوى تارة وتضعف أخرى، فلم يمكن إلا المداراة؛ لئلا ينفتح عليه أبواب الاختلال. قلت: وهذه المداراة حق أم لا؟ فقال: باطل أباحته الضرورة. قلت: فأين العصمة؟ قال: إنما تغني العصمة مع القدرة. قلت: فمن بعده إلى الآن وجدوا القدرة أم لا؟ قال: لا. قلت: فالدين مهمل، والحق مجهول مخمل؟ قال: سيظهر. قلت: بمن؟ قال: بالإمام المنتظر. قلت: لعله الدجال؟ فما بقي أحد إلا ضحك. وقطعنا الكلام على غرض مني؛ لأني خفت أن ألجمه فينتقم مني في بلاده. ثم قلت: ومن أعجب ما في هذا الكلام: أن الإمام إذا أوعز إلى من لا قدرة له؛ فقد ضيع، فلا عصمة له! وأعجب منه أن الباري تعالى -على مذهبه- إذا علم أنه لا علم إلا بمعلم، وأرسله عاجزا مضطربا لا يمكنه أن يقول ما علم؛ فكأنه ما علمه وما بعثه، وهذا عجز منه وجور، لاسيما على مذهبهم! فرأوا من الكلام ما لم يمكنهم أن يقوموا معه بقائمة. وشاع الحديث، فرأى رئيس الباطنية المسمين بالإسماعيلية أن يجتمع معي، فجاءني أبو الفتح إلى مجلس الفقيه الديبقي، وقال: إن رئيس الإسماعيلية رغب في الكلام معك. فقلت: أنا مشغول.

فقال: هنا موضع مرتب قد جاء إليه، وهو محرس الطبرانيين، مسجد في قصر على البحر، وتحامل علي، فقمت ما بين حشمة وحسبة، ودخلت قصر المحرس، وطلعنا إليه، فوجدتهم قد اجتمعوا في زاوية المحرس الشرقية، فرأيت النكر في وجوههم، فسلمت، ثم قصدت جهة المحراب، فركعت عنده ركعتين لا عمل لي فيهما إلا تدبير القول معهم والخلاص منهم. فلعمر الذي قضى علي بالإقبال إلى أن أحدثكم؛ إن كنت رجوت الخروج عن ذلك المجلس أبدا، ولقد كنت أنظر في البحر يضرب في حجارة سود محددة تحت طاقات المحرس، فأقول: هذا قبري الذي يدفنوني فيه، وأنشد في سري: ألا هل إلى الدنيا معاد وهل لنا ... سوى البحر قبر أو سوى الماء أكفان؟ وهي كانت الشدة الرابعة من شدائد عمري التي أنقدني الله منها. فلما سلمت؛ استقبلتهم، وسألتهم عن أحوالهم عادة، وقد اجتمعت إلي نفسي، وقلت: أشرف ميتة في أشرف موطن أناضل فيه عن الدين. فقال لي أبو الفتح -وأشار إلى فتى حسن الوجه-: هذا سيد الطائفة ومقدمها، فدعوت له، فسكت، فبدرني وقال: قد بلغتني مجالستك وانتهى إِليَّ كلامك، وأنت تقول: قال الله وفعل! فأي شيء هو الله الذي تدعو إليه؟! أخبرني واخرج عن هذه المخرقة التي جازت لك على هذه الطائفة الضعيفة -وقد احتد نفسا، وامتلأ غيظا، وجثا على ركبتيه، ولم أشك أنه لا يتم الكلام إلا وقد اختطفني أصحابه قبل الجواب. فعمدت -بتوفيق الله- إلى كنانتي،

واستخرجت منها سهما أصاب حبة قلبه، فسقط لليدين والفم. (¬1) وانظر بقية المناظرة في المرجع نفسه فهي شيقة تبرز عمق علم السلف رحمهم الله وتوقد ذكائهم. - وجاء في العواصم: وهذه حقيقة مذهبهم (أي الروافض)، أن الكل منهم (أي الصحابة) كفرة، لأن من مذهبهم التكفير بالذنوب. وكذلك تقول هذه الطائفة التي تسمى بالإمامية: إن كل عاص بكبيرة كافر، على رسم القدرية، ولا أعصى من الخلفاء المذكورين (وهم أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم) ومن ساعدهم على أمرهم، وأصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحرص الناس على دنيا، وأقلهم حماية على دين، وأهدمهم لقاعدة وشريعة. قال القاضي أبو بكر: يكفيك من شر سماعه، فكيف التململ به. خمسمائة عام عدا إلى يوم مقالي هذا -لا ينقص منها يوما ولا يزيد يوما- وهو مهل شعبان سنة ست وثلاثين وخمسمائة، وماذا يرجى بعد التمام إلا النقص؟ ما رضيت النصارى واليهود في أصحاب موسى وعيسى ما رضيت الروافض في أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين حكموا عليهم بأنهم قد اتفقوا على الكفر والباطل. فما يرجى من هؤلاء، وما يستبقى منهم؟ وقد قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ¬

(¬1) الاعتصام (1/ 198 - 202).

القاضي عياض (544 هـ)

لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} (¬1)، وهذا قول صدق، ووعد حق. وقد انقرض عصرهم ولا خليفة فيهم ولا تمكين، ولا أمن ولا سكون، إلا في ظلم وتعد وغصب وهرج وتشتيت وإثارة ثائرة. (¬2) القاضي عياض (¬3) (544 هـ) الإمام العلامة الحافظ الأوحد، شيخ الإسلام، القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى بن عياض اليحصبي الأندلسي، ثم السبتي المالكي. ولد سنة ست وسبعين وأربعمائة. رحل إلى الأندلس وروى عن القاضي أبي علي ابن سكرة الصدفي ولازمه، وعن أبي بحر بن العاص وعدة. وتفقه بأبي عبد الله محمد بن عيسى التميمي والقاضي محمد المسيلي. واستبحر من العلوم، وجمع وألف، وسارت بتصانيفه الركبان، واشتهر اسمه في الآفاق. ولي القاضي عياض القضاء مرارا، في سبتة أولا، ثم في غرناطة، ثم في سبتة مرة أخرى، ثم بقرية داي ببادية تادلا في الشمال ¬

(¬1) النور الآية (55). (¬2) العواصم من القواصم (187 - 192). (¬3) وفيات الأعيان (3/ 483 - 485) وتاريخ الإسلام (حوادث 541 - 550/ص.198 - 201) والسير (20/ 212 - 218) وتذكرة الحفاظ (4/ 1304 - 1307) والديباج المذهب (2/ 46 - 51) والبداية والنهاية (12/ 241) وشذرات الذهب (4/ 138 - 139).

موقفه من المبتدعة:

الغربي من مراكش. قال ابن بشكوال: هو من أهل العلم والتفنن والذكاء والفهم. ومن مؤلفاته: الشفا في شرف المصطفى وترتيب المدارك والعقيدة وشرح حديث أم زرع ومشارق الأنوار في اقتفاء صحيح الآثار، والإكمال في شرح صحيح مسلم. قال ابن خلكان: هو إمام الحديث في وقته، وأعرف الناس بعلومه، وبالنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم. وقال صاحب النجوم الزاهرة: كان إماما، حافظا، محدثا، فقيها، متبحرا، صنف التصانيف المفيدة، وانتشر اسمه في الآفاق وبعد صيته. حدث عنه ابن بشكوال وولده محمد وأبو جعفر بن القصير وعدة. توفي رحمه الله تعالى في ليلة الجمعة نصف الليلة التاسعة من جمادى الآخر ودفن بمراكش سنة أربع وأربعين وخمسمائة. موقفه من المبتدعة: - قال في الشفا (¬1): فصل [في وجوب اتباعه، وامتثال أمره، والاقتداء بهديه]. وأما وجوب اتباعه وامتثال سنته والاقتداء بهديه، فقد قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (¬2)، وقال: {فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ¬

(¬1) (2/ 542 - 551). (¬2) آل عمران الآية (31).

وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} (¬1)، وقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (¬2)، أي ينقادون لحكمك يقال: سلم، واستسلم، إذا انقاد. وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)} (¬3). قال محمد بن علي الترمذي: الأسوة في الرسول الاقتداء به، والاتباع لسنته، وترك مخالفته في قول وفعل. وقال غير واحد من المفسرين بمعناه. وقيل: هو عتاب للمتخلفين عنه. وقال سهل في قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (¬4) قال: بمتابعة السنة، فأمرهم تعالى بذلك، ووعدهم الاهتداء باتباعه، لأن الله تعالى أرسله بالهدى ودين الحق ليزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويهديهم إلى صراط مستقيم، ووعدهم محبته تعالى في الآية الأخرى ومغفرته إذا اتبعوه، وآثروه على أهوائهم، وما تجنح إليه نفوسهم، وأن صحة إيمانهم بانقيادهم له، ورضاهم بحكمه، وترك الاعتراض عليه. وروي عن الحسن أن أقواما قالوا: يا ¬

(¬1) الأعراف الآية (158). (¬2) النساء الآية (65). (¬3) الممتحنة الآية (6). (¬4) الفاتحة الآية (7).

رسول الله، إنا نحب الله. فأنزل الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)} (¬1). وروي أن الآية نزلت في كعب بن الأشرف وغيره، وأنهم قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، ونحن أشد حبا لله، فأنزل الله الآية. وقال الزجاج: معناه إن كنتم تحبون الله أن تقصدوا طاعته، فافعلوا ما أمركم به، إذ محبة العبد لله والرسول طاعته لهما، ورضاه بما أمرا، ومحبة الله لهم عفوه عنهم، وإنعامه عليهم برحمته. (¬2) ويقال: الحب من الله عصمة وتوفيق، ومن العباد طاعة، كما قال القائل: تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... لو كان حبك صادقا لأطعته ... هذا لعمري في القياس بديع إن المحب لمن يحب مطيع -ثم ساق بسنده- عن العرباض بن سارية في حديثه في موعظة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجد، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» (¬3). زاد في حديث جابر بمعناه: «وكل ضلالة في النار» (¬4). وفي حديث أبي رافع عنه - صلى الله عليه وسلم -: «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري، مما أمرت به، أو ¬

(¬1) آل عمران الآية (31). (¬2) هذا مع إثبات صفة المحبة له سبحانه. (¬3) تقدم تخريجه في مواقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة (23هـ). (¬4) تقدم تخريجه في مواقف القاسم بن محمد سنة (106هـ).

نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه». (¬1) وفي حديث عائشة رضي الله عنها: صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا ترخص فيه فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحمد الله، ثم قال: «ما بال قوم يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوالله إني لأعلمهم بالله، وأشدهم له خشية». (¬2) - وقال (¬3): فصل [في أن مخالفة أمره وتبديل سنته ضلال] ومخالفة أمره وتبديل سنته ضلال وبدعة متوعد من الله تعالى عليه بالخذلان والعذاب، قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} (¬4)، وقال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} (¬5). -ثم ساق بسنده- عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى المقبرة .. وذكر الحديث في صفة أمته، وفيه: «فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، فأناديهم: ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك. فأقول: ¬

(¬1) أحمد (6/ 8) بلفظ: «لأعرفن» وأبو داود (5/ 12/4605) والترمذي (5/ 36/2663) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وابن ماجة (1/ 6 - 7/ 13) والحاكم (1/ 108 - 109) وصححه على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي. (¬2) أخرجه أحمد (6/ 45) والبخاري (10/ 628/6101) ومسلم (4/ 1829/2356) والنسائي في الكبرى (6/ 67/10063) من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. (¬3) الشفا (2/ 559 - 562). (¬4) النور الآية (63). (¬5) النساء الآية (115).

موقفه من الرافضة:

فسحقا، فسحقا، فسحقا» (¬1). وروى أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من رغب عن سنتي فليس مني» (¬2)، وقال: «من أدخل في أمرنا ما ليس منه فهو رد» (¬3)، وروى ابن أبي رافع عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه» (¬4). زاد في حديث المقدام: «ألا وإن ما حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما حرم الله» (¬5) ... وقال - صلى الله عليه وسلم -: «هلك المتنطعون» (¬6). وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (لست تاركا شيئا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعمل به إلا عملت به، إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ). (¬7) موقفه من الرافضة: - جاء في الشفا: وكذلك نقطع بتكفير كل قائل قال قولا يتوصل به إلى تضليل الأمة وتكفير جميع الصحابة، كقول الكميلية من الرافضة بتكفير جميع الأمة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ لم تقدم عليا. وكفرت عليا، إذ لم يتقدم ويطلب ¬

(¬1) أخرجه أحمد (2/ 300و408) ومسلم (1/ 218/249) وأبو داود (3/ 558/3237) مختصرا والنسائي (1/ 101 - 102/ 150) وابن ماجة (2/ 1439/4306). (¬2) أحمد (3/ 241و259) والبخاري (9/ 129/5063) ومسلم (2/ 1020/1401) والنسائي (6/ 368 - 369/ 3217). (¬3) تقدم تخريجه في مواقف الخلال سنة (311هـ). (¬4) تقدم تخريجه قريبا. (¬5) سيأتي تخريجه ضمن مواقف علي محفوظ سنة (1361هـ). (¬6) أخرجه أحمد (1/ 386) ومسلم (4/ 2055/2670) وأبو داود (5/ 15/4608) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (¬7) تقدم في مواقفه رضي الله عنه من المبتدعة سنة (13هـ).

موقفه من الجهمية:

حقه في التقديم، فهؤلاء قد كفروا من وجوه، لأنهم أبطلوا الشريعة بأسرها، إذ قد انقطع نقلها ونقل القرآن، إذ ناقلوه كفرة على زعمهم، وإلى هذا -والله أعلم- أشار مالك في أحد قوليه بقتل من كفر الصحابة. ثم كفروا من وجه آخر بسبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على مقتضى قولهم وزعمهم أنه عهد إلى علي رضي الله عنه، وهو يعلم أنه يكفر بعده على قولهم، لعنة الله عليهم، وصلى الله على رسوله وآله. (¬1) - وفيه: وكذلك نقطع بتكفير غلاة الرافضة في قولهم: إن الأئمة أفضل من الأنبياء. (¬2) - قال الذهبي: بلغني أنه -أي القاضي عياض- قتل بالرماح لكونه أنكر عصمة ابن تومرت. (¬3) موقفه من الجهمية: قال الحافظ في الفتح: وقال القاضي عياض -معلقا على أحاديث خروج الدجال-: في هذه الأحاديث حجة لأهل السنة في صحة وجود الدجال، وأنه شخص معين يبتلي الله به العباد ويقدره على أشياء كإحياء الميت الذي يقتله، وظهور الخصب والأنهار، والجنة والنار، واتباع كنوز الأرض له، وأمره السماء فتمطر، والأرض فتنبت، وكل ذلك بمشيئة الله، ثم يعجزه الله فلا يقدر على قتل ذلك الرجل ولا غيره، ثم يبطل أمره ويقتله ¬

(¬1) الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 1072). (¬2) الشفا (2/ 1078). (¬3) السير (20/ 217).

عيسى بن مريم. وقد خالف في ذلك بعض الخوارج والمعتزلة والجهمية فأنكروا وجوده وردوا الأحاديث الصحيحة، وذهب طوائف منهم كالجبائي إلى أنه صحيح الوجود، لكن كل الذي معه مخاريق وخيالات لا حقيقة لها، وألجأهم إلى ذلك أنه لو كان ما معه بطريق الحقيقة لم يوثق بمعجزات الأنبياء، وهو غلط منهم، لأنه لم يدع النبوة فتكون الخوارق تدل على صدقه، وإنما ادعى الالهية وصورة حاله تكذبه لعجزه ونقصه، فلا يغتر به إلا رعاع الناس إما لشدة الحاجة والفاقة، وإما تقية وخوفا من أذاه وشره مع سرعة مروره في الأرض، فلا يمكث حتى يتأمل الضعفاء حاله، فمن صدقه في تلك الحال لم يلزم منه بطلان معجزات الأنبياء، ولهذا يقول له الذي يحييه بعد أن يقتله، ما ازددت فيك إلا بصيرة. (¬1) قلت -أي ابن حجر-: ولا يعكر على ذلك ما ورد في حديث أبي أمامة عند ابن ماجه أنه يبدأ فيقول أنا نبي، ثم يثني فيقول أنا ربكم (¬2) فإنه يحمل على أنه إنما يظهر الخوارق بعد قوله الثاني. (¬3) ¬

(¬1) الفتح (13/ 105). (¬2) رواه ابن ماجه (2/ 1359 - 1360/ 4077) بسند منقطع فيحيى بن أبي عمرو السيباني روايته عن الصحابة مرسلة. ورواه موصولا: أبو داود (4/ 497/4322) ولم يسق لفظه. والآجري في الشريعة (ص.375 - 376)، وليس عنده موضع الشاهد. وعبد الله بن أحمد في السنة (2/ 449/1008). وابن أبي عاصم في السنة رقم (391) و (429). واللالكائي (3/ 545 - 546/ 851). ورجاله ثقات. وعمرو بن عبد الله الحضرمي وثقه ابن حبان (5/ 179) والعجلي (2/ 179) والفسوي (2/ 437). ورواه ابن خزيمة في التوحيد (2/ 459/270) والحاكم (4/ 536 - 537) وصححه على شرط مسلم وأقره الذهبي وفيه عطاء بن مسلم الخراساني وهو ضعيف من قبل حفظه، لكن تابعه ضمرة بن ربيعة عند أبي داود وغيره. (¬3) الفتح (13/ 105).

الشهرستاني (549 هـ)

الشهرستاني (¬1) (549 هـ) محمد بن عبد الكريم بن أحمد أبو الفتح الشهرستاني، شيخ أهل الكلام والحكمة. برع في الفقه على الإمام أحمد الخوافي، وأخذ الكلام عن أبي نصر ابن القشيري. صنف كتاب نهاية الإقدام في علم الكلام وكتاب الملل والنحل وغيرها. كان متهما بالميل إلى أهل البدع -يعني الإسماعيلية- والدعوة إليهم ولضلالاتهم. وقال الخوارزمي صاحب الكافي: لولا تخليطه في الاعتقاد وميله إلى أهل الزيغ والإلحاد لكان هو الإمام في الإسلام. وقد حكى شيخ الإسلام توبته في منهاج السنة. مات بشهرستان سنة تسع وأربعين وخمسمائة. موقفه من الجهمية: توبته من الكلام وتعليق ابن تيمية عليه: وكذلك الشهرستاني، مع أنه كان من أخبر هؤلاء المتكلمين بالمقالات والاختلاف، وصنف فيها كتابه المعروف بنهاية الإقدام في علم الكلام وقال: قد أشار علي من إشارته غنم، وطاعته حتم، أن أذكر له من مشكلات الأصول ما أشكل على ذوي العقول، ولعله استسمن ذا ورم، ونفخ في غير صرم، لعمري: لقد طفت المعاهد كلها فلم أر إلا واضعا كف حائر ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم على ذقن أو قارعا سن نادم فأخبر أنه لم يجد إلا حائرا شاكا مرتابا، أو من اعتقد ثم ندم لما تبين له خطؤه. فالأول في الجهل البسيط: كظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده ¬

(¬1) السير (20/ 286 - 288) ولسان الميزان (5/ 263 - 264) وشذرات الذهب (4/ 149).

أبو الفضل ابن ناصر (550 هـ)

لم يكد يراها وهذا دخل في الجهل المركب، ثم تبين له أنه جهل فندم ولهذا تجده في المسائل يذكر أقوال الفرق وحججهم ولا يكاد يرجح شيئا للحيرة. (¬1) أبو الفضل ابن ناصر (¬2) (550 هـ) محمد بن ناصر بن علي بن عمر السلامي أبو الفضل الإمام المحدث الحافظ. ولد سنة سبع وستين وأربعمائة. وربي يتيما في كفالة جده لأمه الفقيه أبي حكيم الخبري، لقنه القرآن، وسمعه من أبي القاسم علي بن أحمد البسري وأبي طاهر الأنباري، ثم طلب وسمع من عاصم بن الحسن ومالك بن أحمد البانياسي وأبي الغنائم بن أبي عثمان ورزق الله التميمي وخلق كثير، وقرأ ما لا يوصف كثرة وحصل الأصول وجمع وألف وبعد صيته وكان فصيحا مليح القراءة قوي العربية جم الفضائل. تفرد بإجازات عالية. روى عنه ابن طاهر وأبو عامر العبدري وأبو الفرج ابن الجوزي وآخرون. قال ابن الجوزي: كان شيخنا ثقة حافظا ضابطا من أهل السنة لا مغمز فيه. وقال ابن النجار: كان ثقة ثبتا حسن الطريقة متدينا فقيرا متعففا نظيفا نزها وقف كتبه. ورجع عن الأشعرية. توفي في ثامن عشر شعبان سنة خمسين وخمسمائة. ¬

(¬1) المنهاج (5/ 269 - 270). (¬2) السير (20/ 265 - 271) والمنتظم (18/ 103 - 104) ووفيات الأعيان (4/ 293 - 294) والوافي بالوفيات (5/ 104 - 106) والبداية والنهاية (12/ 250) والعبر (2/ 99) وشذرات الذهب (4/ 155 - 156).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: رجوعه عن الأشعرية: قال ابن النجار: قرأت بخط ابن ناصر وأخبرنيه عنه سماعا يحيى بن الحسين قال: بقيت سنين لا أدخل مسجد أبي منصور الخياط، واشتغلت بالأدب على التبريزي، فجئت يوما لأقرأ الحديث على الخياط، فقال: يا بني، تركت قراءة القرآن، واشتغلت بغيره؟ عد، واقرأ علي ليكون لك إسناد، فعدت إليه في سنة اثنتين وتسعين، وكنت أقول كثيرا: اللهم بين لي أي المذاهب خير. وكنت مرارا قد مضيت إلى القيرواني المتكلم في كتاب التمهيد للباقلاني، وكأن من يردني عن ذلك. قال: فرأيت في المنام كأني قد دخلت المسجد إلى الشيخ أبي منصور، وبجنبه رجل عليه ثياب بيض ورداء على عمامته يشبه الثياب الريفية، دري اللون، عليه نور وبهاء، فسلمت، وجلست بين أيديهما، ووقع في نفسي للرجل هيبة وأنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما جلست التفت إلي، فقال لي: عليك بمذهب هذا الشيخ، عليك بمذهب هذا الشيخ. ثلاث مرات، فانتبهت مرعوبا، وجسمي يرجف، فقصصت ذلك على والدتي، وبكرت إلى الشيخ لأقرأ عليه، فقصصت عليه الرؤيا، فقال: يا ولدي، ما مذهب الشافعي إلا حسن، ولا أقول لك: اتركه، ولكن لا تعتقد اعتقاد الأشعري. فقلت: ما أريد أن أكون نصفين، وأنا أشهدك، وأشهد الجماعة أني منذ اليوم على مذهب أحمد بن حنبل في الأصول والفروع. فقال لي: وفقك الله. ثم أخذت في سماع كتب أحمد ومسائله والتفقه على مذهبه،

موقف السلف من أبي مسعود عبد الجليل بن محمد كوتاه الجهمي (553 هـ)

وذلك في رمضان سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة. (¬1) موقف السلف من أبي مسعود عبد الجليل بن محمد كوتاه الجهمي (553 هـ) موقف شيخه أبي القاسم إسماعيل بن محمد منه: قال السمعاني: لما وردت أصبهان كان ما يخرج من داره إلا لحاجة مهمة، كان شيخه إسماعيل الحافظ هجره، ومنعه من حضور مجلسه لمسألة جرت في النزول، وكان كوتاه يقول: النزول بالذات، فأنكر إسماعيل هذا، وأمره بالرجوع عنه، فما فعل. (¬2) تعليق الإمام الذهبي: ومسألة النزول فالإيمان به واجب، وترك الخوض في لوازمه أولى، وهو سبيل السلف، فما قال هذا: نزوله بذاته، إلا إرغاما لمن تأوله، وقال: نزوله إلى السماء بالعلم فقط. نعوذ بالله من المراء في الدين. وكذا قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ} (¬3) ونحوه، فنقول: جاء، وينزل، وننهى عن القول: ينزل بذاته، كما لا نقول: ينزل بعلمه، بل نسكت ولا نتفاصح على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعبارات مبتدعة والله أعلم. (¬4) ¬

(¬1) السير (20/ 269 - 270). (¬2) السير (20/ 330). (¬3) الفجر الآية (22). (¬4) السير (20/ 331).

ابن ناجية أحمد بن أبي المعالي (554 هـ)

ابن نَاجِيَة أحمد بن أبي المعالي (¬1) (554 هـ) العلامة أبو القاسم أحمد بن أبي المعالي المعروف بابن ناجية. سمع أبا عبد الله بن البسري، وأبا الحسين بن الطيوري. روى عنه ابن سكينة وابن الأخضر. كان فقيها فاضلا دينا حسن الكلام في المسائل، حلو المنطق في الوعظ، تفقه على أبي الخطاب الكلوذاني وبرع في الفقه. وقال صدقة بن الحسين: كان شيخا كبيرا قد نيف على الثمانين، فقيها مناظرا عارفا، له مخالطة بالفقهاء. توفي سنة أربع وخمسين وخمسمائة. موقفه من المبتدعة: جاء في السير: قال السمعاني: فقيه دين، حلو الوعظ، تفقه على أبي الخطاب، ثم تحول حنفيا، ثم شافعيا وقال لي: أنا اليوم متبع للدليل، ما أقلد أحدا. (¬2) موقف السلف من علي بن المهدي الخارجي (554 هـ) قال عمارة اليمني: لازمته سنة، وتركت التفقه، ونسكت، فأعادني أبي إلى المدرسة، فكنت أزوره في الشهر، فلما استفحل أمره تركته، ولم يزل من سنة 530هـ يعظ ويخوف في القرى، ويحج على نجيب، وأطلقت له السيدة أم فاتك ولأقاربه خراج أملاكهم، فتمولوا إلى أن صار جمعه نحو أربعين ألف ¬

(¬1) السير (20/ 315) وذيل طبقات الحنابلة (1/ 232) والبداية والنهاية (12/ 258) والوافي بالوفيات (7/ 112). (¬2) السير (20/ 315).

موقف السلف من وزير مصر الملك أبي الغارات الرافضي (556 هـ)

مقاتل، وحارب، وكان يقول: دنا الوقت، أزف الأمر، كأنكم بما أقول لكم عيانا، ثم ثار ببلاد خولان، وعاث وسبى، وأهلك الناس، ثم لقيته عند الداعي بجبلة سنة تسع وأربعين يستنجد به، فأبى، ثم دبر على قتل وزير آل فاتك، ثم زحف إلى زبيد، فقاتله أهلها نيفا وسبعين زحفا، وقتل خلائق من الفريقين، ثم قتل فاتك متولي زبيد، وأخذها ابن مهدي في رجب سنة أربع وخمسين وخمس مائة، فما متع، وهلك بعد ثلاثة أشهر، وقام بعده ابنه عبد النبي، وعظم، حتى استولى على سائر اليمن، وجمع أموالا لا تحصى، وكان حنفي المذهب -أعني الأب- يرى التكفير بالمعاصي، ويستحل وطء سبايا من خالفه، ويعتقد فيه قومه فوق اعتقاد الخلق في نبيهم. قال وحكي لي عنه أنه لم يثق بيمين من يصحبه حتى يذبح ولده أو أخاه، وكان يقتل بالتعذيب في الشمس، ولا يشفع أحد عنده، وليس لأحد من عسكره فرس يملكه ولا سلاح، بل الكل عنده إلى وقت الحرب، والمنهزم منهم يقتل جزما، والسكران يقتل، ومن زنى أو سمع غناء يقتل، ومن تأخر عن صلاة الجماعة قتل. (¬1) موقف السلف من وزير مصر الملك أبي الغارات الرافضي (556 هـ) جاء في السير: قال الشريف الجواني: كان في نصر المذهب كالسكة المحماة لا يفرى فريه، ولا يبارى عبقريه، وكان يجمع العلماء، ويناظرهم على ¬

(¬1) السير (20/ 321 - 322).

يحيى بن سالم العمراني (558 هـ)

الإمامة. قال الذهبي: صنف في الرفض والقدر. ولقد قال لعلي بن الزبد لما ضجت الغوغاء يوم خلافة العاضد وهو حدث: يا علي، ترى هؤلاء القوادين دعاة الإسماعيلية يقولون: ما يموت الإمام حتى ينصها في آخر، وما علموا أني من ساعة كنت أستعرض لهم خليفة كما أستعرض الغنم. (¬1) يحيى بن سالم العمراني (¬2) (558 هـ) يحيى بن سالم بن سعد ين يحيى الفقيه أبو الخير العمراني، صاحب كتاب البيان، وله تصانيف مفيدة، نشر العلم باليمن، ورحل الناس إليه وتفقهوا عليه، وكان إماما زاهدا ورعا عالما خيرا مشهور الاسم بعيد الصيت عارفا بالفقه وأصوله، له رد على القدرية والأشعرية. توفي سنة ثمان وخمسين وخمسمائة. موقفه من الرافضة: قال رحمه الله في الانتصار: اختلف الناس في الإمامة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذهب أهل الحديث وعلماء السلف أن الإمام الحق بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وأن إمامته ثبتت بعقد الصحابة رضي الله ¬

(¬1) السير (20/ 398 - 399). (¬2) تاريخ الإسلام (حوادث 51 - 560/ص.277 - 278) والسير (20/ 377 - 378) والأعلام (8/ 146) وشذرات الذهب (4/ 185 - 186).

عنهم الإمامة له بظواهر أدلة استنبطوها من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينص النبي صلى عليه وسلم على إمامته ولا عهد بها إليه ولا إلى أحد من الصحابة، وأنه هو أحق الناس بالإمامة في وقته، وأن الإمام الحق بعده هو عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، ودرجاتهم في الفضل على درجاتهم في الإمامة. وقالت الخوارج بإمامة أبي بكر وعمر وبإمامة عثمان إلى الوقت الذي ادعوا أنه أحدث، وبإمامة علي بن أبي طالب إلى أن حكم وتبرءوا منهما بعد ذلك. وادعت فرقة منهم يقال لهم البكرية منسوبة إلى شيخ لهم يسمى بكرا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصى بالإمامة إلى أبي بكر رضي الله عنه ونص عليه. وقالت المعتزلة بإمامة أبي بكر وعمر وفسقوا عثمان وعليا وقاتلي عثمان وخاذليه وطلحة والزبير وعائشة ومعاوية وأبا موسى الأشعري. وقال أستاذهم عمرو بن عبيد: لو شهد عندي علي بن أبي طالب على شراك نعل ما قبلت شهادته. وذهب فرقة الراوندية إلى أن الإمامة للعباس بن عبد المطلب، وقد نص عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقالت الروافض والشيعة بإمامة علي بن أبي طالب، فادعوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على إمامته نصا لا يحتمل التأويل، ورفضوا إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وكفروا الصحابة كلهم إلا أربعة: علي بن أبي طالب وأبا ذر والمقداد وسلمان الفارسي. ثم افترقت الرافضة والشيعة في الإمامة بعد علي رضي الله عنه على

موقفه من الجهمية:

ثلاث فرق. (¬1) موقفه من الجهمية: - قال رحمه الله موضحا اعتقاده في القرآن: فإن كلام الله هو القرآن، وهو هذه السور التي هي آيات لها أول وآخر، وهو القرآن المنزل بلسان العرب تكلم الله به بحروف لا كحروفنا وصوت يسمع لا كأصواتنا، وهو صفة لله قديم بقدمه غير مخلوق. وقال جهم والمعتزلة والقدرية: هو مخلوق ولا يتصور على أصلهم أن ما يتلونه من القرآن يصفونه بأنه مخلوق لله كسائر مخلوقاته من السماء والأرض، وهما من الأجسام، بل هو خلق لهم كخلقهم لجميع أقوالهم التي ينطقون بها من الشعر والنثر وسائر الكلام. وقالت الكلابية والأشعرية: كلام الله الذي ليس بمخلوق هو معنى قائم بنفسه لا يفارق ذاته، وهذا القرآن المتلو المسموع عبارة وحكاية عن الكلام القائم بنفسه، وكذلك القول عندهم في كلام البشر هو معنى قائم بذات المتكلم. وهذه الحروف والأصوات المسموعة منهم عبارة عن المعنى القائم بالذات لا تسمى كلاما حقيقة بل مجازا أو توسعا. والأشعرية موافقة للمعتزلة في أن هذا القرآن المتلو المسموع مخلوق. وزعم قوم أن هذا القرآن كلام الله ووقفوا، وقالوا: لا نقول مخلوق ولا غير مخلوق، وهم الواقفة. (¬2) ¬

(¬1) الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار (3/ 824 - 826). (¬2) الانتصار في الرد على المعتزلة (2/ 541 - 545).

- ثم قال رحمه الله: إذا تقرر ما ذكرنا أن القرآن غير مخلوق، وأن القرآن عند أصحاب الحديث هو الكتاب الذي أنزله الله تعالى على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو القرآن العربي، السور والآيات المتلو باللسان والمسموع بالآذان المعقول بالأذهان المحفوظ في الصدور المكتوب بالمصاحف بالسطور له أول وآخر وبعض، فمن قال بخلقه فهو كافر كفرا يخرجه عن الملة، لما تقدم ذكره في الفصل قبل هذا، وقد وافقنا الأشعرية على أن القرآن غير مخلوق، ومن قال بخلقه فهو كافر، وردوا على قولة المعتزلة والقدرية إنه مخلوق. إلا أن الأشعرية قالوا: كلام الله الحقيقي هو معنى قائم في نفسه لا يفارقه، لا يدخل كلامه النظم والتأليف والتعاقب، ولا يكون بحرف وصوت ولا يتكلم الله بالعربية ولا بغيرها من اللغات، وليس له أول ولا آخر ولا بعض، بل هو شيء واحد لم ينزله الله على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا على أحد من الأنبياء، ولا يتلى ولا يكتب، ولم يسمعه أحد إلا موسى عليه السلام، وهذه السور والآيات عبارة وحكاية عن كلام الله وتسمى قرآنا، وكذلك التوراة عبارة عن كلام الله بلغة موسى وقومه، والإنجيل عبارة عن كلام الله بلغة عيسى وقومه. فادعوا أن كلام الله غير القرآن وأن القرآن غير كلام الله. فقولهم إن القرآن غير مخلوق تلاعب وخلف من الكلام. (¬1) - ثم تحدث عن مسألة الاستواء فقال: عند أصحاب الحديث والسنة أن الله سبحانه بذاته، بائن عن خلقه، على العرش استوى فوق السموات، غير مماس له، وعلمه محيط بالأشياء كلها. ¬

(¬1) الانتصار في الرد على المعتزلة (2/ 554 - 555).

موقفه من الخوارج:

وقالت الكرامية: إنه مماس للعرش. وقالت المعتزلة: إن ذات الله بكل مكان حتى بالحشوش وأجواف الحيوان. قيل لبشر المريسي فهو في جوف حمارك هذا؟ قال: نعم، وهذا قول الحلولية وهو كفر صريح لا إشكال فيه. وقالت الأشعرية: لا يجوز وصفه بأنه على العرش ولا في السماء. (¬1) موقفه من الخوارج: قال في الانتصار: ومذهب أهل السنة أن الموحدين لا يكفرون بفعل شيء من المعاصي الصغائر والكبائر، وإذا عملوا الكبائر وتابوا لم تضرهم، وإن ماتوا قبل التوبة منها فأمرهم إلى الله، إن شاء عذبهم عليها وإن شاء غفرها لهم، وإن عذب العباد على الصغائر لم يكن ظالما لهم بذلك. وقالت المرجئة: لا يوصف الله بأنه يعذب عباده على ذنب غير الكفر. وقالت الخوارج: من أذنب متعمدا كفر بالله سواء فعل صغيرة أو كبيرة. (¬2) موقفه من المرجئة: - قال رحمه الله في كتابه الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار: وعند أهل السنة والحديث أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ¬

(¬1) الانتصار في الرد على المعتزلة (2/ 607 - 609). (¬2) الانتصار في الرد على المعتزلة (3/ 666 - 668).

وأهل الإيمان على مراتب. (¬1) - وقال: وقالت المرجئة والكرامية وأهل الزيغ من القدرية وغيرهم: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وإن إيمان الأنبياء كإيمان سائر العصاة من الخلق. (¬2) - وقال: ويلزم المرجئة الذين يقولون الإيمان قول بلا عمل أن إبليس مؤمن لأن الله أخبر أنه قال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} (¬3) وقال: {رب فَأَنْظِرْنِي} (¬4) فأخبر الله أنه قال بلسانه أن له ربا، ويلزم الجهمية الذين يقولون: إن الإيمان معرفة بلا قول ولا عمل أن اليهود مؤمنون لأن الله تعالى أخبر عنهم بقوله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} (¬5) وقد علمنا أن الكفار عرفوا بعقولهم أن الله خلقهم وأنه خلق السماوات والأرض، قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (¬6) ويعرفون أيضا أنه لا ينجيهم من ظلمات البر والبحر إلا الله، ويدعون إلى الله أن ينجيهم وبذلك أخبر الله عنهم. (¬7) - وقال: واحتجت الأشعرية ومن قال إن الإيمان هو التصديق ¬

(¬1) (3/ 762). (¬2) (3/ 763). (¬3) الحجر الآية (39). (¬4) الحجر الآية (36). (¬5) البقرة الآية (146). (¬6) لقمان الآية (25). (¬7) (3/ 795).

بالقلب لا غير بقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} (¬1) أي بمصدق لنا، وبقول الناس: فلا يؤمن بعذاب القبر وبالشفاعة وما أشبهها، وأراد به التصديق. والجواب: أنا لا ننكر أن هذا حد الإيمان في اللغة. وأما في الشرع فهو أشرف خصال الإيمان، ولا يمتنع أن يكون للشيء اسم في اللغة واسم في الشرع، وإذا ورد الشرع به فإنه يجب حمله على ما تقرر اسمه في الشرع كالصلاة فإنها في اللغة المراد بها الدعاء، وهي في الشرع عبارة عن هذه الأفعال المشروعة في الصلاة، وكذلك الصيام فهو في اللغة اسم للإمساك عن جميع الأشياء، وهو في الشرع اسم للإمساك عن أشياء مخصوصة، والزكاة في اللغة اسم للزيادة، وهي في الشرع اسم لأخذ شيء من المال، والحج في اللغة القصد، وهو في الشرع اسم لهذه الأفعال المشروعة، والغائط في اللغة اسم للموضع المطمئن، وفي الشرع اسم لما يخرج من الإنسان، وإذا ورد الشرع بشيء من هذه الأشياء، فإنما يحمل على ما تقرر في الشرع لا على مقتضاه في اللغة. واحتجت المرجئة ومن قال إن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب دون الأعمال بالأخبار المشهورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله محمد رسول الله دخل الجنة». (¬2) وبما روى عبادة بن الصامت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من شهد أن لا إله إلا ¬

(¬1) يوسف الآية (17). (¬2) أخرجه من حديث معاذ رضي الله عنه: أحمد (5/ 247) وأبو داود (3/ 486/3116) والحاكم (1/ 351) وصححه ووافقه الذهبي. وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه: ابن حبان (الإحسان 7/ 272/3004). وليس في شيء من الروايات محمد رسول الله.

الله وأن محمدا رسول الله حرم على النار». (¬1) والجواب عن هذه الأخبار من وجهين: أحدهما: أن نقول كما قال الزهري: (الأخبار كانت قبل نزول الفرائض والأمر والنهي). والثاني: أن نقول هذا خبر عما يؤول إليه أمر الموحدين بأن الله سيدخل الموحدين الجنة، وإن عذبهم فبذنوبهم، ولا يخلدون في النار كما قالت الخوارج والمعتزلة والقدرية. وقد أخبر الله سبحانه في القرآن أنه إنما يدخل العباد الجنة بالإيمان والعمل في آيات كثيرة منها في البقرة، قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (¬2) وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (¬3)، وقوله تعالى في آل عمران: {وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} (¬4)، وفي النساء قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} (¬5) وقوله تعالى: {فَأَمَّا ¬

(¬1) أحمد (5/ 318) ومسلم (1/ 57 - 58/ 29) والترمذي (5/ 23 - 24/ 2638) والنسائي في الكبرى (6/ 277/10967). (¬2) البقرة الآية (25). (¬3) البقرة الآية (277). (¬4) آل عمران الآية (57). (¬5) النساء الآية (122).

الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} (¬1)، وفي المائدة قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)} (¬2)، وفي الأنعام قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)} (¬3)، وفي الأعراف قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)} إلى قوله تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} (¬4)، وهذا كثير في القرآن وآخره قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} (¬5)، ولم يذكر الله في القرآن دخول الجنة بغير عمل، بل أخبر أنه يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، وأخبر أنه لا يغفر الشرك، فالقرآن لا يتناقض وإنما يؤيد بعضه بعضا. (¬6) ¬

(¬1) النساء الآية (173). (¬2) المائدة الآية (9). (¬3) الأنعام الآية (48) .. (¬4) الأعراف الآيتان (42و43). (¬5) العصر الآيتان (2و3). (¬6) (3/ 756 - 759).

موقفه من القدرية:

موقفه من القدرية: له من الآثار السلفية: 1 - 'السنة' ذكره ابن القيم في اجتماع الجيوش ونقل منه ما يتعلق بموضعه. 2 - 'الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار'، وقد طبع في ثلاث مجلدات. وسبب تأليفه أن العمراني ألف رسالة بين فيها عقيدة أهل السنة فجعلها نصيحة للمسلمين وتحذيرا لهم مما أظهره القاضي جعفر بن أحمد بن عبد السلام الزيدي من الاعتزال والكلام في القدر، فحرر هذا الأخير ردا على العمراني سماه الدامغ للباطل من مذهب الحنابل، فألف العمراني كتابه هذا ردا عليه وعلى الطوائف المبتدعة المخالفة لمعتقد أهل السنة. وضمنه فصولا جيدة ننقل منها أمثلة: - قال: ولم يزل العلماء يردون على القدرية أقوالهم ويبطلون استدلالهم ويكشفون تلبيسهم ويظهرون تدليسهم، وبذلك أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين». (¬1) ولا تزول الشبه عن قلوب العامة إلا من حيث دخلت وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يزيل الشبه من حيث علم دخولها. (¬2) ¬

(¬1) أخرجه البزار (1/ 86/143 كشف الأستار)، وابن عبد البر في التمهيد (1/ 59) عن أبي قبيل عن عبد الله بن عمرو وأبي هريرة مرفوعا. وأخرجه العقيلي في الضفعاء (4/ 256) وابن عدي في الكامل (1/ 146) وابن عبد البر في التمهيد (1/ 58 - 59) والخطيب في شرف أصحاب الحديث (ص.29) والبيهقي (10/ 209) عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري مرسلا. قال القسطلاني في إرشاد الساري (1/ 13): "وهذا الحديث رواه من الصحابة علي وابن عمر وابن عمرو وابن مسعود وابن عباس وجابر بن سمرة ومعاذ وأبو هريرة رضي الله عنهم، وأورده ابن عدي من طرق كثيرة كلها ضعيفة كما صرح به الدارقطني وأبو نعيم وابن عبد البر لكن يمكن أن يتقوى بتعدد طرقه ويكون حسنا كما جزم به ابن كيكلدى العلائي". (¬2) الانتصار (1/ 94).

- وقال: وقد أدخلت المعتزلة، والقدرية على الإسلام وأهله شبها في الدين ليموهوا بها على العوام، ومن لا خبرة له بأصولهم التي بنوا عليها أقوالهم، فاتبعوا متشابه القرآن وأولوا القرآن على خلاف ما نقل عن الصحابة والتابعين المشهورين بالتفسير، لينفقوا بذلك أقوالهم، فهم أشد الفرق ضررا على أصحاب الحديث، ثم بعدهم الأشعرية. لأنهم أظهروا الرد على المعتزلة وهم قائلون بقولهم. فاستخرت الله سبحانه على كشف تلبيسهم، وإظهار تدليسهم بهذا الكتاب، وجعلته فصولا كل فصل فيه يشتمل على ذكر فائدة منفردة ليقرب على قارئه أخذ الفائدة منه، وقدمت ذكر مذاهب أصحاب الحديث جملة، ثم الأصول التي بنى أصحاب الحديث أقوالهم عليها، وبينت انسلاخ القدرية منها. (¬1) وقال: فالمعتزلة والقدرية عن سنن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعزل لوجوه: أحدها: أنهم يطعنون على الصحابة رضي الله عنهم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وينسبونهم إلى الظلم لعلي رضي الله عنه، وقد أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء بهم جميعا والأخذ عنهم. والثاني: أنهم يطعنون على أصحاب الحديث بعدهم، وقد صرح هذا الرجل المعترض بدامغه هذا، فقال: أصحاب الحديث حمال أسفار أو أسمار. وهم الواسطة بيننا وبين نبينا ولم يتصل إلينا القرآن الذي هو أصل السنة إلا منهم. والثالث: أن السنة فرع للقرآن، لأن نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ثبتت بثبوت ¬

(¬1) الانتصار (1/ 95 - 96).

معجزته ولا معجزة له فينا باقية إلى يوم القيامة إلا القرآن الذي هو كلام الله القديم. وإذا كان القرآن عند القدرية مخلوقا كسائر كلامهم لم يثبت فرعه، وهو السنة. والرابع: أن المعروف منهم اجتناب النقل والرواية عن المشهورين بالنقل، ولا عندهم كتب فيها سند صحيح كنحو الكتب المشهورة في الأمصار كالبخاري ومسلم والترمذي، وسنن أبي داود وغير ذلك من التصانيف التي أجمع أئمة الأمصار على روايتها والاحتجاج بها، وإنما عندهم خطب وكتب مزخرفة ينسبونها إلى أهل البيت وهم عنها برآء، كما اشتهر عنهم من القول بخلافها، ومعتمدهم كلام المتكلمين في الأعراض والجواهر والأجسام. والوجه الخامس: أن القدرية إذا روي لهم خبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عارضوه بخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله وعلى عقولكم؛ فإن وافق ذلك وإلا فارموا به». (¬1) وهذا الخبر ليس بصحيح؛ لأنا لو عرضناه على كتاب الله لم نجد ما يوافقه، ولو عرضنا الأخبار المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواقيت الصلاة وأعداد الركعات وغير ذلك من الأحكام التي نقلت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نقلا متواترا وأجمع ¬

(¬1) لم أجده بلفظ: «وعلى عقولكم» وأخرجه بدون هذه الزيادة: الطبراني في الكبير (12/ 316/13224) من طريق أبي حاضر عن الوضين عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فذكره بنحوه. وذكره الهيثمي في المجمع (1/ 175) وقال بعد عزوه للطبراني: "وفيه أبو حاضر عبد الملك بن عبد ربه وهو منكر الحديث". وتعقب الشيخ الألباني الهيثمي في قوله هذا بأن أبا حاضر هذا ليس هو عبد الملك بن عبد ربه. وأبو حاضر هذا عداده في المجهولين ذكر ذلك ابن عبد البر في الاستغناء (ترجمة 1548) وكذا الذهبي في الميزان وابن حجر في اللسان. والحديث أعله الشيخ الألباني في الضعيفة (1088) بأربع علل. وفي الباب عن أبي هريرة وعلي بن أبي طالب وغيرهما.

العلماء عليها على كتاب الله أو على العقل لم نجد ما يوافقها، فعلم بذلك أن هذا الخبر لا أصل له، وإنما دعاهم إلى ذلك عجزهم عن ضبط الأحاديث. (¬1) وقال: ومما خالفت به القدرية والمعتزلة الكتاب والسنة وأهل الحديث وركبت العناد فيه أن قالوا: ليس لله حياة ولا علم ولا إرادة ولا قوة ولا سمع ولا بصر ولا كلام وردوا ما جاء به القرآن من إثبات الوجه واليدين لله. قال هذا الرجل (¬2) بخطبة دامغه المنقلب عليه: استغنى الله بذاته عن كل مجهول من الأشياء ومعروف لا يحتاج في الاتصاف بأوصاف الكمال والاستحقاق لا سيما العزة والجلال. وهذا متابعة منه لأسلافه من المعتزلة في نفي هذه الصفات عن الله، ونسب أهل السنة لما وصفوه بذلك إلى الكذب. واستدل على قوله هذا بأن قال: كأنهم لم يسمعوا الله يقول وهو أصدق القائلين: {هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)} (¬3). ودليلنا على إثبات هذه الصفات لله تعالى قوله تعالى: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} (¬4). وقوله تعالى: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ ¬

(¬1) الانتصار (1/ 109 - 113). (¬2) يقصد القاضي جعفر بن أحمد بن عبد السلام في كتابه: 'الدامغ للباطل من مذاهب الحنابل'. (¬3) يونس الآية (68). (¬4) فاطر الآية (11).

بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غائبين (7)} (¬1). وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)} (¬2). والقوة القدرة (¬3) وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَن اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (¬4)، وقوله تعالى: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} (¬5). والدليل على إثبات الكلام له قوله تعالى: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (¬6)، وقوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} (¬7). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من ينصرني حتى أبلغ كلام ربي» (¬8). والدليل على إثبات السمع والبصر ما أخبر الله عن إبراهيم أنه قال: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ} (¬9). ولو كان إله إبراهيم لا يسمع ولا يبصر لكان دليله منقلبا عليه. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعائه: «يا من وسع سمعه الأصوات». (¬10) ¬

(¬1) الأعراف الآية (7). (¬2) الذاريات الآية (58). (¬3) بل القوة صفة من صفات الله تعالى الثابتة له من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل. (¬4) فصلت الآية (15). (¬5) البقرة الآية (165). (¬6) التوبة الآية (6). (¬7) الفتح الآية (15). (¬8) أحمد (3/ 322) وأبو داود (5/ 103/4734) والترمذي (5/ 168/2925) والنسائي في الكبرى (4/ 411/7727) وابن ماجه (1/ 73/201) وصححه ابن حبان (14/ 172 - 174/ 6274) كلهم من حديث جابر. (¬9) مريم الآية (42). (¬10) لم أعثر عليه مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما ثبت من قول عائشة رضي الله عنها في قصة المجادلة بلفظ: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات .. أخرجه: أحمد (6/ 46) والبخاري تعليقا (13/ 460) والنسائي (6/ 480/3460) وابن ماجه (1/ 67/188) والحاكم (2/ 481) وصححه ووافقه الذهبي. وقال الحافظ في تغليق التعليق (5/ 339): "هذا حديث صحيح".

والدليل على إثبات الحياة قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (¬1)، فوصف الله سبحانه نفسه بأنه يسمع ويبصر ويتكلم وأنه حي، وحقيقة الموصوف بصفة ثبوت الصفة له، وليس بين الموصوف بهذه الصفات وبين الموصوف بضدها وهي: الموت والعجز والجهل والعمى والصمم والخرس فرق إلا ثبوت هذه الصفات وعدمها، كما أنه موصوف بالوجود لئلا يكون موصوفا بضده وهو العدم، وأما إثبات الوجه واليدين فإنه إثبات صفة لا إثبات جارحة له كما أثبتته المجسمة. ولا نفسر ذلك كما فسرته الأشعرية، ولا ننفي ذلك كما نفته القدرية. والدليل على ذلك قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (¬2). وقوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} (¬3). وقال الله لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (¬4)، وأراد الله بذلك إظهار الفضيلة لآدم على إبليس. (¬5) ¬

(¬1) البقرة الآية (255). (¬2) القصص الآية (88). (¬3) الرحمن الآية (27). (¬4) ص الآية (75). (¬5) الانتصار (1/ 134 - 136).

ابن هبيرة (560 هـ)

ابن هُبَيْرَة (¬1) (560 هـ) الوزير الكامل الإمام العادل العالم أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة الحنبلي، ولد بقرية بني أوقر، قرية قريبة من بغداد سنة تسع وتسعين وأربعمائة. ودخل بغداد في صباه وطلب العلم، فسمع الحديث من عثمان بن ملة، وعبد الوهاب الأنماطي، وتفقه بأبي الحسين ابن القاضي أبي يعلى، ومهر في اللغة، وكان عارفا بالمذهب. قال عنه الذهبي: كان سلفيا، أثريا، دينا خيرا متعبدا وقورا، متواضعا بارا بالعلماء، مكبا مع أعباء الوزارة على العلم وتدوينه. وقال عنه ابن كثير: كان من خيار الوزراء وأحسنهم سيرة، وأبعدهم عن الظلم. ومن شعره رحمه الله: تمسك بتقوى الله، فالمرء لا يبقى ولا تظلمن الناس ما في أيديهم تعود فعال الخير جمعا فكل ما ... وكل امرئ ما قدمت يده يلقى ولا تذكرن إفكا ولا تحسدن خلقا تعوده الإنسان صار له خلقا وله كتاب 'الإفصاح' شرح فيه الجمع بين الصحيحين للحميدي. توفي سنة ستين وخمسمائة. موقفه من المبتدعة: كان من خيار عباد الله، تولى الوزارة فنفع الله به أهل السنة فرفعهم وأكرمهم، وواظب على طلب العلم ومجالسة العلماء. وكان مثالا في الورع، يعرف ذلك من قرأ سيرته وترجمته. ¬

(¬1) السير (20/ 426 - 432) والمنتظم (18/ 166 - 167) والكامل في التاريخ (11/ 321) ووفيات الأعيان (6/ 230 - 244) والبداية والنهاية (12/ 268 - 269) وشذرات الذهب (4/ 191 - 197) وطبقات الحنابلة (3/ 251 - 289).

- قال ابن الجوزي: وكان متشددا في اتباع السنة وسير السلف ... فكان يجتهد في اتباع الصواب ويحذر من الظلم. (¬1) - وجاء في الطبقات أنه قال: من مكايد الشيطان: تنفيره عباد الله من تدبر القرآن، لعلمه أن الهدى واقع عند التدبر، فيقول: هذه مخاطرة، حتى يقول الإنسان: أنا لا أتكلم في القرآن تورعا. ومنها: أن يخرج جوالب الفتن مخرج التشدد في الدين. ومنها: أن يقيم أوثانا في المعنى تعبد من دون الله، مثل أن يبين الحق، فيقول: ليس هذا مذهبنا، تقليدا للمعظم عنده، قد قدمه على الحق. (¬2) - وقال عقب حديث ابن مسعود: «إن أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، و {إِن مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)} (¬3)» (¬4): وهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - طريقته، والهدي: الطريقة؛ ففي هذا الحديث دليل على أن من أحدث في الدين شيئا لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه خارج عن أن يسمى أحسن، بل الذي فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الأحسن. وقوله: «شر الأمور محدثاتها»، إنما ذكر الأمور بالألف واللام المعرفتين، لأنه يعني بذلك الأمور التي حررها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكل ما أحدث بعد ¬

(¬1) المنتظم (18/ 166 - 167). (¬2) طبقات الحنابلة (3/ 273). (¬3) الأنعام الآية (134). (¬4) أخرجه البخاري (13/ 310/7277).

موقفه من الرافضة:

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما حرره فهو شر. (¬1) - وقال عقب حديث أبي ذر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن بعدي من أمتي -أو سيكون بعدي من أمتي- قوم، يقرأون القرآن، لا يجاوز حلاقيمهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه، هم شر الخلق والخليقة». (¬2) قال: وقوله: «لا يعودون فيه»، فإن هذا مما نخاف منه كثيرا على أهل البدع؛ فإن كل مبتدع بدعة لا يرى أنه فيها على ضلال فيعود إلى الحق، وليس في الذنوب ذنب لايستغفر منه صاحبه إلا البدعة؛ لأنه يراها دينا وقربة، فهو لا يستغفر منها، ولا أرى هذا ينصرف إلا إلى أهل البدع، فإنهم يخرجون من الدين بالبدعة ثم لا يعودون إليه؛ لأنهم لا يرون قبح ما هم عليه من الضلالة. (¬3) موقفه من الرافضة: - جاء في طبقات الحنابلة قال: والله ما نترك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مع الرافضة، نحن أحق به منهم، لأنه منا ونحن منه. (¬4) - وجاء في البداية: وفيها أي سنة إحدى وستين وخمسمائة أظهر الروافض سب الصحابة وتظاهروا بأشياء منكرة، ولم يكونوا يتمكنون منها ¬

(¬1) الإفصاح عن معاني الصحاح (2/ 81 - 82). (¬2) أحمد (5/ 31) ومسلم (2/ 750/1067) وابن ماجه (1/ 60/170). (¬3) الإفصاح عن معاني الصحاح (2/ 189 - 190). (¬4) طبقات الحنابلة (3/ 273).

موقفه من الجهمية:

في هذه الأعصار المتقدمة خوفا من ابن هبيرة. (¬1) موقفه من الجهمية: - جاء في ذيل طبقات الحنابلة عنه قال: تفكرت في أخبار الصفات، فرأيت الصحابة والتابعين سكتوا عن تفسيرها مع قوة علمهم، فنظرت السبب في سكوتهم، فإذا هو قوة هيبة للموصوف، ولأن تفسيرها لا يتأتى إلا بضرب الأمثال لله، وقد قال عز وجل: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} (¬2). قال: وكان يقول: لا يفسر على الحقيقة ولا على المجاز. لأن حملها على الحقيقة تشبيه وعلى المجاز بدعة. وقال: ولا نترك الشافعي مع الأشعرية، فإنا أحق به منهم. (¬3) التعليق: ما أدري ماذا يقصد بقوله: ولا يفسر على الحقيقة، فإن كان يقصد التفويض فبئس الرأي، وإن كان يقصد التشبيه، فهذا هو المظنون به، لأن العبارات السابقة واللاحقة تدل على أنه يقصد نفي الكيفية. والله أعلم. موقفه من الخوارج: - قال في شرحه لحديث علي رضي الله عنه « ... فيهم رجل مخدج اليد ... » الحديث (¬4). فيه من الفقه توفر الثواب في قتل الخوارج، وأنه بلغ إلى ¬

(¬1) البداية والنهاية (12/ 269). (¬2) النحل الآية (74). (¬3) ذيل طبقات الحنابلة (1/ 273). (¬4) مسلم (1066).

موقفه من المرجئة:

أن خاف علي رضي الله عنه أن يبطر أصحابه إذا أخبرهم بثوابهم في قتلهم، وإنما ذكر هذه لئلا يرى أحد في وقت ظهور مثلهم أن قتال المشركين أولى من قتالهم، بل قتالهم على هذا الكلام أولى من قتال المشركين، لأن في ذلك حفظ رأس مال الإسلام، وقتال المشركين هو طلب ربح في الإسلام. (¬1) - وقال في حديث زيد بن وهب « ... أنه كان في الجيش الذين كانوا مع علي ... » الحديث. (¬2) وأن هؤلاء إنما أتوا من الغلو في الدين، وكونهم جفت طباعهم حتى ظنوا أن الدين كله إهانة النفوس للقتل، وأكل الجشب، ولبس الخشن وغير ذلك، فرأوا الصبر على القتل ظانين أن ذلك مما يقربهم عند الله عز وجل، وكان ذلك غلطا منهم، وسوء تدبير؛ فإن الحق هو ما شرعه الله عز وجل في الحنيفية السمحة السهلة، وأن يكونوا أشداء على الكفار، رحماء بينهم، وإني لأخاف على كثير ممن يتظاهر بالزهد والانقطاع في زماننا هذا، وأن يكونوا قد بلغوا في الجهل ومخالفة الحق إلى نحو طبقة هؤلاء من كونهم يرون الإنكار على السلطان والهجران لدار الإمام قربة يزعمونها، وفضيلة يدَّعونها، إلا أنهم ليسوا أهل شوكة ولا لهم قلوب تثبت في الحرب، ولذلك نما أمرهم، وإن الحق إعانة الخلافة فيما فرضه الله لها. (¬3) موقفه من المرجئة: - قال رحمه الله: وفيه أيضاً من الفقه أن الإيمان درجة ومقام في ¬

(¬1) الإفصاح (1/ 280). (¬2) أخرجه مسلم (2/ 748/1066 (156)). (¬3) الإفصاح (1/ 282).

الإسلام، وأنه لا يوصف بالألف واللام اللتين للتعريف إلا أن يكون إيماناً بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر كله خيره وشره. (¬1) - وقال أيضا: في هذا الحديث من الفقه أن الغلول يجانب الإيمان، ويكذب دعوى من يدعي أن الإيمان يكون مع الغلول، لأن الغالّ يكون خائناً خيانة لم يجاهر فيها سوى الله عز وجل، فلو كان مؤمناً به لم يكن ليخفي من الناس ما يجاهر الله عز وجل به، فاستدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن من يخرج إلى الجهاد في سبيل الله مخاطراً بنفسه معرضاً لها للشهادة ثم يغلُّ شملة أو غير شملة، فإن غلوله ذلك مكذب لما ادعاه من إيمانه؛ ولذلك قال: «إني رأيته في النار في بردة غلّها» (¬2)، ولذلك أمر عمر فنادى: «إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون». (¬3) - قال رحمه الله وهو يشرح حديث وفد عبد القيس (¬4): في هذا الحديث من الفقه أنه يدل على أن الإيمان قول وعمل. (¬5) - قال رحمه الله تحت حديث «لا يزني الزاني وهو مؤمن» (¬6): وقد دل الحديث على زيادة الإيمان ونقصانه، وخروجه من العبد وعوده إليه. (¬7) ¬

(¬1) الإفصاح (1/ 200). (¬2) أخرجه: أحمد (1/ 30) ومسلم (1/ 107 - 108/ 114) والترمذي (4/ 118/1574) من حديث عمر رضي الله عنه. (¬3) الإفصاح (1/ 202). (¬4) سيأتي تخريجه في مواقف ابن الصلاح سنة (643هـ). (¬5) الإفصاح (3/ 95). (¬6) تقدم تخريجه في مواقف الحسن البصري سنة (110هـ). (¬7) الإفصاح (3/ 209).

ابن الحطيئة أحمد بن عبد الله (560 هـ)

ابن الحُطَيْئَة أحمد بن عبد الله (¬1) (560 هـ) الشيخ الإمام العلامة القدوة شيخ الإسلام، أبو العباس أحمد بن عبد الله بن أحمد بن هشام اللخمي المغربي الفاسي المقرئ الناسخ ابن الحطيئة. مولده بفاس سنة ثمان وسبعين وأربعمائة. وحج ولقي الكبار، وتلا بالسبع على أبي القاسم بن الفحام الصقلي وابن بليمة، ومحمد الحضرمي. وسمع من أبي الحسن بن مشرف، وأبي عبد الله الحضرمي، وأبي بكر الطرطوشي. حدث عنه أبو طاهر السلفي، وصنيعة الملك ابن حيدرة، وشجاع المدلجي، والأثير محمد بن محمد بن بنان، وابن قادوس. وأحكم العربية والفقه، وخطه مرغوب فيه لإتقانه، كان لا يقبل من أحد شيئا، مع العلم والعمل والخوف والإخلاص. سكن مصر ودخل الشام. قال السِّلفي: كان ابن الحطيئة رأسا في القراءات. وقال المدلجي: كان شيخنا ابن الحطيئة شديدا في دين الله فظا غليظا على أعداء الله. توفي رحمه الله تعالى في المحرم سنة ستين وخمسمائة. موقفه من الرافضة: - جاء في السير عن شجاع المدلجي: لقد كان يحضر مجلسه داعي الدعاة مع عظم سلطانه ونفوذ أمره، فما يحتشمه، ولا يكرمه، ويقول: أحمق الناس في مسألة كذا وكذا الروافض، خالفوا الكتاب والسنة، وكفروا بالله، وكنت عنده يوما في مسجده بشرف مصر، وقد حضره بعض وزراء المصريين أظنه ابن عباس، فاستسقى في مجلسه، فأتاه بعض غلمانه بإناء فضة، ¬

(¬1) وفيات الأعيان (1/ 170 - 171) ومعرفة القراء الكبار (2/ 526) والوافي بالوفيات (7/ 121 - 122) والسير (20/ 344 - 348) وتاريخ الإسلام (حوادث 551 - 560/ص.296 - 299) وشذرات الذهب (4/ 188).

عبد القادر الجيلي (561 هـ)

فلما رآه ابن الحطيئة وضع يده على فؤاده، وصرخ صرخة ملأت المسجد، وقال: واحراها على كبدي، أتشرب في مجلس يقرأ فيه حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آنية الفضة؟. لا والله لا تفعل، وطرد الغلام، فخرج، وطلب الشيخ كوزا، فجيء بكوز قد تثلم، فشرب، واستحيى من الشيخ، فرأيته والله كما قال الله: {يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ} (¬1).اهـ (¬2) - وفيها: وذكرنا في طبقات القراء أن الناس بقوا بمصر ثلاثة أشهر بلا قاض في سنة ثلاث وثلاثين، فوقع اختيار الدولة على الشيخ أبي العباس، فاشترط عليهم شروطا صعبة، منها أنه لا يقضي بمذهبهم -يعني الرفض، فلم يجيبوا إلا أن يقضي على مذهب الإمامية. (¬3) عبد القادر الجيلي (561 هـ) موقفه من الجهمية: هذا الرجل كان من الحنابلة المشهورين، لكنه تأثر بالفكر الصوفي المنحرف فخرج عن تمسكه بالسنة إلى الابتداع في دين الله، وذكر كلاما في كتابه 'الغنية' يشمئز منه السلفي، ومن كذّب فليرجع إلى الكتاب فهو مطبوع مبذول. وقد انتشر صيته في البلاد الإسلامية، وأصبحت له طريقة تلقن باسم الصوفية ولأصحابها مميزات وأوراد وأحزاب وأحوال، الله أعلم ¬

(¬1) إبراهيم الآية (17). (¬2) السير (20/ 346). (¬3) السير (20/ 347).

بصحتها عن الشيخ الجيلي. ووقع فيه غلو من قبل الأتباع، من سمعه ترتعد فرائصه من الفزع. جاء في ذيل طبقات الحنابلة: ولكن قد جمع المقرئ أبو الحسن الشطنوفي المصري في أخبار الشيخ عبد القادر ومناقبه ثلاث مجلدات وكتب فيها الطم والرم وكفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع. وقد رأيت بعض هذا الكتاب، ولا يطيب على قلبي أن أعتمد على شيء مما فيه، فأنقل منه إلا ما كان مشهورا معروفا من غير هذا الكتاب، وذلك لكثرة ما فيه من الروايات عن المجهولين وفيه من الشطح والطامات والدعاوى والكلام الباطل ما لا يحصى ولا يليق نسبة مثل ذلك إلى الشيخ عبد القادر رحمه الله. ثم وجدت الكمال جعفر الأدفوي قد ذكر: أن الشطنوفي نفسه كان متهما في ما يحكيه من هذا الكتاب بعينه. (¬1) وأما عقيدته في الأسماء والصفات فهو سلفي، وقد ذكر عقيدته في كتاب الغنية. - جاء في ذيل طبقات الحنابلة: وكان متمسكا في مسائل الصفات والقدر ونحوهما بالسنة، بالغا في الرد على من خالفها، قال في كتابه الغنية المشهور: وهو بجهة العلو مستو على العرش محتو على الملك محيط علمه بالأشياء {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (¬2). {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ ¬

(¬1) ذيل الطبقات (1/ 293). (¬2) فاطر الآية (10).

ابن الكيزاني (562 هـ)

السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)} (¬1). ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان بل يقال: إنه في السماء على العرش كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (¬2). وذكر آيات وأحاديث إلى أن قال: وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش. (¬3) - قال الذهبي في السير: قال شيخنا الحافظ أبو الحسين علي بن محمد: سمعت الشيخ عبد العزيز بن عبد السلام الفقيه الشافعي يقول: ما نقلت إلينا كرامات أحد بالتواتر إلا الشيخ عبد القادر، فقيل له: هذا مع اعتقاده، فكيف هذا؟ فقال: لازم المذهب ليس بمذهب. قلت -أي الذهبي-: يشير إلى إثباته صفة العلو ونحو ذلك، ومذهب الحنابلة في ذلك معلوم، يمشون خلف ما ثبت عن إمامهم رحمه الله إلا من يشذ منهم، وتوسع في العبارة. (¬4) ابن الكِيزَانِي (¬5) (562 هـ) الإمام المقرئ، الزاهد الأثري، أبو عبد الله، محمد بن إبراهيم بن ثابت ¬

(¬1) السجدة الآية (5). (¬2) طه الآية (5). (¬3) ذيل الطبقات (1/ 296). (¬4) السير (20/ 443). (¬5) السير (20/ 454) ووفيات الأعيان (4/ 461 - 462) والوافي بالوفيات (1/ 347) والنجوم الزاهرة (5/ 367 - 368).

موقفه من الجهمية:

المصري، الكيزاني، له تلامذة وأصحاب، وكلام في السنة، وله شعر كثير وأكثره في الزهد، وقال ابن خلكان: كان زاهدا ورعا، وقال صاحب مرآة الزمان: كان زاهدا قنوعا من الدنيا باليسير فصيحا. توفي سنة اثنتين وستين وخمسمائة. موقفه من الجهمية: - جاء في طبقات ابن السبكي: وكان ابن الكيزاني -رجل من المشبهة- مدفونا عند الشافعي رضي الله عنه: فقال الخبوشاني: لا يكون صديق وزنديق في موضع واحد. وجعل ينبش ويرمي عظامه وعظام الموتى الذين حوله من أتباعه. وتعصبت المشبهة عليه ولم يبال بهم، وما زال حتى بنى القبر. ثم قال ابن السبكي: ولعل من يقف على كلام شيخنا الذهبي في هذا الموضع من ترجمة الخبوشاني فلا يحفل به وبقوله في ابن الكيزاني: إنه من أهل السنة. فالذهبي رحمه الله متعصب جلد، وهو شيخنا وله علينا حقوق إلا أن حق الله مقدم على حقه، والذي نقوله أنه لا ينبغي أن يسمع كلامه في حنفي ولا شافعي، ولا تؤخذ تراجمهم من كتبه فإنه يتعصب عليهم كثيرا. والله تعالى أعلم. (¬1) التعليق: إذا لم تستح فاصنع ما شئت. فهل يجوز هذا الفعل مع الكافر، فضلا ¬

(¬1) طبقات الشافعية (4/ 191).

موقف السلف من العاضد لدين الله العبيدي الرافضي (567 هـ)

عن المسلم، فضلا عن السلفي. فلا أدري كيف يجيب ابن السبكي عن هذا، ولعلي بالقارئ قد استأنس بعبارة ابن السبكي في أهل السنة بوصفهم بالمشبهة، كالذي تعود على سماع نباح الكلاب، فلا يلتفت إليها مهما رفعت صوتها وصولتها، يحذرنا من سماعنا للذهبي الذي أجمعت الأمة على إمامته في معظم الفنون الشرعية، ويريد منا أن نصغي آذاننا لضلاله. فليعلم ابن السبكي أن الإمام ابن الكيزاني لا يضره ما فعله التعصب الأشعري. وأرجو الله أن يجعله من أهل الجنة. موقف السلف من العاضد لدين الله العبيدي الرافضي (567 هـ) - جاء في السير: قال القاضي شمس الدين بن خلكان: كان إذا رأى سنيا استحل دمه. (¬1) - وفيها: هلك العاضد يوم عاشوراء سنة سبع وستين وخمس مائة بذرب مفرط. وقيل مات غما لما سمع بقطع خطبته وإقامة الدعوة للمستضيء. وقيل: سقي، وقيل: مص خاتما له مسموما. وكانت الدعوة المذكورة أقيمت في أول جمعة من المحرم، وتسلم صلاح الدين القصر بما حوى من النفائس والأموال، وقبض أيضا على أولاد العاضد وآله، فسجنهم في بيت من القصر، وقمع غلمانهم وأنصارهم، وعفى آثارهم. ¬

(¬1) السير (15/ 208).

قال العماد الكاتب: وهم الآن محصورون محسورون لم يظهروا. وقد نقصوا وتقلصوا، وانتقى صلاح الدين ما أحب من الذخائر، وأطلق البيع بعد في ما بقي، فاستمر البيع فيها مدة عشر سنين. ومن كتاب من إنشاء القاضي الفاضل إلى بغداد: وقد توالت الفتوح غربا، ويمنا وشاما. وصارت البلاد، والدهر حرما حراما، وأضحى الدين واحدا بعد أن كان أديانا، والخلافة إذا ذكر بها أهل الخلاف لم يخروا عليها صما وعميانا، والبدعة خاشعة، والجمعة جامعة، والمذلة في شيع الضلال شائعة. ذلك بأنهم اتخذوا عباد الله من دونه أولياء، وسموا أعداء الله أصفياء، وتقطعوا أمرهم بينهم شيعا، وفرقوا أمر الأمة وكان مجتمعا، وقطع دابرهم، ورغمت أنوفهم ومنابرهم، وحقت عليهم الكلمة تشريدا وقتلا، وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا، وليس السيف عمن سواهم من كفار الفرنج بصائم، ولا الليل عن السير إليهم بنائم. (¬1) قال ابن خلكان: أخبرني عالم أن العاضد رأى في نومه كأن عقربا خرجت إليه من مسجد عرف بها فلدغته، فلما استيقظ طلب معبرا، فقال: ينالك مكروه من رجل مقيم بالمسجد فسأل عن المسجد، وقال للوالي عنه، فأتي بفقير، فسأله من أين هو؟ وفيما قدم، فرأى منه صدقا ودينا. فقال: ادع لنا ياشيخ، وخلى سبيله، ورجع إلى المسجد، فلما غلب صلاح الدين على مصر، عزم على خلع العاضد، فقال ابن خلكان: استفتى الفقهاء، فأفتوا بجواز خلعه لما هو من انحلال العقيدة والاستهتار، فكان أكثرهم مبالغة في الفتيا ¬

(¬1) السير (15/ 213 - 215).

ذاك، وهو الشيخ نجم الدين الخبوشاني، فإنه عدد مساوئ هؤلاء، وسلب عنهم الإيمان. (¬1) - وكانوا أربعة عشر متخلفا لا خليفة، والعاضد في اللغة أيضا القاطع، فكان هذا عاضدا لدولة أهل بيته. (¬2) - وفيها: قال أبو شامة: كان منهم ثلاثة بإفريقية: المهدي، والقائم، والمنصور، وأحد عشر بمصر آخرهم العاضد، ثم قال: يدعون الشرف ونسبتهم إلى مجوسي أو يهودي، حتى اشتهر لهم ذلك، وقيل: الدولة العلوية، والدولة الفاطمية، وإنما هي الدولة اليهودية أو المجوسية الملحدة الباطنية. ثم قال: ذكر ذلك جماعة من العلماء الأكابر، وأن نسبهم غير صحيح. بل المعروف أنهم بنو عبيد. وكان والد عبيد من نسل القداح المجوسي الملحد. قال: وقيل: والده يهودي من أهل سلمية. وعبيد كان اسمه سعيدا، فغيره بعبيد الله لما دخل إلى المغرب، وادعى نسبا ذكر بطلانه جماعة من علماء الأنساب، ثم ترقى، وتملك، وبنى المهدية. قال: وكان زنديقا خبيثا، ونشأت ذريته على ذلك. وبقي هذا البلاء على الإسلام من أول دولتهم إلى آخرها. قال الذهبي: وكانت دولتهم مائتي سنة وثمانيا وستين سنة، وقد صنف القاضي أبو بكر بن الباقلاني كتاب 'كشف أسرار الباطنية' فافتتحه ببطلان انتسابهم إلى الإمام علي، وكذلك القاضي عبد الجبار المعتزلي. (¬3) ¬

(¬1) السير (15/ 212). (¬2) السير (15/ 211 - 212). (¬3) السير (15/ 213).

الملك العادل نور الدين محمود (569 هـ)

الملك العادل نور الدين محمود (¬1) (569 هـ) صاحب الشام، الملك العادل، نور الدين، ناصر أمير المؤمنين، تقي الملوك، ليث الإسلام، أبو القاسم، محمود بن الأتابك. ولد سنة إحدى عشرة وخمسمائة. تملك حلب بعد وفاة أبيه، وكان نور الدين حامل رايَتَي العدل والجهاد، قل أن ترى العيون مثله، حاصر دمشق ثم تملكها، وافتتح حصونا كثيرة، وهزم الفرنج مرات عديدة، وأظهر السنة بحلب وقمع الرافضة، وبنى المدارس والمساجد، وأبطل المكوس، وأنصف الرعية، ووقف على الضعفاء والأيتام والمجاورين، وأمر بتكميل سور المدينة النبوية، واستخراج العين بأُحُد، دفنها السيل، ووقف كتبا كثيرة مثمنة. وكان بطلا شجاعا، وافر الهيبة، ذا تعبد وخوف وورع، وكان يتعرض للشهادة، سمعه كاتبه أبو اليسر يسأل الله أن يحشره من بطون السباع وحواصل الطير، وكان يميل إلى التواضع وحب العلماء والصلحاء، وكان زاهدا عابدا، متمسكا بالشرع، مجاهدا، له من المناقب ما يستغرق الوصف. توفي رحمه الله سنة تسع وستين وخمسمائة. موقفه من المشركين والرافضة: - جاء في البداية والنهاية: وأظهر ببلاده السنة وأمات البدعة، وأمر ¬

(¬1) السير (20/ 531 - 539) والمنتظم (18/ 209 - 210) والكامل في التاريخ (11/ 402 - 405) ووفيات الأعيان (5/ 184 - 189) البداية (12/ 297 - 306) وشذرات الذهب (4/ 228 - 231) وتاريخ الإسلام (حوادث 561 - 570/ص.370 - 387).

بالتأذين بحي على الصلاة حي على الفلاح، ولم يكن يؤذن بهما في دولة أبيه وجده، وإنما كان يؤذن بحي على خير العمل. لأن شعار الرفض كان ظاهرا بها، وأقام الحدود وفتح الحصون، وكسر الفرنج مرارا عديدة، واستنقذ من أيديهم معاقل كثيرة من الحصون المنيعة التي كانوا قد استحوذوا عليها من معاقل المسلمين. (¬1) - وجاء في السير: افتتح أولا حصونا كثيرة، وفامية، والراوندان، وقلعة إلبيرة، وعزاز، وتل باشر، ومرعش، وعين تاب، وهزم البرنس صاحب أنطاكية، وقتله في ثلاثة آلاف من الفرنج، وأظهر السنة بحلب وقمع الرافضة. (¬2) - وفيها: وكانت الفرنج قد استضرت على دمشق، وجعلوا عليها قطيعة، وأتاه أمير الجيوش شاور مستجيرا به، فأكرمه، وبعث معه جيشا ليرد إلى منصبه، فانتصر، لكنه تخابث وتلاءم، ثم استنجد بالفرنج، ثم جهز نور الدين رحمه الله جيشا لجبا مع نائبه أسد الدين شيركوه، فافتتح مصر، وقهر دولتها الرافضية، وهربت منه الفرنج، وقتل شاور، وصفت الديار المصرية لشيركوه نائب نور الدين، ثم لصلاح الدين، فأباد العبيديين، واستأصلهم، وأقام الدعوة العباسية. (¬3) ¬

(¬1) البداية والنهاية (12/ 298). (¬2) السير (20/ 532). (¬3) السير (20/ 533).

موقف السلف من الحسن بن ضافي الرتكي الرافضي (569 هـ)

موقف السلف من الحسن بن ضافي الرتكي الرافضي (569 هـ) جاء في البداية: كان من أكابر أمراء بغداد المتحكمين في الدولة، ولكنه كان رافضيا خبيثا متعصبا للروافض، وكانوا في خفارته وجاهه، حتى أراح الله المسلمين منه في هذه السنة في ذي الحجة منها، ودفن بداره ثم نقل إلى مقابر قريش فلله الحمد والمنة. وحين مات فرح أهل السنة بموته فرحا شديدا، وأظهروا الشكر لله، فلا تجد أحدا منهم إلا يحمد الله، فغضب الشيعة من ذلك، ونشأت بينهم فتنة بسبب ذلك. (¬1) موقف السلف من المعبد لغير الله: عبد النبي الزنديق (569 هـ) قال الذهبي: فقام بعده (أي بعد أبيه الباطني) عبد النبي هذا، ففعل كأبيه، وسبى الحريم، وتزندق، وبنى على قبر أبيه المهدي قبة عظيمة، وزخرفها، وعمل أستار الحرير عليها وقناديل الذهب، وأمر الناس بالحج إليها، وأن يحمل كل أحد إليها مالا، ولم يدع أحد زيارتها إلا وقتله، ومنعهم من حج بيت الله، فتجمع بها أموال لا تحصى، وانهمك في الفواحش إلى أن أخذه الله على يد شمس الدولة أخي السلطان صلاح الدين، عذبه، ثم قتله، وأخذ خزائنه، فلله الحمد على مصرع هذا الزنديق، وكان ذلك في قرب سنة ¬

(¬1) البداية والنهاية (12/ 292).

عضد الدين (573 هـ)

سبعين وخمسمائة فإن مضي شمس الدولة توران شاه إلى اليمن وأخذها كان في سنة تسع وستين، فأسر هذا المجرم، وشنقه، وتملك زبيد وعدن وصنعاء، ولعبد النبي أخبار في الجبروت والعتو، فلا رحمه الله. (¬1) عضد الدين (¬2) (573 هـ) وزير العراق، الأوحد المعظم، عضد الدين أبو الفرج محمد بن عبد الله ابن هبة الله بن مظفر بن الوزير الكبير البغدادي. ولد سنة أربع عشرة وخمسمائة. وسمع من هبة الله بن الحصين وعبيد الله بن محمد بن البيهقي وزاهر بن طاهر. حدث عنه حفيده داود بن علي وغيره. وكان أولا أستاذ دار المقتفي والمستنجد، ثم وزر للإمام المستضيء، وكان جوادا سريا مهيبا كبير القدر. فيه مروءة وإكرام للعلماء، وكان يشتغل هو وأولاده بالحديث والفقه والأدب، وكان الناس معهم في سعة. قتل سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، رحمه الله تعالى. موقفه من المشركين: قال الذهبي: وقد عزل ثم أعيد، وتمكن ثم تهيأ للحج، وخرج في رابع ذي القعدة في موكب عظيم، فضربه باطني على باب قَطُفْتا أربع ضربات، ومات ليومه من سنة ثلاث وسبعين، وكان قد هيأ ست مئة جَمل، سَبَّل ¬

(¬1) السير (20/ 583). (¬2) المنتظم (18/ 246) والكامل في التاريخ (11/ 182) والسير (21/ 75 - 76) وتاريخ الإسلام (حوادث 571 - 580/ص.130 - 133) والبداية والنهاية (12/ 318) والوافي بالوفيات (3/ 235) وشذرات الذهب (4/ 245).

موقف السلف من صدقة بن حسين (575 هـ)

منها مئة، صاح الباطني: مظلوم مظلوم وتقرب، فزجره الغلمان، فقال: دعوه، فتقدم إليه، فضربه بسكين في خاصرته، فصاح الوزير: قتلني، وسقط وانكشف رأسه، فغطى رأسه بكمه، وضرب الباطني بسيف، فعاد وضربَ الوزيرَ، فهبَّروه بالسيوف، وكان معه اثنان فأُحرِقوا، وحُمِل الوزير إلى دارٍ، وجرح الحاجب، وكان الوزير قد رأى في النوم أنه معانق عثمان رضي الله عنه، وحكى عنه ابنه أنه اغتسل قبل خروجه، وقال: هذا غسل الإسلام، فإنني مقتول بلا شك. ثم مات بعد الظهر، ومات الحاجب بالليل. (¬1) موقف السلف من صدقة بن حسين (575 هـ) قال ابن الجوزي: يظهر من فلتات لسانه ما يدل على سوء عقيدته، وكان لا ينضبط، وله ميل إلى الفلاسفة، قال لي مرة: أنا الآن أخاصم فلك الفلك. وقال لي القاضي أبو يعلى الصغير: مذ كتب صدقة 'الشفاء' لابن سينا تغير. وقال للظهير الحنفي: إني لأفرح بتعثيري لأن الصانع يقصدني. (¬2) ¬

(¬1) السير (21/ 76) (¬2) السير (21/ 67) والمنتظم (18/ 243).

المستضيء بأمر الله (575 هـ)

المستضيء بأمر الله (¬1) (575 هـ) الخليفة أبو محمد الحسن بن المستنجد بالله يوسف بن المقتفي الهاشمي العباسي من الأئمة الموفقين. ولد سنة ست وثلاثين وخمسمائة. وبويع بالخلافة وقت موت أبيه في ربيع الآخر سنة ست وستين وخمسمائة. واستوزر عضد الدين أبا الفرج. كان كثير السخاء، حسن السيرة، ذا حلم وأناة ورأفة وبر وصدقات، وأمر برفع المكوس ورد المظالم. وفرق مالا عظيما على الهاشميين. وفي خلافته زالت دولة العبيدية بمصر. وخطب له باليمن وبرقة وبلاد الترك، ودانت له الملوك، وضعف بدولته الرفض ببغداد وبمصر، وظهرت السنة، وحصل الأمن. مات رحمه الله تعالى في شوال سنة خمس وسبعين وخمسمائة، وبايعوا بعده ولده الناصر لدين الله. موقفه من المبتدعة: قال الحافظ ابن كثير في البداية: وكان من خيار الخلفاء، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، مزيلا عن الناس المكوسات والضرائب، مبطلا للبدع والمعائب، وكان حليما وقورا كريما. (¬2) ¬

(¬1) المنتظم (18/ 190 وما بعدها) والكامل في التاريخ (11/ 459) والسير (21/ 68 - 72) وتاريخ الإسلام (حوادث 571 - 580/ص.165 - 168) والوافي بالوفيات (12/ 309 - 311) والبداية والنهاية (12/ 325) وشذرات الذهب (4/ 250 - 251). (¬2) البداية والنهاية (12/ 325).

أبو طاهر السلفي (576 هـ)

أبو طاهر السِّلَفِي (¬1) (576 هـ) هو الإمام العلامة المحدث الحافظ المفتي، شيخ الإسلام شرف المعمرين، أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد الأصبهاني، ويلقب جده أحمد بسِلَفَة، وهو الغليظ الشفة، ولد الحافظ أبو طاهر سنة خمس وسبعين وأربعمائة أو قبلها بسنة. كان إماما مقرءا، محمودا، ومحدثا، حافظا، جهبذا، وفقيها متقنا، ونحويا ماهرا، ولغويا محققا، ثقة فيما ينقله، حجة، ثبتا، انتهى إليه علو الإسناد في البلاد. سمع الحديث الكثير ورحل في طلبه إلى الآفاق، ومن شيوخه محمد بن عبد الرحمن المديني، وأحمد بن عبد الرحمن اليزدي، وأبو مسعود محمد بن عبد الله السوذرجاني وغيرهم، وجالس في الفقه إلكيا الهراسي، وأخذ الأدب عن أبي زكريا يحيى بن علي التبريزي، وبقي في الرحلة ثمانية عشر عاما، يكتب الحديث والفقه والأدب، ثم استوطن الإسكندرية إلى أن مات. وحدث عنه الحافظ ابن طاهر المقدسي وعبد الغني المقدسي وعمر بن عبد المجيد الميانشي وغيرهم. قال ابن السمعاني: هو ثقة ورع، متقن، متيقظ، حافظ، فهم، له حفظ من العربية، كثير الحديث، حسن الفهم والبصيرة فيه. وقال الحافظ عبد القادر الرهاوي: وكان له عند ملوك مصر الجاه والكلمة النافذة مع مخالفة لهم في المذهب. وتوفي سنة ست وسبعين وخمسمائة. ¬

(¬1) السير (21/ 5 - 39) والكامل في التاريخ (11/ 191) ووفيات الأعيان (1/ 105) وتذكرة الحفاظ (4/ 1298) وميزان الاعتدال (1/ 155) والوافي بالوفيات (7/ 351) والبداية والنهاية (12/ 328) واللسان (1/ 299) وتاريخ الإسلام (حوادث 571 - 580/ص.195 - 207).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: - هذا الحافظ الكبير رغم إمامته العلمية في الحديث وعلومه، وما أكثر ما نقل عنه ابن الصلاح في مقدمته في علم المصطلح، لم يسلم من لسان الشيخ النجدي الذي جعله الله من سلالة أبي بن خلف، لا يترك أحدا اختار منهج السلف منهجه إلا ونال منه، ولكن الله إذا أراد بعبد خيرا هيأ له من يطعن فيه، حتى تعظم حسناته وتوضع الأوزار على الساب والشاتم، وإليك قصيدة هذا الإمام. وهي قصيدة طويلة نأخذ منها ما يتعلق بموضوعنا، ذكرها الذهبي في السير: وها أنا شارع في شرح ديني ... ووصف عقيدتي وخفي حالي وأجهد في البيان بقدر وسعي ... وتخليص العقول من العقال بشعر لا كشعر بل كسحر ... ولفظ كالشمول بل الشمال فلست الدهر إمعة وما أن ... أزل ولا أزول لذي النزال فلا تصحب سوى السني دينا ... لتحمد ما نصحتك في المآل وجانب كل مبتدع تراه ... فما إن عندهم غير المحال ودع آراء أهل الزيغ رأسا ... ولا تغررك حذلقة الرذال فليس يدوم للبدعي رأي ... ومن أين المقر لذي ارتحال يوافي حائرا في كل حال ... وقد خلى طريق الاعتدال ويترك دائبا رأيا لرأي ... ومنه كذا سريع الانتقال وعمدة ما يدين به سفاها ... فأحداث من أبواب الجدال وقول أئمة الزيغ الذي لا ... يشابهه سوى الداء العضال

كمعبد المضلل في هواه ... وواصل أو كغيلان المحال وجعد ثم جهم وابن حرب ... حمير يستحقون المخالي وثور كاسمه أو شئت فاقلب ... وحفص الفرد قرد ذي افتعال وبشر لا أرى بشرى فمنه ... تولد كل شر واختلال وأتباع بن كلاب كلاب ... على التحقيق هم من شر آل كذاك أبو الهذيل وكان مولى ... لعبد القيس قد شان الموالي ولا تنس ابن أشرس المكنى ... أبا معن ثمامة فهو غالي ولا ابن الحارث البصري ذاك الـ ... مضل على اجتهاد واحتفال ولا الكوفي أعنيه ضرار بـ ... ـن عمرو فهو للبصري تالي كذاك ابن الأصم ومن قفاه ... من أوباش البهاشمة النغال وعمرو هكذا أعني بن بحر ... وغيرهم من أصحاب الشمال فرأي أولاء ليس يفيد شيئا ... سوى الهذيان من قيل وقال وكل هوى ومحدثة ضلال ... ضعيف في الحقيقة كالخيال فهذا ما أدين به إلهي ... تعالى عن شبيه أو مثال وما نافاه من خدع وزور ... ومن بدع فلم يخطر ببالي قال الذهبي عقبها: صدق الناظم رحمه الله وأجاد، فلأن يعيش المسلم أخرس أبكم خير له من أن يمتلأ باطنه كلاما وفلسفة. (¬1) - قال الحافظ عبد القادر: وكان السلفي آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر ¬

(¬1) السير (21/ 34 - 36).

موقفه من الجهمية:

حتى إنه قد أزال من جواره منكرات كثيرة. ورأيته يوما وقد جاء جماعة من المقرئين بالألحان، فأرادوا أن يقرأوا فمنعهم من ذلك وقال: هذه القراءة بدعة بل اقرأوا ترتيلا فقرأوا كما أمرهم. (¬1) التعليق: هذا الموقف من هذا السلفي يرد على جميع باعة القرآن والمتلاعبين به في كل وقت وزمان، ولو عاش إلى وقتنا هذا لرأى العجب العجاب والله المستعان. - وقال رحمه الله: إن علم الحديث علم رجال ... تركوا الابتداع للاتباع فإذا جن ليلهم كتبوه ... وإذا أصبحوا غدوا للسماع (¬2) موقفه من الجهمية: من أبياته في العقيدة السلفية: ضل المجسم والمعطل مثله ... عن نهج الحق المبين ضلالا وأبى أماثلهم بنكر لا رعوا ... من معشر قد حاولوا الاشكالا غدوا يقيسون الأمور برأيهم ... ويدلسون على الورى الأقوالا فالأولون تعذروا الحق الذي ... قد حده في وصف الإله تعالى وتصوروه صورة من جنسنا ... جسما وليس الله عز مثالا والآخرون يعطلون ما جاء في الـ ... ـقرآن أقبح بالمقال مقالا ¬

(¬1) السير (21/ 25). (¬2) السير (21/ 36).

الإمام السهيلي (581 هـ)

وأبوا حديث المصطفى أن يقبلوا ... ورأوه حشوا لا يفيد منالا (¬1) الإمام السُّهَيْلِي (¬2) (581 هـ) الحافظ العلامة، البارع أبو القاسم وأبو زيد عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد. ولد سنة بضع وخمسمائة. وكف بصره وهو ابن سبع عشرة سنة. أخذ القراءات عن أبي داود الصغير سليمان بن يحيى، وسمع من أبي عبد الله ابن معمر والقاضي أبي بكر بن العربي وشريح بن محمد. وله مصنفات منها: الروض الأنف كالشرح للسيرة النبوية، جمع بين الرواية والدراية، وحمل الناس عنه، وقد استدعي من مالقة إلى مراكش ليأخذوا عنه، سمع منه أبو الخطاب بن دحية والحافظ أبو محمد القرطبي وجماعة. قال ابن دحية: كان يتسوغ بالعفاف، ويتبلغ بالكفاف حتى نمي خبره إلى صاحب مراكش فطلبه وأحسن إليه، وقال أبو جعفر بن الزبير: كان السهيلي واسع المعرفة غزير العلم نحويا متقدما لغويا عالما بالتفسير وصناعة الحديث عارفا بالرجال والأنساب. توفي بمراكش في إحدى وثمانين وخمسمائة. موقفه من الصوفية: جاء في درء التعارض عنه رضي الله عنه قال: أعوذ بالله من قياس ¬

(¬1) طبقات الشافعية (4/ 46). (¬2) تذكرة الحفاظ (4/ 1348) والاستقصا (1/ 187) والسير (21/ 157) والبداية والنهاية (12/ 339 - 340) والأعلام (3/ 313) وتاريخ الإسلام (حوادث 581 - 590/ص.113 - 116).

موقفه من الجهمية والقدرية:

فلسفي وخيال صوفي. (¬1) موقفه من الجهمية والقدرية: قال السهيلي في نتائج الفكر: اعلم أن (ما) إذا كانت موصولة بالفعل الذي لفظه عمل أو صنع أو فعل وذلك الفعل مضاف إلى فاعل غير الباري -سبحانه وتعالى- فلا يصح وقوعها إلا على مصدر، لإجماع العقلاء من الأنام، في الجاهلية والإسلام، على أن أفعال الآدميين لا تتعلق بالجواهر والأجسام، لا تقول: عملت جبلا، ولا: صنعت جملا ولا حديدا، ولا حجرا، ولا ترابا ولا شجرا، فإذا ثبت ذلك وقلت: أعجبني ما عملت وما فعلت زيد، فإنما تعني الحدث. فعلى هذا لا يصح في تأويل قوله سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} (¬2) إلا قول أهل السنة: إن المعنى: والله خلقكم وأعمالكم. ولا يصح قول المعتزلة من جهة المنقول ولا من جهة المعقول، لأنهم زعموا أن (ما) واقعة على الأصنام والحجارة التي كانوا ينحتونها، وقالوا: تقدير الكلام: خلقكم والأصنام التي تعملون، إنكارا منهم بأن تكون أعمالنا مخلوقة لله سبحانه. واحتجوا بأن نظم الكلام يقتضي ما قالوه، لأنه قد تقدم: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95)} (¬3)، فما واقعة على الحجارة المنحوتة، ولا يصح غير هذا من جهة النحو ولا من جهة المعنى، أما النحو فقد تقدم أن ما لا تكون مع الفعل الخاص مصدرا. ¬

(¬1) درء التعارض (5/ 357). (¬2) الصافات الآية (96). (¬3) الصافات الآية (95).

وأما المعنى فإنهم لم يكونوا يعبدون النحت، وإنما كانوا يعبدون المنحوت. فلما ثبت هذا وجب أن تكون الآية التي هي رد عليهم وتقييد لهم كذلك ما فيها واقعة على الحجارة المنحوتة والأصنام المعبودة، فيكون التقدير: أتعبدون حجارة تنحتونها، والله خلقكم وتلك الحجارة التي تعملون؟ هذا كله، معنى قول المعتزلة، وشرح ما شبهوا به، والنظم على تأويل أهل الحق أبدع والحجة أقطع والمعنى لا يصح غيره. والذي ذهبوا إليه فاسد لا يصح بحال، لأنهم مجمعون معنا على أن أفعال العباد لا تقع على الجواهر والأجسام. فإن قيل: فقد تقول: عملت الصحفة، وصنعت الجفنة، وكذلك الأصنام معمولة على هذا؟ قلنا: لا يتعلق الفعل فيما ذكرتم إلا بالصورة التي هي التأليف والتركيب، وهي نفس العمل، وأما الجوهر المؤلف المركب فليس بمعمول لنا، فقد رجع العمل والفعل إلى الأحداث دون الجوهر. وهذا إجماع منا ومنهم، فلا يصح حملهم على غير ذلك، وأما ما زعموا من حسن النظم وإعجاز الكلام فهو ظاهر، وتأويلنا معدوم في تأويلهم، لأن الآية وردت في بيان استحقاق الخالق للعبادة لانفراده بالخلق، وإقامة الحجة على من يعبد ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون، فقال: أتعبدون ما تنحتون، أي: ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون، وتدعون عبادة من خلقكم وأعمالكم التي تعملون، ولو لم يضف خلق الأعمال إليه في الآية، وقد نسبها بالمجاز إليهم، لما قامت له حجة عليهم من نفس الكلام، لأنه كان يجعلهم خالقين لأعمالهم، وهو خالق

عبد المغيث بن زهير (583 هـ)

لأجناس أخر، فيشركهم معه في الخلق -تعالى الله عن قول الزائغين، ولا ولعا لعثرات المبطلين- فما أدحض حجتهم وما أوهى قواعد مذهبهم، وما أبين الحق لمن اتبعه .. نسأل الله الكريم أن يجعلنا من أتباع الحق وحزبه، وأن يعصمنا من شبه الباطل وريبه. (¬1) عبد المغيث بن زهير (¬2) (583 هـ) الشيخ الإمام عبد المغيث بن زهير بن زهير بن علوي، أبو العز بن أبي حرب البغدادي الحربي. ولد سنة خمسمائة. سمع أبا القاسم بن الحصين وأبا العز بن كادش وأبا غالب بن البناء وهبة الله بن الطبر. وروى عنه الشيخ الموفق والحافظ عبد الغني والبهاء المقدسي وأبو عبد الله الدبيثي وغيرهم. قال ابن رجب: كان صالحا متدينا، صدوقا أمينا، حسن الطريقة، جميل السيرة، حميد الأخلاق، مجتهدا في اتباع السنة والآثار، منظورا إليه بعين الديانة والأمانة. وقال الحافظ المنذري: اجتهد في طلب الحديث، وجمعه وصنف وأفاد، وحدث بالكثير. صنف كتابا في فضائل يزيد، أتى فيه بالعجائب، ورد عليه أبو الفرج بن الجوزي. قال الذهبي: ولو لم يصنفه لكان خيرا له. ثم إن الخليفة الناصر لما بلغه نهي الشيخ عبد المغيث عن لعنة يزيد قصده متنكرا، ¬

(¬1) نتائج الفكر (147 - 149). (¬2) الكامل لابن الأثير (11/ 562 - 563) وسير أعلام النبلاء (21/ 159 - 161) وتاريخ الإسلام (حوادث 581 - 590/ص.155 - 157) والبداية والنهاية (12/ 350) وذيل طبقات الحنابلة (1/ 354 - 358) وشذرات الذهب (4/ 275 - 276).

موقفه من الصوفية:

وسأله عن ذلك، فعرفه الشيخ ولم يعلمه بأنه قد عرفه، فسأله الخليفة عن يزيد أيلعن أم لا؟ فقال: لا أسوغ لعنه لأني لو فتحت هذا الباب لأفضى الناس إلى لعن خليفتنا، فقال الخليفة: ولم؟ قال: لأنه يفعل أشياء منكرة كثيرة، منها كذا وكذا، ثم شرع يعدد على الخليفة أفعاله القبيحة، وما يقع منه من المنكر لينزجر عنها، فتركه الخليفة وخرج من عنده وقد أثر كلامه فيه، وانتفع به. توفي رحمه الله في الثالث والعشرين من المحرم سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة. موقفه من الصوفية: له كتاب الدليل الواضح في النهي عن ارتكاب الهوى الفاضح، يشتمل على تحريم الغناء وآلات اللهو، وذكر فيه: تحريم الدف بكل حال في العرس وغيره. (¬1) ابن أبي عصرون (¬2) (585 هـ) الشيخ الإمام العلامة، الفقيه البارع، شيخ الشافعية، عالم أهل الشام، أبو سعد عبد الله بن محمد بن هبة الله، ولد سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة. تفقه على المرتضى الشهرزوري، وأخذ القراءات عن أبي عبد الله الحسين بن محمد البارع وأبي بكر المزرفي، سمع من أبي القاسم بن الحصين وجماعة، وولي قضاء دمشق وحران وسنجار وديار ربيعة، ودرس وأقرأ القراءات والفقه، ¬

(¬1) ذيل طبقات الحنابلة (3/ 357). (¬2) السير (21/ 125 - 129) والكامل في التاريخ (12/ 18) ووفيات الأعيان (3/ 53) والبداية والنهاية (12/ 355) وشذرات الذهب (4/ 283) وتاريخ الإسلام (حوادث 581 - 590/ص.217 - 220).

موقفه من الجهمية:

واشتهر ذكره، وعظم قدره، ومن تأليفه: كتاب التنبيه في معرفة الأحكام، وكتاب فوائد المهذب وغيرهما. وانتفع به خلق كثير، وانتهت إليه رئاسة المذهب، ومن شعره: أؤمل أن أحيا وفي كل ساعة ... وما أنا إلا مثلهم غير أن لي ... تمر بي الموتى تهز نعوشها بقايا ليال في الزمان أعيشها وحدث عنه موفق الدين ابن قدامة، والقاضي أبو نصر بن الشيرازي، والعماد أبو بكر عبد الله بن النحاس. توفي سنة خمس وثمانين وخمسمائة. موقفه من الجهمية: جاء في طبقات الشافعية الكبرى: قال شيخنا الذهبي وقد سئل عنه الشيخ الموفق فقال: كان إمام أصحاب الشافعي في عصره، وكان يذكر الدرس في رواية الدولعي ويصلي صلاة حسنة، ويتم الركوع والسجود، ثم تولى القضاء في آخر عمره وعمي، وسمعنا درسه مع أخي أبي عمر، وانقطعنا عنه، فسمعت أخي يقول: دخلت عليه بعد انقطاعنا فقال: لم انقطعتم عني؟ فقلت: إن أناسا يقولون: إنك أشعري. فقال: والله ما أنا بأشعري. هذا معنى الحكاية. (¬1) التعليق: انظر إلى اهتمام هؤلاء العلماء بالعقيدة السلفية، فعندهم من لم يكن سلفيا لا ينبغي أن يحضر في درسه، ولا يتلقى عنه العلم، مهما كان شأنه. ثم ¬

(¬1) السير (21/ 129) وطبقات الشافعية (4/ 238 - 239).

ابن صصرى (586 هـ)

انظر إلى جواب هذا الإمام الكبير، ما أفصحه، ولا تلتفت إلى مهاترات ابن السبكي فإنه كالأحمق، لا يدري ما يقول نرجو الله له المغفرة. ابن صَصْرَى (¬1) (586 هـ) الإمام العلامة الحافظ المجود البارع، الرئيس النبيل أبو المواهب، الحسين ابن العدل أبي البركات هبة الله بن محفوظ بن الحسن بن محمد بن الحسن بن أحمد بن الحسين بن صصرى التغلبي البلدي الأصل الدمشقي، الشافعي. ولد سنة سبع وثلاثين وخمسمائة. سمع من جده، والفقيه المصيصي وعبدان بن رزين، وعدة. ولازم الحافظ ابن عساكر وأكثر عنه وتخرج به. وارتحل وسمع بحماة وبحلب وبالموصل وببغداد وغيرها. جمع المعجم وصنف التصانيف منها: رباعيات التابعين وفضائل الصحابة وعوالي ابن عيينة، وكان ثقة متقنا، مستقيم الطريقة، لين الجانب، سمحا، كريما. مات رحمه الله تعالى سنة ست وثمانين وخمسمائة. وله تسع وأربعون سنة. موقفه من الرافضة: صنف كتابا في فضائل الصحابة. (¬2) ¬

(¬1) السير (21/ 264 - 266) وتاريخ الإسلام (حوادث 581 - 590/ص.237 - 238) وتذكرة الحفاظ (4/ 1358) والوافي بالوفيات (12/ 292 - 294) وشذرات الذهب (4/ 285). (¬2) السير (21/ 265).

موقف السلف من السهروردي شهاب الدين يحيى بن حبش الفيلسوف (586 هـ)

موقف السلف من السهروردي شهاب الدين يحيى بن حبش الفيلسوف (586 هـ) قال شيخ الإسلام: وأما القدماء -أرسطو وأمثاله- فليس لهم في النبوة كلام محصل. والواحد من هؤلاء يطلب أن يصير نبيا، كما كان السهروردي المقتول يطلب أن يصير نبيا، وكان قد جمع بين النظر والتأله، وسلك نحوا من مسلك الباطنية، وجمع بين فلسفة الفرس واليونان، وعظم أمر الأنوار، وقرب دين المجوس الأول، وهي نسخة الباطنية الإسماعيلية، وكان له يد في السحر والسيمياء، فقتله المسلمون على الزندقة بحلب في زمن صلاح الدين. (¬1) قال ابن خلكان: وكان يتهم بالانحلال والتعطيل ويعتقد مذهب الأوائل اشتهر ذلك عنه، وأفتى علماء حلب بقتله، وأشدهم الزين والمجد ابنا جهبل. قال الذهبي عقبه: أحسنوا وأصابوا. (¬2) نصر بن منصور النُّمَيْرِي (¬3) (588 هـ) الأمير الأديب، أبو المرهف نصر بن منصور بن حسن النميري، وأمه بنَّةُ بنت سالم بن مالك ابن صاحب الموصل بدران بن مقلد العقيلي. ولد ¬

(¬1) المنهاج (8/ 24 - 25). (¬2) السير (21/ 210 - 211). (¬3) وفيات الأعيان (5/ 383) والسير (21/ 213 - 214) وتاريخ الإسلام (حوادث 581 - 590/ص.311 - 314) والبداية والنهاية (12/ 375) وشذرات الذهب (4/ 295).

موقفه من الرافضة:

بالرافقة سنة إحدى وخمسمائة. وقال الشعر وهو مراهق وله ديوان، ضعف بصره بالجدري. قدم بغداد، وحفظ القرآن وتفقه لأحمد وقرأ العربية على أبي منصور بن الجواليقي. وسمع من ابن الحصين وأبي بكر الأنصاري، ويحيى الفارقي وعبد الرحمن الأنماطي. صحب الصالحين والأخيار ومدح الخلفاء وكان فصيح القول، حسن المعاني، وفيه دين وتسنن. روى عنه عثمان بن مقبل، ويوسف بن خليل، وآخرون. وهو القائل: يزهدني في جميع الأنام ... وهل عرف الناس ذو نهية ... هم الناس ما لم يجربهم ... وليتك تسلم حال البعاد ... قلة إنصاف من يصحب فأمسى له فيهم مأرب وطلس الذئاب إذا جربوا منهم، فكيف إذا قربوا؟ مات في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثمانين وخمسمائة. موقفه من الرافضة: جاء في البداية: وله ديوان شعر كبير حسن، وقد سئل مرة عن مذهبه واعتقاده فأنشأ يقول: أحب عليا والبتول وولدها وأبرأ ممن نال عثمان بالأذى ويعجبني أهل الحديث لصدقهم ... ولا أجحد الشيخين فضل التقدم كما أتبرأ من ولاء ابن ملجم فلست إلى قوم سواهم بمنتمي (¬1) ¬

(¬1) البداية والنهاية (12/ 375) وهو في سير أعلام النبلاء (21/ 214) وشذرات الذهب (4/ 296).

صلاح الدين الأيوبي (589 هـ)

صلاح الدين الأيّوبي (¬1) (589 هـ) السلطان صلاح الدين يوسف بن الأمير نجم الدين، أبو المظفر الملك الناصر. ولد سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة. سمع من أبي طاهر السلفي والفقيه علي بن بنت أبي سعد وأبي الطاهر بن عوف وغيرهم. وروى عنه يونس ابن محمد الفارقي والعماد الكاتب. أمره نور الدين وبعثه مع عمه إلى مصر فقهر بني عبيد ومحا دولتهم. قال الذهبي: وكان خليقا للإمارة مهيبا شجاعا حازما مجاهدا كثير الغزو عالي الهمة، كانت دولته نيفا وعشرين سنة. تملك بعد نور الدين واتسعت بلاده وفتح اليمن وغيرها وسار إلى دمشق، فأخذها من ابن نور الدين وكثيرا من النواحي والأقطار. ثم حاصر القدس وجد في ذلك فأخذها بالأمان، فقامت قيامة الفرنج وأقبلوا كقطع الليل المظلم برا وبحرا، فحاصرهم ودام عليهم نيفا وعشرين شهرا وما فكوا حتى أخذوها. ومحاسن صلاح الدين جمة لا سيما الجهاد ومحافله آهلة بالفضلاء، ويؤثر سماع الأحاديث بالأسانيد، حليما مقيلا للعثرة تقيا نقيا وفيا صفيا. توفي بقلعة دمشق بعد الصبح من يوم الأربعاء في صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة. موقفه من المشركين: - قال الذهبي: وفيها -أي سنة 585 هـ - وفي المقبلة: كان الحصار الذي لم يسمع بمثله أبدا على عكا، كان السلطان قد افتتحها وأسكنها ¬

(¬1) السير (21/ 278 - 291) ووفيات الأعيان (7/ 139 - 205) والبداية والنهاية (13/ 3 - 8) والنجوم الزاهرة (6/ 20 - 61) وتاريخ الإسلام (حوادث 581 - 590/ص.351 - 367) والعبر (2/ 154) وشذرات الذهب (4/ 298 - 300).

المسلمين، فأقبلت الفرنج برا وبحرا من كل فج عميق، فأحاطوا بها، وسار صلاح الدين فيدفعهم، فما تزعزعوا ولا فكروا بل أنشأوا سورا وخندقا على معسكرهم، وجرت غير وقعة، وقتل خلق كثير يحتاج بسط ذلك إلى جزء، وامتدت المنازلة والمطاولة والمقاتلة نيفا وعشرين شهرا، وكانت الأمداد تأتي العدو من أقصى البحار، واستنجد صلاح الدين بالخليفة وغيره، حتى إنه نفذ رسولا إلى صاحب المغرب يعقوب المؤمني يستجيشه فما نفع، وكل بلاء النصارى ذهاب بيت المقدس منهم. قال ابن الأثير: لبس القسوس السواد حزنا على القدس، وأخذهم بترك القدس وركب بهم البحر يستنفرون الفرنج، وصوروا المسيح وقد ضربه النبي - صلى الله عليه وسلم - وجرحه، فعظم هذا المنظر على النصارى، وحشدوا وجمعوا من الرجال والأموال ما لا يحصى، فحدثني كردي كان يغير مع الفرنج بحصن الأكراد أنهم أخذوه معهم في البحر، قال: فانتهى بنا الطواف إلى رومية، فخرجنا منها وقد ملأنا الشواني الأربعة فضة. قال ابن الأثير: فخرجوا على الصعب والذلول برا وبحرا، ولولا لطف الله بإهلاك ملك الألمان وإلا لكان يقال: إن الشام ومصر كانتا للمسلمين. قلت: كانت عساكر العدو فوق المئتي ألف، ولكن هلكوا جوعا ووباء وهلكت دوابهم، وجافت الأرض بهم، وكانوا قد ساروا فمروا علىجهة القسطنطينية ثم على ممالك الروم تقتل وتسبي، والتقاه سلطان الروم فكسره ملك الألمان، وهجم قونية فاستباحها، ثم هادنه ابن قلج رسلان ومروا على بلاد سيس ووقع فيهم الفناء فمات الملك وقام ابنه. قلت: قتل من العدو في بعض المصافات الكبيرة التي جرت في حصار عكا في يوم اثنا عشر ألفا وخمس مئة،

والتقوا مرة أخرى فقتل منهم ستة آلاف، وعمروا على عكا برجين من أخشاب عاتية، البرج سبع طبقات فيها مسامير كبار يكون المسمار نصف قنطار، وصفحوا البرج بالحديد، فبقي منظرا مهولا، ودفعوا البرج ببكر تحته حتى ألصقوه بسور عكا وبقي أعلى منها بكثير فسلط عليه أهل عكا المجانيق حتى خلخلوه، ثم رموه بقدرة نفط فاشتعل مع أنه كان عليه لبود منقوعة بالخل تمنع عمل النفط، فأوقد وجعل الملاعين يرمون نفوسهم منه وكان يوما مشهودا، ثم عملوا كبشا عظيما رأسه قناطير مقنطرة من حديد ليدفعوه على السور فيخرقه فلما دحرجوه وقارب السور ساخ في الرمل لعظمه، وهد الكلاب بدنة وبرجا فسد المسلمون ذلك وأحكموه في ليلة، وكان السلطان يكون أول راكب وآخر نازل في هذين العامين، ومرض وأشرف على التلف ثم عوفي. قال العماد: حزر ما قتل من العدو فكان أكثر من مئة ألف. ومن إنشاء الفاضل إلى الديوان وهم على عكا: يمدهم البحر بمراكب أكثر من أمواجه، ويخرج لنا أمر من أجاجه، وقد زر هذا العدو عليه من الخنادق دروعا، واستجن من الجنونات بحصون، فصار مصحرا ممتنعا حاسرا مدرعا، وأصحابنا قد أثرت فيهم المدة الطويلة في استطاعتهم لا في طاعتهم، وفي أجوالهم لا في شجاعتهم فنقول: اللهم إن تهلك هذه العصابة، ونرجو على يد أمير المؤمنين الإجابة، وقد حرم باباهم لعنه الله كل مباح واستخرج منهم كل مذخور، وأغلق دونهم الكنائس، ولبسوا الحداد، وحكم أن لا يزالوا كذلك أو يستخلصوا المقبرة، فيا عصبة نبينا - صلى الله عليه وسلم - اخلفه في أمته بما تطمئن به مضاجعه، ووفه الحق فينا، فها نحن عندك ودائعه، ولولا أن في التصريح ما

يعود على العدالة بالتجريح لقال الخادم ما يبكي العيون وينكي القلوب، ولكنه صابر محتسب وللنصر مرتقب، رب لا أملك إلا نفسي وهاهي في سبيلك مبذولة، وأخي وقد هاجر هجرة نرجوها مقبولة، وولدي وقد بذلت للعدو صفحات وجوههم، ونقف عند هذا الحد ولله الأمر من قبل ومن بعد. ومن كتاب إلى الديوان: قد بلي الإسلام منهم بقوم استطابوا الموت، وفارقوا الأهل طاعة لقسيسهم، وغيرة لمعبدهم، وتهالكا على قمامتهم، حتى لسارت ملكة منهم بخمس مئة مقاتل التزمت بنفقاتهم، فأخذها المسلمون برجالها بقرب الإسكندرية، فذوات المقانع مقنعات دارعات تحمل الطوارق والقبطاريات، ووجدنا منهم عدة بين القتلى، وبابا رومية حكم بأن من لا يتوجه إلى القدس فهو محرم لا منكح له ولا مطعم، فلهذا يتهافتون على الورود ويتهالكون على يومهم الموعود، وقال لهم إنني واصل في الربيع جامع على استنفار الجميع، وإذا نهض فلا يقعد عنه أحد، ويقبل معه كل من قال: لله ولد. ومن كتاب: ومعاذ الله أن يفتح الله علينا البلاد ثم يغلقها، وأن يسلم على يدينا القدس ثم ننصره، ثم معاذ الله أن نغلب عن النصر أو أن نغلب عن الصبر {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} (¬1). ولست بقرم هازم لنظيره ... ولكنه الإسلام للشرك هازم إلى أن قال: والمشهور الآن أن ملك الألمان خرج في مئتي ألف وأنه ¬

(¬1) محمد الآية (35).

الآن في دون خمسة آلاف. (¬1) - وقال الذهبي أيضا: وكان نور الدين قد أَمَّره، وبعثه في عسكره مع عمه أسد الدين شيركوه، فحكم شيركوه على مصر، فما لبث أن توفي، فقام بعده صلاح الدين، ودانت له العساكر، وقهر بني عبيد، ومحا دولتهم، واستولى على قصر القاهرة بما حوى من الأمتعة والنفائس، منها الجبل الياقوت الذي وزنه سبعة عشر درهما؛ قال مؤلف الكامل ابن الأثير: أنا رأيته ووزنته. (¬2) - وقال: قال ابن واصل في حصار عزاز: كانت لجاويلي خيمة كان السلطان يحضر فيها، ويحض الرجال، فحضر باطنية في زي الأجناد، فقفز عليه واحد ضربه بسكين، لولا المغفر الزرد الذي تحت القلنسوة، لقتله فأمسك السلطان يد الباطني بيديه، فبقي يضرب في عنق السلطان ضربا ضعيفا، والزرد تمنع، وبادر الأمير بازكوج، فأمسك السكين، فجرحته، وما سيبها الباطني حتى بضعوه، ووثب آخر، فوثب عليه ابن منكلان، فجرحه الباطني في جنبه، فمات، وقتل الباطني، وقفز ثالث، فأمسكه الأمير علي بن أبي الفوارس، فضمه تحت إبطه، فطعنه صاحب حمص، فقتله، وركب السلطان إلى مخيمه، ودمه يسيل على خده، واحتجب في بيت خشب، وعرض جنده، فمن أنكره أبعده. (¬3) ¬

(¬1) السير (22/ 209 - 212). (¬2) السير (21/ 279). (¬3) السير (21/ 281 - 282).

موقفه من الرافضة:

- وقال ابن كثير: وكان يحب سماع القرآن والحديث والعلم، ويواظب على سماع الحديث، حتى إنه يسمع في بعض مصافه جزء وهو بين الصفين فكان يتبحبح بذلك ويقول: هذا موقف لم يسمع أحد في مثله حديثا، وكان ذلك بإشارة العماد الكاتب. وكان رقيق القلب سريع الدمعة عند سماع الحديث، وكان كثير التعظيم لشرائع الدين. كان قد صحب ولده الظاهر وهو بحلب شاب يقال له الشهاب السهروردي، وكان يعرف الكيميا وشيئا من الشعبذة والأبواب النيرنجيات، فافتتن به ولد السلطان الظاهر، وقربه وأحبه، وخالف فيه حملة الشرع، فكتب إليه أن يقتله لا محالة، فصلبه عن أمر والده وشهره، ويقال بل حبسه بين حيطين حتى مات كمدا، وذلك في سنة ست وثمانين وخمسمائة. (¬1) موقفه من الرافضة: - قال الذهبي رحمه الله: تلاشى أمر العاضد مع صلاح الدين إلى أن خلعه، وخطب لبني العباس، واستأصل شأفة بني عبيد، ومحق دولة الرفض. (¬2) - جاء في البداية والنهاية: وفيها -أي سنة ست وستين وخمسمائة هجرية- عزل صلاح الدين قضاة مصر لأنهم كانوا شيعة، وولي قضاء القضاة بها لصدر الدين عبد الملك بن درباس المارداني الشافعي، فاستناب في سائر المعاملات قضاة شافعية، وبنى مدرسة للشافعية، وأخرى للمالكية. (¬3) ¬

(¬1) البداية (13/ 6). (¬2) السير (15/ 211 - 212). (¬3) البداية (12/ 282).

موقف السلف من سنان بن سليمان الباطني (589 هـ)

- وفيها: قطع صلاح الدين الأذان بحي على خير العمل من ديار مصر كلها. (¬1) موقف السلف من سنان بن سليمان الباطني (589 هـ) قال الذهبي عنه: راشد الدين، كبير الإسماعيلية وطاغوتهم ... الباطني صاحب الدعوة الترارية. (¬2) قال ابن العديم في 'تاريخه': أخبرني شيخ أدرك سنانا أنه كان بصريا يعلم الصبيان، وأنه مر وهو طالع إلى الحصون على حمار، فأراد أهل إقميناس أخذ حماره، فبعد جهد تركوه، ثم آل أمره إلى أن تملك عدة قلاع. أوصى يوما أتباعه، فقال: عليكم بالصفاء بعضكم لبعض، لا يمنعن أحدكم أخاه شيئا له، فأخذ هذا بنت هذا، وأخذ هذا أخت هذا سفاحا، وسموا نفوسهم الصفاة، فاستدعاهم سنان مرة، وقتل خلقا منهم. قال ابن العديم: تمكن في الحصون، وانقادوا له. وأخبرني علي بن الهواري أن صلاح الدين سير رسولا إلى سنان يتهدده، فقال للرسول: سأريك الرجال الذين ألقاه بهم، فأشار إلى جماعة أن يرموا أنفسهم من أهل الحصن من أعلاه، فألقوا نفوسهم فهلكوا. قال: وبلغني أنه أحل لهم وطء أمهاتهم وأخواتهم وبناتهم، وأسقط عنهم ¬

(¬1) البداية (12/ 283). (¬2) السير (21/ 182 - 183).

صوم رمضان. قال: وقرأت بخط أبي غالب بن الحصين أن في محرم سنة تسع وثمانين هلك سنان صاحب الدعوة بحصن الكهف، وكان رجلا عظيما خفي الكيد، بعيد الهمة، عظيم المخاريق، ذا قدرة على الإغواء، وخديعة القلوب، وكتمان السر، واستخدام الطغام والغفلة في أغراضه الفاسدة. وأصله من قرى البصرة، خدم رؤساء الإسماعيلية بألموت، وراض نفسه بعلوم الفلاسفة، وقرأ كثيرا من كتب الجدل والمغالطة ورسائل إخوان الصفاء، والفلسفة الإقناعية المشوقة لا المبرهنة، وبنى بالشام حصونا، وتوثب على حصون، ووعر مسالكها، وسالمته الأنام، وخافته الملوك من أجل هجوم أتباعه بالسكين، دام له الأمر نيفا وثلاثين سنة، وقد سير إليه داعي الدعاة من قلعة ألموت جماعة غير مرة ليقتلوه لاستبداده بالرئاسة، فكان سنان يقتلهم، وبعضهم يخدعه، فيصير من أتباعه. قال: وقرأت على حسين الرازي في 'تاريخه' قال: حدثني معين الدين مودود الحاجب أنه حضر عند الإسماعيلية في سنة اثنتين وخمسين، فخلا بسنان، وسأله فقال: نشأت بالبصرة، وكان أبي من مقدميها، فوقع هذا الأمر في قلبي، فجرى لي مع إخوتي أمر، فخرجت بغير زاد ولا ركوب، فتوصلت إلى الألموت، وبها إلكيا محمد بن صباح، وله ابنان حسن وحسين، فأقعدني معهما في المكتب، وكان يبرني برهما، ويساويني بهما، ثم مات، وولي حسن بن محمد، فنفذني إلى الشام، فخرجت مثل خروجي من البصرة، وكان قد أمرني بأوامر، وحملني رسائل، فدخلت مسجد التمارين بالموصل، ثم سرت إلى الرقة، فأديت رسالته إلى رجل، فزودني، واكترى لي بهيمة إلى

حلب، ولقيت آخر برسالته، فزودني إلى الكهف، وكان الأمر أن أقيم هنا، فأقمت حتى مات الشيخ أبو محمد صاحب الأمر، فولي بعده خواجا علي بغير نص، بل باتفاق جماعة، ثم اتفق الرئيس أبو منصور ابن الشيخ أبي محمد والرئيس فهد، فبعثوا من قتل خواجا، وبقي الأمر شورى، فجاء الأمر من الألموت بقتل قاتله وإطلاق فهد، وقرئت الوصية على الجماعة، وهي: هذا عهد عهدناه إلى الرئيس ناصر الدين سنان، وأمرناه بقراءته على الرفاق والإخوان، أعاذكم الله من الاختلاف واتباع الأهواء، إذ ذاك فتنة الأولين، وبلاء الآخرين، وعبرة للمعتبرين، من تبرأ من أعداء الله وأعداء وليه ودينه، عليه موالاة أولياء الله، والاتحاد بالوحدة سنة جوامع الكلم، كلمة الله والتوحيد والإخلاص، لا إله إلا الله عروة الله الوثقى، وحبله المتين، ألا فتمسكوا به، واعتصموا به، فبه صلاح الأولين، وفلاح الآخرين، أجمعوا آراءكم لتعليم شخص معين بنص من الله ووليه، فتلقوا ما يلقيه إليكم من أوامره ونواهيه بقبول، فلا وربك لا تؤمنون حتى تحكموه فيما شجر بينكم ثم لا تجدوا في أنفسكم حرجا مما قضى وتسلموا تسليما، فذلك الاتحاد بالوحدة التي هي آية الحق المنجية من المهالك، المؤدية إلى السعادة، إذ الكثرة علامة الباطل المؤدية إلى الشقاوة المخزية، فنعوذ بالله من زواله، وبالواحد من آلهة شتى، وبالوحدة من الكثرة، وبالنص والتعليم من الأدواء والأهواء، وبالحق من الباطل، وبالآخرة الباقية من الدنيا الملعونة، إلا ما أريد به وجه الله، فتزودوا منها للأخرى، وخير الزاد التقوى، أطيعوا أميركم ولو كان عبدا حبشيا. (¬1) ¬

(¬1) السير (21/ 185 - 188).

الشاطبي القاسم بن فيره (590 هـ)

الشاطبي القاسم بن فِيرُّهْ (¬1) (590 هـ) الشيخ الإمام، سيد القراء، أبو محمد وأبو القاسم القاسم بن فِيرُّهْ بن خلف بن أحمد الرعيني الأندلسي الشاطبي، الضرير، المقرئ، ناظم الشاطبية وغيرها. ولد في آخر سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة. سمع من السلفي، وقرأ ببلده بالسبع على أبي عبد الله بن أبي العاص النفري، وارتحل إلى بلنسية، فقرأ على أبي الحسن بن هذيل. وسمع منه أبو الحسن بن خيرة ومحمد بن يحيى الجنجالي وأبو بكر بن وضاح وأبو محمد بن عبد الوارث المعروف بابن فار اللبن وغيرهم. تصدر للإقراء بمصر، فعظم شأنه، وبعد صيته، وانتهت إليه الرئاسة في الإقراء. قال الذهبي: وكان إماما علامة، نبيلا، محققا، ذكيا، واسع المحفوظ، كثير الفنون، بارعا في القراءات وعللها، حافظا للحديث، كثير العناية به، أستاذا في العربية. وقال ابن كثير: وكان دينا خاشعا ناسكا كثير الوقار، لا يتكلم فيما لا يعنيه. سارت الركبان بقصيدتيه حرز الأماني والرائية، وخضع لهما فحول الشعراء وحذاق القراء، وقيل: إنه كان يحفظ وقر بعير من الكتب. توفي رحمه الله بمصر في جمادى الآخرة سنة تسعين وخمسمائة. موقفه من المبتدعة: قال أبو شامة في 'الباعث على إنكار البدع والحوادث' في معرض بيان إنكار السلف للصلوات المبتدعة: وعهدي بأن مثل هذه الصلوات لا يحافظ ¬

(¬1) وفيات الأعيان (3/ 234 - 236) ومعرفة القراء الكبار (2/ 573 - 575) والسير (21/ 261 - 264) والبداية والنهاية (13/ 11 - 12) وغاية النهاية (2/ 20 - 23) وحسن المحاضرة (1/ 496 - 497) وشذرات الذهب (4/ 301 - 303).

الطالقاني (590 هـ)

عليها إلا عامي جاهل، وإن أهل العلم مطبقون على إنكارها كما حدثنا الشيخ أبو الحسن العلامة قال: كنت جالسا بعد المغرب، عند الشيخ أبي القاسم بن فِيْرُّه الشاطبي رحمه الله تعالى، وحدثني بحجرته التي كان يقرأ فيها القرآن، بالمدرسة الفاضلية بالقاهرة، من الديار المصرية، والناس يصلون صلاة الرغائب بالمدرسة، وأصواتهم تبلغنا، فلما فرغوا منها، سمعت الشيخ الشاطبي يقول: لا إله إلا الله، فرغت البدعة، فرغت البدعة مرتين. قلت: وكان هذا الشيخ الشاطبي جامعا بين العلم والعمل، وليا من أولياء الله تعالى، ذا كرامات مشهورة، وقد بينت من أحواله في أول شرح قصيدته في القراءات. وقد حدثني عنه شيخنا المذكور، أنه قال: ما أتكلم كلمة إلا لله. فما أراد الشاطبي رحمه الله بهذا الكلام إلا إعلام صاحبه، بأنها بدعة، نصحا لله ولدينه. (¬1) الطالقاني (¬2) (590 هـ) أحمد بن إسماعيل بن يوسف، أبو الخير الطالقاني القزويني، الفقيه الشافعي، الواعظ رضي الدين أحد الأعلام. ولد سنة اثنتي عشرة وخمسمائة بقزوين. وتفقه على الفقيه أبي بكر بن ملكداذ بن علي العمركي ثم ارتحل إلى ¬

(¬1) الباعث (223 - 224). (¬2) السير (21/ 190 - 193) وتاريخ الإسلام (حوادث ووفيات 581 - 590هـ/ص.368 - 372) وتذكرة الحفاظ (4/ 1356) والنجوم الزاهرة (6/ 134و136) وشذرات الذهب (4/ 300) والبداية والنهاية (13/ 11).

موقفه من الرافضة:

نيسابور. وسمع من الكثير من أبيه وأبي الحسن بن علي الشافعي القزويني وخلق. قال ابن النجار: كان رئيس أصحاب الشافعي وكان إماما في المذهب، والخلاف والأصول والتفسير والوعظ. حدث بالكتب الكبار كصحيح مسلم ومسند إسحاق وتاريخ نيسابور للحاكم والسنن الكبير للبيهقي ودلائل النبوة والبعث والنشور له أيضا. رد إلى بلده فأقام مشتغلا بالعبادة إلى أن توفي في المحرم سنة تسعين وخمسمائة. موقفه من الرافضة: جاء في السير: قال الموفق: كان يعمل في اليوم والليلة ما يعجز المجتهد عنه في شهر، وظهر التشيع في زمانه بسبب ابن الصاحب، فالتمس العامة منه على المنبر يوم عاشوراء أن يلعن يزيد، فامتنع، فهموا بقتله مرات، فلم يرع، ولا زل، وسار إلى قزوين، وضجع لهم ابن الجوزي. (¬1) موقفه من الجهمية: ذكر له ابن العماد كتابا لعله يصلح مرجعا يستفيد منه السلفي وهو: التبيان في مسائل القرآن ردا على الحلولية والجهمية. انظر الشذرات. (¬2) تنبيه: قال ابن كثير عنه في البداية: وكان يذهب إلى قول الأشعري في الأصول. (¬3) ¬

(¬1) السير (21/ 193) والبداية (13/ 11). (¬2) (4/ 300 - 301). (¬3) البداية (13/ 11).

يعقوب المنصور (595 هـ)

يعقوب المنصور (¬1) (595 هـ) السلطان الكبير، الملقب بأمير المؤمنين المنصور، أبو يوسف يعقوب بن السلطان يوسف بن السلطان عبد المؤمن. عقدوا له بالأمر سنة ثمانين وخمسمائة عند مهلك أبيه، فكان سنه يومئذ ثنتين وثلاثين سنة. وكان فارسا شجاعا، قوي الفراسة، خبيرا بالأمور، خليقا للإمارة، ينطوي على دين وخير وتأله ورزانة، أبطل الخمر في ممالكه، وتوعد عليها فعدمت. وكان يجمع الأيتام في العام، فيأمر للصبي بدينار وثوب ورغيف، وكان يعود المرضى في الجمعة، وكان يقصد لفضله ولعدله ولبذله وحسن معتقده، وكانت مجالسه مزينة بحضور العلماء والفضلاء، تفتتح بالتلاوة ثم بالحديث، وكان يجيد حفظ القرآن ويحفظ الحديث، ويتكلم في الفقه، ويناظر وينسبونه إلى مذهب الظاهر، وله فتاوى، وصنف في العبادات. توفي سنة خمس وتسعين وخمسمائة. موقفه من المبتدعة: - جاء في الاستقصا: كان المنصور يشدد في إلزام الرعية بإقامة الصلوات الخمس، وقتل في بعض الأحيان على شرب الخمر، وقتل العمال الذين تشكوهم الرعايا، وأمر برفض فروع الفقه وإحراق كتب المذاهب، وأن الفقهاء لا يفتون إلا من الكتاب والسنة النبوية، ولا يقلدون أحدا من الأئمة المجتهدين، بل تكون أحكامهم بما يؤدي إليه اجتهادهم من استنباطهم ¬

(¬1) السير (21/ 311 - 319) ووفيات الأعيان (7/ 3 - 19) والاستقصا (2/ 158) والبداية والنهاية (13/ 22) وشذرات الذهب (4/ 321) والأعلام (8/ 203).

القضايا من الكتاب والحديث والإجماع والقياس. (¬1) - وجاء في السير: قال عبد الواحد بن علي: كنت بفاس، فشهدت الأحمال يؤتى بها فتحرق، وتهدد على الاشتغال بالفروع، وأمر الحفاظ بجمع كتاب في الصلاة من الكتب الخمسة والموطأ، ومسند ابن أبي شيبة، ومسند البزار، وسنن الدارقطني، وسنن البيهقي، كما جمع ابن تومرت في الطهارة. ثم كان يملي ذلك بنفسه على كبار دولته، وحفظ ذلك خلق، فكان لمن يحفظه عطاء وخلعة. -إلى أن قال-: وكان قصده محو مذهب مالك من البلاد، وحمل الناس على الظاهر، وهذا المقصد بعينه كان مقصد أبيه وجده، فلم يظهراه، فأخبرني غير واحد أن ابن الجد أخبرهم قال: دخلت على أمير المؤمنين يوسف، فوجدت بين يديه كتاب ابن يونس، فقال: أنا أنظر في هذه الآراء التي أحدثت في الدين، أرأيت المسألة فيها أقوال، ففي أيها الحق؟ وأيها يجب أن يأخذ به المقلد؟ فافتتحت أبين له، فقطع كلامي، وقال: ليس إلا هذا، وأشار إلى المصحف، أو هذا، وأشار إلى (سنن أبي داود) أو هذا وأشار إلى السيف. (¬2) - وكان لا يقول بالعصمة في ابن تومرت. وسأل فقيها: ما قرأت؟ قال: تواليف الإمام (¬3)، قال: فزورني، وقال: ما كذا يقول الطالب، حكمك أن تقول: قرأت كتاب الله، وقرأت من السنة، ¬

(¬1) الاستقصا (2/ 200). (¬2) السير (21/ 313 - 314). وانظر المعجب في تلخيص أخبار المغرب (ص.400 - 402). (¬3) يعني ابن تومرت.

موقفه من المشركين:

ثم بعد ذا قل ما شئت. (¬1) موقفه من المشركين: - قال الإمام الذهبي: وكان ابن رشد الحفيد قد هذب له كتاب الحيوان. وقال: الزرافة رأيتها عند ملك البربر، كذا قال غير مهتبل، فأحنقهم هذا، ثم سعى فيه من يناوئه عند يعقوب، فأروه بخطه حاكيا عن الفلاسفة أن الزهرة أحد الآلهة، فطلبه، فقال: أهذا خطك؟ فأنكر، فقال: لعن الله من كتبه، وأمر الحاضرين بلعنه، ثم أقامه مهانا، وأحرق كتب الفلسفة سوى الطب والهندسة. (¬2) - وقال أيضا: قيل: إن الأدفنش كتب إليه يهدده، ويعنفه، ويطلب منه بعض البلاد، ويقول: وأنت تماطل نفسك، وتقدم رجلا وتؤخر أخرى، فما أدري الجبن بطأ بك، أو التكذيب بما وعدك نبيك؟ فلما قرأ الكتاب، تنمر، وغضب، ومزقه، وكتب على رقعة منه: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} (¬3) الآية، الجواب ما ترى لا ما تسمع. ولا كتب إلا المشرفية عندنا ... ولا رسل إلا للخميس العرمرم ثم استنفر سائر الناس، وحشد، وجمع، حتى احتوى ديوان جيشه على مئة ألف، ومن المطوعة مثلهم، وعدى إلى الأندلس، فتمت الملحمة الكبرى، ¬

(¬1) السير (21/ 316). (¬2) السير (21/ 317). (¬3) النمل الآية (37).

موقف السلف من ابن رشد الحفيد (595 هـ)

ونزل النصر والظفر، فقيل غنموا ستين ألف زردية. قال ابن الأثير: قتل من العدو مائة ألف وستة وأربعون ألفا، ومن المسلمين عشرون ألفا. (¬1) موقف السلف من ابن رشد الحفيد (595 هـ) جاء في السير: قال شيخ الشيوخ ابن حمويه: لما دخلت البلاد، سألت عن ابن رشد، فقيل: إنه مهجور في بيته من جهة الخليفة يعقوب، لا يدخل إليه أحد؛ لأنه رفعت عنه أقوال ردية، ونسبت إليه العلوم المهجورة، ومات محبوسا بداره بمراكش في أواخر سنة أربع ... أو خمس. (¬2) الشهاب الطوسي (¬3) (596 هـ) محمد بن محمود بن محمد الشهاب الطوسي أبو الفتح الفقيه الشافعي، نزيل مصر، إمام مفت علامة مشهور، ولد سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة. حدث عن أبي الوقت السجزي وغيره. روى عنه الإمام بهاء الدين ابن الجميزي وشهاب الدين القوصي. سافر إلى مصر وأظهر مذهب الأشعري، وثارت عليه الحنابلة، وكان يجري بينه وبين زين الدين بن نجية العجائب من السباب ونحوه. قاله أبو شامة. ¬

(¬1) السير (21/ 318 - 319). (¬2) السير (21/ 309). (¬3) تاريخ الإسلام (42/ 267 - 268) والسير (21/ 387 - 388) والشذرات (4/ 327 - 328).

موقفه من المشركين:

جرى له مع العادل ومع ابن شكر قضايا عجيبة لما تعرضوا لأوقاف المدارس فذب عن الناس وثبت. مات بمصر سنة ست وتسعين وخمسمائة. موقفه من المشركين: قال الذهبي: قال الإمام أبو شامة: وبلغني أنه سئل: أيما أفضل دم الحسين، أو دم الحلاج؟ فاستعظم ذلك، قالوا: فدم الحلاج كتب على الأرض: الله، الله، ولا كذلك دم الحسين؟ قال: المتهم يحتاج إلى تزكية. قلت: -أي الذهبي- لم يصح هذا عن دم الحلاج، وليسا سواء: فالحسين رضي الله عنه شهيد قتل بسيف أهل الشر، والحلاج فقتل على الزندقة بسيف أهل الشرع. (¬1) العِمَاد الكَاتِب (¬2) (597 هـ) القاضي الإمام، العلامة المفتي، المنشيء البليغ، الوزير عماد الدين، أبو عبد الله محمد بن محمد بن حامد بن محمد الأصبهاني الكاتب، ويعرف بابن أخي العزيز. ولد سنة تسع عشرة وخمسمائة بأصبهان وقدم بغداد وهو ابن عشرين سنة، وتفقه وبرع في الفقه على أبي منصور بن الرزاز وأتقن الخلاف والنحو والأدب والنظم. وسمع من أبي منصور بن خيرون والمبارك السمذي وأبي القاسم بن الصباغ وطائفة. وسمع بالثغر من السلفي وغيره. روى عنه ¬

(¬1) السير (21/ 388). (¬2) الكامل في التاريخ (12/ 171) ووفيات الأعيان (5/ 147 - 153) والسير (21/ 345 - 350) وتاريخ الإسلام (حوادث 591 - 600/ص.316 - 323) وشذرات الذهب (4/ 332).

موقفه من الرافضة:

ابن خليل، والشهاب القوصي، والعز الإربلي، وآخرون. اتصل بابن هبيرة ثم اتصل بالدولة وخدم بالإنشاء الملك نور الدين. صنف كتاب خريدة القصر وجريدة العصر والبرق الشامي. قال ابن البزوري في تاريخه: العماد إمام البلغاء، شمس الشعراء، وقطب رحى الفضلاء، أشرقت فضائله وأنارت، وأنجدت الركبان بأخباره وأغارت، هو في الفصاحة قس دهره، وفي البلاغة سحبان عصره، فاق الأنام طُرّا، نظما ونثرا. توفي رحمه الله تعالى في أول رمضان سنة سبع وتسعين وخمسمائة. موقفه من الرافضة: ومما نظمه العماد في ذلك (أي في وفاة العاضد العبيدي ودعوة صلاح الدين): توفي العاضد الدعي فما ... يفتح ذو بدعة بمصر فما وعصر فرعونها انقضى وغدا ... يوسفها في الأمور محتكما قد طفئت جمرة الغواة وقد ... داخ من الشرك كل ما اضطرما وصار شمل الصلاح ملتئما ... بها وعقد السداد منتظما لما غدا مشعرا شعار بني الـ ... ـعباس حقا والباطل اكتتما وبات داعي التوحيد منتظرا ... ومن دعاة الإشراك منتقما وظل أهل الضلال في ظلل ... داجية من غبائة وعمى وارتكس الجاهلون في ظلم ... لما أضاءت منابر العلما وعاد بالمستضيء معتليا ... بناء حق بعدما كان منهدما أعيدت الدولة التي اضطهدت ... وانتصر الدين بعدما اهتضما

ابن الجوزي (597 هـ)

واهتز عطف الإسلام من جلل ... وافتر ثغر الإسلام وابتسما واستبشرت أوجه الهدى فرحا ... فليقرع الكفر سنه ندما عاد حريم الأعداء منتهك الـ ... ـحمى وفي الطغاة منقسما قصور أهل القصور أخربها ... عامر بيت من الكمال سما أزعج بعد السكوت ساكنها ... ومات ذلا وأنفه رغما (¬1) ابن الجَوْزِي (¬2) (597 هـ) الشيخ الإمام عبد الرحمن بن علي بن محمد، جمال الدين، أبو الفرج بن الجوزي القرشي التيمي البغدادي، صاحب التصانيف المشهورة. ولد سنة تسع أو عشر وخمسمائة، وعرف جدهم بالجوزي لجوزة في وسط داره بواسط، ولم يكن بواسط جوزة سواها. سمع من ابن الحصين وأبي الحسن الزاغوني وابن ناصر وأبي الوقت وأبي السعادات المتوكلي وغيرهم. وروى عنه ابنه محيي الدين يوسف وسبطه شمس الدين الواعظ والشيخ الموفق والحافظ عبد الغني وابن النجار وآخرون. قيل كان يحضر مجلسه مائة ألف نفس. برع في العلوم، وتفرد بالمنثور والمنظوم، وفاق على أدباء مصره وعلا على فضلاء دهره، ولم يترك فنا من الفنون إلا وله فيه مصنف. قال سيف الدين بن المجد: وما رأيت أحدا يعتمد عليه في دينه وعلمه وعقله راضيا عنه. ¬

(¬1) البداية (12/ 284). (¬2) وفيات الأعيان (3/ 140 - 142) والسير (21/ 365 - 384) وتاريخ الإسلام (حوادث591 - 600/ص.287 - 304) والوافي بالوفيات (18/ 186 - 194) والنجوم الزاهرة (6/ 174) وشذرات الذهب (4/ 329 - 331)

موقفه من المبتدعة:

قال جدي رحمه الله: كان أبو المظفر بن حمدي أحد العدول والمشار إليهم ببغداد ينكر على ابن الجوزي كثيرا كلمات يخالف فيها السنة. قال الذهبي: وكلامه في السنة مضطرب، تراه في وقت سنيا، وفي وقت متجهما محرفا للنصوص، والله يرحمه ويغفر له. نالته محنة في أواخر عمره، فحبس بواسط، وما أطلق إلا بعد خمس سنين. توفي رحمه الله في الثالث عشر من رمضان سنة سبع وتسعين وخمسمائة. موقفه من المبتدعة: - قال رحمه الله في كتابه النفيس 'تلبيس إبليس': واعلم أن الأنبياء جاؤوا بالبيان الكافي، وقابلوا الأمراض بالدواء الشافي، وتوافقوا على منهاج لم يختلف. فأقبل الشيطان يخلط بالبيان شبهاً، وبالدواء سمّاً، وبالسبيل الواضح جرداً مضلا، وما زال يلعب بالعقول إلى أن فرق الجاهلية في مذاهب سخيفة، وبدع قبيحة، فأصبحوا يعبدون الأصنام في البيت الحرام، ويحرمون السائبة والبحيرة والوصيلة والحام، ويرون وأد البنات، ويمنعونهن الميراث، إلى غير ذلك من الضلال الذي سوله لهم إبليس فابتعث الله سبحانه وتعالى محمداً - صلى الله عليه وسلم -، فرفع المقابح، وشرع المصالح. فسار أصحابه معه وبعده في ضوء نوره، سالمين من العدوّ وغروره. فلما انسلخ نهار وجودهم. أقبلت أغباش الظلمات، فعادت الأهواء تنشئ بدعاً، وتضيق سبيلاً ما زال متسعاً، ففرق الأكثرون دينهم وكانوا شيعاً، ونهض إبليس يلبس ويزخرف ويفرق ويؤلف، وإنما يصح له التلصص في ليل الجهل، فلو قد طلع عليه صبح العلم افتضح. فرأيت أن أحذر من مكايده، وأدلّ على مصايده. فإن في تعريف الشر

تحذيراً عن الوقوع فيه. (¬1) - قال رحمه الله: دخل إبليس على هذه الأمة في عقائدها من طريقين: أحدهما: التقليد للآباء والأسلاف. والثاني: الخوض فيما لا يدرك غوره ويعجز الخائض عن الوصول إلى عمقه، فأوقع أصحاب هذا القسم في فنون من التخليط. فأما الطريق الأول، فإن إبليس زين للمقلدين أن الأدلة قد تشتبه والصواب قد يخفى والتقليد سليم. وقد ضل في هذا الطريق خلق كثير وبه هلاك عامة الناس، فإن اليهود والنصارى قلدوا آباءهم وعلماءهم فضلوا، وكذلك أهل الجاهلية. واعلم أن العلة التي بها مدحوا التقليد بها يذم، لأنه إذا كانت الأدلة تشتبه والصواب يخفى وجب هجر التقليد لئلا يوقع في ضلال. وقد ذم الله سبحانه وتعالى الواقفين مع تقليد آبائهم وأسلافهم فقال عز وجل: {إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ} (¬2) المعنى أتتبعونهم؟ وقد قال عز وجل: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)} (¬3). قال المصنف: اعلم أن المقلد على غير ثقة فيما قلد فيه. وفي التقليد إبطال منفعة العقل لأنه إنما خلق للتأمل والتدبر، وقبيح بمن ¬

(¬1) تلبيس إبليس (ص.10 - 11). (¬2) الزخرف الآيتان (23و24). (¬3) الصافات الآيتان (69و70).

أعطي شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي في الظلمة. واعلم أن عموم أصحاب المذاهب يعظم في قلوبهم الشخص فيتبعون قوله من غير تدبر بما قال، وهذا عين الضلال، لأن النظر ينبغي أن يكون إلى القول لا إلى القائل كما قال علي رضي الله عنه للحارث بن حوط وقد قال له: أتظن أنا نظن أن طلحة والزبير كانا على باطل؟ فقال له: يا حارث إنه ملبوس عليك، إن الحق لا يُعْرَف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله. (¬1) - وقال: واعلم أن من نظر إلى تعظيم شخص ولم ينظر بالدليل إلى ما صدر عنه، كان كمن ينظر إلى ماجرى على يد المسيح صلوات الله عليه من الأمور الخارقة ولم ينظر إليه فادعى فيه الإلهية. ولو نظر إليه وأنه لا يقوم إلا بالطعام، لم يعطه إلا ما يستحقه. (¬2) - وقال: فإن قال قائل: قد مدحت السنة وذممت البدعة، فما السنة وما البدعة؟ فإنا نرى أن كل مبتدع في زعمنا يزعم أنه من أهل السنة؟ (فالجواب): أن السنة في اللغة الطريق، ولا ريب في أن أهل النقل والأثر المتبعين آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآثار أصحابه هم أهل السنة، لأنهم على تلك الطريق التي لم يحدث فيها حادث، وإنما وقعت الحوادث والبدع بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. والبدعة: عبارة عن فعل لم يكن فابتدع. والأغلب في المبتدعات أنها تصادم الشريعة بالمخالفة، وتوجب التعاطي عليها بزيادة أو نقصان. فإن ¬

(¬1) التلبيس (100 - 101). (¬2) التلبيس (209).

ابتدع شيء لا يخالف الشريعة ولا يوجب التعاطي عليها؛ فقد كان جمهور السلف يكرهونه، وكانوا ينفرون من كل مبتدع وإن كان جائزا، حفظا للأصل وهو الاتباع. (¬1) - وقال رحمه الله: قد بينا أن القوم كانوا يتحذرون من كل بدعة وإن لم يكن بها بأس لئلا يحدثوا ما لم يكن. وقد جرت محدثات لا تصادم الشريعة ولا يتعاطى عليها، فلم يروا بفعلها بأسا، كما روي أن الناس كانوا يصلون في رمضان وحدانا، وكان الرجل يصلي فيصلي بصلاته الجماعة، فجمعهم عمر بن الخطاب على أبي بن كعب رضي الله عنه، فلما خرج فرآهم قال: نعمت البدعة هذه، لأن صلاة الجماعة مشروعة. وإنما قال الحسن في القصص: نعمت البدعة، كم من أخ يستفاد، ودعوة مستجابة؛ لأن الوعظ مشروع، ومتى أسند المحدث إلى أصل مشروع لم يذم. فأما إذا كانت البدعة كالمتمم فقد اعتقد نقص الشريعة، وإن كانت مضادة فهي أعظم. فقد بان بما ذكرنا أن أهل السنة هم المتبعون، وأن أهل البدعة هم المظهرون شيئا لم يكن قبل ولا مستند له، ولهذا استتروا ببدعتهم، ولم يكتم أهل السنة مذهبهم، فكلمتهم ظاهرة ومذهبهم مشهور والعاقبة لهم. (¬2) - وبالسند إلى محمد بن الفضل العباسي قال: كنا عند عبد الرحمن بن أبي حاتم، وهو يقرأ علينا كتاب الجرح والتعديل، فقال: أظهر أحوال أهل ¬

(¬1) تلبيس إبليس (24 - 25). (¬2) تلبيس إبليس (26).

موقفه من المشركين:

العلم من كان منهم ثقة أو غير ثقة. فقال له يوسف بن الحسين: استحييت إليك يا أبا محمد، كم من هؤلاء القوم قد حطوا رواحلهم في الجنة منذ مئة سنة أو مئتي سنة، وأنت تذكرهم وتغتابهم على أديم الأرض، فبكى عبد الرحمن، وقال: يا أبا يعقوب، لو سمعت هذه الكلمة قبل تصنيفي هذا الكتاب، لم أصنفه. قال ابن الجوزي: عفا الله عن ابن أبي حاتم، فإنه لو كان فقيها، لرد عليه كما رد الإمام أحمد على أبي تراب، ولولا الجرح والتعديل، من أين كان يعرف الصحيح من الباطل؟ ثم كون القوم في الجنة لا يمنع أن نذكرهم بما فيهم. وتسمية ذلك غيبة حديث سوء. ثم من لا يدري الجرح والتعديل كيف هو يزكي كلامه؟ (¬1) موقفه من المشركين: - قال رحمه الله: اعلم أن القوم -أي الباطنية- أرادوا الانسلال من الدين، فشاوروا جماعة من المجوس والمزدكية والثنوية وملحدة الفلاسفة في استنباط تدبير يخفف عنهم ما نابهم من استيلاء أهل الدين عليهم حتى أخرسوهم عن النطق بما يعتقدونه من إنكار الصانع وتكذيب الرسل وجحد البعث وزعمهم أن الأنبياء ممخرقون ومنمسون، ورأوا أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - قد استطار في الأقطار، وأنهم قد عجزوا عن مقاومته فقالوا: سبيلنا أن ننتحل عقيدة طائفة من فرقهم أزكاهم عقلا وأتحفهم رأيا وأقبلهم للمحالات والتصديق بالأكاذيب وهم الروافض، فنتحصن بالانتساب إليهم، ونتودد ¬

(¬1) تلبيس إبليس (409).

إليهم بالحزن على ما جرى على آل محمد من الظلم والذل ليمكننا شتم القدماء الذين نقلوا إليهم الشريعة. فإذا هان أولئك عندهم لم يلتفتوا إلى ما نقلوا، فأمكن استدراجهم إلى الانخداع عن الدين، فإن بقي منهم معتصم بظواهر القرآن والأخبار أوهمناه أن تلك الظواهر لها أسرار وبواطن وأن المنخدع بظواهرها أحمق وإنما الفطنة في اعتقاد بواطنها، ثم نبث إليهم عقائدنا ونزعم أنها المراد بظواهرها عندكم، فإذا تكثرنا بهؤلاء سهل علينا استدراج باقي الفرق. ثم قالوا: وطريقنا أن نختار رجلا ممن يساعد على المذهب ويزعم أنه من أهل البيت وأنه يجب على كل الخلق كافة متابعته ويتعين عليهم طاعته لكونه خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمعصوم من الخطأ والزلل من جهة الله عز وجل، ثم لا تظهر هذه الدعوة على القرب من جوار هذا الخليفة الذي وسمناه بالعصمة، فإن قرب الدار يهتك الأستار. وإذا بعدت الشقة وطالت المسافة فمتى يقدر المستجيب للدعوة أن يفتش عن حال الإمام أو يطلع على حقيقة أمره. وقصدهم بهذا كله الملك والاستيلاء على أموال الناس، والانتقام منهم لما عاملوهم به من سفك دمائهم ونهب أموالهم قديما، فهذا غاية مقصودهم ومبدأ أمرهم. (¬1) - وقال رحمه الله: فانظر كيف تلاعب الشيطان بهؤلاء وذهب بعقولهم فنحتوا بأيديهم ما عبدوه، وما أحسن ما عاب الحق سبحانه وتعالى أصنامهم فقال: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ ¬

(¬1) التلبيس (128 - 129).

أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} (¬1). وكانت الإشارة إلى العباد، أي: أنتم تمشون وتبطشون وتبصرون وتسمعون والأصنام عاجزة عن ذلك وهي جماد وهم حيوان فكيف عبد التّامُّ النّاقصَ. ولو تفكروا لعلموا أن الإله يصنع الأشياء ولا يُصنع، ويجمع وليس بمجموع، وتقوم الأشياء به ولا يقوم بها، وإنما ينبغي للإنسان أن يعبد من صنعه لا ما صنعه. وما خيل إليهم أن الأصنام تشفع فخيال ليس فيه شبهة يتعلق بها. (¬2) - وقال مبيّناً سخف الفلاسفة ومن ضاهاهم: وقد لبس إبليس على أقوام من أهل ملتنا فدخل عليهم من باب قوة ذكائهم وفطنتهم، فأراهم أن الصواب اتباع الفلاسفة لكونهم حكماء قد صدرت منهم أفعال وأقوال دلت على نهاية الذكاء وكمال الفطنة، كما ينقل من حكمة سقراط وأبقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس وجالينوس، وهؤلاء كانت لهم علوم هندسية ومنطقية وطبيعية واستخرجوا بفطنهم أموراً خفية إلا أنهم لما تكلموا في الإلهيات خلطوا؛ ولذلك اختلفوا فيها ولم يختلفوا في الحسيات والهندسيات. وقد ذكرنا جنس تخليطهم في معتقداتهم. وسبب تخليطهم أن قوى البشر لا تدرك العلوم إلا جملة، والرجوع فيها إلى الشرائع. وقد حكي لهؤلاء المتأخرين في أمتنا أن أولئك الحكماء كانوا ينكرون الصانع، ويدفعون الشرائع ويعتقدونها نواميس وحيلاً، فصدقوا فيما حكي لهم عنهم، ورفضوا شعار الدين وأهملوا الصلوات ولابسوا ¬

(¬1) الأعراف الآية (195). (¬2) تلبيس إبليس (ص.77 - 78).

المحذورات واستهانوا بحدود الشرع وخلعوا ربقة الإسلام، فاليهود والنصارى أعذر منهم لكونهم متمسكين بشرائع دلت عليها معجزات، والمبتدعة في الدين أعذر منهم لأنهم يدعون النظر في الأدلة، وهؤلاء لا مستند لكفرهم إلا علمهم بأن الفلاسفة كانوا حكماء. أتراهم ما علموا أن الأنبياء كانوا حكماء وزيادة؟ وما قد حكي لهؤلاء الفلاسفة من جحد الصانع محال؛ فإن أكثر القوم يثبتون الصانع ولا ينكرون النبوات وإنما أهملوا النظر فيها وشذ منهم قليل، فتبعوا الدهرية الذين فسدت أفهامهم بالمرة، وقد رأينا من المتفلسفة من أمتنا جماعة لم يكسبهم التفلسف إلا التحير، فلا هم يعملون بمقتضاه ولا بمقتضى الإسلام؛ بل فيهم من يصوم رمضان ويصلي، ثم يأخذ في الاعتراض على الخالق وعلى النبوات، ويتكلم في إنكار بعث الأجساد ولا يكاد يرى منهم أحد إلا ضربه الفقر فَأَضَرَّ بِهِ، فهو عامة زمانه في تسخط على الأقدار والاعتراض على المقدر، حتى قال لي بعضهم: أنا لا أخاصم إلا من فوق الفلك. وكان يقول أشعاراً كثيرة في هذا المعنى، فمنها قوله في صفة الدنيا قال: أتراها صنعة من غير صانع ... أم تراها رمية من رام وقوله: واحيرتا من وجود ما تقدمه ... منا اختيار ولا علم فيقتبس كأنه في عماء ما يخلصنا ... منه ذكاء ولا عقل ولا شرس ونحن في ظلمة ما إن لها قمر ... فيها يضيء ولا شمس ولا قبس

مدلهين حيارى قد تكنفنا ... جهل يجهمنا في وجهه عبس فالفعل فيه بلا ريب ولا عمل ... والقول فيه كلام كله هوس ولما كانت الفلاسفة قريباً من زمان شريعتنا، والرهبنة كذلك، مدّ بعض أهل ملتنا يده إلى التمسك بهذه وبعضهم مدّ يده إلى التمسك بهذه، فترى كثيراً من الحمقى إذا نظروا في باب الاعتقاد تفلسفوا، وإذا نظروا في باب التزهد ترهبنوا، فنسأل الله ثباتاً على ملتنا وسلامة من عدونا، إنه ولي الإجابة. (¬1) - وقال: قد لبس على خلق كثير فجحدوا البعث، واستهولوا الإعادة بعد البلاء، وأقام لهم شبهتين: إحداهما: أنه أراهم ضعف المادة. والثانية: اختلاط الأجزاء المتفرقة في أعماق الأرض. قالوا: وقد يأكل الحيوان الحيوان فكيف يتهيأ إعادته؟ وقد حكى القرآن شبهتهم فقال تعالى في الأولى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36)} (¬2). وقال في الثانية: {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} (¬3). وهذا كان مذهب أكثر الجاهلية، قال قائلهم: ¬

(¬1) تلبيس إبليس (ص.63 - 65). (¬2) المؤمنون الآيتان (35و36). (¬3) السجدة الآية (10).

يخبرنا الرسول بأن سنحيا ... وكيف حياة أصداء وهام وقال آخر (وهو أبو العلاء المعريّ): حياة ثم موت ثم بعث ... حديث خرافة يا أم عمرو والجواب عن شبهتهم الأولى: أن ضعف المادة في الثاني وهو التراب يدفعه كون البداية من نطفة ومضغة وعلقة: ثم أصل الآدميين وهو آدم من تراب على أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق شيئاً مستحسناً إلا من مادة سخيفة. فإنه أخرج هذا الآدمي من نطفة، والطاووس من البيضة المدرة والطرفة الخضراء من الحبة العفنة. فالنظر ينبغي أن يكون إلى قوة الفاعل وقدرته لا إلى ضعف المواد. وبالنظر إلى قدرته يحصل جواب الشبهة الثانية، ثم قد أرانا كالأنموذج في جمع التمزق فإن سحالة الذهب المتفرقة في التراب الكثير إذا أُلقي عليها قليل من زئبق اجتمع الذهب مع تبدده، فكيف بالقدرة الإلهية التي من تأثيرها خلق كل شيء لا من شيء، على أنا لو قدرنا أن نحيل هذا التراب ما استحالت إليه الأبدان لم يصر بنفسه، لأن الآدمي بنفسه لا ببدنه؛ فإنه ينحل ويسمن، ويهزل ويتغير من صغر إلى كبر وهو هو، ومن أعجب الأدلة على البعث أن الله عز وجل قد أظهر على يدي أنبيائه ما هو أعظم من البعث وهو قلب العصا حية حيواناً، وأخرج ناقة من صخرة، وأظهر حقيقة البعث على يدي عيسى صلوات الله وسلامه عليه. (¬1) ¬

(¬1) تلبيس إبليس (ص.97 - 98).

موقفه من الرافضة:

موقفه من الرافضة: - جاء في السير: وقام إليه رجل بغيض، فقال: يا سيدي: نريد كلمة ننقلها عنك، أيما أفضل أبو بكر أو علي؟ فقال: اجلس، فجلس، ثم قام، فأعاد مقالته، فأقعده، ثم قام، فقال: اقعد، فأنت أفضل من كل أحد. (¬1) - وفيها: سئل ابن الجوزي والخليفة يسمع: من أفضل الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أفضلهم بعده من كانت بنته تحته. وهذا جواب جيد يصدق على أبي بكر وعلى علي. (¬2) - وفيها: وقد نالته محنة في أواخر عمره، ووشوا به إلى الخليفة الناصر عنه بأمر اختلف في حقيقته، فجاء من شتمه، وأهانه، وأخذه قبضا باليد، وختم على داره، وشتت عياله، ثم أقعد في سفينة إلى مدينة واسط، فحبس بها في بيت حرج، وبقي هو يغسل ثوبه، ويطبخ الشيء، فبقي على ذلك خمس سنين ما دخل فيها حماما. قام عليه الركن عبد السلام بن عبد الوهاب ابن الشيخ عبد القادر، وكان ابن الجوزي لا ينصف الشيخ عبد القادر، ويغض من قدره، فأبغضه أولاده، ووزر صاحبهم ابن القصاب، وقد كان الركن رديء المعتقد، متفلسفا، فأحرقت كتبه بإشارة ابن الجوزي، وأخذت مدرستهم، فأعطيت لابن الجوزي، فانسم الركن، وقد كان ابن القصاب الوزير يترفض، فأتاه الركن، وقال: أين أنت عن ابن الجوزي الناصبي؟! وهو أيضا من أولاد أبي بكر، فصرف الركن في الشيخ، فجاء وأهانه، وأخذه معه ¬

(¬1) السير (21/ 371). (¬2) السير (22/ 200).

في مركب، وعلى الشيخ غلالة بلا سراويل، وعلى رأسه تخفيفة، وقد كان ناظر واسط شيعيا أيضا، فقال له الركن: مكني من هذا الفاعل لأرميه في مطمورة، فزجره، وقال: يا زنديق، أفعل هذا بمجرد قولك؟ هات خط أمير المؤمنين، والله لو كان على مذهبي، لبذلت روحي في خدمته، فرد الركن إلى بغداد. وكان السبب في خلاص الشيخ أن ولده يوسف نشأ واشتغل، وعمل في هذه المدة الوعظ وهو صبي، وتوصل حتى شفعت أم الخليفة، وأطلقت الشيخ، وأتى إليه ابنه يوسف، فخرج، وما رد من واسط حتى قرأ هو وابنه بتلقينه بالعشر على ابن الباقلاني، وسن الشيخ نحو الثمانين، فانظر إلى هذه الهمة العالية. (¬1) - وقال في التلبيس: وكما لبس إبليس على هؤلاء الخوارج حتى قاتلوا علي بن أبي طالب. حمل آخرين على الغلو في حبه. فزادوه على الحد، فمنهم من كان يقول هو الإله. ومنهم من يقول هو خير من الأنبياء. ومنهم من حمله على سب أبي بكر وعمر، حتى إن بعضهم كفر أبا بكر وعمر إلى غير ذلك من المذاهب السخيفة التي يرغب عن تضييع الزمان بذكرها. (¬2) - وفيه: وغلو الرافضة في حب علي رضي الله عنه حملهم على أن وضعوا أحاديث كثيرة في فضائله أكثرها تشينه وتؤذيه. (¬3) ¬

(¬1) السير (21/ 376 - 377). (¬2) تلبيس إبليس (ص.118). (¬3) تلبيس إبليس (ص.120).

موقفه من الصوفية:

موقفه من الصوفية: - قال رحمه الله: وهذا الاسم ظهر للقوم قبل سنة مائتين، ولما أظهره أوائلهم تكلموا فيه وعبروا عن صفته بعبارات كثيرة، وحاصلها أن التصوف عندهم رياضة النفس، ومجاهدة الطبع برده عن الأخلاق الرذيلة، وحمله على الأخلاق الجميلة من الزهد والحلم والصبر والإخلاص والصدق إلى غير ذلك من الخصال الحسنة التي تكسب المدائح في الدنيا والثواب في الأخرى. والحديث بإسناد عن الطوسي يقول سمعت أبا بكر بن المثاقف يقول: سألت الجنيد بن محمد عن التصوف، فقال: الخروج عن كل خلق رديء، والدخول في كل خلق سني، وبإسناد عن عبد الواحد بن بكر قال: سمعت محمد بن خفيف يقول: قال رويم: كل الخلق قعدوا على الرسوم، وقعدت هذه الطائفة على الحقائق. وطالب الخلق كلهم أنفسهم بظواهر الشرع، وهم طالبوا أنفسهم بحقيقة الورع ومداومة الصدق. قال المصنف: وعلى هذا كان أوائل القوم فلبس إبليس عليهم في أشياء، ثم لبس على من بعدهم من تابعيهم، فكلما مضى قرن زاد طمعه في القرن الثاني، فزاد تلبيسه عليهم إلى أن تمكن من المتأخرين غاية التمكن. وكان أصل تلبيسه عليهم أنه صدهم عن العلم وأراهم أن المقصود العمل، فلما أطفأ مصباح العلم عندهم تخبطوا في الظلمات. فمنهم من أراه أن المقصود من ذلك ترك الدنيا في الجملة فرفضوا ما يصلح أبدانهم. وشبهوا المال بالعقارب، ونسوا أنه خلق للمصالح، وبالغوا في الحمل على النفوس، حتى إنه كان فيهم من لا يضطجع. وهؤلاء كانت مقاصدهم حسنة غير أنهم

على غير الجادة. وفيهم من كان لقلة علمه يعمل بما يقع إليه من الأحاديث الموضوعة وهو لا يدري. ثم جاء أقوام فتكلموا لهم في الجوع والفقر والوساوس والخطرات، وصنفوا في ذلك مثل الحارث المحاسبي. وجاء آخرون فهذبوا مذهب التصوف وأفردوه بصفات ميزوه بها من الاختصاص بالمرقعة والسماع والوجد والرقص والتصفيق وتميزوا بزيادة النظافة والطهارة. ثم ما زال الأمر ينمي والأشياخ يضعون لهم أوضاعاً ويتكلمون بواقعاتهم. ويتفق بعدهم عن العلماء لا بل رؤيتهم ما هم فيه أو في العلوم حتى سموه العلم الباطن وجعلوا علم الشريعة العلم الظاهر. ومنهم من خرج به الجوع إلى الخيالات الفاسدة فادعى عشق الحق والهيمان فيه فكأنهم تخايلوا شخصاً مستحسن الصورة فهاموا به. وهؤلاء بين الكفر والبدعة ثم تشعبت بأقوام منهم الطرق، ففسدت عقائدهم. فمن هؤلاء من قال بالحلول، ومنهم من قال بالاتحاد. وما زال إبليس يخبطهم بفنون البدع حتى جعلوا لأنفسهم سنناً، وجاء أبو عبد الرحمن السلمي فصنف لهم كتاب السنن وجمع لهم حقائق التفسير، فذكر عنهم فيه العجب في تفسيرهم القرآن بما يقع لهم من غير إسناد ذلك إلى أصل من أصول العلم. وإنما حملوه على مذاهبهم. والعجب من ورعهم في الطعام وانبساطهم في القرآن. وقد أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب قال: قال لي محمد بن يوسف القطان النيسابوري: كان أبو عبد الرحمن السلمي غير ثقة، ولم يكن سمع من الأصم إلا شيئاً يسيراً، فلما مات الحاكم أبو عبد الله بن البيع حدث عن الأصم بتاريخ يحيى بن معين

وبأشياء كثيرة سواه. وكان يضع للصوفية الأحاديث. قال المصنف: وصنف لهم أبو نصر السراج كتاباً سماه لمع الصوفية ذكر فيه من الاعتقاد القبيح والكلام المرذول ما سنذكر منه جملة إن شاء الله تعالى. وصنف لهم أبو طالب المكي قوت القلوب فذكر فيه الأحاديث الباطلة، وما لا يستند فيه إلى أصل من صلوات الأيام والليالي وغير ذلك من الموضوع، وذكر فيه الاعتقاد الفاسد. وردد فيه قول -قال بعض المكاشفين- وهذا كلام فارغ، وذكر فيه عن بعض الصوفية أن الله عز وجل يتجلى في الدنيا لأوليائه. أخبرنا أبو منصور القزاز أخبرنا أبو بكر الخطيب قال: قال أبو طاهر محمد بن العلاف: دخل أبو طالب المكي إلى البصرة بعد وفاة أبي الحسين بن سالم فانتمى إلى مقالته وقدم بغداد فاجتمع الناس عليه في مجلس الوعظ، فخلط في كلامه فحفظ عنه أنه قال: ليس على المخلوق أضر من الخالق. فبدعه الناس وهجروه فامتنع من الكلام على الناس بعد ذلك، قال الخطيب: وصنف أبو طالب المكي كتاباً سماه قوت القلوب على لسان الصوفية وذكر فيه أشياء منكرة مستبشعة في الصفات. قال المصنف: وجاء أبو نعيم الأصبهاني فصنف لهم كتاب الحلية. وذكر في حدود التصوف أشياء منكرة قبيحة، ولم يستح أن يذكر في الصوفية أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وسادات الصحابة رضي الله عنهم. فذكر عنهم فيه العجب، وذكر منهم شريحاً القاضي والحسن البصري وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل. وكذلك ذكر السلمي في طبقات الصوفية الفضيل وإبراهيم بن أدهم ومعروفاً الكرخي وجعلهم من الصوفية بأن أشار

إلى أنهم من الزهاد. فالتصوف مذهب معروف يزيد على الزهد، ويدل على الفرق بينهما أن الزهد لم يذمه أحد وقد ذموا التصوف على ما سيأتي ذكره، وصنف لهم عبد الكريم بن هوازن القشيري كتاب الرسالة فذكر فيها العجائب من الكلام في الفناء والبقاء، والقبض والبسط، والوقت والحال، والوجد والوجود، والجمع والتفرقة، والصحو والسكر، والذوق والشرب، والمحو والإثبات، والتجلي والمحاضرة، والمكاشفة واللوائح، والطوالع واللوامع، والتكوين والتمكين، والشريعة والحقيقة إلى غير ذلك من التخليط الذي ليس بشيء، وتفسيره أعجب منه. وجاء محمد بن طاهر المقدسي فصنف لهم صفوة التصوف، فذكر فيه أشياء يستحي العاقل من ذكرها، سنذكر منها ما يصلح ذكره في مواضعه إن شاء الله تعالى. وكان شيخنا أبو الفضل بن ناصر الحافظ يقول: كان ابن طاهر يذهب مذهب الإباحة: قال وصنف كتاباً في جواز النظر إلى المرد، أورد فيه حكاية عن يحيى بن معين قال: رأيت جارية بمصر مليحة صلى الله عليها. فقيل له: تصلي عليها. فقال: صلى الله عليها وعلى كل مليح. قال شيخنا ابن ناصر: وليس ابن طاهر بمن يحتج به، وجاء أبو حامد الغزالي فصنف لهم كتاب الإحياء على طريقة القوم وملأه بالأحاديث الباطلة وهو لا يعلم بطلانها، وتكلم في علم المكاشفة وخرج عن قانون الفقه. وقال: إن المراد بالكوكب والشمس والقمر اللواتي رآهن إبراهيم صلوات الله عليه أنوار هي حجب الله

عز وجل ولم يرد هذه المعروفات. وهذا من جنس كلام الباطنية. وقال في كتابه المفصح بالأحوال: إن الصوفية في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتاً ويقتبسون منهم فوائد ثم يترقى الحال من مشاهدة الصورة إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق. قال المصنف: وكان السبب في تصنيف هؤلاء مثل هذه الأشياء قلة علمهم بالسنن والإسلام والآثار، وإقبالهم على ما استحسنوه من طريقة القوم. وإنما استحسنوها لأنه قد ثبت في النفوس مدح الزهد، وما رأوا حالة أحسن من حالة هؤلاء القوم في الصورة، ولا كلاماً أرق من كلامهم، وفي سير السلف نوع خشونة. ثم إن ميل الناس إلى هؤلاء القوم شديد لما ذكرنا من أنها طريقة ظاهرها النظافة والتعبد وفي ضمنها الراحة والسماع، والطباع تميل إليها. وقد كان أوائل الصوفية ينفرون من السلاطين والأمراء فصاروا أصدقاء. (¬1) - وقال أيضاً: تأملت أحوال الصوفية والزهاد، فرأيت أكثرها منحرفاً عن الشريعة؛ بين جهل بالشرع، وابتداع بالرأي؛ يستدلون بآيات لا يفهمون معناها، وبأحاديث لها أسباب، وجمهورها لا يثبت. فمن ذلك أنهم سمعوا في القرآن العزيز: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)} (¬2)، {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ} (¬3)، ثم سمعوا في ¬

(¬1) تلبيس إبليس (ص.201 - 206). (¬2) آل عمران الآية (185). (¬3) الحديد الآية (20).

الحديث: «للدنيا أهون على الله من شاة ميتة على أهلها» (¬1)؛ فبالغوا في هجرها من غير بحث عن حقيقتها! وذلك أنه ما لم يُعرف حقيقةُ الشيء؛ فلا يجوز أن يُمدح ولا أن يُذمّ. فإذا بحثنا عن الدنيا؛ رأينا هذه الأرض البسيطة التي جُعلت قراراً للخلق؛ تخرج منها أقواتهم، ويُدفن فيها أمواتهم. ومثل هذا لا يذمّ لموضع المصلحة فيه. ورأينا ما عليها من ماء وزرع وحيوان؛ كله لمصالح الآدمي، وفيه حفظ لسبب بقائه، ورأينا بقاء الآدمي سبباً لمعرفة ربه وطاعته إياه وخدمته. وما كان سبباً لبقاء العارف العابد يُمدح ولا يُذمّ. فبان لنا أنّ الذّمّ إنما هو لأفعال الجاهل أو العاصي في الدنيا. فإنه إذا اقتنى المال المباح، وأدّى زكاته؛ لم يُلَمْ؛ فقد علم ما خلّف الزبير وابن عوف وغيرهما. وبلغت صدقة عليّ رضي الله عنه أربعين ألفاً. وخلّف ابن مسعود تسعين ألفاً. وكان الليث ابن سعد يستغل كل سنة عشرين ألفاً. وكان سفيان يتجر بمال. وكان ابن مهديّ يستغلّ كل سنة ألفي دينار. وإن أكثر من النكاح والسراري؛ كان ممدوحاً لا مذموماً: فقد كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - زوجات وسراريّ. وجمهور الصحابة كانوا على الإكثار في ذلك. وكان لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أربع حرائر وسبع عشرة أمة. وتزوج ولده الحسن نحواً من أربع مئة. فإن طلب التزوج للأولاد؛ فهو الغاية في التعبد، وإن أراد التلذذ؛ فمباح، يندرج فيه من التعبد ما لا يحصى؛ من ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (3/ 365) والبخاري في الأدب المفرد (962) ومسلم (4/ 2272/2957) وأبو داود (1/ 130/186) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

إعفاف نفسه والمرأة ... إلى غير ذلك. وقد أنفق موسى عليه السلام من عمره الشريف عشر سنين في مهر ابنة شعيب. فلولا أن النكاح من أفضل الأشياء؛ لما ذهب كثير من زمان الأنبياء فيه. وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: (خيار هذه الأمة أكثرها نساءً). (¬1) وكان يطأ جارية له، وينزل في أخرى. وقالت سرية الربيع بن خثيم: كان الربيع يعزل. وأما المطعم؛ فالمراد منه تقوية هذا البدن لخدمة الله عز وجل، وحق على ذي الناقة أن يكرمها لتحمله. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأكل ما وجد؛ فإن وجد اللحم؛ أكله، ويأكل لحم الدجاج، وأحب الأشياء إليه الحلوى والعسل، وما نُقل عنه أنه امتنع من مباح. وجيء علي رضي الله عنه بفالوذج، فأكل منه، وقال: ما هذا؟ قالوا: يوم النوروز. فقال: نَوْرِزونا كل يوم. وإنما يُكره الأكل فوق الشبع، واللبس على وجه الاختيال والبَطَر. وقد اقتنع أقوام بالدون من ذلك؛ لأن الحلال الصافي لا يكاد يمكن فيه تحصيل المراد، وإلا فقد لبس النبي - صلى الله عليه وسلم - حلة اشتريت له بسبعة وعشرين بعيراً، وكان لتميم الداري حلة اشتريت له بألف درهم يصلي فيها بالليل. فجاء أقوام، فأظهروا التزهد، وابتكروا طريقة زينها لهم الهوى، ثم ¬

(¬1) البخاري (9/ 140/5069).

تطلبوا لها الدليل، وإنما ينبغي للإنسان أن يتبع الدليل، لا أن يتبع طريقاً ويتطلب دليلها! ثم انقسموا: فمنهم متصنع في الظاهر، ليث الشرى في الباطن، يتناول في خلواته الشهوات، وينعكف على اللذات، ويُري الناس بزيّه أنه متصوف متزهد، وما تزهد إلا القميص، وإذا نظر إلى أحواله؛ فعنده كبر فرعون. ومنهم سليم الباطن؛ إلا أنه في الشرع جاهل. ومنهم من تصدر، وصنف، فاقتدى به الجاهلون في هذه الطريقة، وكانوا كعمي اتبعوا أعمى، ولو أنهم تلمّحوا للأمر الأول الذي كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة رضي الله عنهم؛ لما زلّوا. ولقد كان جماعة من المحققين لا يبالون بمعظَّم في النفوس إذا حاد عن الشريعة، بل يوسعونه لوماً. فنُقل عن أحمد أنه قال له المروزي: ما تقول في النكاح؟ فقال: سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال: فقد قال إبراهيم. قال: فصاح بي وقال: جئتنا ببُنيّات الطريق؟ وقيل له: إن سريّاً السقطيّ قال: لما خلق الله تعالى الحروف؛ وقف الألف وسجدت الباء. فقال: نفّروا الناس عنه. واعلم أن المحقق لا يهوله اسم معظم؛ كما قال رجل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: أتظن أن طلحة والزبير كانا على الباطل؟ فقال له: إن الحق لا يُعرف بالرجال، اعرف الحق؛ تعرفْ أهله. ولعمري؛ إنه قد وقر في النفوس تعظيم أقوام؛ فإذا نُقل عنهم شيء،

فسمعه جاهل بالشرع؛ قبله؛ لتعظيمهم في نفسه. كما ينقل عن أبي يزيد رضي الله عنه أنه قال: تراعنت علي نفسي، فحلفت لا أشرب الماء سنة. وهذا إذا صحّ عنه؛ كان خطأ قبيحاً وزلة فاحشة؛ لأن الماء ينفذ الأغذية إلى البدن، ولا يقوم مقامه شيء؛ فإذا لم يشرب؛ فقد سعى في أذى بدنه، وقد كان يُستعذب الماء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أفترى هذا فعل من يعلم أن نفسه ليست له، وأنه لا يجوز التصرف فيها إلا عن إذن مالكها؟! وكذلك ينقلون عن بعض الصوفية أنه قال: سرتُ إلى مكة على طريق التوكل حافياً، فكانت الشوكة تدخل في رجلي، فأحكها بالأرض ولا أرفعها، وكان عليَّ مِسْحٌ، فكانت عيني إذا آلمتني؛ أدلكها بالمسح، فذهبت إحدى عينيّ. وأمثال هذا كثير، وربما حملها القصاص على الكرامات، وعظموها عند العوامّ، فيخايل لهم أن فاعل هذا أعلى مرتبة من الشافعي وأحمد!! ولعمري؛ إن هذا من أعظم الذنوب وأقبح العيوب: لأن الله تعالى قال: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (¬1). وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «إن لنفسك عليك حقّاً» (¬2). وقد طلب أبو بكر رضي الله عنه في طريق الهجرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ظلاًّ، حتى ¬

(¬1) النساء الآية (29). (¬2) جزء من حديث رواه أحمد (2/ 200) والبخاري (3/ 48/1153) ومسلم (2/ 816/1159 [188]) والنسائي (4/ 527 - 528/ 2390) من طرق عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.

رأى صخرة، ففرش له في ظلها. وقد نُقل عن قدماء هذه الأمة بدايات هذا التفريط، وكان سببه من وجهين: أحدهما: الجهل بالعلم. والثاني: قرب العهد بالرهبانية. وقد كان الحسن يعيب فرقداً السبخي ومالك بن دينار في زهدهما، فرُئِي عنده طعام فيه لحم، فقال: لا رغيفَيْ مالك، ولا صَحْنَيْ فرقد. ورأى على فرقد كساء، فقال: يا فرقد! إن أكثر أهل النار أصحاب الأكسية. وكم قد زوّق قاصّ مجلسه بذكر أقوام خرجوا إلى السياحة بلا زاد ولا ماء، وهو لا يعلم أن هذا من أقبح الأفعال، وأن الله تعالى لا يجرب عليه؛ فربما سمعه جاهل من التائبين، فخرج، فمات في الطريق، فصار للقائل نصيب من إثمه!! وكم يروون عن ذي النون: أنه لقي امرأة في السياحة، فكلمها وكلمته، وينسون الأحاديث الصحاح: «لا يحلّ لامرأة أن تسافر يوماً وليلةً إلا بمحرم» (¬1)!! وكم ينقلون أن أقواماً مشوا على الماء؛ وقد قال إبراهيم الحربيّ: لا يصحّ أنّ أحداً مشى على الماء قطً! فإذا سمعوا هذا؛ قالوا: أتُنكرون كرامات الأولياء الصالحين؟! فنقول: لسنا من المنكرين لها، بل نتّبع ما صحّ، ¬

(¬1) رواه: أحمد (2/ 236) والبخاري (2/ 720/1088) ومسلم (2/ 977/1339 [421]) وأبو داود (2/ 347/1724) والترمذي (3/ 473/1170) عن أبي هريرة رضي الله عنه. وفي الباب عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما رضي الله عنهم.

والصالحون هم الذين يتّبعون الشرع ولا يتعبّدون بآرائهم. وفي الحديث: «إنّ بني إسرائيل شدّدوا فشدّد الله عليهم» (¬1). وكم يحثّون على الفقر، حتى حملوا أقواماً على إخراج أموالهم، ثم آل بهم الأمر: إما إلى التّسخّط عند الحاجة، وإما إلى التّعرضّ بسؤال الناس! وكم تأذّى مسلم بأمرهم الناس بالتقلّل! وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ثلثٌ طعام، وثلث شراب، وثلث نفس» (¬2)؛ فما قنعوا حتى أمروا بالمبالغة في التقلل. فحكى أبو طالب المكي في 'قوت القلوب': أن فيهم من كان يزن قوته بكَرَبَة رطبة؛ ففي كل ليلة يذهب من رطوبتها قليل! وكنت أنا ممّن اقتدى بقوله في الصّبا، فضاق المعي، وأوجب ذلك مرض سنين! أفترى هذا شيئاً تقتضيه الحكمة أو ندب إليه الشرع؟! وإنما مطية الآدمي قُواه؛ فإذا سعى في تقليلها؛ ضعف عن العبادة. ولا تقولن: الحصول على الحلال المحض مستحيل؛ لذلك وجب الزهد؛ تجنباً للشبهات؛ فإن المؤمن حسبه أن يتحرى في كسبه هو الحلال، ولا عليه من الأصول التي نبتت منها هذه الأموال؛ فإنا لو دخلنا ديار الروم، فوجدنا أثمان الخمور وأجرة الفجور؛ كان لنا حلالاً بوصف الغنيمة. أفتُريد حلالاً على معنى أن الحبّة من الذهب لم تنتقل مذ خرجت من ¬

(¬1) رواه أبو داود (5/ 209 - 210/ 4904) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه بلفظ: « ... لا تشدّدوا على أنفسكم فيشدّد عليكم، فإن قوماً شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم ... ». وقد ضعّفه ابن القيّم رحمه الله في تهذيب السنن (انظر مختصر سنن أبي داود للمنذري (7/ 227 - 228)). (¬2) رواه: أحمد (4/ 132) والترمذي (4/ 509 - 510/ 2380) وقال: "حديث حسن صحيح". وابن ماجه (2/ 1111/3349) من حديث المقدام بن معديكرب.

المعدن على وجه لا يجوز؟! فهذا شيء لم ينظر فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أَوَلَيس قد سمعت أن الصدقة عليه حرام، فلما تُصدق على بريرة بلحم، فأهدته؛ جاز له أكل تلك العين لتغيُّر الوصف. وقد قال أحمد بن حنبل: أكره التقلل من الطعام؛ فإن أقواماً فعلوه؛ فعجزوا عن الفرائض. وهذا صحيح؛ فإن المتقلل لا يزال يتقلل إلى أن يعجز عن النوافل، ثم الفرائض، ثم يعجز عن مباشرة أهله وإعفافهم، وعن بذل القوى في الكسب لهم، وعن فعل خير قد كان يفعله. ولا يهولنك ما تسمعه من الأحاديث التي تحثّ على الجوع، فإن المراد بها: إما الحث على الصوم، وإما النهي عن مقاومة الشبع؛ فأما تنقيص المطعم على الدوام؛ فمؤثر في القوى؛ فلا يجوز. ثم في هؤلاء المذمومين من يرى هجر اللحم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يود أن يأكله كل يوم. واسمع مني بلا محاباة: لا تحتجنّ عليّ بأسماء الرجال، فتقول: قال بشر، وقال إبراهيم بن أدهم؛ فإن من احتجّ بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضوان الله عليهم أقوى حجّة. على أن لأفعال أولئك وجوهاً نحملها عليهم بحسن الظّنّ ... وهل الناس إلا صاحب أثر يتّبعُهُ، أو فقيه يفهم مراد الشرع ويُفتي به؟! نعوذ بالله من الجهل وتعظيم الأسلاف تقليداً لهم بغير دليل! فإن من ورد المشرب الأول؛ رأى سائر المشارب كدرة. والمحنة العظمى مدائح العوامّ؛ فكم غرّت! كما قال علي رضي الله عنه: ما أبقى خفق النعال وراء الحمقى من عقولهم شيئاً. ولقد رأينا وسمعنا من العوامّ أنهم يمدحون الشخص، فيقولون: لا ينام

الليل، ولا يفطر النهار، ولا يعرف زوجة، ولا يذوق من شهوات الدنيا شيئاً؛ قد نحل جسمه، ودق عظمه، حتى إنه يصلي قاعداً؛ فهو خير من العلماء الذين يأكلون ويتمتعون! ذلك مبلغهم من العلم! ولو فقهوا؛ علموا أن الدنيا لو اجتمعت في لقمة، فتناولها عالم يفتي عن الله ويخبر بشريعته؛ كانت فتوى واحدة منه يرشد بها إلى الله تعالى خيراً وأفضل من عبادة ذلك العابد باقي عمره. وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: فقيه واحد أشدّ على إبليس من ألف عابد. ومن سمع هذا الكلام؛ فلا يظنّنّ أنني أمدح من لا يعمل بعلمه، وإنما أمدح العاملين بالعلم، وهم أعلم بمصالح أنفسهم؛ فقد كان فيهم من يصلح على خشن العيش؛ كأحمد بن حنبل، وكان فيهم من يستعمل رقيق العيش؛ كسفيان الثوري مع ورعه، ومالك مع تدينه، والشافعي مع قوة فقهه. ولا ينبغي أن يطالب الإنسان بما يقوى عليه غيره فيضعف هو عنه؛ فإن الإنسان أعرف بصلاح نفسه. وقد قالت رابعة: إن كان صلاح قلبك في الفالوذج؛ فكله. ولا تكوننّ أيها السامع ممّن يرى صور الزهد؛ فربّ متنعّم لا يريد التنعم، وإنما يقصد المصلحة، وليس كل بدن يقوى على الخشونة، خصوصاً من قد لاقى الكدّ وأجهده الفكر، أو أمضّه الفقر؛ فإنه إن لم يرفق بنفسه؛ ترك واجباً عليه من الرفق بها. فهذه جملة؛ لو شرحتُها بذكر الأخبار والمنقولات؛ لطالت، غير أني

سطرتها على عجل حين جالت في خاطري. والله وليّ النفع برحمته. (¬1) - قال في تلبيس إبليس: ومن تلبيسه على الزهاد: إعراضهم عن العلم شغلا بالزهد، فقد استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، وبيان ذلك: أن الزاهد لا يتعدى نفعه عتبة بابه والعالم نفعه متعد. وكم قد رد إلى الصواب من متعبد. ومن تلبيسه عليهم: أنه يوهمهم أن الزهد ترك المباحات، فمنهم من لا يزيد على خبز الشعير. ومنهم من لا يذوق الفاكهة. ومنهم من يقلل المطعم حتى ييبس بدنه، ويعذب نفسه بلبس الصوف، ويمنعها الماء البارد. وما هذه طريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا طريق أصحابه وأتباعهم. (¬2) - وفيه أيضا قال مخاطبا الصوفية: وإنما خدعكم الشيطان فصرتم عبيد شهواتكم، ولم تقفوا حتى قلتم هذه الحقيقة. وأنتم زنادقة في زي عباد، شرهين في زي زهاد، مشبهة تعتقدون أن الله عز وجل يعشق ويهام فيه. ويؤلف ويؤنس به، وبئس التوهم، لأن الله عز وجل خلق الذوات مشاكلة، لأن أصولها مشاكلة فهي تتوانس وتتوالم بأصولها العنصرية وتراكيبها المثلية في الأشكال الحديثة، فمن ههنا جاء التلاؤم والميل وعشق بعضهم بعضا، وعلى قدر التقارب في الصورة يتأكد الأنس. (¬3) - وفيه أيضا قال: اعلم أن أول تلبيس إبليس على الناس صدهم عن العلم لأن العلم نور، فإذا أطفأ مصابيحهم خبطهم في الظلم كيف شاء. وقد ¬

(¬1) صيد الخاطر (ص.61 - 79). (¬2) التلبيس (186). (¬3) التلبيس (302).

موقفه من الجهمية:

دخل على الصوفية في هذا الفن من أبواب. أحدها أنه منع جمهورهم من العلم أصلا، وأراهم أنه يحتاج إلى تعب وكلف فحسن عندهم الراحة، فلبسوا المراقع وجلسوا على بساط البطالة. (¬1) موقفه من الجهمية: - قال في معرض ذكره لتلبيس إبليس على هذه الأمة في العقائد والديانات: فإن إبليس لما تمكن من الأغبياء فورطهم في التقليد وساقهم سوق البهائم. ثم رأى خلقا فيهم نوع ذكاء وفطنة فاستغواهم على قدر تمكنه منهم، فمنهم من قبح عنده الجمود على التقليد وأمره بالنظر، ثم استغوى كلا من هؤلاء بفن فمنهم من أراه أن الوقوف مع ظواهر الشرائع عجز. فساقهم إلى مذهب الفلاسفة، ولم يزل بهؤلاء حتى أخرجهم عن الإسلام. وقد سبق ذكرهم في الرد على الفلاسفة. ومن هؤلاء من حسن له أن لا يعتقد إلا ما أدركته حواسه. فيقال لهؤلاء: بالحواس علمتم صحة قولكم؟ فإن قالوا: نعم كابروا، لأن حواسنا لم تدرك ما قالوا، إذ ما يدرك بالحواس لا يقع فيه خلاف، وإن قالوا بغير الحواس، ناقضوا قولهم. ومنهم من نفره إبليس عن التقليد وحسن له الخوض في علم الكلام والنظر في أوضاع الفلاسفة ليخرج بزعمه عن غمار العوام. وقد تنوعت أحوال المتكلمين وأفضى الكلام بأكثرهم إلى الشكوك وببعضهم إلى الإلحاد. ولم تسكت القدماء من فقهاء هذه الأمة عن الكلام عجزا ولكنهم رأوا أنه لا يروي غليلا ثم يرد الصحيح عليلا فأمسكوا عنه ونهوا عن الخوض ¬

(¬1) التلبيس (389).

فيه. ثم قال: قلت وكيف لا يذم الكلام وقد أفضى بالمعتزلة إلى أنهم قالوا: إن الله عز وجل يعلم جمل الأشياء ولا يعلم تفاصيلها. وقال جهم بن صفوان، علم الله وقدرته وحياته محدثة. وقال أبو محمد النوبختي عن جهم أنه قال: إن الله عز وجل ليس بشيء. وقال أبو علي الجبائي وأبو هاشم ومن تابعهما من البصريين: المعدوم شيء وذات ونفس وجوهر وبياض وصفرة وحمرة، وإن الباري سبحانه وتعالى لا يقدر على جعل الذات ذاتا ولا العرض عرضا ولا الجوهر جوهرا وإنما هو قادر على إخراج الذات من العدم إلى الوجود. (¬1) - وقال أيضا: قلت أعوذ بالله من نظر وعلوم أوجبت هذه المذاهب القبيحة. وقد زعم أرباب الكلام أنه لا يتم الإيمان إلا بمعرفة ما رتبوه وهؤلاء على خطأ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بالإيمان ولم يأمر ببحث المتكلمين، ودرجت الصحابة الذين شهد لهم الشارع بأنهم خير الناس على ذلك. (¬2) - وقال: فإن قال قائل قد عبت طريق المقلدين في الأصول وطريق المتكلمين، فما الطريق السليم من تلبيس إبليس؟ فالجواب أنه ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وتابعوهم بإحسان من إثبات الخالق سبحانه وإثبات صفاته على ما وردت به الآيات والأخبار من غير تفسير ولا بحث عما ليس في قوة البشر إدراكه، وأن القرآن كلام الله غير ¬

(¬1) التلبيس (102 - 103). (¬2) التلبيس (104).

مخلوق. (¬1) - وقال يوما: أهل الكلام يقولون: ما في السماء رب، ولا في المصحف قرآن، ولا في القبر نبي، ثلاث عورات لكم. (¬2) وقال رحمه الله: ليس على العوامّ أضرّ من سماعهم علم الكلام. وإنما ينبغي أن يُحذر العوامّ من سماعه والخوض فيه، كما يُحذر الصبيّ من شاطئ النهر خوف الغرق. وربما ظنّ العامّيّ أن له قوة يدرك بها هذا، وهو فاسد؛ فإنه قد زلّ في هذا خلقٌ من العلماء؛ فكيف العوامّ؟! وما رأيت أحمق من جمهور قصاص زماننا؛ فإنه يحضر عندهم العوامّ الغُشم، فلا ينهونهم عن خمر وزنى وغيبة، ولا يعلِّمونهم أركان الصلاة ووظائف التعبّد، بل يملؤون الزمان بذكر الاستواء وتأويل الصفات، وأن الكلام قائم بالذات، فيتأذى بذلك مَن كان قلبه سليماً. وإنما على العامّيّ أن يؤمن بالأصول الخمسة؛ بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآٍخر، ويقنع بما قال السلف: القرآن كلام الله غير مخلوق، والاستواء حق، والكيف مجهول. وليعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكلّف الأعراب سوى مجرّد الإيمان، ولم تتكلّم الصحابة في الجواهر والأعراض؛ فمن مات على طريقهم؛ مات مؤمناً سليماً من بدعة. ومن تعرّض لساحل البحر، وهو لا يحسن السباحة؛ ¬

(¬1) التلبيس (108 - 109). (¬2) السير (21/ 376).

فالظاهر غرقه. (¬1) - وقال: ثم نظر إبليس، فرأى في المسلمين قوماً فيهم فطنة، فأراهم أن الوقوف على ظواهر الشريعة حالة يشاركهم فيها العوامّ، فحسّن لهم علوم الكلام، وصاروا يحتجّون بقول بقراط وجالينوس وفيثاغورس!! وهؤلاء ليسوا بمتشرِّعين، ولا تبعوا نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وإنما قالوا بمقتضى ما سوّلت لهم أنفسهم. وقد كان السلف إذا نشأ لأحدهم ولد؛ شغلوه بحفظ القرآن وسماع الحديث، فيثبت الإيمان في قلبه؛ فقد توانى الناس عن هذا، فصار الولد الفطن يتشاغل بعلوم الأوائل، وينبذ أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويقول: أخبار آحادٍ! وأصحاب الحديث عندهم يسمّون: حشويّة!! ويعتقد هؤلاء أن العلم الدقيق علم الطفرة والهيولى والجزء الذي لا يتجزّأ ... ثم يتصاعدون إلى الكلام في صفات الخالق، فيدفعون ما صحّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بواقعاتهم: فيقول المعتزلة: إن الله لا يُرى؛ لأن المرئيّ يكون في جهة! ويخالفون قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنكم ترون ربكم كما ترون القمر لا تُضامون في رؤيته»؛ فأوجب هذا الحديث إيثار رؤيته وإن عجزنا عن فهم كيفيّتها. وقد عُزِلَ هؤلاء الأغبياء عن التشاغل بالقرآن، وقالوا: مخلوقٌ! فزالت حُرمته من القلوب. وعن السنة، وقالوا: أخبارُ آحادٍ! وإنما مذاهبهم السّرقة من بقراط وجالينوس. ¬

(¬1) صيد الخاطر (ص.569).

موقفه من الخوارج:

وقد استفاد من تبع الفلاسفة أنه يرفِّه نفسَه عن تعب الصلاة والصوم! وقد كان كبار العلماء يذمّون علم الكلام، حتى قال الشافعي: حكمي فيهم أن يُركبوا على البغال، ويشهروا، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة واشتغل بالكلام. وقد آل بهم الأمر إلى أن اعتقدوا أن من لم يعرف تحرير دليل التوحيد فليس بمسلم!! فاللهَ اللهَ من مخالطة المبتدعة، وعليكم بالكتاب والسنة؛ ترشُدوا. (¬1) موقفه من الخوارج: - قال رحمه الله: أول الخوارج وأقبحهم حالةً ذو الخويصرة أخبرنا ابن الحصين نا ابن المذهب ثنا أحمد بن جعفر ثنا عبد الله بن أحمد ثني أبي ثنا محمد ابن فضيل ثنا عمارة بن القعقاع عن ابن أبي يعمر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بعث علي رضي الله عنه من اليمن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذهبة في أديم مقروظ لم تخلص من ترابها، فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أربعة بين زيد الخيل والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن وعلقمة بن علاثة أو عامر بن الطفيل شك عمارة فوجد من ذلك بعض أصحابه والأنصار وغيرهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً؟» ثم أتاه رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين ناتئ الجبهة كث اللحية مشمر الإزار محلوق الرأس، فقال: اتق الله يا رسول الله! فرفع رأسه إليه فقال: «ويحك أليس أحق الناس أن يتقي الله أنا؟» ثم ¬

(¬1) صيد الخاطر (ص.760 - 762).

أدبر فقال خالد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فلعله يصلي». فقال: إنه ربّ مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم». ثم نظر إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مقفٍ فقال: «إنه سيخرج من ضئضئ هذا قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كم يمرق السهم من الرميّة». (¬1) قال المصنف: هذا الرجل يقال له ذو الخويصرة التميمي، وفي لفظ أنه قال له: اعدل! فقال: «ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل؟» فهذا أول خارجي خرج في الإسلام، وآفته أنه رضي برأي نفسه، ولو وقف لعلم أنه لا رأي فوق رأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأتباع هذا الرجل هم الذين قاتلوا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وذلك أنه لما طالت الحرب بين معاوية وعلي رضي الله عنهما رفع أصحاب معاوية المصاحف ودعوا أصحاب علي إلى ما فيها، وقال: تبعثون منكم رجلاً ونبعث منا رجلاً. ثم نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله عز وجل. فقال الناس قد رضينا. فبعثوا عمرو بن العاص فقال أصحاب علي: ابعث أبا موسى. فقال علي: لا أرى أن أوليّ أبا موسى، هذا ابن عباس. قالوا: لا يزيد رجلاً منك. فبعث أبا موسى وأخر القضاء إلى رمضان. فقال عروة بن أذينة: تحكمون في أمر الله الرجال، لا حكم إلا لله. ورجع علي من صفين، فدخل الكوفة ولم تدخل معه الخوارج؛ فأتوا حروراء فنزل بها منهم اثنا عشر ألفاً؛ وقالوا: لا حكم إلا لله. وكان ذلك أول ظهورهم ونادى مناديهم أن أمير القتال شبيب بن ربعي التميمي وأمير ¬

(¬1) أخرجه أحمد (3/ 4 - 5) والبخاري (8/ 84/4351) ومسلم [2/ 741 - 742/ 1064 (143و144)] بهذا اللفظ.

موقفه من القدرية:

الصلاة عبد الله بن الكوا اليشكري. وكانت الخوارج تتعبد إلا أن اعتقادهم أنهم أعلم من علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وهذا مرض صعب. (¬1) - وقال: ولهم قصص تطول ومذاهب عجيبة لهم، لم أر التطويل بذكرها، وإنما المقصود النظر في حيل إبليس وتلبيسه على هؤلاء الحمقى الذين عملوا بواقعاتهم، واعتقدوا أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه على الخطأ ومن معه من المهاجرين والأنصار على الخطأ، وأنهم على الصواب. واستحلوا دماء الأطفال ولم يستحلوا أكل ثمرة بغير ثمنها وتعبوا في العبادات وسهروا، وجزع ابن ملجم عند قطع لسانه من فوات الذكر. واستحل قتل علي كرم الله وجهه. ثم شهروا السيوف على المسلمين، ولا أعجب من اقتناع هؤلاء بعلمهم واعتقادهم أنهم أعلم من علي رضي الله عنه، فقد قال ذو الخويصرة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اعدل فما عدلت! وما كان إبليس ليهتدي إلى هذه المخازي نعوذ بالله من الخذلان. (¬2) موقفه من القدرية: قال رحمه الله: ينبغي للمؤمن أن يعلم أن الله سبحانه مالك حكيم لا يعبث، وهذا العلم يوجب نفي الاعتراض على القدر. وقد لهج خلقٌ بالاعتراض قدحاً في الحكمة، وذلك كفر. وأولهم إبليس في قوله: {خَلَقْتَنِي ¬

(¬1) تلبيس إبليس (ص.110 - 112). (¬2) تلبيس إبليس (ص.116 - 117).

مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)} (¬1)! ومعنى قوله: إن تفضيلك الطين على النار ليس بحكمة!! وقد رأيت من كان فقيهاً دأبه الاعتراض! وهذا لأن المعترض ينظر إلى صورة الفعل، ولو أن صورة الفعل صدرت من مخلوق مثلنا؛ حَسُنَ أن يُعترض عليه؛ فأما من نقصت الأفهام عن مطالعة حكمته؛ فاعتراض الناقص الجاهل عليه جنون. فأما اعتراض الخلعاء؛ فدائم؛ لأنهم يريدون جريان الأمور على أغراضهم؛ فمتى انكسر لأحدهم غرض؛ اعترض. وفيهم من يتعدى إلى ذكر الموت، فيقول: بنى ونقض!! وكان لنا رفيق؛ قرأ القرآن والقراءات، وسمع الحديث الكثير، ثم وقع في الذنوب، وعاش أكثر من سبعين سنة، فلما نزل به الموت؛ ذُكر لي أنه قال: قد ضاقت الدنيا إلا من روحي!! ومن هذا الجنس سمعتُ شخصاً يقول عند الموت: ربّي يظلمني!! وهذا كثير! ويُكره أن يُحكى كلامُ الخلعاء في جنونهم واعتراضاتهم الباردة. ولو فهموا أن الدنيا ميدان مسابقة ومارستان صبر ليبين بذلك أثرُ الخالق؛ لما اعترضوا، والذي طلبوه من السلامة وبلوغ الأغراض أمامهم لو فهموا؛ فَهُمْ كالزورجاري يتلوّث بالطين؛ فإذا فرغ لبس ثياب النظافة. ولما أريد نقضُ هذا البدن الذي لا يصلح للبقاء نُحّيت عنه النفس الشريفة، وبُني بناء لا يقبل الدوام. ¬

(¬1) ص الآية (76).

لؤلؤ العادلي (598 هـ)

وبعد هذا؛ فقُلْ للمعترض: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)} (¬1). قل له إن اعترض: لم يمنع ذلك جريان القدر، وإن سلّم: جرى القدر؛ فلأن يجريَ وهو مأجور خيرٌ من أن يجري وهو مأزور. (¬2) لُؤْلُؤ العَادِلِي (¬3) (598 هـ) لؤلؤ صاحب الحاجب العادلي من أبطال الإسلام وكبار الدولة. قال الموفق عبد اللطيف البغدادي: كان شيخا أرمنيا في الأصل من أجناد القصر، وخدم مع صلاح الدين مقدما للأصطول، وكان حيثما توجه فتح وانتصر وغنم. إلى أن قال: وكان يتصدق كل يوم باثني عشر ألف رغيف مع قدور الطعام. وكان يضعّف ذلك في رمضان، ويضع ثلاثة مراكب كل مركب طوله عشرون ذراعا مملوء طعاما ويدخل الفقراء أفواجا. حارب الإفرنج -أي الصليبيين الذين أرادوا احتلال المدينة النبوية- وأسرهم، وتولى قتلهم الفقهاء والصالحون. توفي رحمه الله بمصر في صفر سنة ثمان وتسعين وخمسمائة. موقفه من المشركين: ¬

(¬1) الحج الآية (15). (¬2) صيد الخاطر (ص.768 - 770). (¬3) تاريخ الإسلام (حوادث 591 - 600/ص.363 - 365) والسير (21/ 384 - 385) وشذرات الذهب (4/ 336) والبداية والنهاية (13/ 26).

أبو الحسن ابن نجية (599 هـ)

قال الذهبي: وقيل: إن الملاعين (يعني الصليبيين) التجؤوا منه إلى جبل، فترجل، وصعد إليهم في تسعة أجناد، فألقي في قلوبهم الرعب، وطلبوا منه الأمان، وقتلوا بمصر، تولى قتلهم العلماء والصالحون. (¬1) أبو الحسن ابن نُجَيَّة (¬2) (599 هـ) الشيخ الواعظ الفقيه، زين الدين أبو الحسن علي بن إبراهيم بن نجا الدمشقي الحنبلي المشهور بابن نجية. ولد سنة ثمان وخمسمائة وسمع من علي ابن أحمد بن قبيس المالكي، ومن خاله شرف الإسلام، عبد الوهاب ابن الشيخ أبي الفرج عبد الواحد بن محمد الحنبلي، وسعد الخير الأنصاري، وتزوج بابنته المسندة فاطمة. حدث عنه ابن خليل، والشيخ الضياء، ومحمد ابن البهاء. وكان صدرا محتشما نبيلا، ذا جاه ورياسة وسؤدد. قال عنه ابن النجار: كان متدينا، حميد السيرة. وقال أبو شامة: كان كبير القدر. توفي سنة تسع وتسعين وخمسمائة. موقفه من الجهمية: قال أبو شامة: كان يجري بينه وبين الشهاب الطوسي العجائب، لأنه كان حنبليا وكان الشهاب أشعريا واعظا. جلس ابن نجية يوما في جامع القرافة، فوقع عليه وعلى جماعة سقف، فعمل الطوسي فصلا ذكر فيه {فَخَرَّ ¬

(¬1) السير (21/ 385). (¬2) السير (21/ 393 - 396) والبداية والنهاية (13/ 39) والنجوم الزاهرة (6/ 183) وتاريخ الإسلام (حوادث 591 - 600/ص.398 - 400).

محمد بن سام بن حسين الغوري صاحب غزنة (599 هـ)

عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} (¬1). جاء يوما كلب يشق الصفوف في مجلس ابن نجية، فقال: هذا من هناك، وأشار إلى جهة الطوسي. (¬2) محمد بن سام بن حسين الغُورِي صاحب غَزْنَة (¬3) (599 هـ) السلطان أبو الفتح محمد بن سام بن حسين الغوري، غياث الدين، صاحب غزنة، أخو السلطان شهاب الدين. قال ابن البزوري: كان ملكا عادلا، وللمال باذلا. محسنا إلى رعيته، رؤوفا بهم في حكمه وسياسته، كانت به ثغور الأيام باسمة، وكلها بوجوده مواسم، قرب العلماء، وأحب الفضلاء، وبنى المساجد والربط والمدارس، وأدر الصدقات. قال ابن الأثير: وكان عادلا سخيا، قرب العلماء، وبنى المدارس والمساجد، وكان مظفرا في حروبه لم ينكسر له عسكر. وكان ذا دهاء ومكر وكرم. أسقط المكوس ولم يتعرض لمال أحد. وكان من مات بلا وارث تصدق بما خلفه. وكان فيه فضل وأدب. وقد نسخ عدة مصاحف، لم يبد منه تعصب لمذهب. وقال ابن كثير: وكان غياث الدين عاقلا حازما شجاعا، لم تكسر له ¬

(¬1) النحل الآية (26). (¬2) السير (21/ 395). (¬3) الكامل لابن الأثير (12/ 180 - 182) وسير أعلام النبلاء (21/ 320 - 322) وتاريخ الإسلام (حوادث591 - 600/ص.404 - 406) وتاريخ ابن الوردي (2/ 173) والبداية والنهاية (13/ 38) وشذرات الذهب (4/ 342).

موقفه من المبتدعة:

راية مع كثرة حروبه، وكان شافعي المذهب، ابتنى مدرسة هائلة للشافعية، وكانت سيرته حسنة في غاية الجودة. توفي رحمه الله في جمادى الأولى سنة تسع وتسعين وخمسمائة، فتملك بعده أخوه السلطان شهاب الدين. موقفه من المبتدعة: كان يقول: التعصب في المذاهب قبيح. (¬1) أبو البركات التكريتي (¬2) (599 هـ) محمد بن أحمد بن سعيد أبو البركات التكريتي المؤيد، له معرفة بالأدب والشعر. موقفه من المبتدعة: جاء في إرشاد الأريب -وهو الكتاب المعروف بمعجم الأدباء-: وكان الوجيه رحمه الله حنبليا ثم صار حنفيا، فلما درس النحو بالنظامية صار شافعيا، فقال فيه المؤيد أبو البركات محمد بن أبي الفرج التكريتي ثم البغدادي وكان أحد تلامذته، وسمعته من لفظه غير مرة: ألا مبلغ عني الوجيه رسالة ... وإن كان لا تجدي إليه الرسائل تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبل ... وذلك لما أعوزتك المآكل وما اخترت دين الشافعي تدينا ... ولكنما تهوى الذي هو حاصل ¬

(¬1) السير (21/ 321). (¬2) ذيل تاريخ بغداد (15/ 10) وذكره الحافظ ابن كثير في وفيات سنة (599هـ) من البداية والنهاية (13/ 39 - 40).

أبو محمد اليمني (من القرن السادس الهجري)

وعما قليل أنت لا شك صائر ... إلى مالك فافطن لما أنا قائل (¬1) أبو محمد اليمني (¬2) (من القرن السادس الهجري) من علماء اليمن من القرن السادس الهجري. له كتاب عقائد الثلاث والسبعين فرقة، كان راسخ العلم، واسع الاطلاع في شتى فنون العلم، يدل على ذلك مناقشاته العلمية لآراء الفرق وعقائدها. من كلامه رحمه الله: فإني أذكر لك مقالة الفرقة الهادية المهدية، أهل السنة والجماعة وهم أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وداود وأحمد رحمهم الله تعالى، وهم فرقة واحدة، لأنهم مجمعون على الأصول وإن كانوا مختلفين في الفروع. موقفه من الجهمية: قال في كتابه عقائد الثلاث والسبعين فرقة وهو يتحدث عن قول المعتزلة في القرآن: زعموا أنه مخلوق ليس بكلام الله تعالى، واحتجوا بقوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} (¬3) قالوا: فذكر الله تعالى أنه محدث، وكل محدث مخلوق، واحتجاجهم في هذا احتجاج فاسد؛ لأن الله تعالى ما عنى بهذا القرآن نفسه أنه محدث، وإنما الحوادث التي يأتي بها النبي - صلى الله عليه وسلم - من المواعظ والأحكام فيه، أي: ما يأتيهم من موعظة من حكم فيه محدث إلا ¬

(¬1) إرشاد الأريب لياقوت الحموي (17/ 66 - 67) والسير (22/ 88) والبداية والنهاية (13/ 39 - 40) والكامل في التاريخ (12/ 312) وذيل تاريخ بغداد (15/ 10). (¬2) مقدمة كتابه عقائد الثلاث والسبعين فرقة تحقيق محمد الغامدي (1/ 1 - 18). (¬3) الأنبياء الآيتان (2و3).

موقفه من الخوارج:

استمعوه بآذانهم {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} أي: لم يعملوا به، {لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} أي: غافلة عنه، فهذا المعنى، لا ما ذهبوا إليه والله تعالى أعلم. فأما القرآن عندنا فغير محدث فيكون مخلوقا، بل هو كلام الله تعالى منه بدا وإليه يعود، والكلام من الذات، والذات قديمة لا نهاية لها، بدليل قوله سبحانه وتعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} (¬1)، وبقوله: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3)} (¬2) فذكر أنه علمه ولم يخلقه كالإنسان، ففرق بين الخلق والتعليم، لأن الإنسان من خلقه، والقرآن من علمه، وفيه أسماؤه، كالرحمن الرحيم وغير ذلك، فلو كان القرآن مخلوقا كما ذهبوا إليه، لوجب أن تكون أسماؤه مخلوقة لأنها منه، وإذا لم يجز أن تكون مخلوقة فقد صح أن القرآن غير مخلوق، وبطل ما ذهبوا إليه، وفي هذا كفاية والحمد لله. (¬3) موقفه من الخوارج: - قال رحمه الله في معرض ذكره لفرق الخوارج: واعلم أن هذه الفرق اجتمعت على أشياء، وانفرد بعضها عن بعض بأشياء، فالذي اجتمعت عليه القول بإمامة أبي بكر وعمر وعثمان إلى وقت الحدث، وعلي إلى وقت التحكيم، وقالوا: من أتى كبيرة مما وعد الله تعالى عليها العذاب فهو كافر، ¬

(¬1) النساء الآية (164). (¬2) الرحمن الآيات (1 - 3). (¬3) عقائد الثلاث والسبعين فرقة (1/ 405 - 406).

ومن نظر نظرة إلى امرأة أجنبية أو قبلها فهو مشرك. قال صاحب الكتاب (¬1): وهذا باطل، لأنه لو كان كافرا كما ذكروا لوجب عليه ضرب عنقه لأنه قال تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} (¬2). وهو عندهم لا يجوز قتله، قالوا: ومن زنى وهو بكر، أو سرق ما يجب به القطع، وأقيم به الحد استتيب فإن تاب وإلا قتل، وهذا أيضا خلاف قول الله حيث يقول: {فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} (¬3) هذا ما اجتمعوا عليه، فأما ما انفردوا به، فإن نافع بن الأزرق أحد شيوخهم وعظمائهم، انفرد هو وفرقته بإباحة قتل الأطفال والعميان والعرجان والعجائز والمرضى، وحتى إنهم كانوا يطرحون الأطفال في قدور الأقط وهي تغلي، واستحلوا الأمانات، فبلغ ذلك نجدة ابن عامر أحد الخوارج أيضا فكتب إليه بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد: فإني يوم فارقتك، وأنت لليتيم كالأب الرحيم، وللضعيف كالأخ في البر، لا تأخذك في الله لومة لائم ولا ترضى معونة ظالم، فقد شريت نفسك في طاعة ربك ابتغاء رضوانه، فأصبت من الحق عينيه، فحزن ذلك الشيطان فأغواك، ولم يكن أحد أثقل عليه وطأة منك ومن أصحابك، واستمالك فأغواك فغويت حين كفرت الذين عذرهم الله تعالى في كتابه من قُعَّدِ المسلمين وضعفهم، فقال عز من ¬

(¬1) أي أبو محمد اليمني. (¬2) محمد الآية (4). (¬3) النساء الآية (16).

قائل: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} (¬1) واستحللت أنت قتل الأطفال، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتلهم (¬2). ثم كان من رأيك أن لا تؤدي الأمانة إلى أهلها فاتق الله يا نافع، وانظر لنفسك فإن الله بالمرصاد، وحكمه العدل، وقوله الفصل والسلام. قال مصنف هذا الكتاب (¬3): نجدة هذا، وفرقته أشبه فرق الخوارج، فكتب إليه نافع بن الأزرق بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد: فقد أتاني كتابك تقر عيني فيه، وتذكرني وتنصح لي، فتزجرني وتصف ما كنت عليه من الحق، وكنت أوثره من الصواب، وأنا أسأل الله تعالى أن يجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وعبت علي ما تماديت به من إكفار القعد وقتل الأطفال، واستحلال الأمانات، وسأفسر لك إن شاء الله تعالى: أما هؤلاء القعدة، فليسوا كمن ذكرت ممن كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأن هؤلاء كانوا بمكة -حرسها الله- مقهورين لا يجدون إلى الهرب سبيلا، وهؤلاء بخلافهم، وأما الأطفال فإن نبي الله نوحا - صلى الله عليه وسلم - كان أعرف بالله مني ومنك، ¬

(¬1) براءة الآية (91). (¬2) الطبراني في الكبير (11/ 330/11906) وفي الأوسط (3/ 15 - 16/ 2018) والبزار في مسنده (3/ 32/2173 كشف الأستار) .. قال الهيثمي (7/ 218): "رواه البزار والطبراني في الكبير والأوسط، وفيه هلال بن خباب وهو ثقة، وفيه خلاف، وبقية رجاله رجال الصحيح". وحسن إسناده الحافظ ابن حجر في مختصر زوائد البزار (2/ 161 - 162/ 1619). (¬3) أي أبو محمد اليمني.

موقفه من المرجئة:

حيث قال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)} (¬1)، فسماهم بالكفر وهم أطفال، فكيف جاز ذلك في قوم نوح، ولا يجوز ذلك في قومنا، وما بيننا وبينهم إلا السيف، وأما استحلال الأمانات ممن خالفنا، فإن الله تعالى أحل لنا ذمة أموالهم، كما أحل لنا دماءهم، فاتقوا الله يا نجدة، وراجع نفسك لا عذر لك إلا بالتوبة، ولا يسعك خذلاننا والقعود عنا والسلام على من أقر بالحق وعمل به. (¬2) - وقال أبو محمد أيضا: فاعلم أيدك الله وأرشدك للصواب أن الناس افترقوا في الإمامة على فرق شتى، قالت الخوارج ومن لف لفيفها بإمامة أبي بكر رضي الله عنه ابتداء، وعمر بعده، وعثمان إلى وقت الحدث، وعلي إلى وقت التحكيم، وتولوهم وأثنوا عليهم خيرا، وقبلوا أقوالهم وأعمالهم بأحسن قبول، وذكروهم بأحمد ذكر، وأمسكوا عن عثمان من وقت الحدث، ورفضوا إمامة علي من وقت التحكيم، وقالوا: حكمتم الرجال في دين الله تعالى، وتبرؤوا منه، وذكروه بأقبح ذكر، وقالوا: شك في دينه، وهو الحيران الذي ذكره الله تعالى في كتابه، وحملوا قوله وحكمه على البطلان والعصيان. (¬3) موقفه من المرجئة: - قال رحمه الله: الإيمان إقرار باللسان ومعرفة بالقلب وعمل ¬

(¬1) نوح الآيتان (26و27). (¬2) عقائد الثلاث والسبعين فرقة (1/ 20 - 23). (¬3) عقائد الثلاث والسبعين فرقة (1/ 81).

بالجوارح، وكل خصلة من خصال الطاعات المفروضة إيمان. فعلى هذا الإيمان عندهم التصديق، وموضعه القلب والمعبر عنه باللسان، وظاهر الدليل عليه بعد الإقرار شهادة الأركان وهي ثلاثة أشياء: شهادة، واعتقاد، وعمل، فالشهادة تحقن الدم وتمنع المال وتوجب أحكام الله، والعمل يوجب الديانة والعدالة، وهذان ظاهران يوجبان الظاهرة الشريعة، فأما العقيدة فإنها تظهرها الآخرة، لأنها خفية لا يعلمها إلا الله، فمن ترك العقيدة بالقلب وأظهر الشهادة فهو منافق، ومن اعتقدها بقلبه وعبر عنها لسانه وترك العمل بالفرائض عصيانا منه فهو فاسق غير خارج بذلك عن إيمانه، لكنه يكون ناقصا، وتجري عليه أحكام المسلمين، اللهم إلا إن تركها وهو جاحد بوجوبها: فهو كافر حلال الدم ويجب قتله. وأما من اعتقد بقلبه أن الله وحده لا شريك له وأثبته معرفة ووجودا، كما قال أبو جعفر بن محمد رضي الله عنه للأعرابي الذي قال له: رأيت الله حين عبدته؟ قال: ما كنت لأعبد ما لم أره، قال له الأعرابي: فكيف رأيته؟ قال: لم تره الأبصار بمشاهدة الأعيان، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يدرك بالحواس ولا يشبه بالناس، معروف بالآيات، منعوت بالعلامات، لا يجور في القضيات، ذلك الله الذي لا اله إلا هو. قال الأعرابي: الله أعلم حيث يجعل رسالته. فعلى هذا لئن عبر عنه لسانه بما تقدم ذكره، وعمل بجوارحه ما فرض عليه، وصدق بما جاء من عند ربه على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه صواب وحكمة وعدل، وأن الطاعة له فيها لازمة، واجتنب الكبائر الموبقة: فهو مؤمن حقا، يزيد إيمانه بالطاعات وينقص بالمعاصي، فيستحق بالطاعات الثواب، ويأمن

بترك المعاصي العذاب والعقاب، لكنه يكون بين حالين: خائفا لربه بما أوعد من العقوبات، راجيا له بما وعد من العفو، فيكون بين مخافة ورجا. (¬1) وذكر رحمه الله الأدلة على أن الإيمان قول وعمل واعتقاد. - وقال أيضا: وأما كسر ما ذهبوا إليه من أن الإيمان لا ينقص بالمعاصي ولا يزداد بالطاعات فغير مسلم لهم، بل يكسره قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} (¬2) فذكر الله تعالى الزيادة في الإيمان بأفعال الخير، وذكر نقص الإيمان بالمعاصي بقوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)} (¬3)، فمنع من المساواة بينهم لأن عملهم السيئات نقص في إيمانهم. وقال أيضا عز من قائل: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} (¬4)، حاشا الله ما هم سواء كما قالت المرجئة، وقال: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا ¬

(¬1) عقائد الثلاث والسبعين فرقة (1/ 313 - 314). (¬2) الأنفال الآية (2). (¬3) الجاثية الآية (21). (¬4) ص الآية (28).

لَا يَسْتَوُونَ (18)} (¬1)، فمنع المساواة بينهم. وقالت المرجئة: بل هم سواء. معاذ الله أن نقول بهذا، وأن نجعل إيمان المطهرين الأبرار كإيمان الفجار الفاسقين، ولهذا حكي أن المرجئة يهود هذه الأمة، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} (¬2) أفليس هذا نقصا؟ وقال أيضا عز من قائل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (¬3)، أفليس قد أخرجهم عن إيمانهم إذا لم يرضوا بقضيته - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذكر إيمانهم بقوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ}. والمرجئة ترد على الله قضيته وحكمه الذي حكم به، فيزعمون أن إيمانهم كإيمان جبرائيل عليه السلام، كذبوا وأفكوا، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (¬4) أفليس إذا أكلوها بينهم بالباطل نقصهم إيمانهم؟ ثم تواعدهم على إثر ذلك فقال: {وَمَنْ ¬

(¬1) السجدة الآية (18). (¬2) النساء الآية (10). (¬3) النساء الآية (65). (¬4) النساء الآية (29).

يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)} (¬1). وقال عز من قائل في قاعدة اليتامى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)} (¬2) أفليس الحوب نقصا في الإيمان؟ وقال: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)} (¬3)، أفليس هذا إن فعله فاعله نقصا في إيمانه، والمرجئة تقول بخلاف هذا، وأن عندهم من قتل أو سرق أو زنا أو نكح ابنته أو أخته أو بعض جميع ما ذكر الله تعالى تحريمهن، [وعدت من مضى عليها، وتوعد من عملها في هذه الآية بعذابها ونارها] (¬4)، مؤمن كإيمان الملائكة والنبيين صلى الله تعالى عليهم أجمعين. هل هذا إلا كفر عظيم؟!!. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (¬5) أفليس قد سماهم مسلمين مؤمنين؟ وأمرهم أن يتركوا ما بقي ¬

(¬1) النساء الآية (30). (¬2) النساء الآية (2). (¬3) النساء الآية (22). (¬4) قال محققه: هكذا النص في الأصل وفي النسخة (ر)، والكلام مستقيم بدونه فلعله ورد خطأ، أو أن في الكلام نقصا. (¬5) البقرة الآيتان (278و279).

موقفه من القدرية:

من الربا، فيكون ذلك لهم زيادة في إيمانهم إذا أطاعوا، ونقصا لهم إذا عصوا ولم يتركوه؟. وقال أيضا: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} (¬1) أفليس كسب الخير يزيد في الإيمان، وكسب المعصية ينقص منه؟ وقال أيضا عز من قائل: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)} (¬2). أفليس هذا دليلا على أنهم إذا فعلوا الفاحشة نقص ذلك من إيمانهم فلم يدخلهم الجنة؟ فإن استغفروا عنها وتابوا غفر لهم وأدخلهم الجنة لأنهم ازدادوا في إيمانهم بالتوبة عنها. ثم سرد الأدلة من السنة على ذلك. (¬3) موقفه من القدرية: - قال رحمه الله في شأن فرقة القدرية: قالوا: قضاء الله وقدره في ¬

(¬1) الأنعام الآية (158). (¬2) آل عمران الآيتان (135و136). (¬3) عقائد الثلاث والسبعين فرقة (1/ 306 - 310).

معاصي عباده منهم دونه، وأنه تعالى يريد منهم ما لا يكون، ويكون منهم ما لا يريد، وأنه لم يخلق أفعال العباد بل هم الخالقون لها دونه، وأن العبد مخير يفعل ما يشاء من خير وشر، ليس لله تعالى في فعله صنع، قالوا: ولأنه لو كان له صنع في فعل عبده لما سأله عنه، ولو أنه سأله عنه لكان جورا منه، قالوا: والعبد إذا تغذا بغذاء حرام ليس من رزق ربه، بل هو من رزق نفسه، قالوا: وقد يقتل الإنسان دون أجله، قالوا: وعلم الله تعالى سابق غير سابق، والعباد يشاؤون لأنفسهم ما لا يشاء ربهم لهم، وأنهم قادرون على الخروج من علمه، وأنهم يجعلون لأنفسهم قوة يفعلون بها ما أرادوا، وأن أمر الاستطاعة إليهم دون ربهم. (¬1) - ثم قال: وغلا قوم منهم غلوا شديدا إلى أن قالوا: إن الله عزوجل لا يعلم الشيء قبل أن يكون، وكذبوا، بل هو سبحانه يعلم الشيء الذي يكون قبل أن يكون، ويعلم ما لا يكون أن كيف كان لو كان يكون (¬2) ثم ذكر الأدلة على ذلك. - وقد أطال النفس رحمه الله في الاحتجاج بينه وبين القدرية من الكتاب والسنة وأقوال السلف وكنموذج على ذلك قوله: فإن قال: فإنما عنى بالإرادة خلق الطاعة دون خلق المعصية. قيل: قولك هذا كقول المجوس لأنهم أثبتوا خالقين: أحدهما يخلق الخير وهو الله تعالى، والثاني يخلق الشر وهو الشيطان لعنه الله، وهذا رد على ¬

(¬1) عقائد الثلاث والسبعين فرقة (1/ 354 - 355). (¬2) عقائد الثلاث والسبعين فرقة (1/ 355).

القرآن لأنه تعالى يقول لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)} (¬1)، فذكر أنه خالق الشر لا خالق له سواه، وأنت تقول بخلافه من أنه خلق الخير وغيره خلق الشر، وليس في قوله تعالى نقص ولا تقصير ولا استثناء، فيكون خالق الشيء دون الشيء، بل هو خالق كل شيء كما قال سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (¬2)، وهذه آية عامة لا خاصة. فإن قال: فيلزمكم على هذا أن إبليس اللعين وهو شيطان رجيم، وكل كافر ومشرك مستوجب للعذاب داخل في رحمة الله تعالى، لأنه يقول: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (¬3) فما تراهم إلا قد دخلوا في رحمته، لأنهم شيء، ونحن مجمعون وإياكم أنهم غير داخلين في رحمته. قيل: هذا تمويه بين وتأويل فاسد، لأنه سبحانه استثنى من الآية من لا يدخل في رحمته بقوله سبحانه: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ ¬

(¬1) الفلق الآيات (1 - 5). (¬2) غافر الآية (62). (¬3) الأعراف الآية (156).

النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} (¬1)، وإبليس ومن ذكرت لا يعملون بهذا فخرجوا من الرحمة. والآية التي ذكرناها ما فيها استثناء ولا نقص ولا تقصير، فافهم هذا أرشدك الله، ففيه كفاية لكسر تمويهك والحمد لله. فإن زاد واعترض ولم يقنع بما مضى، وقال: ألستم تقولون: إن الله رضي من عباده المعصية وأرادها منهم؟ فكيف يعذبهم على ما قد مضى منهم؟ قيل له: لسنا نقول: إنه أمر بها ولا رضي، لأنه يقول سبحانه: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} (¬2)، بل نقول: أراد المعصية منهم إرادة كتب وعلم سابق، لا إرادة أمر ولا خير ورضى، لأن الخلق لا يقدرون أن يخرجوا من علمه الذي هو قد علم أنه سيكون منهم، ولا على اكتسابه إلا بمعونته، فالذي يوجد منهم من الطاعات بهداه وتوفيقه ولطفه، والذي تركوا من المعاصي بعصمته وتسديده، والذي كان منهم من فعل المعصية بخذلانه وإرادته ومشيئته، لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا إلا ما شاء، لأنه لا يكون في سلطانه ما لا يريد وما لا يشاء، ألا ترى إلى قوله سبحانه: {وَمَا ¬

(¬1) الأعراف الآيتان (156و157). (¬2) الزمر الآية (7).

عبد الغني المقدسي (600 هـ)

تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} (¬1).اهـ (¬2) وذكر غيرها من الأدلة. عبد الغني المقدسي (¬3) (600 هـ) الإمام العالم الحافظ الكبير الصادق القدوة العابد الأثري المتبع عالم الحفاظ، تقي الدين أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي. ولد سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وهو أكبر من أخيه الشيخ الموفق بن قدامة، ومن شيوخه: أبو طاهر السلفي، وأبو الفتح بن البطي، وهبة الله بن هلال الدقاق، وله مصنفات كثيرة، منها: الكمال في معرفة الرجال، والصفات، والتوحيد، والاقتصاد في الاعتقاد، ومناقب الصحابة وغيرها كثير. قال ضياء الدين: كان شيخنا الحافظ لا يكاد يسأل عن حديث إلا ذكره وبينه، وذكر صحته أو سقمه، وقال إسماعيل بن ظفر: قال رجل للحافظ عبد الغني: رجل حلف بالطلاق أنك تحفظ مائة ألف حديث، فقال: لو قال أكثر لصدق. وقال التاج الكندي: لم يكن بعد الدارقطني مثل الحافظ عبد الغني. وقال الموفق: كان الحافظ لا يصبر عن إنكار المنكر إذا رآه. وقال الضياء: ما ¬

(¬1) التكوير الآية (29). (¬2) عقائد الثلاث والسبعين فرقة (1/ 372 - 374). (¬3) السير (21/ 443 - 471) وتذكرة الحفاظ (4/ 1372 - 1380) والبداية والنهاية (13/ 42 - 43) وشذرات الذهب (4/ 345 - 346).

موقفه من المبتدعة:

أعرف أحدا من أهل السنة رآه إلا أحبه ومدحه كثيرا، سمعت محمود بن سلامة الحراني بأصبهان قال: كان الحافظ يصطف الناس في السوق ينظرون إليه، ولو أقام بأصبهان مدة وأراد أن يملكها لملكها. توفي رحمه الله سنة ستمائة. موقفه من المبتدعة: - قال الذهبي في تذكرة الحفاظ: قال الشيخ الموفق: كان رفيقي وما كنا نستبق إلى خير إلا سبقني إليه إلا القليل، وكمل الله فضيلته بابتلائه بأذى أهل البدعة وقيامهم عليه، ورزق العلم وتحصيل الكتب الكثيرة إلا أنه لم يعمر حتى يبلغ غرضه في روايتها ونشرها. (¬1) - وقال ابن النجار: وكان كثير العبادة ورعا متمسكا بالسنة على قانون السلف. (¬2) - وقال الضياء: وكان المبتدعة قد أوغروا صدر العادل على الحافظ وتكلموا فيه عنده وكان بعضهم يقول: ربما يقتله إذا دخل عليه، فسمعت أن بعضهم بذل في قتل الحافظ خمسة آلاف دينار. قال الضياء: سمعت أبا بكر ابن أحمد الطحان يقول: جعلوا الملاهي عند درج جيرون، فجاء الحافظ فكسر كثيرا منها وصعد المنبر، فجاءه رسول القاضي يطلبه ليناظره في الدف والشبابة فقال: ذاك حرام ولا أمشي إليه إن كان له حاجة يجيء هو، قال فعاد الرسول فقال: لا بد من مجيئك قد عطلت هذه الأشياء على السلطان، ¬

(¬1) التذكرة (4/ 1376) والسير (21/ 453). (¬2) التذكرة (4/ 1373).

فقال: ضرب الله رقبته ورقبة السلطان، فمضى الرسول فخفنا من فتنة، فما أتى أحد بعد. (¬1) - وقال في حديثه عن أهل السنة: ووسعتهم السنة المحمدية، والطريقة المرضية، ولم يتعدوها إلى البدعة المردية الردية، فحازوا بذلك الرتبة السنية، والمنزلة العلية. (¬2) - وقال: فالزم -رحمك الله- ما ذكرت لك من كتاب ربك العزيز، وكلام نبيك الكريم، ولا تحد عنه ولا تبتغ الهدى في غيره، ولا تغتر بزخارف المبطلين، وآراء المتكلفين، فإن الرشد والهدى والفوز والرضا فيما جاء من عند الله ورسوله، لا فيما أحدثه المحدثون، وأتى به المتنطعون من آرائهم المضمحلة، ونتائج عقولهم الفاسدة، وارض بكتاب الله وسنة رسوله عوضا من قول كل قائل، وزخرف وباطل. (¬3) - وقال في خاتمة كتابه 'الاقتصاد في الاعتقاد': فهذه جملة مختصرة من القرآن والسنة، وآثار من سلف، فالزمها، وما كان مثلها مما صح عن الله ورسوله، وصالح سلف الأمة ممن حصل الاتفاق عليه من خيار الأمة، ودع أقوال من كان عندهم محقورا مهجورا، مبعدا مدحورا، ومذموما ملوما، وإن اغتر كثير من المتأخرين بأقوالهم وجنحوا إلى اتباعهم، فلا تغتر بكثرة أهل الباطل. (¬4) ¬

(¬1) التذكرة (4/ 1377). (¬2) الاقتصاد في الاعتقاد (ص.80). (¬3) الاقتصاد في الاعتقاد (ص.205 - 207). (¬4) الاقتصاد في الاعتقاد (ص.221).

موقفه من المشركين:

موقفه من المشركين: قال الذهبي نقلا عن الضياء: وسمعت الحافظ يقول: أضافني رجل بأصبهان، فلما تعشينا كان عنده رجل أكل معنا، فلما قمنا إلى الصلاة لم يصل، فقلت: ما له؟ قالوا: هذا رجل شمسي، فضاق صدري، وقلت للرجل: ما أضفتني إلا مع كافر، قال: إنه كاتب، ولنا عنده راحة، ثم قمت بالليل أصلي وذاك يستمع، فلما سمع القرآن تزفر، ثم أسلم بعد أيام، وقال: لما سمعتك تقرأ، وقع الإسلام في قلبي. (¬1) موقفه من الرافضة: - ألف في ذكر فضائل الصحابة كتابه 'مناقب الصحابة' ذكره الإمام الذهبي في السير. (¬2) - وقال في الاقتصاد: ونعتقد أن خير هذه الأمة وأفضلها بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاحبه الأخص، وأخوه في الإسلام، ورفيقه في الهجرة والغار أبو بكر الصديق، وزيره في حياته، وخليفته بعد وفاته، عبد الله ابن عثمان عتيق بن أبي قحافة. ثم بعده الفاروق أبو حفص عمر بن الخطاب الذي أعز الله به وأظهر الدين. ثم بعده ذو النورين أبو عبد الله عثمان بن عفان الذي جمع القرآن وأظهر العدل والإحسان. ثم ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وختنه علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم. فهؤلاء الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون. ثم الستة الباقون من العشرة: طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، ¬

(¬1) السير (21/ 453). (¬2) (21/ 448).

موقفه من الجهمية:

وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح رضوان الله عليهم. فهؤلاء العشرة الكرام البررة الذين شهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة (¬1)، فنشهد لهم بها كما شهد لهم بها، اتباعا لقوله وامتثالا لأمره اهـ. ثم ذكر بعضا ممن شهد لهم بالجنة. (¬2) موقفه من الجهمية: لقد مضت سنة الله تعالى في خلقه على هذا الإمام بالامتحان والاختبار في عقيدته. وكان ممن شرفه الله بالصبر في سبيل عقيدته السلفية، وكان من خيرة الأمثلة في ذلك. - جاء في ذيل طبقات الحنابلة: اجتمع الشافعية والحنفية والمالكية عند المعظم عيسى والصارم برغش والي القلعة، وكانا يجلسان بدار العدل للنظر في المظالم. قال: وكان ما اشتهر من إحضار اعتقاد الحنابلة، وموافقة أولاد الفقيه نجم الدين الحنبلي الجماعة، وإصرار الفقيه عبد الغني المقدسي على لزوم ما ظهر به من اعتقاده وهو الجهة والاستواء والحرف. وأجمع الفقهاء على الفتوى بكفره وأنه مبتدع لا يجوز أن يترك بين المسلمين ولا يحل لولي الأمر أن يمكنه من المقام معهم، وسأل أن يمهل ثلاثة أيام لينفصل عن البلد فأجيب. وذكر غيره: أنهم أخذوا عليه مواضع منها قوله: ولا أنزهه تنزيها ينفي حقيقة ¬

(¬1) أحمد (1/ 187) وأبو داود (5/ 39/4649) والترمذي (5/ 609/3757) وقال: "حسن صحيح". والنسائي في الكبرى (5/ 55/8150) وابن ماجة (1/ 48/133) من طرق عن سعيد بن زيد رضي الله عنه. (¬2) الاقتصاد في الاعتقاد (ص.198 - 203).

النزول. ومنها قوله: كان الله ولا مكان وليس هو اليوم على ما كان. ومنها مسألة الحرف والصوت. فقالوا له: إذا لم يكن على ما قد كان فقد أثبت له المكان، وإذا لم تنزهه تنزيها تنفي حقيقة النزول فقد أجزت عليه الانتقال. وأما الحرف والصوت فإنه لم يصح عن إمامك الذي تنتمي إليه فيه شيء، وإنما المنقول عنه: أنه كلام الله عز وجل غير مخلوق. وارتفعت الأصوات فقال له صارم الدين: كل هؤلاء على ضلال وأنت على الحق؟ قال: نعم. ثم ذكر معهم من الصلاة بالجامع قال: فخرج عبد الغني إلى بعلبك ثم سافر إلى مصر، فنزل عند الطحانين، وصار يقرأ الحديث، فأفتى فقهاء مصر بإباحة دمه، وكتب أهل مصر إلى الصفي بن شكر وزير العادل: أنه قد أفسد عقائد الناس، ويذكر التجسيم على رؤوس الأشهاد، فكتب إلى والي مصر بنفيه إلى المغرب فمات قبل وصول الكتاب. (¬1) التعليق: انظر ما كان يعمله علماء الأشاعرة بالعلماء السلفيين: لا رحمة ولا شفقة ولا رجوع إلى النصوص ولا إلى أثر السلف، فعلى الأقل ينبغي أن يكون مخطئا، مع العلم أنه هو صاحب الحق، ولكن العصبية تعمي صاحبها حتى لا يميز ما يقول ويفعل، والله المستعان. وأما الإمام، فرزقه الله الثبات، فلم يبال لا بالحاكم ولا بالمحكوم ولا بمن يوقد له نار الفتنة. فهنيئا لك يا عالم السلف، أثابك الله ورفع بما لقيته في سبيل عقيدتك الدرجات. ¬

(¬1) ذيل طبقات الحنابلة (2/ 22).

- جاء في السير: عن عبد الله بن أبي الحسن الجبائي بأصبهان قال: أبو نعيم قد أخذ على ابن منده أشياء في كتاب الصحابة فكان الحافظ أبو موسى يشتهي أن يأخذ على أبي نعيم في كتابه الذي في الصحابة فما كان يجسر، فلما قدم الحافظ عبد الغني أشار إليه بذلك، قال: فأخذ على أبي نعيم نحوا من مئتين وتسعين موضعا، فلما سمع بذلك الصدر الخجندي طلب عبد الغني وأراد هلاكه، فاختفى. وسمعت محمود بن سلامة يقول: ما أخرجنا الحافظ من أصبهان إلا في إزار، وذلك أن بيت الخجندي أشاعرة، كانوا يتعصبون لأبي نعيم، وكانوا رؤساء البلد. (¬1) - قال ابن النجار: سمعت يوسف بن خليل بحلب يقول عن عبد الغني: كان ثقة، ثبتا، دينا، مأمونا، حسن التصنيف، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، دعي إلى أن يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، فأبى، فمنع من التحديث بدمشق، فسافر إلى مصر، فأقام بها إلى أن مات. (¬2) - قال الضياء: وسمعت بعض أصحابنا يقول: إن الحافظ أمر أن يكتب اعتقاده، فكتب: أقول كذا؛ لقول الله كذا، وأقول كذا؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا، حتى فرغ من المسائل التي يخالفون فيها، فلما وقف عليها الملك الكامل، قال: إيش في هذا؟ يقول بقول الله عز وجل، وقول رسوله - صلى الله عليه وسلم -. قال: فخلى عنه. (¬3) - قال في كتابه الاقتصاد (¬4): اعلم وفقنا الله وإياك لما يرضيه من القول والنية والعمل، وأعاذنا وإياك من الزيغ والزلل، أن صالح السلف، وخيار ¬

(¬1) السير (21/ 458 - 459). (¬2) ذيل الطبقات (2/ 19 - 20) والتذكرة (4/ 1373). (¬3) ذيل الطبقات (2/ 26) والتذكرة (4/ 1380). (¬4) (ص.76 - 79).

الخلف، وسادة الأئمة، وعلماء الأمة، اتفقت أقوالهم، وتطابقت آراؤهم على الإيمان بالله عز وجل، وأنه أحد فرد صمد، حي قيوم، سميع بصير، لا شريك له ولا وزير، ولا شبيه له ولا نظير، ولا عدل ولا مثل. وأنه عز وجل موصوف بصفاته القديمة التي نطق بها كتابه العزيز الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} (¬1)، وصح بها النقل عن نبيه وخيرته من خلقه محمد سيد البشر، الذي بلغ رسالة ربه، ونصح لأمته، وجاهد في الله حق جهاده، وأقام الملة، وأوضح المحجة، وأكمل الدين، وقمع الكافرين، ولم يدع لملحد مجالا، ولا لقائل مقالا. فروى طارق بن شهاب قال: جاء يهودي إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر يهود نزلت نعلم اليوم الذي نزلت فيه لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. قال: أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬2). فقال: إني لأعلم اليوم الذي نزلت والمكان، نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن بعرفة عشية جمعة. (¬3) ¬

(¬1) فصلت الآية (42). (¬2) المائدة الآية (3). (¬3) أخرجه البخاري (1/ 141/45) ومسلم (4/ 2312/3017 [5،4،3]) والترمذي (5/ 233/3043) وقال: "حسن صحيح". والنسائي (5/ 277/3002).

فآمنوا بما قال الله سبحانه في كتابه، وصح عن نبيه، وأمروه كما ورد من غير تعرض لكيفية، أو اعتقاد شبهة أو مثلية، أو تأويل يؤدي إلى التعطيل، ووسعتهم السنة المحمدية، والطريقة المرضية، ولم يتعدوها إلى البدعة المردية الردية، فحازوا بذلك الرتبة السنية، والمنزلة العلية. (¬1) - وقال في الكتاب نفسه: والقرآن كلام الله عز وجل، ووحيه، وتنزيله، والمسموع من القاري كلام الله عز وجل، قال الله عزوجل: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (¬2) وإنما سمعه من التالي. وقال الله عزوجل: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} (¬3) وقال عزوجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} (¬4) وقال عزوجل: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)} (¬5) وهو محفوظ في الصدور، كما قال عزوجل: {بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} (¬6) وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «استذكروا القرآن فلهو أشد تفصيا من صدور ¬

(¬1) الاقتصاد في الاعتقاد (78 - 80). (¬2) التوبة الآية (6). (¬3) الفتح الآية (15). (¬4) الحجر الآية (9). (¬5) الشعراء الآيتان (192و194). (¬6) العنكبوت الآية (49).

الرجال من النعم من عقله» (¬1). وهو مكتوب في المصاحف منظور بالأعين، قال الله عزوجل: {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3)} (¬2) وقال عزوجل: {إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} (¬3). وروى عبد الله بن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو. (¬4) وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: (ما أحب أن يأتي علي يوم وليلة حتى أنظر في كلام الله عزوجل) يعني القراءة في المصحف. وقال عبد الله بن أبي مليكة: كان عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه يأخذ المصحف فيضعه على وجهه فيقول: كتاب ربي عزوجل وكلام ربي عزوجل). وأجمع أئمة السلف، والمقتدى بهم من الخلف على أنه غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر. (¬5) - وقال: فمن صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه، ونطق بها كتابه، وأخبر بها نبيه أنه مستو على عرشه كما أخبر عن نفسه فقال عز من قائل في ¬

(¬1) أحمد (2/ 64و112) والبخاري (9/ 97/5031) ومسلم (1/ 543/789) والنسائي (2/ 492/941) وابن ماجه (2/ 1243/3783) من حديث ابن عمر رضي الله عنه. (¬2) الطور الآيات (1 - 3). (¬3) الواقعة الآيات (77 - 79). (¬4) أحمد (2/ 7) والبخاري (6/ 164/2990) ومسلم (3/ 1490/1869) وأبو داود (3/ 82/2610) وابن ماجة (2/ 961/2879). (¬5) الاقتصاد في الاعتقاد (132 - 136).

سورة الأعراف: {إِن رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (¬1). وقال في سورة يونس عليه السلام: {إِن رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (¬2). وقال في سورة الرعد: {الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (¬3). وقال في سورة طه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (¬4). وقال في سورة الفرقان: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} (¬5). وقال في سورة السجدة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (¬6). فهذه سبعة مواضع أخبر الله فيها سبحانه أنه على العرش. (¬7) ثم ذكر عدة أحاديث وختمها بقوله (¬8): وروى معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لجاريته: «أين الله؟ قالت: في السماء، ¬

(¬1) الأعراف الآية (54). (¬2) يونس الآية (3). (¬3) الرعد الآية (2). (¬4) طه الآية (5). (¬5) الفرقان الآية (59). (¬6) السجدة الآية (4). (¬7) الاقتصاد في الاعتقاد (ص.80 - 82). (¬8) المصدر السابق (ص.88 - 89).

قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: اعتقها فإنها مؤمنة». رواه مسلم (¬1) ابن الحجاج وأبو داود (¬2)، وأبو عبد الرحمن النسائي (¬3). ومن أجهل جهلا، وأسخف عقلا، وأضل سبيلا ممن يقول إنه لا يجوز أن يقال: أين الله، بعد تصريح صاحب الشرعية بقوله: أين الله؟! - وقال: ومن الصفات التي نطق بها القرآن، وصحت بها الأخبار: الوجه. قال الله عزوجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (¬4) وقال عزوجل: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} (¬5). وروى أبو موسى رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «جنات الفردوس أربع: ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما، وثنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم عزوجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» (¬6). وروى أبو موسى قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربع ¬

(¬1) (1/ 381 - 384/ 537). (¬2) (1/ 570/930). (¬3) (3/ 19 - 22/ 1217). (¬4) القصص الآية (88). (¬5) الرحمن الآية (27). (¬6) أحمد (4/ 416) والدارمي (2/ 333) والطيالسي (529) والبيهقي في البعث (239) من طريق أبي قدامة الحارث ابن عبيد الإيادي عن أبي عمران الجوني عن أبي بكر عن أبي موسى عن أبيه به. وفي آخره ذكر الأنهار التي تجشب من الجنة. وأبو قدامة متكلم في حفظه وقد ضعفه غير واحد، ولكن قال الساجي: صدوق عنده مناكير وقال الحافظ في التقريب: "صدوق يخطئ". ومما ينكر عليه في هذا الحديث أوله: «جنات الفردوس أربع» وآخره. فقد خالف عبد العزيز بن عبد الصمد فرواه بلفظ: «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب ... » الحديث. أخرجه أحمد (4/ 411) والبخاري (13/ 520/7444) ومسلم (1/ 163/296) والترمذي (4/ 673/2528) والنسائي في الكبرى (4/ 419 - 420/ 7765) وابن ماجة (1/ 66/186).

فقال: «إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النار، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره» ثم قرأ: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} (¬1) رواه مسلم. (¬2) فهذه صفة ثابتة بنص الكتاب وخبر الصادق الأمين، فيجب الإقرار بها، والتسليم كسائر الصفات الثابتة بواضح الدلالات. وتواترت الأخبار، وصحت الآثار (¬3) بأن الله عز وجل ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا فيجب الإيمان به، والتسليم له، وترك الاعتراض عليه، وإمراره من غير تكييف ولا تمثيل ولا تأويل ولا تنزيه ينفي حقيقة النزول. (¬4) - وقال: ومن صفاته سبحانه الواردة في كتابه العزيز، الثابتة عن رسوله المصطفى الأمين: اليدان. قال الله عز وجل: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (¬5) وقال عز وجل: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (¬6). وروى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: التقى آدم وموسى، فقال موسى: يا آدم، أنت أبونا، ¬

(¬1) النمل الآية (8). (¬2) أحمد (4/ 395و401) ومسلم (1/ 161/179 [295]) وابن ماجة (1/ 70/195). (¬3) منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي أخرجه أحمد (2/ 258) والبخاري (3/ 36/1145) ومسلم (1/ 52/758) وأبو داود (2/ 77/1315) والترمذي (2/ 307/446) والنسائي في الكبرى (6/ 123/10311) وابن ماجه (1/ 435/1366). (¬4) الاقتصاد في الاعتقاد (ص.96 - 100). (¬5) المائدة الآية (64). (¬6) ص الآية (75).

خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، خيبتنا، وأخرجتنا من الجنة. فقال آدم: أنت موسى، كلمك الله تكليما، وخط لك التوراة بيده، واصطفاك برسالته، فبكم وجدت في كتاب الله {وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)} (¬1)؟ قال: بأربعين سنة، قال: فتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟! قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فحج آدم موسى». (¬2) فلا نقول: يد كيد، ولا نكيف، ولا نشبه، ولا نتأول اليدين على القدرتين كما يقول أهل التعطيل والتأويل، بل نؤمن بذلك ونثبت له الصفة من غير تحديد ولا تشبيه، ولا يصح حمل اليدين على القدرتين، فإن قدرة الله عز وجل واحدة، ولا على النعمتين، فإن نعم الله عز وجل لا تحصى، كما قال عز وجل: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} (¬3) وكل ما قال الله عز وجل في كتابه، وصح عن رسوله بنقل العدل عن العدل، مثل المحبة، والمشيئة والإرادة، والضحك، والفرح، والعجب، والبغض، والسخط، والكره، والرضا، وسائر ما صح عن الله ورسوله، وإن نبت عنها أسماع بعض الجاهلين واستوحشت منها نفوس المعطلين. (¬4) ¬

(¬1) طه الآية (121). (¬2) أحمد (2/ 248،268،287) والبخاري (8/ 554 - 555/ 4736و4738) ومسلم (4/ 2042 - 2043/ 2652) وأبو داود (5/ 76 - 78/ 4701) والترمذي (4/ 386 - 387/ 2134) والنسائي في الكبرى (6/ 284 - 285/ 10985 - 10986) وابن ماجة (1/ 31 - 32/ 80). (¬3) إبراهيم الآية (34). (¬4) الاقتصاد في الاعتقاد (ص.112 - 122).

- وقال: وأجمع أهل الحق، واتفق أهل التوحيد والصدق أن الله تعالى يرى في الآخرة، كما جاء في كتابه، وصح عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، قال الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} (¬1). وروى جرير ابن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كنا جلوسا ليلة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال: «إنكم سترون ربكم عز وجل كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا» ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39)} (¬2). وفي رواية: «سترون ربكم عيانا» (¬3). وروى صهيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدا لم تروه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا ويزحزحنا عن النار، ويدخلنا الجنة؟ قال: فيكشف الحجاب فينظرون إليه، قال: فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه، ثم تلا: {* لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (¬4) رواه مسلم (¬5). وقال مالك بن أنس رضي الله عنه: (الناس ينظرون إلى الله تعالى بأعينهم يوم القيامة). وقال أحمد بن حنبل: ¬

(¬1) القيامة الآيتان (22و23). (¬2) ق الآية (39). (¬3) أحمد (4/ 362) والبخاري (2/ 66/573) ومسلم (1/ 439/633 [211]) وأبو داود (5/ 97 - 98/ 4729) والترمذي (4/ 592 - 593/ 2551) والنسائي في الكبرى (4/ 419/7762) وابن ماجه (1/ 63/177). (¬4) يونس الآية (26). (¬5) أحمد (4/ 332) ومسلم (1/ 163/181 [298]) والترمذي (4/ 593/2552) والنسائي في الكبرى (4/ 420/7766) وابن ماجه (1/ 67/187) عن صهيب رضي الله عنه.

"من قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر". ومن مذهب أهل الحق أن الله عز وجل لم يزل متكلما بكلام مسموع، مفهوم، قال الله عز وجل: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} (¬1). وروى عدي بن حاتم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، ثم ينظر أيمن منه فلا ينظر إلا شيئا قدمه، ثم ينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئا قدمه، ثم ينظر تلقاء وجهه فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يقي وجهه النار ولو بشق تمرة فليفعل». (¬2) وروى جابر بن عبد الله قال: لما قتل عبد الله بن عمرو بن حرام قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا جابر، ألا أخبرك ما قال الله لأبيك؟ قال: بلى، قال: وما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب، كلم أباك كفاحا، قال: يا عبد الله تمن علي أعطيك، قال: يا رب، تحييني فأقتل فيك ثانية، قال: إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون، قال: فأبلغ من ورائي. فأنزل الله عز وجل: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} (¬3). رواه ابن ماجة (¬4).اهـ (¬5) - وقال: ويعتقد أهل السنة ويؤمنون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يشفع يوم القيامة لأهل ¬

(¬1) النساء الآية (164). (¬2) أحمد (4/ 256) والبخاري (11/ 488/6539) ومسلم (2/ 703 - 704/ 1016 [67]) والترمذي (4/ 528/2415) وابن ماجه (1/ 66/185). (¬3) آل عمران الآية (169). (¬4) أحمد (3/ 361) والترمذي (5/ 214 - 215/ 3010) وابن ماجه (1/ 68/190) وصححه ابن حبان (15/ 490 - 491/ 7022 الإحسان) والحاكم (2/ 119 - 120) و (3/ 201 - 204). (¬5) الاقتصاد في الاعتقاد (ص.125 - 132).

موقفه من المرجئة:

الجمع كلهم شفاعة عامة، ويشفع في المذنبين من أمته فيخرجهم من النار بعدما احترقوا. كما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لكل نبي دعوة يدعو بها، فأريد إن شاء الله أن أختبي دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة». (¬1) اهـ (¬2) موقفه من المرجئة: قال في كتابه 'الاقتصاد في الاعتقاد': والإيمان بأن الإيمان قول وعمل ونية، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، قال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (¬3). وقال عز وجل: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} (¬4). وقال عز وجل: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا} (¬5). وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الإيمان بضع وسبعون»، وفي رواية: «بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان»، ولمسلم وأبي داود: «فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق». (¬6) والاستثناء في الإيمان سنة ماضية، فإذا سئل الرجل: أمؤمن أنت؟ قال: إن شاء الله. روي ذلك عن عبد الله بن مسعود وعلقمة بن قيس، والأسود بن يزيد، وأبي وائل شقيق بن سلمة، ومسروق بن الأجدع، ومنصور بن المعتمر، وإبراهيم النخعي، ¬

(¬1) أحمد (2/ 275) والبخاري (11/ 115/6304) ومسلم (1/ 180/198) وابن ماجه (2/ 1440/4307). (¬2) الاقتصاد (ص.164 - 165). (¬3) التوبة الآية (124). (¬4) الفتح الآية (4). (¬5) المدثر الآية (31). (¬6) تقدم تخريجه في مواقف أبي إسحاق الفزاري سنة (186هـ).

موقفه من القدرية:

ومغيرة بن مقسم الضبي، وفضيل بن عياض وغيرهم. وهذا استثناء على يقين، قال الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ} (¬1).اهـ (¬2) موقفه من القدرية: قال رحمه الله: وأجمع أئمة السلف من أهل الإسلام على الإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، قليله وكثيره، بقضاء الله وقدره، لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يجري خير وشر إلا بمشيئته، خلق من شاء للسعادة واستعمله بها فضلا، وخلق من أراد للشقاء واستعمله به عدلا، فهو سر استأثر به، وعلم حجبه عن خلقه، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (¬3). قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} (¬4). وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (¬5)، وقال عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (¬6). (¬7) ثم ساق أدلة أخرى على ذلك. ¬

(¬1) الفتح الآية (27). (¬2) (ص.181 - 186). (¬3) الأنبياء الآية (23). (¬4) الأعراف الآية (179). (¬5) السجدة الآية (13). (¬6) القمر الآية (49). (¬7) الاقتصاد في الاعتقاد (ص.151 - 152).

القرن 7

الغُورِي شهاب الدين (¬1) (602 هـ) أبو المظفر محمد بن سام أخو السلطان الكبير أبي الفتح. كان بطلا شجاعا مهيبا جيد السيرة، يحكم بالشرع. وينصف الضعيف والمظلوم، وكان يحضر عنده العلماء. قال الذهبي: بلغنا أن فخر الدين الرازي وعظ مرة عنده، فقال: يا سلطان العالم، لا سلطانك يبقى، ولا تلبيس الرازي يبقى {وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَن الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43)} (¬2) قال: فانتحب السلطان بالبكاء. عظم شأنه وعلا محله وأحبه أمراء الغورية. قتلته الباطنية في شعبان سنة اثنتين وستمائة، رحمه الله تعالى. موقفه من المشركين: قال ابن كثير: ثم دخلت سنة ثنتين وستمائة فيها وقعت حرب عظيمة بين شهاب الدين محمد بن سام الغوري صاحب غزنة وبين بني بوكر أصحاب الجبل الجودي، وكانوا قد ارتدوا عن الإسلام فقاتلهم وكسرهم وغنم منهم شيئا كثيرا لا يعد ولا يوصف، فاتبعه بعضهم حتى قتله غيلة في ليلة مستهل شعبان منها بعد العشاء، وكان رحمه الله من أجود الملوك سيرة وأعقلهم وأثبتهم في الحرب. (¬3) ¬

(¬1) السير (21/ 322 - 323) وتاريخ الإسلام (حوادث 601 - 610/ص.88 - 90) والكامل في التاريخ (12/ 189) والبداية والنهاية (13/ 47) والشذرات (5/ 7). (¬2) غافر الآية (43). (¬3) البداية (13/ 47).

فخر الدين الرازي (606 هـ)

فخر الدين الرازي (¬1) (606 هـ) العلامة الكبير ذو الفنون فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي. ولد سنة أربع وأربعين وخمسمائة. اشتغل على أبيه الإمام ضياء الدين خطيب الري، ثم الزين قصد الكمال السمياني فاشتغل عليه مدة، وانتشرت تواليفه في البلاد شرقا وغربا، وكان يتوقد ذكاء، وقد بدت منه في تواليفه بلايا وعظائم وسحر وانحرافات عن السنة، والله يعفو عنه، فإنه توفي على طريقة حميدة، والله يتولى السرائر. قال الإمام أبو عمرو بن الصلاح: حدثني القطب الطوغاني مرتين أنه سمع الفخر الرازي يقول: ليتني لم أشتغل بالكلام، وبكى. وقال رحمه الله في وصيته لما احتضر: ولقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن. توفي سنة ست وستمائة. توبته من الكلام وبراءته منه: هذا الرجل معروف بعداوته لعقيدة السلف الصالح، وألف الكتب في ذلك، وألف التفسير وبسط فيه المذهب الأشعري بسطا، وقد تكلمت عليه في كتابي 'المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات'. (¬2) وله كذلك 'تأسيس التقديس' وهو عبارة عن جمع لحجج الجهمية والدفاع عنها، وقد قيض الله له من ألقمه حجرا فرد عليه في تلبيس الجهمية، ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء (21/ 500 - 501) والكامل في التاريخ (12/ 120) ووفيات الأعيان (4/ 248 - 252) والوافي بالوفيات (4/ 248 - 259) والبداية والنهاية (13/ 60 - 61) واللسان (4/ 426) وشذرات الذهب (5/ 21) وميزان الاعتدال (3/ 340). (¬2) (2/ 911 - 959).

وكتبه في هذا كثيرة، ولكن قد يمن الله على المرء بالهداية فيتوب ويرجع عما كان عليه من الخطأ، ولعل هذا هو الذي حصل للرازي. قال شيخ الإسلام: وأنشد أبو عبد الله الرازي في غير موضع من كتبه مثل كتاب أقسام اللذات لما ذكر أن هذا العلم أشرف العلوم، وأنه ثلاث مقامات: العلم بالذات، والصفات، والأفعال، وعلى كل مقام عقدة، فعلم الذات عليه عقدة: هل الوجود هو الماهية أو زائد على الماهية؟ وعلم الصفات عليه عقدة: هل الصفات زائدة على الذات أم لا؟ وعلم الأفعال عليه عقدة: هل الفعل مقارن للذات أو متأخر عنها؟ ثم قال: ومن الذي وصل إلى هذا الباب، أو ذاق من هذا الشراب؟ ثم أنشد: نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا. ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (¬1)، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (¬2) وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (¬3) ¬

(¬1) طه الآية (5). (¬2) فاطر الآية (10). (¬3) الشورى الآية (11).

{وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} (¬1)، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)} (¬2)، ومن جرب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي. (¬3) ونقل عنه ابن القيم في اجتماع الجيوش من كتابه أقسام اللذات كلاما يدل على رجوعه، وقال ابن القيم إنه آخر ما ألف. قال: واعلم أن بعد التوغل في هذه المضايق والتعمق في الاستكشاف عن أسرار هذه الحقائق، رأيت الأصوب الأصلح في هذا الباب طريقة القرآن العظيم والفرقان الكريم، وهو ترك التعمق والاستدلال بأقسام أجسام السماوات والأرضين على وجود رب العالمين، ثم المبالغة في التعظيم من غير خوض في التفاصيل، فأقرأ في التنزيل قوله تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} (¬4) وقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (¬5) وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} (¬6) وأقرأ في الإثبات قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (¬7) وقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} (¬8) وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (¬9) ¬

(¬1) طه الآية (110). (¬2) مريم الآية (65). (¬3) درء التعارض (1/ 159 - 160). (¬4) محمد الآية (38). (¬5) الشورى الآية (11). (¬6) الإخلاص الآية (1). (¬7) طه الآية (5). (¬8) النحل الآية (50). (¬9) فاطر الآية (10).

وقوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (¬1) وفي تنزيهه عما لا ينبغي قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (¬2) الآية. وعلى هذا القانون فقس. (¬3) التعليق: كان الرازي إذا سمع مثل هذه الآيات كأنك أشعلت فيه نارا، فيحترق لإثبات الفوقية والاستواء، ويأتي بكل ما أوتي لإبطال الفوقية والاستواء، ويأتي بكل تأويلاته الباردة ويصورها كأنها جبال من الحجج، فيفرعها ويجزئها، لكنه تاب ورجع عفا الله عنه وغفر له. وله وصية كذلك تثبت توبته ذكرها الذهبي في تاريخ الإسلام (¬4) والسبكي في طبقات الشافعية (¬5) وغيرهما. وإثباتي للرازي في هذا البحث حتى يتعرف القراء عليه وعلى رجوعه. قال الحافظ في الفتح: وذكر الفخر الرازي في المطالب العالية أن قول من قال: إنه تعالى متكلم بكلام يقوم بذاته وبمشيئته واختياره، هو أصح الأقوال نقلا وعقلا. (¬6) ¬

(¬1) النساء الآية (78). (¬2) النساء الآية (79). (¬3) اجتماع الجيوش (ص.274 - 275). (¬4) في حوادث (601 - 610هـ) (ص.220 - 222). (¬5) (5/ 37 - 38). (¬6) الفتح (13/ 455).

أبو عمر بن قدامة (607 هـ)

أبو عمر بن قُدَامة (¬1) (607 هـ) محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة أبو عمر المقدسي الإمام الفقيه المقرئ المحدث الزاهد. مولده في سنة ثمان وعشرين وخمسمائة بقرية جماعيل من عمل نابلس، وتحول إلى دمشق مع أسرته فسكنوا سفح قاسيون. سمع أباه وأبا المكارم ابن هلال وسلمان بن علي الرحبي وغيرهم. حدث عنه أخوه موفق الدين وابناه عبد الله وعبد الرحمن والضياء وغيرهم. وكتب وقرأ وحصل وتقدم وكان من العلماء العاملين. كان لا يسمع دعاء إلا ويحفظه في الغالب ويدعو به، ولا حديثا إلا وعمل به، ولا صلاة إلا صلاها، وكان قدوة صالحا عديم النظير كبير القدر والمروءة والصفات الحميدة. لكن تذكر له بعض المبالغات في بعض العبادات. قال الصريفيني: ما رأيت أحدا قط ليس عنده تكلف غير الشيخ أبي عمر. توفي عشية الاثنين في الثامن والعشرين من ربيع الأول سنة سبع وستمائة. موقفه من الجهمية: جاء في البداية والنهاية: ثم شرع أبو المظفر في ذكر فضائل أبي عمر ومناقبه وكراماته وما رآه هو وغيره من أحواله الصالحة. قال: وكان على مذهب السلف الصالح سمتا وهديا، وكان حسن العقيدة متمسكا بالكتاب والسنة والآثار المروية، يمرها كما جاءت من غير طعن على أئمة الدين وعلماء المسلمين. وكان ينهى عن صحبة المبتدعين، ويأمر بصحبة الصالحين الذين هم على سنة سيد المرسلين وخاتم النبيين، وربما أنشدني لنفسه في ذلك: ¬

(¬1) السير (22/ 5 - 9) والوافي بالوفيات (2/ 116) والبداية والنهاية (13/ 66) والنجوم الزاهرة (6/ 201 - 202) والعبر (2/ 183 - 184) وشذرات الذهب (5/ 27 - 30) وتاريخ الإسلام (حوادث 601 - 610/ص.266 - 278).

الأمير صارم الدين برغش (سنة 608 هـ)

أوصيكم بالقول في القرآن ... بقول أهل الحق والإتقان ليس بمخلوق ولا بفان ... لكن كلام الملك الديان آياته مشرقة المعاني ... متلوة لله باللسان محفوظة في الصدر والجنان ... مكتوبة في الصحف بالبنان والقول في الصفات يا إخواني ... كالذات والعلم مع البيان إمرارها من غير ما كفران ... من غير تشبيه ولا عطلان (¬1) الأمير صارم الدين برغش (¬2) (سنة 608 هـ) فيها -أي سنة خمس وتسعين وخمسمائة- ادعى رجل أعجمي بدمشق أنه عيسى ابن مريم، فأمر الأمير صارم الدين برغش نائب القلعة بصلبه عند حمام العماد الكاتب، خارج باب الفرج مقابل الطاحون التي بين البابين، وقد باد هذا الحمام قديما، وبعد صلبه بيومين ثارت العامة على الروافض وعمدوا إلى قبر رجل منهم بباب الصغير يقال له وثاب فنبشوه وصلبوه مع كلبين. (¬3) عبد الجليل القصري (¬4) (608 هـ) أبو محمد عبد الجليل بن موسى بن عبد الجليل. من مدينة القصر الكبير بالمغرب ¬

(¬1) البداية والنهاية (13/ 66) وذيل طبقات الحنابلة (2/ 59). (¬2) جاء في تاريخ الإسلام (حوادث 601 - 610/ص.290): بزغش (بالزاي) بدل برغش (بالراء). (¬3) تاريخ الإسلام (حوادث 591 - 595/ص.25) والبداية والنهاية (13/ 22). (¬4) تاريخ الإسلام (43/ 295) والسير (22/ 11).

موقفه من الجهمية:

الأقصى. قال الذهبي: الإمام القدوة شيخ الإسلام أبو محمد الأنصاري الأوسي الأندلسي القرطبي، شهر بالقصري لنزوله قصر عبد الكريم وهو قصر كتامة، حمل الموطأ عن أبي الحسن بن حنين الكناني محدث فاس، وصحب الشيخ أبا الحسن بن غالب الزاهد بالقصر ولازمه، وكان رأساً في العلم والعمل منقطع القرين. له: 'تفسير للقرآن'، و'شعب الإيمان'، و'شرح الأسماء الحسنى'، و'الأسئلة والأجوبة'، و'شرح مشكل الحديث' ... وغير ذلك. موقفه من الجهمية: - قال في مقدمة كتابه 'شرح مشكل الحديث': الحمد لله الذي فات بعلوّه على الأشياء مواقع رجم المتوهّمين، فارتفع عن أن يحوي كنه عظمته رويّات المتفكّرين، وليس له مثل فيكون بالخلق مشبهاً، ومازال عند أهل العلم عن ذلك منزَّهاً، وكذب العادلون إذ شبّهوه بأصنافهم، وحلّوه بحلية المخلوقين بأوهامهم، ولم تحط به الصفات فيكون بإدراكها إياه بالحدود متناهياً، وجلّ الله الذي ليس كمثله شيء عن صفات المخلوقين متعاليا، وصلى الله على النبي محمد الذي لم يزل إلى ربه داعياً، وبالحق آمراً وناهياً، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً. وبعد حمد الله وشكره فهذا كتاب أذكر فيه ما تيسّر من معاني مشكل حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقوال الناس فيه، وبالله نستعين، وهو حسبنا ونعم الوكيل. اعلم أن الناس انقسموا في المشكل على أقسام ترجع بالحصر إلى أربعة: مبطل معطّل للذات من الصفات، ومشبّه لباريه بخلقه في الجوارح والأدوات، ومتأوّل لها على حسب ما وهب له الوهّاب، ومُمِرٍّ لها كما جاءت من غير تشبيه ولا تعطيل.

وهذا القسم الأخير هو اعتقاد الجمّ الغفير. إلا أن قولهم: (أمرّوها كما جاءت) يحتمل معنيين: أحدهما: يعتقِدُ إثباتها من غير تفهم لها. والآخر: إثباتها كما جاءت مع فهمها، أي: يفهم الشيء على ما هو عليه، وهذا الغاية القصوى في الفهم والتوفيق لمن أُعطيه من أهل الإنابة والتحقيق. وقد نطق الأيمة الذين أُمروا بإمرارها كما جاءت بذلك في أقوالهم كمالك رحمه الله في الاستواء حيث قال -مجيباً للسائل عن الاستواء-: (الاستواء معلوم، والكيف غير معقول). فأخبر أن الاستواء معلوم، والمعلوم مفهوم بلا شكّ. وكذلك الأوزاعي قد أجاب في حديث النزول أيضاً جواباً يُنبئ عن فهمه له، واعتقاده فيه. وقال أبو عيسى الترمذي رحمه الله: قال أهل العلم في حديث الصفات مثل ما ورد في حديث النزول، وذكر الرجل، والقدم، واليدين، وما أشبهه: يُؤمَن بهذا كله، ولا يُتوهَّم، ولا يُقال كيف، ولا لم، مع اعتقاد التمجيد والتنزيه عن التمثيل والتشبيه، وينسبون من أنكرها إلى الجهمية؛ لأن جهماً ردّها، والصحيح إمرارها كما جاءت، وبه قال الفقهاء مالك والشافعي وسفيان الثوري وابن عيينة وابن المبارك، وإلى ذلك ذهب البخاري وجميع المحدِّثين، وأهل العلم من السنة والجماعة من السلف والخلف رحمة الله عليهم، إلا أن الظن بهؤلاء أنهم فهموها على ما هي عليه. وفهم الشيء على ما هو عليه هو الغاية القصوى. ويكون معنى قولهم: (أمرّوها كما جاءت) نفي التعطيل، ونفي التشبيه، ونفي التأويل الخارج عن الحق. فهذه

القاضي إبراهيم بن نصر (610 هـ)

ثلاثة أقسام مذمومة، والقسم الرابع هو الحق هو الإمرار لها كما جاءت. (¬1) - وقال: فكل ما وصف الباري عز وجل به نفسه وأضافه إليه فهو الكمال واجب اعتقاده. وفي وصفه سبحانه لنفسه بما وصف به نفي لضدّه، وتنزيه عنه؛ لأنه عيب وعور ونقص. فكل من نفى الصفات، فقد نفى عن الله الكمال، وأضاف إليه العيب والنقص والعور. ومن أثبتها وشبّهها بصفات الخلق، فكذلك أيضاً؛ فإن من أوصافه عدم التشبّه، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (¬2)، فكذلك صفاته لا تشبه الخلق. فنفي الصفات إلحاد، وتشبيهها بالمحدثات إلحاد. فكما أخطأت المشبِّهة، ضلت المعطِّلة. والصراط المستقيم بينهما، وهو إثبات ونفي معاً، أي: إثبات الصفات لله عز وجل، ونفي الجسمية والمثلية عنها. (¬3) القاضي إبراهيم بن نصر (¬4) (610 هـ) إبراهيم بن نصر بن عسكر، قاضي السلامية أبو إسحاق، الملقب ظهير الدين، الشافعي الموصلي. تفقه على القاضي أبي عبد الله الحسين بن نصر بن خميس، وسمع منه، وقدم بغداد وسمع بها، وأخذ بإربل عن أبي البركات عبد الرحمن ابن محمد الأنباري النحوي. وولي قضاء السلامية (وهي بلدة بأعمال الموصل). ¬

(¬1) شرح مشكل الحديث (مخطوط). (¬2) الشورى الآية (11). (¬3) شرح مشكل الحديث (مخطوط). (¬4) وفيات الأعيان (1/ 37 - 38) وتاريخ الإسلام (حوادث 601 - 610/ص.359) والبداية والنهاية (13/ 72).

موقفه من الصوفية:

قال ابن خلكان: كان فقيها فاضلا، أصله من العراق من السندية. له شعر جيد، منه: جود الكريم إذا ما كان عن عدة ... وقد تأخر لم يسلم من الكدر إن السحائب لا تجدي بوارقها ... نفعا إذا هي لم تمطر على الأثر وما طال الوعد مذموم وإن سمحت ... يداه من بعد طول المطل بالبدر يا دوحة الجود لا عتب على رجل ... يهزها وهو محتاج إلى الثمر توفي رحمه الله يوم الخميس ثالث شهر ربيع الآخر عام عشر وستمائة بالسلامية. موقفه من الصوفية: جاء في البداية والنهاية: من شعره، في شيخ له زاوية، وفي أصحابه يقال له مكي: ألا قل لمكي قول النصوح ... وحق النصيحة أن تستمع متى سمع الناس في دينهم ... بأن الغنا سنة تتبع وأن يأكل المرء أكل البعير ... ويرقص في الجمع حتى يقع ولو كان طاوي الحشا جائعا ... لما دار من طرب واستمع وقالوا: سكرنا بحب الإله ... وما أسكر القوم إلا القصع كذاك الحمير إذا أخصبت ... يهيجها ريها والشبع تراهم يهزوا لحاهم إذا ... ترنم حاديهم بالبدع فيصرخ هذا وهذا يئن ... و «يس» لو تليت ما انصدع (¬1) ¬

(¬1) البداية والنهاية (13/ 72).

أبو الحسن علي بن الأنجب (611 هـ)

أبو الحسن علي بن الأَنْجَب (¬1) (611 هـ) الإمام الحافظ أبو الحسن علي بن القاضي الأنجب أبي المكارم اللخمي المقدسي الأصل، الإسكندراني المولد، الفقيه المالكي، القاضي. ولد ليلة السبت الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة أربع وأربعين وخمسمائة. تفقه على أبي طاهر السلفي وأبي طاهر بن عوف وأبي عبيد نعمة الله بن زيادة الله الغفاري وأحمد بن الحافظ أبي العلاء العطار وغيرهم. وأخذ عنه أبو محمد المنذري والرشيد العطار والمجد علي بن وهب بن دقيق العيد المالكي وغيرهم. قال عنه المنذري: كان متورعا حسن الأخلاق، كثير الإغضاء، جماعا لفنون من العلم. وقال عنه ابن خلكان: كان فقيها فاضلا في مذهب الإمام مالك رضي الله عنه، ومن أكابر الحفاظ المشاهير في الحديث وعلومه. وقال الذهبي: كان ذا دين وورع وتصون وعدالة وأخلاق رضية، ومشاركة في الفضل قوية. توفي في مستهل شعبان بالقاهرة سنة إحدى عشرة وستمائة. موقفه من المبتدعة: من شعره: أيا نفس بالمأثور عن خير مرسل ... وأصحابه والتابعين تمسكي عساكي إذا بالغت في نشر دينه ... بما طاب من عرف له أن تمسكي وخافي غدا يوم الحساب جهنما ... إذا لفحت نيرانها أن تمسكي (¬2) ¬

(¬1) التكملة للمنذري (2/ 306 - 307) ووفيات الأعيان (3/ 290 - 292) والبداية والنهاية (13/ 74 - 75) وسير أعلام النبلاء (22/ 66 - 69) وتاريخ الإسلام (حوادث 611 - 620/ص.79 - 81) وحسن المحاضرة (1/ 354). (¬2) البداية (13/ 74).

الكندي (613 هـ)

الكِنْدِي (¬1) (613 هـ) العلامة زيد بن الحسن بن زيد بن الحسن، تاج الدين، أبو اليمن الكندي البغدادي المقرئ النحوي اللغوي. ولد في شعبان سنة عشرين وخمسمائة. حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وكمل القراءات العشر وله عشر سنين. أخذ عن شيخه أبي محمد سبط أبي منصور الخياط، والقاضي أبي بكر محمد بن عبد الباقي وابن الجواليقي وغيرهم، وحدث عنه الحافظ عبد الغني والشيخ الموفق والبرزالي والضياء وابن نقطة. قال ابن نقطة: كان الكندي مكرما للغرباء، حسن الأخلاق، فيه مزاح، وكان من أبناء الدنيا المشتغلين بها وبإيثار مجالسة أهلها، وكان ثقة في الحديث والقراءات، صحيح السماع، سامحه الله. وقال الإمام موفق الدين: كان الكندي إماما في القراءة والعربية، انتهى إليه علو الإسناد في الحديث، وانتقل إلى مذهب أبي حنيفة من أجل الدنيا إلا أنه كان على السنة. أنشد رحمه الله في قتل عمارة اليمني حين كان مالأ الكفرة والملحدين على قتل الملك صلاح الدين: عمارة في الإسلام أبدى خيانة ... وحالف فيها بيعة وصليبا فأمسى شريك الشرك في بغض أحمد ... وأصبح في حب الصليب صليبا وكان طبيب الملتقى إن عجمته ... تجد منه عودا في النفاق صليبا توفي رحمه الله سنة ثلاث عشرة وستمائة بدمشق. ¬

(¬1) الكامل في التاريخ (12/ 315) وتاريخ ابن الوردي (2/ 192 - 193) ووفيات الأعيان (2/ 339 - 342) والجواهر المضيئة (2/ 216 - 217) وسير أعلام النبلاء (22/ 34 - 41) وتاريخ الإسلام (حوادث 611 - 620/ص.141 - 147) والبداية والنهاية (13/ 78 - 81).

موقفه من المشركين:

موقفه من المشركين: قال الذهبي: ومن شعر التاج الكندي: دع المنجم يكبو في ضلالته ... إن ادعى علم ما يجري به الفلك تفرد الله بالعلم القديم فلا ال ... إنسان يشركه فيه ولا الملك أعد للرزق من أشراكه شركا ... وبئست العدتان: الشرك والشرك (¬1) الغَزْنَوِي (¬2) (618 هـ) أحمد بن علي بن الحسين، أبو الفتح الغزنوي الأصل، البغدادي. ولد في التاسع من ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة. روى عن أبي الحسن بن صرما والأرموي وأبي سعد بن البغدادي. وروى عنه ليث بن الحافظ بن نقطة وابن النجار. وقال الدبيثي: لما بلغ أوان الرواية، واحتيج إليه لم يقم بالواجب، ولا أحب ذلك لميله إلى غيره وشنئه له، ولم يكن محمود الطريقة، وسمعنا منه على ما فيه. توفي رحمه الله في رمضان سنة ثمان عشرة وستمائة. موقفه من الرافضة والجهمية: جاء في السير: قال ابن نقطة: هو مشهور بين العوام برذائل ونقائص من شرب ورفض، ثم سئل وأنا أسمع عمن يقول: القرآن مخلوق، فقال: كافر، وعمن يسب الصحابة، فقال: كافر، وعمن يستحل شرب الخمر -وقيل: إنهم ¬

(¬1) السير (22/ 40). (¬2) التكملة للمنذري (3/ 59 - 60) والسير (22/ 103 - 104) وتاريخ الإسلام (حوادث 611 - 620/ص.390 - 391) وميزان الاعتدال (1/ 122 - 123) ولسان الميزان (1/ 232).

عبد الله بن أحمد بن قدامة (620 هـ)

يعنونك بذلك-، فقال: أنا بريء من ذلك، وكتب خطه بالبراءة. قال الذهبي: لعله تاب وارعوى. (¬1) عبد الله بن أحمد بن قدامة (¬2) (620 هـ) الشيخ الإمام القدوة العلامة المجتهد شيخ الإسلام موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي صاحب المغني، عالم أهل الشام في زمانه. ولد سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، حفظ القرآن ولزم الاشتغال بطلب العلم من صغره، وسمع من هبة الله بن الحسن الدقاق، وأبي الفتح بن البطي، وأبي زرعة وغيرهم. وحدث عنه الجمال أبو موسى بن الحافظ، وابن نقطة، والضياء، وأبو شامة. وكان من بحور العلم وأذكياء العالم، قال ابن النجار: كان إمام الحنابلة بدمشق، وكان ثقة حجة نبيلا، غزير الفضل، نزها، ورعا عابدا، على قانون السلف. قال أبو بكر بن محمد ابن غنيمة: ما أعرف أحدا في زماننا أدرك درجة الاجتهاد إلا الموفق. وصفه البهاء بالشجاعة وقال: كان يتقدم إلى العدو وجرح في كفه وكان يرامي العدو. صنف الشيخ رحمه الله التصانيف الكثيرة الحسنة في المذهب، فروعا وأصولا، وفي الحديث، واللغة، والزهد، والرقائق. وتوفي سنة عشرين وستمائة. ¬

(¬1) السير (22/ 104). (¬2) ذيل طبقات الحنابلة (2/ 133) والسير (22/ 165 - 173) وفوات الوفيات (2/ 158 - 159) والبداية والنهاية (13/ 107 - 109) وشذرات الذهب (5/ 88 - 92) والوافي (17/ 37 - 39).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: - قال عبد الله بن قدامة المقدسي في كتابه 'لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد' تحت عنوان: (الترغيب في السنة والتحذير من البدعة): وقد أمرنا بالاقتفاء لآثارهم والاهتداء بمنارهم وحذرنا المحدثات، وأخبرنا أنها من الضلالات، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» (¬1).اهـ (¬2) - وقال: ومن السنة: هجران أهل البدع، ومباينتهم، وترك الجدال والخصومات في الدين، وترك النظر في كتب المبتدعة والإصغاء إلى كلامهم، وكل محدثة في الدين بدعة. (¬3) - وقال: نسأل الله أن يعصمنا من البدع والفتنة، ويحيينا على الإسلام والسنة، ويجعلنا ممن يتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحياة، ويحشرنا في زمرته بعد الممات برحمته وفضله، آمين. (¬4) موقفه من الرافضة: - جاء في طبقات الحنابلة: سئل عن خلافة أبي بكر: ثبتت بالنص أو بالقياس؟ فأجاب ابن المتقنة: ثبتت بإجماع الصحابة واتفاقهم. فكتب الشيخ ¬

(¬1) تقدم تخريجه ضمن مواقف اللالكائي سنة (418هـ). (¬2) لمعة الاعتقاد (39). (¬3) لمعة الاعتقاد (159). (¬4) لمعة الاعتقاد (164).

موقفه من الجهمية:

الموفق (أي ابن قدامة): ثبتت بنص النبي - صلى الله عليه وسلم -، في أخبار كثيرة، ذكر بعضها. (¬1) له من الآثار السلفية: فضائل الصحابة. ذكره الذهبي في سيره (¬2) وذكره ابن رجب في ذيل الطبقات (¬3) قال: وأظنه (منهاج القاصدين في فضل الخلفاء الراشدين). موقفه من الجهمية: ترك هذا الإمام تراثا سلفيا قيما سلك فيه طريقة السلف ولم يرض بغيرها بديلا، فرضي الله عنه وأرضاه. - جاء في ذيل الطبقات: وتصانيفه في أصول الدين في غاية الحسن، أكثرها على طريقة أئمة المحدثين، مشحونة بالأحاديث والآثار وبالأسانيد، كما هي طريقة الإمام أحمد وأئمة الحديث، ولم يكن يرى الخوض مع المتكلمين في دقائق الكلام ولو كان بالرد عليهم. وهذه طريقة أحمد والمتقدمين. وكان كثير المتابعة للمنقول في باب الأصول وغيره، لا يرى إطلاق ما لم يؤثر من العبارات، ويأمر بالإقرار والإمرار لما جاء في الكتاب والسنة من الصفات من غير تفسير ولا تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تأويل ولا تعطيل. (¬4) - قال في كتاب 'إثبات صفة العلو': أما بعد، فإن الله تعالى وصف نفسه بالعلو في السماء، ووصفه بذلك رسوله خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وأجمع على ذلك جميع العلماء من الصحابة الأتقياء، والأئمة من الفقهاء، ¬

(¬1) طبقات الحنابلة (4/ 146). (¬2) (22/ 168). (¬3) (4/ 139). (¬4) ذيل طبقات الحنابلة (2/ 139).

وتواترت الأخبار في ذلك على وجه حصل به اليقين، وجمع الله -عز وجل- عليه قلوب المسلمين، وجعله مغروزا في طبائع الخلق أجمعين، فتراهم عند نزول الكرب يلحظون السماء بأعينهم، ويرفعون عندها للدعاء أيديهم، وينتظرون مجيء الفرج من ربهم سبحانه، وينطقون بذلك بألسنتهم، لا ينكر ذلك إلا مبتدع غال في بدعته، أو مفتون بتقليده واتباعه على ضلالته. - وقال في عقيدته: ومن السنة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا» (¬1) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لله أفرح بتوبة عبده» (¬2) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «يعجب ربك». (¬3) إلى أن قال: فهذا وما أشبهه مما صح سنده وعدلت رواته، نؤمن به، ولا نرده، ولا نجحده، ولا نعتقد فيه تشبيهه بصفات المخلوقين ولا سمات المحدثين، بل نؤمن بلفظه، ونترك التعرض لمعناه، قراءته تفسيره، ومن ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (¬4). وقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (¬5). ¬

(¬1) تقدم من حديث أبي هريرة. انظر مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ). (¬2) رواه أحمد (1/ 383) والبخاري (11/ 123/6308) ومسلم (4/ 2103/2744) والترمذي (4/ 568/2498) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وفي الباب عن النعمان بن بشير وأبي هريرة وأنس بن مالك والبراء بن عازب رضي الله عنهم. (¬3) أحمد (4/ 145و157 - 158) وأبو داود (2/ 9/1203) والنسائي (2/ 348/665) وابن حبان (4/ 545/1660 الإحسان) عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يعجب ربك من راعي الغنم في رأس الشظية .. » الحديث. وفي الباب عن أبي هريرة وغيره. وانظرها في السنة لابن أبي عاصم (1/ 249 - 251). (¬4) طه الآية (5). (¬5) الملك الآية (16).

وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ربنا الذي في السماء» (¬1) وقوله للجارية: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: اعتقها إنها مؤمنة. رواه مالك بن أنس وغيره من الأئمة. (¬2) وروى أبو داود في سننه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن بين سماء إلى سماء مسيرة كذا وكذا» (¬3) وذكر الحديث إلى أن قال: وفوق ذلك العرش، والله تعالى فوق ذلك نؤمن بذلك ونتلقاه بالقبول من غير رد له ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تأويل، ولا نتعرض له بكيف. ولما سئل مالك بن أنس -رضي الله عنه- فقيل له: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (¬4) كيف استوى؟ فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ثم أمر بالرجل فأخرج. (¬5) آثاره السلفية: 1 - 'مسألة العلو': ذكره ابن القيم في اجتماع الجيوش (¬6) وذكره ابن ¬

(¬1) أخرجه أبو داود (4/ 218/3892) والنسائي في الكبرى (6/ 257/10877) والحاكم (1/ 343 - 344) وقال: قد احتج الشيخان بجميع رواة هذا الحديث، غير زيادة بن محمد وهو شيخ من أهل مصر قليل الحديث وقال الذهبي في التلخيص: "قال البخاري وغيره: منكر الحديث. وفي الباب عن فضالة بن عبيد الأنصاري". (¬2) تقدم تخريجه. انظر مواقف أبي عمرو السهروردي سنة (458هـ). (¬3) أحمد (1/ 206 - 207) وأبو داود (5/ 93 - 94/ 4723) والترمذي (5/ 395 - 396/ 3320) وقال: "هذا حديث حسن غريب". وابن ماجه (1/ 69/193) والحاكم (2/ 288،412) عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وصحح إسناده. وتعقبه الذهبي بقوله: "يحيى واه" يعني: يحيى بن العلاء، وهو متروك متهم. وهذا سند ضعيف. قال الذهبي في الميزان: "عبد الله بن عميرة فيه جهالة. قال البخاري: لا يعرف له سماع من الأحنف بن قيس". (¬4) طه الآية (5). (¬5) اجتماع الجيوش (175 - 177). (¬6) (175 - 176).

موقفه من الخوارج:

رجب في ذيل طبقات الحنابلة (¬1) وذكره الذهبي في السير (¬2). 2 - 'ذم التأويل': طبع مفردا محققا، ومع مجموعة. 3 - 'مسألة تحريم النظر في كتب الكلام': ذكره ابن رجب في ذيل الطبقات (¬3). 4 - 'الاعتقاد': وقد طبع وهو عبارة عن رسالة صغيرة تسمى بـ'لمعة الاعتقاد'. نشرتها المكتبة السلفية بمصر، وقد شرحها الشيخ العثيمين رحمه الله. 5 - 'البرهان في مسألة القرآن': ذكره الذهبي في سيره (¬4) وذكره ابن رجب في ذيل الطبقات (¬5). 6 - 'جواب مسألة وردت من صرخد في القرآن': ذكره ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة (¬6). 7 - 'رسالة إلى الشيخ فخر الدين ابن تيمية في تخليد أهل البدع في النار': ذكرها ابن رجب في ذيل الطبقات (¬7). موقفه من الخوارج: قال في المغني: كتاب قتال أهل البغي: والأصل في هذا الباب قول الله ¬

(¬1) (2/ 139). (¬2) (22/ 168). (¬3) (2/ 139). (¬4) (22/ 168). (¬5) (4/ 139). (¬6) (2/ 139). (¬7) (2/ 139).

سبحانه: {وَإِنْ طائفتان مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (¬1) ففيها خمس فوائد: أحدها: أنهم لم يخرجوا بالبغي عن الإيمان، فإنه سماهم مؤمنين. الثانية: أنه أوجب قتالهم. الثالثة: أنه أسقط قتالهم إذا قاموا إلى أمر الله. الرابعة: أنه أسقط عنهم التبعة فيما أتلفوه في قتالهم. الخامسة: أن الآية أفادت جواز قتال كل من منع حقا عليه. وروى عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من أعطى إماما صفقة يده وثمرة فؤاده فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر» رواه مسلم (¬2). وروى عرفجة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ستكون هنات وهنات ورفع صوته: ألا ومن خرج على أمتي وهم جميع، فاضربوا عنقه بالسيف، كائنا من كان» (¬3). فكل من ثبتت إمامته، وجبت طاعته وحرم الخروج عليه وقتاله؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ ¬

(¬1) الحجرات الآيات (2 - 10). (¬2) أحمد (2/ 161 - 191 - 193) ومسلم (3/ 1472 - 1473/ 1844) وأبو داود (4/ 448/4248) والنسائي (7/ 172 - 173/ 4202) وابن ماجه (2/ 1306 - 1307/ 3956). (¬3) أحمد (4/ 341) ومسلم (3/ 1479/1852) وأبو داود (5/ 120/4762).

وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (¬1). وروى عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله (¬2). وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة، فمات فميتته جاهلية». رواه ابن عبد البر من حديث أبي هريرة وأبي ذر وابن عباس كلها بمعنى واحد (¬3). وأجمعت الصحابة رضي الله عنهم على قتال البغاة، فإن أبا بكر رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة، وعلي قاتل أهل الجمل وصفين وأهل النهروان. والخارجون عن قبضة الإمام أصناف أربعة: أحدهما: قوم امتنعوا وخرجوا عن طاعته وخرجوا عن قبضته بغير تأويل، فهؤلاء قطاع طريق ساعون في الأرض بالفساد، يأتي حكمهم في باب مفرد. الثاني: قوم لهم تأويل، إلا أنهم نفر يسير لا منعة لهم، كالواحد والاثنين والعشرة ونحوهم، فهؤلاء قطاع طريق، في قول أكثر أصحابنا، وهو مذهب الشافعي؛ لأن ابن ملجم لما جرح عليا قال للحسن: إن برئت رأيت رأيي، وإن مت فلا تمثلوا به. فلم يثبت لفعله حكم البغاة. ولأننا لو أثبتنا للعدد اليسير حكم ¬

(¬1) النساء الآية (59). (¬2) أحمد (3/ 441) و (5/ 314 - 318 - 319 - 321) والبخاري (13/ 238/7199 - 7200) ومسلم (3/ 1470/1709) والنسائي (7/ 155 - 156/ 4160 - 4161) وابن ماجه (2/ 957/2866). (¬3) الصواب أن ابن عبد البر قال: (وروي من حديث ... ) ولم يسقها بسنده كما يفهم من كلام ابن قدامة. انظر (1/ 130 فتح البر). أما حديث أبي هريرة فرواه: أحمد (2/ 269) ومسلم (3/ 1476/1848) والنسائي (7/ 139/4125). وأما حديث ابن عباس فرواه: أحمد (1/ 275) والبخاري (13/ 152/7143) ومسلم (3/ 1477/1849) .. وأما حديث أبي ذر فرواه: أحمد (5/ 180) وأبو داود (5/ 118/4758) وابن أبي عاصم (892 - 1053) والحاكم (1/ 117).

البغاة في سقوط ضمان ما أتلفوه، أفضى إلى إتلاف أموال الناس. وقال أبو بكر: لا فرق بين الكثير والقليل، وحكم حكم البغاة إذا خرجوا عن قبضة الإمام. الثالث: الخوارج الذين يكفرون بالذنب، ويكفرون عثمان وعليا وطلحة والزبير وكثيرا من الصحابة، ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم، إلا من خرج معهم، فظاهر قول الفقهاء من أصحابنا المتأخرين أنهم بغاة، حكمهم حكمهم. وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور الفقهاء وكثير من أهل الحديث. ومالك يرى استتابتهم، فإن تابوا وإلا قتلوا على إفسادهم لا على كفرهم. وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنهم كفار مرتدون، حكمهم حكم المرتدين، وتباح دماؤهم وأموالهم، فإن تحيزوا في مكان وكانت لهم منعة وشوكة؛ صاروا أهل حرب كسائر الكفار، وإن كانوا في قبضة الإمام استتابهم كاستتابة المرتدين، فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم، وكانت أموالهم فيئا، لا يرثهم ورثتهم المسلمين، لما روى أبو سعيد قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يخرج قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وأعمالكم مع أعمالهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في النصل فلا يرى شيئا، وينظر في القدح فلا يرى شيئا، وينظر في الريش فلا يرى شيئا، ويتمارى في الفوق» رواه مالك في موطئه والبخاري في صحيحه (¬1)، وهو حديث صحيح ثابت الإسناد، وفي لفظ قال: «يخرج قوم في آخر الزمان، أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يقرؤون ¬

(¬1) الموطأ (1/ 204 - 205/ 10) والبخاري (6/ 766/3610) ومسلم (2/ 745/1065).

القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة» رواه البخاري (¬1). وروي معناه من وجوه: خرج هذا السهم نقيا خاليا من الدم والفرث لم يتعلق منها بشيء كذلك خروج هؤلاء من الدين يعني الخوارج. وعن أبي أمامة أنه رأى رؤوسا منصوبة على درج مسجد دمشق، فقال: كلاب النار، شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه، ثم قرأ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} (¬2) إلى آخر الآية، فقيل له: أنت سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا أو أربعا حتى عد سبعا ما حدثتكموه. قال الترمذي: هذا حديث حسن، ورواه ابن ماجه عن سهل عن ابن عيينة عن أبي غالب أنه سمع أبا أمامة يقول: «شر قتلى قتلوا تحت أديم السماء، وخير قتلى من قتلوا، كلاب أهل النار، كلاب أهل النار، كلاب أهل النار، قد كان هؤلاء مسلمين فصاروا كفارا»، قلت: يا أبا أمامة هذا شيء تقوله، قال: بل سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وعن علي رضي الله عنه، في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103)} (¬4) قال: هم أهل النهروان (¬5). وعن أبي سعيد في حديث آخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: هم شر الخلق ¬

(¬1) البخاري (12/ 350/6930) ومسلم (2/ 746 - 747/ 1066 (154)) من حديث علي رضي الله عنه. (¬2) آل عمران الآية (106). (¬3) تقدم انظر مواقف أبي أمامة سنة (86هـ). (¬4) الكهف الآية (103). (¬5) أخرجه الحاكم كما في الفتح (8/ 543) وعبد الرزاق في التفسير (2/ 413).

والخليقة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد. وقال: لا يجاوز إيمانهم حناجرهم. وأكثر الفقهاء على أنهم بغاة، ولا يرون تكفيرهم. قال ابن المنذر: لا أعلم أحدا وافق أهل الحديث على تكفيرهم وجعلهم كالمرتدين. وقال ابن عبد البر: في الحديث الذي رَوَيناه: قوله: يتمارى في الفوق. يدل على أنه لم يكفرهم؛ لأنهم علقوا من الإسلام بشيء، بحيث يشك في خروجهم منه. (¬1) وروي عن علي أنه لما قاتل أهل النهر قال لأصحابه: لا تبدؤوهم بالقتال. وبعث إليهم: أقيدونا بعبد الله بن خباب. قالوا: كلنا قتله. فحينئذ استحل قتالهم لإقرارهم على أنفسهم بما يوجب قتلهم. وذكر ابن عبد البر: عن علي رضي الله عنه، أنه سئل عن أهل النهر أكفارهم؟ قال: من الكفر فروا. قيل: فمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا. قيل: فما هم؟ قال: هم قوم أصابتهم فتنة، فعموا فيها وصموا، وبغوا علينا، (وحاربونا) (¬2) وقاتلونا فقاتلناهم (¬3). ولما جرحه ابن ملجم، قال للحسن: أحسنوا إساره، فإن عشت فأنا ولي دمي، وإن مت فضربة كضربتي. وهذا رأي عمر بن عبد العزيز فيهم، وكثير من العلماء. والصحيح إن شاء الله، أن الخوارج يجوز قتلهم ابتداء، والإجازة على جريحهم، لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتلهم، ووعده بالثواب من قتلهم، فإن عليا رضي الله عنه قال: لولا أن تبطروا لحدثتكم بما وعد الله الذين يقتلونهم على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ ولأن بدعتهم وسوء فعلهم يقتضي حل دمائهم، بدليل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من عظم ذنبهم، وأنهم شر ¬

(¬1) انظر فتح البر (1/ 461). (¬2) زيادة من التمهيد. (¬3) انظر فتح البر (1/ 469).

موقفه من المرجئة:

الخلق والخليقة، وأنهم يمرقون من الدين، وأنهم كلاب النار، وحثه على قتلهم، وإخباره بأنه لو أدركهم لقتلهم قتل عاد، فلا يجوز إلحاقهم بمن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكف عنهم، وتورع كثير من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتالهم، ولا بدعة فيهم. الصنف الرابع: قوم من أهل الحق يخرجون عن قبضة الإمام، ويرومون خلعه لتأويل سائغ، وفيهم منعة يحتاج في كفهم إلى جمع الجيش، فهؤلاء البغاة، الذين نذكر في هذا الباب حكمهم، وواجب على الناس معونة إمامهم في قتال البغاة؛ لما ذكرنا في أول الباب؛ ولأنهم لو تركوا معونته لقهره أهل البغي، وظهر الفساد في الأرض. (¬1) موقفه من المرجئة: له كتاب في معتقد السلف سماه: 'لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد' قال فيه: فصل: الإيمان قول وعمل: والإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، وعقد بالجنان، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان. قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} (¬2). فجعل عبادة الله تعالى وإخلاص القلب وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة كله من الدين. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» (¬3). ¬

(¬1) المغني (12/ 237 - 242). (¬2) البينة الآية (5). (¬3) تقدم تخريجه في مواقف أبي إسحاق الفزاري سنة (186هـ).

موقفه من القدرية:

فجعل القول والعمل من الإيمان، وقال تعالى: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (¬1) وقال: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا} (¬2). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال برة، أو خردلة، أو ذرة من الإيمان» (¬3) فجعله متفاضلا. (¬4) وقال: وكل متسم بغير الإسلام والسنة مبتدع؛ كالرافضة، والجهمية والخوارج والقدرية والمرجئة، والمعتزلة والكرامية والكلابية ونظائرهم، فهذه فرق الضلال، وطوائف البدع، أعاذنا الله منها. (¬5) موقفه من القدرية: له من الآثار السلفية: 'القدر' ذكره الذهبي في السير (¬6) وابن رجب في ذيل الطبقات. (¬7) إبراهيم بن عثمان بن دِرْبَاس (¬8) (622 هـ) الإمام المحدث جلال الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان بن عيسى ابن درباس الماراني الكردي المصري. سمع من فاطمة بنت سعد الخير، ¬

(¬1) التوبة الآية (124). (¬2) الفتح الآية (4). (¬3) أحمد (3/ 116) والبخاري (1/ 138 - 139/ 44) ومسلم (1/ 182/193 (325) والترمذي (4/ 613/2593) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وابن ماجه (2/ 1442 - 1443/ 4312). (¬4) (ص.98). (¬5) (ص.161). (¬6) (22/ 168). (¬7) (4/ 139). (¬8) تاريخ الإسلام (حوادث 621 - 630/ص.98 - 99) والسير (22/ 290).

موقفه من المبتدعة:

والأرتاحي وابن طبرزد، والمؤيد الطوسي وخلق. وروى عنه الحافظ عبد العظيم وغيره. كان عارفا بمذهب الشافعي وكان خيرا صالحا زاهدا قانعا مقلا مقبلا على شأنه. توفي رحمه الله سنة اثنتين وعشرين وستمائة. موقفه من المبتدعة: جاء في مجموع الفتاوى: وقد صنف أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان بن درباس الشافعي جزءا سماه: تنزيه أئمة الشريعة عن الألقاب الشنيعة ذكر فيه كلام السلف وغيرهم في معاني هذا الباب. وذكر أن أهل البدع كل صنف منهم يلقب أهل السنة بلقب افتراه -يزعم أنه صحيح على رأيه الفاسد- كما أن المشركين كانوا يلقبون النبي بألقاب افتروها. فالروافض تسميهم نواصب، والقدرية يسمونهم مجبرة، والمرجئة تسميهم شكاكا، والجهمية تسميهم مشبهة، وأهل الكلام يسمونهم حشوية، ونوابت وغثاء، وغثرا، إلى أمثال ذلك، كما كانت قريش تسمي النبي - صلى الله عليه وسلم - تارة مجنونا، وتارة شاعرا، وتارة كاهنا، وتارة مفتريا. (¬1) المعظم عيسى بن محمد (¬2) (624 هـ) السلطان الملك المعظم شرف الدين عيسى بن محمد الحنفي الفقيه صاحب دمشق. مولده بالقصر من القاهرة في سنة ست وسبعين وخمسمائة. نشأ بالشام، وحفظ القرآن، وتفقه وبرع في المذهب. لازم تاج الدين ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (5/ 111). (¬2) وفيات الأعيان (3/ 494 - 496) وتاريخ الإسلام (حوادث 621 - 630/ص.203 - 206) والسير (22/ 120 - 122).

موقفه من المبتدعة:

الكندي مدة وسمع من عمر بن طبرزد وغيره. كان يوصف بالشجاعة والكرم والتواضع وكان عالما بعدة علوم. نفق سوق العلم في أيامه. توفي رحمه الله في سلخ ذي القعدة سنة أربع وعشرين وستمائة. موقفه من المبتدعة: جاء في السير: قال: اعتقادي في الأصول ما سطره الطحاوي. وأوصى أن لا يبنى على قبره. (¬1) التعليق: أصاب ووافق السنة، وكذا فليكن سلاطين المسلمين، وله هنات ذكرها الذهبي في السير نسأل الله أن يغفرها له. المَنْجَنِيقِي (¬2) (626 هـ) الشاعر المشهور أبو يوسف يعقوب بن صابر بن بركات الحراني ثم البغدادي، نجم الدين المنجنيقي. ولد سنة أربع وخمسين وخمسمائة. روى عن أبي منصور بن الشطرنجي وأبي المظفر بن السمرقندي، وكتب عنه ابن الحاجب وغيره. كان شيخا لطيفا، كثير التواضع والتودد، شريف النفس، طيب المحاورة، بديع النظم وكان ذا منزلة عظيمة عند الإمام الناصر. توفي في صفر سنة ست وعشرين وستمائة. موقفه من الصوفية: أنشد في الصوفية: ¬

(¬1) السير (22/ 122). (¬2) التكملة للمنذري (3/ 242) ووفيات الأعيان (7/ 35 - 46) والسير (22/ 309 - 310) وتاريخ الإسلام (حوادث 621 - 630/ص.271 - 272) والبداية والنهاية (13/ 125) وشذرات الذهب (5/ 120).

ابن القطان (628 هـ)

قد لبس الصوف لترك الصفا ... مشايخ العصر لشرب العصير الرقص والشاهد من شأنهم ... شر طويل تحت ذيل قصير (¬1) ابن القطان (¬2) (628 هـ) الشيخ الإمام العلامة الحافظ الناقد المجود القاضي أبو الحسن علي بن محمد ابن عبد الملك الحميري الكتامي المغربي الفاسي المالكي المعروف بابن القطان. سمع أبا عبد الله بن الفخار فأكثر عنه وأبا الحسن بن النقرات وأبا ذر الخشني وطائفة. قال الحافظ ابن مسدي: كان من أئمة هذا الشأن قصري الأصل مراكشي الدار، كان شيخ شيوخ أهل العلم في الدولة المؤمنية، فتمكن من الكتب وبلغ غاية الأمنية. وقال الأبار: كان من أبصر الناس بصناعة الحديث، وأحفظهم لأسماء رجاله وأشدهم عناية بالرواية. قال الذهبي: علقت من تأليفه كتاب 'الوهم والإيهام' فوائد تدل على قوة ذكائه، وسيلان ذهنه، وبصره بالعلل. توفي في ربيع الأول سنة ثمان وعشرين وستمائة. موقفه من الخوارج: قال الشوكاني (¬3): قال ابن القطان: الإجماع عندنا إجماع أهل العلم، فأما من كان من أهل الأهواء فلا مدخل له فيه. قال قال أصحابنا في الخوارج: لا ¬

(¬1) وفيات الأعيان (7/ 39). (¬2) السير (22/ 306 - 307) وشذرات الذهب (5/ 128) وتذكرة الحفاظ (4/ 1405 - 1407) وتاريخ الإسلام (45/ 321 - 322) والأعلام (4/ 331) ومعجم المؤلفين (7/ 213). (¬3) إرشاد الفحول (ص.147).

الموفق النحوي (629 هـ)

مدخل لهم في الإجماع والاختلاف لأنهم ليس لهم أصل ينقلون عنه لأنهم يكفرون سلفنا الذين أخذنا عنهم أصل الدين. الموفق النحوي (¬1) (629 هـ) الشيخ الإمام أبو محمد عبد اللطيف ابن الفقيه يوسف بن محمد بن علي بن أبي سعد الموصلي ثم البغدادي الشافعي نزيل حلب، يعرف بابن اللباد. ولد ببغداد سنة سبع وخمسين وخمسمائة. سمع من أبي زرعة المقدسي وشُهْدَة الكاتبة وأبي الحسين عبد الحق، وحدث عنه البرزالي والمنذري والشهاب القوصي. قال ابن نقطة: كان حسن الخلق، جميل الأمر، عالما بالنحو والغريبين، له يد في الطب. وهو من بيت العلم والحديث. ومن كلامه: ينبغي أن تكون سيرتك سيرة الصدر الأول، فاقرأ سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتتبع أفعاله وأحواله، واقتف آثاره، وتشبه به ما أمكنك، وإذا وقفت على سيرته في مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه ويقظته وتمرضه وتمتعه وتطيبه، ومعاملته مع ربه ومع أزواجه وأصحابه وأعدائه، وفعلت اليسير من ذلك، فأنت السعيد كل السعيد. توفي سنة تسع وعشرين وستمائة. موقفه من الجهمية: آثاره السلفية: ¬

(¬1) التكملة للمنذري (3/ 297 - 298) والسير (22/ 320 - 323) وتاريخ الإسلام (حوادث 621 - 630/ص.353) وطبقات الشافعية للسبكي (5/ 132) وطبقات الشافعية لابن كثير (2/ 817 - 819).

إدريس بن يعقوب المنصور (630 هـ)

من تصانيفه: الرد على الفخر الرازي في تفسير سورة الإخلاص فيه رد على الأشاعرة. وله مصنفات كثيرة منها: غريب الحديث، الواضحة في إعراب الفاتحة ومقالة في الرد على اليهود والنصارى. (¬1) إدريس بن يعقوب المنصور (¬2) (630 هـ) السلطان الملك المأمون أمير المؤمنين أبو العلاء إدريس بن السلطان يعقوب المنصور، كان بطلا شجاعا مهيبا، فقيها، علامة. خطب له بالخلافة بالأندلس، سنة إحدى وعشرين وستمائة، ثم خلص له الأمر وبايعه كافة الموحدين، وخطب له بحضرة مراكش، وكان جريئا وافر الجلالة، وأزال ذكر ابن تومرت من الخطبة، وأبطل القول بعصمته. مات في الغزو سنة ثلاثين وستمائة. موقفه من المبتدعة: جاء في الاعتصام: وقد كان السلطان أبو العلاء إدريس بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي منهم (¬3)، ظهر له قبح ما هم عليه من هذه الابتداعات، فأمر -حين استقر بمراكش- خليفته بإزالة جميع ما ابتدع من قبله، وكتب بذلك رسالة إلى الأقطار يأمر فيها بتغيير تلك السنة، ويوصي بتقوى الله والاستعانة به، والتوكل عليه، وأنه قد نبذ الباطل وأظهر الحق، وأن لا مهدي إلا عيسى، وأن ما ادّعوه أنه المهدي بدعة أزالها وأسقط اسم ¬

(¬1) السير (22/ 323). (¬2) شذرات الذهب (5/ 135) والسير (22/ 342 - 343) والاستقصا (2/ 231). (¬3) أي أتباع ابن تومرت الذي ادعى أنه المهدي المنتظر.

السهروردي (630 هـ)

من لا تثبت عصمته. (¬1) التعليق: رحمك الله يا أمير المؤمنين وجزاك الله خيرا على فعلك المبارك الذي كان أبوك يريد تنفيذه ولكن ادخر لك هذا الأجر، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على سعة علمك وشجاعتك، حيث لم تخش أحدا في إبطال هذه الضلالات، وأدركت أنها مجرد خداع للعامة. تنبيه: عيسى عليه السلام ليس هو المهدي المنتظر، والحديث الوارد في ذلك، قال عنه الذهبي: منكر. وقال الصغاني: موضوع. وثبتت أحاديث في المهدي نؤمن بها وليس هذا موضع بسطها. السهروردي (630 هـ) موقفه من المشركين: جاء في السير: قال ابن النجار: أملى في آخر عمره كتابا في الرد على الفلاسفة. (¬2) موقفه من الجهمية: هذا الرجل، وإن كان صوفيا في سلوكه فقد كان سلفيا في عقيدة الأسماء والصفات، له كتاب 'عقيدة أولي التقى'؛ نقل منه الحافظ في الفتح نموذجا طيبا وإليك النموذج: - جاء في الفتح: قال الشيخ شهاب الدين السهروردي في كتاب ¬

(¬1) (1/ 327). (¬2) السير (22/ 376).

الآمدي (631 هـ)

العقيدة له: أخبر الله في كتابه وثبت عن رسوله الاستواء والنزول والنفس واليد والعين فلا يتصرف فيها بتشبيه ولا تعطيل، إذ لولا إخبار الله ورسوله، ما تجاسر عقل أن يحوم حول ذلك الحمى. قال الطيبي: هذا هو المذهب المعتمد، وبه يقول السلف الصالح. (¬1) الآمدي (631 هـ) موقفه من الجهمية: قال ابن تيمية في درء التعارض: وذكر الثقة عن هذا الآمدي أنه قال: "أمعنت النظر في الكلام وما استفدت منه شيئا إلا ما عليه العوام" أو كلاما هذا معناه. (¬2) نصر بن عبد الرزاق (¬3) (633 هـ) ابن شيخ الإسلام عبد القادر بن أبي صالح. الإمام العالم، الأوحد القاضي عماد الدين أبو صالح ولد الحافظ الزاهد أبي بكر، الجيلي ثم البغدادي الأزجي الحنبلي. ولد في سنة أربع وستين وخمسمائة في ربيع الآخر. سمع من أبويه وعلي بن عساكر البطائحي، وخديجة بنت النهرواني وشُهْدَة الكاتبة، ومسلم ابن ثابت وعدة. تفقه على والده وأبي الفتح ابن المني ودرس وأفتى. حدث عنه ¬

(¬1) الفتح (13/ 390). (¬2) درء التعارض (3/ 262). (¬3) السير (22/ 396 - 399) وتاريخ الإسلام (حوادث 631 - 640/ص.173 - 175) وذيل طبقات الحنابلة (2/ 189 - 192) وشذرات الذهب (5/ 161 - 162).

موقفه من المشركين:

ابن الدبيثي، وابن النجار، وابن النابلسي وأبو الحسن بن بليان وعدة. جمع الأربعين لنفسه ودرس بمدرسة جده وبالمدرسة الشاطئة وتكلم في الوعظ، وولي القضاء للظاهر بأمر الله، وفي أوائل دولة المستنصر سار السيرة الحسنة، وسلك الطريقة المستقيمة، وأقام ناموس الشرع، ولم يحاب أحدا في دين الله ثم عزل. قال الضياء: هو فقيه كريم النفس خير. توفي رحمه الله في سادس عشر شوال سنة ثلاث وثلاثين وستمائة. موقفه من المشركين: قال الذهبي: قال ابن النجار: سمعته يقول: كنت في دار الوزير القمي، وهناك جماعة، إذ دخل رجل ذو هيئة، فقاموا له وخدموه، فقمت وظننته بعض الفقهاء، فقيل: هذا ابن كرم اليهودي عامل دار الضرب، فقلت له: تعال إلى هنا، فجاء ووقف، فقلت: ويلك، توهمتك فقيها فقمت إكراما لك، ولست -ويلك- عندي بهذه الصفة، ثم كررت ذلك عليه، وهو قائم يقول: الله يحفظك الله يبقيك ثم قلت له: اخسأ هناك بعيدا عنا، فذهب. قال: وحدثني أبو صالح أنه رُسِم له برزق من الخليفة، وأنه زار يومئذ قبر الإمام أحمد، فقيل لي: دفع رسمك إلى ابن توما النصراني، فامض إليه فخذه، فقلت: والله لا أمضي ولا أطلبه. فبقي ذلك الذهب عنده إلى أن قتل إلى لعنة الله في السنة الأخرى، وأُخِذ الذهب من داره، فنفذ إِليَّ. (¬1) ¬

(¬1) السير (22/ 398).

أبو الخطاب ابن دحية (633 هـ)

أبو الخطاب ابن دحية (633 هـ) موقفه من المبتدعة: قال أبو شامة: وأنبأنا الحافظ أبو الخطاب ابن دحية قال في كتاب 'أداء ما وجب': وقد روى الناس الاغفال في صلاة ليلة النصف من شعبان، أحاديث موضوعة، وواحدا مقطوعا وكلفوا عباد الله بالأحاديث الموضوعة فوق طاقتهم من صلاة مائة ركعة، في كل ركعة الحمد لله مرة و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} عشر مرات، فينصرفون وقد غلبهم النوم فتفوتهم صلاة الصبح التي ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من صلى الصبح فهو في ذمة الله». (¬1) وقال في كتاب 'ما جاء في شهر شعبان' من تأليفه أيضا: قال أهل التعديل والتجريح: ليس في حديث النصف من شعبان حديث يصح، فتحفظوا عباد الله من مفتر، يروي لكم حديثا يسوقه في معرض الخير، فاستعمال الخير ينبغي أن يكون مشروعا من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإذا صح أنه كذب خرج عن المشروعية وكان مستعمله من خدم الشيطان لاستعماله حديثا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينزل الله به من سلطان. ثم قال: ومما أحدثه المبتدعون، وخرجوا به عما وسمه المتشرعون، وجروا فيه على سنن المجوس، واتخذوا دينهم لهوا ولعبا: الوقيد ليلة النصف من شعبان، ولم يصح فيها شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا نطق بالصلاة فيها والإيقاد ذو صدق من الرواة، وما أحدثه إلا متلاعب بالشريعة المحمدية، ¬

(¬1) أحمد (4/ 313) ومسلم (1/ 454/657) والترمذي (1/ 434/222) من حديث جندب بن سفيان البجلي.

إسحاق بن محمد العلثي (634 هـ)

راغب في دين المجوسية، لأن النار معبودهم. وأول ما حدث ذلك في زمن البرامكة فأدخلوا في دين الإسلام ما يموهون به على الطغام، وهو جعلهم الإيقاد في شعبان، كأنه سنة من سنن الإيمان ومقصودهم عبادة النيران، وإقامة دينهم، وهو أخس الأديان، حتى إذا صلى المسلمون، وركعوا وسجدوا، كان ذلك إلى النار التي أوقدوا، ومضت على ذلك السنون والأعصار، وتبعت بغداد فيه سائر الأمصار، هذا مع ما يجتمع في تلك الليلة من الرجال والنساء واختلاطهم، فالواجب على السلطان منعهم، وعلى العالم ردعهم. وإنما شرف شعبان بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصومه، فقد صح الحديث في صيامه - صلى الله عليه وسلم - شعبان كله أو أكثره (¬1) والله أعلم. (¬2) إسحاق بن محمد العلثي (¬3) (634 هـ) إسحاق بن أحمد بن محمد بن غانم العلثي الزاهد القدوة أبو الفضل، ويقال: أبو محمد، ابن عم طلحة بن المظفر. سمع من أبي الفتح بن شاتيل، وقرأ بنفسه على ابن كليب وابن الأخضر. وحدث وسمع منه جماعة، وكان قدوة صالحا زاهدا، فقيها عالما، أمارا بالمعروف نهاء عن المنكر، لا يخاف أحدا إلا الله، ولا تأخذه في الله لومة لائم. أنكر على الخليفة الناصر فمن دونه وواجه الخليفة الناصر وصدعه بالحق. قال ناصح الدين بن الحنبلي: هو ¬

(¬1) أحمد (6/ 128) والبخاري (4/ 267/1970) ومسلم (2/ 809 - 811/ 1156) وأبو داود (2/ 813/2434) والنسائي (4/ 459 - 460/ 2178) وابن ماجه (1/ 545 - 546/ 1710). (¬2) الباعث (ص.126 - 129). (¬3) ذيل طبقات الحنابلة (2/ 205) وشذرات الذهب (5/ 123).

موقفه من الجهمية:

اليوم شيخ العراق، والقائم بالإنكار على الفقهاء والفقراء وغيرهم فيما ترخصوا فيه. وقال المنذري: قيل: إنه لم يكن في زمانه أكثر إنكارا للمنكر منه، وحبس على ذلك مدة. وقال ابن رجب: وله رسائل كثيرة إلى الأعيان بالإنكار عليهم والنصح لهم. ورأيت بخطه كتابا أرسله إلى الخليفة ببغداد. وأرسل أيضا إلى الشيخ علي بن إدريس الزاهد -صاحب الشيخ عبد القادر- رسالة طويلة، تتضمن إنكار الرقص والسماع والمبالغة في ذلك. وله في معنى ذلك عدة رسائل إلى غير واحد، وأرسل رسالة طويلة إلى الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي بالإنكار عليه فيما يقع في كلامه من الميل إلى أهل التأويل. توفي في شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وستمائة بالعلث رضي الله عنه. موقفه من الجهمية: جاء في ذيل طبقات الحنابلة: من عبيد الله إسحاق بن أحمد بن محمد بن غانم العلثي إلى عبد الرحمن بن الجوزي حمانا الله وإياه من الاستكبار عن قبول النصائح ووفقنا وإياه لاتباع السلف الصالح وبصرنا بالسنة السنية، ولا حرمنا الاهتداء باللفظات النبوية، وأعاذنا من الابتداع في الشريعة المحمدية فلا حاجة إلى ذلك فقد تركنا على بيضاء نقية. وأكمل الله لنا الدين، وأغنانا عن آراء المتنطعين، ففي كتاب الله وسنة رسوله مقنع لكل من رغب أو رهب، ورزقنا الله الاعتقاد السليم ولا حرمنا التوفيق، فإذا حرمه العبد لم ينفع التعليم، وعرفنا أقدار نفوسنا وهدانا الصراط المستقيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وفوق كل ذي علم عليم. وبعد حمد الله سبحانه والصلاة على رسوله، فلا

يخفى أن «الدين النصيحة» (¬1)، خصوصا للمولى الكريم والرب الرحيم، فكم قد زل قلم وعثر قدم وزلق متكلم، ولا يحيطون به علما قال عز من قائل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8)} (¬2). وأنت يا عبد الرحمن فما يزال يبلغ عنك ويسمع منك ويشاهد في كتبك المسموعة عليك، تذكر كثيرا ممن كان قبلك من العلماء بالخطإ، اعتقادا منك أنك تصدع بالحق، من غير محاباة، ولابد من الجريان في ميدان النصح: إما لتنتفع إن هداك الله، وإما لتركيب حجة الله عليك. ويحذر الناس قولك الفاسد، ولا يغرك كثرة اطلاعك على العلوم، فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه لا فقه له، ورب بحر كدر ونهر صاف، فلست بأعلم من الرسول حيث قال له الإمام عمر: أتصلي على ابن أبي؟ فنزل القرآن: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ} (¬3). ولو كان لا ينكر من قل علمه على من كثر علمه إذا لتعطل الأمر بالمعروف وصرنا كبني إسرائيل حيث قال تعالى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} (¬4). بل ينكر المفضول على الفاضل وينكر الفاجر على الولي -على تقدير ¬

(¬1) أخرجه أحمد (4/ 102) ومسلم (1/ 74/55) وأبو داود (5/ 233 - 234/ 4944) والنسائي (7/ 176/4208) عن تميم الداري. والحديث ذكره البخاري تعليقا (1/ 182). قال ابن حجر في الفتح: "هذا الحديث أورده المصنف هنا ترجمة باب، ولم يخرجه مسندا في هذا الكتاب لكونه على غير شرطه، ونبه بإيراده على صلاحيته في الجملة". (¬2) الحج الآية (8). (¬3) التوبة الآية (84). والحديث أخرجه أحمد (1/ 16) والبخاري (3/ 292/1366) والترمذي (5/ 260 - 261/ 3097) وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب". والنسائي (4/ 370/1965) كلهم من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول ... فذكره. وفي الباب عن عبد الله عمر رضي الله عنهما. (¬4) المائدة الآية (79).

معرفة الولي- وإلا فابن التنقا ليطلب وابن السمندل ليجلب - إلى أن قال: واعلم أنه قد كثر النكير عليك من العلماء والفضلاء والأخيار في الآفاق بمقالتك الفاسدة في الصفات، وقد أبانوا وهاء مقالتك، وحكوا عنك أنك أبيت النصيحة، فعندك من الأقوال التي لا تليق بالسنة ما يضيق الوقت عن ذكرها، فذكر عنك أنك ذكرت في الملائكة المقربين، الكرام الكاتبين، فصلا زعمت أنه مواعظ، وهو تشقيق وتفهيق، وتكلف بشع، خلا أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكلام السلف الصالح الذي لا يخالف سنة، فعمدت وجعلتها مناظرة معهم. فمن أذن لك في ذلك؟ وهم مستغفرون للذين آمنوا ولا يستكبرون عن عبادة الله. وقد قرن شهادته بشهادتهم قبل أولي العلم، وما علينا كان الآدمي أفضل منهم أم لا، فتلك مسألة أخرى. فشرعت تقول: إذا ثارت نار الحسد فمن يطفيها؟ وفي الغيبة ما فيها، مع كلام غث. أليس منا فلان؟ ومنا فلان؟ ومنا الأنبياء والأولياء. من فعل هذا من السلف قبلك؟ ولو قال لك قائل من الملائكة: أليس منكم فرعون وهامان؟ أليس منكم من ادعى الربوبية؟. فعمن أخذت هذه الأقوال المحدثة، والعبارات المزوقة، التي لا طائل تحتها وقد شغلت بها الناس عن الاشتغال بالعلم النافع. أحدهم قد أنسي القرآن وهو يعيد فضل الملائكة ومناظرتهم، ويتكلم به في الآفاق. فأين الوعظ والتذكير من هذه الأقوال الشنيعة البشعة؟ ثم تعرضت لصفات الخالق تعالى، كأنها صدرت لا من صدر سكن فيه احتشام العلي العظيم، ولا أملاها قلب مليء بالهيبة والتعظيم، بل من واقعات

النفوس البهرجية الزيوف. وزعمت أن طائفة من أهل السنة والأخيار تلقوها وما فهموا. وحاشاهم من ذلك. بل كفوا عن الثرثرة والتشدق، لا عجزا -بحمد الله- عن الجدال والخصام، ولا جهلا بطرق الكلام. وإنما أمسكوا عن الخوض في ذلك عن علم ودراية، لا عن جهل وعماية. والعجب ممن ينتحل مذهب السلف، ولا يرى الخوض في الكلام. ثم يقدم على تفسير ما لم يره أولا، ويقول: إذا قلنا كذا أدى إلى كذا، ويقيس ما ثبت من صفات الخالق على ما لم يثبت عنده. فهذا الذي نهيت عنه. وكيف تنقض عهدك وقولك بقول فلان وفلان من المتأخرين؟ فلا تشمت بنا المبتدعة فيقولون: تنسبوننا إلى البدع وأنتم أكثر بدعا منا، أفلا تنظرون إلى قول من اعتقدتم سلامة عقده، وتثبتون معرفته وفضله؟ كيف أقول ما لم يقل، فكيف يجوز أن تتبع المتكلمين في آرائهم، وتخوض مع الخائضين فيما خاضوا فيه، ثم تنكر عليهم؟ هذا من العجب العجيب. ولو أن مخلوقا وصف مخلوقا مثله بصفات من غير رؤية ولا خبر صادق، لكان كاذبا في إخباره. فكيف تصفون الله سبحانه بشيء ما وقفتم على صحته، بل بالظنون والواقعات، وتنفون الصفات التي رضيها لنفسه، وأخبر بها رسوله بنقل الثقات الأثبات، بيحتمل، ويحتمل. ثم لك في الكتاب الذي أسميته الكشف لمشكل الصحيحين مقالات عجيبة، تارة تحكيها عن الخطابي وغيره من المتأخرين، أطلع هؤلاء على الغيب؟ وأنتم تقولون: لا يجوز التقليد في هذا، ثم ذكره فلان، ذكره ابن عقيل، فنريد الدليل من الذاكر أيضا، فهو مجرد دعوى، وليس الكلام في الله

وصفاته بالهين ليلقى إلى مجاري الظنون - إلى أن قال: إذا أردت: كان ابن عقيل العالم، وإذا أردت: صار لا يفهم، أوهيت مقالته لما أردت. ثم قال: وذكرت الكلام المحدث على الحديث، ثم قلت: والذي يقع لي. فبهذا تقدم على الله، وتقول: قال علماؤنا، والذي يقع لي. تتكلمون في الله عز وجل بواقعاتكم تخبرون عن صفاته؟ ثم ما كفاك حتى قلت: هذا من تحريف بعض الرواة. تحكما من غير دليل. وما رويت عن ثقة آخر أنه قال: قد غيره الراوي فلا ينبغي بالرواة العدول: أنهم حرفوا، ولو جوزتم لهم الرواية بالمعنى، فهم أقرب إلى الإصابة منكم. وأهل البدع إذا كلما رويتم حديثا ينفرون منه، يقولون: يحتمل أنه من تغيير بعض الرواة. فإذا كان المذكور في الصحيح المنقول من تحريف بعض الرواة، فقولكم ورأيكم في هذا يحتمل أنه من رأي بعض الغواة. وتقول: قد انزعج الخطابي لهذه الألفاظ. فما الذي أزعجه دون غيره؟ ونراك تبني شيئا ثم تنقضه، وتقول قد قال فلان وفلان، وتنسب ذلك إلى إمامنا أحمد -رضي الله عنه- ومذهبه معروف في السكوت عن مثل هذا ولا يفسره، بل صحح الحديث، ومنع من تأويله. وكثير ممن أخذ عنك العلم إذا رجع إلى بيته علم بما في عيبته من العيب، وذم مقالتك وأبطلها. وقد سمعنا عنك ذلك من أعيان أصحابك المحبوبين عندك، الذين مدحتهم بالعلم، ولا غرض لهم فيك، بل أدوا النصيحة إلى عباد الله، ولك القول وضده منصوران. وكل ذلك بناء على الواقعات والخواطر. وتدعي أن الأصحاب خلطوا في الصفات، فقد قبحت أكثر منهم، وما وسعتك

السنة. فاتق الله سبحانه. ولا تتكلم فيه برأيك فهذا خبر غيب، لا يسمع إلا من الرسول المعصوم، فقد نصبتم حربا للأحاديث الصحيحة. والذين نقلوها نقلوا شرائع الإسلام. ثم لك قصيدة مسموعة عليك في سائر الآفاق، اعتقدها قوم، وماتوا بخلاف اعتقادك الآن فيما يبلغ عنك، وسمع منك، منها: ولو رأيت النار هبت، فعدت ... تحرق أهل البغي والعناد وكلما ألقى فيها حطمت ... وأهلكته، وهي في ازدياد فيضع الجبار فيها قدما ... جلت عن التشبيه بالأجساد فتنزوي من هيبته وتمتلي ... فلو سمعت صوتها ينادي حسبي حسبي قد كفاني ما أرى ... من هيبة أذهبت اشتداد فاحذر مقال مبتدع في قوله ... يروم تأويلا بكل وادي فكيف هذه الأقوال وما معناها؟ فإنا نخاف أن تحدث لنا قولا ثالثا، فيذهب الاعتقاد الأول باطلا. لقد آذيت عباد الله وأضللتهم، وصار شغلك نقل الأقوال فحسب، وابن عقيل سامحه الله قد حكي عنه أنه تاب بمحضر من علماء وقته من مثل هذه الأقوال، بمدينة السلام -عمرها الله بالإسلام والسنة- فهو بريء على هذا التقدير مما يوجد بخطه أو ينسب إليه من التأويلات والأقوال المخالفة للكتاب والسنة. وأنا وافدة الناس والعلماء والحفاظ إليك، فإما أن تنتهي عن هذه المقالات وتتوب التوبة النصوح كما تاب غيرك، وإلا كشفوا للناس أمرك، وسيروا ذلك في البلاد، وبينوا وجه الأقوال الغثة، وهذا أمر تشور فيه وقضي بليل، والأرض لا تخلو من قائم لله بحجة، والجرح لا شك مقدم على

التعديل. والله على ما نقول وكيل وقد أعذر من أنذر. وإذا تأولت الصفات على اللغة، وسوغته لنفسك وأبيت النصيحة، فليس هو مذهب الإمام الكبير أحمد بن حنبل قدس الله روحه، فلا يمكنك الانتساب إليه بهذا، فاختر لنفسك مذهبا إن مكنت من ذلك، ومازال أصحابنا يجهرون بصريح الحق في كل وقت، ولو ضربوا بالسيوف لا يخافون في الله لومة لائم، ولا يبالون بشناعة مشنع، ولا كذب كاذب، ولهم من الاسم العذب الهني وتركهم الدنيا وإعراضهم عنها اشتغالا بالآخرة، ما هو معلوم معروف. ولقد سودت وجوهنا بمقالتك الفاسدة، وانفرادك بنفسك كأنك جبار من الجبابرة. ولا كرامة لك ولا نعمى، ولا نمكنك من الجهر بمخالفة السنة، ولو استقبل من الرأي ما استدبر: لم يحك عنك كلام في السهل ولا في الجبل، ولكن قدر الله وما شاء فعل، بيننا وبينك كتاب الله وسنة رسوله قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬1). ولم يقل: إلى ابن الجوزي، وترى كل من أنكر عليك نسبته إلى الجهل، ففضل الله أوتيته وحدك؟ وإذا جهلت الناس فمن يشهد لك أنك عالم؟ ومن أجهل منك، حيث لا تصغى إلى نصيحة ناصح؟ وتقول: من كان فلان، ومن كان فلان؟ من الأئمة الذين وصل العلم إليك عنهم من أنت إذا؟ فلقد استراح من خاف مقام ربه، وأحجم عن الخوض فيما لا يعلم لئلا يندم. ¬

(¬1) النساء الآية (59).

فانتبه يا مسكين، قبل الممات، وحسن القول والعمل، فقد قرب الأجل، لله الأمر من قبل ومن بعد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. (¬1) التعليق: يستفاد من هذه الرسالة المباركة الأمور الآتية. - ما كان عليه علماء السلف من الاعتناء بعقيدتهم السلفية. - النصيحة والحرص عليها مهما كان المنصوح، صغيرا أو كبيرا، عالما أو جاهلا، حاكما أو محكوما. - تذكير الإنسان بنسبته إلى أبيه إن كان ذا أصل، أو جماعته أو عقيدته وتبيين خطر الانحراف عن هذا الأصل الطيب. - النصيحة تكون مصحوبة بالبيان الكافي للمنصوح، وبيان وجه الخطأ والصواب. - ما كان عليه أصحاب الإمام أحمد من التمسك بالعقيدة السلفية. - ذكر الشواهد الماضية وعواقبها للاعتبار والتذكير فقط. - فضل الإمام العلثي، وما كان عليه من قوة العلم والدين والعقيدة والاتباع لمنهج السلف. - حالة ابن الجوزي، وبيان اضطرابه وتقلبه وعدم ثباته، وهذا يفسر لنا ما ألفه في العقيدة وخصوصا كتابه المنشور 'دفع شبه التشبيه' وأما تفسير زاد المسير فقد بينت حاله في كتابي 'المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات ¬

(¬1) طبقات الحنابلة (4/ 205 - 211).

الأشرف موسى بن العادل (635 هـ)

الصفات'. (¬1) - رصانة أسلوب السلف وقوة حججهم وقيامهم لله بما يجب. الأشرف موسى بن العادل (¬2) (635 هـ) صاحب دمشق السلطان الملك الأشرف مظفر الدين أبو الفتح موسى شاه أرمن بن العادل. ولد بالقاهرة سنة ست وسبعين وخمسمائة. فهو من أقران أخيه المعظم. روى عن ابن طبرزد وحدث عنه أيضا القوصي في معجمه وسمع الصحيح في ثمانية أيام من ابن الزبيدي. تملك القدس ثم خلاط ثم دمشق فعدل وخفف الجور وأحبته الرعية. وكان فيه دين وخوف من الله على لعبه. وكان جوادا سمحا، فارسا شجاعا، لديه فضيلة. وكان سلطانا كريما حليما واسع الصدر كريم الأخلاق كثير العطاء، لا يوجد في خزانته شيء من المال مع اتساع مملكته، ولا تزال عليه الديون للتجار وغيرهم. وكان مليح الهيئة، حلو الشمائل. قيل ما هزمت له راية. وكان له عكوف على الملاهي والمسكر عفا الله عنه. ويبالغ في الخضوع للفقراء ويزورهم ويعطيهم، ويبعث في رمضان بالحلاوات إلى أماكن الفقراء، ويشارك في صنائع وله فهم وذكاء وسياسة. قال سبط ابن الجوزي: كان الأشرف يحضر مجالسي بحران وبخلاط ودمشق وكان ملكا عفيفا، قال لي: ما مددت عيني ¬

(¬1) (2/ 846 - 859). (¬2) السير (22/ 122 - 127) ووفيات الأعيان (5/ 330 - 336) والبداية والنهاية (13/ 157 - 159) وشذرات الذهب (5/ 175 - 177).

موقفه من الجهمية:

إلى حريم أحد قط ولا ذكر ولا أنثى. وكان يميل إلى أهل الخير والصلاح ويحسن الاعتقاد فيهم، وبنى بدمشق دار حديث، فوض تدريسها إلى الشيخ تقي الدين عثمان المعروف بابن الصلاح. وقد تاب الأشرف في مرضه وابتهل، وأكثر الذكر والاستغفار، مات في رابع المحرم سنة خمس وثلاثين وستمائة، وكان آخر كلامه: لا إله إلا الله فيما قيل. موقفه من الجهمية: - جاء في البداية والنهاية: ولما ملك دمشق في سنة ست وعشرين وستمائة، نادى مناديه فيها أن لا يشتغل أحد من الفقهاء بشيء من العلوم سوى التفسير والحديث والفقه، ومن اشتغل بالمنطق وعلوم الأوائل نفي من البلد. (¬1) - وفي السير: وكان للأشرف ميل إلى المحدثين والحنابلة، قال ابن واصل: وقعت فتنة بين الشافعية والحنابلة بسبب العقائد. قال وتعصب الشيخ عز الدين بن عبد السلام على الحنابلة، وجرت خبطة حتى كتب عز الدين رحمه الله إلى الأشرف يقع فيهم وأن الناصح ساعد على فتح باب السلامة لعسكر الظاهر والأفضل، عندما حاصروا العادل فكتب الأشرف: يا عز الدين الفتنة ساكنة لعن الله مثيرها. (¬2) - وفيها: قال: وكان أولاد العادل كلهم يكرهونه لما اشتهر عنه من علم الأوائل والمنطق، وكان يدخل على المعظم فلا يتحرك له، فقلت: قم له عوضا عني، فقال: ما يقبله قلبي. ومع ذا ولاه تدريس العزيزية، فلما مات ¬

(¬1) البداية والنهاية (13/ 158). (¬2) السير (22/ 126).

موقف السلف من ابن عربي الحاتمي (638 هـ)

أخرجه منها الأشرف، ونادى في المدارس: من ذكر غير التفسير والفقه، أو تعرض لكلام الفلاسفة نفيته، فأقام السيف -هو سيف الدين علي بن أبي علي- خاملا في بيته إلى أن مات، ودفن بتربته بقاسيون. (¬1) موقف السلف من ابن عربي الحاتمي (638 هـ) قال عنه الذهبي في السير: ... ثم تزهد وتفرد وتعبد وتوحد وسافر وتجرد، وأتهم وأنجد، وعمل الخلوات وعلق شيئا كثيرا في تصوف أهل الوحدة. (¬2) جاء في المنهاج: قال ابن عربي في 'الفصوص': وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأنبياء، وما يراه أحد من الأنبياء إلا من مشكاة خاتم الأنبياء، وما يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة خاتم الأولياء؛ حتى إن الرسل إذ رأوه لا يرونه -إذا رأوه- إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فإن الرسالة والنبوة -أعني رسالة التشريع ونبوته- تنقطعان، وأما الولاية فلا تنقطع أبدا. فالمرسلون، من كونهم أولياء، لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فكيف بمن دونهم من الأولياء؟ وإن كان خاتم الأولياء تابعا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع، فذلك لا يقدح في مقامه، ولا يناقض ما ذهبنا إليه، فإنه من وجه يكون أنزل، ومن وجه يكون أعلى. قال: ولما مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - النبوة بالحائط من اللَّبِن، فرآها قد كملت إلا ¬

(¬1) السير (22/ 365 - 366). (¬2) السير (23/ 48).

موضع لبنة، فكان هو - صلى الله عليه وسلم - موضع اللبنة (¬1). وأما خاتم الأولياء فلا بد له من هذه الرؤيا، فيرى ما مثله النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويرى نفسه في الحائط موضع لبِنتين، ويرى نفسه تنطبع في موضع تينك اللبنتين، فيكمل الحائط. والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين أن الحائط لبنة من ذهب ولبنة من فضة، واللبنة الفضة هي ظاهره وما يتبعه فيه من الأحكام، كما هو آخذ عن الله في السر ما هو في الصورة الظاهرة متبع فيه، لأنه يرى الأمر على ما هو عليه، فلابد أن يراه هكذا، وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن؛ فإنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول. (¬2) وقال ابن تيمية أيضا: ولهذا ادعى أنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك، الذي يوحى به إلى الأنبياء. والنبي عنده يأخذ من المَلَك الذي يوحى به إلى الرسل، لأن النبي عنده يأخذ من الخيالات التي تمثلت في نفسه لما صورت له المعاني العقلية في الصور الخيالية، وتلك الصور عنده هي الملائكة، وهي بزعمه تأخذ عن عقله المجرد قبل أن تصير خيالا، ولهذا يفضل الولاية على النبوة، ويقول: مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي (¬3) قال الذهبي: ومن أردإ تواليفه كتاب الفصوص، فإن كان لا كفر فيه ¬

(¬1) أخرجه أحمد (2/ 398) والبخاري (6/ 693/3535) ومسلم (4/ 1790/2286) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين». (¬2) المنهاج (5/ 336 - 338). (¬3) المنهاج (8/ 22).

فما في الدنيا كفر، نسأل الله العفو والنجاة، فواغوثاه بالله. وقال: ولا ريب أن كثيرا من عباراته له تأويل إلا كتاب الفصوص. (¬1) قال ابن تيمية: وهذا الذي ذكره الجنيد من الفرق بين القديم والمحدث والفرق بين المأمور والمحظور بهما يزول ما وقع فيه كثير من الصوفية من هذا الضلال، ولهذا كان الضلال منهم يذمون الجنيد على ذلك، كابن عربي وأمثاله، فإن له كتابا سماه 'الإسرا إلى المقام الأسرى' مضمونه حديث نفس ووساوس شيطان حصلت في نفسه، جعل ذلك معراجا كمعراج الأنبياء، وأخذ يعيب على الجنيد وعلى غيره من الشيوخ ما ذكروه وعاب على الجنيد قوله: "التوحيد إفراد الحدوث عن القدم" وقال: "قلت له يا جنيد ما يميز بين الشيئين إلا من كان خارجا عنهما، وأنت إما قديم أو محدث، فكيف تميز؟ " وهذا جهل منه؛ فإن المميز بين الشيئين هو الذي يعرف أن هذا غير هذا، ليس من شرطه أن يكون ثالثا، بل كل إنسان يميز بين نفسه وبين غيره وليس هو ثالثا. والرب سبحانه يميز بين نفسه وبين غيره وليس هناك ثالث. (¬2) وجاء في السير: وقد حكى العلامة ابن دقيق العيد شيخنا أنه سمع الشيخ عز الدين بن عبد السلام يقول عن ابن العربي: شيخ سوء كذاب، يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجا. (¬3) ومواقف سلفنا رحمهم الله كثيرة هذا بعضها، وسيأتي معنا بقية أخرى بإذن الله. ¬

(¬1) السير (23/ 49). (¬2) المنهاج (5/ 340 - 341). (¬3) السير (23/ 48 - 49).

موقف السلف من الرفيع الفيلسوف الدهري (642 هـ)

موقف السلف من الرفيع الفيلسوف الدهري (642 هـ) قال الذهبي: وقال سبط الجوزي: حدثني جماعة أعيان أن الرفيع كان فاسد العقيدة دهريا يجيئ إلى الجمعة سكران، وأن داره مثل الحانة. وحكى لي جماعة أن الوزير السامري بعث به في الليل على بغل بأكاف إلى قلعة بعلبك ونفذ به إلى مغارة أفقه فأهلكه بها، وترك أياما بلا أكل، وأشهد على نفسه ببيع أملاكه للسامري، وأنه لما عاين الموت قال: دعوني أصل، فصلى فرفسه داود من رأس شقيف فما وصل حتى تقطع، وقيل: بل تعلق ذيله بسن الجبل، فضربوه بالحجارة حتى مات. وقال رئيس النيرب: سلم الرفيع إلي وإلى سيف النقمة داود، فوصلنا به إلى شقيف فيه عين ماء فقال: دعوني أغتسل، فاغتسل وصلى ودعا فدفعه داود فما وصل إلا وقد تلف، وذلك في أول سنة اثنتين وأربعين وستمائة. (¬1) محمد بن عبد الواحد المقدسي (¬2) (643 هـ) الحافظ الكبير ضياء الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور السعدي المقدسي الصالحي الحنبلي، الشيخ الإمام الحافظ القدوة المحقق المجود الحجة بقية السلف صاحب التصانيف ¬

(¬1) السير (23/ 110 - 111). (¬2) السير (23/ 126 - 130) والوافي بالوفيات (4/ 65 - 66) والبداية والنهاية (13/ 181) وشذرات الذهب (5/ 224) وفوات الوفيات (3/ 426 - 427).

والرحلة الواسعة. شهرته تغني عن الإطناب في ذكره والإسهاب في أمره. ولد في خامس جمادى الآخرة سنة تسع وستين وخمسمائة بالدير المبارك بقاسيون. سمع من عبد الرحمن بن علي الخرقي وأبي القاسم البوصيري والقاسم ابن أبي المطهر الصيدلاني وأبي المظفر بن السمعاني وخلق كثير. وسمع منه: ابن نقطة وزكي الدين البرزالي وعبد الله بن أبي الطاهر المقدسي، وزينب بنت عبد الله بن الرضي وعدة. قال الحافظ محب الدين بن النجار في تاريخه: كتبت عنه ببغداد ونيسابور ودمشق، وهو حافظ متقن ثبت ثقة صدوق نبيل حجة عالم بالحديث وأحوال الرجال، وله مجموعات وتخريجات، وهو ورع تقي زاهد عابد محتاط في أكل الحلال مجاهد في سبيل الله، ولعمري ما رأت عيناي مثله في نزاهته وعفته وحسن سيرته وطريقته في طلب العلم. قال الذهبي رحمه الله: ولم يزل ملازما للعلم والرواية والتأليف إلى أن مات، وتصانيفه نافعة مهذبة، أنشأ مدرسة إلى جانب الجامع المظفري، وكان يبني فيها بيده. ويتقنع باليسير، ويجتهد في فعل الخير، ونشر السنة، وفيه تعبد وانجماع عن الناس، وكان كثير البر والمواساة، دائم التهجد، أمارا بالمعروف، بهي النظر، مليح الشيبة، محببا إلى الموافق والمخالف، مشتغلا بنفسه رضي الله عنه. توفي يوم الاثنين ثامن عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وأربعين وستمائة بسفح قاسيون ودفن به رحمه الله تعالى.

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: قال رحمه الله: وقد أعلم النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن كل محدثة بدعة (¬1)، وأن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة (¬2)، وأن هذه الأمة تتبع سنن من قبلها شبرا بشبر وذراعا بذارع. (¬3) وقد كثر في زماننا هذا البدع، فظهرت وعمل بها خلق كثير من الناس، وزاولها طريقا إلى الله تعالى، فمن ذلك: حضور الغناء والمزامير والرقص، ومؤاخاة النسوان، والحضور مع المُردان، حتى إن بعضهم ليرى ذلك أفضل من الصلاة وقراءة القرآن، فنعوذ بالله من الخذلان، ونستعينه على أداء الشكر وكثرة الذكر في جميع الأحيان، ونسأله بكرمه أن لا يجعل للشيطان علينا سلطانا، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} (¬4) الآية. (¬5) آثاره السلفية: 'الأمر باتباع السنن واجتناب البدع'. وهو مطبوع في جزء صغير بتحقيق الشيخ علي بن حسن بن عبد الحميد الحلبي. ¬

(¬1) تقدم تخريجه مطولا ضمن مواقف اللالكائي سنة (418هـ). (¬2) تقدم تخريجه ضمن مواقف يوسف بن أسباط سنة (195هـ). (¬3) تقدم تخريجه ضمن مواقف علي بن المديني سنة (234هـ). (¬4) المائدة الآية (41). (¬5) اتباع السنن واجتناب البدع (41).

موقفه من الرافضة:

موقفه من الرافضة: له كتاب: 'النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب'. وهو مطبوع ومتداول. موقفه من الجهمية: له من الآثار السلفية: 1 - 'جزء في أحاديث الحرف والصوت'. 2 - 'صفة النار'. جزءان 3 - 'صفة الجنة'. ثلاثة أجزاء. وذكر هذه جميعا ابن رجب في ذيل الطبقات (¬1). 4 - ذكر الحوض: ذكره الذهبي في السير (¬2) وابن رجب في ذيل الطبقات (¬3) وسماه طرق حديث الحوض النبوي. عبد الله بن محمد الحنبلي (¬4) (643 هـ) المحدث الحافظ أبو منصور عبد الله بن أبي الفضل محمد بن أبي محمد بن الوليد البغدادي أحد المكثرين والرحالين. سمع من عبد العزيز بن الأخضر وابن منينا والحافظ عبد القادر الرهاوي، وخلق. وأجاز لسليمان بن حمزة الحاكم، ¬

(¬1) (2/ 239). (¬2) (23/ 128). (¬3) (2/ 239). (¬4) السير (23/ 213 - 214) وتذكرة الحفاظ (4/ 1432) وشذرات الذهب (5/ 219) وذيل طبقات الحنابلة (2/ 233) وتاريخ الإسلام (حوادث 641 - 650/ص.172 - 173).

موقفه من الجهمية:

وأبي بكر بن أحمد بن عبد الدائم وعيسى المطعم وغيرهم من المتأخرين. قال الشريف أبو العباس الحسيني: كان حافظا مفيدا، أسمع الناس الكثير بقراءته، وكان مشهورا بسرعة القراءة وجودتها، وجمع وحدث. قال الذهبي: وهو من أئمة السنة له تواليف. توفي في ثالث جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعين وستمائة ببغداد رحمه الله تعالى. موقفه من الجهمية: له من الآثار السلفية: رسالة إلى السامري صاحب المستوعب، ينكر عليه فيها تأويله لبعض الصفات وقوله: إن أخبار الآحاد لا تثبت بها الصفات. (¬1) ابن الصّلاح (¬2) (643 هـ) الإمام، الحافظ، العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن موسى الكردي الشهرزوري الموصلي الشافعي. ولد سنة سبع وسبعين وخمسمائة بشرخان. سمع من أبي المظفر بن السمعاني بمرو ومن الإمامين فخر الدين بن عساكر وموفق الدين بن قدامة وعدة بدمشق. وحدث عنه الإمام شمس الدين بن نوح المقدسي والمحدث عبد الله بن يحيى ¬

(¬1) ذيل طبقات الحنابلة (2/ 233). (¬2) السير (23/ 140 - 144) ووفيات الأعيان (3/ 243 - 245) وتذكرة الحفاظ (4/ 1430 - 1433) والبداية والنهاية (13/ 179 - 180) وشذرات الذهب (5/ 221).

موقفه من المشركين:

الجزائري وكمال الدين أحمد بن أبي الفتح الشيباني وغيرهم. درس بالمدرسة الصلاحية ببيت المقدس مديدة ثم بالرواحية بدمشق مدة ثم بالأشرفية وكان شيخها ثم الشامية الصغرى. واشتغل وأفتى وجمع وألف، وتخرج به الأصحاب وكان من كبار الأئمة. ذكره المحدث عمر بن الحاجب في معجمه فقال: إمام ورع وافر العقل، حسن السمت، متبحر في الأصول والفروع، بالغ في الطلب حتى صار يضرب به المثل، وأجهد نفسه في الطاعة والعبادة. قال الذهبي: كان ذا جلالة عجيبة، ووقار وهيبة، وفصاحة، وعلم نافع، وكان متين الديانة سلفي الجملة، صحيح النحلة، كافا عن الخوض في مزلات الأقدام، مؤمنا بالله، وبما جاء عن الله من أسمائه ونعوته، حسن البزة، وافر الحرمة، إلى أن قال رحمه الله: وكان مع تبحره في الفقه مجودا لما ينقله، قوي المادة من اللغة والعربية، متفننا في الحديث متصونا، مكبا على العلم عديم النظير في زمانه. توفي رحمه الله يوم الأربعاء الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وستمائة. موقفه من المشركين: موقفه من كتب الفلسفة والمنطق: جاء في فتاوى ابن الصلاح: مسألة: فيمن يشتغل بالمنطق والفلسفة تعليما وتعلما، وهل المنطق جملة وتفصيلا مما أباح الشارع تعليمه وتعلمه؟ والصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون والسلف الصالحون ذكروا ذلك أو أباحوا الاشتغال به أو سوغوا الاشتغال به أم لا؟ وهل يجوز أن يستعمل في إثبات الأحكام الشرعية الاصطلاحات

المنطقية أم لا؟ وهل الأحكام الشرعية مفتقرة إلى ذلك في إثباتها أم لا؟ وما الواجب على من تلبس بتعليمه وتعلمه متظاهرا به ما الذي يجب على سلطان الوقت في أمره؟ وإذا وجد في بعض البلاد شخص من أهل الفلسفة معروفا بتعليمها وإقرائها والتصنيف فيها وهو مدرس في مدرسة من مدارس العلم، فهل يجب على سلطان تلك البلاد عزله وكفاية الناس شره؟ أجاب رضي الله عنه: الفلسفة رأس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة، ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة المؤيدة بالحجج الظاهرة والبراهين الباهرة، ومن تلبس بها تعليما وتعلما قارنه الخذلان والحرمان، واستحوذ عليه الشيطان، وأي فن أخزى من فن يعمي صاحبه -أظلم قلبه- عن نبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم - كلما ذكره ذاكر، وكلما غفل عن ذكره غافل مع انتشار آياته المستبينة، ومعجزاته المستنيرة، حتى لقد انتدب بعض العلماء لاستقصائها فجمع منها ألف معجزة، وعددناه مقصرا، إذ فوق ذلك بأضعاف لا تحصى، فإنها ليست محصورة على ما وجد منها في عصره - صلى الله عليه وسلم - بل لم تزل تتجدد بعده - صلى الله عليه وسلم - على تعاقب العصور ... وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة ومدخل الشر شر، وليس الاشتغال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشارع ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين والسلف الصالحين، وسائر من يقتدى به من أعلام الأئمة وسادتها، وأركان الأمة وقادتها، قد برأ الله الجميع من معرة ذلك وأدناسه

وطهرهم من أوضاره. وأما استعمال الاصطلاحات المنطقية في مباحث الأحكام الشرعية فمن المنكرات المستبشعة والرقاعات المستحدثة وليس بالأحكام الشرعية. والحمد لله، فالافتقار إلى المنطق أصلا، وما يزعمه المنطقي للمنطق من أمر الحد والبرهان فقعاقع قد أغنى الله عنها بالطريق الأقوم، والسبيل الأسلم الأطهر كل صحيح الذهن، لا سيما من خدم نظريات العلوم الشرعية، ولقد تمت الشريعة وعلومها، وخاض في بحار الحقائق والدقائق علماؤها حيث لا منطق ولا فلسفة ولا فلاسفة، ومن زعم أنه يشتغل مع نفسه بالمنطق والفلسفة لفائدة يزعمها، فقد خدعه الشيطان ومكر به، فالواجب على السلطان -أعزه الله وأعز به الإسلام وأهله- أن يدفع عن المسلمين شر هؤلاء المشائيم، ويخرجهم من المدارس ويبعدهم، ويعاقب على الاشتغال بفنهم، ويعرض من ظهر منه اعتقاد عقائد الفلاسفة على السيف أوالإسلام، لتخمد نارهم، وتنمحي آثارها وآثارهم، يسر الله ذلك وعجله، ومن أوجب هذا الواجب عزل من كان مدرس مدرسة من أهل الفلسفة والتصنيف فيها والإقراء لها، ثم سجنه وإلزامه منزله، ومن زعم أنه غير معتقد لعقائدهم، فإن حاله يكذبه، والطريق في قلع الشر قلع أصوله وانتصاب مثله مدرسا من العظائم جملة، والله تبارك وتعالى ولي التوفيق والعصمة وهو أعلم. (¬1) التعليق: اختص الله تعالى بإحياء الموتى من قبورهم وجعله آية لبعض الأنبياء، ¬

(¬1) فتاوى ابن الصلاح (1/ 209 - 212).

موقفه من الجهمية:

وإلا أحيينا ابن الصلاح من قبره وتجولنا به في العالم الإسلامي، وأوقفناه على جامعة انتدبت نفسها للقيام بهذه المهمة التي سل سيفه من أجلها، ولعقدنا له لقاءات مع آلاف الناس الذين يتبنون هذا الفكر الشاذ المحير والمتحير، ولمررنا به على أكبر المدارس غير التي تقدم ذكرها، والتي نصبت نفسها حامية للعلوم الشرعية، لكن جعلت من أهم مناهجها المنطق والفلسفة بل لا تدرس العقيدة، على هذا السبيل الأزهر والزيتونة والقرويين ولأوقفناه على آلاف المكتبات الخاصة والعامة، ولرأى ما يسوؤه من الحال والاعتناء بهذه العلوم الكافرة، وما أدري ماذا سيفعل الشيخ بشهادة الدكتوراه وما دونها من الشواهد في هذا الباب، التي تخول لصاحبها التدريس في الجامعات لنشر كفره وإلحاده بين أبناء الأمة الإسلامية حتى يعم الإلحاد في أرباع المعمورة. موقفه من الجهمية: قال شيخ الإسلام: إن من الحكايات المشهورة التي بلغتنا أن الشيخ أبا عمرو بن الصلاح أمر بانتزاع مدرسة معروفة من أبي الحسن الآمدي، وقال: أخذها منه أفضل من أخذ عكا. مع أن الآمدي لم يكن أحد في وقته أكثر تبحرا في العلوم الكلامية والفلسفية منه، وكان من أحسنهم إسلاما وأمثلهم اعتقادا. (¬1) موقفه من المرجئة: جاء في مجموع الفتاوى: قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله» إلى آخره؛ «والإيمان أن تؤمن بالله ¬

(¬1) الفتاوى (9/ 7).

وملائكته وكتبه ورسله» إلى آخره (¬1). قال: هذا بيان لأصل الإيمان، وهو التصديق الباطن وبيان لأصل الإسلام، وهو الاستسلام والانقياد الظاهر، وحكم الإسلام في الظاهر يثبت بالشهادتين، وإنما أضاف إليهما الأربع لكونها أظهر شعائر الإسلام ومعظمها، وبقيامه بها يتم استسلامه، وتركه لها يشعر بحل قيد انقياده أو انحلاله. ثم إن اسم الإيمان يتناول ما فسر به الإسلام في هذا الحديث. وسائر الطاعات لكونها ثمرات التصديق الباطن الذي هو أصل الإيمان، مقومات ومتممات وحافظات له، ولهذا فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان في حديث وفد عبد القيس (¬2) بالشهادتين، والصلاة والزكاة، والصوم، وإعطاء الخمس من المغنم؛ ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة أو ترك فريضة، لأن اسم الشيء الكامل يقع على الكامل منه، ولا يستعمل في الناقص ظاهرا إلا بقيد، ولذلك جاز إطلاق نفيه عنه في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» (¬3) واسم الإسلام يتناول أيضا ما هو أصل الإيمان وهو التصديق، ويتناول أصل الطاعات، فإن ذلك كله استسلام. قال: فخرج مما ذكرناه وحققناه أن الإسلام والإيمان يجتمعان ويفترقان؛ وأن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا، قال: فهذا تحقيق واف بالتوفيق بين متفرقات النصوص الواردة في الإيمان والإسلام التي طالما غلط فيها الخائضون؛ وما ¬

(¬1) تقدم تخريجه في مواقف محمد بن أسلم الطوسي سنة (242هـ). (¬2) أحمد (1/ 228) والبخاري (1/ 172/53) ومسلم (1/ 46/17) وأبو داود (4/ 94/3692) والترمذي (5/ 9 - 10/ 2611) والنسائي (8/ 495/5046) عن ابن عباس رضي الله عنهما. (¬3) تقدم تخريجه في مواقف الحسن البصري سنة (110هـ).

موقفه من القدرية:

حققناه من ذلك موافق لمذاهب جماهير العلماء من أهل الحديث وغيرهم. (¬1) موقفه من القدرية: جاء في فتاويه: مسألة: فيمن يعتقد أن في ملك الله سبحانه وتعالى ما لا يرضاه ولا يريده فهل هو مخطئ أو مصيب في هذا القول والاعتقاد أم لا؟. أجاب -رضي الله عنه-: أصاب في قوله أنه يوجد ما لا يرضاه تبارك وتعالى مثل الكفر، قال الله تعالى: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} (¬2) وضل وابتدع في قوله: أنه يوجد ما لا يريده، بل ذلك محال، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وفرق بين الرضا والإرادة، ثم ما لكم والخوض في هذا البحر المغرق. عليكم بالعمل ففيه شغل شاغل والله أعلم. (¬3) أحمد بن عيسى بن قدامة المقدسي (¬4) (643 هـ) الإمام الحافظ المتقن سيف الدين أبو العباس أحمد بن مجد الدين عيسى ابن الإمام موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الحنبلي. ولد سنة خمس وستمائة. وسمع أبا اليمن الكندي وابن ملاعب وأحمد بن عبد الله السلمي ¬

(¬1) الفتاوى (7/ 361 - 362). (¬2) الزمر الآية (7). (¬3) فتاوى ومسائل ابن الصلاح (1/ 214 - 215). (¬4) السير (23/ 118 - 119) وتاريخ الإسلام (حوادث 641 - 650/ص.152 - 153) والذيل على طبقات الحنابلة (2/ 241) والوافي بالوفيات (7/ 273) وتذكرة الحفاظ (4/ 1449 - 1447) وشذرات الذهب (5/ 217).

موقفه من الصوفية:

العطار وابن أبي لقمة، وتخرج بخاله الحافظ ضياء الدين. رحل إلى بغداد، وصنف وخرج، وكان ثقة حجة، بصيرا بالحديث ورجاله، عاملا بالأثر، صاحب عبادة وتهجد وإنابة. روى عنه أبو بكر أحمد بن محمد الدشتي وغيره. قال الذهبي: وكان ثقة ثبتا، ذكيا، سلفيا، تقيا، ذا ورع وتقوى، ومحاسنه جمة، وتعبد وتأله، ومروءة تامة، وقول بالحق، ونهي عن المنكر، ولو عاش لساد في العلم والعدل، فرحمه الله تعالى. توفي في أول شعبان سنة ثلاث وأربعين وستمائة بسفح قاسيون، وله ثمان وثلاثون سنة. موقفه من الصوفية: قال الذهبي: ألف السيف رحمه الله تعالى مجلدا كبيرا في الرد على الحافظ محمد بن طاهر المقدسي لإباحته للسماع، وفي أماكن من كتاب ابن طاهر في صفوة أهل التصوف، وقد اختصرت هذا الكتاب على مقدار الربع، وانتفعت كثيرا بتعاليق الحافظ سيف الدين. (¬1) وله أيضا مصنف في الاعتقاد، فيه آثار كثيرة وفوائد. (¬2) موقف بدر الدين صاحب الموصل من ابن عدي الضال الصوفي (644 هـ) قال الذهبي: كان هذا من رجال العالم دهاء وهمة وسموا، له فضيلة وأدب وتواليف في التصوف الفاسد، وله أتباع لا ينحصرون وجلالة عجيبة. ¬

(¬1) التذكرة (4/ 1447) وانظر ذيل طبقات الحنابلة (4/ 241). (¬2) ذيل الطبقات (4/ 241).

أبو عبد الله الطراز (645 هـ)

بلغ من تعظيمهم له أن واعظا أتاه فتكلم بين يديه، فبكى تاج العارفين وغشي عليه، فوثب كردي، وذبح الواعظ، فأفاق الشيخ فرأى الواعظ يختبط في دمه، فقال: أيش هذا؟ فقالوا: أي شيء هذا من الكلاب حتى يبكي سيدي الشيخ. وزاد تمكن الشيخ حتى خاف منه بدر الدين صاحب الموصل، فتحيل عليه حتى اصطاده، وخنقه بالموصل؛ خوفا من غائلته. وهناك جهلة يعتقدون أن الشيخ حسنا لا بد أن يرجع إلى الدنيا، وكان يلوح في نظمه بالإلحاد، ويزعم أنه رأى رب العزة عيانا، واعتقاده ضلالة. (¬1) أبو عبد الله الطَّرَّاز (¬2) (645 هـ) الإمام العلامة المقرئ محمد بن سعيد بن علي بن يوسف، أبو عبد الله الأنصاري الأندلسي الغرناطي، يعرف بالطراز. سمع أبا القاسم بن سمحون وعلي بن جابر وطائفة، وأجاز له أبو اليمن الكندي. روى عنه أبو عبد الله الطنجالي، وحميد القرطبي، وأبو إسحاق البلفيقي والكاتب أبو الحسن بن فرج. قال ابن الزبير: وكان ضابطا متقنا، ومفيدا حافلا، بارع الخط، حسن الوراقة، عارفا بالأسانيد والطرق والرجال وطبقاتهم، مقدما عارفا بالقراءات، مشاركا في علوم العربية والفقه والأصول، كاتبا نبيلا، مجموعا فاضلا ¬

(¬1) السير (23/ 223 - 224). (¬2) السير (23/ 258 - 261) وتاريخ الإسلام (حوادث 641 - 650/ص.293) والديباج المذهب (2/ 277 - 279) وغاية النهاية (2/ 144) وشجرة النور الزكية (1/ 182 - 183).

موقفه من المبتدعة:

متخلقا، ثقة عدلا، كتب بخطه كثيرا وأمهات. وقال ابن فرحون: كان رحمه الله تعالى مقرئا جليلا، ومحدثا حافلا، به ختم بالمغرب هذا الباب ألبتة. تجرد آخر عمره إلى كتاب مشارق الأنوار للقاضي عياض، وكان قد تركه في مبيضته، فجمع عليه أصولا حافلة وأمهات هائلة من الأغربة وكتب اللغات، وعكف على ذلك مدة، وبالغ في البحث والتفتيش، حتى تخلص الكتاب على أتم وجه، وبرزت محاسنه. توفي رحمه الله في شوال سنة خمس وأربعين وستمائة. موقفه من المبتدعة: جاء في السير أنه وصى أن لا يقرأ على قبره ولا يبنى عليه، وكان ممن وضع الله له ودا في قلوب عباده، معظما عند جميع الناس خصوصا في غير بلده، ولقد كان من أشد الناس غيرة على السنة وأهلها وأبغضهم في أهل الأهواء والبدع. (¬1) موقف السلف من الحريري علي بن أبي الحسن (645 هـ) قال الذهبي: قرأت بخط السيف الحافظ: كان الحريري من أفتن شيء وأضره على الإسلام، تظهر منه الزندقة والاستهزاء بالشرع، بلغني من الثقات أشياء يستعظم ذكرها من الزندقة والجرأة على الله، وكان مستخفا بأمر الصلوات. وحدثني أبو إسحاق الصريفيني، قال: قلت للحريري: ما الحجة في ¬

(¬1) السير (23/ 260).

يوسف بن خليل (648 هـ)

الرقص؟ قال: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)} (¬1) وكان يطعم وينفق ويتبعه كل مريب. شهد عليه خلق كثير بما يوجب القتل، ولم يقدم السلطان على قتله، بل سجنه مرتين ... وعندي مجموع من كلام الشيخ الحريري، فيه: إذا دخل مريدي بلاد الروم، وتنصر، وأكل الخنزير، وشرب الخمر كان في شغلي. وسأله رجل: أي الطرق أقرب إلى الله؟ قال: اترك السير وقد وصلت. وقال لأصحابه: بايعوني على أن نموت يهود ونحشر إلى النار حتى لا يصحبني أحد لعلة. وقال: لو قدم علي من قتل ولدي وهو بذلك طيب وجدني أطيب منه ... وقال علي بن أنجب في تاريخه: الفقير الحريري شيخ عجيب، كان يعاشر الأحداث، كان يقال عنه: إنه مباحي ولم تكن له مراقبة، كان يخرب، والفقهاء ينكرون فعله، وكان له قبول عظيم. وروي عن الحريري: لو ضربنا عنقك على هذا القول ولعناك لاعتقدنا أنا مصيبون ... (¬2) يوسف بن خليل (¬3) (648 هـ) الإمام المحدث الصادق الرحالة شيخ المحدثين راوية الإسلام أبو الحجاج شمس الدين يوسف بن خليل بن قراجا عبد الله الدمشقي الأدمي الإسكاف، ¬

(¬1) الزلزلة الآية (1). (¬2) السير (23/ 224 - 226). (¬3) السير (23/ 151 - 155) وتاريخ الإسلام (حوادث 641 - 650/ص.406 - 408) وتذكرة الحفاظ (4/ 1410) الذيل على طبقات الحنابلة (2/ 244 - 245) وشذرات الذهب (5/ 243 - 244).

موقفه من الصوفية:

نزيل حلب وشيخها. ولد في سنة خمس وخمسين وخمسمائة. وتشاغل بطلب الرزق حتى كبر وقارب الثلاثين ثم بعد ذلك حبب إليه الحديث. وعني بالرواية وسمع الكثير، وكتب بخطه المتقن شيئا كثيرا. وكان ذا علم حسن ومعرفة جيدة ومشاركة قوية في الإسناد والمتن. سمع من يحيى الثقفي ومحمد بن صدقة وأبي طاهر الخشوعي وأقرانهم، وصحب الحافظ عبد الغني وتخرج به مدة. ورحل إلى البلدان، وسمع بها. حدث عنه الحافظ بن الأنماطي، والبرزالي والقوصي، وابن العديم وابنه وعدة. وكان حسن الأخلاق مرضي السيرة، خرج لنفسه الثمانيات، وأجزاء عوالي كعوالي هشام بن عروة والأعمش وما اجتمع فيه أربعة من الصحابة، وكان ينطوي على سنة وخير، روى كتبا كبارا للمتقدمين، وانقطع بموته سماع أشياء كثيرة لخراب أصبهان. توفي رحمه الله تعالى في عاشر جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وستمائة وله ثلاث وتسعون سنة. موقفه من الصوفية: قال الذهبي: بلغني أنه كان يذم الحريري (الصوفي) وطريقة أصحابه. (¬1) علي بن محمد الشَّارِي (¬2) (649 هـ) الإمام الحافظ المقرئ شيخ المغرب، علي بن محمد بن يحيى، أبو الحسن الغافقي الشاري ثم السبتي، نزيل مالقة. وشارة: بليدة من عمل مرسية، شرق ¬

(¬1) السير (23/ 154). (¬2) السير (23/ 275 - 278) وتاريخ الإسلام (حوادث 641 - 650/ص.424 - 425) وغاية النهاية (1/ 574 - 575) والوافي بالوفيات (22/ 95).

موقفه من المبتدعة:

الأندلس. ولد سنة إحدى وسبعين وخمسمائة. قرأ القراءات إلا بعضها على والده وعلى يحيى بن محمد الهوزني وأبي محمد بن عبيد الله الحجري، وأخذ العربية من أبي ذر الخشني وأبي الحسن بن خروف، وأجاز له الإمام أبو زيد السهيلي. وروى عنه أبو جعفر بن الزبير وأثنى عليه، وسمع منه شيئا كثيرا. قال تلميذه ابن الزبير: وكان ثقة، متحريا، ضابطا عارفا بالأسانيد والرجال والطرق، بقية صالحة وذخيرة نافعة، رحلت إليه فقرأت عليه كثيرا، وتلوت عليه ... حسن النية، من أهل المروءة والفضل التام والدين القويم، منصفا، متواضعا، حسن الظن بالمسلمين، محبا في الحديث وأهله. وقال ابن رشيد: أحيا الشاري بسبتة العلم حيا وميتا، وحصل الكتب بأغلى الأثمان، وكان له عظمة في النفوس. توفي رحمه الله بمالقة في التاسع والعشرين من رمضان سنة تسع وأربعين وستمائة. موقفه من المبتدعة: جاء في السير: كان منافرا لأهل البدع والأهواء، معروفا بذلك ... محبا في الحديث وأهله. (¬1) موقف السلف من الخونجي محمد بن ناماور (649 هـ) قال ابن تيمية رحمه الله: والخونجي المصنف في أسرار المنطق الذي سمى كتابه 'كشف الأسرار' يقول لما حضره الموت: أموت ولم أعرف شيئا إلا أن ¬

(¬1) السير (23/ 276).

موقف السلف من سبط ابن الجوزي يوسف بن قزغلي وتلبسه بالرفض (654 هـ)

الممكن يفتقر إلى الممتنع، ثم قال: الافتقار وصف سلبي، أموت ولم أعرف شيئا - حكاه عنه التلمساني وذكر أنه سمعه منه وقت الموت. (¬1) التعليق: انظر رحمك الله إلى مآل سعي هؤلاء، كيف اغتر المساكين باتباع سراب حسبوه ماء. فجعلوا -زيفا- ينهلون منه ويرتوون، حتى إذا حضرهم الموت التفتوا يمينا وشمالا فلم يجدوا شيئا، فوجدوا الله عنده فوفاهم الحساب. نسأل الله السلامة. موقف السلف من سبط ابن الجوزي يوسف بن قزغلي وتلبسه بالرفض (654 هـ) جاء في المنهاج: ... وإن أرادَ سبَطه يوسف بن قزغلي صاحب التاريخ المسمى بـ 'مرآة الزمان' وصاحب الكتاب المصنف في 'الاثنى عشر' الذي سماه 'إعلام الخواص'، فهذا الرجل يذكر في مصنفاته أنواعا من الغث والسمين، ويحتج في أغراضه بأحاديث كثيرة ضعيفة وموضوعة، وكان يصنف بحسب مقاصد الناس: يصنف للشيعة ما يناسبهم ليعوضوه بذلك، ويُصنف على مذهب أبي حنيفة لبعض الملوك لينال بذلك أغراضه، فكانت طريقته طريقة الواعظ الذي قيل له: ما مذهبك؟ قال: في أي مدينة؟ ولهذا يوجد في بعض كتبه (ثلب) الخلفاء الراشدين وغيرهم من ¬

(¬1) درء التعارض (1/ 162).

المرسي (655 هـ)

الصحابة رضوان الله عليهم لأجل مداهنة من قصد بذلك من الشيعة، ويوجد في بعضها تعظيم الخلفاء الراشدين وغيرهم. (¬1) وجاء في الميزان: وما أظنه بثقة فيما ينقله، بل يجنف ويجازف، ثم إنه ترفض، وله مؤلف في ذلك. نسأل الله العافية. مات سنة أربع وخمسين وستمائة بدمشق، قال الشيخ محيي الدين السوسي: لما بلغ جدي موت سبط ابن الجوزي قال: لا رحمه الله، كان رافضيا. (¬2) المُرْسِي (¬3) (655 هـ) الإمام العلامة البارع القدوة المفسر المحدث النحوي ذو الفنون شرف الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن أبي الفضل السلمي المرسي الأندلسي. ولد بمرسية في أول سنة تسعين وخمسمائة. سمع الموطأ من المحدث الحجري، وسمع من ابن الفرس، وحج ثم أكثر الأسفار، وسمع من عدة مشايخ، وكتب وجمع من الكتب النفيسة كثيرا، ومهما فتح به عليه صرفه في ثمن الكتب، وكان متضلعا في العلم جيد الفهم، متين الديانة. حدث عنه ابن النجار والدمياطي والقاضي الحنبلي والفزاري وأبو الفضل الإربلي وعدة. وكان زاهدا متورعا كثير العبادة. قال أبو شامة: كان متقنا، ¬

(¬1) منهاج السنة (4/ 97 - 98). (¬2) ميزان الاعتدال (4/ 471). (¬3) معجم الأدباء (18/ 209 - 213) والسير (23/ 312 - 318) وتاريخ الإسلام (حوادث 651 - 660/ص.211 - 214) والوافي بالوفيات (3/ 354 - 355) وشذرات الذهب (5/ 269).

موقفه من الجهمية:

محقق البحث، كثير الحج، مقتصدا في أموره. وقال عمر بن الحاجب: سألت الحافظ بن عبد الواحد عن المرسي فقال: فقيه، مناظر نحوي، من أهل السنة، صحبنا في الرحلة، وما رأينا منه إلا خيرا. توفي رحمه الله تعالى في ربيع الأول سنة خمس وخمسين وستمائة. موقفه من الجهمية: قال ابن النجار: أنشدني لنفسه: من كان يرغب في النجاة فما له ... غير اتباع المصطفى فيما أتى ذاك السبيل المستقيم وغيره ... سبل الضلالة والغواية والردى فاتبع كتاب الله والسنن التي ... صحت فذاك إن اتبعت هو الهدى ودع السؤال بلم وكيف فإنه ... باب يجر ذوي البصيرة للعمى الدين ما قال الرسول وصحبه ... والتابعون ومن مناهجهم قفا (¬1) موقف السلف من ابن أبي الحديد أبي حامد عبد الحميد بن عبد الله (655 هـ) قال شيخ الإسلام: وكان ابن أبي الحديد البغدادي من فضلاء الشيعة المعتزلة المتفلسفة، وله أشعار في هذا الباب، كقوله: فيك يا أغلوطة الفكر ... حار أمري وانقضى عمري سافرت فيك العقول، فما ... ربحت إلا أذى السفر ¬

(¬1) السير (23/ 314).

الصرصري (656 هـ)

فلحى الله الألى زعموا ... أنك المعروف بالنظر كذبوا، إن الذي ذكروا ... خارج عن قوة البشر هذا مع إنشاده: وحقك لو أدخلتني النار قلت ... للذين بها: قد كنت ممن يحبه وأفنيت عمري في علوم كثيرة ... وما بغيتي إلا رضاه وقربه أما قلتم: من كان فينا مجاهدا ... سيكرم مثواه ويعذب شربه؟ أما رد شك ابن الخطيب وزيغه ... وتمويهه في الدين إذ جل خطبه وآية حب الصب أن يعذب الأسى ... إذا كان من يهوى عليه يصبه (¬1) الصرصري (¬2) (656 هـ) الشيخ العلامة القدوة أبو زكرياء يحيى بن يوسف بن يحيى الصرصري الأصل، نسبة إلى صرصر بفتح الصادين المهملتين، قرية على فرسخين من بغداد. ولد سنة ثمان وثمانين وخمسمائة. قرأ القرآن بالروايات على أصحاب ابن عساكر البطائحي وسمع الحديث من الشيخ علي بن إدريس اليعقوبي الزاهد، وأجاز له الشيخ عبد المغيث الحربي وغيره. وسمع منه الحافظ الدمياطي وحدث عنه وذكره في معجمه. إليه المنتهى في معرفة اللغة وحسن الشعر وديوانه، ومدائحه سائرة وكان حسان وقته، وكان ذكيا يتوقد نورا، وكان ¬

(¬1) درء التعارض (1/ 161). (¬2) تاريخ الإسلام (حوادث 651 - 660/ 303 - 306) وفوات الوفيات (4/ 298 - 319) والبداية (13/ 211) وشذرات اللذهب (5/ 285 - 286).

موقفه من الرافضة:

ينظم على البديهة سريعا أشياء حسنة فصيحة بليغة، وقد نظم الكافي الذي ألفه موفق الدين ابن قدامة ومختصر الخرقي، ويقال إنه كان يحفظ صحاح الجوهري بتمامه في اللغة. وكان صالحا قدوة كثير التلاوة عظيم الاجتهاد، صبورا قنوعا، وكان شديدا في السنة، منحرفا على المخالفين لها، وشعره مملوء بذكر أصول السنة ومدح أهلها وذم مخالفيها. وتوفي رحمه الله مقتولا سنة ست وخمسين وستمائة. موقفه من الرافضة: قال رحمه الله في داليته التي أولها: واها لفرط حرارة لا تبرد ... ولواعج بين الحشا تتوقد في كل يوم سنة مدروسة ... بين الأنام وبدعة تتجدد صدق النبي ولم يزل متسربلا ... بالصدق إذ يعد الجميل ويوعد إذ قال يفترق الضلال ثلاثة ... زيدت على السبعين قولا يسند وقضى بأسباب النجاة لفرقة ... تسعى بسنة مهتدين وتحفد فإن ابتغيت إلى النجاة وسيلة ... فاقبل مقالة ناصح يتقلد إياك والبدع المضلة إنها ... تهدي إلى نار الجحيم وتورد وعليك بالسنن المنيرة فاقفها ... فهي المحجة والطريق الأقصد فالأكثرون بمبدعات عقولهم ... نبذوا الهدى فتنصروا وتهودوا منهم أناس في الضلال تجمعوا ... وبسب أصحاب النبي تفردوا قد فارقوا جمع الهدى وجماعة الإسـ ... ـلام واجتنبوا الهدى وتمردوا بالله يا أنصار دين محمد ... نوجوا على الدين الحنيف وعددوا

لعبت بدينكم الروافض جهرة ... وتألبوا في دحضه وتحشدوا نصبوا حبائلهم بكل بلية ... وتغلظوا في المعضلات وشددوا ورموا خيار الخلق بالكذب الذي ... هم أهله، لا من رموه وأفسدوا عابوا الصحاب وهم أجل مراتبا ... في الفخر في أفق السماء وأمجد ولرتبة الصديق جف لسانهم ... يبغون وهي من التناول أبعد أو ما هو السباق في عرف العلى ... ولقد زكى من قبل منه المحتد ولقد أشار بذكره رب العلى ... فثناؤه في المكرمات مسدد نطق الكتاب بمجده الأعلى ففي ... آي الحديد مناقب لا تنفد (لا يستوي منكم) وفيها مقنع ... و (الليل) يثبت فضله ويؤكد و (براءة) تثني بصحبته وهل ... يزرى على الصديق إلا ملحد أو ما هو الأتقى الذي استولى عـ ... ـلى الإخلاص طارف ماله والمتلد لما مضى لسبيله خير الورى ... وحوى شمائله صفيح ملحد منع الأعاريب الزكاة لفقده ... وارتد منهم حائر متردد وتوقدت نار الضلال وخالطت ... إبليس أطماع كوامن رصد فرمى أبو بكر بصدق عزيمة ... وثبات إيمان ورأي يحمد فتمزقت عصب الضلال وأشرقت ... شمس الهدى وتقوم المتأود وهو الموفق للصواب كأنما ... ملك يصوب قوله ويسدد بوفاقه آي الكتاب تنزلت ... وبفضله نطق المشفع أحمد لو كان من بعدي نبيا كنته ... خبرا صحيحا في الرواية يسند وبعدله الأمثال تضرب في الورى ... وفتوحه في كل قطر توجد

موقفه من الجهمية:

وتمام فضلها جوار المصطفى ... في تربة فيها الملائك تحشد وتعمقوا في سب عثمان الذي ... ألفاه كُفُوًا لابنتيه محمد ولبيعة الرضوان مد شماله ... عوض اليمين وهي منه أوكد وحباه في بدر بسهم مجاهد ... إذ فاته بالعذر ذاك المشهد من هذه من بعض غر صفاته ... ما ضره ما قال فيه الحسد ثم ادعوا حب الإمام المرتضى ... هيهات مطلبهم عليهم يبعد أنى وقد جحدوا الذين بفضلهم ... أثنى أبو الحسن الإمام السيد ما في علاه مقالة لمخالف ... فمسائل الإجماع فيه تعقد ولنحن أولى بالإمام وحبه ... عقد ندين به الإله مؤكد وولاؤه لا يستقيم ببغضهم ... واضرب لهم مثلا يغيظ ويكمد مثل الذي جحد ابن مريم وادعى ... حب الكليم وتلك دعوى تفسد وبقذف عائشة الطهور تجشموا ... أمرا تظل له الفرائص ترعد تنزيهها في سبع عشرة آية ... والرافضي بضد ذلك يشهد لو أن أمر المسلمين إليهم ... لم يبق في هذي البسيطة مسجد ولو استطاعوا لا سعت بمرامهم ... قدم ولا امتدت بكفهم يد لم يبق للإسلام ما بين الورى ... علم يسود ولا لواء يعقد علقوا بحبل الكفر واعتصموا به ... والعالقون بحبله لم يسعدوا موقفه من الجهمية: كان يحيى الصرصري من الشعراء، وله قصائد كثيرة ذكر بعضها ابن

القيم في اجتماع الجيوش. (¬1) قال رحمه الله في قصيدته اللامية التي نظم فيها اعتقاد الشافعي -رضي الله عنه- التي أولها: أيشعر حزب الجهم ذاك المضلل ... بأني حرب للعدى غير أفكل تشن عليهم غيرتي وحميتي ... لدين الهدى غارات أشوس مقبل فوقع قريضي في صميم قلوبهم ... أشد عليهم من سنان ومنصل أفوق عليهم حين أنظر نحوهم ... مقاتل تصمي منهم كل مقتل هم انحرفوا عن منهج الحق سالكي ... مهالك من تحريفهم والتأول لقد برئ الحبر ابن إدريس منهم ... براءة موسى من يهود محول ويعقد عند الشافعي يمين مَنْ ... غدا حالفا بالمصحف المتقبل فهذا دليل منه إذ كان لا يرى ... انعقادا بمخلوق لخلق مؤبل ومذهبه في الاستواء كمالك ... وكالسلف الأبرار أهل التفضل ومستويا بالذات من فوق عرشه ... ولا تقل: استولى، فمن قال يبطل فذلك زنديق يقابل قسوة ... لذي خطل راوي لعيب معطل وهو بان منه خلقه وهو بائن ... من الخلق، محض للخفي مع الجلي وأقرب من حبل الوريد مفسِّرا ... وما كان معناه به العلم فاعقل علا في السماء الله فوق عباده ... دليلك في القرآن غير مقلل وإثبات إيمان الجويرية اتخذ ... دليلا عليه مسند غير مرسل (¬2) ¬

(¬1) (280 - 286). (¬2) اجتماع الجيوش الإسلامية (282).

وقال رحمه الله في قصيدته اللامية يهجو ابن خنفر الجهمي الخبيث: نبذ الكتاب وراء ظهر واقتدى ... شيخ الضلالة للصفات يعطل وعقيدة الملعون أن المصحف المكنـ ... ــون منبوذ تطؤه الأرجل ما قالت الكفار مثل مقالته ... وكذا النصارى واليهود الضلل آل الجحود به إلى واد لظى ... للغاية السفلى فبئس الموئل وزعمت أن الحنبلي مجسم ... حاشا لمثل الحنبلي يمثل بل يورد الأخبار إذ كانت تصححها ... الرواة عن الثقات وتنقل إن المهيمن ليس تمضي ليلة ... إلا وفي الأسحار فيها ينزل قد قالها خير الورى في صحبه ... لم ينكروا هذا ولم يتأولوا وتقبلوها مع غزارة علمهم ... أفأنت أم تلك العصابة أعقل (¬1) وقال رحمه الله في داليته (¬2): وأشدهم كفرا جهول يدعي ... علم الأصول وفاسق متزهد فَهُمُو وإن وهنوا أشد مضرة ... في الدين من فأر السفين وأفسد وإذا سألت فقيههم عن مذهب ... قال: اعتزال في الشريعة يلحد كالخائض الرمضاء أقلقه اللظى ... منها ففر إلى جحيم يوقد إن المقال بالاعتزال لخطة ... عمياء حل بها الغواة المرد هجموا على سبل الهدى بعقولهم ... ليلا فعاثوا في الديار وأفسدوا صم إذا ذكر الحديث لديهم ... نفروا كأن لم يسمعوه وأبعدوا ¬

(¬1) اجتماع الجيوش الإسلامية (283). (¬2) اجتماع الجيوش (285 - 286).

واضرب لهم مثل الحمير إذا رأت ... أسد العرين فهن منهم شردوا إلى أن قال: والجاحد الجهمي أسوأ منهما ... حالا وأخبث في القياس وأفسد أمسى لرب العرش قال منزها ... من أن يكون عليه رب يعبد ونفى القرآن برأيه والمصحف ... الأعلى المطهر عنده يتوسد وإذا ذكرت له على العرش استوى ... قال: هو استولى، يحيل ويخلد فإلى من الأيدي تمد تضرعا ... وبأي شيء في الدجى يتهجد ومن الذي هو للقضاء منزل ... وإليه أعمال البرية تصعد وبما ينزل جبرائيل مصدقا ... ولأي معجزة الخصوم تبلد ومن الذي استولى عليه بقهره ... إن كان فوق العرش ضد أيد جلت صفات الحق عن تأويلهم ... وتقدست عما يقول الملحد لما نفوا تنزيهه بقياسهم ... ضلوا وفاتهم الطريق الأرشد ويقول: لا سمع ولا بصر ولا ... وجه لربك، ذي الجلال ولا يد من كان هذا وصفه لإلهه ... فأراه للأصنام سرا يسجد الحق أثبتها بنص كتابه ... ورسوله، وعدا المنافق يجحد فمن الذي أولى بأخذ كلامه ... جهم أم الله العلي الأمجد والصحب لم يتأولوا لسماعها ... فهم إلى التأويل أم هو أرشد هو مشرك ويظن جهلا أنه ... في نفي أوصاف الإله موحد يدعو من اتبع الحديث مشبها ... هيهات ليس مشبها من يسند لكنه يروي الحديث كما أتى ... من غير تأويل ولا يتردد

أبو العباس بن عمر القرطبي (656 هـ)

وإذا العقائد بالضلال تخالفت ... فعقيدة المهدي أحمد أحمد هي حجة الله المنيرة فاعتصم ... بحبالها لا يلهينك مفسد إن ابن حنبل اهتدى لما اقتدى ... ومخالفوه لزيغهم لم يهتدوا ما زال يقفو راشدا أثر الهدى ... ويروم أسباب النجاة ويجهد حتى ارتقى في الدين أشرف ذروة ... ما فوقها لمن ابتغاها مصعد نصر الهدى إذ لم يقل ما لم يقل ... في فتنة نيرانها تتوقد ما صده ضرب السياط ولا ثنى ... عزماته ماضي الغرار مهند فهناه حب ليس فيه تعصب ... لكن محبة مخلص يتودد وودادنا للشافعي ومالك ... وأبي حنيفة ليس فيه تردد أبو العباس بن عمر القرطبي (¬1) (656 هـ) الفقيه المحدث أحمد بن عمر بن إبراهيم بن عمر، أبو العباس ضياء الدين الأنصاري القرطبي. ولد بقرطبة سنة ثمان وسبعين وخمسمائة. وسمع بها من علي بن محمد اليحصبي وأبي محمد بن عبد الله بن سليمان بن حوط الله، وبتلمسان من محمد بن عبد الرحمن التجيبي، وبمصر من أبي إبراهيم عوض بن محمود تقي الدين. قال الذهبي: كان بارعا في الفقه والعربية، عارفا بالحديث. وقال ابن فرحون: كان من الأئمة المشهورين والعلماء المعروفين، جامعا لمعرفة علوم، ¬

(¬1) تاريخ الإسلام (حوادث 651 - 660/ص.224 - 226) والوافي بالوفيات (7/ 264 - 265) والديباج المذهب (1/ 240) والبداية والنهاية (13/ 226) وشذرات الذهب (5/ 273 - 274).

موقفه من المبتدعة:

منها: علم الحديث والفقه والعربية وغير ذلك. أخذ عنه أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي المفسر وأبو محمد عبد المؤمن الدمياطي وأبو الحسن بن يحيى القرشي. له كتاب المفهم في شرح ما أشكل من تلخيص كتاب مسلم وتلخيص صحيح مسلم ومختصر البخاري والإعلام بمعجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرها. تنبيه: سقط القرطبي في حمأة التأويل على عادة الأشاعرة، فأول صفة العلو واليد والإصبع وغيرها. توفي رحمه الله بالإسكندرية في رابع عشر ذي القعدة سنة ست وخمسين وستمائة. موقفه من المبتدعة: - قال في مسألة قراءة القرآن بالألحان: وقد أجاز ذلك أبو حنيفة وجماعة من السلف، وقال بجوازه الشافعي في التحزين وكرهه مالك وأكثر العلماء، ولا يشك في أن موضع الخلاف في هذه المسألة إنما هو فيما إذا لم يغير التلحين لفظ القرآن بزيادة أو نقصان، أو ينبهم معناه بترديد الأصوات، والتقطيعات، وتكرر النغمات، حتى لا يفهم السامع ما يقرؤه القارئ، فهذا مما لا يشك فيه أنه حرام فأما إذا سلم من تلك الأمور، وحذا به حذو أساليب الغناء والتطريب، والتحزين فهو الذي اختلف فيه، فنقول: إن ذلك لا يجوز لوجهين: أحدهما: أن كيفية قراءة القرآن نقلت إلينا نقلاً متواتراً، وليس فيها شيء مما يشبه التلحين، ولا أساليب إنشاد الأشعار، فينبغي ألا يجوز غيرها، وإنما قلنا ذلك، لأنا قرأنا القرآن على مشايخنا، وهم العدد الكثير، والجم

الغفير، ومشايخنا على مشايخهم، وهكذا إلى العصر الكريم، وتلقينا عنهم كيفية قراءته بالمشافهة، فلو كان التلحين فيه مشروعاً لتعلموه من مشايخهم، ولنقلوه عنهم، كما نقلوا عنهم المد والقصر وما بين اللفظين والإمالة والفتح والإدغام والإظهار، وكيفية إخراج الحروف على مخارجها، فإنه لما نقله الخلف عن السلف وعلموا عليه اتصل ذلك لنا وتلقناه عنهم، وهذا جاء مع توفر الدواعي على النقل وكثرة المتعمقين من القراء الغالين في كيفية قراءته، ومع ذلك فلم ينقل عن أحد من القراء المشاهير ولا عن الرواة عنهم شيء من ذلك، فدل ذلك على أن تلحين القرآن ما كان معروفاً عندهم، ولا معمولاً به فيما بينهم، فوجب ألا يعمل به، ولا يعرج عليه، فإنه أمر محدث، «وكل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة» (¬1)، كما قاله - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) - وقال في رده لشبهة النظر إلى المعنى، وهو أنه قراءته بالألحان ينشط السامع، وتطيب له القراءة فينتفي عنه الملل ... قال: إنا لا نسلم أن كل ما استخرج خشوعاً ورقّةً وبكاءً يكون مندوباً إليه ولا مباحاً، فإن ذلك ينتقض بالأوتار وبعض المزامير، والندب في النياحة فإنها تستخرج كل ذلك، وهي محرمة. سلمنا ذلك، لكنها تجر أيضاً إلى أمور ممنوعة كما سيأتي، وإذا أمكن أن يحصل منها مصلحة ومفسدة، وليست إحداهما راجحة منع الكل اتقاءً للمفسدة، وترجيحاً لجانبها فينبغي أن لا يكون التطريب بالقرآن مشروعاً. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في مواقف القاسم بن محمد سنة (106هـ). (¬2) كشف القناع (ص.113 - 114).

سلمنا أن كل ما ذكروه من الاستدلال بالنوعين صحيح، لكنهما إنما يفيدان غلبة الظن فإنها ظواهر وقياس، غير أنهما في مقابلة المتواتر المقطوع به، وهو مما قدمناه من أن كيفية القراءة المتواترة ليس فيها تلحين ولا تطريب، فلا يكون ذلك مشروعاً، فإنها زيادة على القدر المتواتر إذ لم يقرأ بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا على من نقل القرآن عنه فيكون مقطوعاً بنفيها، وبهذه الطريق قطعنا بنفي صلاة سادسة، وبنفي ركعة رابعة في المغرب، إذ قد نقل كل ذلك بالعمل المتواتر، فليلزم نفي غيره، والله أعلم. وأما الوجه الثاني: من الوجهين السابقين، فهو أن قراءة القرآن بألحان الشعر تؤدي إلى أمور ممنوعة فيكون ممنوعاً. أولها: الزيادة والنقصان في القرآن، وذلك أن التلحين لا بد فيه من ترنين وتمطيط، وذلك يقتضي الزيادة في المدات، والحروف ولا بد فيه من تقطيع وتقصير وذلك يقتضي النقصان. وثانيها: تشبيه القرآن بالغناء الذي هو لهو ولعب وهزل، وقد نزه الله تعالى القرآن عن كل ذلك بقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14)} (¬1). وثالثها: تشبيهه بالشعر، وقد نزهه الله عن الشعر وأحواله بقوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} (¬2) وبقوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ ¬

(¬1) الطارق الآيتان (13و14). (¬2) الحاقة الآيتان (40و41).

• موقفه من الصوفية:

الشِّعْرَ} (¬1). ورابعها: أنه يؤدي إلى إبهام معانيه، وإعجامها على سامعيه، فقد سمعنا التلحين له ولم نعرف ما يقولون إلا بعد أن سمعنا كلمة أو كلمتين من القرآن، فعرفنا أن الذي يغنونه قرآن وحاشى المجيز للقراءة بالألحان من الفقهاء أن يجيز تلك القراءة الشنعاء، ولو سمع عمر بن الخطاب تلك القراءة مرة لعلا دماغ قارئها بالدرة، فقد ثبت بتلك المسائل ما ذهب إليه مالك. (¬2) • موقفه من الصوفية: - لقد أفرد الشيخ رحمه الله كتاب 'كشف القناع عن حكم الوجد والسماع' في الرد على هذه الطائفة فقال في خطبته: فاعلم وفقنا الله وإياك، إن شياطين الإنس والجان، من الزنادقة والبطالين المجان، لم يزالوا يعادون أهل الأديان على مرّ الحقب، وتوالي الأزمان، من غير فتور ولا توان، يلقون الشبه على العلماء، ويستذلون أغمار الضعفاء، فأما العلماء فلا يزالون كاشفين عن تمويههم، ومظهرين تلبيس تضليلهم، فكلما هبت رياح الباطل أسكنها زعازع الدلائل، كل ذلك وفاء بمضمون {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)} (¬3). وأما الضعفاء، فقد تم للشياطين والزنادقة عليهم مرامهم، وأصمتهم سهامهم، وجرت عليهم أحكامهم، فهم يسلكون بهم أيه سلكوا، ويهلكونهم ¬

(¬1) يس الآية (69). (¬2) كشف القناع (ص.118 - 120). (¬3) الأعراف الآية (181).

فيمن أهلكوا، حتى وسموهم وهم لا يشعرون بسمة الرعاع الغثر الذين لا يعقلون، فلما تمت عليهم حيل مكرهم، وحصلوا في قبضتهم، وأسرهم، وضحكوا منهم، وسخروا بهم، حتى انتهى الحال بطائفة من المنتمين إلى الخير، والعبادة، والزهد، والإرادة، إلى أن اعتقدوا أن الرقص بالأكمام، والاهتزاز بالأردان، على صلاصل الطارات، وتقطيع المزامير والشبابات، بأرق الأصوات والتلحينات، من أفضل العبادات، وأجلّ القربات، وزعموا أن ذلك يحصل لهم من المشاهدات السنية، والأذواق الحالية، والمكاشفات الإلهية، ما لا يصفه واصف، ولا يدرك كنهه إلا عارف، فجعلوا ذلك شعارهم، ودثارهم، وقطعوا في ذلك ليلهم ونهارهم، واكتفوا بذلك عن المجاهدات والأوراد، بل قالوا: قد وصلنا إلى المطلوب، وظفرنا بالمراد، وسموا ذلك بالسماع، وأتوا في ذلك بما تنفر عنه العقول، وتمجه الأسماع، وهذه كلها نتائج الجهل الصميم، والفهم السقيم، والطبع غير المستقيم، الجانح عن الخيرات والعبادات، الجانح إلى اللهو والشهوات، مع تزيين الشياطين المطيعة وتسويل النفوس المردية، وحيل الزنادقة المضنية، والعصمة من الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. (¬1) - وقال في السماع عند الصوفية: فأما الصوفية: فمتقدموهم كانوا يطلقون السماع على فهم يقع لأحدهم بغتة، يكون عنده وجد وغيبة، سواء كان ذلك في نظم أو نثر أو غيرهما، على ما سيأتي -إن شاء الله تعالى-. وأما عند الملقبين اليوم بالصوفية في هذه الديار، فهو عبارة عن مجموع أمور ¬

(¬1) كشف القناع عن حكم الوجد والسماع (ص.40 - 42).

جديرة بالإنكار وذلك أنهم يستدعون المعروفين بصنعة الغناء، وإن كانوا مشتهرين بالمفاسد والفحشاء ومعهم آلات اللهو المعروفة عند أهل البطالة والمجون واللغو، كالمزامير، والشبابات، والصلاصل والطارات، حتى إذا غصت المجالس بسكانها وأحضرت الأطعمة والحلاوات بألوانها، فأكلوا ملء بطونهم حتى لا يجدوا مساغاً لنفسهم ولا لمغنيهم، قد شغلهم استلذاذ تلك المآكل والنهم الذي هو أشغل شاغل عن اتقاء الحرام وخبث المواكل، فاندفع المغنون بتلك الأصوات والنغمات، وحركوا على مطابقته تلك المزامير والآلات، فحينئذٍ يذهب الحياء والوقار، ويختلط الشيوخ بالصغار، ويقوم الحاضرون على قدم، ويطربون طرب من شرب بنت الكرم، مع بنات الكرم فمنهم المشير بالأكمام والمتحرك بالأردان، والراقص رقص المجان، ومنهم من يكون له زعيق وزئير، و {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} (¬1)، لاسيما إن كان هناك شاهد، فكلهم له ساجد، وعليه متواجد ولحظ النفس الشهوانية واجد، ولتقوى الله والحياء منه فاقد، فيا للإسلام لهذا الداء العقام، كيف يرتاب أحد من عقلاء الأنام في أن مجموع هذا السماع حرام، وأن حضوره من الذنوب العظام، وإن هؤلاء على القطع والبت، كما قال الله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (¬2) لكن من غلبت عليه الأهواء، ركب عميا، وخبط خبط عشواء، ومن منع الأسماع والأبصار، ¬

(¬1) لقمان الآية (19). (¬2) المائدة الآية (42).

استوى في حقه الليل والنهار، نسأل الله تعالى الوقاية من الخذلان، وكفاية أحوال المبتدعين المجان. تنبيه: لا يخفى أن هذا السماع الذي وصفناه بجملته لا يختلف في تحريمه وفحشه، لكنا نشرع -إن شاء الله- في بيان أحكام أفراد مسائله على التفصيل، ونذكرها مسألة مسألة، فنبين منها الصحيح من السقيم، والمعوج من المستقيم، والزلال من الآل، والحرام من الحلال، فإنه قد يخالف حكم الجملة حكم الأفراد، ومن الله المعونة والإمداد، والتوفيق إلى الحق والإرشاد. (¬1) - وقال: إن الغناء على الصفة التي ذكرناها، يجر إلى ما يجر إليه الخمر من المفاسد فيكون حراماً كالخمر، وإنما قلنا ذلك، لأنه يذهب الحياء والوقار، ويخل بالعقول والفعال وكل ذلك مشاهد لمن يحضره، وذلك أنك ترى الرجل الكبير القدر العظيم المنصب على سمة العقلاء، ووقار الفضلاء وأبهة أهل الدين، وسيماء المتقين، حتى إذا حضره ولابس أهله، زال حياؤه ووقاره، وبدأ تغيره واصفراره، فيبعث بيديه ويجبذ صاحبه ويجره إليه، ويضرب برجليه، ويهز منكبيه، حتى إذا أخذ السماع منه مأخذه وخالطه وأشربه، قام فرقص رقص المجان، وتعاطى حركات المخانيث والنسوان، وربما يصعق ويصيح ويغط، ولا غطيط الذبيح، ويتغشاه غشاوات حتى يظن أنه قد مات، وقد لا يرجع إلى عقله إلا بعد أوقات، وربما ضيع واجبات، أو فرط في صلوات، حتى إذا أفاق من غشيته، وصحا من سكرته، وعاد إلى حياته وهيئته، وذكر له ما كان منه في تلك الحال خجل من ذلك، ولا خجلة من ¬

(¬1) كشف القناع عن حكم الوجد والسماع (ص.44 - 46).

قبيح الفعال، وهذه أفعال الخمر، فيلزم أن يحكم بتحريمه كما يحكم بتحريمها والله أعلم. فإن أنكر منكر أن يكون الأمر كما ذكرنا فليشاهده حتى يصح له ما وصفناه وكيف ينكر ما يشهد به العيان، ويعرفه من المباشرين له كل إنسان وقد مضى على ذلك في وصاياهم الحكماء ونظمه في شعرهم الشعراء، ولذلك قال يزيد بن الوليد: (يا بني أمية إياكم والغناء فإنه يزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر ويفعل كفعل المسكر، فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء، فإن الغناء داعية الزنا). وعلى هذا المعنى نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله لأنجشة الحادي: «رويدك رفقاً بالقوارير» (¬1) قال الراوي يعني ضعفة النساء، مع أنه حداء ليس فيه من الطرب ما في الغناء الذي فرضنا الكلام فيه، وقد صرح بعض الشعراء بهذا المعنى فقال وغنى: أتذكر ليلة وقد اجتمعنا ... على طيب السماع إلى الصباح ودارت بيننا كأس الأغاني ... فأسكرت النفوس بغير راح فلم ترفيهم إلا نشاوى ... سروراً والسرور هناك صاح إذا لبى أخو اللذات فيه ... ينادى اللهو حي على السماح ولم نملك سوى المهجات شيئاً ... أرقناها لألحاظ ملاح (¬2) ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (3/ 252) والبخاري (10/ 725/6210) ومسلم (4/ 1811/2323 (70)) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬2) كشف القناع (ص.93 - 96).

- وقال في الوجد والتواجد: التواجد: استدعاء الوجد لضرب من الاختيار، وذلك أنهم إذا اجتمعوا للسماع فمنهم المتكلف حركة ظاهرة مستجلباً بذلك حضور باطنه فيميل يميناً وشمالاً، ويترنح يميناً وشمالاً ويحرك رأسه ومنكبيه، ويضرب صدره، ويصفق بيديه إلى أن يستغرقه -بزعمه- الوجد فيغيب عن الوجد بما يلوح له من المشاهد والشهود، حتى إذا أفاق من غشيته أخذ يخبر بما لاح له في مشاهدته، فمنهم من ينطق بمثل ما منعه الكليم، ومنهم من يصرح بنفس المكالمة والتكليم، ومنهم من يشير إلى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} (¬1)، ويرمز إلى {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)} (¬2)، وربما صرح بعضهم بنفي التعداد وقضى بالاتحاد. قال الشيخ -رحمه الله-: وهذه أفعال مليمة واجتماعات ذميمة، وأحوال صادة عن اعتقادات سقيمة، فما هي إلا أهواء دحيضة وعقول مريضة، ودعوى عريضة ويدلك على ما ذكرناه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين لهم بإحسان لم يكونوا على شيء من تلك الأساليب والطرائق، ولا اقتحموا تلك المهامه والمضايق، ولا نطقوا بتلك العبارات، ولا ارتضوا تلك الإشارات، ولا اجتمعوا لذلك، ولا حوموا على شيء مما هنالك، مع أنهم قدوة العارفين، وخيرة الله من العالمين، الفاهمون عن الله، الآخذون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين اختارهم له لحمل أمانته وبيان شريعته، فلو كان الأمر على ¬

(¬1) الإسراء الآية (1). (¬2) النجم الآية (10).

ما اخترعه أصحاب التواجد، لكان أولئك الملأ أول سابق إليه وأول واجد، وتناطقوا بتلك العبارات، وأشاروا بتلك الإشارات، ولفشا ذلك في السابقين المتشرعين، كما فشا في المتأخرين المبتدعين، فلما لم يكن شيء من ذلك، علمنا أنه من المحدثات التي هي بدع وضلالات. (¬1) - قال في الفصل الثاني في بيان سماع السلف وأحوالهم عنده: اعلم وقانا الله وإياك بدع المبتدعين، ونزغات الزائغين أن سماع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، إنما كان القرآن، فإياه يتدارسون وفيه يتفاوضون، ومعانيه يتفهمون، يستعذبونه في صلواتهم، ويأنسون به في خلواتهم، ويتمسكون به في محاولاتهم ويلجؤون إليه في جميع حالاتهم، فإذا سمعوه أنصتوا إليه كما أمروا، وإذا قرؤوه تدبروا واعتبروا، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، واقتبسوا أحكامه، يتخلقون بأخلاقه، ويعملون على وفاقه، علماً منهم بأنه طريق النجاة ونيل الدرجات، وتلاوته أفضل العبادات، وأجل القربات، فإنه حبل الله المتين، والصراط المستقيم، الذي لا تزيغ به الأهواء ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد من قال به صدق ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه دعا إلى صراط مستقيم، هكذا قاله من عليه الصلاة والسلام والتسليم (¬2)، وكان لهم عند سماعه من الأحوال ما قاله ذو الجلال: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ ¬

(¬1) كشف القناع (ص.153 - 154). (¬2) حديث الحارث الأعور في فضل القرآن، وهو حديث ضعيف. أخرجه: الترمذي ((5/ 185 - 159) 2906) وقال: "هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإسناده مجهول وفي الحارث مقال". والدارمي (2/ 435).

إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} (¬1) وقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)} (¬2) وقال تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (¬3) وقال تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (¬4)، وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)} (¬5) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)} (¬6)، وقال تعالى حكاية عن الجن: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا ¬

(¬1) الأنفال الآية (2). (¬2) التوبة الآية (124). (¬3) الزمر الآية (23) .. (¬4) الرعد الآيتان (28و29). (¬5) المائدة الآية (83). (¬6) الإسراء الآيات (107 - 109).

فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)} (¬1) الآية، وقال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)} (¬2). وفي الصحيح: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى وقرأ سمع له أزيز كأزيز المرجل (¬3)، وقرأ عليه عبد الله بن مسعود سورة النساء، حتى إذا بلغ {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)} (¬4) دمعت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال له: حسبك (¬5)، وفيه عن حذيفة أنه صلى معه ليلة فقرأ فافتتح البقرة، قال حذيفة فقلت: يركع عند المائة، فمضى فقلت عند المائتين فمضى حتى ختمها ثم افتتح بسورة النساء حتى كملها ثم افتتح سورة آل عمران فختمها يقرأ مترسلاً كلما مر بآية فيه تسبيح سبح، وإذا مر بآية فيها سؤال سأل، وإذا مر بآية فيها تعوذ تعوذ. (¬6) وفي كتاب أبي داود أنه - صلى الله عليه وسلم - قام ليلة بقوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ ¬

(¬1) الأحقاف الآية (29). (¬2) الأعراف الآية (204). (¬3) أخرجه: أحمد (4/ 25،26) وأبو داود (1/ 557/904) والنسائي (3/ 18/1213) وصححه ابن حبان (3/ 30 - 31/ 753) والحاكم (1/ 264) ووافقه الذهبي من حديث عبد الله بن الشخير. (¬4) النساء الآية (41). (¬5) تقدم تخريجه في مواقف ابن مسعود رضي الله عنه سنة (32هـ) (في ترجمته). (¬6) أخرجه من حديث حذيفة: أحمد (5/ 384) ومسلم (1/ 536/772) والنسائي (3/ 250/1663). وأخرجه مختصراً: أبو داود ((1/ 543) 871) والترمذي (2/ 48 - 49/ 262 - 263) وقال: "حسن صحيح". وابن ماجه (1/ 429/1351).

عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} (¬1) فما زال يكررها حتى أصبح (¬2)، ثم قرأها في صلاة الصبح ... وقد ثبت أن بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في سرية فبات ربيئة لأصحابه فقام يصلي فجاءه العدو فرماه بسهم فأصابه فلم يتحرك من موضعه ولم يقطع صلاته، ثم رماه بسهم آخر فلم يقطع صلاته، ثم رماه فلم يقطع حتى أكمل السورة وسلم وأعلم أصحابه فعدلوه على ذلك فقال ما معناه: والله لو أتى على نفسي ما قطعت تلك السورة لأني وجدت حلاوتها. (¬3) وقد تقدم من حديث العرباض بن سارية أنه قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب. (¬4) وفي حديث حنظلة الأسيدي أنه لقيه أبو بكر وهو يقول: نافق حنظلة، فقال: مالك؟ فقال: نكون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرنا بالجنة والنار كأنهما رأي العين، فإذا خرجنا من عنده عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيراً، فقال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) المائدة الآية (118). (¬2) أخرجه: أحمد (5/ 170و177) والنسائي (2/ 519/1009) وابن ماجه (1/ 429/1350) وقال البوصيري في الزوائد: "إسناده صحيح ورجاله ثقات". وصححه الحاكم (1/ 241). ووافقه الذهبي من حديث أبي ذر رضي الله عنه. (¬3) علقه البخاري (1/ 371 (الفتح)) ووصله أحمد (3/ 343 - 344،359) وأبو داود (1/ 136 - 137/ 198) وصححه ابن حبان (3/ 375 - 376/ 1096) وابن خزيمة (1/ 24 - 25/ 36) والحاكم (1/ 156 - 157) ووافقه الذهبي من حديث جابر رضي الله عنه. وانظر صحيح أبي داود (1/ 357). (¬4) تقدم تخريجه في مواقف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة (23هـ).

موقفه من الجهمية:

فأخبراه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على طرقكم وفي فرشكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة». (¬1) فهذا سمعهم وسماعهم، وشرعهم وشراعهم، ليس فيه شيء من اللهو واللعب، ولا بين أحوالهم وأحوال المجان والمخانيث تشابه ولا سبب. (¬2) موقفه من الجهمية: قال القرطبي في المفهم في شرح حديث «إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم» (¬3): وهذا الخصم المبغوض عند الله تعالى هو الذي يقصد بخصومته: مدافعة الحق، ورده بالأوجه الفاسدة، والشبه الموهمة، وأشد ذلك الخصومة في أصول الدين، كخصومة أكثر المتكلمين المعرضين عن الطرق التي أرشد إليها كتاب الله، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وسلف أمته إلى طرق مبتدعة، واصطلاحات مخترعة، وقوانين جدلية، وأمور صناعية، مدار أكثرها على مباحث سوفسطائية، أو مناقشات لفظية ترد بشبهها على الآخذ فيها شبه ربما يعجز عنها، وشكوك يذهب الإيمان معها، وأحسنهم انفصالا عنها أجدلهم، لا أعلمهم، فكم من عالم بفساد الشبهة لا يقوى على حلها، وكم من منفصل عنها لا يدرك حقيقة علمها، ثم إن هؤلاء المتكلمين قد ارتكبوا أنواعا من المحال لا يرتضيها البله، ولا الأطفال، لما بحثوا عن تحيز الجواهر، والأكوان، ¬

(¬1) تقدم في مواقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه سنة (13هـ). (¬2) كشف القناع (ص.179 - 184). (¬3) أحمد (6/ 55) والبخاري (5/ 134/2457) ومسلم (4/ 2054/2668) والترمذي (5/ 198/2976) والنسائي (8/ 639/5438) عن عائشة رضي الله عنها.

والأحوال، ثم إنهم أخذوا يبحثون فيما أمسك عن البحث فيه السلف الصالح، ولم يوجد عنهم فيه بحث واضح، وهو كيفية تعلقات صفات الله تعالى، وتقديرها، واتخاذها في أنفسها، وأنها هي الذات، أو غيرها، وأن الكلام، هل هو متحد، أو منقسم؟ وإذا كان منقسما فهل ينقسم بالأنواع، أو بالأوصاف؟ وكيف تعلق في الأزل بالمأمور؟ ثم إذا انعدم المأمور فهل يبقى ذلك التعلق؟ وهل الأمر لزيد بالصلاة مثلا هو عين الأمر لعمرو بالزكاة؟ إلى غير ذلك من الأبحاث المبتدعة التي لم يأمر الشرع بالبحث عنها، وسكت أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن سلك سبيلهم عن الخوض فيها لعلمهم بأنها بحث عن كيفية ما لا تعلم كيفيته، فإن العقول لها حد تقف عنده، وهو العجز عن التكييف لا يتعداه، ولا فرق بين البحث في كيفية الذات، وكيفية الصفات، ولذلك قال العليم الخبير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (¬1) ولا تبادر بالإنكار فعل الأغبياء الأغمار، فإنك قد حجبت عن كيفية حقيقة نفسك مع علمك بوجودها، وعن كيفية إدراكاتك، مع أنك تدرك بها. وإذا عجزت عن إدراك كيفية ما بين جنبيك، فأنت عن إدراك ما ليس كذلك أعجز. وغاية علم العلماء، وإدراك عقول الفضلاء أن يقطعوا بوجود فاعل هذه المصنوعات منزه عن صفاتها، مقدس عن أحوالها، موصوف بصفات الكمال اللائق به. ثم مهما أخبرنا الصادقون عنه بشيء من أوصافه، وأسمائه قبلناه، ¬

(¬1) الشورى الآية (11).

واعتقدناه، وما لم يتعرضوا له سكتنا عنه، وتركنا الخوض فيه. هذه طريقة السلف، وما سواها مهاو وتلف، ويكفي في الردع عن الخوض في طرق المتكلمين ما قد ورد في ذلك عن الأئمة المتقدمين، فمن ذلك قول عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر الشغل، والدين قد فرغ منه، ليس بأمر يؤتكف على النظر فيه. وقال مالك: ليس هذا الجدال من الدين في شيء، وقال: كان يقال: لا تمكن زائغ القلب من أذنك، فإنك لا تدري ما يعلقك من ذلك. وقال الشافعي: لأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه، ما عدا الشرك، خير له من أن ينظر في علم الكلام. وإذا سمعت من يقول: الاسم هو المسمى، أو غير المسمى، فاشهد أنه من أهل الكلام، ولا دين له. قال: وحكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأخذ في الكلام. وقال الإمام أحمد بن حنبل: لا يفلح صاحب الكلام أبدا، علماء الكلام زنادقة. وقال ابن عقيل: قال بعض أصحابنا: أنا أقطع أن الصحابة رضي الله عنهم ماتوا وما عرفوا الجوهر والعرض، فإن رضيت أن تكون مثلهم فكن. وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيته. قال: وقد أفضى هذا الكلام بأهله إلى الشكوك، وبكثير منهم إلى الإلحاد، وأصل ذلك: أنهم ما قنعوا بما بعثت به الشرائع، وطلبوا الحقائق، وليس في قوة العقل إدراك ما عند الله من الحكم التي انفرد بها، ولو لم يكن في الجدال إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أنه الضلال، كما قال فيما خرجه

موقفه من الخوارج:

الترمذي: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل» (¬1). اهـ (¬2) موقفه من الخوارج: قال: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «سبق الفرث والدم». وبظاهر هذا التشبيه تمسك من حكم بتكفيرهم من أئمتنا. وقد توقف في تكفيرهم كثير من العلماء لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فيتمارى في الفوق» وهذا يقضي بأنه يشك في أمرهم فيتوقف فيهم، وكأن القول الأول أظهر من الحديث. فعلى القول بتكفيرهم: يقاتلون، ويقتلون، وتسبى أموالهم. وهو قول طائفة من أهل الحديث في أموال الخوارج. وعلى قول من لا يكفرهم: لا يجهز على جريحهم، ولا يتبع منهزمهم. ولا تقتل أسراهم ولا تستباح أموالهم. وكل هذا إذا خالفوا المسلمين، وشقوا عصاهم، ونصبوا راية الحرب. فأما من استتر ببدعته منهم، ولم ينصب راية الحرب؛ ولم يخرج عن الجماعة: فهل يقتل بعد الاستتابة، أو لا يقتل؟ وإنما يجتهد في رد بدعته، ورده عنها. اختلف في ذلك. وسبب الخلاف في تكفير من هذه حاله: أن باب التكفير باب خطير، أقدم عليه كثير من الناس فسقطوا، وتوقف فيه الفحول فسلموا، ولا نعدل بالسلامة شيئا. (¬3) وقال: وقوله: «يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان» هذا منه - صلى الله عليه وسلم - إخبار عن أمر غيب وقع على نحو ما أخبر عنه، فكان دليلا من أدلة نبوته ¬

(¬1) أحمد (5/ 252؛256) والترمذي (5/ 353/3253) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وابن ماجه (1/ 19/48) والحاكم (2/ 447 - 448) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه .. (¬2) المفهم (6/ 690 - 692). (¬3) المفهم (3/ 110 - 111).

- صلى الله عليه وسلم -، وذلك: أنهم لما حكموا بكفر من خرجوا عليه من المسلمين، استباحوا دماءهم، وتركوا أهل الذمة، وقالوا: نفي لهم بذمتهم. وعدلوا عن قتال المشركين، واشتغلوا بقتال المسلمين عن قتال المشركين. وهذا كله من آثار عبادات الجهال الذين لم يشرح الله صدورهم بنور العلم، ولم يتمسكوا بحبل وثيق، ولا صحبهم في حالهم ذلك توفيق. وكفى بذلك: أن مقدمهم رد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره، ونسبه إلى الجور، ولو تبصر لأبصر عن قرب أنه لا يتصور الظلم والجور في حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما لا يتصور في حق الله تعالى؛ إذ الموجودات كلها ملك لله تعالى، ولا يستحق أحد عليه حقا، فلا يتصور في حقه شيء من ذلك. والرسول - صلى الله عليه وسلم - مبلغ حكم الله تعالى، فلا يتصور في حقه من ذلك ما لا يتصور في حق مرسله. ويكفيك من جهلهم وغلوهم في بدعتهم حكمهم بتكفير من شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصحة إيمانه، وبأنه من أهل الجنة، كعلي وغيره من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ مع ما وقع في الشريعة، وعلم على القطع والثبات من شهادات الله ورسوله لهم، وثنائه على علي والصحابة عموما وخصوصا. (¬1) وقال: وقوله: «محلقة رؤوسهم» وفي حديث آخر: «سيماهم التحليق» أي: جعلوا ذلك علامة لهم على رفضهم زينة الدنيا. وشعارا ليعرفوا به، كما يفعل البعض من رهبان النصارى يفحصون عن أوساط رؤوسهم. وقد جاء في وصفهم مرفوعا: «سيماهم التسبيد» أي: الحلق يقال: سبد رأسه؛ إذا حلقه. وهذا كله منهم جهل بما يزهد فيه، وما لا يزهد فيه، وابتداع منهم في ¬

(¬1) المفهم (3/ 114 - 115).

موقفه من المرجئة:

دين الله تعالى شيئا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدون وأتباعهم على خلافه. فلم يرو عن واحد منهم: أنهم اتسموا بذلك، ولا حلقوا رؤوسهم، في غير إحلال، ولا حاجة. (¬1) موقفه من المرجئة: قال رحمه الله: ولأهل العلم فيه تأويلان: أحدهما: أن هذا العموم يراد به الخصوص ممن يعفو الله تعالى عنه من أهل الكبائر، ممن يشاء الله تعالى أن يغفر له ابتداء؛ من غير توبة كانت منهم ولا سبب يقتضي ذلك، غير محض كرم الله تعالى وفضله، كما دل عليه قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬2). وهذا على مذهب أهل السنة والجماعة خلافا للمبتدعة المانعين تَفَضُّلَ الله تعالى بذلك، وهو مذهب مردود بالأدلة القطعية العقلية والنقلية، وبَسْط ذلك في علم الكلام. وثانيهما: أنهم لا يُحجبون عن الجنة بعد الخروج من النار. وتكون فائدته الإخبار بخلود كل من دخل الجنة فيها، وأنه لا يُحجب عنها، ولا عن شيء من نعيمها، والله تعالى أعلم. (¬3) وقال: ومن باب: لا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين، بل لا بد من استيقان القلب هذه الترجمة تنبيه على فساد مذهب غلاة المرجئة القائلين: إن التلفظ ¬

(¬1) المفهم (3/ 122). (¬2) النساء الآية (48). (¬3) المفهم (1/ 199 - 200).

بالشهادتين كاف في الإيمان، وأحاديث هذا الباب تدل على فساده، بل هو مذهب معلوم الفساد من الشريعة لمن وقف عليها، ولأنه يلزم منه تسويغ النفاق، والحكم للمنافق بالإيمان الصحيح، وهو باطل قطعاً. (¬1) وقال أيضا: وقوله في حديث معاذ: «ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا حرّمه الله على النار» (¬2) هكذا وقع هذا الحديث في كتاب مسلم عن جميع رواته فيما علمته، وقد زاد البخاري فيه: «صدقاً من قلبه» وهي زيادة حسنة تنص على صحة ما تضمّنته الترجمة المتقدمة، وعلى فساد مذهب المرجئة كما قد قدّمناه. (¬3) وقال: قوله عليه الصلاة والسلام وقد سُئل عن أفضل الأعمال: «الإيمان بالله» يدل على أن الإيمان من جملة الأعمال وهو داخل فيها، وهو إطلاق صحيح لغة وشرعا، فإنه عمل القلب وكسبه، وقد بينا أن الإيمان هو التصديق بالقلب، وأنه منقسم إلى ما يكون عن برهان وعن غير برهان، ولا يُلتفت لخلاف مَن قال: إن الإيمان لا يُسمى عملاً؛ لجهله بما ذكرناه، ولا يخفى أن الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال كلها؛ لأنه متقدم عليها، وشرط في صحتها، ولأنه من الصفات المتعلقة، وشرفها بحسب متعلقاتها، ومتعلق الإيمان هو الله تعالى وكتبه ورسله. ولا أشرف من ذلك، فلا أشرف في الأعمال من الإيمان ولا أفضل منه. (¬4) ¬

(¬1) المفهم (1/ 204). (¬2) أخرجه البخاري (1/ 300 - 301/ 128) ومسلم (1/ 61/32). (¬3) المفهم (1/ 208). (¬4) المفهم (1/ 275).

موقف السلف من الوزير ابن العلقمي الرافضي (656 هـ)

وقال: قوله: «اعط فلاناً فإنه مؤمن فقال: "أو مسلم"» دليل على صحة ما قدمناه من الفرق بين حقيقتي الإيمان والإسلام، وأن الإيمان من أعمال الباطن، وأن الإسلام من أعمال الجوارح الظاهرة، وفيه رد على غلاة المرجئة والكرامية؛ حيث حكموا بصحة الإيمان لمن نطق بالشهادتين وإن لم يعتقد بقلبه، وهو قول باطل قطعا؛ لأنه تسويغ للنفاق، وفيه حجة لمن يقول: "أنا مؤمن" بغير استثناء، وهي مسألة اختلف فيها السلف، فمنهم المجيز والمانع، وسبب الخلاف النظر إلى الحال أو إلى المآل، فمن مَنَعَ خاف من حصول شك في الحال أو تزكية، ومن أجاز صرف الاستثناء إلى الاستقبال، وهو غيب في الحال، إذ لا يدري بما يختم له، والصواب: الجواز إذا أمن الشك والتزكية، فإنه تفويض إلى الله تعالى. (¬1) موقف السلف من الوزير ابن العلقمي الرافضي (656 هـ) جاء في البداية والنهاية: ... وذلك كله عن آراء الوزير ابن العلقمي الرافضي، وذلك أنه لما كان في السنة الماضية كان بين أهل السنة والرافضة حرب عظيمة، نهبت فيها الكرخ ومحلة الرافضة، حتى نهبت دور قرابات الوزير. فاشتد حنقه على ذلك فكان هذا مما أهاجه على أن دبر على الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع، الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ بنيت بغداد، ¬

(¬1) المفهم (1/ 366).

وإلى هذه الأوقات. ولهذا كان أول من برز إلى التتار هو، فخرج بأهله وأصحابه وخدمه وحشمه فاجتمع بالسلطان هولاكو خان -لعنه الله- ثم أعاد فأشار على الخليفة بالخروج إليه والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم، ونصفه للخليفة. فاحتاج الخليفة إلى أن خرج في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والصوفية، ورؤوس الأمراء والدولة والأعيان، فلما اقتربوا من منزل السلطان هلاكوخان حجبوا عن الخليفة إلا سبعة عشر نفسا، فخلص الخليفة بهؤلاء المذكورين، وأنزل الباقون عن مراكبهم ونهبت وقتلوا عن آخرهم، وأحضر الخليفة بين يدي هولاكو فسأله عن أشياء كثيرة، فيقال إنه اضطرب كلام الخليفة من هول ما رأى من الإهانة والجبروت ثم عاد إلى بغداد وفي صحبته خوجة نصير الدين الطوسي والوزير ابن العلقمي وغيرهما، والخليفة تحت الحوطة والمصادرة فأحضر من دار الخلافة شيئا كثيرا من الذهب والحلي والمصاغي والجواهر والأشياء النفيسة. وقد أشار أولئك الملأ من الرافضة وغيرهم من المنافقين على هولاكو أن لا يصالح الخليفة. وقال الوزير: متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا إلا عاما أو عامين ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك. وحسنوا له قتل الخليفة. فلما عاد الخليفة إلى السلطان هولاكو أمر بقتله. ويقال إن الذي أشار بقتله الوزير ابن العلقمي والمولى نصير الدين الطوسي. وكان النصير عند هولاكو قد استصحبه في خدمته لما فتح قلاع الألموت وانتزع من أيدي الاسماعيلية، وكان النصير وزير لشمس الشموس ... ثم ذكر الشيخ المصيبة

مفصلة والله المستعان. (¬1) وجاء في السير: وعمل ابن العلقمي على ترك الجمعات، وأن يبني مدرسة على مذهب الرافضة، فما بلغ أمله، وأقيمت الجمعات. (¬2) التعليق: هل هناك درس أكبر من هذا الذي لقنه "فضيلة الإمام" ابن العلقمي مع فضيلة نصير الطوسي للمسلمين؟ هل يجوز للمسلمين أن يغفلوا هذه الحقائق التاريخية ويتجاهلونها ويأتي مثقفوهم ويقولون: الشيعة إخواننا والفرق بيننا وبينهم يسير كالفرق بين الشافعي والمالكي؟! وهذا أيضا فيه عقوبة للخليفة كيف يثق بهؤلاء ويقربهم إليه ويعتمدهم ويجعلهم في مرتبة الوزارة ولم يلتفت إلى خبث هذا المجرم وما يفعله بعسكر الخليفة؟ وقد عبر الحافظ ابن كثير عن ذلك فقال: وكان الوزير ابن العلقمي قبل هذه الحادثة يجتهد في صرف الجيوش وإسقاط اسمهم من الديوان فكانت العساكر في آخر أيام المستنصر قريبا من مائة ألف مقاتل، منهم من الأمراء من هو كالملوك الأكابر الأكاسر، فلم يزل يجتهد في تقليلهم إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف ثم كاتب التتار وأطمعهم في أخذ البلاد وسهل عليهم ذلك وحكى لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرجال، وذلك كله طمعا منه أن يزيل السنة بالكلية، وأن يظهر البدعة الرافضة، وأن يقيم خليفة من الفاطميين، وأن يبيد العلماء والمفتين والله غالب على أمره، وقد رد كيده ¬

(¬1) البداية والنهاية (13/ 214 - 215). (¬2) السير (23/ 183).

موقف السلف من يوسف القميني (657 هـ)

في نحره وأذله بعد العزة القعساء وجعله "حوشكاشا" للتتار بعد ما كان وزيرا للخلفاء، واكتسب إثم من قتل ببغداد من الرجال والنساء والأطفال، فالحكم لله العلي الكبير رب الأرض والسماء. (¬1) التعليق: سبحان الله! التاريخ تتكرر حوادثه وتتشابه أفعاله وأقواله، ويصرفها الله كيف يشاء، الآن الروافض يخدعون عامة المسلمين في كل البلاد: تعالوا نتعاون على إزالة إسرائيل من القدس. ولغفلة الناس يحسبونهم صادقين، والحقيقة: تعالوا معنا حتى نمحي السنة من وجه الأرض، ونقيم المجوسية متعاونة مع اليهودية والنصرانية والله المستعان. موقف السلف من يوسف القميني (657 هـ) جاء في السير: الشيخ يوسف القميني الموله بدمشق، كان للناس في هذا اعتقاد زائد لما يسمعون من مكاشفته التي تجري على لسانه كما يتم للكاهن سواء في نطقه بالمغيبات. كان يأوي إلى القمامين والمزابل التي هي مأوى الشياطين، ويمشي حافيا، ويكنس الزبل بثيابه النجسة ببوله، ويترنح في مشيه، وله أكمام طوال، ورأسه مكشوف، والصبيان يعبثون به، وكان طويل السكوت، قليل التبسم، يأوي إلى قمين حمام نور الدين، وقد صار باطنه ¬

(¬1) البداية والنهاية (13/ 215).

الملك المظفر قطز (658 هـ)

مأوى لقرينه، ويجري فيه مجرى الدم، ويتكلم فيخضع له كل تالف ويعتقد أنه ولي لله، فلا قوة إلا بالله. وقد رأيت غير واحد من هذا النمط الذين زال عقلهم أو نقص يتقلبون في النجاسات، ولا يصلون، ولا يصومون، وبالفحش ينطقون، ولهم كشف كما والله للرهبان كشف وكما للساحر كشف وكما لمن يصرع كشف، وكمالمن يأكل الحية ويدخل النار حال مع ارتكابه للفواحش، فوالله ما ارتبطوا على مسيلمة والأسود إلا لإتيانهم بالمغيبات. (¬1) الملك المظفر قُطُز (¬2) (658 هـ) السلطان الملك المظفر سيف الدين قطز بن عبد الله المعزي التركي. كان أكبر مماليك المعز أيبك التركماني ثم صار نائب السلطنة لولده المنصور، وكان بطلا شجاعا، مقداما حازما حسن التدبير، يرجع إلى دين وإسلام وخير، قال الذهبي: وله اليد البيضاء في جهاد التتار. وكان محببا إلى الرعية، حسن السيرة، ناصحا للإسلام وأهله، بويع في ذي القعدة سنة سبع وخمسين وستمائة. بعدما دهم التتار الشام، فعزل الصبي من الملك (المنصور). وثب عليه بعض الأمراء وهو راجع إلى مصر فقتل في سادس عشر ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وستمائة. ولم يكمل سنة في السلطنة رحمه الله. ¬

(¬1) السير (23/ 302 - 303). (¬2) تاريخ الإسلام (حوادث 651 - 660/ص.352 - 355) والسير (23/ 200 - 201) والبداية والنهاية (13/ 238 - 239) وشذرات الذهب (5/ 293) والنجوم الزاهرة (7/ 72 وما بعدها).

موقفه من المشركين:

موقفه من المشركين: قال ابن كثير: والمقصود أن المظفر قطز لما بلغه ما كان من أمر التتار بالشام المحروسة، وأنهم عازمون على الدخول إلى ديار مصر بعد تمهيد ملكهم بالشام، بادرهم قبل أن يبادروه وبرز إليهم وأقدم عليهم قبل أن يقدموا عليه، فخرج في عساكره وقد اجتمعت الكلمة عليه، حتى انتهى إلى الشام واستيقظ له عسكر المغول وعليهم كتبغانوين، وكان إذ ذاك في البقاع فاستشار الأشرف صاحب حمص والمجير ابن الزكي، فأشاروا عليه بأنه لا قبل له بالمظفر حتى يستمد هولاكو، فأبى إلا أن يناجزه سريعا، فساروا إليه وسار المظفر إليهم، فكان اجتماعهم على عين جالوت يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان، فاقتتلوا قتالا عظيما، فكانت النصرة ولله الحمد للإسلام وأهله، فهزمهم المسلمون هزيمة هائلة وقتل أمير المغول كتبغانوين وجماعة من بيته، وقد قيل إن الذي قتل كتبغانوين الأمير جمال الدين آقوش الشمسي، واتبعهم الجيش الإسلامي يقتلونهم في كل موضع، وقد قاتل الملك المنصور صاحب حماه مع الملك المظفر قتالا شديدا، وكذلك الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب، وكان أتابك العسكر، وقد أسر من جماعة كتبغانوين الملك السعيد بن العزيز بن العادل، فأمر المظفر بضرب عنقه، واستأمن الأشرف صاحب حمص، وكان مع التتار، وقد جعله هولاكو خان نائبا على الشام كله، فأمنه الملك المظفر ورد إليه حمص، وكذلك رد حماه إلى المنصور وزاده المعرة وغيرها، وأطلق سلمية للأمير شرف الدين عيسى بن مهنا بن مانع أمير العرب، واتبع الأمير بيبرس البندقداري وجماعة من

الكامل ناصر الدين محمد بن شهاب الدين (658 هـ)

الشجعان التتار يقتلونهم في كل مكان، إلى أن وصلوا خلفهم إلى حلب، وهرب من بدمشق منهم يوم الأحد السابع والعشرين من رمضان. فتبعهم المسلمون من دمشق يقتلون فيهم ويستفكون الأسارى من أيديهم، وجاءت بذلك البشارة ولله الحمد على جبره إياهم بلطفه، فجاوبتها دق البشائر من القلعة، وفرح المؤمنون بنصر الله فرحا شديدا، وأيد الله الإسلام وأهله تأييدا، وكبت الله النصارى واليهود والمنافقين، وظهر دين الله وهم كارهون، فتبادر عند ذلك المسلمون إلى كنيسة النصارى التي خرج منها الصليب، فانتهبوا ما فيها وأحرقوها وألقوا النار فيما حولها، فاحترق دور كثيرة إلى النصارى، وملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا، وأحرق بعض كنيسة اليعاقبة، وهمت طائفة بنهب اليهود، فقيل لهم إنه لم يكن منهم من الطغيان كما كان من عبدة الصلبان، وقتلت العامة وسط الجامع شيخا رافضيا كان مصانعا للتتار على أموال الناس يقال له الفخر محمد بن يوسف بن محمد الكنجي، كان خبيث الطوية مشرقيا ممالئا لهم على أموال المسلمين قبحه الله، وقتلوا جماعة مثله من المنافقين فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين. (¬1) الكامل ناصر الدين محمد بن شهاب الدين (¬2) (658 هـ) الملك الكامل ناصر الدين محمد ابن الملك، المظفر شهاب الدين، غازي ¬

(¬1) البداية (13/ 234). (¬2) تاريخ الإسلام (حوادث 651 - 660/ص.366 - 368) والسير (23/ 201 - 202) والوافي بالوفيات (4/ 306 - 307) وشذرات الذهب (5/ 295) والنجوم الزاهرة (7/ 91).

موقفه من المشركين:

ابن السلطان، الملك العادل أبي بكر محمد بن أيوب. تملك ميافارقين وغيرها بعد أبيه سنة خمس وأربعين وستمائة. وكان شابا عاقلا شجاعا مهيبا محسنا إلى رعيته، مجاهدا غازيا، دينا تقيا، حميد الطريقة. حاصره عسكر هولاكو نحوا من عشرين شهرا. وقتل رحمه الله تعالى على يد اللعين هولاكو -بعد ما سب هولاكو وبصق في وجهه- سنة ثمان وخمسين وستمائة، وكان شديد البأس قوي النفس. موقفه من المشركين: جاء في السير عن الشيخ محمود بن عبد الكريم الفارقي قال: سار الكامل إلى قلاع بنواحي آمد فأخذها، ثم نقل إليها أهله، وكان أبي في خدمته، فرحل بنا إلى قلعة منها، فعبرت التتار علينا، فاستنزلوا أهل الملك الكامل بالأمان من قلعة أخرى، وردوا بهم علينا، وأنا صبي مميز، وحاصروا ميافارقين أشهرا، فنزل عليهم الثلج، وهلك بعضهم، وكان الكامل يبرز إليهم ويقاتلهم، وينكي فيهم فهابوه، ثم بنوا عليهم سورا بإزاء البلد بأبرجة، ونفدت الأقوات، حتى كان الرجل يموت فيؤكل، ووقع فيهم الموت، وفتر عنهم التتار وصابروهم، فخرج إليهم غلام أو أكثر، وجلوا للتتار أمر البلد، فما صدقوا، ثم قربوا من السور وبقوا أياما لا يجسرون على الهجوم، فدلى إليهم مملوك للكامل حبالا فطلعوا إلى السور فبقوا أسبوعا لا يجسرون، وبقي بالبلد نحو التسعين بعد ألوف من الناس، فدخلت التتار دار الكامل وأمنوه، وأتوا به هولاكو بالرها، فإذا هو يشرب الخمر، فناول الكامل كأسا فأبى، وقال: هذا حرام، فقال لامرأته: ناوليه أنت، فناولته فأبى، وشتم وبصق -فيما

العز بن عبد السلام (660 هـ)

قيل- في وجه هولاكو. وكان الكامل ممن سار قبل ذلك، ورأى القان الكبير، وفي اصطلاحهم من رأى وجه القان لا يقتل، فلما واجه هولاكو بهذا استشاط غضبا وقتله. ثم قال: وكان الكامل شديد البأس، قوي النفس، لم ينقهر للتتار بحيث إنهم أخذوا أولاده من حصنهم، وأتوه بهم إلى تحت سور ميافارقين، وكلموه أن يسلم البلد بالأمان فقال: ما لكم عندي إلا السيف. (¬1) العز بن عبد السلام (¬2) (660 هـ) الشيخ عز الدين بن عبد السلام أبو محمدالسلمي الدمشقي الشافعي، شيخ المذهب، ومفيد أهله، ولد سنة سبع أو ثمان وسبعين وخمسمائة. سمع الحديث من الحافظ أبي محمد القاسم بن الحافظ الكبير أبي القاسم بن عساكر، وشيخ الشيوخ عبد اللطيف بن إسماعيل بن أبي سعد البغدادي، وعمر بن محمد بن طبرزد، وحنبل بن عبد الله الرصافي وغيرهم. وسمع منه تلامذته شيخ الإسلام ابن دقيق العيد وهو الذي لقب الشيخ عز الدين سلطان العلماء، والإمام علاء الدين أبو الحين الباجي والشيخ تاج الدين ابن الفركاح والحافظ أبو محمد الدمياطي وغيرهم. قرأ الأصول على الآمدي وبرع في الفقه والأصول والعربية، وفاق الأقران والأضراب، وجمع بين فنون العلم من التفسير والحديث والفقه واختلاف أقوال الناس ومآخذهم، وبلغ رتبة الاجتهاد. ورحل إليه الطلبة من ¬

(¬1) السير (23/ 201 - 202). (¬2) البداية (13/ 235 - 236) وشذرات الذهب (5/ 301 - 302) وطبقات الشافعية (5/ 80).

موقفه من المبتدعة:

سائر البلاد، وصنف التصانيف المفيدة. وكان لطيفا ظريفا يستشهد بالأشعار مع الزهد والورع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصلابة في الدين، وعزل نفسه من القضاء في آخر حياته، وعزله السلطان من الخطابة، فلزم بيته. وبالجملة فشهرته تغني عن الإطناب في وصفه. له مؤلفات عديدة، تظهر عليها آثار الأشعرية والتصوف، منها كتابه قواعد الأحكام وكتاب ملحة الاعتقاد. وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية عليه ذلك، رحم الله الجميع. توفي رحمه الله بمصر في جمادى الأولى سنة ستين وستمائة، وحضر جنازته الخاص والعام، ولما بلغ السلطان خبر موته قال: لم يستقر ملكي إلا الساعة لأنه لو أمر الناس فيَّ بما أراد لبادروا إلى امتثال أمره. موقفه من المبتدعة: - جاء في الاعتصام: ونص أيضا عز الدين بن عبد السلام على أن الدعاء للخلفاء في الخطبة بدعة غير محبوبة. (¬1) - وجاء في الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة الدمشقي: واتفق أن ولي الخطابة والإمامة بجامع دمشق حرسها الله تعالى في سنة سبع وثلاثين وستمائة، أحق الناس بها يومئذ الفقيه المفتي، ناصر السنة، مظهر الحق؛ أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام أيده الله بحراسة، وقواه على طاعته، فجرى في إحياء السنن وإماتة البدع على عادته، فلما قرب دخول شهر رجب، أظهر للناس أمر صلاة الرغائب، وأنها بدعة منكرة، وأن حديثها كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخطب بذلك على المنبر يوم جمعة، وأعلم الناس أنه لا يصليها، ¬

(¬1) الاعتصام (1/ 36).

موقفه من الصوفية:

ونهاهم عن صلاتها، ووضع في ذلك جزءا لطيفا سماه 'الترغيب عن صلاة الرغائب'. حذر الناس فيه من ركوب البدع، والتقرب إلى الله تعالى بما لم يشرع، وأراد فطام الناس عنها قولا وفعلا، فشق ذلك على العوام، وكثير من المتميزين الطغام، اغترارا منهم بمجرد كونها صلاة -فهي طاعة وقربة، فلماذا ينهى عنها- وركونا إلى ذلك الحديث الباطل، وشق على سلطان البلد وأتباعه إبطالها، فصنف لهم بعض مفتي البلد جزءا في تقريرها، وتحسين حالها، وإلحاقها بالبدع الحسنة من جهة كونها صلاة، ورام نقض رد الجزء في تصنيفه هذا، فرد عليه الفقيه أبو محمد أحسن رد، وبين أنه هو الذي أفتى فيما تقدم بالفتيتين المقدم ذكرهما، فخالف ما كان أفتى به أولا، وجاء بما وافق هوى السلطان، وعوام الزمان، وهو من العلماء الصالحين، والأئمة المفتين ولكن الله تعالى قال: وهو أصدق القائلين: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)} (¬1) {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} (¬2) {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)} (¬3).اهـ (¬4) موقفه من الصوفية: جاء في نقض المنطق عنه قال: ولا يجوز شغل المساجد بالغناء والرقص ومخالطة المردان، ويعزر فاعله تعزيرا بليغا رادعا. وأما لبس الحلق والدمالج ¬

(¬1) الكهف الآية (7). (¬2) محمد الآية (4). (¬3) الفرقان الآية (20). (¬4) الباعث (149).

والسلاسل والأغلال، والتختم بالحديد والنحاس فبدعة وشهرة. وشر الأمور محدثاتها، وهي لهم في الدنيا، وهي لباس أهل النار، وهي لهم في الآخرة إن ماتوا على ذلك، ولا يجوز السجود لغير الله من الأحياء والأموات، ولا تقبيل القبور، ويعزر فاعله. ومن لعن أحدا من المسلمين عزر على ذلك تعزيرا بليغا. والمؤمن لا يكون لعَّانا، وما أقربه من عود اللعنة عليه. قال: ولا تحل الصلاة عند القبور، ولا المشي عليها من الرجال والنساء، ولا تعمل مساجد للصلاة فإنه اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (¬1).اهـ (¬2) تنبيه: هذا الرجل اشتهر بالعلم، وسماه من كتب في ترجمته: سلطان العلماء. وقد أطال ابن السبكي في ترجمته في طبقات الشافعية. غير أنه لم يكن سلفيا في عقيدة الأسماء والصفات. وله أفعال مع الصوفية تدل على اقتناعه بهم. وكان معروفا بعداوته للحنابلة. وكثير ممن ألف في البدع وتأييدها يعتمد عليه في تقسيم البدع إلى الأحكام الخمسة المعروفة، وهو تقسيم باطل لا معنى له، مصادم لعموم النصوص. وقد رده الشاطبي في الاعتصام وغيره من أهل العلم. ¬

(¬1) سيأتي تخريجه قريبا. (¬2) نقض المنطق (14 - 15).

عبد الرزاق أبو محمد الجزري (661 هـ)

عبد الرزاق أبو محمد الجزري (¬1) (661 هـ) عبد الرزاق بن رزق الله بن أبي بكر بن خلف الجزري أبو محمد، الإمام الحافظ، مولده برأس عين الخابور سنة تسع وثمانين وخمسمائة. سمع من عبد العزيز ابن منينا وطبقته، وأبي اليمن الكندي وطبقته، وأبي المجد القزويني وغيرهم، وسمع منه: ولده العدل شمس الدين محمد والدمياطي في معجمه وغير واحد. صنف تفسيرا حسنا روى فيه بأسانيده، وكان إماما محدثا فقيها أديبا شاعرا دينا صالحا وافر الحرمة. ولي مشيخة دار الحديث بالموصل توفي في سنة إحدى وستين وستمائة. موقفه من الرافضة: قال ابن رجب: وكان متمسكا بالسنة والآثار، ويصدع بالسنة عند المخالفين من الرافضة وغيرهم. (¬2) أبو البقاء النَّابُلْسِي (¬3) (663 هـ) خالد بن يوسف بن سعد بن الحسن بن مفرج بن بكار أبو البقاء النابلسي ثم الدمشقي. ولد بنابلس سنة خمس وثمانين وخمسمائة. سمع من بهاء الدين القاسم بن عساكر ومحمد بن الخصيب وحنبل وطائفة. روى عنه ¬

(¬1) تذكرة الحفاظ (4/ 1452 - 1455) وتاريخ الإسلام (حوادث 661 - 670/ص.72 - 74) والبداية والنهاية (13/ 254) وذيل طبقات الحنابلة (2/ 274 - 276). (¬2) ذيل طبقات الحنابلة (2/ 275). (¬3) تذكرة الحفاظ (4/ 1447 - 1448) وتاريخ الإسلام (حوادث 661 - 670/ص.145 - 147) وفوات الوفيات (1/ 403 - 404) والبداية والنهاية (13/ 259 - 260).

موقفه من الرافضة:

الشيخ محيي الدين النووي، والشيخ تاج الدين الفزاري، وأخوه الخطيب شرف الدين، والشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد. كتب وحصل الأصول النفيسة، ونظر في اللغة والعربية، كان إماما متقنا ذكيا فطنا ظريفا، عالما بصناعة الحديث، حافظا لأسماء الرجال، وكان حسن الأخلاق، حلو النادرة صاحب مزاح ونوادر. قال ابن جماعة: أحد المحدثين المشهورين والحفاظ المعروفين، كان خيرا صالحا، حسن الأخلاق، ملازما لقراءة الحديث والنظر في الأسانيد. توفي رحمه الله في سلخ جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وستمائة. موقفه من الرافضة: جاء في المنهاج: وكان من أهل العلم أبو البقاء خالد بن يوسف النابلسى رحمه الله، سأله بعض الشيعة عن قتال علي الجن، فقال: أنتم معشر الشيعة ليس لكم عقل، أيما أفضل عندكم: عمر أو علي؟ فقالوا: بل علي. فقال: إذا كان الجمهور يروون عن النبي صلى عليه وسلم أنه قال لعمر: ما رآك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك (¬1) فإذا كان الشيطان يهرب من عمر، فكيف يقاتل عليا؟ (¬2) ¬

(¬1) أحمد (1/ 171،182،187) والبخاري (6/ 417/3294) ومسلم (4/ 1863 - 1864/ 2396) والنسائي في عمل اليوم والليلة (231 - 232/ح207). (¬2) منهاج السنة (8/ 162).

أبو شامة الدمشقي (665 هـ)

أبو شَامَة الدِّمَشْقِي (¬1) (665 هـ) عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان، أبو شامة المقدسي الأصل، الدمشقي الشافعي الفقيه المقرئ النحوي المؤرخ، صاحب التصانيف، ولد سنة تسع وتسعين وخمسمائة بدمشق، وسمي بأبي شامة لشامة كبيرة كانت فوق حاجبه الأيسر. سمع من موفق الدين المقدسي، وداود بن ملاعب، وأحمد بن عبد الله السلمي، وكريمة عز الدين بن عبد السلام، وطائفة. وسمع منه الشيخ أحمد اللبان، وبرهان الدين الإسكندراني، وشرف الدين الفراوي الخطيب، وجماعة. ختم القرآن وله دون عشر سنين، وأتقن فن القراءة على السخاوي، وله ست عشرة سنة، وسمع الكثير حتى عد في الحفاظ، وكان مع براعته في العلوم متواضعا، تاركا للتكلف، ثقة في النقل؛ وبالجملة فلم يكن في وقته مثله في نفسه وديانته، وعفته وأمانته، ولي مشيخة الإقراء بالتربة الأشرفية، ومشيخة دار الحديث الأشرفية، ووقف كتبه بخزانة العادلية، وشرط أن لا تخرج، فاحترقت جملة وجرت له محنة في سابع جمادى الآخرة سنة خمس وستين وستمائة، توفي من جرائها في تاسع عشر رمضان رحمه الله رحمة واسعة. موقفه من المبتدعة: له كتاب 'الباعث على إنكار البدع والحوادث'، وهو وإن كان فيه بعض ما يخالف عقيدة السلف كقوله بالمولد. فهو كتاب يمكن أن يستفيد ¬

(¬1) البداية والنهاية (13/ 264 - 265) وتذكرة الحفاظ (4/ 1460) وفوات الوفيات (2/ 269) وشذرات الذهب (5/ 318 - 319) وتاريخ الإسلام (حوادث 661 - 670/ص.194 - 197).

منه السلفي في ذم البدع. وقد طبع الكتاب مرارا. - قال فيه: وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فمن بعدهم أهل زمانهم البدع ومحدثات الأمور، وأمروهم بالاتباع الذي فيه النجاة من كل محذور، وجاء في كتاب الله تعالى من الأمر بالاتباع ما يرتفع معه النزاع. قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (¬1). وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} (¬2). وهذا نص فيما نحن فيه. (¬3) - وقال: ومن اتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم أجمعين- إنكار المنكر، وإحياء السنن، وإماتة البدع، ففي ذلك أفضل أجر، وأجمل ذكر. (¬4) - وقال: فقد بان ووضح -بتوفيق الله تعالى- صحة إنكار من أنكر شيئا من هذه البدع، وإن كان صلاة ومسجدا، ولا مبالاة بشناعة جاهل ¬

(¬1) آل عمران الآية (31). (¬2) الأنعام الآية (153). (¬3) الباعث (53). (¬4) الباعث (76).

محمد بن أحمد القرطبي (671 هـ)

يقول: كيف يؤمر بتبطيل صلاة وتخريب مسجد، فما وازنه إلا وزان من يقول: كيف يؤمر بتخريب مسجد، إذا سمع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرب مسجد الضرار (¬1)، ومن يقول كيف ينهى عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، وإذا سمع حديث علي رضي الله عنه المخرج في الصحيح: نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقرأ القرآن في الركوع والسجود (¬2). فاتباع السنة أولى من اقتحام البدعة، وإن كانت صلاة في الصورة، فبركة اتباع السنة أكثر فائدة، وأعظم أجرا. (¬3) - وقال: ومما ابتدع وروي به، واستميلت قلوب الجهال والعوام بسببه: التماوت في المشي والكلام، حتى صار ذلك شعارا لمن يريد أن يظن فيه التنسك والتورع، فليعلم أن الدين خلاف ذلك، وهو ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ثم السلف الصالح. (¬4) محمد بن أحمد القرطبي (¬5) (671 هـ) محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فَرْح الأنصاري الخزرجي المالكي أبو ¬

(¬1) عزاه السيوطي في الدر المنثور لابن اسحاق وابن مردويه من حديث أبي رهم كلثوم بن الحصين الغفاري، وابن عباس. (¬2) مسلم (1/ 348/480) وأبو داود (4/ 322 - 323/ 4044و4045) والترمذي (2/ 49 - 50/ 264) والنسائي (2/ 531 - 532/ 1039 - 1043). (¬3) الباعث (214 - 215). (¬4) الباعث (245). (¬5) الديباج المذهب (2/ 308 - 309) ونفح الطيب (2/ 210 - 212) وشذرات الذهب (5/ 335) والوافي بالوفيات (2/ 122 - 123) وطبقات المفسرين للداودي (2/ 65 - 66).

موقفه من الرافضة:

عبد الله القرطبي -صاحب التفسير- كان من عباد الله الصالحين، والعلماء العارفين الورعين الزاهدين في الدنيا، المشغولين بما يعينهم من أمور الآخرة، أوقاته معمورة ما بين توجه وعبادة وتصنيف. سمع من ابن رواج، ومن ابن الجميزي، والشيخ أبي العباس أحمد بن عمر القرطبي شارح مسلم ولم يتمه. وروى عنه ولده شهاب الدين أحمد. قال الذهبي: إمام متقن متبحر في العلم، له تصانيف مفيدة تدل على إمامته، وكثرة اطلاعه ووفور فضله. وكان القرطبي رحمه الله أشعري العقيدة في باب الأسماء والصفات، وعمدته في ذلك كبار الأشاعرة كالجويني وابن الباقلاني والرازي وغيرهم. من مؤلفاته: الجامع لأحكام القرآن، الكتاب الأسنى في أسماء الله الحسنى، التذكار في أفضل الأذكار، والتذكرة بأمور الآخرة وغيرها. توفي في شوال من سنة إحدى وسبعين وستمائة. موقفه من الرافضة: جاء في الجامع لأحكام القرآن: الثامنة: اعلم أن هذا العدد مثنى وثلاث ورباع لا يدل على إباحة تسع كما قاله مَن بَعُد فهمه للكتاب والسنة، وأعرض عما كان عليه سلف هذه الأمة، وزعم أن الواو جامعة، وعضد ذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نكح تسعا، وجمع بينهن في عصمته. والذي صار إلى هذه الجهالة، وقال هذه المقالة: الرافضة وبعض أهل الظاهر، فجعلوا مثنى مثل اثنين، وكذلك ثلاث ورباع. وذهب بعض أهل الظاهر أيضا إلى أقبح منها، فقالوا بإباحة الجمع بين

ثمان عشرة، تمسكا منه بأن العدل في تلك الصيغ يفيد التكرار، والواو للجمع، فجعل مثنى بمعنى اثنين اثنين وكذلك ثلاث ورباع. وهذا كله جهل باللسان والسنة، ومخالفة لإجماع الأمة، إذ لم يسمع عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه جمع في عصمته أكثر من أربع. وأخرج مالك في موطئه، والنسائي والدارقطني في سننهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لغيلان بن سلمة (¬1) الثقفي وقد أسلم وتحته عشر نسوة: «اختر منهن أربعا وفارق سائرهن» (¬2). في كتاب أبي داود عن الحارث بن قيس قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «اختر منهن أربعا» (¬3). (¬4) وقال في شرح قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} الآية (¬5) من سورة الفتح: الخامسة: روى أبو عروة الزبيريّ من ولد الزبير: كنا عند مالك بن أنس، فذكروا رجلاً ينتقص من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقرأ مالك هذه الآية: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} حتى بلغ {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} (¬6). فقال مالك: من أصبح من الناس في قلبه غيظ على ¬

(¬1) في الاصل: بن أمية والصواب ما أثبتناه. (¬2) مالك (2/ 586/76) عن ابن شهاب مرسلا. ووصله أحمد (2/ 13،14) والترمذي (3/ 435/1128) وابن ماجه (1/ 628/1953)، وعزاه الحافظ في التلخيص للنسائي (3/ 169)، وصححه ابن حبان (9/ 465 - 466/ 4157). (¬3) أبو داود (2/ 677/2241) وابن ماجه (1/ 628/1952) وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله بمجموع طرقه. انظر الإرواء (6/ 295 - 296). (¬4) الجامع لأحكام القرآن (5/ 13). (¬5) رقم (29). (¬6) الفتح الآية (29).

أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أصابته هذه الآية؛ ذكره الخطيب أبو بكر. قلت: لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله. فمن نقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته فقد ردّ على الله رب العالمين، وأبطل شرائع المسلمين؛ قال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} (¬1) الآية. وقال: {* لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (¬2) إلى غير ذلك من الآي التي تضمنت الثناء عليهم، والشهادة لهم بالصدق والفلاح؛ قال الله تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} (¬3). وقال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)} (¬4)، ثم قال عزّ من قائل: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} إلى قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} (¬5). وهذا كله مع علمه تبارك وتعالى بحالهم ومآل أمرهم، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) الفتح الآية (29). (¬2) الفتح الآية (18). (¬3) الأحزاب الآية (23). (¬4) الحشر الآية (8). (¬5) الحشر الآية (9).

«خير الناس قرني ثم الذين يلونهم» وقال: «لا تسبّوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً لم يدرك مُدَّ أحدهم ولا نَصيفه». قال أبو عبيد: معناه لم يدرك مدّ أحدهم إذا تصدق به ولا نصف المد؛ فالنصيف هو النصف هنا. وكذلك يقال للعُشْرِ عَشِير، وللخُمس خَميس، وللتسع تَسيع، وللثّمن ثَمين، وللسّبع سَبيع، وللسّدس سَدِيس، وللرّبع رَبيع، ولم تقل العرب للثّلث ثليث ... والأحاديث بهذا المعنى كثيرة؛ فحذارِ من الوقوع في أحد منهم، كما فعل مَن طعن في الدين فقال: إن المُعوِّذتين ليستا من القرآن، وما صحّ حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تثبيتهما ودخولهما في جملة التنزيل إلا عن عقبة بن عامر، وعقبة بن عامر ضعيف لم يوافقه غيره عليها، فروايته مطّرحة. وهذا ردّ لما ذكرناه من الكتاب والسنة، وإبطالٌ لما نقلته لنا الصحابة من الملة. فإن عقبة بن عامر بن عيسى الجُهَني ممن روى لنا الشريعة في الصحيحين البخاري ومسلم وغيرهما، فهو ممن مدحهم الله ووصفهم وأثنى عليهم ووعدهم مغفرة وأجراً عظيماً. فمن نسبه أو واحداً من الصحابة إلى كذب فهو خارج عن الشريعة، مبطل للقرآن طاعن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومتى ألحِق واحد منهم تكذيباً فقد سُبّ؛ لأنه لا عار ولا عيب بعد الكفر بالله أعظمُ من الكذب، وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سبّ أصحابه؛ فالمكذّب لأصغرهم -ولا صغير فيهم- داخل في لعنة الله التي شهد بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وألزمها كلَّ مَن سبّ واحداً من أصحابه أو طعن عليه. وعن عمر بن حبيب قال: حضرت مجلس هارون الرشيد فجرت مسألة تنازعها الحضور وعَلَت أصواتهم، فاحتج

بعضهم بحديث يرويه أبو هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فرفع بعضهم الحديث وزادت المدافعة والخصام حتى قال قائلون منهم: لا يُقبل هذا الحديث على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن أبا هريرة مُتَّهم فيما يرويه، وصرّحوا بتكذيبه، ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم ونصر قولهم فقلت أنا: الحديث صحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو هريرة صحيح النقل صدوق فيما يرويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره؛ فنظر إليّ الرشيد نظر مُغْضِب، وقمت من المجلس فانصرفت إلى منزلي، فلم ألبث حتى قيل: صاحب البريد بالباب؛ فدخل فقال لي: أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول، وتحنّط وتكفّن فقلت: اللهم إنك تعلم أني دفعت عن صاحب نبيّك، وأجللت نبيّك أن يطعن على أصحابه، فسَلِّمْني منه. فأدخلت على الرشيد وهو جالس على كرسيّ من ذهب، حاسر عن ذراعيه، بيده السيف وبين يديه النِّطْع؛ فلما بَصُرَ بي قال لي: يا عمر بن حبيب ما تلقّاني أحد من الرد والدفع لقولي بمثل ما تلقيتني به؛ فقلت: يا أمير المؤمنين؛ إن الذي قلته وجادلت عنه فيه ازدراء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى ما جاء به؛ إذا كان أصحابه كذابين فالشريعة باطلة، والفرائض والأحكام في الصيام والصلاة والطلاق والنكاح والحدود كلّه مردود غير مقبول؛ فرجع إلى نفسه ثم قال: أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله! وأمر لي بعشرة آلاف درهم. قلت: فالصحابة كلهم عدول، أولياء الله تعالى وأصفياؤه، وخِيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله. هذا مذهب أهل السنة، والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الأمة. وقد ذهبت شرذمة لا مبالاة بهم إلى أن حال الصحابة كحال غيرهم؛ فيلزم البحث عن عدالتهم. ومنهم من فرق بين حالهم في

علي بن وضاح الشهراياني (672 هـ)

بُداءة الأمر فقال: إنهم كانوا على العدالة إذ ذاك؛ ثم تغيّرت بهم الأحوال فظهرت فيهم الحروب وسفك الدماء؛ فلا بدّ من البحث. وهذا مردود؛ فإن خيار الصحابة وفضلاءهم كعليّ وطلحة والزبير وغيرهم رضي الله عنهم ممن أثنى الله عليهم وزكّاهم ورضي عنهم وأرضاهم ووعدهم الجنة بقوله تعالى: {مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)} (¬1). وخاصة العشرة المقطوع لهم بالجنة بإخبار الرسول هم القُدوة مع علمهم بكثير من الفتن والأمور الجارية عليهم بعد نبيّهم بإخباره لهم بذلك. وذلك غير مسقط من مرتبتهم وفضلهم؛ إذ كانت تلك الأمور مبنية على الاجتهاد، وكل مجتهد مصيب. وسيأتي الكلام في تلك الأمور في سورة الحجرات مبيّنة إن شاء الله تعالى. علي بن وضاح الشهراياني (¬2) (672 هـ) كمال الدين أبو الحسن بن أبي بكر علي بن محمد بن محمد بن أبي سعيد بن وضاح الشهراياني، نزيل بغداد، الفقيه الحنبلي. ولد في رجب سنة إحدى وتسعين وخمسمائة بشهرايان. سمع الصحيحين وغيرهما من عدة شيوخ، وسمع منه ابن حصين الفخري، والحافظ الدمياطي، وأبو الحسن البندنيجي، وإبراهيم الجعبري المقرئ، وخلق كثير. قال ابن رجب: عني بالحديث، وقرأ بنفسه، وكتب بخطه الحسن، وسمع الكتب الكبار، واشتغل بالعلم ببغداد، وتفقه وبرع في العربية، وشارك ¬

(¬1) الفتح الآية (29). (¬2) شذرات الذهب (5/ 336) وذيل طبقات الحنابلة (2/ 282).

موقفه من المبتدعة:

في فنون من العلم. وقال الإمام صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق: كان شيخا صالحا، منور الوجه، كيسا، طيب الأخلاق، سمح النفس، صحب المشايخ والصالحين، وكان عالما بالفقه والفرائض والأحاديث. وله إجازات من جماعة كثيرين، منهم الشيخ موفق الدين ابن قدامة، وأبو محمد بن عمرو بن الصلاح وغيرهما. توفي رحمه الله، ليلة الجمعة ثالث صفر سنة اثنتين وسبعين وستمائة. موقفه من المبتدعة: له من الآثار السلفية: 'الدليل الواضح في اقتفاء نهج السلف الصالح'. ذكره في ذيل الطبقات (¬1). موقفه من المشركين: من آثاره: 'الرد على أهل الإلحاد'. (¬2) الإمام النووي (¬3) (676 هـ) الإمام الحافظ محيي الدين يحيى بن شرف بن مرا بن حسن، أبو زكريا الحزامي النووي، ذو التصانيف النافعة. ولد سنة إحدى وثلاثين وستمائة بقرية نوى من أعمال دمشق بالشام. قال الشيخ ياسين بن يوسف المراكشي: رأيت ¬

(¬1) (4/ 283). (¬2) ذيل طبقات الحنابلة (4/ 283). (¬3) السير (17/ 321 - 324) [دار الفكر]، تحفة الطالبين في ترجمة الإمام محيي الدين لابن العطار، المنهل العذب الروي في ترجمة الإمام النووي للسخاوي، المنهاج السوي في ترجمة الإمام النووي للسيوطي، البداية والنهاية (13/ 294) وشذرات الذهب (5/ 354 - 355). وانظر الردود والتعقبات للشيخ مشهور سلمان.

الشيخ محيي الدين -وهو ابن عشر سنين- بنوى، والصبيان يكرهونه على اللعب معهم، وهو يهرب منهم، ويبكي لإكراههم، ويقرأ القرآن في تلك الحال، فوقع في قلبي محبته، وجعله أبوه في دكان، فجعل لا يشتغل بالبيع والشراء عن القرآن. حفظ القرآن وقد ناهز الاحتلام، وحفظ كتاب التنبيه وشيئا من المهذب، وكلاهما للشيرازي. أخذ عن الشيخ إسحاق بن أحمد المغربي، وعبد الرحمن بن نوح المقدسي، وأبي حفص عمر بن أسعد الرَّبعَي، والشيخ أبي البقاء النابلسي وغيرهم. قال عنه الذهبي: أكب على طلب العلم ليلا ونهارا اشتغالا، فضرب به المثل، وهجر النوم إلا عن غلبة، وضبط أوقاته إلا بلزوم الدرس أو الكتابة أو المطالعة، أو التردد إلى الشيوخ، وترك كل رفاهية وتنعم، مع تقوى وقناعة وورع وحسن مراقبة لله في السر والعلانية. وذكر الشيخ أبو الحسن علي بن العطار أن الشيخ محيي الدين ذكر له أنه كان يقرأ كل يوم اثنتي عشر درسا على المشايخ، شرحا وتصحيحا، درسين في الوسيط، ودرسا في المهذب، ودرسا في الجمع بين الصحيحين، ودرسا في صحيح مسلم، ودرسا في اللمع لابن جني في النحو، ودرسا في إصلاح المنطق لابن السكيت في اللغة، ودرسا في التصريف، ودرسا في أصول الفقه، ودرسا في أسماء الرجال، ودرسا في أصول الدين. وكان يعلق جميع ما يتعلق بها من شرح لمشكل، وتوضيح لعبارة، وضبط لغة وبيان لغريب. تخرج به جماعة من العلماء منهم: أبو عبد الله محمد بن أبي إسحاق الكناني، وابن النقيب، وأحمد بن فرح الإشبيلي، وسليمان بن هلال الجعفري وغيرهم. درس في المدرسة الإقبالية نيابة عن الشيخ أحمد بن خلكان، وولي

موقفه من الخوارج:

مشيخة دار الحديث الأشرفية حتى وفاته سنة ست وسبعين وستمائة للهجرة. من مؤلفاته رحمه الله شرح صحيح مسلم، ورياض الصالحين، والمجموع شرح المهذب، والأذكار، وروضة الطالبين وغيرها. تنبيه: أول النووي رحمه الله بعض الصفات لا سيما الفعلية منها، وفوض معناها، ونسب هذا القول إلى جمهور السلف، وخاصة في شرحه على صحيح مسلم. لذلك قال الذهبي: إن مذهبه في الصفات السمعية السكوت، وإمراراها كما جاءت، وربما تأول قليلا في شرح مسلم. وقال السخاوي: وصرح اليافعي والتاج السبكي رحمهما الله أنه أشعري. موقفه من الخوارج: قال رحمه الله: قولها: (حرورية أنت) (¬1) هو بفتح المهملة وضم الراء الأولى وهي: نسبة الى حروراء، وهي قرية بقرب الكوفة، قال السمعاني: هو موضع على ميلين من الكوفة، كان أول اجتماع الخوارج به قال الهروى تعاقدوا في هذه القرية فنسبوا إليها. فمعنى قول عائشة رضي الله عنها، أن طائفة من الخوارج يوجبون على الحائض قضاء الصلاة الفائتة في زمن الحيض، وهو خلاف إجماع المسلمين، وهذا الاستفهام الذي استفهمته عائشة هو استفهام إنكار، أي هذه طريقة الحرورية، وبئست الطريقة. (¬2) وقال: وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «والتارك لدينه المفارق للجماعة» (¬3) فهو عام في ¬

(¬1) تقدم ضمن مواقف عائشة رضي الله عنها سنة (57هـ). (¬2) شرح مسلم (4/ 24). (¬3) تقدم ضمن مواقف الأوزاعي سنة (157هـ).

كل مرتد عن الإسلام بأي ردة كانت، فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام، قال العلماء: ويتناول أيضا كل خارج عن الجماعة ببدعة أو بغي أو غيرهما، وكذا الخوارج، والله أعلم. (¬1) وقال أيضا: قوله: «نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ» (¬2) فيه جواز التحكيم في أمور المسلمين، وفي مهماتهم العظام، وقد أجمع العلماء عليه، ولم يخالف فيه إلا الخوارج فإنهم أنكروا على علي التحكيم وأقام الحجة عليهم. (¬3) وقال: الباب الثاني: في قتال البغاة. وفيه أطراف: الأول في صفتهم. الباغي في اصطلاح العلماء: هو المخالف للإمام العدل، الخارج عن طاعته بامتناعه من أداء واجب عليه أو غيره بشرطه الذي سنذكره إن شاء الله تعالى، قال العلماء: ويجب قتال البغاة، ولا يكفرون بالبغي، وإذا رجع الباغي إلى الطاعة قبلت توبته، وترك قتاله، وأجمعت الصحابة رضي الله عنهم على قتال البغاة، ثم أطلق الأصحاب القول بأن البغي ليس باسم ذم، وبأن الباغين ليسوا بفسقة، كما أنهم ليسوا بكفرة، لكنهم مخطئون فيما يفعلون ويذهبون إليه من التأويل، ومنهم من يسميهم عصاة، ولا يسميهم فسقة ويقول: ليس كل معصية بفسق، والتشديدات الواردة في الخروج عن طاعة الإمام، وفي مخالفته كحديث «من حمل علينا السلاح فليس منا» (¬4) وحديث ¬

(¬1) شرح مسلم (11/ 137). (¬2) تقدم ضمن مواقف سعد بن معاذ رضي الله عنه سنة (5هـ). (¬3) شرح مسلم (12/ 79). (¬4) تقدم ضمن مواقف عوف بن أبي جميلة سنة (146هـ).

«من فارق الجماعة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» (¬1)، وحديث «من خرج من الطاعة والجماعة فميتته جاهلية» (¬2) كلها محمولة على من خرج عن الطاعة وخالف الإمام بلا عذر ولا تأويل. فصل: الذين يخالفون الإمام بالخروج عليه وترك الانقياد، والامتناع من أداء الحقوق ينقسمون إلى بغاة وغيرهم، ولكل واحد من الصنفين أحكام خاصة، فنصف البغاة بما يتميزون به، ونذكر في ضمنهم غيرهم من المخالفين. أما البغاة فتعتبر فيهم خصلتان: إحداهما: أن يكون لهم تأويل يعتقدون بسببه جواز الخروج على الإمام، أو منع الحق المتوجه عليهم، فلو خرج قوم عن الطاعة ومنعوا الحق بلا تأويل، سواء كان حدا أو قصاصا أو مالا لله تعالى أو للآدميين، عنادا أو مكابرة، ولم يتعلقوا بتأويل فليس لهم أحكام البغاة، وكذا المرتدون، ثم التأويل للبغاة إن كان بطلانه مظنونا فهو معتبر، وإن كان بطلانه مقطوعا به فوجهان: أوفقهما لإطلاق الأكثرين أنه لا يعتبر كتأويل المرتدين وشبهتهم، والثاني: يعتبر، ويكفي تغليظهم فيه، وقد يغلط الإنسان في القطعيات. فرع: الخوارج صنف من المبتدعة، يعتقدون أن من فعل كبيرة كفر وخلد في النار، ويطعنون لذلك في الأئمة ولا يحضرون معهم الجمعات والجماعات، قال الشافعي وجماهير الأصحاب رضي الله عنهم: لو أظهر قوم رأي الخوارج وتجنبوا الجماعات، وكفروا الإمام ومن معه، فإن لم يقاتلوا ¬

(¬1) أخرجه مسلم (3/ 1478/1851). (¬2) تقدم ضمن مواقف القاضي عبد الوهاب سنة (422هـ).

موقفه من المرجئة:

وكانوا في قبضة الإمام لم يقتلوا، ولم يقاتلوا، ثم إن صرحوا بسب الإمام أو غيره من أهل العدل عزروا، وإن عرضوا ففي تعزيرهم وجهان: قلت: أصحهما لا يعزرون قاله الجرجاني، وقطع به صاحب التنبيه. والله أعلم، ولو بعث الإمام إليهم واليا فقتلوه فعليهم القصاص. وهل يتحتم قتل قاتله كقاطع الطريق لأنه شهر السلاح أم لا لأنه لم يقصد إخافة الطريق؟ وجهان، قلت: أصحهما لا يتحتم، والله أعلم. (¬1) موقفه من المرجئة: قال رحمه الله: أهم ما يذكر في الباب اختلاف العلماء في الإيمان والإسلام وعمومهما وخصوصهما، وأن الإيمان يزيد وينقص أم لا، وأن الأعمال من الإيمان أم لا، وقد أكثر العلماء رحمهم الله تعالى من المتقدمين والمتأخرين القول في كل ما ذكرناه. ثم ساق أقوال الخطابي والبغوي وابن بطال وابن الصلاح وغيرهم، ثم قال: فإذا تقرر ما ذكرناه من مذاهب السلف وأئمة الخلف، فهي متظاهرة متطابقة على كون الإيمان يزيد وينقص، وهذا مذهب السلف والمحدثين وجماعة من المتكلمين، وأنكر أكثر المتكلمين زيادته ونقصانه، وقالوا: متى قبل الزيادة كان شكاً وكفراً. قال المحققون من أصحابنا المتكلمين: نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص، والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة ثمراته وهي الأعمال ونقصانها. قالوا: وفي هذا توفيق بين ظاهر النصوص التي جاءت بالزيادة وأقاويل السلف، وبين أصل وضعه في اللغة وما عليه المتكلمون، ¬

(¬1) روضة الطالبين وعمدة المفتين (10/ 50 - 51).

طه بن إبراهيم الهمذاني (677 هـ)

وهذا الذي قاله هؤلاء، وإن كان ظاهراً حسناً فالأظهر والله أعلم أن نفس التصديق يزيد بكثرة النظر وتظاهر الأدلة، ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم، بحيث لا تعتريهم الشبه ولا يتزلزل إيمانهم بعارض، بل لا تزال قلوبهم منشرحة نيرة، وإن اختلفت عليهم الأحوال. وأما غيرهم من المؤلفة ومن قاربهم ونحوهم، فليسوا كذلك. فهذا مما لا يمكن إنكاره ولا يتشكك عاقل في أن نفس تصديق أبي بكر الصديق رضي الله عنه لا يساويه تصديق آحاد الناس، ولهذا قال البخاري في صحيحه: قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول أنه على إيمان جبريل وميكائيل. والله أعلم. وأما إطلاق اسم الإيمان على الأعمال فمتفق عليه عند أهل الحق، ودلائله في الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تشهر. قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (¬1) أجمعوا على أن المراد صلاتكم، وأما الأحاديث فستمر بك في هذا الكتاب منها جمل مستكثرات، والله أعلم. (¬2) طه بن إبراهيم الهمذاني (¬3) (677 هـ) طه بن إبراهيم بن أبي بكر، الشيخ جمال الدين أبو محمد الإربلي، الفقيه ¬

(¬1) البقرة الآية (143). (¬2) شرح مسلم (1/ 129 - 133). (¬3) فوات الوفيات (2/ 130 - 131) والبداية والنهاية (13/ 297 - 298) والنجوم الزاهرة (7/ 281) وشذرات الذهب (5/ 357 - 358).

موقفه من المشركين:

الشافعي. ولد بإربل سنة بضع وتسعين وخمسمائة. سمع محمد بن عمار وغيره، وروى عنه الدمياطي والدواداري وغيرهما، كان أديبا فاضلا شاعرا، ومات في جمادى الأولى سنة سبع وسبعين وستمائة. موقفه من المشركين: قال ابن كثير: من إنشاده: دع النجوم لطرقي يعيش بها ... إن النبي وأصحاب النبي نهوا ... وبالعزيمة فانهض أيها الملك عن النجوم وقد أبصرت ما ملكوا (¬1) عبد الساتر بن عبد الحميد الحنبلي (¬2) (679 هـ) الإمام الفقيه تقي الدين أبو الفضل عبد الساتر بن عبد الحميد بن محمد ابن ماضي المقدسي الحنبلي. ولد سنة ثمان وستمائة. سمع موسى بن عبد القادر، والشيخ الموفق وجماعة. روى عنه ابن الخباز وخطيب أفرى علي الكتاني. قال الإمام الذهبي: رأيت له مصنفا في الصفات غالبه جيد. وقال: تلطخ بالتجسيم وكان بريئا منه. لكنه كان لهجا بإيراد الصفات، والتحرش بالخصوم، ومن صير ذلك ديدنه رمي بالتجسيم، كما أن من تتبع غرائب الحديث كذب. يحكي عنه المبغضون أشياء لا تصح نعوذ بالله منها. مات سنة تسع ¬

(¬1) البداية (13/ 297). (¬2) السير (17/ 313) والعبر (2/ 310) وشذرات الذهب (5/ 363 - 364).

موقفه من الجهمية:

وسبعين وستمائة، عن نيف وسبعين سنة. موقفه من الجهمية: قال الذهبي: حدثني الشيخ إبراهيم بن بركات أن بعض الأشعرية قال لعبد الساتر: يا شيخ أنت تقول إن الله استوى على العرش؟ فقال: لا والله، لكن الله تعالى قاله، والرسول عليه السلام بلغه، وأنا صدقته وأنت رددته، فبهت ذلك الرجل. (¬1) جاء في ذيل طبقات الحنابلة: عني بالسنة. وجمع فيها. وناظر الخصوم وكفرهم. وكان صاحب جرأة، وتحرق على الأشعرية، فرموه بالتجسيم. قال الذهبي: ورأيت له مصنفا في الصفات. فلم أر به بأسا. (¬2) الصاحب علاء الدين صاحب الديوان (¬3) (681 هـ) عَطَا مَلِك بن محمد بهاء الدين بن محمد الجويني الخراساني، علاء الدين، صاحب ديوان بغداد. أخو الصاحب والوزير شمس الدين. تأدب بخراسان، ولزم النظم والنثر، والمكارم والسؤدد، وكان فيه عدل ورفق بالرعية حيث أسقط المغارم عن الفلاحين، ولمَّ شعث الناس، وعُمِّرت بغداد به، وكان له إحسان إلى الفقهاء والفضلاء. وقيل في كرمه وجوده الشيء الكثير حتى ¬

(¬1) السير (17/ 313). (¬2) ذيل الطبقات (2/ 299). (¬3) السير (الجزء المفقود/333 - 335) وفوات الوفيات (2/ 452 - 453) والسلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي (2/ 156و164) والعبر (2/ 318) وشذرات الذهب (5/ 382 - 383).

موقفه من المشركين:

قال بعض الناس: كانت بغداد أيام الصاحب علاء الدين أجود ما كانت أيام الخليفة. ولما عاد منكوتمر (من أبناء هولاكوخان) مهزوما من الشام، حُمِل علاء الدين معهم إلى همذان، وهناك مات أبغا ومنكوتمر واختفى الأخوان علاء الدين وشمس الدين، فتوفي علاء الدين بعد الخفية بشهر سنة إحدى وثمانين وستمائة وقيل سنة ثلاث وثمانين، ثم ظفر أرغون (الملك الجديد) بالوزير شمس الدين فقتله. موقفه من المشركين: - قال ابن كثير: وفيها -أي سنة ستة وستين وستمائة- قتل الصاحبُ علاء الدين صاحب الديوان ببغداد ابن الخشكري النعماني الشاعر، وذلك أنه اشتهر عنه أشياء عظيمة، منها أنه يعتقد فضل شعره على القرآن المجيد، واتفق أن الصاحب انحدر إلى واسط فلما كان بالنعمانية، حضر ابن الخشكري عنده وأنشده قصيدة قد قالها فيه، فبينما هو ينشدها بين يديه إذ أذن المؤذن فاستنصته الصاحب، فقال ابن الخشكري: يا مولانا اسمع شيئا جديدا، وأعرض عن شيء له سنين، فثبت عند الصاحب ما كان يقال عنده عنه، ثم باسطه وأظهر أنه لا ينكر عليه شيئا مما قال حتى استعلم ما عنده، فإذا هو زنديق، فلما ركب قال لإنسان معه: استفرده في أثناء الطريق واقتله، فسايره ذلك الرجل حتى إذا انقطع عن الناس قال لجماعة معه: أنزلوه عن فرسه كالمداعب له، فأنزلوه وهو يشتمهم ويلعنهم، ثم قال انزعوا عنه ثيابه، فسلبوها وهو يخاصمهم ويقول: إنكم أجلاف، وإن هذا لعب بارد، ثم قال:

محمد بن أحمد القسطلاني (686 هـ)

اضربوا عنقه، فتقدم إليه أحدهم فضربه بسيفه فأبان رأسه. (¬1) - وقال أيضا: وفيها -أي سنة اثنتين وسبعين وستمائة- فوض ملك التتار إلى علاء الدين صاحب الديوان ببغداد النظر في تستر وأعمالها، فسار إليها ليتصفح أحوالها فوجد بها شابا من أولاد التجار يقال له لي قد قرأ القرآن وشيئا من الفقه والإشارات لابن سينا، ونظر في النجوم، ثم ادعى أنه عيسى بن مريم، وصدقه على ذلك جماعة من جهلة تلك الناحية، وقد أسقط لهم من الفرائض صلاة العصر وعشاء الآخرة، فاستحضره وسأله عن ذلك فرآه ذكيا، إنما يفعل ذلك عن قصد، فأمر به فقتل بين يديه جزاه الله خيرا، وأمر العوام فنهبوا أمتعته وأمتعة العوام ممن كان اتبعه. (¬2) محمد بن أحمد القَسْطَلاَنِي (¬3) (686 هـ) محمد بن أحمد بن علي بن محمد بن الحسن بن عبد الله بن ميمون، الإمام قطب الدين القسطلاني أبو بكر التَّوْزَرِي الأصل، المصري، ثم المكي، ثم المالكي الشافعي. ولد بمصر سنة أربع عشرة وستمائة. وسمع من ابن البناء، وابن الزبيدي ومحمد بن نصر بن الحصري، وطائفة كثيرة. وروى عنه الدمياطي، والمزي، والبرزالي، وخلق. كان شيخا عالما زاهدا عابدا، كريم النفس، كثير الإيثار، حسن الأخلاق، قليل المثال، ولي مشيخة الكاملية إلى ¬

(¬1) البداية (13/ 267). (¬2) البداية (13/ 281). (¬3) الوافي بالوفيات (2/ 132 - 134) وفوات الوفيات (3/ 310 - 312) والبداية والنهاية (13/ 328) وشذرات الذهب (5/ 397).

موقفه من المشركين:

أن مات رحمه الله سنة ست وثمانين وستمائة. موقفه من المشركين: ذكر شيخ الإسلام عن أبي الحسن علي بن قرباص: أنه دخل على الشيخ قطب الدين بن القسطلاني، فوجده يصنف كتابا. فقال: ما هذا؟ فقال: هذا في الرد على ابن سبعين، وابن الفارض وأبي الحسن الجزلي، والعفيف التلمساني. (¬1) ابن النفيس علي بن أبي الحزم (¬2) (687 هـ) إمام الطب علاء الدين بن أبي الحزم بن النفيس القرشي الدمشقي الطبيب صاحب التصانيف. ولد بدمشق واشتغل على المهذب الدخوار شيخ الأطباء. وساد أهل زمانه، وكان لا يضاهى ولا يجارى في هذا الشأن استبحارا واستكثارا واستنباطا واستحضارا. ذكره الإمام أبو حيان فقال: كان يصنف من صدره من غير مراجعة. قرأت عليه جملة من الهداية وكان يقررها أحسن تقرير، وصنف في الفقه وأصوله وفي العربية وفي الحديث وعلم البيان. قيل: أشير عليه أن يتداوي بخمر فقال: لا ألقى الله وفي بطني منه شيء. توفي سنة سبع وثمانين وستمائة. موقفه من المشركين: قال شيخ الإسلام: كان ابن النفيس المتطبب الفاضل يقول: ليس إلا ¬

(¬1) الفتاوى (2/ 243). (¬2) السير (17/ 238 - 239) والنجوم الزاهرة (7/ 377) والسلوك (2/ 209) والشذرات (5/ 401) والبداية والنهاية (13/ 331) والعبر (2/ 325).

إبراهيم بن معضاد (687 هـ)

مذهبان: مذهب أهل الحديث، أو مذهب الفلاسفة، فأما هؤلاء المتكلمون فقولهم ظاهر التناقض والاختلاف. قال ابن تيمية عقيبه: يعني أن أهل الحديث أثبتوا كل ما جاء به الرسول وأولئك جعلوا الجميع تخييلا وتوهيما ومعلوم بالأدلة الكثيرة السمعية والعقلية فساد مذهب هؤلاء الملاحدة، فتعين أن يكون الحق مذهب السلف أهل الحديث والسنة والجماعة. (¬1) إبراهيم بن معضاد (¬2) (687 هـ) أبو إسحاق إبراهيم بن معضاد الجعبري الزاهد الواعظ المذكر. سمع الحديث من أبي الحسن السخاوي بالشام، وقدم القاهرة، وحدث بها فسمع منه أبو حيان شيخ ابن عماد الحنبلي. كان لكلامه وقع في القلوب لصدقه وإخلاصه وصدعه بالحق. مات سنة سبع وثمانين وستمائة عن سبع وثمانين سنة وشهر. موقفه من الصوفية: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وكان الشيخ إبراهيم بن معضاد يقول -لمن رآه من هؤلاء كاليونسية والأحمدية- يا خنازير. يا أبناء الخنازير. ما أرى لله ورسوله عندكم رائحة {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى ¬

(¬1) درء التعارض (1/ 203). (¬2) العبر (2/ 325) وشذرات الذهب (5/ 399 - 400).

الأمير نوروز (696 هـ)

صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52)} (¬1) كل منهم يريد أن يحدثه قلبه عن ربه فيأخذ عن الله بلا واسطة الرسول {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (¬2).اهـ (¬3) الأمير نوروز (¬4) (696 هـ) نوروز نائب القان غازان محمود. كان دينا مسلما عالي الهمة، وهو الذي اجتهد وحرص وبالغ في أمر غازان حتى أسلم وملكه البلاد. ثم إنه وقع بينهما ما وقع مما أدى إلى قتل الأمير نوروز رحمه الله سنة ست وتسعين وستمائة. موقفه من المشركين: قال ابن تيمية: كلما قوى الإسلام في المغل وغيرهم من الترك ضعف أمر هؤلاء لفرط معاداتهم للإسلام وأهله، ولهذا كانوا من أنقص الناس منزلة عند الأمير نوروز المجاهد في سبيل الله الشهيد، الذي دعا ملك المغل غازان إلى الإسلام، والتزم له أن ينصره إذا أسلم، وقتل المشركين الذين لم يسلموا من البخشية السحرة وغيرهم، وهدم البذخانات، وكسر الأصنام، ومزق ¬

(¬1) المدثر الآية (52). (¬2) الأنعام الآية (124). (¬3) مجموع الفتاوى (13/ 224). (¬4) أعيان العصر (4/ 2134 - 2135).

هبة الله القفطي (697 هـ)

سدنتها كل ممزق، وألزم اليهود والنصارى بالجزية والصغار، وبسببه ظهر الإسلام في المغل وأتباعهم. (¬1) هبة الله القِفْطِي (¬2) (697 هـ) القاضي أبو القاسم بهاء الدين هبة الله بن عبد الله بن سيد الكل القفطي نسبة إلى فقط بلد بصعيد مصر، واختلف في مولده فقيل سنة ستمائة أو إحدى وستمائة، وقيل في أواخر سنة تسع وتسعين وخمسمائة، ولعل الأقرب إحدى وستمائة -كما في طبقات الشافعية-. سمع من الشيخ مجد الدين القشيري، والإمام شمس الدين الأصبهاني، والفقيه أبي الحسن علي بن هبة الله بن سلامة، وغيرهم، وسمع منه تقي الدين ابن دقيق العيد، والدشناوي، وطلحة بن تقي الدين القشيري وغيرهم. برع في الفقه والأصول والنحو والفرائض والجبر والمقابلة والحديث وانتفع به الناس، وتخرجت به الطلبة، وولي قضاء أسنا وتدريس المدرسة المعزية بها، وترك القضاء أخيرا، واستمر على العلم والعبادة إلى أن توفي رحمه الله بأسنا سنة سبع وتسعين وستمائة. موقفه من الرافضة: جاء في شذرات الذهب: وولى قضاء أسنا، وتدريس المدرسة المعزية بها، وكانت أسنا مشحونة بالروافض، فقام في نصرة السنة وأصلح الله به ¬

(¬1) المنهاج (3/ 447 - 448). (¬2) شذرات الذهب (5/ 439) طبقات الشافعية الكبرى (5/ 163) وكشف الظنون (2/ 1955).

الدباغ القيرواني (699 هـ)

خلقا، وهمت الروافض بقتله فحماه الله منهم. (¬1) وله من الآثار: 1 - 'النصائح المفترضة في فضائح الرافضة'. المصدر: كشف الظنون (¬2) وطبقات الشافعية لابن السبكي (¬3). 2 - 'الأنباء المستطابة في فضائل الصحابة والقرابة'. المصدر: كشف الظنون (¬4) وطبقات الشافعية لابن السبكي (¬5). الدباغ القيرواني (¬6) (699 هـ) عبد الرحمن بن محمد بن علي، أبو زيد الأنصاري الأسيدي القيرواني المعروف بالدباغ. ولد سنة خمس وستمائة. أخذ عن أعلام منهم: والده، وأبو عبد الله المعروف بالحنفي، وعن أبي عمر عثمان بن سفيان المعروف بابن شقر، وأبي المكارم محمد بن أحمد بن يوسف بن موسى، وغيرهم. وهم أكثر من ثمانين شيخا، وله برنامج فيه أسماؤهم وما روى عنهم. قال العبدري في رحلته: لقيته يوم ورودنا القيروان، فرأيت شيخا زكيا حصيفا، ذا سمت وهيئة وسكون ظاهر، محبا لأهل العلم، حسن الرجاء، بر ¬

(¬1) شذرات الذهب (5/ 439 - 440). (¬2) (2/ 1955). (¬3) (5/ 164). (¬4) (1/ 171). (¬5) (5/ 164). (¬6) تذكرة الحفاظ (4/ 1489) وشجرة النور الزكية (1/ 193) والحال السندسية في الأخبار التونسية (1/ 249 - 256) والأعلام للزركلي (3/ 329).

موقفه من المبتدعة:

اللقاء، لم يؤثر الكبر في جسمه على علو سنه، ولا تغير شيء من ذهنه وحواسه. له من المؤلفات: 'معالم الإيمان وروضات الرضوان في مناقب المشهورين من صلحاء القيروان'، وتاريخ ملوك الإسلام، وجلاء الأفكار في مناقب الأنصار وغيرها. توفي رحمه الله سنة تسع وتسعين وستمائة عن أربع وتسعين سنة. موقفه من المبتدعة: قال في معالم الإيمان: وأما فضل القيروان عموما فمعلوم على تعاقب الزمان، متداول بين الأمم لا يختلف فيه اثنان، ناهيك من قوم سلفهم الأول أفاضل الصحابة والتابعين الذين فتح الله بهم أقطار المغارب، وجالت في أرجائه منهم أفضل الجيوش والكتائب، وعلى أيديهم أسلم سائره، وانتصفت من طائفة الكفر جنود الحق وعساكره، وأما من جاء بعدهم فعلماء الدين، والقدوة لسائر المسلمين، مصابيح الظلام، وأئمة الاقتداء، وهم الذين كانت تشد إليهم الإبل، وبالجملة فالذي كان أهل القيروان عليه قديما من قوة الإيمان بالله، والانتصار للحق، والصبر على الأذى في الله، والجهاد لإعزاز الدين، والقيام بالرد على أهل الأهواء بالدلائل القاطعة. والحجج الدامغة لتثبيت عقائد عامة الموحدين، فقد ناضلوا بالسيوف، وجادلوا باللسان في تقرير الدين وتثبيت قواعد اليقين، فذلك كله شيء لا يسعه ديوان، ولا يمليه لسان، قد امتحنوا باستيلاء الخوارج عليهم من الصفرية والإباضية، وكذلك امتحنوا بخلق القرآن في زمن الواثق، وعزم محمد بن الأغلب على قتل محمد

أبو محمد ابن أبي جمرة (699 هـ)

ابن سعيد، فما زالوا على اعتقاد أهل السنة، وصبروا على الأذى في دين الله وما زادهم إلا يقينا وبصيرة في دينهم، ولما استولى العبيديون على إفريقية وانضافت إليهم طوائف كثيرة من أهل الشيع الغالبة، قدموا عليهم من البلاد متوسلين إليهم بحب أهل البيت والتعصب لهم، حتى ولوهم الولايات ورفعوا منازلهم، ثم أظهروا مذهبهم الفاسد في سب الصحابة رضوان الله عليهم وتبديل الشرائع والإضرار بأهل السنة، مثل محمد بن عمر المروزي لعنه الله، وعبد الله بن محمد الكاتب، ومحمد بن أبي سعيد، حتى كشف الله أستارهم فقتلوا بالعذاب، وبعد ذلك هجم أهل القيروان على هؤلاء الأشرار بعد ما تولى المعز بن باديس، فقتلوهم عن آخرهم وطهر الله القيروان من رجسهم والحمد لله رب العالمين. ولم يزل أهل القيروان في جهاد مع الفرق الضالة والفئة المارقة، ولم يزل الشيخ الأوحد أبو عثمان سعيد بن الحداد، وأبو محمد عبد الله بن إسحاق التبان، يناظران على مذهب أهل السنة ويرون ذلك من أعظم الجهاد، حتى أخمد الله نارهم، وقل عددهم، وظهر حزب الحق، وأعلا الله كلمته، والحمد لله رب العالمين. (¬1) أبو محمد ابن أبي جمرة (¬2) (699 هـ) عبد الله بن سعد بن سعيد بن أبي جمرة الأزدي الأندلسي، أبو محمد ¬

(¬1) معالم الإيمان (1/ 24 - 25). (¬2) البداية والنهاية (13/ 366) وشجرة النور الزكية (1/ 199) والأعلام للزركلي (4/ 89).

موقفه من المبتدعة:

المحدث الراوية المقرئ. أخذ عن جماعة منهم أبو الحسن الزيات، وأخذ عنه صاحب المدخل ابن الحاج. له جمع النهاية اختصر به صحيح البخاري، وشرحه بهجة النفوس. قال عنه ابن كثير: كان قوالا بالحق، أمارا بالمعروف، ونهاء عن المنكر. وله ميل إلى التصوف واضح خصوصا في كتابه بهجة النفوس. توفي رحمه الله سنة تسع وتسعين وستمائة هجرية، وقيل سنة خمس وتسعين. موقفه من المبتدعة: قال في كتابه 'بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما لها وما عليها'، وهو شرح مختصر صحيح البخاري المسمى جمع النهاية في بدء الخير والغاية -ويظهر من خلال هذا الشرح صوفية الرجل- وله كلمات في الذب عن السنة وذم البدعة، منها ما قاله عند شرح حديث: «إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبدا نادى جبريل إن الله قد أحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي جبريل في السماء إن الله قد أحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ويوضع له القبول في أهل الأرض» (¬1): ويؤخذ بقوة الكلام من مفهوم هذا الحديث الندب على توفية أفعال البر على اختلاف أنواعها من فرض وسنة وندب إلى غير ذلك من أنواعه، إذ أن بذلك يحصل للعبد بفضل الله هذه المنزلة الرفيعة ويفهم منه أيضا كثرة الحذر وشدة النهي عن المعاصي والبدع التي بها يحرم العبد هذه ¬

(¬1) أحمد (2/ 514) والبخاري (6/ 373/3209) ومسلم (4/ 2030/2637) والترمذي (5/ 297 - 298/ 3161) من حديث أبي هريرة.

القرن 8

المنزلة الجليلة. (¬1) أحمد بن إبراهيم (¬2) (708 هـ) الحافظ أحمد بن إبراهيم بن الزبير، أبو جعفر الأندلسي النحوي. ولد سنة سبع وعشرين وستمائة. وتلا بالسبع على أبي الحسن الشاري، وسمع منه ومن إسحاق بن إبراهيم الطوسي والمؤرخ أحمد بن يوسف بن فرتون وأبي الوليد إسماعيل بن يحيى الأزدي وأبي الحسين بن السراج وغيرهم، وبه تخرج أبو حيان. قال ابن ناصر الدين: كان نحويا حافظا علامة، أستاذ القراء ثقة عمدة. وقال الكمال جعفر: كان ثقة قائما بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قامعا لأهل البدع، وله مع ملوك عصره وقائع وكان معظما عند الخاصة والعامة، حسن التعلم ناصحا. توفي رحمه الله سنة ثمان وسبعمائة. موقفه من المشركين: جاء في البدر الطالع: من مناقبه أن الفازاري الساحر ادعى النبوة فقام عليه فاستظهر عليه بتقربه إلى أميرها بالسحر، وأوذي أبو جعفر فتحول إلى غرناطة، فاتفق قدوم الفازاري رسولا من أمير (مالقه)، فاجتمع أبو جعفر بصاحب غرناطة، ووصف له حال الفازاري، فأذن له إذا انصرف بجواب رسالته أن يخرج إليه ببعض أهل البلد، ويطالبه من نائب الشرع، ففعل، فثبت عليه الحد، وحكم بقتله، فضرب بالسيف فلم يؤثر فيه. فقال أبو جعفر ¬

(¬1) بهجة النفوس (4/ 282). (¬2) العبر (2/ 365) والدرر الكامنة (1/ 84 - 86) والبدر الطالع (1/ 33 - 35) وشذرات الذهب (6/ 16).

مسعود بن أحمد (711 هـ)

جردوه، فجردوه فوجدوا جسده مكتوبا فغسل، ثم وجد تحت لسانه حجرا لطيفا فنزعه، فعمل فيه السيف فقتله. قال بعض من ترجمه -أي أحمد بن إبراهيم الأندلسي- كان ثقة قائما بالمعروف والنهي عن المنكر، دامغا لأهل البدع. وله مع ملوك عصره وقائع، وكان معظما عند الخاصة والعامة. (¬1) مسعود بن أحمد (¬2) (711 هـ) سعد الدين مسعود بن أحمد بن مسعود أبو محمد وأبو عبد الرحمن، الحافظ قاضي الحنابلة الحارثي، ولد سنة اثنتين أو ثلاث وخمسين وستمائة. سمع بمصر من الرضى بن البرهان، والنجيب الحراثي، وجماعة من أصحاب البوصيري وطبقته، وبالإسكندرية من عثمان بن عوف، وابن الفرات، وبدمشق من أبي زكريا بن الصيرفي، وخلق من هذه الطبقة. سمع منه: إسماعيل ابن الخباز -وهو أسن منه- وأبو الحجاج المزي وأبو محمد البرزالي. عني بالحديث. وقرأ بنفسه، وكتب بخطه الكثير، وخرج لجماعة من الشيوخ معاجم، ودرس بعدة أماكن، كالمنصورية، وجامع الحاكم، وولي القضاء سنتين ونصفا، وكان سنيا أثريا، متمسكا بالحديث، قال الذهبي: وكان عارفا بمذهبه ثقة متقنا صيتا مليح الشكل، فصيح العبارة، وافر التجمل، كبير القدر حج غير مرة وشرح بعض السنن لأبي داود. وانتقل إلى الله في سحر يوم الأربعاء رابع ¬

(¬1) البدر الطالع (1/ 34 - 35) والدرر الكامنة (1/ 85 - 86). (¬2) ذيل طبقات الحنابلة (2/ 362) وشذرات الذهب (6/ 28 - 29) والبداية والنهاية (14/ 67) وتذكرة الحفاظ (4/ 1495).

موقفه من المشركين:

عشر ذي الحجة سنة إحدى عشرة وسبعمائة بالقاهرة رحمه الله. موقفه من المشركين: جاء في العقد الثمين عنه قال: الحمد لله، ما ذكر من الكلام المنسوب إلى الكتاب المذكور -أي الفصوص- يتضمن الكفر. ومن صدق به فقد تضمن تصديقه بما هو كفر يجب في ذلك الرجوع عنه، والتلفظ بالشهادتين عنده. وحق على كل من سمع ذلك إنكاره. ويجب محو ذلك وما كان مثله وقريبا منه من هذا الكتاب، ولا يترك بحيث يطلع عليه، فإن في ذلك ضررا عظيما على من لم يستحكم الإيمان في قلبه، وربما كان في الكتاب تمويهات وعبارات مزخرفة وإشارات إلى ذلك لا يعرفه كل أحد فيعظم الضرر. وكل هذه التمويهات ضلالات وزندقة. والحق إنما هو في اتباع كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقول القائل: إنه أخرج الكتاب بإذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنام رآه، فكذب منه على رؤياه للنبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) محمد بن يوسف الجَزَرِي (¬2) (711 هـ) محمد بن يوسف بن عبد الله بن محمود الجزري المصري أبو عبد الله. ولد في حدود سنة ثلاثين وقيل سبع وثلاثين وستمائة بجزيرة ابن عمر. سمع من الشيخ شمس الدين الأصبهاني شارح المحصول في العقليات، ومن أبي المعالي أحمد بن إسحاق الأبرقوهي. وسمع منه: السبكي، وانتفع به الناس. كان ¬

(¬1) العقد الثمين (2/ 284). (¬2) طبقات الشافعية (6/ 31) والوافي بالوفيات (5/ 263) الدرر الكامنة (4/ 299) وشذرات الذهب (6/ 42).

موقفه من المشركين:

خطيبا بالجامع الصالحي بمصر ثم بالجامع الطولوني وكان إماما في الأصلين والفقه والنحو والمنطق والبيان والطب ودرس بالمعزية والشريفية، وانتصب للإقراء فكان لا يفرغ لنفسه ساعة واحدة، ويقرأ عليه المسلمون واليهود والنصارى، وكان حسن الصورة مليح الشكل حلو العبارة كريم الأخلاق يسعى في قضاء حوائج الناس، ويبذل جاهه لمن يقصده. توفي بمصر في سادس ذي القعدة سنة إحدى عشرة وسبعمائة. موقفه من المشركين: جاء في العقد الثمين عنه قال -في الرد على ابن عربي الصوفي-: الحمد لله. قوله: فإن آدم عليه السلام إنما سمي إنسانا، تشبيه وكذب باطل، وحكمه بصحة عبادة قوم نوح للأصنام كفر لا يقر قائله عليه. وقوله: إن الحق المنزه هو الخلق المشبه، كلام باطل متناقض، وهو كفر. وقوله في قوم هود: إنهم حصلوا في عين القرب، افتراء على الله ورد لقوله فيهم. وقوله: زال البعد وصيرورة جهنم في حقهم نعيما، كذب وتكذيب للشرائع، بل الحق ما أخبر الله به من بقائهم في العذاب. وأما من يصدقه فيما قاله -لعلمه بما قال- فحكمه كحكمه من التضليل والتكفير إن كان عالما، فإن كان ممن لا علم له فإن قال ذلك جهلا عرف بحقيقة ذلك، ويجب تعليمه وردعه عنه مهما أمكن، وإنكاره الوعيد في حق سائر العبيد كذب ورد لإجماع المسلمين، وإنجاز من الله عز وجل للعقوبة، فقد دلت الشريعة دلالة ناطقة أن لابد من عذاب طائفة من عصاة المؤمنين،

عماد الدين الحزامي (711 هـ)

ومنكر ذلك يكفر عصمنا الله من سوء الاعتقاد وإنكار المعاد والله أعلم. (¬1) التعليق: من قرأ هذا الجواب -الذي يثلج الصدر على كتاب الفصوص للزنديق ابن عربي- يحمد الله تعالى على وجود أمثال هؤلاء العلماء القائمين لله بالحق، والرادين للباطل مهما كان قائله، ويكشفون حاله سواء تلبس بولاية أو صوفية أو حب آل البيت إلى غير ذلك من الأشكال التي يتلبس بها المبتدعة، فعليك يا ابن عربي ما تستحق من ربك، لقد ضل بك خلق كثير في كل وقت وحين وما يزال المثقفون الآن والدعاة يقولون: الولي الكبير سيدي ابن عربي. هداهم الله للتعرف على عقيدتهم الحقة. عماد الدين الحزامي (¬2) (711 هـ) أحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن عماد الدين أبو العباس الشيخ القدوة ابن شيخ الحزامية الواسطي الشافعي. ولد في حادي عشر أو ثاني عشر ذي الحجة سنة سبع وخمسين وستمائة بشرقي واسط. اجتمع بالفقهاء بواسط كالشيخ عز الدين الفاروتي وغيره، وصاحب الشيخ تقي الدين ابن تيمية حين قدم دمشق واستفاد منه. كان يقرأ الكافي على الشيخ مجد الدين الحراني، وكتب عنه الذهبي والبرزالي، وسمع منه جماعة من شيوخ ابن رجب وغيرهم. تفقه وتأدب ولقي المشايخ وتزهد وتعبد. كان ابن تيمية رحمه الله ¬

(¬1) العقد الثمين (2/ 284 - 285). (¬2) طبقات الحنابلة (4/ 358 - 360) وشذرات الذهب (6/ 24 - 25).

موقفه من الصوفية:

يعظمه ويجله، وكتب إليه كتابا من مصر أوله: إلى شيخنا الإمام العارف القدوة السالك. كان ذا ورع وإخلاص ومنابذة للاتحادية وذوي العقول والمبتدعة، وكان داعية إلى السنة، وكان يتقوت من النسخ، ولا يكتب إلا مقدار ما يدفع به الضرورة، وكان أبوه شيخ الطائفة الأحمدية، ونشأ بينهم، وتأثر بهم في تصوفهم إلى أن وفق له شيخ الإسلام ابن تيمية، فدله على مطالعة السيرة النبوية، وأقبل على مطالعة كتب الحديث والسنة والآثار، فتخلى عن جميع أحوالهم وطرائقهم وسلوكهم، واقتفى آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديه. وكان محبا لأهل الحديث، معظما لهم، وأوقاته محفوظة. ولم يزل على ذلك إلى أن توفي آخر نهار السبت سادس عشر ربيع الآخر سنة إحدى عشر وسبعمائة بالمارستان الصغير بدمشق. موقفه من الصوفية: جاء في ذيل طبقات الحنابلة: وكان أبوه شيخ الطائفة الأحمدية، ونشأ الشيخ عماد الدين بينهم، وألهمه الله من صغره طلب الحق ومحبته، والنفور عن البدع وأهلها، فاجتمع بالفقهاء بواسط كالشيخ عز الدين الفاروتي وغيره. وقرأ شيئا من الفقه على مذهب الشافعي. ثم دخل بغداد، وصحب بها طوائف من الفقهاء، وحج واجتمع بمكة بجماعة منهم. وأقام بالقاهرة مدة ببعض خوانقها، وخالط طوائف الفقهاء، ولم يسكن قلبه إلى شيء من الطوائف المحدثة. واجتمع بالإسكندرية بالطائفة الشاذلية، فوجد عندهم ما يطلبه من لوايح المعرفة، والمحبة والسلوك، فأخذ ذلك عنهم، ... واقتفى طريقتهم وهديهم.

أم زينب فاطمة بنت عباس (714 هـ)

ثم قدم دمشق، فرأى الشيخ تقي الدين ابن تيمية وصاحبه، فدله على مطالعة السيرة النبوية، فأقبل على سيرة ابن إسحاق تهذيب ابن هشام، فلخصها واختصرها، وأقبل على مطالعة كتب الحديث والسنة والآثار، وتخلى من جميع طرائقه وأحواله، وأذواقه وسلوكه، واقتفى آثار الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهديه، وطرائقه المأثورة عنه في كتب السنن والآثار، واعتنى بأمر السنة أصولا وفروعا، وشرع في الرد على طوائف المبتدعة الذين خالطهم وعرفهم من الاتحادية وغيرهم، وبين عوراتهم، وكشف أستارهم. (¬1) له من الآثار: جزء في الرد على الاتحادية والمبتدعة، انظر ذيل طبقات الحنابلة (¬2). أم زينب فاطمة بنت عباس (¬3) (714 هـ) فاطمة بنت عباس بن أبي الفتح البغدادية أم زينب الواعظة العالمة المسندة المفتية، الخيرة الصالحة، المتقنة المحققة الكاملة الفاضلة، الواحدة في عصرها، والفريدة في دهرها، المقصودة في كل ناحية. أخذت عن الشيخ شمس الدين بن أبي عمر وغيره من المقادسة، وكانت تحضر مجلس الشيخ ابن تيمية وتستفيد منه وانتفع بها نساء أهل دمشق حيث ختّمت كثيرا منهن القرآن. كان ابن تيمية يثني عليها ويتعجب من حرصها وذكائها ويذكر عنها أنها كانت تستحضر كثيرا من المغني، وأنه كان يستعد لها من كثرة مسائلها وحسن سؤالاتها وسرعة فهمها. وكانت آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، وقل من أنجب من النساء مثلها. توفيت ليلة عرفة سنة أربع عشرة وسبعمائة، رحمها الله تعالى. موقفها من الصوفية: جاء في البداية والنهاية: ... وكانت من العالمات الفاضلات، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتقوم على الأحمدية في مواخاتهم النساء والمردان. وتنكر أحوالهم وأصول أهل البدع وغيرهم، وتفعل من ذلك ما لا تقدر عليه الرجال. وقد كانت تحضر مجلس الشيخ تقي الدين ابن تيمية فاستفادت منه ذلك وغيره، وقد سمعتُ الشيخ تقي الدين يثني عليها ويصفها بالفضيلة والعلم، ويذكر عنها ¬

(¬1) ذيل طبقات الحنابلة (4/ 359). (¬2) (4/ 360). (¬3) البداية والنهاية (14/ 74 - 75) وشذرات الذهب (6/ 34) وذيل طبقات الحنابلة (2/ 467 - 468) والدرر الكامنة (3/ 226).

أنها كانت تستحضر كثيرا من المغني أو أكثره، وأنه كان يستعد لها من كثرة مسائلها وحسن سؤالاتها وسرعة فهمها، وهي التي خَتَّمَتْ نساء كثيرا القرآن، منهن أم زوجتي عائشة بنت صديق زوجة الشيخ جمال الدين المزي، وهي التي أقرأت ابنتها زوجتي أمة الرحيم زينب رحمهن الله وأكرمهن برحمته وجنته آمين. (¬1) التعليق: والحمد لله الذي أوجد حتى من النساء من يدافع عن العقيدة السلفية. وغير هذه الصالحة كثيرات، ولكن لعل المؤرخين بخلوا بنقلهن إلينا. ذلك ¬

(¬1) البداية والنهاية (14/ 74 - 75).

موقف السلف من محمد بن الحسن الزنديق (717 هـ)

فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. موقف السلف من محمد بن الحسن الزنديق (717 هـ) جاء في البداية والنهاية: وفي هذه السنة خرجت النصيرية عن الطاعة وكان من بينهم رجل سموه محمد بن الحسن المهدي القائم بأمر الله، وتارة يدعي علي بن أبي طالب فاطر السماوات والأرض، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وتارة يدعي أنه محمد بن عبد الله صاحب البلاد، وخرج يكفر المسلمين، وأن النصيرية على الحق، واحتوى هذا الرجل على عقول كثير من كبار النصيرية الضلال، وعين لكل إنسان منهم تقدمة ألف، وبلادا كثيرة ونيابات، وحملوا على مدينة جبلة فدخلوها وقتلوا خلقا من أهلها، وخرجوا منها يقولون لا إله إلا علي، ولا حجاب إلا محمد، ولا باب إلا سلمان، وسبوا الشيخين، وصاح أهل البلد وا إسلاماه، وا سلطاناه، وا أميراه، فلم يكن لهم يومئذ ناصر ولا منجد، وجعلوا يبكون ويتضرعون إلى الله عز وجل، فجمع هذا الضال تلك الأموال فقسمها على أصحابه وأتباعه قبحهم الله أجمعين. وقال لهم: لم يبق للمسلمين ذكر ولا دولة، ولو لم يبق معي سوى عشرة نفر لملكنا البلاد كلها. ونادى في تلك البلاد: إن بالمقاسمة بالعشر لا غير ليرغب فيه، وأمر أصحابه بخراب المساجد واتخاذها خمارات، وكانوا يقولون لمن أسروه من المسلمين: قل لا إله إلا علي، واسجد لإلهك المهدي، الذي يحيي ويميت حتى يحقن دمك، ويكتب لك فرمان، وتجهزوا

محمد بن قوام (718 هـ)

وعملوا أمرا عظيما جدا، فجردت إليهم العساكر فهزموهم وقتلوا منهم خلقا كثيرا، وجما غفيرا، وقتل المهدي أضلهم، وهو يكون يوم القيامة مقدمهم إلى عذاب السعير، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)} (¬1).اهـ (¬2) محمد بن قوام (¬3) (718 هـ) الشيخ الصالح أبو عبد الله محمد بن الشيخ الصالح عمر بن أبي بكر بن قوام البالسي. ولد سنة خمسين وستمائة ببالس. سمع من أصحاب ابن طبرزد. قال ابن كثير: كان حسن العقيدة وطويته صحيحة، محبا للحديث وآثار السلف. وقال الذهبي: كان محمود الطريقة، متين الديانة. وقال: كان ذا همة وجلادة وذكر وعبادة، لكنه أَضَرَّ وثقل سمعه. توفي رحمه الله سنة ثمان عشرة وسبعمائة، وحضر جنازته خلق كثير، من جملتهم شيخ الإسلام ابن تيمية. موقفه من المبتدعة: جاء في البداية والنهاية: قام الشيخ محمد بن قوام ومعه جماعة من الصالحين على ابن زهرة المغربي الذي كان يتكلم بالكلاسة، وكتبوا عليه ¬

(¬1) الحج الآيتان (3و4). (¬2) البداية (14/ 85 - 86). (¬3) العبر (2/ 384) والبداية والنهاية (14/ 91 - 92) والدرر الكامنة (4/ 124) وشذرات الذهب (6/ 49).

محمد بن حنش (719 هـ)

محضرا يتضمن استهانته بالمصحف، وأنه يتكلم في أهل العلم، فأحضر إلى دار العدل، فاستسلم وحقن دمه وعزر تعزيرا بليغا عنيفا وطيف به في البلد باطنه وظاهره، وهو مكشوف الرأس ووجهه مقلوب وظهره مضروب، ينادى عليه هذا جزاء من يتكلم في العلم بغير معرفة، ثم حبس وأطلق فهرب إلى القاهرة، ثم عاد على البريد في شعبان ورجع إلى ما كان عليه. (¬1) محمد بن حَنَش (¬2) (719 هـ) محمد بن يحيى بن أحمد بن حنش اليماني. ولد بعد سنة خمسين وستمائة. وقرأ على علماء عصره حتى برع في فنون عدة وبلغ رتبة الاجتهاد وأخذ عنه جماعة من أكابر العلماء كالإمام محمد بن المطهر، وله مصنفات. وكان زاهدا عابدا فصيح العبارة سريع الجواب، مستحضرا للفنون محققا في جميع مباحثه توفي سنة تسع عشرة وسبعمائة. موقفه من المشركين: آثاره السلفية: 'القاطعة في الرد على الباطنية'. (¬3) ¬

(¬1) البداية (14/ 68). (¬2) البدر الطالع (2/ 277) الأعلام (7/ 138) ومعجم المؤلفين (12/ 98). (¬3) البدر الطالع (2/ 277).

شرف الدين أبو عبد الله ابن النجيح (723 هـ)

شرف الدين أبو عبد الله ابن النجيح (¬1) (723 هـ) محمد بن سعد الله بن عبد الأحد شرف الدين أبو عبد الله الحراني المعروف بابن النجيح الحنبلي. سمع من الفطر بن البخاري وزينب بنت مكي وتفقه ولازم ابن تيمية وأذن له. طلب الحديث وقرأ بنفسه وتفقه وأفتى. كان صحيح الذهن جيد المشاركة في العلوم، من خيار الناس وعقلائهم وعلمائهم. كان مع شيخ الإسلام في مواطن كبار صعبة، لا يستطيع الإقدام عليها إلا الأبطال الخلص الخواص، وسجن معه، وقد كان هذا الرجل في نفسه وعند الناس جيدا مشكور السيرة جيد العقل والفهم عظيم الديانة والزهد. ولهذا كانت عاقبته هذه الموتة عقيب الحج في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة بوادي بني سالم، وحمل إلى المدينة النبوية على أعناق الرجال ودفن بالبقيع رحمه الله. موقفه من المبتدعة: محنته وصبره على عقيدته السلفية: قال الحافظ ابن كثير: قد صحب شيخَنا العلامة تقي الدين بن تيمية، وكان معه في مواطن كبار صعبة لا يستطيع الإقدام عليها إلا الأبطال الخلص الخواص، وسجن معه، وكان من أكبر خدامه وخواص أصحابه، ينال فيه الأذى وأوذي بسببه مرات ... (¬2) ¬

(¬1) الدرر الكامنة (3/ 443 - 444) وشذرات الذهب (6/ 61) والبداية والنهاية (14/ 114) وذيل طبقات الحنابلة (2/ 376). (¬2) (14/ 114).

شهاب الدين ابن مري (كان حيا سنة 725 هـ)

شهاب الدين ابن مري (¬1) (كان حيا سنة 725 هـ) الشيخ أحمد بن محمد بن مري شهاب الدين البعلبكي الحنبلي. كان رحمه الله في بداية أمره منحرفا عن شيخ الإسلام ابن تيمية، ثم اجتمع به فأحبه، وأصبح من المدافعين عنه، وعن عقيدته السلفية. رحل إلى مصر واجتمع بالأمير بدر الدين خبكلي بن الباب فأذن له بالتحديث بجامع الأمير شرف الدين حسين بن جندربحكر جوهر النوبي وحدث أيضا بجامع عمرو ابن العاص. وقعت له محنة مع العوام، فمنعه القاضي المالكي من الجلوس في سادس عشر ربيع الأول سنة خمس وعشرين وسبعمائة، ثم حبس وضرب ثم سفر وأهله إلى بلد الخليل. وكان يتردد على دمشق. موقفه من المبتدعة: محنته بسبب عقيدته السلفية: جاء في البداية والنهاية: وفيها منع الشيخ شهاب الدين بن مري البعلبكي من الكلام على الناس بمصر على طريقة الشيخ تقي الدين ابن تيمية. وعزره القاضي المالكي بسبب الاستغاثة وحضر المذكور بين يدي السلطان وأثنى عليه جماعة من الأمراء ثم سُفِّرَ إلى الشام بأهله فنزل ببلاد الخليل، ثم انتزح إلى بلاد الشرق، وأقام بسنجار وماردين ومعاملتهما يتكلم ويعظ الناس إلى أن مات. (¬2) ¬

(¬1) البداية والنهاية (14/ 121) وأعيان العصر (1/ 231) والدرر الكامنة (1/ 302 - 303). (¬2) (14/ 121).

موقفه من المشركين والصوفية:

موقفه من المشركين والصوفية: محنته بسبب عقيدته السلفية: جاء في الدرر الكامنة: أحمد بن محمد بن مري البعلي الحنبلي كان منحرفا عن ابن تيمية، ثم اجتمع به، فأحبه وتتلمذ له وكتب مصنفاته، وسلك طريقه في الحط على الصوفية، ثم إنه تكلم في مسألة التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وفي مسألة الزيارة وغيرهما على طريق ابن تيمية فوثب به جماعة من العامة ومن يتعصب للصوفية وأرادوا قتله فهرب فرفعوا أمره إلى القاضي المالكي تقي الدين الأخنائي فطلبه وتغيب عنه فأرسل إليه وأحضره وسجنه ومنعه من الجلوس وذلك بعد أن عقد له مجلس بين يدي السلطان وذلك في ربيع الآخر سنة 725هـ فأثنى عليه بدر الدين ابن جنكلي وبدر الدين ابن جماعة وغيرهما من الأمراء، وعارضهم الأمير -إيدمر- الحظيري، فحط عليه وعلى شيخه وتفاوض هو وجنكلي حتى كادت تكون فتنة ففوض السلطان الأمر لأرغون النائب فأغلظ القول للفخر ناظر الجيش وذكر أنه يسعى للصوفية بغير علم، وأنهم تعصبوا عليه بالباطل فآل الأمر إلى تمكين المالكي منه، فضربه بحضرته ضربا مبرحا حتى أدماه ثم شهره على حمار أركبه مقلوبا ثم نودي عليه: هذا جزاء من يتكلم في حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكادت العامة تقتله ثم أعيد إلى السجن ثم شفع فيه، فآل أمره إلى أن سفر من القاهرة إلى الخليل فرحل بأهله وأقام به ... (¬1) ¬

(¬1) الدرر الكامنة (1/ 302 - 303).

موقف السلف من الزنادقة (726 هـ)

موقف السلف من الزنادقة (726 هـ) جاء في البداية والنهاية: وفي يوم الثلاثاء حادي عشرين ربيع الأول بكرة ضربت عنق ناصر بن الشرف أبي الفضل بن إسماعيل بن الهيثي بسوق الخيل على كفره واستهانته واستهتاره بآيات الله، وصحبته الزنادقة كالنجم ابن خلكان، والشمس محمد الباجريقي، وابن المعمار البغدادي، وكل فيهم انحلال وزندقة مشهور بها بين الناس. قال الشيخ علم الدين البرزالي: وربما زاد هذا المذكور المضروب العنق عليهم بالكفر والتلاعب بدين الإسلام، والاستهانة بالنبوة والقرآن. قال وحضر قتله العلماء والأكابر وأعيان الدولة. قال: وكان هذا الرجل في أول أمره قد حفظ التنبيه، وكان يقرأ في الختم بصوت حسن. وعنده نباهة وفهم، وكان منزلا في المدارس والترب، ثم إنه انسلخ من ذلك جميعه، وكان قتله عزا للإسلام وذلا للزنادقة وأهل البدع. قلت: وقد شهدت قتله، وكان شيخنا أبو العباس ابن تيمية حاضرا يومئذ، وقد أتاه وقرعه على ما كان يصدر منه قبل قتله، ثم ضربت عنقه وأنا شاهد ذلك. (¬1) التعليق: جزى الله خيرا علماء المسلمين وأمراءهم الذين ما تركوا زنديقا إلا صلبوه أو ضربوا عنقه إلا من هرب وفلت. واليوم لو أردت أن تطبق حد ¬

(¬1) البداية (14/ 127).

شرف الدين ابن تيمية (727 هـ)

الزندقة في بلاد المسلمين التي عطلت الحدود الشرعية بالكلية إلا من شاء الله منها، فلا أدري كم يصفو لك من هذا؟! لأن الإلحاد الذي هو أكبر الزندقة يدرس في المدارس، وما أهداف الشيوعيين والاشتراكيين والبعثيين وأذنابهم إلا نشره في المجتمعات الإسلامية. ولهذا هم لا يحبون أن يسمعوا شيئا يسمى إسلاما، لأن فيه تطبيق حد الزندقة على أمثالهم ممن يأكلون دريهمات روسيا والصين وغيرها من دول الزندقة. شرف الدين ابن تيمية (¬1) (727 هـ) عبد الله بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن الخضر بن تيمية الحراني شرف الدين أبو محمد الدمشقي أخو الشيخ الإمام العلامة تقي الدين. ولد في حادي عشر محرم سنة ست وستين وستمائة بحران. سمع من ابن أبي اليسر وابن علان وابن الصيرفي وابن أبي عمر وخلق كثير وسمع منه الطلبة. ذكره الذهبي في معجم شيوخه. فقال: كان إماما بارعا، فقيها عارفا بالمذهب وأصوله وأصول الديانات، عارفا بدقائق العربية، وبالفرائض والحساب والهيئة، كثير المحفوظ، له مشاركة جيدة في الحديث، ومشاهير الأئمة والحوادث، ويعرف قطعة كثيرة من السيرة، وكان متقنا للمناظرة وقواعدها، والخلاف. وكان حلو المحاضرة متواضعا، كثير العبادة والخير ذا حظ من صدق وإخلاص وتوجه وعرفان، وانقطاع بالكلية عن الناس، قانعا ¬

(¬1) الدرر الكامنة (2/ 266) وشذرات الذهب (6/ 76) وذيل طبقات الحنابلة (2/ 382) والوافي بالوفيات (17/ 240).

موقفه من الجهمية:

بيسير اللباس. سمع المسند والصحيحين وكتب السنن، وكان كثير العبادة والتأله، والمراقبة والخوف من الله تعالى. سئل عنه الشيخ كمال الدين بن الزملكاني فقال: هو بارع في فنون عديدة من الفقه، والنحو والأصول، ملازم لأنواع الخير، وتعليم العلم، حسن العبارة قوي في دينه، جيد التفقه مستحضر لمذهبه، مليح البحث، صحيح الذهن، قوي الفهم، رحمه الله تعالى. وكان أخوه يتأدب معه ويحترمه. تمرض أياما ومات يوم الأربعاء رابع عشر جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وسبعمائة بدمشق. وكانت جنازته مشهودة، وحمل على الرؤوس. موقفه من الجهمية: جاء في البداية والنهاية: وفي هذا الشهر يوم الخميس السابع والعشرين منه -يعني من ذي الحجة سنة ست وسبعمائة- طلب أخوا الشيخ تقي الدين: شرف الدين وزين الدين من الحبس إلى مجلس نائب السلطان: سلار وحضر ابن مخلوف المالكي، وطال بينهم كلام كثير، فظهر شرف الدين بالحجة على القاضي المالكي بالنقل والدليل والمعرفة، وخطأه في مواضع ادعى فيها دعاوى باطلة، وكان الكلام في مسألة العرش ومسألة الكلام وفي مسألة النزول. (¬1) ¬

(¬1) البداية والنهاية (14/ 45).

شيخ الإسلام ابن تيمية (728 هـ)

شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1) (728 هـ) إن يكن في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - مجددون -وهم فيها- فمن أفضلهم شيخ الإسلام ابن تيمية أحمد بن عبد الحليم، جدد الله به السنة وأمات به البدعة. أحيا ما اندثر من آثار السلف، ولم يكن من أصحاب الزوايا وأرباب الصوامع التكايا، ولكن كان إماما معلما، أمارا بالمعروف نهاء عن المنكر باليد واللسان والقلب. فتح الله به قلوبا غلفا، وآذانا صما، فجعل الله له ذكرا في الأولين والآخرين، وكان حقا من أئمة الدين، الذين يدعون إلى الحق وبه يعدلون، وأثمرت دعوته تلامذة أبرارا، حملوا رسالته ونشروا دعوته، وكانوا فحولا في الحفظ والفقه والدعوة إلى العقيدة السلفية. بذل نفسه في سبيل الله، وهانت عليه حتى مات في السجن في سبيل عقيدته السلفية. وقد أشبع الباحثون في القديم والحديث شخصية الشيخ دراسة وبحثا، سواء منهم الأعداء أو المحبون، المسلمون أو الكافرون، حتى إنه بلغني أن جامعة باريز الغربية خصصت مستشرقا لدراسة شيخ الإسلام ابن تيمية. وقد سجلت فيه رسائل علمية في عدة جامعات، ونيلت بها درجات علمية في الدكتوراه والماجستير. وقد كتب كثير من الكتاب في جزئيات من المسائل التي تناولها الشيخ في كثير من بحوثه وفتاواه، كالتصوف والتأويل والفلسفة وغير ذلك مما هو معروف. لكن ينبغي للقارئ أن يكون على حذر من هؤلاء الكتاب، فإن المُحْدثين منهم أكثرهم غير سلفيين، كصاحب ¬

(¬1) البداية والنهاية (14/ 141 - 146) والرد الوافر (56 - 225) والوافي بالوفيات (7/ 15 - 33) وتذكرة الحفاظ (4/ 1496 - 1498) والدرر الكامنة (1/ 144 - 160) وشذرات الذهب (6/ 80 - 86) والبدر الطالع (1/ 63 - 72).

'المدرسة السلفية' وهي رسالة علمية في جامعة الأزهر، فإنها من أخبث ما كتب عن الشيخ وقواعده السلفية. وإن أطال الله في العمر، ألقمته حجرا. ولعل بعض طلبة العلم النشيطين يسبقني إلى ذلك. ونقول في التعريف به على وجه الاختصار: هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحراني شيخ الإسلام، أبو العباس، الإمام العالم المفسر الفقيه المجتهد الحافظ المحدث، نادرة العصر، ذو التصانيف الباهرة، والذكاء المفرط. ولد في ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة بحران. سمع من ابن عبد الدائم وابن أبي اليسر وابن عبدان وشمس الدين الحنبلي وابن أبي الخير وابن علان وخلق كثير، وقرأ بنفسه الكثير، وطلب الحديث واشتغل بالعلوم حتى صار من الأئمة الأعلام؛ كان عالما باختلاف العلماء، وأعرف الناس بفقه المذاهب من أهلها الذين كانوا في زمانه وغيره، متضلعا في الأصول والفروع والنحو واللغة، وله التصانيف الكثيرة. قال الذهبي: وبرع في التفسير والحديث والاختلاف والأصلين، وكان يتوقد ذكاء، ما رأيت أسرع انتزاعا للآيات الدالة على المسألة التي يوردها منه، ولا أشد استحضارا لمتون الأحاديث وعزوها إلى الصحيح أو المسند أو السنن، كأن ذلك نصب عينيه وعلى طرف لسانه. قال: وكان آية من آيات الله في التفسير والتوسع فيه، وأما أصول الدين، ومعرفة أقوال الخوارج والروافض والمعتزلة والمبتدعة، فكان لا يشق فيها غباره، مع ما كان عليه من الكرم الذي لم أشاهد مثله قط، والشجاعة المفرطة، والفراغ عن ملاذ النفس.

• موقفه من المبتدعة:

قال الحافظ المزي: ما رأيت مثله، ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحدا أعلم بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أتبع لهما منه. وقال ابن دقيق العيد: لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلا العلوم كلها بين عينيه، يأخذ منها ما يريد ويدع ما يريد. وقال ابن عبد الهادي: الشيخ الإمام الرباني، إمام الأئمة، ومفتي الأمة، وبحر العلوم، سيد الحفاظ، وفارس المعاني والألفاظ، فريد العصر، وحيد الدهر، شيخ الإسلام، بركة الأنام، علامة الزمان، وترجمان القرآن، علم الزهاد، وأوحد العباد، قامع المبتدعين، وآخر المجتهدين. وقال ابن كثير: وبالجملة؛ كان -رحمه الله- من كبار العلماء، وممن يخطئ ويصيب، ولكن خطأه بالنسبة إلى صوابه كنقطة في بحر لجي، وخطؤه أيضا مغفور له. توفي رحمه الله تعالى محبوسا في قلعة دمشق سنة ثمان وعشرين وسبعمائة. • موقفه من المبتدعة: فمن أقواله رحمه الله: - اعلم أن هذه القاعدة وهي: الاستدلال بكون الشيء بدعة على كراهته، قاعدة عامة عظيمة، وتمامها بالجواب عما يعارضها. وذلك أن من الناس من يقول: البدع تنقسم إلى قسمين: حسنة وقبيحة. بدليل قول عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح (نعمت البدعة هذه) وبدليل أشياء من الأقوال والأفعال أحدثت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليست بمكروهة، أو هي حسنة، للأدلة الدالة على ذلك من الإجماع أو القياس؛ وربما يضم إلى ذلك

من لم يحكم أصول العلم، ما عليه كثير من الناس من كثير من العادات ونحوها، فيجعل هذا أيضا من الدلائل على حسن بعض البدع: إما بأن يجعل ما اعتاد هو ومن يعرفه إجماعا، وإن لم يعلم قول سائر المسلمين في ذلك، أو يستنكر تركه لما اعتاده بمثابة من {إِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا} (¬1). وما أكثر ما قد يحتج بعض من يتميز من المنتسبين إلى علم أو عبادة بحجج ليست من أصول العلم التي يعتمد في الدين عليها؛ والغرض: أن هذه النصوص الدالة على ذم البدع معارضة بما دل على حسن بعض البدع إما من الأدلة الشرعية الصحيحة، أو من حجج بعض الناس التي يعتمد عليها بعض الجاهلين، أو المتأولين في الجملة. ثم هؤلاء المعارضون لهم هنا مقامان: أحدهما: أن يقولوا: إذا ثبت أن بعض البدع حسن وبعضها قبيح، فالقبيح ما نهى عنه الشارع، وما سكت عنه من البدع فليس بقبيح؛ بل قد يكون حسنا، فهذا مما يقوله بعضهم. المقام الثاني: أن يقال عن بدعة معينة: هذه البدعة حسنة، لأن فيها من المصلحة كيت وكيت. وهؤلاء المعارضون يقولون: ليست كل بدعة ضلالة. والجواب: أما القول: «إن شر الأمور محدثاتها، وأن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار»، والتحذير من الأمور المحدثات. فهذا نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، فلا ¬

(¬1) المائدة الآية (104). (¬2) سيأتي تخريجه قريبا.

يحل لأحد أن يدفع دلالته على ذم البدع، ومن نازع في دلالته فهو مراغم. وأما المعارضات فالجواب عنها بأحد جوابين: إما أن يقال: إن ما ثبت حسنه فليس من البدع، فيبقى العموم محفوظا لا خصوص فيه. وإما أن يقال: ما ثبت حسنه فهو مخصوص من العموم، والعام المخصوص دليل فيما عدا صورة التخصيص. فمن اعتقد أن بعض البدع مخصوص من هذا العموم، احتاج إلى دليل يصلح للتخصيص، وإلا كان ذلك العموم اللفظي المعنوي موجبا للنهي. ثم المخصص هو الأدلة الشرعية، من الكتاب والسنة والإجماع، نصا واستنباطا، وأما عادة بعض البلاد، أو أكثرها، أو قول كثير من العلماء، أو العباد، أو أكثرهم ونحو ذلك، فليس مما يصلح أن يكون معارضا لكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى يعارض به. ومن اعتقد أن أكثر هذه العادات المخالفة للسنن مجمع عليها، بناء على أن الأمة أقرتها ولم تنكرها، فهو مخطئ في هذا الاعتقاد، فإنه لم يزل، ولا يزال في كل وقت من ينهى عن عامة العادات المحدثة المخالفة للسنة، وما يجوز دعوى الإجماع بعمل بلد، أو بلاد من بلاد المسلمين، فكيف بعمل طوائف منهم؟! وإذا كان أكثر أهل العلم لم يعتمدوا على عمل علماء أهل المدينة وإجماعهم في عصر مالك، بل رأوا السنة حجة عليهم كما هي حجة على غيرهم، مع ما أوتوه من العلم والإيمان، فكيف يعتمد المؤمن العالم على عادات أكثر من اعتادها عامة، أو من قيدته العامة، أو قوم مترأسون بالجهالة، لم يرسخوا في العلم، لا يعدون من أولي الأمر، ولا يصلحون للشورى، ولعلهم لم يتم إيمانهم بالله وبرسوله، أو قد دخل معهم

فيها بحكم العادة قوم من أهل الفضل، عن غير روية، أو لشبهة أحسن أحوالهم فيها أن يكون فيها بمنزلة المجتهدين من الأئمة والصديقين؟! والاحتجاج بمثل هذه الحجج، والجواب عنها معلوم أنه ليس طريقة أهل العلم، لكن لكثرة الجهالة قد يستند إلى مثلها خلق كثير من الناس، حتى من المنتسبين إلى العلم والدين، وقد يبدي ذو العلم والدين فيها مستندا آخر من الأدلة الشرعية، والله يعلم أن قوله بها وعمله لها ليس مستندا إلى ما أبداه من الحجة الشرعية، وإن كانت شبهة، وإنما هو مستند إلى أمور ليست مأخوذة عن الله ورسوله، من أنواع المستندات التي يستند إليها غير أولي العلم والإيمان، وإنما يذكر الحجة الشرعية حجة على غيره، ودفعا لمن يناظره. والمجادلة المحمودة، إنما هي إبداء المدارك وإظهار الحجج التي هي مستند الأقوال والأعمال، وأما إظهار الاعتماد على ما ليس هو المعتمد في القول والعمل، فنوع من النفاق في العلم والجدل، والكلام والعمل. وأيضا فلا يجوز حمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «كل بدعة ضلالة» على البدعة التي نهى عنه بخصوصها، لأن هذا تعطيل لفائدة هذا الحديث، فإن ما نهى عنه من الكفر والفسوق وأنواع المعاصي، قد علم بذلك النهي أنه قبيح محرم، سواء كان بدعة أو لم يكن بدعة، فإذا كان لا منكر في الدين إلا ما نهى عنه بخصوصه، سواء كان مفعولا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لم يكن، وما نهى عنه، فهو منكر، سواء كان بدعة أو لم يكن، صار وصف البدعة عديم التأثير، لا يدل وجوده على القبح، ولا عدمه على الحسن، بل يكون قوله: «كل بدعة ضلالة» بمنزلة قوله: كل عادة ضلالة. أو: كل ما عليه العرب أو

العجم فهو ضلالة. ويراد بذلك: أن ما نهى عنه من ذلك فهو الضلالة .. وهذا تعطيل للنصوص من نوع التحريف والإلحاد، وليس من نوع التأويل السائغ، وفيه من المفاسد أشياء. (¬1) ثم ذكر هذه المفاسد من خمسة أوجه في المقام الأول في الرد عليهم ثم بسط القول في المقام الثاني إلى أن قال: ولا يحل لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكلية، وهي قوله: «كل بدعة ضلالة» بسلب عمومها، وهو أن يقال: ليست كل بدعة ضلالة. فإن هذا إلى مشاقة الرسول أقرب منه إلى التأويل، بل الذي يقال فيما ثبت أنه حسن من الأعمال التي قد يقال هي بدعة-: إن هذا العمل المعين -مثلا- ليس ببدعة، فلا يندرج في الحديث، أو إن اندرج لكنه مستثنى من هذا العموم لدليل كذا وكذا، الذي هو أقوى من العموم، مع أن الجواب الأول أجود. وهذا الجواب فيه نظر: فإن قصد التعميم المحيط ظاهر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذه الكلمة الجامعة، فلا يعدل عن مقصده -بأبي هو وأمي- عليه الصلاة والسلام. (¬2) - وقال: وكذلك ما يحدثه بعض الناس: إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام، وإما محبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيما. والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد، لا على البدع -من اتخاذ مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - عيدا (¬3). مع ¬

(¬1) الاقتضاء (2/ 582 - 586). (¬2) الاقتضاء (2/ 587 - 588). (¬3) هذا القول لا يسلم لشيخ الإسلام رحمه الله وقد رد عليه الشيخ حامد الفقي ضمن تعليقه على الاقتضاء ونقلنا رده هذا في مواقفه رضي الله عنه فلينظر هناك.

اختلاف الناس في مولده- فإن هذا لم يفعله السلف، مع قيام المقتضى له وعدم المانع منه. ولو كان هذا خيرا محضا أو راجحا، لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعظيما له منا، وهم على الخير أحرص. وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته، وطاعته واتباع أمره، وإحياء سنته باطنا وظاهرا، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان. فإن هذه طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان. وأكثر هؤلاء الذين تجدهم حراصا على أمثال هذه البدع، مع ما لهم فيها من حسن القصد والاجتهاد الذي يرجى لهم بهما المثوبة، تجدهم فاترين في أمر الرسول، عما أمروا بالنشاط فيه، وإنما هم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه، أو يقرأ فيه ولا يتبعه، وبمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه، أو يصلي فيه قليلا، وبمنزلة من يتخذ المسابيح والسجادات المزخرفة، وأمثال هذه الزخارف الظاهرة التي لم تشرع، ويصحبها من الرياء والكبر، والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها. (¬1) - وقال: ودين الإسلام مبني على أصلين: أن نعبد الله وحده لا شريك له، وأن نعبده بما شرعه من الدين، وهو ما أمرت به الرسل أمر إيجاب أو أمر استحباب، فيعبد في كل زمان بما أمر به في ذلك الزمان. فلما كانت شريعة التوراة محكمة كان العاملون بها مسلمين، وكذلك شريعة الإنجيل. وكذلك في أول الإسلام لما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى بيت المقدس، ¬

(¬1) الاقتضاء (2/ 615 - 616).

كانت صلاته إليه من الإسلام، ولما أمر بالتوجه إلى الكعبة كانت الصلاة إليها من الإسلام، والعدول عنها إلى الصخرة خروجا عن دين الإسلام. فكل من لم يعبد الله بعد مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - بما شرعه الله من واجب ومستحب فليس بمسلم. (¬1) - وقال: والبدع دهليز الكفر والنفاق، كما أن التشيع دهليز الرفض، والرفض دهليز القرمطة والتعطيل، فالكلام الذي فيه تجهم هو دهليز التجهم، والتجهم دهليز الزندقة والتعطيل. (¬2) - وقال: وتارة يجعلون -يعني أهل الكلام- إخوانهم المتأخرين أحذق وأعلم من السلف، ويقولون: (طريقة السلف أسلم، وطريقة هؤلاء أعلم وأحكم)، فيصفون إخوانهم بالفضيلة في العلم والبيان، والتحقيق والعرفان، والسلف بالنقص في ذلك والتقصير فيه، أو الخطأ والجهل؛ وغايتهم عندهم: أن يقيموا أعذارهم في التقصير والتفريط. ولا ريب أن هذا شعبة من الرفض، فإنه وإن لم يكن تكفيرا للسلف -كما يقوله من يقوله من الرافضة والخوارج- ولا تفسيقا لهم -كما يقوله من يقوله من المعتزلة والزيدية وغيرهم- كان تجهيلا لهم وتخطئة وتضليلا، ونسبة لهم إلى الذنوب والمعاصي، وإن لم يكن فسقا، فزعما: أن أهل القرون المفضولة في الشريعة أعلم وأفضل من أهل القرون الفاضلة؛ ومن المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتاب والسنة، وما اتفق عليه أهل السنة ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (1/ 189 - 190). (¬2) مجموع الفتاوى (2/ 230).

والجماعة من جميع الطوائف: أن خير قرون هذه الأمة -في الأعمال والأقوال والاعتقاد، وغيرها من كل فضيلة، أن خيرها-: القرن الأول، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كما ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه (¬1)، وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة: من علم، وعمل، وإيمان، وعقل، ودين، وبيان، وعبادة، وأنهم أولى بالبيان لكل مشكل. هذا لا يدفعه إلا من كابر المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، وأضله الله على علم؛ كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات. فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد: أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم)، وقال غيره: (عليكم بآثار من سلف فإنهم جاءوا بما يكفي وما يشفي، ولم يحدث بعدهم خير كامنٌ لم يعلموه). (¬2) - وقال: ولهذا تجد المعتزلة والمرجئة والرافضة وغيرهم من أهل البدع يفسرون القرآن برأيهم ومعقولهم، وما تأولوه من اللغة؛ ولهذا تجدهم لا يعتمدون على أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين وأئمة المسلمين؛ فلا يعتمدون لا على السنة، ولا على إجماع السلف وآثارهم؛ وإنما يعتمدون على العقل واللغة، وتجدهم لا يعتمدون على كتب التفسير المأثورة والحديث وآثار السلف، وإنما يعتمدون على كتب الأدب وكتب الكلام التي وضعتها ¬

(¬1) انظر تخريجه في مواقف إسماعيل الأصبهاني سنة (535هـ). (¬2) مجموع الفتاوى (4/ 157 - 158).

رؤوسهم، وهذه طريقة الملاحدة أيضا؛ إنما يأخذون ما في كتب الفلسفة، وكتب الأدب واللغة، وأما كتب القرآن والحديث والآثار، فلا يلتفتون إليها. هؤلاء يعرضون عن نصوص الأنبياء إذ هي عندهم لا تفيد العلم، وأولئك يتأولون القرآن برأيهم وفهمهم بلا آثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. (¬1) - وقال: وأهل السنة في الإسلام؛ كأهل الإسلام في الملل؛ وذلك أن كل أمة غير المسلمين فهم ضالون، وإنما يضلهم علماؤهم؛ فعلماؤهم شرارهم، والمسلمون على هدى، وإنما يتبين الهدى بعلمائهم، فعلماؤهم خيارهم؛ وكذلك أهل السنة، أئمتهم خيار الأمة؛ وأئمة أهل البدع، أضر على الأمة من أهل الذنوب. ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل الخوارج، ونهى عن قتال الولاة الظلمة، وأولئك لهم نهمة في العلم والعبادة؛ فصار يعرض لهم من الوساوس التي تضلهم -وهم يظنونها هدى، فيطيعونها- ما لا يعرض لغيرهم، ومن سلم من ذلك منهم كان من أئمة المتقين مصابيح الهدى، وينابيع العلم. (¬2) - وقال: فالمسلمون سنيهم وبدعيهم متفقون على وجوب الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ومتفقون على وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج، ومتفقون على أن من أطاع الله ورسوله فإنه يدخل الجنة ولا يعذب، وعلى أن من لم يؤمن بأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه فهو كافر، وأمثال هذه الأمور التي هي أصول الدين، وقواعد الإيمان التي اتفق ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (7/ 119). (¬2) مجموع الفتاوى (7/ 284 - 285).

عليها المنتسبون إلى الإسلام والإيمان، فتنازعهم بعد هذا في بعض أحكام الوعيد أو بعض معاني بعض الأسماء أمر خفيف بالنسبة إلى ما اتفقوا عليه، مع أن المخالفين للحق البين من الكتاب والسنة هم عند جمهور الأمة معروفون بالبدعة، مشهود عليهم بالضلالة، ليس لهم في الأمة لسان صدق ولا قبول عام، كالخوارج والروافض والقدرية ونحوهم. وإنما تنازع أهل العلم والسنة في أمور دقيقة تخفى على أكثر الناس؛ ولكن يجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله. (¬1) - وقال: ومن البدع المنكرة: تكفير الطائفة غيرها من طوائف المسلمين، واستحلال دمائهم وأموالهم، كما يقولون: هذا زرع البدعي ونحو ذلك، فإن هذا عظيم لوجهين: أحدهما: أن تلك الطائفة الأخرى قد لا يكون فيها من البدعة أعظم مما في الطائفة المكفرة لها، بل تكون بدعة المكفرة أغلظ أو نحوها أو دونها. وهذا حال عامة أهل البدع الذين يكفر بعضهم بعضا، فإنه إن قدر أن المبتدع يكفر، كفر هؤلاء وهؤلاء. وإن قدر أنه لم يكفر لم يكفر هؤلاء ولا هؤلاء، فكون إحدى الطائفتين تكفر الأخرى ولا تكفر طائفتها، هو من الجهل والظلم، وهؤلاء من الذين قال الله تعالى فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (¬2). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (7/ 357). (¬2) الأنعام الآية (159).

والثاني: أنه لو فرض أن إحدى الطائفتين مختصة بالبدعة لم يكن لأهل السنة أن يكفروا كل من قال قولا أخطأ فيه، فإن الله سبحانه قال: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (¬1) وثبت في الصحيح أن الله قال: «قد فعلت» (¬2) وقال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} (¬3) وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان» وهو حديث حسن رواه ابن ماجه وغيره. (¬4) وأجمع الصحابة وسائر أئمة المسلمين على أنه ليس كل من قال قولا ¬

(¬1) البقرة الآية (286). (¬2) أخرجه أحمد (1/ 233) ومسلم (1/ 116/126) والترمذي (5/ 206/2992) والنسائي في الكبرى (6/ 307/11059) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬3) الأحزاب الآية (5). (¬4) أخرجه ابن ماجه (1/ 659/2045) من طريق الوليد بن مسلم ثنا الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس مرفوعا: وقال البوصيري: "إسناده صحيح إن سلم من الانقطاع، والظاهر أنه منقطع بدليل زيادة عبيد بن عمير في الطريق الثاني -يشير إلى طريق الطحاوي والبيهقي والحاكم- وليس ببعيد أن يكون السقط من جهة الوليد بن مسلم فإنه كان يدلس". وقال الحافظ في الفتح (5/ 201 - 202): "وأخرجه الفضل بن جعفر التيمي في فوائده بالإسناد الذي أخرجه به ابن ماجه ورجاله ثقات إلا أنه أعل بعلة غير قادحة فإنه من رواية الوليد عن الأوزاعي عن عطاء عنه، وقد رواه بشر بن بكر عن الأوزاعي فزاد (عبيد بن عمير) بين عطاء وابن عباس". وأخرجه أيضا الطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 95) والدارقطني (4/ 170 - 171) وابن حبان (16/ 202/7219) والطبراني في الصغير (1/ 282/752) والبيهقي (7/ 356) والحاكم (2/ 198) وابن حزم في الأحكام (5/ 149) من طريق بشر بن بكر وأيوب بن سويد قالا: ثنا الأوزاعي عن عطاء بن أبي رباح عن عبيد بن عمير عن ابن عباس به. وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي". والحديث حسنه النووي في الأربعين وأقره الحافظ في التلخيص الحبير (1/ 281) .. وقال البيهقي: "جود إسناده بشر بن بكر وهو من الثقات". وللحديث شواهد ذكرها الزيلعي في نصب الراية (2/ 64 - 65) وابن رجب في شرح الأربعين (361) والسخاوي في المقاصد الحسنة (228 - 230) وقال: "ومجموع هذه الطرق يظهر أن للحديث أصلا".

أخطأ فيه أنه يكفر بذلك، وإن كان قوله مخالفا للسنة، فتكفير كل مخطئ خلاف الإجماع. (¬1) - وقال: فيحتاج العبد أن ينفي عنه شيئين: الآراء الفاسدة، والأهواء الفاسدة، فيعلم أن الحكمة والعدل فيما اقتضاه علمه وحكمته، لا فيما اقتضاه علم العبد وحكمته، ويكون هواه تبعا لما أمر الله به، فلا يكون له مع أمر الله وحكمه هوى يخالف ذلك. قال الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (¬2)، وقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» (¬3) رواه أبو حاتم في صحيحه. وفي الصحيح أن عمر قال له: يا رسول الله، والله لأنت أحب إلي من نفسي. قال: «الآن يا عمر» (¬4). وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» (¬5) وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (7/ 684 - 685). (¬2) النساء الآية (65). (¬3) سيأتي تخريجه في مواقف ابن كثير سنة (774هـ). (¬4) أخرجه أحمد (4/ 233و336) والبخاري (11/ 641/6632). (¬5) أخرجه أحمد (3/ 177و275) والبخاري (1/ 80/15) ومسلم (1/ 67/44) والنسائي (8/ 488/5028) وابن ماجه (1/ 26/67 من حديث أنس رضي الله عنه.

وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (¬1) فإذا كان الإيمان لا يحصل حتى يحكم العبد رسوله ويسلم له، ويكون هواه تبعا لما جاء به، ويكون الرسول والجهاد في سبيله مقدما على حب الإنسان نفسه وماله وأهله، فكيف في تحكيمه الله تعالى والتسليم له؟! (¬2) - وقال: وقد كتبت في غير هذا الموضع أن المحافظة على عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل بدعة ضلالة» متعين، وأنه يجب العمل بعمومه، وأن من أخذ يصنف البدع إلى حسن وقبيح، ويجعل ذلك ذريعة إلى أن لا يحتج بالبدعة على النهي فقد أخطأ، كما يفعل طائفة من المتفقهة، والمتكلمة، والمتصوفة، والمتعبدة؛ إذا نهوا عن العبادات المبتدعة والكلام في التدين المبتدع ادعوا أن لا بدعة مكروهة إلا ما نهى عنه، فيعود الحديث إلى أن يقال: كل ما نهى عنه أو كل ما حرم أو كل ما خالف نص النبوة فهو ضلالة وهذا أوضح من أن يحتاج إلى بيان، بل كل ما لم يشرع من الدين فهو ضلالة. (¬3) - وقال: فما أمر به آخر أهل السنة من أن داعية أهل البدع يهجر فلا يستشهد ولا يروى عنه، ولا يستفتى ولا يصلى خلفه، قد يكون من هذا الباب؛ فإن هجره تعزير له وعقوبة له جزاء لمنع الناس من ذلك الذنب الذي هو بدعة أو غيرها، وإن كان في نفس الأمر تائبا أو معذورا؛ إذ الهجرة ¬

(¬1) براءة الآية (24) .. (¬2) مجموع الفتاوى (10/ 288). (¬3) مجموع الفتاوى (10/ 370 - 371).

مقصودها أحد شيئين: إما ترك الذنوب المهجورة وأصحابها، وإما عقوبة فاعلها ونكاله. (¬1) - وقال: وكل من دعا إلى شيء من الدين بلا أصل من كتاب الله وسنة رسوله، فقد دعا إلى بدعة وضلالة. والإنسان في نظره مع نفسه ومناظرته لغيره إذا اعتصم بالكتاب والسنة هداه الله إلى صراطه المستقيم، فإن الشريعة مثل سفينة نوح عليه السلام: من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، وقد قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬2)، وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (¬3). وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته: «إن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» (¬4). وقال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في سياق حجة الوداع: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله تعالى» (¬5). وفي الصحيح: «أنه قيل لعبد الله بن أبي أوفى: هل وصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء؟ قال: لا، قيل: فلم، وقد كتب الوصية على الناس؟ ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (10/ 376 - 377). (¬2) الأنعام الآية (153). (¬3) الأعراف الآية (3). (¬4) سيأتي تخريجه قريبا. (¬5) أخرجه مسلم: (2/ 890/1218) وأبو داود (2/ 462/1905) وابن ماجه (2/ 1025/3074) كلهم من حديث جابر الطويل في حجة الوداع بلفظ " ... وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ ... ".

قال: «وصى بكتاب الله» (¬1). وقد قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} (¬2)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬3)، ومثل هذا كثير. وأما إذا كان الإنسان في مقام الدعوة لغيره والبيان له، وفي مقام النظر أيضا، فعليه أن يعتصم أيضا بالكتاب والسنة، ويدعو إلى ذلك، وله أن يتكلم مع ذلك، ويبين الحق الذي جاء به الرسول بالأقيسة العقلية والأمثال المضروبة، فهذه طريقة الكتاب والسنة وسلف الأمة. (¬4) - وقال: وقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في خطبته: «إن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» (¬5). فدين المسلمين مبني على اتباع كتاب الله وسنة رسوله وما اتفقت عليه الأمة، فهذه الثلاثة هي أصول معصومة، وما تنازعت فيه ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (4/ 381) والبخاري (5/ 448/2740) ومسلم (3/ 1256/1634) والترمذي (4/ 376/2119) وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب". والنسائي (6/ 550/3622) وابن ماجه (2/ 900/2696). (¬2) البقرة الآية (213). (¬3) النساء الآية (59). (¬4) درء التعارض (1/ 234 - 235). (¬5) أحمد (3/ 310 - 311و319و371) ومسلم (2/ 592/867) والنسائي (3/ 209 - 210/ 1577) وابن ماجه (1/ 17/45) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

الأمة ردوه إلى الله والرسول، وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصا يدعو إلى طريقته، ويوالي عليها ويعادي، غير النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا ينصب لهم كلاما يوالى عليه ويعادى، غير كلام الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصا أو كلاما يفرقون به بين الأمة، يوالون على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون. (¬1) - وقال في مناظرته للبطائحية: وذكرت ذم المبتدعة، فقلت: روى مسلم في صحيحه عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه أبي جعفر الباقر عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في خطبته: «إن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» (¬2). وفي السنن عن العرباض بن سارية قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: «أوصيكم بالسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» وفي رواية: «وكل ضلالة في النار» (¬3). فقال لي: البدعة مثل الزنا، وروى حديثا في ذم الزنا، فقلت: هذا ¬

(¬1) درء التعارض (1/ 272) ومجموع الفتاوى (20/ 164) بنحوه. (¬2) تقدم تخريجه قريبا. (¬3) انظر تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ).

حديث موضوع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والزنا معصية، والبدعة شر من المعصية، كما قال سفيان الثوري: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، فإن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها. وكان قد قال بعضهم: نحن نتوب الناس، فقلت: مماذا تتوبونهم؟ قال: من قطع الطريق، والسرقة، ونحو ذلك. فقلت: حالهم قبل تتويبكم خير من حالهم بعد تتويبكم؛ فإنهم كانوا فساقا يعتقدون تحريم ماهم عليه، ويرجون رحمة الله، ويتوبون إليه، أو ينوون التوبة، فجعلتموهم بتتويبكم ضالين مشركين خارجين عن شريعة الإسلام، يحبون ما يبغضه الله، ويبغضون ما يحبه الله. وبينت أن هذه البدع التي هم وغيرهم عليها شر من المعاصي. قلت مخاطبا للأمير والحاضرين: أما المعاصي فمثل ما روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب: أن رجلا كان يدعى حمارا، وكان يشرب الخمر، وكان يضحك النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان كلما أتي به النبي - صلى الله عليه وسلم - جلده الحد، فلعنه رجل مرة، وقال: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؟! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله». (¬1) قلت: فهذا رجل كثير الشرب للخمر، ومع هذا فلما كان صحيح الاعتقاد يحب الله ورسوله شهد له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك ونهى عن لعنه. وأما المبتدع فمثل ما أخرجا في الصحيحين عن علي بن أبي طالب وعن أبي سعيد الخدري وغيرهما -دخل حديث بعضهم في بعض- أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقسم، فجاءه رجل ناتئ الجبين، كث ¬

(¬1) أخرجه البخاري (12/ 89/6780).

اللحية، محلوق الرأس، بين عينيه أثر السجود، وقال ما قال. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يخرج من ضئضئ هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» وفي رواية: «لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل» وفي رواية: «شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه». (¬1) قلت: فهؤلاء مع كثرة صلاتهم وصيامهم وقراءتهم، وما هم عليه من العبادة والزهادة، أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتلهم، وقتلهم علي بن أبي طالب ومن معه من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك لخروجهم عن سنة النبي وشريعته، وأظن أني ذكرت قول الشافعي: لأن يبتلى العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله، خير من أن يبتلى بشيء من هذه الأهواء. فلما ظهر قبح البدع في الإسلام، وأنها أظلم من الزنا والسرقة وشرب الخمر، وأنهم مبتدعون بدعا منكرة، فيكون حالهم أسوأ من حال الزاني والسارق وشارب الخمر، أخذ شيخهم عبد الله يقول: يا مولانا لا تتعرض لهذا الجناب العزيز -يعني أتباع أحمد ابن الرفاعي-، فقلت منكرا بكلام غليظ: ويحك، أي شيء هو الجناب العزيز، وجناب من خالفه أولى بالعز يا ذا (¬2) الزرجنة تريدون أن تبطلوا دين الله ورسوله؟! فقال: يا مولانا يحرقك الفقراء بقلوبهم، فقلت: مثل ما أحرقني ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (3/ 68و73) والبخاري (8/ 84/4351) ومسلم (2/ 741 - 742/ 1064) وأبو داود (5/ 121 - 122/ 4764) والنسائي (5/ 92 - 93/ 2577). (¬2) بالأصل "يا ذو" والصواب ما أثبتناه.

الرافضة لما قصدت الصعود إليهم وصار جميع الناس يخوفوني منهم ومن شرهم، ويقول أصحابهم: إن لهم سرا مع الله، فنصر الله وأعان عليهم، وكان الأمراء الحاضرون قد عرفوا بركة ما يسره الله في أمر غزو الرافضة بالجبل. وقلت لهم: يا شبه الرافضة، يا بيت الكذب -فإن فيهم من الغلو، والشرك، والمروق عن الشريعة، ما شاركوا به الرافضة في بعض صفاتهم، وفيهم من الكذب ما قد يقاربون به الرافضة في ذلك، أو يساوونهم، أو يزيدون عليهم، فإنهم من أكذب الطوائف، حتى قيل فيهم: لا تقولوا أكذب من اليهود على الله، ولكن قولوا أكذب من الأحمدية على شيخهم- وقلت لهم: أنا كافر بكم وبأحوالكم، {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)} (¬1). ولما رددت عليهم الأحاديث المكذوبة، أخذوا يطلبون مني كتبا صحيحة ليهتدوا بها، فبذلت لهم ذلك. وأعيد الكلام: أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه، وأعاد الأمير هذا الكلام، واستقر الكلام على ذلك. والحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. (¬2) - وقال: فالبدع تكون في أولها شبرا، ثم تكثر في الأتباع حتى تصير أذرعا وأميالا وفراسخ. (¬3) - وقال: فعلى المسلم الاعتصام بالكتاب والسنة، وأن يجتهد في أن يعرف ما أخبر به الرسول وأمر به علما يقينيا؛ وحينئذ فلا يدع المحكم المعلوم ¬

(¬1) هود الآية (55). (¬2) مجموع الفتاوى (11/ 471 - 475). (¬3) مجموع الفتاوى (8/ 425).

للمشتبه المجهول، فإن مثال ذلك: مثل من كان سائرا إلى مكة في طريق معروفة لا شك أنها توصله إلى مكة إذا سلكها، فعدل عنها إلى طريق مجهولة لا يعرفها، ولا يعرف منتهاها؛ وهذا مثال من عدل عن الكتاب والسنة إلى كلام من لا يدري هل يوافق الكتاب والسنة أو يخالف ذلك. وأما من عارض الكتاب والسنة بما يخالف ذلك فهو بمنزلة من كان يسير على الطريق المعروفة إلى مكة؛ فذهب إلى طريق قبرص يطلب الوصول منها إلى مكة، فإن هذا حال من ترك المعلوم من الكتاب والسنة، إلى ما يخالف ذلك من كلام زيد وعمرو كائنا من كان، فإن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد رأيت في هذا الباب من عجائب الأمور مالا يحصيه إلا العليم بذات الصدور!! (¬1) - وقال: وإنما المقصود هنا التنبيه على الجمل، فإن كثيرا من الناس يقرأ كتبا مصنفة في أصول الدين وأصول الفقه بل في تفسير القرآن والحديث ولا يجد فيها القول الموافق للكتاب والسنة الذي عليه سلف الأمة وأئمتها، وهو الموافق لصحيح المنقول وصريح المعقول، بل يجد أقوالا كل منها فيه نوع من الفساد والتناقض، فيحار ما الذي يؤمن به في هذا الباب؟! وما الذي جاء به الرسول، وما هو الحق والصدق، إذ لم يجد في تلك الأقوال ما يحصل به ذلك؟! وإنما الهدى فيما جاء به الرسول الذي قال الله فيه: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (13/ 258 - 259).

الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)} (¬1).اهـ (¬2) - وقال: ومن علم أن الرسول أعلم الخلق بالحق، وأفصح الخلق في البيان، وأنصح الخلق للخلق، علم أنه قد اجتمع في حقه: كمال العلم بالحق، وكمال القدرة على بيانه، وكمال الإرادة له، ومع كمال العلم والقدرة والإرادة يجب وجود المطلوب على أكمل وجه، فيعلم أن كلامه أبلغ ما يكون، وأتم ما يكون، وأعظم ما يكون بيانا لما بينه في الدين من أمور الإلهية وغير ذلك. فمن وقر هذا في قلبه لم يقدر على تحريف النصوص بمثل هذه التأويلات التي إذا تدبرت وجد من أرادها بذلك القول من أبعد الناس عما يجب اتصاف الرسول به، وعلم أن من سلك هذا المسلك فإنما هو لنقص ما أوتيه من العلم والإيمان، وقد قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (¬3). فنسأل الله أن يجعلنا وإخواننا ممن رفع درجاته من أهل العلم والإيمان. (¬4) - وقال: فلا تجد قط مبتدعا إلا وهو يحب كتمان النصوص التي تخالفه ويبغضها، ويبغض إظهارها وروايتها والتحدث بها، ويبغض من يفعل ذلك، كما قال بعض السلف: ما ابتدع أحد بدعة إلا نزعت حلاوة الحديث من قلبه. (¬5) ¬

(¬1) الشورى الآيتان (52و53). (¬2) مجموع الفتاوى (17/ 102). (¬3) المجادلة الآية (11). (¬4) مجموع الفتاوى (17/ 129). (¬5) مجموع الفتاوى (20/ 161 - 162).

- وقال: ومن هنا يعرف ضلال من ابتدع طريقا، أو اعتقادا زعم أن الإيمان لا يتم إلا به، مع العلم بأن الرسول لم يذكره، وما خالف النصوص فهو بدعة باتفاق المسلمين، وما لم يعلم أنه خالفها فقد لا يسمى بدعة. (¬1) - وقال: ويجب أن يعلم: أن الأمور المعلومة من دين المسلمين لا بد أن يكون الجواب عما يعارضها جوابا قاطعا لا شبهة فيه؛ بخلاف ما يسلكه من يسلكه من أهل الكلام، فكل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه، ولا وفى بموجب العلم والإيمان، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور وطمأنينة النفوس، ولا أفاد كلامه العلم واليقين. وقد أوجب الله على المؤمنين: الإيمان بالرسول والجهاد معه، ومن الإيمان به تصديقه في كل ما أخبر به، ومن الجهاد معه دفع كل من عارض ما جاء به وألحد في أسماء الله وآياته. (¬2) - وقال: ولهذا تجدهم عند التحقيق مقلدين لأئمتهم فيما يقولون إنه من العقليات المعلومة بصريح العقل، فتجد أتباع أرسطو طاليس يتبعونه فيما ذكره من المنطقيات والطبيعيات والإلهيات، مع أن كثيرا منهم قد يرى بعقله نقيض ما قاله أرسطو، وتجده لحسن ظنه به يتوقف في مخالفته، أو ينسب النقص في الفهم إلى نفسه، مع أنه يعلم أهل العقل المتصفون بصريح العقل أن في المنطق من الخطأ البين ما لا ريب فيه؛ كما ذكر في غير هذا الموضع. وأما ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (20/ 163). (¬2) مجموع الفتاوى (20/ 164 - 165).

كلامه وكلام أتباعه: كالإسكندر الأفروديسي، وبرقلس، وثامسطيوس، والفارابي، وابن سينا، والسهروردي المقتول، وابن رشد الحفيد، وأمثالهم في الإلهيات، فما فيه من الخطأ الكثير، والتقصير العظيم، ظاهر لجمهور عقلاء بني آدم، بل في كلامهم من التناقض ما لا يكاد يستقصى. وكذلك أتباع رؤوس المقالات التي ذهب إليها من ذهب من أهل القبلة، وإن كان فيها ما فيها من البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، ففيها أيضا من مخالفة العقل الصريح ما لا يعلمه إلا الله، كأتباع أبي الهذيل العلاف، وأبي إسحاق النظام، وأبي القاسم الكعبي، وأبي علي، وأبي هاشم، وأبي الحسين البصري، وأمثالهم. وكذلك أتباع من هو أقرب إلى السنة من هؤلاء، كأتباع حسين النجار، وضرار بن عمرو، مثل أبي عيسى محمد بن عيسى برغوث الذي ناظر أحمد بن حنبل، ومثل حفص الفرد الذي كان يناظر الشافعي. وكذلك أتباع متكلمي أهل الإثبات كأتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد ابن كلاب وأبي عبد الله محمد بن عبد الله بن كرام، وأبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري وغيرهم. بل هذا موجود في أتباع أئمة الفقهاء، وأئمة شيوخ العبادة، كأصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وغيرهم، تجد أحدهم دائما يجد في كلامهم ما يراه هو باطلا، وهو يتوقف في رد ذلك، لاعتقاده أن إمامه أكمل منه عقلا وعلما ودينا، هذا مع علم كل من هؤلاء أن متبوعه ليس بمعصوم، وأن الخطأ جائز عليه، ولا تجد أحدا من هؤلاء يقول: إذا تعارض

• موقفه من المشركين:

قولي وقول متبوعي قدمت قولي مطلقا، لكنه إذا تبين له أحيانا الحق في نقيض قول متبوعه، أو أن نقيضه أرجح منه قدمه، لاعتقاده أن الخطأ جائز عليه. فكيف يجوز أن يقال: إن في كتاب الله وسنة رسوله الصحيحة الثابتة عنه ما يعلم زيد وعمرو بعقله أنه باطل؟! وأن يكون كل من اشتبه عليه شيء مما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم رأيه على نص الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أنباء الغيب التي ضل فيها عامة من دخل فيها بمجرد رأيه، بدون الاستهداء بهدى الله، والاستضاءة بنور الله الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه، مع علم كل أحد بقصوره وتقصيره في هذا الباب، وبما وقع فيه من أصحابه وغير أصحابه من الاضطراب. (¬1) • موقفه من المشركين: كان الشيخ رضي الله عنه معارضا للشرك ومظاهره، وكم له من الأيادي البيضاء في ذلك بالفعل وباللسان وبالقلم، وسأذكر نماذج من فعله بيده الشريفة ثم نعرج على ذكر المحنة. - جاء في البداية والنهاية: وفي هذا الشهر بعينه -أي رجب-، راح الشيخ تقي الدين ابن تيمية إلى مسجد التاريخ وأمر أصحابه ومعهم حجارون بقطع صخرة كانت بنهر قلوط تزار وينذر لها، فقطعها وأراح المسلمين منها ومن الشرك بها، فأزاح عن المسلمين شبهة كان شرها عظيما. وبهذا وأمثاله حسدوه وأبرزوا له العداوة وكذلك بكلامه في ابن عربي وأتباعه، فحسد على ذلك وعودي، ومع هذا لم تأخذه في الله لومة لائم ولا ¬

(¬1) درء التعارض (1/ 151 - 155).

بالى، ولم يصلوا إليه بمكروه، وأكثر ما نالوا منه الحبس، مع أنه لم ينقطع في بحث لا بمصر ولا بالشام ولم يتوجه لهم عليه ما يشين وإنما أخذوه وحبسوه بالجاه. (¬1) - قال ابن كثير: وفي مستهل ذي الحجة ركب الشيخ تقي الدين بن تيمية ومعه جماعة من أصحابه إلى جبل الجرد والكسروانيين ومعه نقيب الأشراف زين الدين بن عدنان، فاستتابوا خلقا منهم، وألزموهم بشرائع الإسلام ورجع مؤيدا منصورا. (¬2) - وجاء في الكواكب الدرية: (ذكر حبس الشيخ بقلعة دمشق إلى أن مات فيها) قالوا: لما كان سنة ست وعشرين وسبعمائة، وقع الكلام في مسألة شد الرحال وإعمال المطي إلى قبور الأنبياء والصالحين، وكثر القيل والقال بسبب العثور على جواب الشيخ الآتي، وعظم التشنيع على الشيخ، وحرف عليه، ونقل عنه ما لم يقله، وحصلت فتنة طار شررها في الآفاق، واشتد الأمر، وخيف على الشيخ من كيد القائمين في هذه القضية بالديار الشامية والمصرية، وضعف من أصحاب الشيخ من كان عنده قوة، وجبن منهم من كانت له همة. وأما الشيخ رحمه الله فكان ثابت الجأش، قوي القلب، وظهر صدق توكله واعتماده على ربه. ولقد اجتمع جماعة معروفون بدمشق وضربوا مشورة في حق الشيخ، ¬

(¬1) البداية والنهاية (14/ 36). (¬2) البداية (14/ 37).

فقال أحدهم: ينفى. فنفي القائل. وقال آخر: يقطع لسانه، فقطع لسان القائل. وقال آخر: يعزر، فعزر القائل. وقال آخر يحبس فحبس القائل، أخبر بذلك من حضر هذه المشورة وهو كاره لها. واجتمع جماعة آخرون بمصر، وقاموا في هذه القضية قياما عظيما، واجتمعوا بالسلطان، وأجمعوا أمرهم على قتل الشيخ، فلم يوافقهم السلطان على ذلك، وأرضى خاطرهم بالأمر بحبسه. فلما كان يوم الاثنين سادس شعبان من السنة المذكورة، ورد مرسوم السلطان بأن يكون في القلعة، وأحضر للشيخ مركوب، فأظهر السرور بذلك، وقال: أنا كنت منتظرا ذلك، وهذا فيه خير عظيم، فركب إلى القلعة، وأخليت له قاعة حسنة، وأجري إليها الماء، ورسم له بالإقامة فيها، وأقام معه أخوه زين الدين يخدمه بإذن السلطان، ورسم له بما يقوم بكفايته. وفي يوم الجمعة عاشر الشهر المذكور، قرئ بجامع دمشق الكتاب السلطاني الوارد بذلك، وبمنعه من الفتيا ... (¬1) ثم ذكر السؤال الذي وجه إلى الشيخ، وأجوبة الشيخ على السؤال، وهي معروفة بحمد الله فلا نطيل بنقلها. وله من المواقف المنثورة في كتبه ما يشرف هذه المسيرة التاريخية: - وقال رحمه الله في بيان ضلال ابن سينا: وابن سينا تكلم في أشياء ¬

(¬1) الكواكب الدرية (148 - 149).

من الإلهيات والنبوات والمعاد والشرائع، لم يتكلم فيها سلفه، ولا وصلت إليها عقولهم ولا بلغتها علومهم، فإنه استفادها من المسلمين، وإن كان إنما أخذ عن الملاحدة المنتسبين إلى المسلمين كالإسماعيلية. وكان هو وأهل بيته وأتباعهم معروفين عند المسلمين بالإلحاد، وأحسن ما يظهرون دين الرفض وهم في الباطن يبطنون الكفر المحض ... والمقصود هنا: أن ابن سينا أخبر عن نفسه أن أهل بيته وأباه وأخاه كانوا من هؤلاء الملاحدة، وأنه إنما اشتغل بالفلسفة بسبب ذلك، فإنه كان يسمعهم يذكرون العقل والنفس، وهؤلاء المسلمون الذين ينتسب إليهم، هم مع الإلحاد الظاهر والكفر الباطن، أعلم بالله من سلفه الفلاسفة: كأرسطو وأتباعه، فإن أولئك ليس عندهم من العلم بالله ما عند عباد مشركي العرب ما هو خير منه ... وابن سينا لما عرف شيئا من دين المسلمين، وكان قد تلقى ما تلقاه عن الملاحدة وعمن هو خير منهم من المعتزلة والرافضة، أراد أن يجمع بين ما عرفه بعقله من هؤلاء وبين ما أخذه من سلفه. ومما أحدثه: مثل كلامه في النبوات وأسرار الآيات والمنامات، بل وكلامه في بعض الطبيعيات، وكلامه في واجب الوجود ونحو ذلك. (¬1) - وقال: والمعنى الثالث، الذي أحدثه الملاحدة كابن سينا وأمثاله، قالوا: نقول العالم محدث، أي معلول لعلة قديمة أزلية أوجبته، فلم يزل معها، وسموا هذا الحدوث الذاتي وغيره: الحدوث الزماني. والتعبير بلفظ "الحدوث" ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (9/ 133 - 135) باختصار.

عن هذا المعنى لا يعرف عن أحد من أهل اللغات، لا العرب ولا غيرهم، إلا من هؤلاء الذين ابتدعوا لهذا اللفظ هذا المعنى. والقول بأن العالم محدث بهذا المعنى فقط ليس قول أحد من الأنبياء ولا أتباعهم، ولا أمة من الأمم العظيمة، ولا طائفة من الطوائف المشهورة التي اشتهرت مقالاتها في عموم الناس، بحيث كان أهل مدينة على هذا القول، وإنما يقول هذا طوائف قليلة مغمورة في الناس. وهذا القول، إنما هو معروف عن طائفة من المتفلسفة المليين، كابن سينا وأمثاله. وقد يحكون هذا القول عن أرسطو، وقوله الذي في كتبه: أن العالم قديم، وجمهور الفلاسفة قبله يخالفونه، ويقولون: إنه محدث، ولم يثبت في كتبه للعالم فاعلا موجبا له بذاته، وإنما أثبت له علة يتحرك للتشبه بها، ثم جاء الذين أرادوا إصلاح قوله فجعلوا العلة أولى لغيرها، كما جعلها الفارابي وغيره، ثم جعلها بعض الناس آمرة للفلك بالحركة، لكن يتحرك للتشبه بها كما يتحرك العاشق للمعشوق، وإن كان لا شعور له ولا قصد، وجعلوه مدبرا بهذا الاعتبار -كما فعل ابن رشد وابن سينا- جعلوه موجبا بالذات لما سواه، وجعلوا ما سواه ممكنا. (¬1) - وقال: وهذه الطرق التي أخذها ابن سينا عن المتكلمين، من المعتزلة ونحوهم، وخلطها بكلام سلفه الفلاسفة، صار بسبب ما فيها من البدع المخالفة للكتاب والسنة، يستطيل بها على المسلمين، ويجعل القول الذي قاله هؤلاء هو قول المسلمين. وليس الأمر كذلك، وإنما هو قول مبتدعتهم، ¬

(¬1) درء التعارض (1/ 126 - 127).

وهكذا عمل إخوانه القرامطة الباطنية: صاروا يلزمون كل طائفة من طوائف المسلمين بالقدر الذي وافقوهم عليه مما هو مخالف للنصوص، ويلزمونهم بطرد ذلك القول حتى يخرجوهم عن الإسلام بالكلية. ولهذا كان لهؤلاء وأمثالهم نصيب من حال المرتدين، الذين قال الله تعالي فيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم} (¬1). ولهذا آل الأمر بكثير من هؤلاء إلى عبادة الأوثان، والشرك بالرحمن، مثل دعوة الكواكب والسجود لها، أو التصنيف في ذلك، كما صنفه الرازي وغيره في ذلك. (¬2) - وقال: وهذا الذي ذكرته يجده من اعتبره في كتب ابن سينا كالإشارات وغيرها، ويتبين للفاضل أنه إنما بنى إلحاده في قدم العالم على نفي الصفات، فإنهم لما نفوا الصفات والأفعال القائمة بذاته، وسموا ذلك توحيدا، ووافقهم ابن سينا على تقرير هذا النفي الذي سموه توحيدا، بين امتناع القول بحدوث العالم مع هذا الأصل، وأظهر تناقضهم. ولكن قوله في قدم العالم أفسد من قولهم، ويمكن إظهار تناقض قوله، أكثر من إظهار تناقض أقوالهم. فلهذا تجده في مسألة قدم العالم يردد القول فيها، ويحكي كلام الطائفتين وحجتهم كأنه أجنبي، ويحيل الترجيح بينهما إلى نظر الناظر، مع ظهور ¬

(¬1) المائدة الآية (54). (¬2) درء التعارض (8/ 239).

ترجيحه لقول القائلين بالقدم. وأما مسألة نفي الصفات فيجزم بها، ويجعلها من المقطوع به الذي لا تردد فيه، فإنهم يوافقون عليها، وهو بها تمكن من الاحتجاج عليهم في قدم العالم، وبها تمكن من إنكار المعاد، وتحريف الكلم عن مواضعه، وقال: نقول في النصوص الواردة في المعاد كما قلتم في النصوص الواردة في الصفات، وقال: كما أن الكتب الإلهية ليس فيها بيان ما هو الحق في نفس الأمر في التوحيد، يعني التوحيد الذي وافقته عليه المعتزلة، وهو نفي الصفات بناء على نفي التجسيم والتركيب؛ فكذلك ليس فيها بيان ما هو الحق في نفس الأمر في أمر المعاد. وبنى ذلك على أن الإفصاح بحقيقة الأمر لا يمكن خطاب الجمهور به، وإنما يخاطبون بنوع من التخييل والتمثيل الذي ينتفعون به فيه، كما تقدم كلامه. وهذا كلام الملاحدة الباطنية الذين ألحدوا في أسماء الله وآياته، وكان منتهى أمرهم تعطيل الخالق، وتكذيب رسله، وإبطال دينه. ودخل في ذلك باطنية الصوفية، أهل الحلول والاتحاد، وسموه تحقيقا ومعرفة وتوحيدا. ومنتهى أمرهم هو إلحاد باطنية الشيعة، وهو أنه ليس إلا الفلك وما حواه وما وراء ذلك شيء. (¬1) - وقال: ليس مراد ابن سينا بالتوحيد: التوحيد الذي جاءت به الرسل، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، مع ما يتضمنه من أنه لا رب لشيء من الممكنات سواه، فإن إخوانه من الفلاسفة من أبعد الناس عن هذا التوحيد، إذ فيهم من الإشراك بالله تعالى، وعبادة ما سواه، وإضافة التأثيرات ¬

(¬1) درء التعارض (8/ 241 - 243).

إلى غيره، بل ما هو معلوم لكل من عرف حالهم، ولازم قولهم إخراج الحوادث كلها عن فعله. وإنما مقصوده التوحيد الذي يذكره في كتبه: وهو نفي الصفات، وهو الذي شارك فيه المعتزلة وسموه أيضا توحيدا. وهذا النفي الذي سموه توحيدا، لم ينزل به كتاب، ولا بعث به رسول، ولا كان عليه أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هو مخالف لصريح المعقول، مع مخالفته لصحيح المنقول. (¬1) - وقال: وحدثني غير مرة رجل، وكان من أهل الفضل والذكاء والمعرفة والدين، أنه كان قد قرأ على شخص سماه لي، وهو من أكابر أهل الكلام والنظر، دروسا من 'المحصل' لابن الخطيب، وأشياء من 'إشارات' ابن سينا. قال: فرأيت حالي قد تغير. وكان له نور وهدى، ورؤيت له منامات سيئة، فرآه صاحب النسخة بحال سيئة، فقص عليه الرؤيا، فقال: هي من كتابك. و'إشارات' ابن سينا يعرف جمهور المسلمين الذين يعرفون دين الإسلام أن فيها إلحادا كثيرا، بخلاف 'المحصل' يظن كثير من الناس أن فيه بحوثا تحصل المقصود. قال فكتبت عليه: محصل في أصول الدين حاصله أصل الضلالات والشك المبين فما ... من بعد تحصيله أصل بلا دين فيه فأكثره وحي الشياطين قلت: وقد سئلت أن أكتب على 'المحصل' ما يعرف به الحق فيما ¬

(¬1) درء التعارض (8/ 246 - 247).

ذكره، فكتبت من ذلك ما ليس هذا موضعه. وكذلك تكلمت على ما في 'الإشارات' في مواضع أخر. (¬1) - وقال: والمقصود هنا: أن 'الزنديق' في عرف هؤلاء الفقهاء، هو المنافق الذي كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهو أن يظهر الإسلام ويبطن غيره، سواء أبطن دينا من الأديان: كدين اليهود والنصارى أو غيرهم. أو كان معطلا جاحدا للصانع والمعاد والأعمال الصالحة. ومن الناس من يقول: 'الزنديق' هو الجاحد المعطل، وهذا يسمى الزنديق في اصطلاح كثير من أهل الكلام والعامة، ونقلة مقالات الناس؛ ولكن الزنديق الذي تكلم الفقهاء في حكمه: هو الأول؛ لأن مقصودهم هو التمييز بين الكافر وغير الكافر، والمرتد وغير المرتد، ومن أظهر ذلك أو أسره. وهذا الحكم يشترك فيه جميع أنواع الكفار والمرتدين، وإن تفاوتت درجاتهم في الكفر والردة، فإن الله أخبر بزيادة الكفر كما أخبر بزيادة الإيمان، بقوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} (¬2)، وتارك الصلاة وغيرها من الأركان، أو مرتكبي الكبائر، كما أخبر بزيادة عذاب بعض الكفار على بعض في الآخرة بقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} (¬3). ¬

(¬1) المنهاج (5/ 433 - 434). (¬2) التوبة الآية (37). (¬3) النحل الآية (88).

فهذا "أصل" ينبغي معرفته فإنه مهم في هذا الباب. فإن كثيرا ممن تكلم في "مسائل الإيمان والكفر" -لتكفير أهل الأهواء- لم يلحظوا هذا الباب، ولم يميزوا بين الحكم الظاهر والباطن، مع أن الفرق بين هذا وهذا ثابت بالنصوص المتواترة، والإجماع المعلوم؛ بل هو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام. ومن تدبر هذا، علم أن كثيرا من أهل الأهواء والبدع قد يكون مؤمنا مخطئا جاهلا ضالا عن بعض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد يكون منافقا زنديقا، يظهر خلاف ما يبطن. (¬1) - قال: فمن جعل غير الرسول تجب طاعته في كل ما يأمر به وينهى عنه، وإن خالف أمر الله ورسوله فقد جعله ندا، وربما صنع به كما تصنع النصارى بالمسيح، ويدعوه ويستغيث به، ويوالي أولياءه، ويعادي أعداءه، مع إيجابه طاعته في كل ما يأمر به وينهى عنه، ويحلله ويحرمه، ويقيمه مقام الله ورسوله، فهذا من الشرك الذي يدخل أصحابه في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} (¬2).اهـ (¬3) - وقال: وكان يعقوب بن إسحاق الكندي فيلسوف الإسلام في وقته، أعني الفيلسوف الذي في الإسلام، وإلا فليس الفلاسفة من المسلمين. كما ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (7/ 471 - 472). (¬2) البقرة الآية (165). (¬3) مجموع الفتاوى (10/ 267).

قالوا لبعض أعيان القضاة الذين كانوا في زماننا: ابن سينا من فلاسفة الإسلام؟ فقال: ليس للإسلام فلاسفة ... (¬1) - وقال: إياك والنظر في كتب أهل الفلسفة الذين يزعمون فيها أنه كلما قوي نور الحق وبرهانه في القلوب خفي عن المعرفة، كما يبهر ضوء الشمس عيون الخفافيش بالنهار. فاحذر مثل هؤلاء، وعليك بصحبة أتباع الرسل المؤيدين بنور الهدى وبراهين الإيمان، أصحاب البصائر في الشبهات والشهوات، الفارقين بين الواردات الرحمانية والشيطانية، العالمين العاملين {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)} (¬2).اهـ (¬3) - وسئل عن 'كتب المنطق'. فأجاب: أما 'كتب المنطق' فتلك لا تشتمل على علم يؤمر به شرعا، وإن كان قد أدى اجتهاد بعض الناس إلى أنه فرض على الكفاية. وقال بعض الناس: إن العلوم لا تقوم إلا به، كما ذكر ذلك أبو حامد. فهذا غلط عظيم عقلا وشرعا: أما عقلا: فإن جميع عقلاء بني آدم من جميع أصناف المتكلمين في العلم حرروا علومهم بدون المنطق اليوناني. وأما شرعا: فإنه من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن الله لم يوجب تعلم هذا المنطق اليوناني على أهل العلم والإيمان. وأما هو في نفسه فبعضه حق، وبعضه باطل، والحق الذي فيه كثير منه ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (9/ 186). (¬2) المجادلة الآية (22). (¬3) مجموع الفتاوى (11/ 697).

أو أكثره لا يحتاج إليه، والقدر الذي يحتاج إليه منه فأكثر الفطر السليمة تستقل به، والبليد لا ينتفع به، والذكي لا يحتاج إليه، ومضرته على من لم يكن خبيرا بعلوم الأنبياء أكثر من نفعه، فإن فيه من القواعد السلبية الفاسدة ما راجت على كثير من الفضلاء، وكانت سبب نفاقهم، وفساد علومهم. وقول من قال إنه كله حق كلام باطل، بل في كلامهم في الحد والصفات الذاتية والعرضية، وأقسام القياس والبرهان ومواده من الفساد ما قد بيناه في غير هذا الموضع، وقد بين ذلك علماء المسلمين والله أعلم. (¬1) - وقال: وأصل هذا الباب أن يقال: الإقسام على الله بشيء من المخلوقات، أو السؤال له به، إما أن يكون مأمورا به إيجابا أو استحبابا، أو منهيا عنه نهي تحريم أو كراهة، أو مباحا لا مأمورا به ولا منهيا عنه. وإذا قيل: إن ذلك مأمور به أو مباح، فإما أن يفرق بين مخلوق ومخلوق، أو يقال: بل يشرع بالمخلوقات المعظمة أو ببعضها. فمن قال: إن هذا مأمور به أو مباح في المخلوقات جميعها، لزم أن يسأل الله تعالى بشياطين الإنس والجن فهذا لا يقوله مسلم. فإن قال: بل يسأل بالمخلوقات المعظمة كالمخلوقات التي أقسم بها في كتابه، لزم من هذا أن يسأل بالليل إذا يغشى، والنهار إذا تجلى، والذكر والأنثى، والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها، والنهار إذا جلاها، والليل إذا يغشاها، والسماء وما بناها، والأرض وما طحاها، ونفس وما سواها، ويسأل الله تعالى ويقسم عليه بالخنس الجوار الكنس، والليل إذا عسعس، ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (9/ 269 - 270).

والصبح إذا تنفس، ويسأل بالذاريات ذروا، فالحاملات وقرا، فالجاريات يسرا، فالمقسمات أمرا، ويسأل بالطور، وكتاب مسطور، في رق منشور، والبيت المعمور، والسقف المرفوع، والبحر المسجور، ويسأل ويقسم عليه بالصافات صفا، وسائر ما أقسم الله به في كتابه. فإن الله يقسم بما يقسم به من مخلوقاته لأنها آياته ومخلوقاته. فهي دليل على ربوبيته وألوهيته ووحدانيته، وعلمه وقدرته، ومشيئته ورحمته، وحكمته وعظمته وعزته. فهو سبحانه يقسم بها لأن إقسامه بها تعظيم له سبحانه. ونحن المخلوقون ليس لنا أن نقسم بها بالنص والإجماع. بل ذكر غير واحد الإجماع على أنه لا يقسم بشيء من المخلوقات وذكروا إجماع الصحابة على ذلك؛ بل ذلك شرك منهي عنه. ومن سأل الله بها، لزمه أن يسأله بكل ذكر وأنثى، وبكل نفس ألهمها فجورها وتقواها، ويسأله بالرياح، والسحاب، والكواكب، والشمس، والقمر، والليل، والنهار، والتين، والزيتون، وطور سينين، ويسأله بالبلد الأمين مكة، ويسأله حينئذ بالبيت، والصفا والمروة، وعرفة، ومزدلفة، ومنى، وغير ذلك من المخلوقات، ويلزم أن يسأله بالمخلوقات التي عبدت من دون الله؛ كالشمس، والقمر، والكواكب، والملائكة، والمسيح، والعزير، وغير ذلك مما عبد من دون الله، ومما لم يعبد من دونه. ومعلوم أن السؤال لله بهذه المخلوقات، أو الإقسام عليه بها من أعظم البدع المنكرة في دين الإسلام، ومما يظهر قبحه للخاص والعام. ويلزم من ذلك أن يقسم على الله تعالى بالإقسام والعزائم التي تكتب في الحروز

والهياكل التي تكتبها الطرقية والمعزمون؛ بل ويقال: إذا جاز السؤال والإقسام على الله بها فعلى المخلوقات أولى، فحينئذ تكون العزائم، والإقسام التي يقسم بها، على الجن مشروعة في دين الإسلام. وهذا الكلام يستلزم الكفر والخروج من دين الإسلام، بل ومن دين الأنبياء أجمعين. وإن قال قائل: بل أنا أسأله أو أقسم عليه بمعظم دون معظم من المخلوقات، إما الأنبياء دون غيرهم، أو نبي دون غيره، كما جوز بعضهم الحلف بذلك، أو بالأنبياء والصالحين دون غيرهم. قيل له: بعض المخلوقات وإن كان أفضل من بعض، فكلها مشتركة في أنه لا يجعل شيء منها ندا لله تعالى، فلا يعبد ولا يتوكل عليه، ولا يخشى، ولا يتقى، ولا يصام له، ولا يسجد له، ولا يرغب إليه، ولا يقسم بمخلوق، كما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من كان حالفا فليحلف بالله، أو ليصمت» (¬1) وقال: «لاتحلفوا إلا بالله» (¬2)، وفي السنن عنه أنه قال: «من حلف بغير الله فقد أشرك» (¬3). فقد ثبت بالنصوص الصحيحة الصريحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يجوز الحلف بشيء من المخلوقات، لا فرق في ذلك بين ¬

(¬1) أحمد (2/ 11 و17) والبخاري (11/ 649/6646) ومسلم (3/ 1266/1646 (3)) وأبو داود (3/ 569/3249) والترمذي (4/ 93/1534) والنسائي (7/ 7و8/ 3775) وابن ماجه (1/ 677/2094) من حديث عمر رضي الله عنه. (¬2) أخرجه بهذا اللفظ: أبو داود (3/ 569/3248) والنسائي (7/ 8/3778) من حديث أبي هريرة. وصححه ابن حبان (10/ 199/4357). (¬3) أحمد (2/ 125) وأبو داود (3/ 570/3251) والترمذي (4/ 93 - 94/ 1535) وقال: "حديث حسن". وصححه ابن حبان (10/ 199 - 200/ 4358) والحاكم (1/ 18) و (4/ 297) وقال: "صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي.

الملائكة والأنبياء والصالحين وغيرهم، ولا فرق بين نبي ونبي. (¬1) - وقال: واعلم أن القائلين بقدم الروح صنفان: صنف من الصابئة الفلاسفة، يقولون: هي قديمة أزلية لكن ليست من ذات الرب، كما يقولون ذلك في العقول والنفوس الفلكية، ويزعم من دخل من أهل الملل فيهم أنها هي الملائكة. وصنف من زنادقة هذه الأمة وضلالها -من المتصوفة والمتكلمة والمحدثة- يزعمون أنها من ذات الله، وهؤلاء أشر قولا من أولئك، وهؤلاء جعلوا الآدمي نصفين: نصف لاهوت، وهو روحه. ونصف ناسوت، وهو جسده، نصفه رب ونصفه عبد. وقد كفر الله النصارى بنحو من هذا القول في المسيح، فكيف بمن يعم ذلك في كل أحد حتى في فرعون وهامان وقارون؟ وكلما دل على أن الإنسان عبد مخلوق مربوب، وأن الله ربه وخالقه ومالكه وإلهه، فهو يدل على أن روحه مخلوقة. (¬2) - وقال: وتحرير القول فيه: إن الساب -أي للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن كان مسلما: فإنه يكفر ويقتل بغير خلاف، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، وقد تقدم ممن حكى الإجماع على ذلك إسحاق بن راهويه وغيره، وإن كان ذميا فإنه يقتل أيضا في مذهب مالك وأهل المدينة، وهو مذهب أحمد وفقهاء الحديث. (¬3) ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (1/ 289 - 291). (¬2) مجموع الفتاوى (4/ 221 - 222). (¬3) الصارم المسلول (10).

- وقال: أما من اقترن بسبه -أي الصحابة- دعوى أن عليا إله، أو أنه كان هو النبي، وإنما غلط جبرئيل في الرسالة؛ فهذا لا شك في كفره، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره. وكذلك من زعم منهم أن القرآن نقص منه آيات وكتمت، أو زعم أن له تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة، ونحو ذلك، وهؤلاء يسمون القرامطة والباطنية، ومنهم التناسخية، وهؤلاء لا خلاف في كفرهم. وأما من سبهم سبا لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم -مثل وصف بعضهم بالبخل، أو الجبن، أو قلة العلم، أو عدم الزهد، ونحو ذلك- فهذا هو الذي يستحق التأديب والتعزير، ولا نحكم بكفره بمجرد ذلك، وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من أهل العلم. وأما من لعن وقبح مطلقا فهذا محل الخلاف فيهم؛ لتردد الأمر بين لعن الغيظ ولعن الاعتقاد. وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا نفرا قليلا لا يبلغون بضعة عشر نفسا، أو أنهم فسقوا عامتهم؛ فهذا لا ريب أيضا في كفره، لأنه كذب لما نصه القرآن في غير موضع: من الرضى عنهم والثناء عليهم، بل من يشك في كفر مثل هذا، فإن كفره متعين، فإن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق، وأن هذه الآية التي هي {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (¬1)، وخيرها هو القرن الأول، كان عامتهم كفارا أو فساقا، ومضمونها أن هذه الأمة شر الأمم، وأن سابقي هذه الأمة هم شرارها، وكفر هذا مما يعلم ¬

(¬1) آل عمران الآية (110).

بالاضطرار من دين الإسلام. ولهذا تجد عامة من ظهر عليه شيء من هذه الأقوال، فإنه يتبين أنه زنديق، وعامة الزنادقة إنما يستترون بمذهبهم، وقد ظهرت لله فيهم مثلات، وتواتر النقل بأن وجوههم تمسخ خنازير في المحيا والممات، وجمع العلماء ما بلغهم في ذلك، وممن صنف فيه الحافظ الصالح أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي كتابه في النهي عن سب الأصحاب، وما جاء فيه من الإثم والعقاب. وبالجملة فمن أصناف السابة من لا ريب في كفره، ومنهم من لا يحكم بكفره، ومنهم من تردد فيه. (¬1) - وقال شيخ الإسلام رحمه الله: والقائلون بوحدة الوجود حقيقة قولهم هو قول ملاحدة الدهرية الطبيعية الذين يقولون: ما ثم موجود إلا هذا العالم المشهود، وهو واجب بنفسه. وهو القول الذي أظهره فرعون، لكن هؤلاء ينازعون أولئك في الاسم، فأولئك يسمون هذا الموجود بأسماء الله، وهؤلاء لا يسمونه بأسماء الله، وأولئك يحسبون أن الإله الذي أخبرت عنه الرسل هو هذا الموجود، وأولئك لا يقولون هذا، وأولئك لهم توجه إلى الوجود المطلق، وأولئك ليس لهم توجه إليه. وفساد قول هؤلاء يعرف بوجوه منها: العلم بما يشاهد حدوثه كالمطر والسحاب والحيوان والنبات والمعدن، وغير ذلك من الصور والأعراض، فإن هذه يمتنع أن يكون وجودها واجبا لكونها كانت معدومة، ويمتنع أن تكون ممتنعة لكونها وجدت. فهذه مما يعلم بالضرورة أنها ممكنة، ليست واجبة ولا ممتنعة. (¬2) ¬

(¬1) الصارم المسلول (590 - 591). (¬2) درء التعارض (3/ 163 - 164).

- وقال: وكلام ابن عربي صاحب 'فصوص الحكم'، وأمثاله من الاتحادية القائلين بوحدة الوجود، يدور على ذلك لمن فهمه، ولكن يسمون هذا العالم الله. فمذهبهم في الحقيقة مذهب المعطلة، كفرعون وأمثاله، ولكن هؤلاء يطلقون عليه هذا الاسم، بخلاف أولئك. وأيضا فقد يكون جهال هؤلاء وعوامهم يعتقدون أنهم يثبتون خالقا مباينا للمخلوق، مع قولهم بالوحدة والاتحاد، كما رأينا منهم طوائف، مع ما دخلوا فيه من العلم والدين، لا يعرفون حقيقة مذهب هؤلاء، لما في ظاهره من الإقرار بالصانع ورسله ودينه. وإنما يعرف ذلك من كان ذكيا خبيرا بحقيقة مذهبهم، ومن كان كذلك فهو أحد رجلين: إما مؤمن عليم، علم أن هذا يناقض الحق، وينافي دين الإسلام؛ فذمهم وعاداهم. وإما زنديق منافق، علم حقيقة أمرهم، وأظهر ما يظهرون، وكان من أئمتهم. فهذا وأمثاله من جنس آل فرعون، الذين جعلوا أئمة يدعون إلى النار. والأول من أتباع الرسل والأنبياء، كآل إبراهيم، الذين جعلهم الله أئمة يهدون بأمره. (¬1) - وقال: ومثل هذا القانون الذي وضعه هؤلاء -أي الأشاعرة- يضع كل فريق لأنفسهم قانونا فيما جاءت به الأنبياء عن الله، فيجعلون الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه هو ما ظنوا أن عقولهم عرفته، ويجعلون ما جاءت به الأنبياء تبعا له؛ فما وافق قانونهم قبلوه، وما خالفه لم يتبعوه. وهذا يشبه ما وضعته النصارى من أمانتهم التي جعلوها عقيدة إيمانهم، وردوا نصوص التوراة والإنجيل إليها، لكن تلك الأمانة اعتمدوا فيها على ما فهموه من ¬

(¬1) درء التعارض (8/ 243 - 244).

نصوص الأنبياء، أو ما بلغهم عنهم، وغلطوا في الفهم أو في تصديق الناقل، كسائر الغالطين ممن يحتج بالسمعيات، فإن غلطه إما في الإسناد وإما في المتن؛ وأما هؤلاء فوضعوا قوانينهم على ما رأوه بعقولهم، وقد غلطوا في الرأي والعقل. فالنصارى أقرب إلى تعظيم الأنبياء والرسل من هؤلاء، لكن النصارى يشبههم من ابتدع بدعة بفهمه الفاسد من النصوص، أو بتصديقه النقل الكاذب عن الرسول، كالخوارج والوعيدية والمرجئة والإمامية وغيرهم، بخلاف بدعة الجهمية والفلاسفة، فإنها مبنية على ما يقرون هم بأنه مخالف للمعروف من كلام الأنبياء، وأولئك يظنون أن ما ابتدعوه هو المعروف من كلام الأنبياء؛ وأنه صحيح عندهم. (¬1) - وقال: بل نقول قولا عاما كليا: إن النصوص الثابتة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعارضها قط صريح معقول، فضلا عن أن يكون مقدما عليها، وإنما الذي يعارضها شبه وخيالات، مبناها على معان متشابهة، وألفاظ مجملة، فمتى وقع الاستفسار والبيان ظهر أن ما عارضها شبه سوفسطائية، لا براهين عقلية. (¬2) - وقال: وأما الفلاسفة فلا يجمعهم جامع، بل هم أعظم اختلافا من جميع طوائف المسلمين واليهود والنصارى. والفلسفة التي ذهب إليها الفارابي وابن سينا إنما هي فلسفة المشائين أتباع أرسطو صاحب التعاليم، وبينه وبين سلفه من النزاع والاختلاف ما يطول وصفه، ثم بين أتباعه من الخلاف ما يطول وصفه. وأما سائر طوائف الفلاسفة، فلو حكي اختلافهم في علم الهيئة ¬

(¬1) درء التعارض (1/ 6 - 8). (¬2) درء التعارض (1/ 155 - 156).

وحده لكان أعظم من اختلاف كل طائفة من طوائف أهل القبلة، والهيئة علم رياضي حسابي هو من أصح علومهم، فإذا كان هذا اختلافهم فيه فكيف باختلافهم في الطبيعيات أو المنطق؟ فكيف بالإلهيات؟ (¬1) - وقال: وقد ابتدعت القرامطة الباطنية تفسيرا آخر، كما ذكره أبو حامد في بعض مصنفاته، كمشكاة الأنوار وغيرها: أن الكواكب والشمس والقمر: هي النفس والعقل الفعال والعقل الأول ونحو ذلك. (¬2) - قال: إن كثيرا من المبتدعة منافقون النفاق الأكبر، وأولئك كفار في الدرك الأسفل من النار، فما أكثر ما يوجد في الرافضة والجهمية ونحوهم زنادقة منافقون، بل أصل هذه البدع هو من المنافقين الزنادقة، ممن يكون أصل زندقته عن الصابئين والمشركين، هؤلاء كفار في الباطن، ومن علم حاله فهو كافر في الظاهر أيضا. وأصل ضلال هؤلاء الإعراض عما جاء به الرسول من الكتاب والحكمة، وابتغاء الهدى في خلاف ذلك، فمن كان هذا أصله فهو بعد بلاغ الرسالة كافر لا ريب فيه، مثل من يرى أن الرسالة للعامة دون الخاصة، كما يقوله قوم من المتفلسفة، وغالية المتكلمة والمتصوفة، أو يرى أنه رسول إلى بعض الناس دون بعض، كما يقوله كثير من اليهود والنصارى. (¬3) - وقال: إذ صاحب كتاب 'مشكاة الأنوار' إنما بنى كلامه على ¬

(¬1) درء التعارض (1/ 157 - 158). (¬2) درء التعارض (1/ 315). (¬3) مجموع الفتاوى (12/ 496 - 497).

أصول هؤلاء الملاحدة، وجعل ما يفيض على النفوس من المعارف من جنس خطاب الله عز وجل لموسى بن عمران النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما تقوله القرامطة الباطنية ونحوهم من المتفلسفة، وجعل "خلع النعلين" الذي خوطب به موسى صلوات الله عليه وسلامه إشارة إلى ترك الدنيا والآخرة، وإن كان قد يقرر خلع النعلين حقيقة، لكن جعل هذا إشارة إلى أن من خلع الدنيا والآخرة فقد حصل له ذلك الخطاب الإلهي. وهو من جنس قول من يقول: إن النبوة مكتسبة، ولهذا كان أكابر هؤلاء يطمعون في النبوة، فكان السهروردي المقتول يقول: لا أموت حتى يقال لي: {قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} (¬1) وكان ابن سبعين يقول: لقد زَرَب ابن آمنة حيث قال: «لا نبي بعدي»، ولما جعل خلع النعلين إشارة إلى ذلك، أخذ ذلك ابن قسي ونحوه ووضع كتابه في: 'خلع النعلين، واقتباس النور من موضع القدمين' من مثل هذا الكلام. ومن هنا دخل أهل الإلحاد من أهل الحلول والوحدة والاتحاد، حتى آل الأمر بهم إلى أن جعلوا وجود المخلوقات عين وجود الخالق سبحانه وتعالى، كما فعل صاحب 'الفصوص' ابن عربي وابن سبعين وأمثالهما من الملاحدة المنتسبين إلى التصوف والتحقيق. وهم من جنس الملاحدة المنتسبين إلى التشيع، لكن تظاهر هؤلاء من أقوال شيوخ الصوفية وأهل المعرفة بما التبس به حالهم على كثير من أهل العلم المنتسبين إلى العلم والدين، بخلاف أولئك الذين تظاهروا بمذهب التشيع، فإن نفور الجمهور عن مذهب الرافضة مما نفر الجمهور عن ¬

(¬1) المدثر الآية (2).

مثل هؤلاء، بخلاف جنس أهل الفقر والزهد، ومن يدخل في ذلك من متكلم ومتصوف وفقير وناسك وغير هؤلاء، فإنهم لمشاركتهم الجمهور في الانتساب إلى السنة والجماعة، يخفى من إلحاد الملحد الداخل فيهم ما لا يخفى من إلحاد ملاحدة الشيعة، وإن كان إلحاد الملحد منهم أحيانا قد يكون أعظم، كما حدثني نقيب الأشراف أنه قال للعفيف التلمساني: أنت نصيري، فقال: نصير جزء مني. والكلام على بسط هذا له موضع آخر غير هذا. (¬1) - وقال: فقد أوجب الله تعالى على المؤمنين الإيمان بالرسول والجهاد معه، ومن الإيمان به: تصديقه في كل ما أخبر به، ومن الجهاد معه دفع كل من عارض ما جاء به، وألحد في أسماء الله وآياته. وهؤلاء أهل الكلام المخالفون للكتاب والسنة، الذين ذمهم السلف والأئمة، لا قاموا بكمال الإيمان ولا بكمال الجهاد، بل أخذوا يناظرون أقواما من الكفار وأهل البدع -الذين هم أبعد عن السنة منهم- بطريق لا يتم إلا برد بعض ما جاء به الرسول، وهي لا تقطع أولئك الكفار بالمعقول، فلا آمنوا بما جاء به الرسول حق الإيمان، ولا جاهدوا الكفار حق الجهاد، وأخذوا يقولون إنه لا يمكن الإيمان بالرسول ولا جهاد الكفار، والرد على أهل الإلحاد والبدع إلا بما سلكناه من المعقولات، وإن ما عارض هذه المعقولات من السمعيات يجب رده -تكذيبا أو تأويلا أو تفويضا- لأنها أصل السمعيات. وإذا حقق الأمر عليهم، وجد الأمر بالعكس، وأنه لا يتم الإيمان ¬

(¬1) درء التعارض (1/ 317 - 319).

بالرسول والجهاد لأعدائه، إلا بالمعقول الصريح المناقض لما ادعوه من العقليات، وتبين أن المعقول الصريح مطابق لما جاء به الرسول، لا يناقضه ولا يعارضه، وأنه بذلك تبطل حجج الملاحدة، وينقطع الكفار، فتحصل مطابقة العقل للسمع، وانتصار أهل العلم والإيمان على أهل الضلال والإلحاد، ويحصل بذلك الإيمان بكل ما جاء به الرسول، واتباع صريح المعقول، والتمييز بين البينات والشبهات. (¬1) - وقال رحمه الله: ومن تدبر كلام هؤلاء الطوائف -بعضهم مع بعض- تبين له أنهم لا يعتصمون فيما يخالفون به الكتاب والسنة إلا بحجة جدلية يسلمها بعضهم لبعض، وآخر منتهاهم: حجة يحتجون بها في إثبات حدوث العالم لقيام الأكوان به أو الأعراض، ونحو ذلك من الحجج التي هي أصل الكلام المحدث، الذي ذمه السلف والأئمة، وقالوا: إنه جهل، وإن حكم أهله: "أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام". ولكن من عرف حقائق ما انتهى إليه هؤلاء الفضلاء الأذكياء، ازداد بصيرة وعلما ويقينا بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وبأن ما يعارضون به الكتاب والسنة من كلامهم الذي يسمونه عقليات: هي من هذا الجنس الذي لا ينفق إلا بما فيه من الألفاظ المجملة المشتبهة، مع من قلت معرفته بما جاء به الرسول وبطرق إثبات ذلك، ويتوهم أن بمثل هذا الكلام يثبت معرفة الله وصدق رسله، وأن الطعن في ذلك طعن فيما به يصير العبد مؤمنا، فيتعجل رد كثير مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - لظنه أنه بهذا ¬

(¬1) درء التعارض (1/ 373 - 374).

الرد يصير مصدقا للرسول في الباقي. وإذا أمعن النظر تبين له أنه كلما ازداد تصديقا لمثل هذا الكلام ازداد نفاقا وردا لما جاء به الرسول، وكلما ازداد معرفة بحقيقة هذا الكلام وفساده ازداد إيمانا وعلما بحقيقة ما جاء به الرسول، ولهذا قال من قال من الأئمة: (قل أحد نظر في الكلام إلا تزندق، وكان في قلبه غل على أهل الإسلام) بل قالوا: (علماء الكلام زنادقة). (¬1) - وقال في كلام أهل الكلام المذموم: يطولون في الحدود والأدلة بما لا يحتاج التعريف والبيان إليه، ثم يكون ما طولوا به مانعا من التعريف والبيان، فيكونون مثل من يريد الحج من الشام فيذهب إلى الهند ليحج من هناك فينقطع عليه الطريق، فلم يصل إلى مكة. (¬2) - وقال: والمقصود هنا أن هؤلاء الذين يدعون أن كمال النفس هو الإحاطة بالمعقولات والعلم بالمجهولات، هذا اضطرابهم في أشرف المعلومات الموجودات، بل فيما لا تنجو النفوس إلا بمعرفته وعبادته، ولكن لما سلموا للفلاسفة أصولهم الفاسدة، تورطوا معهم في مجاراتهم، وصاروا يجرونهم كما يجر الملاحدة الباطنية الناس صنفا صنفا. والفلسفة هي باطن الباطنية، ولهذا صار في هؤلاء نوع من الإلحاد، فقل أن يسلم من دخل مع هؤلاء من نوع من الإلحاد، في أسماء الله وآياته وتحريف الكلم عن مواضعه. (¬3) ¬

(¬1) درء التعارض (2/ 205 - 206). (¬2) درء التعارض (3/ 191 - 192). (¬3) درء التعارض (3/ 269).

- وقال: ليتأمل اللبيب كلام هؤلاء الذين يدعون من الحذق والتحقيق ما يدفعون به ما جاءت به الرسل، كيف يتكلمون في غاية حكمتهم، ونهاية فلسفتهم بما يشبه كلام المجانين، ويجعلون الحق المعلوم بالضرورة مردودا، والباطل الذي يعلم بطلانه بالضرورة مقبولا، بكلام فيه تلبيس وتدليس. (¬1) - وقال رحمه الله -يبين أن الرد على أهل الباطل من أعظم الجهاد-: والمناظرة تارة تكون بين الحق والباطل، وتارة بين القولين الباطلين لتبيين بطلانهما، أو بطلان أحدهما، أو كون أحدهما أشد بطلانا من الآخر، فإن هذا ينتفع به كثيرا في أقوال أهل الكلام والفلسفة وأمثالهم، ممن يقول أحدهم القول الفاسد وينكر على منازعه ما هو أقرب منه إلى الصواب، فيبين أن قول منازعه أحق بالصحة إن كان قوله صحيحا، وأن قوله أحق بالفساد إن كان قول منازعه فاسدا، لتنقطع بذلك حجة الباطل، فإن هذا أمر مهم، إذ كان المبطلون يعارضون نصوص الكتاب والسنة بأقوالهم، فإن بيان فسادها أحد ركني الحق وأحد المطلوبين، فإن هؤلاء لو تركوا نصوص الأنبياء لهدت وكفت، ولكن صالوا عليها صول المحاربين لله ولرسوله، فإذا دفع صيالهم، وبين ضلالهم، كان ذلك من أعظم الجهاد في سبيل الله. (¬2) ¬

(¬1) درء التعارض (3/ 427). (¬2) درء التعارض (4/ 206).

- وقال رحمه الله -يبين أن عامة أهل الكلام مقلدة-: فمن تبحر في المعقولات، وميز بين البينات والشبهات، تبين به أن العقل الصريح أعظم الأشياء موافقة لما جاء به الرسول، وكلما عظمت معرفة الرجل بذلك، عظمت موافقته للرسول. ولكن دخلت الشبهة في ذلك بأن قوما كان لهم ذكاء تميزوا به في أنواع من العلوم: إما طبيعية كالحساب والطب، وإما شرعية كالفقه مثلا. وأما الأمور الإلهية فلم يكن لهم بها خبرة كخبرتهم بذلك، وهي أعظم المطالب، وأجل المقاصد، فخاضوا فيها بحسب أحوالهم، وقالوا فيها مقالات بعبارات طويلة مشتبهة، لعل كثيرا من أئمة المتكلمين بها لا يحصلون حقائق تلك الكلمات، ولو طالبتهم بتحقيقها لم يكن عندهم إلا الرجوع إلى تقليد أسلافهم فيها. وهذا موجود في منطق اليونان وإلهياتهم، وكلام أهل الكلام من هذه الأمة وغيرهم، يتكلم رأس الطائفة كأرسطو مثلا بكلام، وأمثاله من اليونان بكلام، وأبى الهذيل والنظام وأمثالهما من متكلمة أهل الإسلام بكلام، ويبقى ذلك الكلام دائرا في الأتباع، يدرسونه كما يدرس المؤمنون كلام الله، وأكثر من يتكلم به لا يفهمه. وكلما كانت العبارة أبعد عن الفهم كانوا لها أشد تعظيما، وهذا حال الأمم الضالة، كلما كان الشيء مجهولا كانوا أشد له تعظيما، كما يعظم الرافضة المنتظر، الذي ليس لهم منه حس ولا خبر، ولا وقعوا له على عين ولا أثر. وكذلك تعظيم الجهال من المتصوفة ونحوهم للغوث وخاتم الأولياء، ونحو ذلك مما لا يعرفون له حقيقة. وكذلك النصارى

تعظم ما هو من هذا الباب. وهكذا الفلاسفة تجد أحدهم إذا سمع أئمته يقولون: الصفات الذاتية والعرضية، والمقوم والمقسم، والمادة والهيولي، والتركيب من الكم ومن الكيف، وأنواع ذلك من العبارات، عظمها قبل أن يتصور معانيها، ثم إذا طلب معرفتها لم يكن عنه في كثير منها إلا التقليد لهم. ولهذا كان فيها من الكلام الباطل المقرون بالحق ما شاء الله، ويسمونها عقليات، وإنما هي عندهم تقليديات، قلدوا فيها ناسا يعلمون أنهم ليسوا معصومين، وإذا بين لأحدهم فسادها لم يكن عنده ما يدفع ذلك، بل ينفي تعظيمه المطلق لرؤوس تلك المقالة، ثم يعارض ما تبين لعقله فيقول: كيف يظن بأرسطو وابن سينا وأبي الهذيل، أو أبي علي الجبائي ونحو هؤلاء أن يخفى عليه مثل هذا؟! أو أن يقول مثل هذا؟! وهو مع هذا يرى أن الذين قلدوا المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} (¬1) قد بخسوا أنفسهم حظها من العقل والمعرفة والتمييز، ورضوا بقبول قول لا يعلمون حقيقته، وهو مع هذا يقبل أقوالا لا يعلم حقيقتها، وقائلين يعلم أنهم يخطئون ويصيبون. وهذا القدر قد تبينته من الطوائف المخالفين للكتاب والسنة -ولو في أدنى شيء ممن رأيت كتبهم، وممن خاطبتهم، وممن بلغني أخبارهم- إذا أقيمت على أحدهم الحجة العقلية التي يجب على طريقته قبولها، ولم يجد له ما يدفعها به، فر إلى التقليد، ولجأ إلى قول شيوخه، وقد كان في أول الأمر ¬

(¬1) النجم الآية (4).

يدعو إلى النظر والمناظرة، والاعتصام بالعقليات، والإعراض عن الشرعيات. ثم إنه في آخر الأمر لا حصل له علم من الشرعيات ولا من العقليات، بل هو كما قال الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)} (¬1). وكما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8)} (¬2). وكما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)} (¬3). وكما قال: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} (¬4). وكما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)} (¬5) وكما قال: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ ¬

(¬1) الحج الآية (3). (¬2) الحج الآية (8). (¬3) الأنعام الآية (110). (¬4) الفرقان الآية (44). (¬5) الفرقان الآيتان (27و29) ..

يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)} (¬1). وهذه النصوص فيها نصيب لكل من اتبع أحدا من الرؤوس فيما يخالف الكتاب والسنة، سواء كانوا من رؤوس أهل النظر والكلام والمعقول والفلسفة، أو رؤوس أهل الفقه والكلام في الأحكام الشرعية، أو من رؤوس أهل العبادة والزهادة والتأله والتصوف، أو من رؤوس أهل الملك والإمارة والحكم والولاية والقضاء. ولست تجد أحدا من هؤلاء إلا متناقضا، وهو نفسه يخالف قول ذلك المتبوع الذي عظمه في موضع آخر، إذ لا يصلح أمر دنياه ودينه بموافقة ذلك المتبوع، لتناقض أوامره. بخلاف ما جاء من عند الله، فإنه متفق مؤتلف، فيه صلاح أحوال العباد، في المعاش والمعاد، قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} (¬2).اهـ (¬3) - وقال: فعند هؤلاء كلام الأنبياء وخطابهم في أشرف المعارف وأعظم العلوم، يمرض ولا يشفي، ويضل ولا يهدي، ويضر ولا ينفع، ويفسد ولا يصلح، ولا يزكي النفوس ويعلمها الكتاب والحكمة، بل يدسي النفوس ويوقعها في الضلال والشبهة، بل يكون كلام من يسفسط تارة ويبين أخرى، ¬

(¬1) الأحزاب الآيات (66 - 68). (¬2) النساء الآية (82). (¬3) درء التعارض (5/ 315 - 318).

-كما يوجد في كلام كثير من أهل الكلام والفلسفة، كابن الخطيب وابن سينا وابن عربي وأمثالهم- خيرا من كلام الله وكلام رسله، فلا يكون خير الكلام كلام الله، ولا أصدق الحديث حديثه، بل يكون بعض قرآن مسيلمة الكذاب الذي ليس فيه كذب في نفسه، -وإن كانت نسبته إلى الله كذبا، ولكنه مما لا يفيد كقوله: الفيل وما أدراك ما الفيل، له زلوم طويل، إن ذلك من خلق ربنا الجليل- عند هؤلاء الملاحدة خيرا من كلام الله، الذي وصف به نفسه، ووصف به ملائكته، واليوم الآخر، وخيرا من كلام رسوله، لأن قرآن مسيلمة وإن لم تكن فيه فائدة ولا منفعة، فلا مضرة فيه ولا فساد، بل يضحك المستمع كما يضحك الناس من أمثاله. وكلام الله ورسوله عند هؤلاء أضل الخلق وأفسد عقولهم، وأديانهم، وأوجب أن يعتقدوا نقيض الحق في الإيمان بالله ورسوله، أو يشكوا ويرتابوا في الحق، أو يكونوا -إذا عرفوا بعقلهم- تعبوا تعبا عظيما في صرف الكلام عن مدلوله ومقتضاه، وصرف الخلق عن اعتقاد مضمونه وفحواه، ومعاداة من يقر بذلك، وهم السواد الأعظم من أتباع الرسل. (¬1) - وقال: وهم فيما خاضوا فيه من العقليات المعارضة للنصوص، في حيرة وشبهة وشك، من كان منهم فاضلا ذكيا قد عرف نهايات إقدامهم، كان في حيرة وشك، ومن كان منهم لم يصل إلى الغاية كان مقلدا لهؤلاء، فهو يدع تقليد النبي المعصوم، وإجماع المؤمنين المعصوم، ويقلد رؤوس الكلام المخالف للكتاب والسنة، الذين هم في شك وحيرة، ولهذا لا يوجد أحد من ¬

(¬1) درء التعارض (5/ 364 - 365).

هؤلاء إلا وهو: إما حائر شاك، وإما متناقض يقول قولا ويقول ما يناقضه، فيلزم بطلان أحد القولين أو كلاهما، لا يخرجون عن الجهل البسيط مع كثرة النظر والكلام، أو عن الجهل المركب الذي هو ظنون كاذبة، وعقائد غير مطابقة، وإن كانوا يسمون ذلك براهين عقلية، وأدلة يقينية، فهم أنفسهم ونظراؤهم يقدحون فيها، ويبينون أنها شبهات فاسدة، وحجج عن الحق حائدة. وهذا الأمر يعرفه كل من كان خبيرا بحال هؤلاء، بخلاف أتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - المتبعين له، فإنهم ينكشف لهم أن ما جاء به الرسول، هو الموافق لصريح المعقول، وهو الحق الذي لا اختلاف فيه ولا تناقض. (¬1) - وقال: وهذا موجود في عامة كتب أهل الكلام والفلسفة: متقدميهم ومتأخريهم إلى كتب الرازي والآمدي ونحوها، وليس فيها من أمهات الأصول الكلية والإلهية القول الذي هو الحق، بل تجد كل ما يذكرونه من المسائل وأقوال الناس فيها، إما أن يكون الكل خطأ، وإما أن يذكروا القول الصواب من حيث الجملة، مثل إطلاق القول بإثبات الصانع، وأنه لا إله إلا هو، وأن محمدا رسول الله، لكن لا يعطون هذا القول حقه: لا تصورا ولا تصديقا، فلا يحققون المعنى الثابت في نفس الأمر من ذلك، ولا يذكرون الأدلة الدالة على الحق، وربما بسطوا الكلام في بعض المسائل الجزئية التي لا ينتفع بها وحدها، بل قد لا يحتاج إليها. وأما المطالب العالية، والمقاصد السامية، من معرفة الله تعالى والإيمان به وملائكته وكتبه ورسله واليوم ¬

(¬1) درء التعارض (7/ 283 - 284).

الآخر، فلا يعرفونه كما يجب، وكما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا يذكرون من ذلك ما يطابق صحيح المنقول ولا صريح المعقول. (¬1) - وقال: ومعلوم عند كل من عرف دين الإسلام أن المصريين -بني عبيد الباطنية- كالحاكم وأمثاله، الذين هم سادة أهل بيته، من أعظم الناس نفاقا وإلحادا في الإسلام، وأبعد الناس عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نسبا ودينا، بل وأبعد الناس عن صريح المعقول وصحيح المنقول، فليس لهم سمع ولا عقل. وقولهم في الصفات صريح قول جهم، بل وشرا منه، وزادوا عليه من التكذيب بالحق والبعث والشرائع ما لم يقله الجهم، تلقيا عن سلفهم الدهرية، وأخذوا ما نطق به الرسول في الإيمان بالله واليوم الآخر والشرائع، فجعلوا لها بواطن يعلم علماء المسلمين بالاضطرار أنها مخالفة لدين الرسول - صلى الله عليه وسلم -. فأصحاب 'الإشارات'، هم من جنس هؤلاء، لكن يتفاوتون في التكذيب والإلحاد. (¬2) - وقال في رده على مذهب الرازي ومن سار عليه: فيقال: من العجائب، بل من أعظم المصائب، أن يجعل مثل هذا الهذيان برهانا في هذا المذهب، الذي حقيقته أن الله لم يخلق شيئا، بل الحوادث تحدث بلا خالق، وفي إبطال أديان أهل الملل وسائر العقلاء من الأولين والآخرين. لكن هذه الحجج الباطلة وأمثالها لما صارت تصد كثيرا من أفاضل الناس وعقلائهم وعلمائهم عن الحق المحض الموافق لصريح المعقول وصحيح المنقول، بل تخرج أصحابها عن العقل والدين، كخروج الشعرة من العجين، إما بالجحد ¬

(¬1) درء التعارض (9/ 67 - 68). (¬2) درء التعارض (10/ 60 - 61).

والتكذيب، وإما بالشك والريب؛ احتجنا إلى بيان بطلانها، للحاجة إلى مجاهدة أهلها، وبيان فسادها من أصلها، إذ كان فيها من الضرر بالعقول والأديان، ما لا يحيط به إلا الرحمن. (¬1) - وقال: والولي على أصله الفاسد -يعني ابن عربي- يأخذ عن الله بلا واسطة، لأنه يأخذ عن عقله، وهذا عندهم هو الأخذ عن الله بلا واسطة، إذ ليس عندهم ملائكة منفصلة تنزل بالوحي، والرب عندهم ليس هو موجودا مباينا للمخلوقات، بل هو وجود مطلق، أو مشروط بنفي الأمور الثبوتية عن الله، أو نفي الأمور الثبوتية والسلبية، وقد يقولون: هو وجود المخلوقات أو حال فيها، أو لا هذا ولا هذا. فهذا عندهم غاية كل رسول ونبي: النبوة عندهم الأخذ عن القوة المتخيلة التي صورت المعاني العقلية في المثل الخيالية، ويسمونها القوة القدسية، فلهذا جعلوا الولاية فوق النبوة. وهؤلاء من جنس القرامطة الباطنية الملاحدة، لكن هؤلاء ظهروا في قالب التصوف والتنسك ودعوى التحقيق والتأله، وأولئك ظهروا في قالب التشيع والموالاة، فأولئك يعظمون شيوخهم حتى يجعلوهم أفضل من الأنبياء، وقد يعظمون الولاية حتى يجعلوها أفضل من النبوة، وهؤلاء -يعني الروافض- يعظمون أمر الإمامة، حتى قد يجعلون الأئمة أعظم من الأنبياء، والإمام أعظم من النبي، كما يقوله الإسماعيلية. وكلاهما أساطين الفلاسفة الذين يجعلون النبي فيلسوفا، ويقولون: إنه يختص بقوة قدسية، ثم منهم من يفضل النبي على الفيلسوف، ومنهم من يفضل الفيلسوف على النبي، ويزعمون أن النبوة مكتسبة، وهؤلاء يقولون: ¬

(¬1) المنهاج (1/ 259).

إن النبوة عبارة عن ثلاث صفات، من حصلت له فهو نبي: أن يكون له قوة قدسية حدسية ينال بها العلم بلا تعلم، وأن تكون نفسه قوية لها تأثير في هيولي العالم، وأن يكون له قوة يتخيل بها ما يعقله، ومرئيا في نفسه، ومسموعا في نفسه. هذا كلام ابن سينا وأمثاله في النبوة، وعنه أخذ ذلك الغزالي في كتبه 'المضنون به على غير أهلها'. (¬1) - وجاء في مجموع الفتاوى: وحدثني الثقة أنه قرأ عليه 'فصوص الحكم' لابن عربي، وكان يظنه من كلام أولياء الله العارفين. فلما قرأه رآه يخالف القرآن، قال: فقلت له: هذا الكلام يخالف القرآن فقال: القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا، وكان يقول ثبت عندنا في الكشف ما يخالف صريح المعقول، وحدثني من كان معه ومع آخر نظير له، فمرا على كلب أجرب ميت بالطريق عند دار الطعم، فقال له رفيقه: هذا أيضا هو ذات الله؟ فقال: وهل ثم شيء خارج عنها؟ نعم، الجميع في ذاته. وهؤلاء حقيقة قولهم هو قول فرعون، لكن فرعون ما كان يخاف أحدا فينافقه، فلم يثبت الخالق وإن كان في الباطن مقرا به، وكان يعرف أنه ليس هو إلا مخلوق، لكن حب العلو في الأرض، والظلم دعاه إلى الجحود والإنكار كما قال: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ ¬

(¬1) المنهاج (8/ 22 - 24).

كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)} (¬1). وأما هؤلاء، فهم من وجه ينافقون المسلمين، فلا يمكنهم إظهار جحود الصانع، ومن وجه هم ضلال، يحسبون أنهم على حق وأن الخالق هو المخلوق، فكان قولهم هو قول فرعون، لكن فرعون كان معاندا مظهرا للجحود والعناد، وهؤلاء إما جهال ضلال، وإما منافقون مبطنون الإلحاد والجحود، يوافقون المسلمين في الظاهر. وحدثني الشيخ "عبد السيد" الذي كان قاضي اليهود ثم أسلم، وكان من أصدق الناس، ومن خيار المسلمين وأحسنهم إسلاما، أنه كان يجتمع بشيخ منهم يقال له: الشرف البلاسي يطلب منه المعرفة والعلم. قال: فدعاني إلى هذا المذهب، فقلت له: قولكم يشبه قول فرعون. قال: ونحن على قول فرعون. فقلت لعبد السيد: واعترف لك بهذا؟ قال: نعم، وكان عبد السيد إذ ذاك قد ذاكرني بهذا المذهب فقلت له: هذا مذهب فاسد وهو يؤول إلى قول فرعون فحدثني بهذا، فقلت له: ما ظننت أنهم يعترفون بأنهم على قول فرعون، لكن مع إقرار الخصم ما يحتاج إلى بينة، قال عبد السيد: فقلت له: لا أدع موسى وأذهب إلى فرعون فقال: ولم؟ قلت: لأن موسى أغرق فرعون فانقطع، واحتج عليه بالظهور الكوني، فقلت لعبد السيد -وكان هذا قبل أن يسلم-: نفعتك اليهودية يهودي خير من فرعوني. (¬2) ¬

(¬1) النمل الآيتان (13و14). (¬2) مجموع الفتاوى (13/ 186 - 188).

كلمة الشيخ في تائية ابن الفارض: جاء في نقض المنطق: وابن الفارض -من متأخري الاتحادية- صاحب القصيدة التائية المعروفة بنظم السلوك، وقد نظم فيها الاتحاد نظما رائق اللفظ، فهو أخبث من لحم خنزير في صينية من ذهب، وما أحسن تسميتها بنظم الشكوك. الله أعلم بها وبما اشتملت عليه، وقد نفقت كثيرا، وبالغ أهل العصر في تحسينها والاعتداد بما فيها من الاتحاد. (¬1) ? التعليق: هذه القصيدة اليوم، هي قرآن كثير من المتصوفة، ينشدونها في محافلهم وموالدهم وأمكنة بدعهم، ويعتبرون ذلك من أعظم الذكر، وأحيانا يرفقونها باسم الله على حسب تغنيهم. - وله رسالة بعنوان 'الرد الأقوم على ما في فصوص الحكم' تكلم فيها عن ابن عربي وكتبه وأصحابه. وقد لخصه التقي الفاسي في كتابه 'العقد الثمين' ومن تلخيصه أنقل: قال الفاسي: ثم قال ابن تيمية: فإن صاحب هذا الكتاب المذكور الذي هو 'فصوص الحكم' وأمثاله، مثل صاحبه الصدر القونوي التلمساني، وابن سبعين، والششتري، وأتباعهم، مذهبهم الذي هم عليه أن الوجود واحد، ويسمون أهل وحدة الوجود، ويدعون التحقيق والعرفان، وهم يجعلون وجود الخالق عين وجود المخلوقات، فكل ما تتصف به المخلوقات من ¬

(¬1) نقض المنطق (ص.62).

حسن وقبيح، ومدح وذم، إنما المتصف به عندهم عين الخالق. ثم قال ابن تيمية: ويكفيك بكفرهم أن من أخف أقوالهم: إن فرعون مات مؤمنا بريئا من الذنوب، كما قال -يعني ابن عربي-: وكان موسى قرة عين لفرعون بالإيمان الذي أعطاه الله عند الغرق، فقبضه طاهرا مطهرا، ليس فيه شيء من الخبث قبل أن كتب عليه شيء من الآثام، والإسلام يجب ما قبله. وقد علم بالاضطرار من دين أهل الملل: المسلمين واليهود والنصارى أن فرعون من أكفر الخلق. واستدل ابن تيمية على ذلك بما تقوم به الحجة، ثم قال: فإذا جاءوا إلى أعظم عدو لله من الإنس والجن، أو من هو من أعظم أعدائه، فجعلوه مصيبا محقا فيما كفره به الله، علم أن ما قالوه أعظم من كفر اليهود والنصارى، فكيف بسائر مقالاتهم؟ وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن الخالق تعالى بائن من مخلوقاته، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته، والسلف والأئمة كفروا الجهمية لما قالوا إنه حال في كل مكان، فكان مما أنكروه عليهم، أنه كيف يكون في البطون والحشوش والأخلية، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، فكيف من جعله نفس وجود البطون والحشوش والأخلية والنجاسات والأقذار؟ ثم قال ابن تيمية: وأين المشبهة المجسمة من هؤلاء؟ فإن أولئك غاية كفرهم أن جعلوه مثل المخلوقات، لكن يقولون: هو قديم وهي محدثة، وهؤلاء جعلوه عين المحدثات، وجعلوه نفس المصنوعات، ووصفوه بجميع النقائص والآفات التي يوصف بها كل فاجر وكافر وكل شيطان، وكل سبع

وكل حية من الحيات، فتعالى الله عن إفكهم وضلالهم، ثم قال: وهؤلاء يقولون إن النصارى إنما كفروا لتخصيصهم حيث قالوا: إن الله هو المسيح، فكل ما قالته النصارى في المسيح يقولونه في الله سبحانه وتعالى، ومعلوم شتم النصارى لله وكفرهم به، وكفر النصارى جزء من كفر هؤلاء، ولما قرأوا هذا الكتاب المذكور على أفضل متأخريهم، قال له قائل: إن هذا الكتاب يخالف القرآن، فقال: القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا هذا، يعني أن القرآن يفرق بين الرب والعبد، وحقيقة التوحيد عندهم أن الرب هو العبد، فقال له قائل: فأي فرق بين زوجتي وبنتي؟ قال: لا فرق، لكن هؤلاء المحجوبون قالوا: حرام، فقلنا: حرام عليكم، وهؤلاء إذا قيل: مقالتهم إنها كفر، لم يفهم هذا اللفظ حالها، فإن الكفر جنس تحته أنواع متفاوتة، بل كفر كل كافر جزء من كفرهم، ولهذا قيل لرئيسهم: أنت نصيري، قال: نصير جزء مني. ثم قال ابن تيمية: وقد علم المسلمون واليهود والنصارى بالاضطرار من دين المسلمين، أن من قال عن أحد من البشر: إنه جزء من الله، فإنه كافر في جميع الملل، إذ النصارى لم تقل هذا، وإن كان قولهم من أعظم الكفر، لم يقل أحد إن عين المخلوقات هي أجزاء الخالق، ولا إن الخالق هو المخلوق، ولا إن الحق المنزه هو الخلق المشبه، وكذلك قوله: إن المشركين لو تركوا عبادة الأصنام لجهلوا من الخلق المشبه، وكذلك قوله: إن المشركين لو تركوا عبادة الأصنام لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا منها، هو من الكفر المعلوم بالاضطرار بين جميع الملل، فإن أهل الملل متفقون على أن الرسل جميعهم نهوا

عن عبادة الأصنام، وكفروا من يفعل ذلك، وأن المؤمن لا يكون مؤمنا حتى يتبرأ من عبادة الأصنام، وكل معبود سوى الله كما قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (¬1) واستدل على ذلك بآيات أخر. ثم قال: فمن قال: إن عباد الأصنام لو تركوهم لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا منها أكفر من اليهود والنصارى، ومن لم يكفرهم فهو أكفر من اليهود والنصارى، فإن اليهود والنصارى يكفرون عباد الأصنام، فكيف من يجعل تارك عبادة الأصنام جاهلا من الحق بقدر ما ترك منها، مع قوله: فإن العالم يعلم من عبد وفي أي صورة ظهر حين عبد، فإن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، وكالقوة المعنوية في الصورة الروحانية، فما عبد غير الله في كل معبود، بل هو أعظم كفرا من كفر عباد الأصنام، فإن أولئك اتخذوهم شفعاء ووسائط كما قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (¬2) وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ ¬

(¬1) الممتحنة الآية (4). (¬2) الزمر الآية (3).

كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43)} (¬1). وكانوا مقرين بأن الله خالق السموات والأرض وخالق الأصنام كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (¬2). واستدل على ذلك بغير هذه الآية. ثم قال: وهؤلاء أعظم كفرا من جهة أن هؤلاء جعلوا عابد الأصنام عابدا لله لا عابدا لغيره، وأن الأصنام من الله تعالى بمنزلة أعضاء الإنسان من الإنسان، ومنزلة قوى النفس من النفس، وعباد الأصنام اعترفوا بأنها غيره وأنها مخلوقة. ومن جهة أن عباد الأصنام من العرب كانوا مقرين بأن للسماوات والأرض ربا غيرهما هو خالقهما، وهؤلاء ليس عندهم للسماوات والأرض وسائر المخلوقات مغاير للسماوات والأرض وسائر المخلوقات، بل المخلوق هو الخالق. ولهذا جعل أهل قوم عاد وغيرهم من الكفار على صراط مستقيم، وجعلهم في القرب، وجعل أهل النار يتنعمون في النار كما يتنعم أهل الجنة في الجنة، وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن قوم عاد وثمود وفرعون وقومه وسائر من قص الله تعالى قصته من أعداء الله تعالى، وأنهم معذبون في الآخرة، وأن الله لعنهم وغضب عليهم، فمن أثنى عليهم وجعلهم من المقربين ومن أهل النعيم فهو أكفر من اليهود والنصارى. وهذه الفتوى لا تحتمل بسط كلام هؤلاء وبيان كفرهم وإلحادهم، ¬

(¬1) الزمر الآية (43). (¬2) الزمر الآية (38).

فإنهم من جنس القرامطة الباطنية الإسماعيلية الذين كانوا أكفر من اليهود والنصارى، وأن قولهم يتضمن الكفر بجميع الكتب والرسل ... وفي كتبه مثل الفتوحات المكية وأمثالها من الأكاذيب ما لا يخفى على لبيب، ثم قال: لم أصف عشر ما يذكرونه من الكفر، ولكن هؤلاء التبس أمرهم على من لا يعرف حالهم، كما التبس أمر القرامطة الباطنية لما ادعوا أنهم فاطميون، وانتسبوا إلى التشيع، فصار المتشيعون مائلين إليهم غير عالمين بباطن كفرهم، ولهذا كان من مال إليهم أحد رجلين: إما زنديقا منافقا أو جاهلا ضالا، وهكذا هؤلاء الاتحادية، فرؤوسهم هم أئمة كفر يجب قتلهم، ولا تقبل توبة أحد منهم إذا أخذ قبل التوبة، فإنه من أعظم الزنادقة الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، وهم الذين يبهمون قولهم ومخالفتهم لدين الإسلام، ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم أو ذب عنهم، أو أثنى عليهم أو عظم كتبهم، أو عرف بمساعدتهم ومعاونتهم، أو كره الكلام فيهم وأخذ يعتذر عنهم أو لهم بأن هذا الكلام لا يدرى ما هو، ومن قال إنه صنف هذا الكتاب وأمثال هذه المعاذير التي لا يقولها إلا جاهل أو منافق، بل تجب عقوبة كل من عرف حالهم، ولم يعاون على القيام عليهم، فإن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات لأنهم أفسدوا العقول والأديان على خلق من المشائخ والعلماء والملوك والأمراء، وهم يسعون في الأرض فسادا، ويصدون عن سبيل الله، فضررهم في الدين أعظم من ضرر من يفسد على المسلمين دنياهم ويترك دينهم، كقطاع الطرق، وكالتتار الذين يأخذون أموالهم ويبقون على دينهم ولا يستهين بهم من لم يعرفهم، فضلالهم وإضلالهم أطم

وأعظم من أن يوصف. ثم قال: ومن كان محسنا للظن بهم، وادعى أنه لم يعرف حالهم عرف حالهم، فإن لم يباينهم ويظهر لهم الإنكار، وإلا ألحق بهم وجعل منهم، وأما من قال: لكلامهم تأويل يوافق الشريعة، فإنه من رؤوسهم وأئمتهم، فإنه إن كان ذكيا، فإنه يعرف كذب نفسه فيما قال، وإن كان معتقدا لهذا باطنا وظاهرا، فهو أكفر من النصارى. (¬1) ? التعليق: لله درك يا شيخ الإسلام، ما أحسن هذه الأحكام النابعة عن علم واستقراء، لا عن جهل وعاطفة. فإن هؤلاء الذين وصفت حالهم وبينت لنا وللمسلمين وحكامهم كيف ينبغي أن نتعامل معهم. فإن كتبهم ملأت أسواق المسلمين، ومكتباتهم، وصار الرجل يوصي صاحبه باقتناء 'الفتوحات المكية' و'فصوص الحكم' بل كتب ذلك في الجرائد والمجلات. فلا أدري متى ينتبه المسلمون من هذه الغفلة، ومتى يخرجون من هذه الجهالة العمياء، يلقبون هذا الزنديق بالشيخ الأكبر والكبريت الأحمر. وكل ما ورد من ألفاظ كفرية أولوها وزعموا أنهم هم أصحاب الذوق. - وقال في حديثه عن القبوريين: وقد زين الشيطان لكثير من الناس سوء عملهم، واستنزلهم عن إخلاص الدين لله إلى أنواع من الشرك، فيقصدون بالسفر والزيارة والرجاء لغير الله، والرغبة إليه ويشدون الرحال: ¬

(¬1) العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين (2/ 279 - 283).

إما إلى قبر لنبي أو صاحب أو صالح. أو من يظن أنه نبي، أو صاحب أو صالح. داعين له راغبين إليه. إلى أن قال: ومن أكابرهم من يقول: (الكعبة في الصلاة قبلة العامة، والصلاة إلى قبر الشيخ فلان -مع استدبار الكعبة- قبلة الخاصة) وهذا وأمثاله من الكفر الصريح باتفاق علماء المسلمين. (¬1) - وقال: من المعلوم ما قد ابتلي به كثير من هذه الأمة، من بناء المساجد على القبور، واتخاذ القبور مساجد بلا بناء. وكلا الأمرين محرم ملعون فاعله بالمستفيض من السنة. وليس هذا موضع استقصاء ما في ذلك من سائر الأحاديث والآثار (¬2)، إذ الغرض القاعدة الكلية، وإن كان تحريم ذلك ذكره غير واحد من علماء الطوائف: من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، ولهذا كان السلف من الصحابة والتابعين يبالغون في المنع مما يجر إلى مثل هذا. (¬3) - وقال: ولا يكتب أحد ورقة ويعلقها عند القبور، ولا يكتب أحد محضرا أنه استجار بفلان، ويذهب بالمحضر إلى من يعمل بذلك المحضر، ونحو ذلك مما يفعله أهل البدع من أهل الكتاب والمسلمين، كما يفعله النصارى في كنائسهم، وكما يفعله المبتدعون من المسلمين عند قبور الأنبياء والصالحين، أو في مغيبهم، فهذا مما علم بالاضطرار من دين الإسلام، وبالنقل المتواتر، وبإجماع المسلمين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشرع هذا لأمته. ¬

(¬1) الاقتضاء (2/ 841 - 843). (¬2) وقد ذكر رحمه الله بعضها قبل هذا، فلتنظر هنالك. (¬3) الاقتضاء (1/ 295).

وكذلك الأنبياء قبله لم يشرعوا شيئا من ذلك، بل أهل الكتاب ليس عندهم عن الأنبياء نقل بذلك، كما أن المسلمين ليس عندهم عن نبيهم نقل بذلك، ولا فعل هذا أحد من أصحاب نبيهم والتابعين لهم بإحسان، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا ذكر أحد من الأئمة لا في مناسك الحج ولا غيرها: أنه يستحب لأحد أن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عند قبره أن يشفع له، أو يدعو لأمته، أو يشكو إليه ما نزل بأمته من مصائب الدنيا والدين. وكان أصحابه يبتلون بأنواع من البلاء بعد موته، فتارة بالجدب، وتارة بنقص الرزق، وتارة بالخوف وقوة العدو، وتارة بالذنوب والمعاصي، ولم يكن أحد منهم يأتي إلى قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا قبر الخليل، ولا قبر أحد من الأنبياء فيقول: نشكو إليك جدب الزمان أو قوة العدو أو كثرة الذنوب، ولا يقول: سل الله لنا أو لأمتك أن يرزقهم أو ينصرهم أو يغفر لهم؛ بل هذا وما يشبهه من البدع المحدثة التي لم يستحبها أحد من أئمة المسلمين، فليست واجبة ولا مستحبة باتفاق أئمة المسلمين. (¬1) - وقال: وأما الزيارة البدعية: فهي التي يقصد بها أن يطلب من الميت الحوائج، أو يطلب منه الدعاء والشفاعة، أو يقصد الدعاء عند قبره لظن القاصد أن ذلك أجوب للدعاء. فالزيارة على هذه الوجوه كلها مبتدعة، لم يشرعها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا فعلها الصحابة، لا عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عند غيره، وهي من جنس الشرك وأسباب الشرك. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (1/ 161 - 162).

ولو قصد الصلاة عند قبور الأنبياء والصالحين من غير أن يقصد دعاءهم والدعاء عندهم مثل أن يتخذ قبورهم مساجد لكان ذلك محرما منهيا عنه، ولكان صاحبه متعرضا لغضب الله ولعنته كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (¬1) وقال: «قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا» (¬2). وقال: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك» (¬3). فإذا كان هذا محرما، وهو سبب لسخط الرب ولعنته، فكيف بمن يقصد دعاء الميت، والدعاء عنده وبه، واعتقد أن ذلك من أسباب إجابة الدعوات، ونيل الطلبات، وقضاء الحاجات، وهذا كان أول أسباب الشرك في قوم نوح وعبادة الأوثان في الناس، قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، ثم ظهر الشرك بسبب تعظيم قبور صالحيهم. (¬4) ¬

(¬1) أخرجه أحمد (2/ 246) وابن سعد (2/ 241 - 242) وأبو يعلى (12/ 33 - 34/ 6681) والحميدي (2/ 445/1025) وأبو نعيم (7/ 317) كلهم من حديث أبي هريرة مرفوعا، وتمامه: لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. وصحح إسناده الشيخ الألباني في تحذير الساجد (25) وأورد له شاهدين مرسلين: الأول عن زيد بن أسلم، والآخر عن عطاء. قال ابن عبد البر تعليقا على مرسل عطاء في التمهيد (فتح البر: 1/ 281): "فهذا الحديث صحيح عند من قال بمراسيل الثقات". (¬2) أحمد (2/ 284) والبخاري (1/ 700/437) ومسلم (1/ 376/530) وأبو داود (3/ 553/3227) والنسائي (4/ 401/2046) وفي الكبرى (4/ 257/7092) من طرق عن أبي هريرة. (¬3) أخرجه مسلم (1/ 377 - 378/ 532) من حديث جندب بن عبد الله. (¬4) مجموع الفتاوى (1/ 166 - 167).

- وقال: وأما من جزم بأنه لا يدخل النار أحد من أهل القبلة؛ فهذا لا نعرفه قولا لأحد. وبعده قول من يقول: ما ثم عذاب أصلا وإنما هو تخويف لا حقيقة له، وهذا من أقوال الملاحدة والكفار. وربما احتج بعضهم بقوله: {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} (¬1) فيقال لهذا: التخويف إنما يكون تخويفا إذا كان هناك مخوف يمكن وقوعه بالمخوف، فإن لم يكن هناك ما يمكن وقوعه امتنع التخويف، لكن يكون حاصله إيهام الخائفين بما لا حقيقة له، كما توهم الصبي الصغير. ومعلوم أن مثل هذا لا يحصل به تخوف للعقلاء المميزين، لأنهم إذا علموا أنه ليس هناك شيء مخوف زال الخوف، وهذا شبيه بما تقول "الملاحدة" المتفلسفة والقرامطة ونحوهم: من أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم خاطبوا الناس بإظهار أمور من الوعد والوعيد لا حقيقة لها في الباطن، وإنما هي أمثال مضروبة لتفهم حال النفس بعد المفارقة، وما أظهروه لهم من الوعد والوعيد وإن كان لا حقيقة له، فإنما يعلق لمصلحتهم في الدنيا، إذ كان لا يمكن تقويمهم إلا بهذه الطريقة. و"هذا القول" مع أنه معلوم الفساد بالضرورة من دين الرسل؛ فلو كان الأمر كذلك لكان خواص الرسل الأذكياء يعلمون ذلك، وإذا علموه زالت محافظتهم على الأمر والنهي، كما يصيب خواص ملاحدة المتفلسفة والقرامطة من الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم، فإن البارع منهم في العلم والمعرفة يزول عنه عندهم الأمر والنهي، وتباح له المحظورات، وتسقط عنه الواجبات، فتظهر أضغانهم، فتنكشف ¬

(¬1) الزمر الآية (16).

أسرارهم، ويعرف عموم الناس حقيقة دينهم الباطن، حتى سموهم باطنية؛ لإبطانهم خلاف ما يظهرون. فلو كان -والعياذ بالله- دين الرسل كذلك لكان خواصه قد عرفوه، وأظهروا باطنه، وكان عند أهل المعرفة والتحقيق من جنس دين الباطنية، ومن المعلوم بالاضطرار أن الصحابة الذين كانوا أعلم الناس بباطن الرسول وظاهره، وأخبر الناس بمقاصده ومراداته، كانوا أعظم الأمة لزوما لطاعة أمره -سرا وعلانية- ومحافظة على ذلك إلى الموت، وكل من كان منهم إليه وبه أخص وبباطنه أعلم -كأبي بكر وعمر كانوا أعظمهم لزوما للطاعة سرا وعلانية، ومحافظة على أداء الواجب، واجتناب المحرم، باطنا وظاهرا، وقد أشبه هؤلاء في بعض الأمور ملاحدة المتصوفة الذين يجعلون فعل المأمور وترك المحظور واجبا على السالك حتى يصير عارفا محققا في زعمهم؛ وحينئذ يسقط عنه التكليف، ويتأولون على ذلك قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} (¬1) زاعمين أن اليقين هو ما يدعونه من المعرفة، واليقين هنا الموت، وما بعده، كما قال تعالى عن أهل النار: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخائضين (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)} (¬2).اهـ (¬3) - وقال: وقد يقول أحدهم: العارف شهد أولا الطاعة والمعصية، ثم ¬

(¬1) الحجر الآية (99). (¬2) المدثر الآيات (45 - 48). (¬3) مجموع الفتاوى (7/ 501 - 503).

شهد طاعة بلا معصية -يريد بذلك طاعة القدر- كقول بعض شيوخهم: أنا كافر برب يعصى، وقيل له عن بعض الظالمين: هذا ماله حرام، فقال: إن كان عصى الأمر، فقد أطاع الإرادة. ثم ينتقلون "إلى المشهد الثالث" لا طاعة ولا معصية، وهو مشهد أهل الوحدة القائلين بوحدة الوجود، وهذا غاية إلحاد المبتدعة جهمية الصوفية، كما أن القرمطة آخر إلحاد الشيعة، وكلا الإلحادين يتقاربان. وفيها من الكفر ما ليس في دين اليهود والنصارى ومشركي العرب. (¬1) - وقال: و'المتفلسفة' أسوأ حالا من اليهود والنصارى، فإنهم جمعوا بين جهل هؤلاء وضلالهم، وبين فجور هؤلاء وظلمهم، فصار فيهم من الجهل والظلم ما ليس في اليهود ولا النصارى، حيث جعلوا السعادة في مجرد أن يعلموا الحقائق حتى يصير الإنسان عالما معقولا مطابقا للعالم الموجود، ثم لم ينالوا من معرفة الله وأسمائه وصفاته وملائكته وكتبه ورسله وخلقه وأمره إلا شيئا نزرا قليلا، فكان جهلهم أعظم من علمهم، وضلالهم أكبر من هداهم، وكانوا مترددين بين الجهل البسيط والجهل المركب؛ فإن كلامهم في الطبيعيات والرياضيات لا يفيد كمال النفس وصلاحها، وإنما يحصل ذلك بالعلم الإلهي، وكلامهم فيه: لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل. فإن كلامهم في "واجب الوجود" ما بين حق قليل، وباطل فاسد كثير، وكذلك في "العقول" و"النفوس" التي تزعم أتباعهم من أهل الملل، أنها الملائكة التي أخبرت بها الرسل؛ وليس الأمر كذلك، بل ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (7/ 504).

زعمهم أن هؤلاء هم الملائكة من جنس زعمهم أن واجب الوجود هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، مع اعترافهم بأن المطلق بشرط الإطلاق لا يكون إلا في الأذهان، وكذلك كلامهم في العقول والنفوس يعود عند التحقيق إلى أمور مقدرة في الأذهان، لا حقيقة لها في الأعيان، ثم فيه من الشرك بالله وإثبات رب مبدع لجميع العالم سواه -لكنه معلول له- وإثبات رب مبدع لكل ما تحت فلك القمر هو معلول الرب، فوقه ذلك الرب معلول لرب فوقه، ما هو أقبح من كلام النصارى في قولهم: إن المسيح ابن الله، بكثير كثير. (¬1) - وقال: وأما قول الشاعر: إذا بلغ الصب الكمال من الهوى فشاهد حقا حين يشهده الهوى ... وغاب عن المذكور في سطوة الذكر بأن صلاة العارفين من الكفر فهذا الكلام -مع أنه كفر- هو كلام جاهل لا يتصور ما يقول، فإن الفناء والغيب؛ هو أن يغيب بالمذكور عن الذكر، وبالمعروف عن المعرفة، وبالمعبود عن العبادة؛ حتى يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل، وهذا مقام الفناء الذي يعرض لكثير من السالكين، لعجزهم عن كمال الشهود المطابق للحقيقة، بخلاف الفناء الشرعي، فمضمونه الفناء بعبادته عن عبادة ما سواه، وبحبه عن حب ما سواه، وبخشيته عن خشية ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه، فإن هذا تحقيق التوحيد والإيمان. (¬2) ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (7/ 586 - 587). (¬2) مجموع الفتاوى (2/ 343).

- وقال: وأما 'الإيمان بالرسول' فهو المهم، إذ لا يتم الإيمان بالله بدون الإيمان به، ولا تحصل النجاة والسعادة بدونه، إذ هو الطريق إلى الله سبحانه؛ ولهذا كان ركنا الإسلام: 'أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله'. ومعلوم أن الإيمان هو الإقرار، لا مجرد التصديق. والإقرار ضمن قول القلب الذي هو التصديق، وعمل القلب الذي هو الانقياد- تصديق الرسول فيما أخبر، والانقياد له فيما أمر، كما أن الإقرار بالله هو الاعتراف به والعبادة له؛ فالنفاق يقع كثيرا في حق الرسول، وهو أكثر ما ذكره الله في القرآن من نفاق المنافقين في حياته. والكفر: هو عدم الإيمان، سواء كان معه تكذيب أو استكبار، أو إباء أو إعراض؛ فمن لم يحصل في قلبه التصديق والانقياد فهو كافر. ثم هنا "نفاقان": نفاق لأهل العلم والكلام، ونفاق لأهل العمل والعبادة-. فأما النفاق المحض الذي لا ريب في كفر صاحبه: فأن لا يرى وجوب تصديق الرسول فيما أخبر به، ولا وجوب طاعته فيما أمر به، وإن اعتقد مع ذلك أن الرسول عظيم القدر -علما وعملا- وأنه يجوز تصديقه وطاعته؛ لكنه يقول: إنه لا يضر اختلاف الملل إذا كان المعبود واحدا، ويرى أنه تحصل النجاة والسعادة بمتابعة الرسول وبغير متابعته؛ إما بطريق الفلسفة والصبو، أو بطريق التهود والتنصر، كما هو قول الصابئة الفلاسفة في هذه المسألة وفي غيرها؛ فإنهم وإن صدقوه وأطاعوه فإنهم لا يعتقدون وجوب ذلك على جميع أهل الأرض؛ بحيث يكون التارك لتصديقه وطاعته معذبا؛ بل يرون ذلك مثل التمسك بمذهب إمام أو طريقة شيخ أو طاعة ملك؛ وهذا

دين التتار ومن دخل معهم. أما النفاق الذي هو دون هذا، فأن يطلب العلم لله من غير خبره، أو العمل لله من غير أمره، كما يبتلى بالأول كثير من المتكلمة، وبالثاني كثير من المتصوفة، فهم يعتقدون أنه يجب تصديقه أو تجب طاعته، لكنهم في سلوكهم العلمي والعملي غير سالكين هذا المسلك، بل يسلكون مسلكا آخر: إما من جهة القياس والنظر، وإما من جهة الذوق والوجد؛ وإما من جهة التقليد؛ وما جاء عن الرسول إما أن يعرضوا عنه، وإما أن يردوه إلى ما سلكوه؛ فانظر نفاق هذين الصنفين مع اعترافهم باطنا وظاهرا بأن محمدا أكمل الخلق، وأفضل الخلق، وأنه رسول، وأنه أعلم الناس، لكن إذا لم يوجبوا متابعته وسوغوا ترك متابعته كفروا، وهذا كثير جدا لكن بسط الكلام في حكم هؤلاء له موضع غير هذا. (¬1) - وقال: كان المشركون يعبدون أنفسهم وأولادهم لغير الله، فيسمون بعضهم عبد الكعبة، كما كان اسم عبد الرحمن بن عوف، وبعضهم عبد شمس كما كان اسم أبي هريرة، واسم عبد شمس بن عبد مناف، وبعضهم عبد اللات، وبعضهم عبد العزى وبعضهم عبد مناة وغير ذلك مما يضيفون فيه التعبيد إلى غير الله، من شمس أو وثن أو بشر أو غير ذلك مما قد يشرك بالله. ونظير تسمية النصارى عبد المسيح. فغير النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك وعبدهم لله وحده، فسمى جماعات من أصحابه: عبد الله وعبد الرحمن، كما سمى عبد الرحمن بن عوف ونحو هذا، وكما سمى أبا معاوية وكان اسمه عبد العزى ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (7/ 638 - 640).

فسماه عبد الرحمن، وكان اسم مولاه قيوم فسماه عبد القيوم. ونحو هذا من بعض الوجوه ما يقع في الغالية من الرافضة ومشابهيهم الغالين في المشائخ، فيقال هذا غلام الشيخ يونس أو للشيخ يونس أو غلام ابن الرفاعي أو الحريري ونحو ذلك مما يقوم فيه للبشر نوع تأله، كما قد يقوم في نفوس النصارى من المسيح، وفي نفوس المشركين من آلهتهم رجاء وخشية، وقد يتوبون لهم، كما كان المشركون يتوبون لبعض الآلهة، والنصارى للمسيح أو لبعض القديسين. وشريعة الإسلام الذي هو الدين الخالص لله وحده: تعبيد الخلق لربهم كما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتغيير الأسماء الشركية إلى الأسماء الإسلامية، والأسماء الكفرية إلى الأسماء الإيمانية، وعامة ما سمى به النبي - صلى الله عليه وسلم -، عبد الله وعبد الرحمن. كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (¬1) فإن هذين الاسمين هما أصل بقية أسماء الله تعالى. وكان شيخ الإسلام الهروي قد سمى أهل بلده بعامة أسماء الله الحسنى، وكذلك أهل بيتنا؛ غلب على أسمائهم التعبيد لله، كعبد الله؛ وعبد الرحمن، وعبد الغني؛ والسلام؛ والقاهر؛ واللطيف؛ والحكيم؛ والعزيز؛ والرحيم؛ والمحسن؛ والأحد؛ والواحد، والقادر؛ والكريم؛ والملك؛ والحق. وقد ثبت في صحيح مسلم عن نافع عن عبد الله بن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أحب الأسماء ¬

(¬1) الإسراء الآية (110).

إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة» (¬1) وكان من شعار أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه في الحروب: يا بني عبد الرحمن، يا بني عبد الله، يا بني عبيد الله، كما قالوا يوم بدر؛ وحنين؛ والفتح؛ والطائف؛ فكان شعار المهاجرين: يا بني عبد الرحمن، وشعار الخزرج: يا بني عبد الله، وشعار الأوس: يا بني عبيد الله. (¬2) - وقال: فما أعلم أحدا من الخارجين عن الكتاب والسنة من جميع فرسان الكلام والفلسفة، إلا ولا بد أن يتناقض، فيحيل ما أوجب نظيره ويوجب ما أحال نظيره، إذ كلامهم من عند غير الله، وقد قال الله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} (¬3). والصواب ما عليه أئمة الهدى، وهو أن يوصف الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث، ويتبع في ذلك سبيل السلف الماضين أهل العلم والإيمان، والمعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا ترد بالشبهات، فتكون من باب تحريف الكلم عن مواضعه، ولا يعرض عنها فيكون من باب: الذين إذا ذكروا بآيات ربهم يخرون عليها صما وعميانا، ولا يترك تدبر القرآن فيكون من باب: الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني. فهذا أحد الوجهين وهو منع أن تكون هذه من المتشابه. (¬4) ¬

(¬1) أخرجه أحمد (2/ 24) ومسلم (3/ 1682/2132) وأبو داود (5/ 236/4949) والترمذي (5/ 121/2833) وحسنه. وابن ماجه (2/ 1229/3728) من حديث ابن عمر. (¬2) مجموع الفتاوى (1/ 378 - 380). (¬3) النساء الآية (82). (¬4) مجموع الفتاوى (13/ 305).

- وقال رحمه الله في أبي معشر البلخي: وأبو معشر البلخي له 'مصحف القمر' يذكر فيه من الكفريات والسحريات ما يناسب الاستعاذة منه. (¬1) - وقال في قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)} (¬2): بين سبحانه ضلال الذين يدعون المخلوق من الملائكة والأنبياء وغيرهم، فبين أن المخلوقين لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ثم بين أنه لا شركة لهم، ثم بين أنه لا عون له ولا ظهير، لأن أهل الشرك يشبهون الخالق بالمخلوق، كما يقول بعضهم إذا كانت لك حاجة: استوح الشيخ فلانا فإنك تجده، أو توجه إلى ضريحه خطوات وناد: يا شيخ، تقضى حاجتك. وهذا غلط لا يحل فعله، وإن كان من هؤلاء الداعين لغير الله من يرى صورة المدعو أحيانا، فذلك شيطان يمثل له، كما وقع مثل هذا لعدد كثير. ونظير هذا، قول بعض الجهال من أتباع الشيخ عدي وغيره: كل رزق لا يجيء على يد الشيخ لا أريده. والعجب من ذي عقل سليم يستوحي من هو ميت، ويستغيث به، -ولا يستغيث بالحي الذي لا يموت-، فيقول أحدهم: إذا كانت لك حاجة إلى ملك توسلت إليه بأعوانه، فهكذا يتوسل إليه بالشيوخ. وهذا كلام أهل الشرك والضلال، فإن الملك لا يعلم حوائج رعيته، ولا يقدر على قضائها وحده، ولا ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (17/ 507). (¬2) سبأ الآية (22).

يريد ذلك إلا لغرض يحصل له بسبب ذلك، والله أعلم بكل شيء، يعلم السر وأخفى، وهو على كل شيء قدير، فالأسباب منه وإليه. (¬1) - وقال في استعانة الإنس بالشياطين: والإنسان إذا فسدت نفسه أو مزاجه يشتهي ما يضره ويلتذ به، بل يعشق ذلك عشقا يفسد عقله ودينه، وخلقه وبدنه وماله. والشيطان هو نفسه خبيث، فإذا تقرب صاحب العزائم والأقسام، وكتب الروحانيات السحرية، وأمثال ذلك إليهم بما يحبونه من الكفر والشرك صار ذلك كالرشوة والبرطيل لهم، فيقضون بعض أغراضه، كمن يعطي غيره مالا ليقتل من يريد قتله، أو يعينه على فاحشة، أو ينال معه فاحشة. ولهذا كثير من هذه الأمور يكتبون فيها كلام الله -بالنجاسة- وقد يقلبون حروف كلام الله عز وجل، إما حروف الفاتحة، وإما حروف قل هو الله أحد، وإما -غيرهما- إما دم وإما غيره، وإما بغير نجاسة. ويكتبون غير ذلك مما يرضاه الشيطان، أو يتكلمون بذلك. فإذا قالوا أو كتبوا ما ترضاه الشياطين أعانتهم على بعض أغراضهم: إما تغوير ماء من المياه، وإما أن يحمل في الهواء إلى بعض الأمكنة، وإما أن يأتيه بمال من أموال بعض الناس، كما تسرقه الشياطين من أموال الخائنين، ومن لم يذكر اسم الله عليه وتأتي به، وإما غير ذلك. وأعرف في كل نوع من هذه الأنواع من الأمور المعينة، ومن وقعت له ممن أعرفه، ما يطول حكايته، فإنهم كثيرون جدا. (¬2) - وقال: والمقصود أن أهل الضلال والبدع الذين فيهم زهد وعبادة ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (18/ 322 - 323). (¬2) مجموع الفتاوى (19/ 34 - 35).

على غير الوجه الشرعي، ولهم أحيانا مكاشفات، ولهم تأثيرات يأوون كثيرا إلى مواضع الشياطين التي نهي عن الصلاة فيها، لأن الشياطين تتنزل عليهم بها، وتخاطبهم الشياطين ببعض الأمور كما تخاطب الكهان، وكما كانت تدخل في الأصنام وتكلم عابدي الأصنام، وتعينهم في بعض المطالب كما تعين السحرة، وكما تعين عباد الأصنام، وعباد الشمس والقمر والكواكب، إذا عبدوها بالعبادات التي يظنون أنها تناسبها، من تسبيح لها ولباس وبخور وغير ذلك، فإنه قد تنزل عليهم شياطين يسمونها روحانية الكواكب، وقد تقضي بعض حوائجهم، إما قتل بعض أعدائهم أو إمراضه، وإما جلب بعض من يهوونه، وإما إحضار بعض المال، ولكن الضرر الذي يحصل لهم بذلك أعظم من النفع، بل قد يكون أضعاف أضعاف النفع. (¬1) - وقال: وأبو حامد الغزالي لما ذكر في كتابه طرق الناس في التأويل، وأن الفلاسفة زادوا فيه حتى انحلوا، وأن الحق بين جمود الحنابلة وبين انحلال الفلاسفة، وأن ذلك لا يعرف من جهة السمع بل تعرف الحق بنور يقذف في قلبك، ثم ينظر في السمع: فما وافق ذلك قبلته وإلا فلا. وكان مقصوده بالفلاسفة المتأولين خيار الفلاسفة، وهم الذين يعظمون الرسول عن أن يكذب للمصلحة، ولكن هؤلاء وقعوا في نظير ما فروا منه، نسبوه إلى التلبيس والتعمية وإضلال الخلق، بل إلى أن يظهر الباطل ويكتم الحق. وابن سينا وأمثاله لما عرفوا أن كلام الرسول لا يحتمل هذه التأويلات الفلسفية، بل قد عرفوا أنه أراد مفهوم الخطاب: سلك مسلك التخييل، ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (19/ 41 - 42).

وقال: إنه خاطب الجمهور بما يخيل إليهم، مع علمه أن الحق في نفس الأمر ليس كذلك. فهؤلاء يقولون: إن الرسل كذبوا للمصلحة. وهذا طريق ابن رشد الحفيد وأمثاله من الباطنية فالذين عظموا الرسل من هؤلاء عن الكذب نسبوهم إلى التلبيس والإضلال، والذين أقروا بأنهم بينوا الحق قالوا: إنهم كذبوا للمصلحة. وأما أهل العلم والإيمان فمتفقون على أن الرسل لم يقولوا إلا الحق، وأنهم بينوه، مع علمهم بأنهم أعلم الخلق بالحق، فهم الصادقون المصدوقون علموا الحق وبينوه، فمن قال: إنهم كذبوا للمصلحة، فهو من إخوان المكذبين للرسل، لكن هذا لما رأى ما عملوا من الخير والعدل في العالم لم يمكنه أن يقول: كذبوا لطلب العلو والفساد، بل قال: كذبوا لمصلحة الخلق، كما يحكى عن ابن التومرت وأمثاله. ولهذا كان هؤلاء لا يفرقون بين النبي والساحر إلا من جهة حسن القصد، فإن النبي يقصد الخير، والساحر يقصد الشر، وإلا فلكل منهما خوارق هي عندهم قوى نفسانية، وكلاهما عندهم يكذب، لكن الساحر يكذب للعلو والفساد، والنبي عندهم يكذب للمصلحة، إذ لم يمكنه إقامة العدل فيهم إلا بنوع من الكذب. (¬1) - وقال: قد تدبرت عامة ما يذكره المتفلسفة والمتكلمة والدلائل العقلية فوجدت دلائل الكتاب والسنة تأتي بخلاصته الصافية عن الكدر، وتأتي بأشياء لم يهتدوا لها، وتحذف ما وقع منهم من الشبهات والأباطيل مع ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (19/ 157 - 158).

كثرتها واضطرابها. (¬1) - وقال: فالبدع الكثيرة التي حصلت في المتأخرين من العباد والزهاد والفقراء والصوفية، لم يكن عامتها في زمن التابعين وتابعيهم، بخلاف أقوال أهل البدع القولية فإنها ظهرت في عصر الصحابة والتابعين، فعلم أن الشبهة فيها أقوى وأهلها أعقل، وأما بدع هؤلاء فأهلها أجهل وهم أبعد عن متابعة الرسول. ولهذا يوجد في هؤلاء من يدعي الإلهية والحلول والاتحاد، ومن يدعي أنه أفضل من الرسول وأنه مستغن عن الرسول، وأن لهم إلى الله طرقا غير طريق الرسول، وهذا ليس من جنس بدع المسلمين، بل من جنس بدع الملاحدة من المتفلسفة ونحوهم، وأولئك قد عرف الناس أنهم ليسوا مسلمين، وهؤلاء يدعون أنهم أولياء الله مع هذه الأقوال التي لا يقولها إلا من هو أكفر من اليهود والنصارى، وكثير منهم أو أكثرهم لا يعرف أن ذلك مخالفة للرسول، بل عند طائفة منهم أن أهل الصفة قاتلوا الرسول وأقرهم على ذلك، وعند آخرين أن الرسول أمر أن يذهب ليسلم عليهم ويطلب الدعاء منهم، وأنهم لم يأذنوا له وقالوا: اذهب إلى من أرسلت إليهم، وأنه رجع إلى ربه فأمره أن يتواضع ويقول: خويدمكم جاء ليسلم عليكم، فجبروا قلبه وأذنوا له بالدخول. فمع اعتقادهم هذا الكفر العظيم الذي لا يعتقده يهودي ولا نصراني يقر بأنه رسول الله إلى الأميين، يقولون: إن الرسول أقرهم على ذلك واعترف به، واعترف أنهم خواص الله، وأن الله يخاطبهم بدون الرسول، لم يحوجهم إليه كبعض خواص الملك مع وزرائه، ويحتجون بقصة الخضر مع ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (19/ 232 - 233).

موسى، وهي حجة عليهم لا لهم، من وجوه كثيرة قد بسطت في موضع آخر. (¬1) - وقال: والمقصود هنا إنما كان التنبيه على طرق الطوائف في إثبات الصانع، وأن ما يذكره أهل البدع من المتكلمة والمتفلسفة؛ فإما أن يكون طويلا لا يحتاج إليه، أو ناقصا لا يحصل المقصود، وأن الطرق التي جاءت بها الرسل هي أكمل الطرق وأقربها وأنفعها، وأن ما في الفطرة المكملة بالشرعة المنزلة يغني عن هذه الأمور المحدثة، وأن سالكيها يفوتهم من كمال المعرفة بصفات الله تعالى وأفعاله ما ينقصون به عن أهل الإيمان نقصا عظيما إذا عذروا بالجهل، وإلا كانوا من المستحقين للعذاب، إذا خالفوا النص الذي قامت عليهم به الحجة، فهم بين محروم ومأثوم. (¬2) - وقال: ونوح عليه السلام أقام في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى التوحيد، وهو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، كما ثبت ذلك في الصحيح (¬3)، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم الرسل، وكلا المرسلين بعث إلى مشركين يعبدون هذه الأصنام التي صورت على صور الصالحين من البشر، والمقصود بعبادتها عبادة أولئك الصالحين. وكذلك المشركون من أهل الكتاب ومن مبتدعة هذه الأمة وضلالها هذا غاية شركهم، فإن النصارى يصورون في الكنائس صور من يعظمونه ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (19/ 275 - 276). (¬2) درء التعارض (8/ 238). (¬3) أحمد (3/ 116) والبخاري (13/ 519 - 520/ 7440) ومسلم (1/ 180 - 181/ 193) وابن ماجة (2/ 1442 - 1443/ 4312) من حديث أنس رضي الله عنه.

من الإنس غير عيسى وأمه: مثل مارجرجس وغيره من القداديس، ويعبدون تلك الصور، ويسألونها ويدعونها ويقربون لها القرابين، وينذرون لها النذور، ويقولون: هذه تذكرنا بأولئك الصالحين. والشياطين تضلهم كما كانت تضل المشركين: تارة بأن يتمثل الشيطان في صورة ذلك الشخص الذي يدعى ويعبد، فيظن داعيه أنه قد أتى، أو يظن أن الله صور ملكا على صورته، فإن النصراني مثلا يدعو في الأسر وغيره مارجرجس أو غيره فيراه قد أتاه في الهواء، وكذلك آخر غيره، وقد سألوا بعض بطارقتهم عن هذا كيف يوجد في هذه الأماكن، فقال: هذه ملائكة يخلقهم الله على صورته تغيث من يدعوه، وإنما تلك شياطين أضلت المشركين. وهكذا كثير من أهل البدع والضلال والشرك المنتسبين إلى هذه الأمة، فإن أحدهم يدعو ويستغيث بشيخه الذي يعظمه وهو ميت، أو يستغيث به عند قبره ويسأله، وقد ينذر له نذرا ونحو ذلك، ويرى ذلك الشخص قد أتاه في الهواء ودفع عنه بعض ما يكره، أو كلمه ببعض ما سأله عنه، ونحو ذلك فيظنه الشيخ نفسه أتى إن كان حيا، حتى إني أعرف من هؤلاء جماعات يأتون إلى الشيخ نفسه الذي استغاثوا به وقد رأوه أتاهم في الهواء فيذكرون ذلك له. هؤلاء يأتون إلى هذا الشيخ، وهؤلاء يأتون إلى هذا الشيخ، فتارة يكون الشيخ نفسه لم يكن يعلم بتلك القضية، فإن كان يحب الرياسة سكت وأوهم أنه نفسه أتاهم وأغاثهم، وإن كان فيه صدق مع جهل وضلال قال: هذا ملك صوره الله على صورتي. وجعل هذا من كرامات الصالحين، وجعله عمدة لمن يستغيث بالصالحين، ويتخذهم أربابا، وأنهم إذا استغاثوا بهم بعث

الله ملائكة على صورهم تغيث المستغيث بهم. ولهذا أعرف غير واحد من الشيوخ الأكابر الذين فيهم صدق وزهد وعبادة لما ظنوا هذا من كرامات الصالحين صار أحدهم يوصى مريديه يقول: إذا كانت لأحدكم حاجة فليستغث بي، وليستنجدني وليستوصني، ويقول: أنا أفعل بعد موتي ما كنت أفعل في حياتي، وهو لا يعرف أن تلك شياطين تصورت على صورته لتضله، وتضل أتباعه، فتحسن لهم الإشراك بالله، ودعاء غير الله، والاستغاثة بغير الله، وأنها قد تلقي في قلبه أنا نفعل بعد موتك بأصحابك ما كنا نفعل بهم في حياتك، فيظن هذا من خطاب إلهي ألقي في قلبه، فيأمر أصحابه بذلك. وأعرف من هؤلاء من كان له شياطين تخدمه في حياته بأنواع الخدم، مثل خطاب أصحابه المستغيثين به، وإعانتهم، وغير ذلك، فلما مات صاروا يأتون أحدهم في صورة الشيخ، ويشعرونه أنه لم يمت، ويرسلون إلى أصحابه رسائل بخطاب، وقد كان يجتمع بي بعض أتباع هذا الشيخ، وكان فيه زهد وعبادة، وكان يحبني ويحب هذا الشيخ، ويظن أن هذا من الكرامات، وأن الشيخ لم يمت، وذكر لي الكلام الذي أرسله إليه بعد موته فقرأه فإذا هو كلام الشياطين بعينه، وقد ذكر لي غير واحد ممن أعرفهم أنهم استغاثوا بي فرأوني في الهواء وقد أتيتهم وخلصتهم من تلك الشدائد، مثل من أحاط به النصارى الأرمن ليأخذوه، وآخر قد أحاط به العدو ومعه كتب ملطفات من مناصحين لو اطلعوا على ما معه لقتلوه، ونحو ذلك، فذكرت لهم أني ما دريت بما جرى أصلا، وحلفت لهم على ذلك حتى لا يظنوا أني كتمت ذلك كما تكتم الكرامات، وأنا قد علمت أن الذي

فعلوه ليس بمشروع، بل هو شرك وبدعة، ثم تبين لي فيما بعد، وبينت لهم أن هذه شياطين تتصور على صورة المستغاث به. وحكى لي غير واحد من أصحاب الشيوخ أنه جرى لمن استغاث بهم مثل ذلك، وحكى خلق كثير أنهم استغاثوا بأحياء وأموات فرأوا مثل ذلك، واستفاض هذا حتى عرف أن هذا من الشياطين، والشياطين تغوي الإنسان بحسب الإمكان، فإن كان ممن لا يعرف دين الإسلام أوقعته في الشرك الظاهر، والكفر المحض، فأمرته أن لا يذكر الله، وأن يسجد للشيطان، ويذبح له، وأمرته أن يأكل الميتة والدم ويفعل الفواحش، وهذا يجري كثيرا في بلاد الكفر المحض، وبلاد فيها كفر وإسلام ضعيف، ويجري في بعض مدائن الإسلام في المواضع التي يضعف إيمان أصحابه، حتى قد جرى ذلك في مصر والشام على أنواع يطول وصفها، وهو في أرض الشرق قبل ظهور الإسلام في التتار كثير جدا، وكلما ظهر فيهم الإسلام وعرفوا حقيقته، قلت آثار الشياطين فيهم، وإن كان مسلما يختار الفواحش والظلم أعانته على الظلم والفواحش، وهذا كثير جدا أكثر من الذي قبله في البلاد التي في أهلها إسلام وجاهلية، وبر وفجور. وإن كان الشيخ فيه إسلام وديانة ولكن عنده قلة معرفة بحقيقة ما بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وقد عرف من حيث الجملة أن لأولياء الله كرامات، وهو لا يعرف كمال الولاية، وأنها الإيمان والتقوى واتباع الرسل باطنا وظاهرا، أو يعرف ذلك مجملا ولا يعرف من حقائق الإيمان الباطن وشرائع الإسلام الظاهرة ما يفرق به بين الأحوال الرحمانية، وبين النفسانية والشيطانية، كما أن الرؤيا ثلاثة أقسام: رؤيا من الله، ورؤيا

• موقفه من الرافضة:

مما يحدث المرء به نفسه في اليقظة فيراه في المنام، ورؤيا من الشيطان. (¬1) • موقفه من الرافضة: قال الشيخ مرعي: فصل في توجه الشيخ إلى مصر ومحنته بها: - وسبب محنته وابتلائه قيامه في الله، والرد على أهل البدع والعقائد الفاسدة على غزو الكسروانيين الروافض وغيرهم من الدروز والنصيرية. وغزاهم بمن معه من المسلمين. وفتح بلادهم. وكاتب السلطان فيهم بحسم مادة شيوخهم الذين يضلونهم، والأمر بإقامة شعائر الإسلام وقراءة الأحاديث ونشر السنة ببلادهم كما مر ذكره. وكان استئصالهم في المحرم سنة خمس وسبعمائة. (¬2) - جاء في درء التعارض: وأما أئمة العرب وغيرهم من أتباع الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، كفضلاء الصحابة، مثل: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وأبي الدرداء، وعبد الله بن عباس، ومن لا يحصي عدده إلا الله تعالى، فهل سمع في الأولين، والآخرين، بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بقوم كانوا أتم عقولا وأكمل أذهانا وأصح معرفة وأحسن علما من هؤلاء؟ فهم كما قال فيهم عبد الله بن مسعود: من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد، أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (17/ 456 - 459). (¬2) الكواكب الدرية في مناقب ابن تيمية (ص.126).

لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. وما طمع أهل الإلحاد في هؤلاء إلا بجهل أهل البدع، كالرافضة والمتكلمين من المعتزلة ونحوهم. (¬1) - جاء في مجموع الفتاوى: والمقصود بهذا الأصل -أي طاعة الأنبياء والرسل طاعة مطلقة- أن من نصب إماما فأوجب طاعته مطلقا اعتقادا أو حالا فقد ضل في ذلك، كأئمة الضلال الرافضة الإمامية، حيث جعلوا في كل وقت إماما معصوما تجب طاعته، فإنه لا معصوم بعد الرسول، ولا تجب طاعة أحد بعده في كل شيء، والذين عينوهم من أهل البيت، منهم من كان خليفة راشدا تجب طاعته كطاعة الخلفاء قبله، وهو علي. ومنهم أئمة في العلم والدين يجب لهم ما يجب لنظرائهم من أئمة العلم والدين، كعلي بن الحسين، وأبي جعفر الباقر، وجعفر بن محمد الصادق. ومنهم دون ذلك. (¬2) - وجاء في الفتاوى الكبرى: فإن التجهم والرفض هما أعظم البدع أو من أعظم البدع التي أحدثت في الإسلام، ولهذا كان الزنادقة المحضة مثل الملاحدة من القرامطة ونحوهم إنما يتسترون بهذين بالتجهم والتشيع. (¬3) - وجاء في المنهاج: وهذا بين، فإن الملاحدة من الباطنية الإسماعيلية وغيرهم، والغلاة النصيرية وغير النصيرية، إنما يظهرون التشيع، وهم في الباطن أكفر من اليهود والنصارى. فدل ذلك على أن التشيع دهليز الكفر ¬

(¬1) درء تعارض العقل والنقل (5/ 69). (¬2) مجموع الفتاوى (19/ 69). (¬3) الفتاوى الكبرى (5/ 47).

والنفاق. (¬1) - قال شيخ الإسلام في أثناء رده على ابن المطهر الرافضي: الثالث: أن يقال: الذين أدخلوا في دين الله ما ليس منه وحرفوا أحكام الشريعة، ليسوا في طائفة أكثر منهم في الرافضة، فإنهم أدخلوا في دين الله من الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يكذبه غيرهم، وردوا من الصدق ما لم يرده غيرهم، وحرفوا القرآن تحريفا لم يحرفه غيرهم، مثل قولهم: إن قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)} (¬2) نزلت في علي لما تصدق بخاتمه في الصلاة. وقوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} (¬3) علي وفاطمة، {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22)} (¬4): الحسن والحسين، {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)} (¬5): علي بن أبي طالب، {* إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ} (¬6): هم آل أبي طالب واسم أبي طالب عمران، {فَقَاتِلُوا أئمة الْكُفْرِ} (¬7): ¬

(¬1) منهاج السنة (8/ 486). (¬2) المائدة الآية (55). (¬3) الرحمن الآية (19). (¬4) الرحمن الآية (22). (¬5) يس الآية (12). (¬6) آل عمران الآية (33). (¬7) التوبة الآية (12).

طلحة والزبير، {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ} (¬1) هم: بنوا أمية، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (¬2): عائشة و {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (¬3): لئن أشركت بين أبي بكر وعلي في الولاية. وكل هذا وأمثاله وجدته في كتبهم، ثم من هذا دخلت الإسماعيلية والنصيرية في تأويل الواجبات والمحرمات، فهم أئمة التأويل، الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه. ومن تدبر ما عندهم وجد فيه من الكذب في المنقولات، والتكذيب بالحق منها، والتحريف لمعانيها، ما لا يوجد في صنف من المسلمين. فهم قطعا أدخلوا في دين الله ما ليس منه أكثر من كل أحد، وحرفوا كتابه تحريفا لم يصل غيرهم إلى قريب منه. (¬4) وقال في رده على الحِلِّي الرافضي الذي يحتج بمن عرف بالإلحاد والزندقة: - وفيه: فمن يقدح في مثل أبي بكر وعمر وعثمان، وغيرهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ويطعن على مثل مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وأتباعهم، ويعيرهم بغلطات بعضهم في مثل إباحة الشطرنج والغناء، كيف يليق به أن يحتج لمذهبه بقول مثل هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا ¬

(¬1) الإسراء الآية (60). (¬2) البقرة الآية (67). (¬3) الزمر الآية (65). (¬4) منهاج السنة (3/ 403 - 405).

يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ويستحلون المحرمات المجمع على تحريمها، كالفواحش والخمر، في مثل شهر رمضان، الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وخرقوا سياج الشرائع، واستخفوا بحرمات الدين، وسلكوا غير طريق المؤمنين، فهم كما قيل فيهم: الدين يشكو بلية ... لا يشهدون صلاة ... ولا ترى الشرع إلا ... ويؤثرون عليه ... من فرقة فلسفية إلا لأجل التقية سياسة مدنية مناهجا فلسفية ولكن هذا حال الرافضة: دائما يعادون أولياء الله المتقين، من السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، ويوالون الكفار والمنافقين. فإن أعظم الناس نفاقا في المنتسبين إلى الإسلام هم الملاحدة الباطنية الإسماعيلية، فمن احتج بأقوالهم في نصرة قوله، مع ما تقدم من طعنه على أقوال أئمة المسلمين، كان من أعظم الناس موالاة لأهل النفاق، ومعاداة لأهل الإيمان. ومن العجب أن هذا المصنف الرافضي الخبيث الكذاب المفتري، يذكر أبا بكر وعمر وعثمان، وسائر السابقين الأولين والتابعين، وسائر أئمة المسلمين -من أهل العلم والدين- بالعظائم التي يفتريها عليهم هو وإخوانه، ويجيء إلى من قد اشتهر عند المسلمين بمحادته لله ورسوله، فيقول: "قال شيخنا الأعظم"، ويقول: "قدس الله روحه" مع شهادته بالكفر عليه وعلى

أمثاله، ومع لعنة طائفته لخيار المؤمنين من الأولين والآخرين. وهؤلاء داخلون في معنى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)} (¬1). فإن هؤلاء الإمامية أوتوا نصيبا من الكتاب، إذ كانوا مقرين ببعض ما في الكتاب المنزل، وفيهم شعبة من الإيمان بالجبت وهو السحر، والطاغوت وهو [ما] يعبد من دون الله، فإنهم يعظمون الفلسفة المتضمنة لذلك، ويرون الدعاء والعبادة للموتى، واتخاذ المساجد على القبور، ويجعلون السفر إليها حجا له مناسك، ويقولون: "مناسك حج المشاهد". وحدثني الثقات أن فيهم من يرون الحج إليها أعظم من الحج إلى البيت العتيق، فيرون الإشراك بالله أعظم من عبادة الله، وهذا من أعظم الإيمان بالطاغوت. وهم يقولون لمن يقرون بكفره من القائلين بقدم العالم ودعوة الكواكب، والمسوغين للشرك، هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا، فإنهم فضلوا هؤلاء الملاحدة المشركين على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان. وليس هذا ببدع من الرافضة، فقد عرف ¬

(¬1) النساء الآيتان (51و52).

من موالاتهم لليهود والنصارى والمشركين، ومعاونتهم على قتال المسلمين، ما يعرفه الخاص والعام، حتى قيل: إنه ما اقتتل يهودي ومسلم، ولا نصراني ومسلم، ولا مشرك ومسلم، إلا كان الرافضي مع اليهودي والنصراني والمشرك. (¬1) - وفيه: وذلك أن أول هذه الأمة هم الذين قاموا بالدين تصديقا وعلما، وعملا وتبليغا، فالطعن فيهم طعن في الدين، موجب للإعراض عما بعث الله به النبيين. وهذا كان مقصود أول من أظهر بدعة التشيع، فإنما كان قصده الصد عن سبيل الله، وإبطال ما جاءت به الرسل عن الله. ولهذا كانوا يظهرون ذلك بحسب ضعف الملة، فظهر في الملاحدة حقيقة هذه البدع المضلة، لكن راج كثير منها على من ليس من المنافقين الملحدين، لنوع من الشبهة والجهالة المخلوطة بهوى، فقبل معه الضلالة، وهذا أصل كل باطل. (¬2) - وفيه: ثم من المعلوم لكل عاقل أنه ليس في علماء المسلمين المشهورين أحد رافضي، بل كلهم متفقون على تجهيل الرافضة وتضليلهم، وكتبهم كلها شاهدة بذلك، وهذه كتب الطوائف كلها تنطق بذلك، مع أنه لا أحد يلجئهم إلى ذكر الرافضة، وذكر جهلهم وضلالهم. وهم دائما يذكرون من جهل الرافضة وضلالهم ما يعلم معه بالاضطرار أنهم يعتقدون أن الرافضة من أجهل الناس وأضلهم، وأبعد طوائف الأمة عن الهدى. كيف ¬

(¬1) منهاج السنة (3/ 449 - 452). (¬2) منهاج السنة (1/ 18).

ومذهب هؤلاء الإمامية قد جمع عظائم البدع المنكرة، فإنهم جهمية قدرية رافضة. وكلام السلف والعلماء في ذم كل صنف من هذه الأصناف لا يحصيه إلا الله، والكتب مشحونة بذلك، ككتب الحديث والآثار والفقه والتفسير والأصول والفروع وغير ذلك، وهؤلاء الثلاثة شر من غيرهم من أهل البدع كالمرجئة والحرورية. والله يعلم أني مع كثرة بحثي وتطلعي إلى معرفة أقوال الناس ومذاهبهم، ما علمت رجلا له في الأمة لسان صدق يتهم بمذهب الإمامية، فضلا عن أن يقال: إنه يعتقده في الباطن. (¬1) - وفيه: وليس في شيوخ الرافضة إمام في شيء من علوم الإسلام، لا علم الحديث ولا الفقه ولا التفسير ولا القرآن، بل شيوخ الرافضة إما جاهل وإما زنديق، كشيوخ أهل الكتاب. (¬2) - وفيه: ولا يطعن على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما إلا أحد رجلين: إما رجل منافق زنديق ملحد عدو للإسلام، يتوصل بالطعن فيهما إلى الطعن في الرسول ودين الإسلام، وهذا حال المعلم الأول للرافضة، أول من ابتدع الرفض، وحال أئمة الباطنية. وإما جاهل مفرط في الجهل والهوى، وهو الغالب على عامة الشيعة، ¬

(¬1) منهاج السنة (4/ 130 - 131). (¬2) منهاج السنة (7/ 286 - 287).

إذا كانوا مسلمين في الباطن. (¬1) - وفيه: والبدع مشتقة من الكفر، فما من قول مبتدع إلا وفيه شعبة من شعب الكفر. وكما أنه لم يكن في القرون أكمل من قرن الصحابة، فليس في الطوائف بعدهم أكمل من أتباعهم. فكل من كان للحديث والسنة وآثار الصحابة أتبع كان أكمل، وكانت تلك الطائفة أولى بالاجتماع والهدى والاعتصام بحبل الله، وأبعد عن التفرق والاختلاف والفتنة. وكل من بعد عن ذلك كان أبعد عن الرحمة، وأدخل في الفتنة. فليس الضلال والغي في طائفة من طوائف الأمة أكثر منه في الرافضة، كما أن الهدى والرشاد والرحمة ليس في طائفة من طوائف الأمة أكثر منه في أهل الحديث والسنة المحضة، الذين لا ينتصرون إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم خاصته، وهو إمامهم المطلق الذي لا يغضبون لقول غيرهم إلا إذا اتبع قوله، ومقصودهم نصر الله ورسوله. وإذا كان الصحابة، ثم أهل الحديث والسنة المحضة، أولى بالهدى ودين الحق، وأبعد الطوائف عن الضلال والغي، فالرافضة بالعكس. (¬2) - وفيه: [و] الكلام في تفضيل الصحابة يتقى فيه نقص أحد عن رتبته أو الغض من درجته، أو دخول الهوى والفرية في ذلك، كما فعلت الرافضة ¬

(¬1) منهاج السنة (6/ 115). (¬2) منهاج السنة (6/ 368 - 369).

والنواصب الذين يبخسون بعض الصحابة حقوقهم. (¬1) - وفيه: ولولا أن هذا المعتدي الظالم قد اعتدى على خيار أولياء الله، وسادات أهل الأرض، خير خلق الله بعد النبيين اعتداء يقدح في الدين، ويسلط الكفار والمنافقين، ويورث الشبه والضعف عند كثير من المؤمنين لم يكن بنا حاجة إلى كشف أسراره، وهتك أستاره، والله حسيبه وحسيب أمثاله. (¬2) - وجاء في الاقتضاء: والشرك وسائر البدع مبناها على الكذب والافتراء، ولهذا كل من كان عن التوحيد والسنة أبعد، كان إلى الشرك والابتداع والافتراء أقرب، كالرافضة الذين هم أكذب طوائف أهل الأهواء، وأعظمهم شركا، فلا يوجد في أهل الأهواء أكذب منهم، ولا أبعد عن التوحيد منهم، حتى إنهم يخربون مساجد الله التي يذكر فيها اسمه فيعطلونها عن الجماعات والجمعات، ويعمرون المشاهد التي على القبور التي نهى الله ورسوله عن اتخاذها، والله سبحانه في كتابه إنما أمر بعمارة المساجد لا المشاهد، فقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} (¬3) ولم يقل مشاهد الله وقال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (¬4) ولم يقل عند ¬

(¬1) منهاج السنة (7/ 257). (¬2) منهاج السنة (7/ 292). (¬3) البقرة الآية (114). (¬4) الأعراف الآية (29).

كل مشهد. وقال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} إلى قوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)} (¬1) ولم يقل مشاهد الله. بل المشاهد إنما يعمرها من يخشى غير الله ويرجو غير الله، ولا يعمرها إلا من فيه نوع من الشرك، وقال الله تعالى: {وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} (¬2)، وقال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)} (¬3). وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)} (¬4) ولم يقل: وأن المشاهد لله. ¬

(¬1) التوبة الآيتان (17و18). (¬2) الحج الآية (40) .. (¬3) النور الآيات (36 - 38). (¬4) الجن الآية (18).

وكذلك سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثابتة كقوله في الحديث الصحيح: «من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة» (¬1) ولم يقل مشهدا، وقال أيضا في الحديث: «صلاة الرجل في المسجد تفضل عن صلاته في بيته وسوقه بخمس وعشرين صلاة» (¬2) وقال في الحديث الصحيح: «من تطهر في بيته فأحسن الطهور، ثم خرج إلى المسجد لا تنهزه إلا الصلاة، كانت خطواته إحداهما ترفع درجة والأخرى تحط خطيئة. فإذا جلس ينتظر الصلاة فالعبد في صلاة ما دام ينتظر الصلاة، والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه، اللهم اغفر له اللهم ارحمه ما لم يحدث» (¬3). وهذا مما علم بالتواتر والضرورة من دين الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإنه أمر بعمارة المساجد والصلاة فيها، ولم يأمر ببناء مشهد لا على قبر نبي، ولا غير قبر نبي، ولا على مقام نبي. ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم في بلاد الإسلام، لا الحجاز ولا الشام ولا اليمن ولا العراق ولا خراسان ولا مصر ولا المغرب مسجد مبني على قبر، ولا مشهد يقصد للزيارة أصلا، ولم يكن أحد من السلف يأتي إلى قبر نبي أو غير نبي، لأجل الدعاء عنده، ولا كان الصحابة يقصدون الدعاء عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عند قبر غيره من الأنبياء، وإنما كانوا يصلون ويسلمون ¬

(¬1) أحمد (1/ 70) والبخاري (1/ 716/450) ومسلم (1/ 378/533) والترمذي (2/ 134/318) وابن ماجه (1/ 243/736) كلهم من حديث عثمان بن عفان. وفي الباب عن عمرو بن عبسة وجابر وعلي وأبي ذر وعمر رضي الله عنهم. (¬2) أحمد (2/ 252) والبخاري (2/ 166 - 167/ 647) ومسلم (1/ 459/649) وأبو داود (1/ 378 - 379/ 559) والترمذي (1/ 421/216) وابن ماجه (1/ 258/786). (¬3) أحمد (2/ 252) والبخاري (2/ 166 - 167/ 647) ومسلم (1/ 459/649) وأبو داود (1/ 378 - 379/ 559) والترمذي (2/ 499 - 500/ 603) وابن ماجه (1/ 103/281).

على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى صاحبيه، واتفق الأئمة على أنه إذا دعا بمسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يستقبل قبره، وتنازعوا عند السلام عليه، فقال مالك وأحمد وغيرهما: يستقبل قبره ويسلم عليه، وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي، وأظنه منصوصا عنه، وقال أبو حنيفة: بل يستقبل القبلة ويسلم عليه. (¬1) - وقال رحمه الله: ولهذا يوجد ذلك في الرافضة أكثر مما يوجد في غيرهم، لأنهم أجهل من غيرهم، وأكثر شركا وبدعا، ولهذا يعظمون المشاهد أعظم من غيرهم، ويخربون المساجد أكثر من غيرهم، فالمساجد لا يصلون فيها جمعة ولا جماعة، ولا يصلون فيها إن صلوا إلا أفرادا، وأما المشاهد فيعظمونها أكثر من المساجد، حتى قد يرون أن زيارتها أولى من حج بيت الله الحرام، ويسمونها الحج الأكبر، وصنف ابن المفيد منهم كتابا سماه 'مناسك حج المشاهد' وذكر فيه من الأكاذيب والأقوال ما لا يوجد في سائر الطوائف، وإن كان في غيرهم أيضا نوع من الشرك والكذب والبدع، لكن هو فيهم أكثر، وكلما كان الرجل أتبع لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، كان أعظم توحيدا لله وإخلاصا له في الدين، وإذا بعد عن متابعته نقص من دينه بحسب ذلك، فإذا كثر بعده عنه ظهر فيه من الشرك والبدع ما لا يظهر فيمن هو أقرب منه إلى اتباع الرسول. (¬2) ثم ذكر نحوا مما سبق نقله عنه آنفا. - وقال في أصل مذهب الرافضة: فإن الذي ابتدع الرفض كان يهوديا أظهر الإسلام نفاقا، ودس إلى الجهال دسائس يقدح بها في أصل الإيمان. ¬

(¬1) الاقتضاء (2/ 751 - 753). (¬2) مجموع الفتاوى (17/ 497 - 498).

موقفه من الصوفية:

ولهذا كان الرفض أعظم أبواب النفاق والزندقة. فإنه يكون الرجل واقفا، ثم يصير مفضلا، ثم يصير سبابا، ثم يصير غاليا، ثم يصير جاحدا معطلا. ولهذا انضمت إلى الرافضة أئمة الزنادقة، من الإسماعيلية والنصيرية، وأنواعهم من القرامطة والباطنية والدرزية، وأمثالهم من طوائف الزندقة، والنفاق. فإن القدح في خير القرون الذين صحبوا الرسول قدح في الرسول عليه السلام، كما قال مالك وغيره من أئمة العلم: هؤلاء طعنوا في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما طعنوا في أصحابه ليقول القائل: رجل سوء كان له أصحاب سوء، ولو كان رجلا صالحا لكان أصحابه صالحين. (¬1) موقفه من الصوفية: - قال رحمه الله: ومن ادعى أن من الأولياء الذين بلغتهم رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - من له طريق إلى الله لا يحتاج فيه إلى محمد فهذا كافر ملحد؛ وإذا قال: أنا محتاج إلى محمد في علم الظاهر دون علم الباطن، أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة، فهو شر من اليهود والنصارى الذين قالوا: إن محمدا رسول إلى الأميين دون أهل الكتاب. فإن أولئك آمنوا ببعض وكفروا ببعض، فكانوا كفارا بذلك، وكذلك هذا الذي يقول: إن محمدا بعث بعلم الظاهر دون علم الباطن، آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض فهو كافر، وهو أكفر من أولئك، لأن علم الباطن الذي هو علم إيمان القلوب ومعارفها وأحوالها هو علم بحقائق الإيمان الباطنة، وهذا أشرف من العلم بمجرد أعمال الإسلام الظاهرة. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (4/ 428 - 429).

فإذا ادعى المدعي أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - إنما علم هذه الأمور الظاهرة دون حقائق الإيمان، وأنه لا يأخذ هذه الحقائق عن الكتاب والسنة، فقد ادعى أن بعض الذي آمن به مما جاء به الرسول دون البعض الآخر، وهذا شر ممن يقول: أومن ببعض، وأكفر ببعض، ولا يدعى أن هذا البعض الذي آمن به أدنى القسمين. وهؤلاء الملاحدة يدعون أن (الولاية) أفضل من (النبوة) ويلبسون على الناس فيقولون: ولايته أفضل من نبوته وينشدون: مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي ويقولون: نحن شاركناه في ولايته التي هي أعظم من رسالته، وهذا من أعظم ضلالهم، فإن ولاية محمد لم يماثله فيها أحد لا إبراهيم ولا موسى، فضلا عن أن يماثله هؤلاء الملحدون. (¬1) - وقال أيضا: فإن ابن عربي وأمثاله، وإن ادعوا أنهم من الصوفية، فهم من صوفية الملاحدة الفلاسفة، ليسوا من صوفية أهل العلم، فضلا عن أن يكونوا من مشايخ أهل الكتاب والسنة. (¬2) - وقال: والغلو في الأمة وقع في طائفتين: طائفة من ضلال الشيعة الذين يعتقدون في الأنبياء والأئمة من أهل البيت الألوهية، وطائفة من جهال المتصوفة يعتقدون نحو ذلك في الأنبياء والصالحين؛ فمن توهم في نبينا أو غيره من الأنبياء شيئا من الألوهية والربوبية؛ فهو من جنس النصارى وإنما حقوق ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (11/ 225). (¬2) مجموع الفتاوى (11/ 233).

الأنبياء ما جاء به الكتاب والسنة عنهم. (¬1) وقال: فكل من كان من أهل الإلهام والخطاب والمكاشفة، لم يكن أفضل من عمر، فعليه أن يسلك سبيله في الاعتصام بالكتاب والسنة تبعا لما جاء به الرسول، لا يجعل ما جاء به الرسول تبعا لما ورد عليه. وهؤلاء الذين أخطأوا وضلوا وتركوا ذلك واستغنوا بما ورد عليهم، وظنوا أن ذلك يغنيهم عن اتباع العلم المنقول. وصار أحدهم يقول: أخذوا علمهم ميتا عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت، فيقال له: أما ما نقله الثقات عن المعصوم فهو حق، ولولا النقل المعصوم لكنت أنت وأمثالك إما من المشركين، وإما من اليهود والنصارى. وأما ما ورد عليك فمن أين لك أنه وحي من الله؟ ومن أين لك أنه ليس من وحي الشيطان؟ (¬2) - وقال: ومن هؤلاء الحلولية والاتحادية من يخص الحلول والاتحاد ببعض الأشخاص، إما ببعض الأنبياء كالمسيح، أو ببعض الصحابة كقول الغالية في علي، أو ببعض الشيوخ كالحلاجية ونحوهم، أو ببعض الملوك، أو ببعض الصور، كصور المردان. ويقول أحدهم: إنما أنظر إلى صفات خالقي، وأشهدها في هذه الصورة، والكفر في هذا القول أبين من أن يخفى على من يؤمن بالله ورسوله. ولو قال مثل هذا الكلام في نبي كريم لكان كافرا، فكيف إذا قاله في صبي أمرد! فقبح الله طائفة يكون معبودها من جنس موطوئها. (¬3) ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (1/ 66). (¬2) مجموع الفتاوى (13/ 74). (¬3) مجموع الفتاوى (15/ 424).

- وجاء في الكواكب الدرية: ولما كان تاسع جمادى الأولى من سنة خمس، بالغ الشيخ في الرد على الفقراء الأحمدية والرفاعية بسبب خروجهم عن الشريعة بعد أن حضروا لنائب السلطنة، وشكوا من الشيخ، وطلبوا أن يسلم لهم حالهم، وأن لا يعارضهم، ولا ينكر عليهم. وطلبوا حضور الشيخ فلما حضر وقع بينهم كلام كثير فقال الشيخ -في كلام طويل-: إنهم وإن كانوا منتسبين إلى الإسلام وطريقة الفقر، والسلوك، ويوجد في بعضهم من التعبد والتأله والوجد والمحبة والزهد والفقر والتواضع ولين الجانب والملاطفة في المخاطبة والمعاشرة، والكشف والتصرف، فيوجد في بعضهم من الشرك وغيره من أنواع الكفر والبدع في الإسلام، والإعراض عن كثير مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والكذب والتلبيس وإظهار المخارق الكاذبة، مثل ملامسة النار والحيات، وإظهار الدم واللادن والزعفران وماء الورد والعسل وغير ذلك، وإن عامة ذلك عن حيل معروفة وأسباب مصنوعة كطلي أجسامهم لدخول النار بدهن الضفادع، وباطن قشر النرنج، وحجر الطلق، وغير ذلك من الحيل وقال لهم بحضرة نائب السلطنة: أدخل أنا وهم النار، ومن احترق فعليه لعنة الله، ولكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار بالحمام، فلما زيفهم الشيخ وأظهر تلبيسهم. قال: حتى لو دخلتم النار وخرجتم منها سالمين، وطرتم في الهواء ومشيتم على الماء لا عبرة بذلك مع مخالفة الشرع، فإن الدجال الأكبر يقول للسماء أمطري فتمطر، وللأرض أنبتي فتنبت، وللخربة أخرجي كنوزك فتخرج، ومع هذا فهو دجال كذاب ملعون، وليس لأحد

الخروج عن الشريعة ولا عن كتاب الله وسنة رسوله. (¬1) - وفي البداية والنهاية زيادة في القصة: ... فابتدر شيخ المنيبع الشيخ صالح وقال: نحن أحوالنا إنما تنفق عند التتار، ليست تنفق عند الشرع، فضبط الحاضرون عليه تلك الكلمة، وكثر الإنكار عليهم من كل أحد، ثم اتفق الحال على أنهم يخلعون الأطواق الحديد من رقابهم، وأن من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه. وصنف الشيخ جزءا في طريقة الأحمدية، وبين فيه أحوالهم ومسالكهم وتخيلاتهم وما في طريقتهم من مقبول ومردود بالكتاب، وأظهر الله السنة على يديه، وأخمد بدعتهم ولله الحمد والمنة. (¬2) التعليق: فلله در الشيخ ما أكثر علمه بأحوال الدجاجلة الذين يلبسون على الناس بهذه الخزعبلات، التي أكثرها مستند إلى السحر والشيطان، وأحواله الكاذبة. وما أكثرها في زماننا هذا، وأكثر رواجها على علماء المسلمين، وعامتهم يعدونها من الكرامات لأولياء الله، فيجد هؤلاء الشياطين كل التقدير والاحترام والله المستعان. - وفي الكواكب الدرية: وقال الحافظ الذهبي: أقام بمصر يقرئ العلم واجتمع خلق عنده، إلى أن تكلم في الاتحادية القائلين بوحدة الوجود، وهم ابن سبعين وابن عربي والقونوي وأشباههم، فتحزب عليه صوفية وفقراء ¬

(¬1) الكواكب (ص.126 - 127). (¬2) البداية والنهاية (14/ 38).

وسعوا فيه، واجتمع خلائق من أهل الخوانق والربط والزوايا واتفقوا على أن يشتكوا الشيخ للسلطان، فطلع منهم خلق إلى القلعة وخلق تحت القلعة، وكانت لهم ضجة شديدة حتى قال السلطان: ما لهؤلاء؟ فقيل له: جاءوا من أجل الشيخ ابن تيمية يشكون منه، ويقولون: إنه يسب مشايخهم ويضع من قدرهم عند الناس، واستعانوا فيه وجلبوا عليه، ودخلوا على الأمراء في أمره، ولم يبقوا ممكنا. وأمر أن يعقد له مجلس بدار العدل، فعقد له يوم الثلاثاء في عشر شوال الأول سنة سبع وسبعمائة، وظهر في ذلك المجلس من علم الشيخ وشجاعته وقوة قلبه وصدق توكله وبيان حجته ما يتجاوز الوصف، وكان وقتا مشهودا ... وذكر علم الدين البرزالي وغيره، أن في شوال من سنة سبع وسبعمائة، شكا شيخ الصوفية بالقاهرة كريم الدين الآملي وابن عطاء، وجماعة نحو الخمسمائة من الشيخ تقي الدين وكلامه في ابن عربي وغيره، إلى الدولة فخيروه بين الإقامة بدمشق أو الإسكندرية بشروط أو الحبس، فاختار الحبس. فدخل عليه جماعة في السفر إلى دمشق ملتزما ما شرط، فأجابهم. فأركبوه خيل البريد ليلة ثامن عشر شوال، ثم أرسل خلفه من الغد بريد آخر، فرده على مرحلة من مصر، ورأوا مصلحتهم في اعتقاله، وحضر عند قاضي القضاة بحضور جماعة من الفقهاء، فقال بعضهم له: ما ترضى الدولة إلا بالحبس. فقال قاضي القضاة: وفيه مصلحة له، واستناب شمس الدين التونسي المالكي، وأذن أن يحكم عليه بالحبس، فامتنع وقال: ما ثبت عليه شيء، فأذن لنور الدين الزواوي المالكي فتحير، فقال الشيخ: أنا أمضي إلى

الحبس وأتبع ما تقتضيه المصلحة، فقال نور الدين، فيكون في موضع يصلح لمثله، فقيل له: ما ترضى الدولة إلا بمسمى الحبس. فأرسل إلى حبس القضاة بحارة الديلم، وأجلس في الموضع الذي جلس فيه تقي الدين ابن بنت الأعز لما حبس، وأذن في أن يكون عنده من يخدمه، وكان كل ذلك بإشارة الشيخ نصر المنبجي ووجاهته في الدولة. (¬1) التعليق: هكذا يظلم الشيخ بالسجون، مع اعترافهم أن الحق معه، ولكن إرضاء الغوغاء والحمقى يفعل ما يفعل، ولإخلاص الشيخ لعقيدته السلفية جعل الله له الفرج من كل ضيق. وكان السجن أفضل له، حتى تفرغ التفرغ الكامل، واستجمع ذهنه. ففتح الله عليه من جواهر العلم والفهم ما لم يصل له أن لو كان في بيته جالسا: كما صرح بذلك هو نفسه رضي الله عنه. - وقال رحمه الله: وأما الرقص فلم يأمر الله به ولا رسوله، ولا أحد من الأئمة بل قد قال الله في كتابه: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} (¬2) وقال في كتابه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} (¬3) أي: بسكينة، ووقار. وإنما عبادة المسلمين الركوع والسجود، بل الدف والرقص في الطابق ¬

(¬1) الكواكب (ص.133 - 134). (¬2) لقمان الآية (19). (¬3) الفرقان الآية (63).

موقفه من الجهمية:

لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا أحد من سلف الأمة، بل أمروا بالقرآن في الصلاة والسكينة. ولو ورد على الإنسان حال يغلب فيها حتى يخرج إلى حالة خارجة عن المشروع، وكان ذلك الحال بسبب مشروع. كسماع القرآن ونحوه، سلم إليه ذلك الحال كما تقدم، فأما إذا تكلف من الأسباب ما لم يؤمر به، مع علمه بأنه يوقعه فيما لا يصلح له: مثل شرب الخمر، مع علمه أنها تسكره، وإذا قال: ورد علي الحال، وأنا سكران قيل له: إذا كان السبب محظورا، لم يكن السكران معذورا. فهذه الأحوال الفاسدة من كان فيها صادقا فهو مبتدع ضال، من جنس خفراء العدو، وأعوان الظلمة، من ذوي الأحوال الفاسدة الذين ضارعوا عباد النصارى والمشركين والصابئين في بعض ما لهم من الأحوال، ومن كان كاذبا فهو منافق ضال. (¬1) موقفه من الجهمية: إن مواقف الشيخ مع هذه النحلة وفروعها متعددة، وكتبه طافحة بالرد عليهم وتفنيد آرائهم بالحجج البينات من صحيح المنقول وصريح المعقول. نقتطف بعضا منها: - قال: وأما الذي أقوله الآن وأكتبه -وإن كنت لم أكتبه فيما تقدم من أجوبتي، وإنما أقوله في كثير من المجالس-: إن جميع ما في القرآن من آيات الصفات، فليس عن الصحابة اختلاف في تأويلها. وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة، وما رووه من الحديث، ووقفت من ذلك على ما شاء ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (11/ 599 - 600).

الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير، فلم أجد -إلى ساعتي هذه- عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئا من آيات الصفات، أو أحاديث الصفات، بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف، بل عنهم من تقرير ذلك وتثبيته، وبيان أن ذلك من صفات الله ما يخالف كلام المتأولين ما لا يحصيه إلا الله. وكذلك فيما يذكرونه آثرين وذاكرين عنهم شيء كثير. (¬1) - نموذج من مناظراته في العقيدة الواسطية رضي الله عنه: قال: أما بعد: فقد سئلت غير مرة أن أكتب ما حضرني ذكره مما جرى في المجالس الثلاثة المعقودة للمناظرة، في أمر الاعتقاد، بمقتضى ما ورد به كتاب السلطان من الديار المصرية إلى نائبه أمير البلاد لما سعى إليه قوم من الجهمية والاتحادية والرافضة وغيرهم من ذوي الأحقاد. فأمر الأمير بجمع القضاة الأربعة، قضاة المذاهب الأربعة وغيرهم من نوابهم والمفتين والمشائخ، ممن له حرمة وبه اعتداد، وهم لا يدرون ما قصد بجمعهم في هذا الميعاد وذلك يوم الاثنين ثامن رجب المبارك عام خمس وسبعمائة. فقال لي: هذا المجلس عقد لك، فقد ورد مرسوم السلطان بأن أسألك عن اعتقادك، وعما كتبت به إلى الديار المصرية من الكتب التي تدعو بها الناس إلى الاعتقاد. وأظنه قال: وأن أجمع القضاة والفقهاء وتتباحثون في ذلك. فقلت: أما الاعتقاد فلا يؤخذ عني ولا عمن هو أكبر مني، بل يؤخذ عن الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما أجمع عليه سلف الأمة. فما كان في القرآن وجب ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (6/ 394).

اعتقاده، وكذلك ما ثبت في الأحاديث الصحيحة مثل صحيح البخاري ومسلم. وأما الكتب، فما كتبت إلى أحد كتابا ابتداء أدعوه به إلى شيء من ذلك، ولكني كتبت أجوبة أجبت بها من يسألني من أهل الديار المصرية وغيرهم، وكان قد بلغني أنه زور علي كتاب إلى الأمير ركن الدين الجاشنكير: أستاذ دار السلطان، يتضمن ذكر عقيدة محرفة ولم أعلم بحقيقته، لكن علمت أنه مكذوب. وكان يرد علي من مصر وغيرها من يسألني عن مسائل في الاعتقاد وغيره، فأجيبه بالكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة. فقال: نريد أن تكتب لنا عقيدتك. فقلت: اكتبوا. فأمر الشيخ كمال الدين أن يكتب، فكتب له جمل الاعتقاد في أبواب الصفات والقدر ومسائل الإيمان والوعيد والإمامة والتفضيل. وهو أن اعتقاد أهل السنة والجماعة: الإيمان بما وصف الله به نفسه، وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود. والإيمان بأن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه أمر بالطاعة، وأحبها ورضيها، ونهى عن المعصية وكرهها. والعبد فاعل حقيقة، والله خالق فعله، وأن الإيمان والدين قول وعمل، يزيد وينقص، وأن لا نكفر أحدا من أهل القبلة بالذنوب ولا نخلد في النار من أهل الإيمان أحدا، وأن الخلفاء بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر،

ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وأن مرتبتهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، ومن قدم عليا على عثمان: فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار وذكرت هذا أو نحوه، فإني الآن قد بعد عهدي، ولم أحفظ لفظ ما أمليته، لكنه كتب إذ ذاك. ثم قلت للأمير والحاضرين: أنا أعلم أن أقواما يكذبون علي، كما قد كذبوا علي غير مرة. وإن أمليت الاعتقاد من حفظي ربما يقولون: كتم بعضه أو داهن ودارى. فأنا أحضر عقيدة مكتوبة من نحو سبع سنين قبل مجيء التتر إلى الشام. وقلت قبل حضورها كلاما قد بعد عهدي به، وغضبت غضبا شديدا، لكني أذكر أني قلت: أنا أعلم أن أقواما كذبوا علي وقالوا للسلطان أشياء، وتكلمت بكلام احتجت إليه، مثل أن قلت: من قام بالإسلام أوقات الحاجة غيري؟ ومن الذي أوضح دلائله وبينه؟ وجاهد أعداءه وأقامه لما مال؟ حين تخلى عنه كل أحد ولا أحد ينطق بحجته، ولا أحد يجاهد عنه. وقمت مظهرا لحجته، مجاهدا عنه مرغبا فيه؟. فإذا كان هؤلاء يطمعون في الكلام في، فكيف يصنعون بغيري؟ ولو أن يهوديا طلب من السلطان الإنصاف، لوجب عليه أن ينصفه. وأنا قد أعفو عن حقي وقد لا أعفو، بل قد أطلب الإنصاف منه، وأن يحضر هؤلاء الذين يكذبون ليوافقوا على افترائهم. وقلت كلاما أطول من هذا الجنس، لكن بعد عهدي به، فأشار الأمير إلى كاتب الدرج محي الدين بأن يكتب ذلك.

وقلت أيضا: كل من خالفني في شيء مما كتبته، فأنا أعلم بمذهبه منه، وما أدري هل قلت هذا قبل حضورها أو بعده؟ لكنني قلت أيضا بعد حضورها وقراءتها: ما ذكرت فيها فصلا إلا وفيه مخالف من المنتسبين إلى القبلة، وكل جملة فيها خلاف لطائفة من الطوائف. ثم أرسلت من أحضرها ومعها كراريس بخطي من المنزل. فحضرت العقيدة الواسطية. وقلت لهم: هذه كان سبب كتابتها أنه قدم علي من أرض واسط بعض قضاة نواحيها، شيخ يقال له: 'رضى الدين الواسطي' من أصحاب الشافعي، قدم علينا حاجا، وكان من أهل الخير والدين. وشكا ما الناس فيه بتلك البلاد، وفي دولة التتار من غلبة الجهل والظلم، ودروس الدين والعلم. وسألني أن أكتب له عقيدة تكون عمدة له ولأهل بيته. فاستعفيت من ذلك وقلت: قد كتب الناس عقائد متعددة، فخذ بعض عقائد أئمة السنة. فألح في السؤال وقال: ما أحب إلا عقيدة تكتبها أنت، فكتبت له هذه العقيدة وأنا قاعد بعد العصر. وقد انتشرت بها نسخ كثيرة في مصر والعراق وغيرهما. فأشار الأمير بأن لا أقرأها أنا لرفع الريبة، وأعطاها لكاتبه الشيخ كمال الدين، فقرأها على الحاضرين حرفا حرفا، والجماعة الحاضرون يسمعونها، ويورد المورد منهم ما شاء ويعارض فيما شاء، والأمير أيضا يسأل عن مواضع فيها. وقد علم الناس ما كان في نفوس طائفة من الحاضرين من الخلاف والهوى ما قد علم الناس بعضه، وبعضه بسبب الاعتقاد، وبعضه بغير ذلك. ولا يمكن ذكر ما جرى من الكلام والمناظرات في هذه المجالس فإنه

كثير لا ينضبط. فكان مما اعترض علي بعضهم -لما ذكر في أولها، ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، فقال:- ما المراد بالتحريف والتعطيل؟ ومقصوده: أن هذا ينفي التأويل، الذي أثبته أهل التأويل، الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره، إما وجوبا وإما جوازا. فقلت: تحريف الكلم عن مواضعه كما ذمه الله تعالى في كتابه، وهو إزالة اللفظ عما دل عليه من المعنى، مثل تأويل بعض الجهمية لقوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} أي جرحه بأظافير الحكمة تجريحا، ومثل تأويلات القرامطة، والباطنية وغيرهم من الجهمية، والرافضة، والقدرية، وغيرهم. فسكت وفي نفسه ما فيها. (¬1) ثم ذكر بقية المناظرة فلتنظر هناك. التعليق: هذه المناظرة تعتبر وثيقة تاريخية كبرى في تاريخ العقيدة السلفية. ويستفاد منها: * ما كان عليه الشيخ من التعظيم والتقدير في نفوس الجميع: الأمير والمأمور. * اهتمام أولي الأمر في ذلك الوقت بأمور العقيدة، بينما الآن ربما لو تكلم شخص بمثل هذه الأمور، لأصبح مهزلة وسخرية في أعين أولي الأمر إلا من شاء الله. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (3/ 160 - 165).

* تصوير المجتمع الذي كان يغلي بالمبتدعة الذين امتهنوا التزوير على كبار السلفيين في ذلك الوقت. * سبب تأليف العقيدة الواسطية. - وقال: إن السلف كانوا يراعون لفظ القرآن والحديث فيما يثبتونه وينفونه عن الله من صفاته وأفعاله، فلا يأتون بلفظ محدث مبتدع في النفي والإثبات، بل كل معنى صحيح فإنه داخل فيما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم -. والألفاظ المبتدعة ليس لها ضابط، بل كل قوم يريدون بها معنى غير المعنى الذي أراده أولئك، كلفظ الجسم، والجهة، والحيز، والجبر ونحو ذلك؛ بخلاف ألفاظ الرسول فإن مراده بها يعلم كما يعلم مراده بسائر ألفاظه، ولو يعلم الرجل مراده لوجب عليه الإيمان بما قاله مجملا. ولو قدر معنى صحيح -والرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يخبر به- لم يحل لأحد أن يدخله في دين المسلمين، بخلاف ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإن التصديق به واجب. والأقوال المبتدعة تضمنت تكذيب كثير مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وذلك يعرفه من عرف مراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومراد أصحاب تلك الأقوال المبتدعة. ولما انتشر الكلام المحدث، ودخل فيه ما يناقض الكتاب والسنة، وصاروا يعارضون به الكتاب والسنة؛ صار بيان مرادهم بتلك الألفاظ وما احتجوا به لذلك من لغة وعقل يبين للمؤمن ما يمنعه أن يقع في البدعة والضلال، أو يخلص منها -إن كان قد وقع- ويدفع عن نفسه في الباطن والظاهر ما

يعارض إيمانه بالرسول - صلى الله عليه وسلم - من ذلك. (¬1) - وقال في رده على المعتزلة والأشعرية: ومن رزقه الله معرفة ما جاءت به الرسل وبصرا نافذا وعرف حقيقة مأخذ هؤلاء، علم قطعا أنهم يلحدون في أسمائه وآياته، وأنهم كذبوا بالرسل وبالكتاب وبما أرسل به رسله؛ ولهذا كانوا يقولون: إن البدع مشتقة من الكفر وآيلة إليه، ويقولون: إن المعتزلة مخانيث الفلاسفة؛ والأشعرية مخانيث المعتزلة. وكان يحيى بن عمار يقول: المعتزلة الجهمية الذكور، والأشعرية الجهمية الإناث، ومرادهم الأشعرية الذين ينفون الصفات الخبرية، وأما من قال منهم بكتاب 'الإبانة' الذي صنفه الأشعري في آخر عمره ولم يظهر مقالة تناقض ذلك، فهذا يعد من أهل السنة، لكن مجرد الانتساب إلى الأشعري بدعة، لا سيما وأنه بذلك يوهم حسنا بكل من انتسب هذه النسبة وينفتح بذلك أبواب شر، والكلام مع هؤلاء الذين ينفون ظاهرها بهذا التفسير. (¬2) - وقال: ولهذا يوجد كثيرا في كلام السلف والأئمة النهي عن إطلاق موارد النزاع بالنفي والإثبات، وليس ذلك لخلو النقيضين عن الحق، ولا قصور، أو تقصير في بيان الحق، ولكن لأن تلك العبارة من الألفاظ المجملة المتشابهة المشتملة على حق وباطل، ففي إثباتها إثبات حق وباطل، وفي نفيها نفي حق وباطل، فيمنع من كلا الإطلاقين، بخلاف النصوص الإلهية فإنها فرقان فرق الله بها بين الحق والباطل، ولهذا كان سلف الأمة وأئمتها يجعلون ¬

(¬1) الفتاوى (5/ 432 - 433). (¬2) الفتاوى (6/ 359 - 360).

كلام الله ورسوله هو الإمام والفرقان الذي يجب اتباعه، فيثبتون ما أثبته الله ورسوله، وينفون ما نفاه الله ورسوله، ويجعلون العبارات المحدثة المجملة المتشابهة ممنوعا من إطلاقها: نفيا وإثباتا، لا يطلقون اللفظ ولا ينفونه إلا بعد الاستفسار والتفصيل، فإذا تبين المعنى أثبت حقه ونفي باطله، بخلاف كلام الله ورسوله، فإنه حق يجب قبوله، وإن لم يفهم معناه، وكلام غير المعصوم لا يجب قبوله حتى يفهم معناه. وأما المختلفون في الكتاب المخالفون له المتفقون على مفارقته، فتجعل كل طائفة ما أصلته من أصول دينها الذي ابتدعته هو الإمام الذي يجب اتباعه، وتجعل ما خالف ذلك من نصوص الكتاب والسنة من المجملات المتشابهات، التي لا يجوز اتباعها، بل يتعين حملها على ما وافق أصلهم الذي ابتدعوه، أو الإعراض عنها وترك التدبر لها. (¬1) - وقال: وبيان أن كل من أثبت ما أثبته الرسول ونفى ما نفاه كان أولى بالمعقول الصريح، كما كان أولى بالمنقول الصحيح؛ وأن من خالف صحيح المنقول فقد خالف أيضا صريح المعقول، وكان أولى بمن قال الله فيه: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)} (¬2). (¬3) - وقال: قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ ¬

(¬1) درء التعارض (1/ 76 - 77). (¬2) الملك الآية (10). (¬3) درء التعارض (1/ 100).

فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} (¬1). فأنزل الله الكتاب حاكما بين الناس فيما اختلفوا فيه، إذ لا يمكن الحكم بين الناس في موارد النزاع والاختلاف على الإطلاق إلا بكتاب منزل من السماء، ولا ريب أن بعض الناس قد يعلم بعقله ما لا يعلمه غيره، وإن لم يمكنه بيان ذلك لغيره، ولكن ما علم بصريح العقل لا يتصور أن يعارضه الشرع البتة، بل المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط. وقد تأملت ذلك في عامة ما تنازع الناس فيه، فوجدت ما خالف النصوص الصحيحة الصريحة شبهات فاسدة يعلم بالعقل بطلانها، بل يعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للشرع. وهذا تأملته في مسائل الأصول الكبار كمسائل التوحيد والصفات، ومسائل القدر والنبوات والمعاد وغير ذلك، ووجدت ما يعلم بصريح العقل لم يخالفه سمع قط، بل السمع الذي يقال إنه يخالفه: إما حديث موضوع، أو دلالة ضعيفة، فلا يصلح أن يكون دليلا لو تجرد عن معارضة العقل الصريح، فكيف إذا خالفه صريح المعقول؟ (¬2) - وقال: وقولك: إنه يتعالى عن ذلك، فلا ريب أنه يتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. ومنازعك يقول: إنك أنت الظالم المفتري على الله، الذي سلبته صفات الكمال، ووصفته بصفة الجهل، وقلت فيه المحال، وألحدت في أسمائه وآياته إلحاد طائفتك الضلال. وأما أهل الإثبات فوصفوه بصفات الكمال، ووافقوا صريح المنقول عن الأنبياء والمرسلين، وما فطر الله عليه عباده أجمعين، وما دلت عليه صرائح عقول الآدميين، ووصفوا ربهم بأنه ¬

(¬1) البقرة الآية (213). (¬2) درء التعارض (1/ 147).

يسمع كلامهم، ويرى أعيانهم، ويسمع سرهم ونجواهم. وأنت وصفت رب العالمين بنقيض ذلك، ولم تجعل له علما سوى المخلوقات. والمخلوقات ليست علما باتفاق أهل الفطر السليمات، فتعالى الملك الحق عن قولك، وقول أمثالك المفترين الملحدين، أعداء الأنبياء شياطين الإنس، الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا. وأنت فليس لك دليل أصلا ينفي ذلك، فإن قيام ما يتعلق بمشيئته وقدرته بذاته، لا دليل لك على نفيه، إلا ما تنفي به الصفات، كما نفيت العلم. (¬1) - وقال: وهذه الطرق التي يسلكها نفاة الجسم وأمثالهم، أحسن أحوالها أن تكون عوجاء طويلة، قد تهلك، وقد توصل، إذ لو كانت مستقيمة موصلة، لم يعدل عنها السلف، فكيف إذا تيقن أنها مهلكة؟ (¬2) محنة الشيخ بسبب العقيدة الحموية: - جاء في الكواكب الدرية: وقال الشيخ علم الدين: وفي شهر ربيع أول من سنة ثمان وتسعين وستمائة، وقع بدمشق محنة للشيخ الإمام تقي الدين ابن تيمية. وكان الشروع فيها من أول الشهر واستمرت إلى آخر الشهر. وملخصها: أنه كتب جوابا لسؤال سئل عنه من (حماة) في الصفات. فذكر فيه مذهب السلف ورجحه على مذهب المتكلمين. وكان قبل ذلك بقليل أنكر أمر المنجمين. واجتمع به سيف الدين "جاغان" في حال نيابته ¬

(¬1) درء التعارض (10/ 76 - 77). (¬2) درء التعارض (10/ 316).

بدمشق، وقيامه مقام نائب السلطنة. وامتثل أمره. وقبل قوله والتمس منه كثرة الاجتماع به. فحصل بسبب ذلك ضيق لجماعته، مع ما كان عنده قبل ذلك من كراهية الشيخ وما ألمهم بظهوره وذكره الحسن. فانضاف شيء إلى أشياء، ولم يجدوا مساغا إلى الكلام فيه، لزهده وعدم إقباله على الدنيا، وترك المزاحمة على المناصب، وكثرة علمه وجودة أجوبته وفتاويه، وما يظهر فيها من غزارة العلم وجودة الفهم. فعمدوا إلى الكلام في العقيدة لكونهم يرجحون مذهب المتكلمين في الصفات والقرآن على مذهب السلف. ويعتقدونه الصواب. فأخذوا الجواب الذي كتبه، ثم سعوا السعي الشديد إلى القضاة والفقهاء واحدا واحدا. وأغروا خواطرهم وحرفوا الكلام وكذبوا الكذب الفاحش، وجعلوه يقول بالتجسيم وحاشاه من ذلك. ووافقهم على ذلك جلال الدين الحنفي قاضي الحنفية يومئذ. ومشى معهم إلى دار الحديث الأشرفية وطلب حضوره. وأرسل إليه فلم يحضر، وأرسل إليه في الجواب إن العقائد ليس أمرها إليك، وإن السلطان إنما ولاك لتحكم بين الناس، وإن إنكار المنكرات ليس مما يختص به القاضي". فوصلت إليه هذه الرسالة فأوغروا خاطره، وشوشوا قلبه وقالوا: لم يحضر ورد عليك. فأمر بالنداء على بطلان عقيدته في البلدة. فنودي في بعض البلد. ثم بادر سيف الدين "جاغان" وأرسل طائفة فضرب المنادي وجماعة ممن حوله وأخرق بهم. فرجعوا مضروبين في غاية الإهانة. ثم طلب سيف الدين من قام في ذلك وسعى فيه. فدارت الرسل والأعوان عليهم في البلد فاختفوا. (¬1) ¬

(¬1) الكواكب الدرية (113 - 114).

التعليق: وهكذا ينصر الله الحق ويحقه، مهما تضامن أهل البدع وتعاونوا على الإثم والعدوان، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِن اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)}. (¬1) ولشيخ الإسلام مواقف من أهل الكلام كثيرة مشهورة ولآلئ جمة منثورة منها: - قال: فإن التجهم والرفض هما أعظم البدع أو من أعظم البدع التي أحدثت في الإسلام. ولهذا كان الزنادقة المحضة مثل الملاحدة من القرامطة ونحوهم إنما يتسترون بهذين بالتجهم والتشيع. (¬2) - وقال: ولما ظهرت الجهمية -المنكرة لمباينة الله وعلوه على خلقه- افترق الناس في هذا الباب على أربعة أقوال: فالسلف والأئمة يقولون: إن الله فوق سماواته، مستو على عرشه بائن من خلقه، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، وكما علم المباينة والعلو بالمعقول الصريح، الموافق للمنقول الصحيح، وكما فطر الله على ذلك خلقه، من إقرارهم به، وقصدهم إياه سبحانه وتعالى. والقول الثاني قول معطلة الجهمية ونفاتهم، وهم الذين يقولون: لا هو داخل العالم، ولا خارجه، ولا مباين له، ولا محايث له، فينفون الوصفين المتقابلين اللذين لا يخلو موجود عن أحدهما، كما يقول ذلك أكثر المعتزلة، ¬

(¬1) الحج الآية (40). (¬2) الفتاوى الكبرى (5/ 47).

ومن وافقهم من غيرهم. والقول الثالث قول حلولية الجهمية، الذين يقولون: إنه بذاته في كل مكان، كما يقول ذلك النجارية -أتباع حسين النجار- وغيرهم من الجهمية، وهؤلاء القائلون بالحلول والاتحاد: من جنس هؤلاء، فإن الحلول أغلب على عباد الجهمية وصوفيتهم وعامتهم، والنفي والتعطيل أغلب على نظارهم ومتكلميهم، كما قيل: متكلمة الجهمية لا يعبدون شيئا، ومتصوفة الجهمية يعبدون كل شيء. وذلك لأن العبادة تتضمن الطلب والقصد، والإرادة والمحبة، وهذا لا يتعلق بمعدوم، فإن القلب يطلب موجودا، فإذا لم يطلب ما فوق العالم طلب ما هو فيه. وأما الكلام والعلم والنظر فيتعلق بموجود ومعدوم، فإذا كان أهل الكلام والنظر يصفون الرب بصفات السلب والنفي-التي لا يوصف بها إلا المعدوم- لم يكن مجرد العلم والكلام ينافي عدم المعبود المذكور، بخلاف القصد والإرادة والعبادة، فإنه ينافي عدم المعبود. ولهذا تجد الواحد من هؤلاء -عند نظره وبحثه- يميل إلى النفي، وعند عبادته وتصوفه يميل إلى الحلول، وإذا قيل له هذا ينافي ذلك قال: هذا مقتضى عقلي ونظري، وذاك مقتضى ذوقي ومعرفتي، ومعلوم أن الذوق والوجد إن لم يكن موافقا للعقل والنظر، وإلا لزم فسادهما أو فساد أحدهما. والقول الرابع قول من يقول: إن الله بذاته فوق العالم، وهو بذاته في كل مكان، وهذا قول طوائف من أهل الكلام والتصوف كأبي معاذ وأمثاله، وقد ذكر الأشعري في المقالات هذا عن طوائف، ويوجد في كلام السالمية -كأبي طالب المكي وأتباعه: كأبي الحكم بن برجان وأمثاله- ما

يشير إلى نحو من هذا، كما يوجد في كلامهم ما يناقض هذا. وفي الجملة فالقول بالحلول أو ما يناسبه وقع فيه كثير من متأخري الصوفية، ولهذا كان أئمة القوم يحذرون منه كما في قول الجنيد -لما سئل عن التوحيد- فقال: التوحيد إفراد الحدوث عن القدم. فبين أن التوحيد أن يميز بين القديم والمحدث. (¬1) - وقال: (فالجهمية) النفاة الذين يقولون: لا هو داخل العالم ولا خارج العالم، ولا فوق ولا تحت، لا يقولون بعلوه ولا بفوقيته، بل الجميع عندهم متأول أو مفوض، وجميع أهل البدع قد يتمسكون بنصوص، كالخوارج والشيعة والقدرية والمرجئة وغيرهم، إلا الجهمية فإنه ليس معهم عن الأنبياء كلمة واحدة توافق ما يقولونه من النفي. (¬2) - وقال: وفي القرآن من ذكر الاصطفاء والاجتباء والتقريب والمناجاة والمناداة والخلة ونحو ذلك ما هو كثير، وكذلك في السنة. وهذا مما اتفق عليه قدماء أهل السنة والجماعة، وأهل المعرفة والعبادة والعلم والإيمان. وخالف في حقيقته قوم من الملحدة المنافقين المضارعين للصابئين ومن وافقهم، والمضارعين لليهود والنصارى، من الجهمية أو من فيه تجهم، وإن كان الغالب عليه السنة. فتارة ينكرون أن الله يخالل أحدا، أو يحب أحدا، أو يواد أحدا، أو يكلم أحدا، أو يتكلم، ويحرفون الكلم عن مواضعه، فيفسرون ذلك تارة بإحسانه إلى عباده، وتارة بإرادته الإحسان إليهم، وتارة ينكرون أن الله يحب أو يخالل. ويحرفون الكلم عن مواضعه في محبة العبد له، بأنه إرادة ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (2/ 297 - 299). (¬2) مجموع الفتاوى (5/ 122).

طاعته، أو محبته على إحسانه. (¬1) - وقال: فهل يجوز أن يملأ الكتاب والسنة من ذكر اليد، وأن الله تعالى خلق بيده، وأن يداه مبسوطتان، وأن الملك بيده، وفي الحديث ما لا يحصى، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأولي الأمر لا يبينون للناس أن هذا الكلام لا يراد به حقيقته ولا ظاهره، حتى ينشأ "جهم بن صفوان" بعد انقراض عصر الصحابة فيبين للناس ما نزل إليهم على نبيهم، ويتبعه عليه "بشر بن غياث" ومن سلك سبيلهم من كل مغموص عليه بالنفاق. وكيف يجوز أن يعلمنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - كل شيء حتى "الخراءة" ويقول: «ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به، ولا من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به» (¬2) «تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك» (¬3) ثم يترك الكتاب المنزل عليه وسنته الغراء مملوءة مما يزعم الخصم أن ظاهره تشبيه وتجسيم، وأن اعتقاد ظاهره ضلال، وهو لا يبين ذلك ولا يوضحه.؟ وكيف يجوز للسلف أن يقولوا: أمروها كما جاءت مع أن معناها المجازي هو المراد ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (2/ 437 - 438). (¬2) رواه ابن أبي شيبة (13/ 227/16179) وهناد في الزهد (1/ 281/494) والبغوي (14/ 303 - 305/ 4111و4113) والحاكم (2/ 4) وابن أبي الدنيا في القناعة كما في الفتح (1/ 26) من طرق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. ورواه ابن خزيمة في حديث علي بن حجر رقم (386) والبيهقي (7/ 76) والبغوي (14/ 302 - 303/ 4110) من حديث المطلب بن عبد الله رضي الله عنه. ورواه الطبراني في الكبير (2/ 155/1647) من حديث أبي ذر رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني رحمه الله في الصحيحة (رقم:1803). (¬3) أخرجه أحمد (4/ 126) وابن ماجه (1/ 16/43) وأصله عند أبي داود (5/ 13/4607) والترمذي (5/ 43/2676) وقال: "حديث حسن صحيح". وابن حبان (1/ 178/5) والحاكم (1/ 95) وقال: "صحيح ليس له علة" ووافقه الذهبي، من حديث العرباض بن سارية.

وهو شيء لا يفهمه العرب، حتى يكون أبناء الفرس والروم أعلم بلغة العرب من أبناء المهاجرين والأنصار؟ (¬1) - وقال: فلا مجاز في القرآن. بل وتقسيم اللغة إلى حقيقة ومجاز تقسيم مبتدع محدث لم ينطق به السلف. (¬2) - وقال: فالجهمية القائلون بأنه بذاته في كل مكان، أو بأنه لا داخل العالم ولا خارجه، لا يصفونه بالعلو دون السفول، فإنه إذا كان في مكان، فالأمكنة منها عال وسافل. فهو في العالي عال، وفي السافل سافل. بل إذا قالوا إنه في كل مكان فجعلوا الأمكنة كلها محال له ظروفا وأوعية جعلوها في الحقيقة أعلى منه. فإن المحل يحوي الحال، والظرف والوعاء يحوي المظروف الذي فيه، والحاوي فوق المحوي. والسلف والأئمة وسائر علماء السنة إذا قالوا: "إنه فوق العرش، وإنه في السماء فوق كل شيء"، لا يقولون إن هناك شيئا يحويه أو يحصره، أو يكون محلا له أو ظرفا ووعاء سبحانه وتعالى عن ذلك، بل هو فوق كل شيء، وهو مستغن عن كل شيء، وكل شيء مفتقر إليه، هو عال على كل شيء، وهو الحامل للعرش ولحملة العرش بقوته وقدرته، وكل مخلوق مفتقر إليه، وهو غني عن العرش وعن كل مخلوق. (¬3) - وقال: قوله: كان ابن كلاب والحارث المحاسبي وأبو العباس ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (6/ 368 - 369). (¬2) مجموع الفتاوى (7/ 113). (¬3) مجموع الفتاوى (16/ 100).

القلانسي وغيرهم يثبتون مباينة الخالق للمخلوق وعلوه بنفسه فوق المخلوقات، وكان ابن كلاب وأتباعه يقولون: إن العلو على المخلوقات صفة عقلية تعلم بالعقل، وأما استواؤه على العرش فهو من الصفات السمعية الخبرية التي لا تعلم إلا بالخبر، وكذلك الأشعري يثبت الصفات بالشرع تارة وبالعقل أخرى، ولهذا يثبت العلو ونحوه مما تنفيه المعتزلة، ويثبت الاستواء على العرش، ويرد على من تأوله بالاستيلاء ونحوه مما لا يختص بالعرش، بخلاف أتباع صاحب 'الإرشاد' فإنهم سلكوا طريقة المعتزلة، فلم يثبتوا الصفات إلا بالعقل، وكان الأشعري وأئمة أصحابه يقولون: إنهم يحتجون بالعقل لما عرف ثبوته بالسمع، فالشرع هو الذي يعتمد عليه في أصول الدين، والعقل عاضد له معاون. فصار هؤلاء يسلكون ما يسلكه من سلكه من أهل الكلام المعتزلة ونحوهم فيقولون: إن الشرع لا يعتمد عليه فيما وصف الله به وما لا يوصف، وإنما يعتمد في ذلك عندهم على عقلهم، ثم ما لم يثبته إما أن ينفوه وإما أن يقفوا فيه. ومن هنا طمع فيهم المعتزلة، وطمعت الفلاسفة في الطائفتين، بإعراض قلوبهم عما جاء به الرسول، وعن طلب الهدى من جهته، وجعل هؤلاء يعارضون بين العقل والشرع كفعل المعتزلة والفلاسفة، ولم يكن الأشعري وأئمة أصحابه على هذا، بل كانوا موافقين لسائر أهل السنة في وجوب تصديق ما جاء به الشرع مطلقا، والقدح فيما يعارضه، ولم يكونوا يقولون: "إنه لا يرجع إلى السمع في الصفات"، ولا يقولون: "الأدلة السمعية لا تفيد اليقين" بل كل هذا مما أحدثه المتأخرون الذين مالوا إلى الاعتزال والفلسفة من أتباعهم. وذلك لأن الأشعري صرح

بأن تصديق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس موقوفا على دليل الأعراض، وأن الاستدلال به على حدوث العالم من البدع المحرمة في دين الرسل، وكذلك غيره ممن يوافقه على نفي الأفعال القائمة به قد يقول: إن هذا الدليل دليل الأعراض صحيح، لكن الاستدلال به بدعة، ولا حاجة إليه، فهؤلاء لا يقولون: إن دلالة السمع موقوفة عليه، لكن المعتزلة القائلون بأن دلالة السمع موقوفة على صحته صرحوا بأنه لا يستدل بأقوال الرسول على ما يجب ويمتنع من الصفات، بل ولا الأفعال، وصرحوا بأنه لا يجوز الاحتجاج على ذلك بالكتاب والسنة، وإن وافق العقل، فكيف إذا خالفه؟ وهذه الطريقة هي التي سلكها من وافق المعتزلة في ذلك كصاحب 'الإرشاد' وأتباعه، وهؤلاء يردون دلالة الكتاب والسنة، تارة يصرحون بأنا وإن علمنا مراد الرسول فليس قوله مما يجوز أن يحتج به في مسائل الصفات، لأن قوله إنما يدل بعد ثبوت صدقه الموقوف على مسائل الصفات، وتارة يقولون: إنما لم يدل لأنا لا نعلم مراده لتطرق الاحتمالات إلى الأدلة السمعية، وتارة يطعنون في الأخبار. فهذه الطرق الثلاث التي وافقوا فيها الجهمية ونحوهم من المبتدعة: أسقطوا بها حرمة الكتاب والرسول عندهم، وحرمة الصحابة والتابعين لهم بإحسان، حتى يقولوا إنهم لم يحققوا أصول الدين كما حققناها، وربما اعتذروا عنهم بأنهم كانوا مشتغلين بالجهاد، ولهم من جنس هذا الكلام الذي يوافقون به الرافضة ونحوهم من أهل البدع، ويخالفون به الكتاب والسنة والإجماع، مما ليس هذا موضع بسطه، وإنما نبهنا على أصول دينهم وحقائق أقوالهم، وغايتهم أنهم يدعون في أصول الدين المخالفة للكتاب والسنة المعقول والكلام، وكلامهم

فيه من التناقض والفساد ما ضارعوا به أهل الإلحاد، فهم من جنس الرافضة؛ لا عقل صريح ولا نقل صحيح، بل منتهاهم السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات، وهذا منتهى كل مبتدع خالف شيئا من الكتاب والسنة، حتى في المسائل العملية والقضايا الفقهية. (¬1) - وقال: وقوله: وقد رأيت من أتباع الأئمة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم من يقول أقوالا ويكفر من خالفها، وتكون الأقوال المخالفة هي أقوال أئمتهم بعينها، كما أنهم كثيرا ما ينكرون أقوالا ويكفرون من يقولها، وتكون منصوصة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكثرة ما وقع من الاشتباه والاضطراب في هذا الباب، ولأن شبه الجهمية النفاة أثرت في قلوب كثير من الناس، حتى صار الحق الذي جاء به الرسول -وهو المطابق للمعقول- لا يخطر ببالهم ولا يتصورونه، وصار في لوازم ذلك من العلم الدقيق ما لا يفهمه كثير من الناس، والمعنى المفهوم يعبر عنه بعبارات فيها إجمال وإبهام يقع بسببها نزاع وخصام. والله تعالى يغفر لجميع المؤمنين والمؤمنات: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} (¬2).اهـ (¬3) - قال: وقد تدبرت كتب الاختلاف التي يذكر فيها مقالات الناس إما ¬

(¬1) درء التعارض (2/ 12 - 15). (¬2) الحشر الآية (10). (¬3) درء التعارض (2/ 308).

نقلا مجردا، مثل كتاب'المقالات' لأبي الحسن الأشعري، وكتاب 'الملل والنحل' للشهرستاني، ولأبي عيسى الوراق، أو مع انتصار لبعض الأقوال، كسائر ما صنفه أهل الكلام على اختلاف طبقاتهم -فرأيت عامة الاختلاف التي فيها من الاختلاف المذموم، وأما الحق الذي بعث الله به رسوله، وأنزل به كتابه، وكان عليه سلف الأمة- فلا يوجد فيها في جميع مسائل الاختلاف، بل يذكر أحدهم في المسألة عدة أقوال، والقول الذي جاء به الكتاب والسنة لا يذكرونه، وليس ذلك لأنهم يعرفونه ولا يذكرونه، بل لا يعرفونه. ولهذا كان السلف والأئمة يذمون هذا الكلام، ولهذا يوجد الحاذق منهم المنصف الذي غرضه الحق في آخر عمره يصرح بالحيرة والشك، إذ لم يجد في الاختلافات التي نظر فيها وناظر ما هو حق محض. وكثير منهم يترك الجميع ويرجع إلى دين العامة الذي عليه العجائز والأعراب. كما قال أبو المعالي وقت السياق: (لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه. والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي). وكذلك أبو حامد في آخر عمره استقر أمره على الوقف والحيرة، بعد أن نظر فيما كان عنده من طرق النظار: أهل الكلام والفلسفة، وسلك ما تبين له من طرق العبادة والرياضة والزهد، وفي آخر عمره اشتغل بالحديث: بالبخاري ومسلم. وكذلك الشهرستاني، مع أنه كان من أخبر هؤلاء المتكلمين بالمقالات

والاختلاف، وصنف فيها كتابه المعروف بـ'نهاية الإقدام' في علم الكلام وقال: (قد أشار علي من إشارته غنم، وطاعته حتم، أن أذكر له من مشكلات الأصول، ما أشكل على ذوي العقول، ولعله استسمن ذا ورم، ونفخ في غير ضرم، لعمري: لقد طفت في تلك المعاهد كلها فلم أر إلا واضعا كف حائر ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم على ذقن أو قارعا سن نادم فأخبر أنه لم يجد إلا حائرا شاكا مرتابا، أو من اعتقد ثم ندم لما تبين له خطؤه. فالأول في الجهل البسيط: كظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكن يراها، وهذا دخل في الجهل المركب، ثم تبين له أنه جهل فندم، ولهذا تجده في المسائل يذكر أقوال الفرق وحججهم، ولا يكاد يرجح شيئا للحيرة. وكذلك الآمدي الغالب عليه الوقف والحيرة. وأما الرازي فهو في الكتاب الواحد، بل في الموضع الواحد منه؛ ينصر قولا، وفي موضع آخر منه -أو من كتاب آخر-؛ ينصر نقيضه!! ولهذا استقر أمره على الحيرة والشك. ولهذا لما ذكر أن أكمل العلوم العلم بالله وبصفاته وأفعاله؛ ذكر على أن كلا منهما إشكال. وقد ذكرت كلامه، وبينت ما أشكل عليه وعلى هؤلاء في مواضع. فإن الله قد أرسل رسله بالحق، وخلق عباده على الفطرة، فمن كمل فطرته بما أرسل الله به رسله؛ وجد الهدى واليقين الذي لا ريب فيه، ولم يتناقض. لكن هؤلاء أفسدوا فطرتهم العقلية وشرعتهم السمعية، بما حصل لهم من الشبهات والاختلاف، الذي لم يهتدوا معه إلى الحق، كما قد ذكر

تفصيل ذلك في موضع غير هذا. والمقصود هنا أنه لما ذكر ذلك قال: ومن الذي وصل إلى هذا الباب، ومن الذي ذاق هذا الشراب؟ نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا وقال: (لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا. ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (¬1) {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (¬2) واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (¬3) {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} (¬4) ومن جرب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي). وهو صادق فيما أخبر به أنه لم يستفد من بحوثه في الطرق الكلامية والفلسفية سوى أن جمع قيل وقالوا، وأنه لم يجد فيها ما يشفي عليلا، ولا يروي غليلا، فإن من تدبر كتبه كلها لم يجد فيها مسألة واحدة من مسائل أصول الدين موافقة للحق الذي يدل عليه المنقول والمعقول، بل يذكر في ¬

(¬1) فاطر الآية (10). (¬2) طه الآية (5). (¬3) الشورى الآية (11). (¬4) طه الآية (110).

المسألة عدة أقوال، والقول الحق لا يعرفه فلا يذكره. وهكذا غيره من أهل الكلام والفلسفة، ليس هذا من خصائصه، فإن الحق واحد، ولا يخرج عما جاءت به الرسل، وهو الموافق لصريح العقل: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (¬1). وهؤلاء لا يعرفون ذلك، بل هم من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، وهم مختلفون في الكتاب {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)} (¬2).اهـ (¬3) - وقال: وقد تدبرت عامة ما رأيته من كلام السلف -مع كثرة البحث عنه، وكثرة ما رأيته من ذلك- هل كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان أو أحد منهم على ما ذكرته من هذه الأقوال التي وجدتها في كتب أهل الكلام: من الجهمية والقدرية ومن تلقى ذلك عنهم: مثل دعوى الجهمية أن الأمور المتماثلة يأمر الله بأحدها وينهى عن الآخر لا لسبب ولا لحكمة، أو أن الأقوال المتماثلة والأعمال المتماثلة من كل وجه يجعل الله ثواب بعضها أكثر من الآخر بلا سبب ولا حكمة. ونحو ذلك مما يقولونه: كقولهم إن كلام الله كله متماثل، وإن كان الأجر في بعضه أعظم، فما وجدت في كلام السلف ما يوافق ذلك، بل يصرحون بالحكم والأسباب، وبيان ما في المأمور به من الصفات الحسنة المناسبة للأمر به، وما في المنهي ¬

(¬1) الروم الآية (30). (¬2) البقرة الآية (176). (¬3) المنهاج (5/ 268 - 272).

عنه من الصفات السيئة المناسبة للنهي عنه، ومن تفضيل بعض الأقوال والأعمال في نفسها على بعض. ولم أر عن أحد منهم قط أنه خالف النصوص الدالة على ذلك، ولا استشكل ذلك، ولا تأوله على مفهومه، مع أنه يوجد عنهم في كثير من الآيات والأحاديث استشكال واشتباه، وتفسيرها على أقوال مختلفة قد يكون بعضها خطأ. والصواب هو القول الآخر، وما وجدتهم في مثل قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} (¬1) وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأُبَيّ «أي آية في كتاب الله أعظم» (¬2) وقوله في الفاتحة: «لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها» (¬3) ونحو ذلك إلا مقرين لذلك قائلين بموجبه. والنبي - صلى الله عليه وسلم - سأل أبيا: «أي آية في كتاب الله أعظم؟» فأجابه أُبَي بأنها آية الكرسي فضرب بيده في صدره وقال: «ليهنك العلم أبا المنذر» (¬4) ولم يستشكل أُبَي ولا غيره السؤال عن كون بعض القرآن أعظم من بعض، بل شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعلم لمن عرف فضل بعضه على بعض وعرف أفضل الآيات. (¬5) ¬

(¬1) الزمر الآية (23). (¬2) سيأتي تخريجه .. (¬3) أحمد (2/ 412 - 413) وعبد الله بن أحمد في زوائده على المسند (5/ 114 - 115) والترمذي (5/ 277 - 278/ 3125) والنسائي (2/ 477/913) وابن خزيمة (1/ 252/501) وابن حبان (الإحسان) (3/ 53/775) والحاكم (1/ 557) وقال: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي، وأخرجه الترمذي في موضع آخر (5/ 143 - 144/ 2875) مطولا وقال: "حديث حسن صحيح"، من حديث أبي هريرة عن أبي بن كعب رضي الله عنه. (¬4) أحمد (5/ 141 - 142) ومسلم (1/ 556/810) وأبو داود (2/ 151/1460). (¬5) مجموع الفتاوى (17/ 182 - 183).

- وقال: والألفاظ نوعان: نوع يوجد في كلام الله ورسوله، ونوع لا يوجد في كلام الله ورسوله. فيعرف معنى الأول، ويجعل ذلك المعنى هو الأصل، ويعرف ما يعنيه الناس بالثاني، ويرد إلى الأول، هذا طريق أهل الهدى والسنة. وطريق أهل الضلال والبدع بالعكس، يجعلون الألفاظ التي أحدثوها ومعانيها هي الأصل، ويجعلون ما قاله الله ورسوله تبعا لها، فيردونها بالتأويل والتحريف إلى معانيهم، ويقولون: نحن نفسر القرآن بالعقل واللغة، يعنون أنهم يعتقدون معنى بعقلهم ورأيهم، ثم يتأولون القرآن عليه بما يمكنهم من التأويلات والتفسيرات المتضمنة لتحريف الكلم عن مواضعه، ولهذا قال الإمام أحمد: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس. وقال: يجتنب المتكلم في الفقه هذين الأصلين: المجمل والقياس. وهذه الطريق يشترك فيها جميع أهل البدع الكبار والصغار، فهي طريق الجهمية والمعتزلة ومن دخل في التأويل من الفلاسفة والباطنية الملاحدة. (¬1) - وقال: ومن تدبر كلام أئمة السنة المشاهير في هذا الباب علم أنهم كانوا أدق الناس نظرا، وأعلم الناس في هذا الباب بصحيح المنقول وصريح المعقول، وأن أقوالهم هي الموافقة للمنصوص والمعقول، ولهذا تأتلف ولا تختلف، وتتوافق ولا تتناقض، والذين خالفوهم لم يفهموا حقيقة أقوال السلف والأئمة، فلم يعرفوا حقيقة المنصوص والمعقول، فتشعبت بهم الطرق، وصاروا مختلفين في الكتاب، مخالفين للكتاب وقد قال تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (17/ 355 - 356).

اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)} (¬1).اهـ (¬2) - وقال وهو يتحدث عن امتحان ابن تومرت: ... وإنه كان لهم يسمونه يوم الفرقان، فرق فيه بين أهل الجنة وأهل النار بزعمه، فصار كل من علموا أنه من أوليائهم جعلوه من أهل الجنة، وعصموا دمه، ومن علموا أنه من أعدائهم جعلوه من أهل النار، فاستحلوا دمه، واستحل دماء ألوف مؤلفة من أهل المغرب المالكية، الذين كانوا من أهل الكتاب والسنة على مذهب مالك وأهل المدينة، يقرؤون القرآن والحديث كالصحيحين، والموطأ وغير ذلك، والفقه على مذهب أهل المدينة، فزعم أنهم مشبهة مجسمة ولم يكونوا من أهل المقالة، ولا يعرف عن أحد من أصحاب مالك إظهار القول بالتشبيه والتجسيم. واستحل أيضا أموالهم، وغير ذلك من المحرمات بهذا التأويل ونحوه، من جنس ما كانت تستحله الجهمية المعطلة -كالفلاسفة والمعتزلة، وسائر نفاة الصفات- من أهل السنة والجماعة، لما امتحنوا الناس في "خلافة المأمون" وأظهروا القول بأن القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة، ونفوا أن يكون لله علم، أو قدرة أو كلام أو مشيئة أو شيء من الصفات القائمة بذاته. وصار كل من وافقهم على هذا التعطيل عصموا دمه وماله، وولوه الولايات وأعطوه الرزق من بيت المال، وقبلوا شهادته وافتدوه من الأسر، ومن لم يوافقهم على أن القرآن مخلوق وما يتبع ذلك من بدعهم قتلوه، أو حبسوه أو ضربوه أو منعوه العطاء من بيت المال، ولم يولوه ولاية، ¬

(¬1) البقرة الآية (176). (¬2) درء التعارض (2/ 301).

ولم يقبلوا له شهادة، ولم يفدوه من الكفار، يقولون: هذا مشبه، هذا مجسم، لقوله: "إن الله يرى في الآخرة، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله استوى على العرش، ونحو ذلك. فدامت هذه المحنة على المسلمين بضع عشرة سنة، في أواخر خلافة المأمون، وخلافة أخيه المعتصم، والواثق بن المعتصم، ثم إن الله تعالى كشف الغمة عن الأمة، في ولاية المتوكل على الله، الذي جعل الله عامة خلفاء بني العباس من ذريته دون ذرية الذين أقاموا المحنة لأهل السنة. (¬1) بدعة القول بخلق القرآن: - قال رحمه الله: وإنما القول المتواتر عن أئمة السلف أنهم قالوا: القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنهم أنكروا مقالة الجهمية الذين جعلوا القرآن مخلوقا منفصلا عن الله، بل كفروا من قال ذلك، والكتب الموجودة فيها ألفاظهم بأسانيدها وغير أسانيدها كثيرة، مثل: كتاب 'الرد على الجهمية' للإمام أبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم، و'الرد على الجهمية' لعبد الله بن محمد الجعفي شيخ البخاري، و'الرد على الجهمية' للحكم بن معبد الخزاعي، وكتاب 'السنة' لعبد الله بن أحمد بن حنبل، و'السنة' لحنبل ابن عم الإمام أحمد، و'السنة' لأبي داود السجستاني، و'السنة' للأثرم، و'السنة' لأبي بكر الخلال، و'السنة والرد على أهل الأهواء' لخشيش بن أصرم، و'الرد على الجهمية' لعثمان بن سعيد الدارمي، و'نقض عثمان بن سعيد، على الجهمي الكاذب العنيد، فيما افترى على الله في التوحيد'، و'كتاب التوحيد' لابن خزيمة، و'السنة' للطبراني ولأبي الشيخ الأصبهاني، و'شرح أصول السنة' لأبي القاسم ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (11/ 478 - 479).

اللالكائي، و'الإبانة' لأبي عبد الله بن بطة، وكتب أبي عبد الله بن منده، و'السنة' لأبي ذر الهروي، و'الأسماء والصفات' للبيهقي، و'الأصول' لأبي عمر الطلمنكي، و'الفاروق' لأبي إسماعيل الأنصاري، و'الحجة' لأبي القاسم التيمي، إلى غير ذلك من المصنفات التي يطول تعدادها، التي يذكر مصنفوها العلماء الثقات مذاهب السلف بالأسانيد الثابتة عنهم بألفاظهم الكثيرة المتواترة التي تعرف منها أقوالهم، مع أنه من حين محنة الجهمية لأهل السنة -التي جرت في زمن أحمد بن حنبل لما صبر فيها الإمام أحمد، وقام بإظهار السنة، والصبر على محنة الجهمية حتى نصر الله الإسلام والسنة وأطفأ نار تلك الفتنة- ظهر في ديار الإسلام وانتشر بين الخاص والعام أن مذهب أهل السنة والحديث المتبعين للسلف من الصحابة والتابعين: أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الذين أحدثوا في الإسلام القول بأن القرآن مخلوق هم الجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، ومن اتبعه من المعتزلة وغيرهم من أصناف الجهمية، لم يقل هذا القول أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان. فهذا القول هو القول المعروف عن أهل السنة والجماعة، وهو القول بأن القرآن كلام الله وهو غير مخلوق. (¬1) - وقال: وكلام الله ثابت في مصاحف المسلمين لا كلام غيره، فمن قال: إن الذي في المصحف ليس كلام الله، بل كلام غيره فهو ملحد مارق. ومن زعم أن كلام الله فارق ذاته وانتقل إلى غيره كما كتب في المصاحف أو أن المداد قديم أزلي فهو أيضا ملحد مارق، بل كلام المخلوقين يكتب في ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (17/ 74 - 76).

الأوراق وهو لم يفارق ذواتهم، فكيف لا يعقل مثل هذا في كلام الله تعالى؟ (¬1) - وقال: وأما إطلاق القول بأن الله لم يكلم موسى، فهذه مناقضة لنص القرآن، فهو أعظم من القول بأن القرآن مخلوق، وهذا بلا ريب يستتاب فإن تاب وإلا قتل، فإنه أنكر نص القرآن، وبذلك أفتى الأئمة والسلف في مثله، والذي يقول القرآن مخلوق هو في المعنى موافق له، فلذلك كفره السلف. (¬2) - وقال: وهو سبحانه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته. وهو سبحانه غني عن العرش وعن سائر المخلوقات لا يفتقر إلى شيء من مخلوقاته، بل هو الحامل بقدرته العرش وحملة العرش. (¬3) - وقال: لو قال القائل: إذا قلنا: إنه مستو على عرشه حقيقة لزم التجسيم والله منزه عنه، فيقال له: هذا المعنى الذي سميته تجسيما ونفيته هو لازم لك إذا قلت: إن له علما حقيقة وقدرة حقيقة وسمعا حقيقة، وبصرا حقيقة، وكلاما حقيقة وكذلك سائر ما أثبته من الصفات، فإن هذه الصفات هي في حقنا أعراض قائمة بجسم، فإذا كنت تثبتها لله تعالى مع تنزيهك له عن مماثلة المخلوقات، وما يدخل في ذلك من التجسيم: فكذلك القول في الاستواء، ولا فرق. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (12/ 276). (¬2) مجموع الفتاوى (12/ 508). (¬3) مجموع الفتاوى (1/ 367).

فإن قلت: أهل اللغة إنما وضعوا هذه الألفاظ لما يختص به المخلوق فلا يكون حقيقة في غير ذلك. قلت: ولكن هذا خطأ بإجماع الأمم: مسلمهم وكافرهم، وبإجماع أهل اللغات، فضلا عن أهل الشرائع والديانات، وهذا نظير قول من يقول: إن لفظ الوجه إنما يستعمل حقيقة في وجه الإنسان دون وجه الحيوان والملك والجني، أو لفظ العلم إنما استعمل حقيقة في علم الإنسان دون علم الملك والجني، ونحو ذلك، بل قد بينا أن أسماء الصفات عند أهل اللغة بحسب ما تضاف إليه، فالقدر المشترك أن نسبة كل صفة إلى موصوفها كنسبة تلك الصفة إلى موصوفها، فالقدر المشترك هو النسبة، فنسبة علم الملك والجني ووجوههما إليه كنسبة علم الإنسان ووجهه إليه، وهكذا في سائر الصفات. (¬1) - وقال: ولهذا ذكر غير واحد إجماع السلف على أن الله ليس في جوف السماوات. ولكن طائفة من الناس قد يقولون: إنه ينزل ويكون العرش فوقه، ويقولون: إنه في جوف السماء، وإنه قد تحيط به المخلوقات وتكون أكبر منه. وهؤلاء ضلال جهال، مخالفون لصريح المعقول وصحيح المنقول، كما أن النفاة الذين يقولون: ليس داخل العالم ولا خارجه جهال ضلال، مخالفون لصريح المعقول وصحيح المنقول. فالحلولية والمعطلة متقابلان. (¬2) - وسئل شيخ الإسلام عن قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه عز وجل: ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (20/ 218 - 219). (¬2) درء التعارض (7/ 7).

«وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته» (¬1) ما معنى تردد الله؟ فأجاب: هذا حديث شريف، قد رواه البخاري من حديث أبي هريرة، وهو أشرف حديث روي في صفة الأولياء، وقد رد هذا الكلام طائفة، وقالوا: إن الله لا يوصف بالتردد، وإنما يتردد من لا يعلم عواقب الأمور، والله أعلم بالعواقب، وربما قال بعضهم: إن الله يعامل معاملة المتردد. والتحقيق: أن كلام رسوله حق، وليس أحد أعلم بالله من رسوله ولا أنصح للأمة منه، ولا أفصح ولا أحسن بيانا منه، فإذا كان كذلك كان المتحذلق والمنكر عليه من أضل الناس، وأجهلهم وأسوئهم أدبا، بل يجب تأديبه وتعزيره، ويجب أن يصان كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الظنون الباطلة، والاعتقادات الفاسدة، ولكن المتردد منا، وإن كان تردده في الأمر لأجل كونه ما يعلم عاقبة الأمور، لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنزلة ما يوصف به الواحد منا، فإن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، ثم هذا باطل، فإن الواحد منا يتردد تارة لعدم العلم بالعواقب، وتارة لما في الفعلين من المصالح والمفاسد، فيريد الفعل لما فيه من المصلحة، ويكرهه لما فيه من المفسدة لا لجهله منه بالشيء الواحد الذي يحب من وجه ويكره من وجه، كما قيل: الشيب كره وكره أن أفارقه ... فاعجب لشيء على البغضاء محبوب ¬

(¬1) البخاري (11/ 414/6502).

وهذا مثل إرادة المريض لدوائه الكريه، بل جميع ما يريده العبد من الأعمال الصالحة التي تكرهها النفس هو من هذا الباب، وفي الصحيح «حفت النار بالشهوات، وحفت الجنة بالمكاره» (¬1) وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} (¬2) الآية. ومن هذا الباب يظهر معنى التردد المذكور في هذا الحديث، فإنه قال: لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه. فإن العبد الذي هذا حاله صار محبوبا للحق محبا له، يتقرب إليه أولا بالفرائض وهو يحبها، ثم اجتهد في النوافل التي يحبها ويحب فاعلها، فأتى بكل ما يقدر عليه من محبوب الحق، فأحبه الحق لفعل محبوبه من الجانبين بقصد اتفاق الإرادة بحيث يحب ما يحبه محبوبه ويكره ما يكرهه محبوبه، والرب يكره أن يسوء عبده ومحبوبه، فلزم من هذا أن يكره الموت ليزداد من محاب محبوبه. والله سبحانه وتعالى قد قضى بالموت، فكل ما قضى به فهو يريده ولا بد منه، فالرب مريد لموته لما سبق به قضاؤه، وهو مع ذلك كاره لمساءة عبده، وهي المساءة التي تحصل له بالموت، فصار الموت مرادا للحق من وجه مكروها من وجه، وهذا حقيقة التردد وهو: أن يكون الشيء الواحد مرادا من وجه مكروها من وجه، وإن كان لا بد من ترجح أحد الجانبين، كما ترجح إرادة الموت، لكن مع وجود كراهة مساءة عبده، وليس إرادته لموت المؤمن الذي يحبه ويكره مساءته كإرادته لموت الكافر الذي يبغضه ¬

(¬1) أحمد (2/ 260) والبخاري (11/ 388/6487) ومسلم (4/ 2174/2823) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) البقرة الآية (216).

ويريد مساءته. (¬1) قوله في الشفاعة: - قال: فالشفاعة نوعان: أحدهما: الشفاعة التي نفاها الله تعالى كالتي أثبتها المشركون، ومن ضاهاهم من جهال هذه الأمة وضلالهم، وهي شرك. والثاني: أن يشفع الشفيع بإذن الله. وهذه التي أثبتها الله تعالى لعباده الصالحين، ولهذا كان سيد الشفعاء إذا طلب منه الخلق الشفاعة يوم القيامة يأتي ويسجد. قال: «فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن، فيقال: أي محمد ارفع رأسك وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع» (¬2) فإذا أذن له في الشفاعة شفع - صلى الله عليه وسلم - لمن أراد الله أن يشفع فيه. (¬3) - وقال: وله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث شفاعات: أما الشفاعة الأولى: فيشفع في أهل الموقف، حتى يقضي بينهم بعد أن تتراجع الأنبياء: آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى بن مريم الشفاعة، حتى تنتهي إليه. وأما الشفاعة الثانية: فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، وهاتان الشفاعتان خاصتان له. وأما الشفاعة الثالثة: فيشفع فيمن يستحق النار، وهذه الشفاعة له ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (18/ 129 - 131). (¬2) تقدم ضمن مواقفه رحمه الله من الصوفية. (¬3) مجموع الفتاوى (1/ 332).

موقفه من الخوارج:

ولسائر النبيين، والصديقين وغيرهم، فيشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها، ويخرج الله تعالى من النار أقواما بغير شفاعة، بل بفضله ورحمته، ويبقى في الجنة فضل عمن دخلها من أهل الدنيا، فينشئ الله لها أقواما فيدخلهم الجنة. (¬1) موقفه من الخوارج: - قال شيخ الإسلام رحمه الله: فإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مستلزما من الفساد أكثر مما فيه من الصلاح لم يكن مشروعا، وقد كره أئمة السنة القتال في الفتنة التي يسميها كثير من أهل الأهواء: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن ذلك إذا كان يوجب فتنة هي أعظم فسادا مما في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لم يدفع أدنى الفسادين بأعلاهما، بل يدفع أعلاهما باحتمال أدناهما، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين» (¬2).اهـ (¬3) - وقال: وأهل السنة والعلم والإيمان يعلمون الحق ويرحمون الخلق؛ يتبعون الرسول فلا يبتدعون. ومن اجتهد فأخطأ خطأ يعذره فيه الرسول عذروه. وأهل البدع -مثل الخوارج- يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (3/ 147 - 148). (¬2) أحمد (6/ 444 - 445) وأبو داود (5/ 218/4919) والترمذي (4/ 572 - 573/ 2509) وقال: "هذا حديث صحيح". البخاري في الأدب المفرد (391). (¬3) الاستقامة (1/ 330).

ويستحلون دمه. وهؤلاء كل منهم يرد بدعة الآخرين، ولكن هو أيضا مبتدع، فيرد بدعة ببدعة، وباطلا بباطل. (¬1) - وقال: أول البدع ظهورا في الإسلام وأظهرها ذما في السنة والآثار: بدعة الحرورية المارقة، فإن أولهم قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - في وجهه: اعدل يا محمد، فإنك لم تعدل (¬2)، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتلهم وقتالهم (¬3)، وقاتلهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب. والأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مستفيضة بوصفهم وذمهم والأمر بقتالهم، قال أحمد بن حنبل: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة». (¬4) ولهم خاصتان مشهورتان فارقوا بهما جماعة المسلمين وأئمتهم: أحدهما: خروجهم عن السنة، وجعلهم ما ليس بسيئة سيئة، أو ما ليس بحسنة حسنة، وهذا هو الذي أظهروه في وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال له ذو الخويصرة التميمي: «اعدل فإنك لم تعدل»، حتى قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ويلك. ومن يعدل إذا لم أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أعدل». فقوله: فإنك لم تعدل جعل منه لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - سفها وترك عدل، وقوله: "اعدل" أمر له بما ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (16/ 96). (¬2) تقدم تخريجه في مواقف الآجري سنة (360هـ). (¬3) أحمد (3/ 68 و73) والبخاري (8/ 84/4351) ومسلم (2/ 741 - 742/ 1064) وأبو داود (5/ 121 - 122/ 4764) والنسائي (5/ 92 - 93/ 2577) من حديث أبي سعيد الخدري. (¬4) تقدم تخريجه قريبا.

اعتقده هو حسنة من القسمة التي لا تصلح، وهذا الوصف تشترك فيه البدع المخالفة للسنة، فقائلها لا بد أن يثبت ما نفته السنة، وينفي ما أثبتته السنة، ويحسن ما قبحته السنة، أو يقبح ما حسنت السنة، وإلا لم يكن بدعة، وهذا القدر قد يقع من بعض أهل العلم خطأ في بعض المسائل؛ لكن أهل البدع يخالفون السنة الظاهرة المعلومة. والخوارج جوزوا على الرسول نفسه أن يجور ويضل في سنته، ولم يوجبوا طاعته ومتابعته، وإنما صدقوه فيما بلغه من القرآن دون ما شرعه من السنة التي تخالف -بزعمهم- ظاهر القرآن. وغالب أهل البدع غير الخوارج يتابعونهم في الحقيقة على هذا؛ فإنهم يرون أن الرسول لو قال بخلاف مقالتهم لما اتبعوه، كما يحكى عن عمرو بن عبيد في حديث الصادق المصدوق. وإنما يدفعون عن نفوسهم الحجة: إما برد النقل، وإما بتأويل المنقول، فيطعنون تارة في الإسناد وتارة في المتن، وإلا فهم ليسوا متبعين ولا مؤتمين بحقيقة السنة التي جاء بها الرسول، بل ولا بحقيقة القرآن. الفرق الثاني في الخوارج وأهل البدع: أنهم يكفرون بالذنوب والسيئات. ويترتب على تكفيرهم بالذنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم، وأن دار الإسلام حرب ودارهم هي دار الإيمان. وكذلك يقول جمهور الرافضة؛ وجمهور المعتزلة؛ والجهمية؛ وطائفة من غلاة المنتسبة إلى أهل الحديث والفقه ومتكلميهم. فهذا أصل البدع التي ثبت بنص سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع السلف أنها بدعة، وهو جعل العفو سيئة وجعل السيئة كفرا. (¬1) ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (19/ 71 - 73).

- وقال: فالطاعن في شيء من حكمه أو قسمه -كالخوارج- طاعن في كتاب الله مخالف لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مفارق لجماعة المسلمين، وكان شيطان الخوارج مقموعا لما كان المسلمون مجتمعين في عهد الخلفاء الثلاثة: أبي بكر وعمر وعثمان، فلما افترقت الأمة في خلافة علي رضي الله عنه، وجد شيطان الخوارج موضع الخروج، فخرجوا وكفروا عليا ومعاوية ومن والاهما، فقاتلهم أولى الطائفتين بالحق علي بن أبي طالب، كما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «تمرق مارقة على حين فرقة من الناس، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق» (¬1).اهـ (¬2) - قال: والخوارج إنما تأولوا آيات من القرآن على ما اعتقدوه، وجعلوا من خالف ذلك كافرا؛ لاعتقادهم أنه خالف القرآن، فمن ابتدع أقوالا ليس لها أصل في القرآن، وجعل من خالفها كافرا، كان قوله شرا من قول الخوارج. (¬3) - وقال: ومن أصول أهل السنة: أن الدين والإيمان قول وعمل: قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، كما يفعله الخوارج. (¬4) - وقال: والخوارج المارقون الذين أمر النبي بقتالهم، قاتلهم أمير المؤمنين ¬

(¬1) أحمد (3/ 32،97) ومسلم (2/ 745/1065 (150)) وأبو داود (5/ 50/4667). (¬2) مجموع الفتاوى (19/ 88 - 89). (¬3) مجموع الفتاوى (20/ 164). (¬4) مجموع الفتاوى (3/ 151).

علي بن أبي طالب، أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم لا لأنهم كفار، ولهذا لم يسب حريمهم ولم يغنم أموالهم. وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله ورسوله بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟ فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن تكفر الأخرى، ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضا؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعا جهال بحقائق ما يختلفون فيه. والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض، لا تحل إلا بإذن الله ورسوله. (¬1) - وقال: فإن علي بن أبى طالب هو الذي قاتل المارقين وهم الخوارج الحرورية الذين كانوا من شيعة علي، ثم خرجوا عليه وكفروه وكفروا من والاه ونصبوا له العداوة، وقاتلوه ومن معه وهم الذين أخبر عنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث الصحيحة المستفيضة، بل المتواترة حيث قال فيهم «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (3/ 282).

لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا عند الله يوم القيامة، آيتهم أن فيهم رجلا مخدج اليدين، له عضل عليها شعرات تدردر» (¬1). وهؤلاء هم الذين نصبوا العداوة لعلي ومن والاه، وهم الذين استحلوا قتله وجعلوه كافرا، وقتله أحد رؤوسهم: عبد الرحمن بن ملجم المرادي. فهؤلاء النواصب الخوارج المارقون إذ قالوا: إن عثمان وعلي بن أبي طالب ومن معهما كانوا كفارا مرتدين، فإن من حجة المسلمين عليهم ما تواتر من إيمان الصحابة، وما ثبت بالكتاب والسنة الصحيحة من مدح الله تعالى لهم، وثناء الله عليهم، ورضاه عنهم، وإخباره بأنهم من أهل الجنة، ونحو ذلك من النصوص، ومن لم يقبل هذه الحجج، لم يمكنه أن يثبت إيمان علي ابن أبي طالب وأمثاله. (¬2) - وقال: والمقصود هنا أن يتبين أن هؤلاء الطوائف المحاربين لجماعة المسلمين من الرافضة ونحوهم، هم شر من الخوارج الذين نص النبي - صلى الله عليه وسلم - على قتالهم ورغب فيه. وهذا متفق عليه بين علماء الإسلام العارفين بحقيقته. ثم منهم من يرى أن لفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - شمل الجميع، ومنهم من يرى أنهم دخلوا من باب التنبيه والفحوى، أو من باب كونهم في معناهم. فإن الحديث روي بألفاظ متنوعة، ففي الصحيحين -واللفظ للبخاري- عن علي بن أبى طالب رضى الله عنه أنه قال: «إذا حدثتكم عن رسول الله حديثا فوالله لأن أخر من السماء أحب إلى من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة، وإني سمعت رسول الله يقول: سيخرج قوم في آخر الزمان ¬

(¬1) مسلم (2/ 748 - 749/ 1066 (156)) وأبو داود (5/ 125/4768). (¬2) مجموع الفتاوى (4/ 467 - 468).

أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. فأينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة» (¬1). وفى صحيح مسلم عن زيد بن وهب: أنه كان في الجيش الذين كانوا مع علي -رضي الله عنه- الذين ساروا إلى الخوارج. فقال علي: يا أيها الناس إني سمعت رسول الله يقول: «يخرج قوم من أمتي يقرؤون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضي لهم على لسان نبيهم لنكلوا عن العمل، وآية ذلك أن فيهم رجلا له عضد ليس له ذراع، على رأس عضده مثل حلمة الثدي عليه شعرات بيض». والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم؛ فإنهم قد سفكوا الدم الحرام وأغاروا في سرح الناس. فسيروا على اسم الله وذكر الحديث إلى آخره. (¬2) وفي مسلم (¬3) أيضا: عن عبد الله بن رافع كاتب علي رضى الله عنه، أن الحرورية لما خرجت وهو مع علي قالوا: لا حكم إلا لله. فقال علي: كلمة حق أريد بها باطل، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصف ناسا إني لأعرف صفتهم في هؤلاء، يقولون الحق بألسنتهم لا يجاوز هذا منهم -وأشار إلى حلقه- من ¬

(¬1) أحمد (1/ 81) والبخاري (12/ 350/6930) ومسلم (2/ 746 - 747/ 1066 (154)). (¬2) تقدم قريبا. (¬3) (2/ 749/1066 (157)).

أبغض خلق الله إليه، منهم رجل أسود إحدى يديه طبي شاة أو حلمة ثدي. فلما قتلهم علي بن طالب قال: انظروا فنظروا فلم يجدوا شيئا. فقال: ارجعوا فوالله ما كذبت ولا كذبت مرتين أو ثلاثا. ثم وجدوه في خربة فأتوا به حتى وضعوه بين يديه. وهذه العلامة التي ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - هي علامة أول من يخرج منهم، ليسوا مخصوصين بأولئك القوم. فإنه قد أخبر في غير هذا الحديث أنهم «لا يزالون يخرجون إلى زمن الدجال» (¬1). وقد اتفق المسلمون على أن الخوارج ليسوا مختصين بذلك العسكر. وأيضا فالصفات إلى وصفها تعم غير ذلك العسكر، ولهذا كان الصحابة يروون الحديث مطلقا مثل ما في الصحيحين عن أبى سلمة وعطاء ابن يسار أنهما أتيا أبا سعيد فسألاه عن الحرورية، هل سمعت رسول الله يذكرها؟ قال: لا أدرى؟ ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول يخرج في هذه الأمة -ولم يقل منها- قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم -أو حلوقهم- يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافه فيتمارى فى الفوقة هل علق بها شيء من الدم؟ ¬

(¬1) أخرجه من حديث أبي برزة رضي الله عنه: أحمد (4/ 421 - 422،424 - 425) والطيالسي (923) والنسائي (7/ 136 - 137/ 4114) وقال: "شريك بن شهاب ليس بذلك المشهور". والحاكم (2/ 146 - 147) وصححه على شرط مسلم وسكت عنه الذهبي. وقد أورد شريكا في الميزان (2/ 269) ثم قال: "بصري لا يعرف إلا برواية الأزرق بن قيس عنه". ويشهد له حديث ابن عمر وفيه: " ... فإذا خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم فطوبى لمن قتلهم أو طوبى لمن قتلوه، كلما طلع منهم قرن قطعه الله عز وجل، فردد ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرين مرة أو أكثر وأنا أسمع". أخرجه: أحمد (2/ 84) وابن ماجه (1/ 61 - 62/ 174). قال البوصيري في الزوائد: "إسناده صحيح، وقد احتج البخاري بجميع رواته". وهو عند الطبراني كما في المجمع (6/ 230) وحسن الهيثمي إسناده.

اللفظ لمسلم (¬1). وفى الصحيحين أيضا عن أبى سعيد قال: بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسم، جاء عبد الله ذو الخويصرة التميمي -وفى راوية: أتاه ذو الخويصرة رجل من بنى تميم- فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: ويلك من يعدل إذا لم أعدل. قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل. قال عمر بن الخطاب: ايذن لي فأضرب عنقه. قال دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه -وهو قدحه- فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قذذة فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم. وذكر ما في الحديث. (¬2) فهؤلاء أصل ضلالهم: اعتقادهم في أئمة الهدى وجماعة المسلمين أنهم خارجون عن العدل، وأنهم ضالون، وهذا مأخذ الخارجين عن السنة من الرافضة ونحوهم. ثم يعدون ما يرون أنه ظلم عندهم كفرا. ثم يرتبون على الكفر أحكاما ابتدعوها. فهذه ثلاث مقامات للمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم، فى كل مقام تركوا بعض أصول دين الإسلام، حتى مرقوا منه كما مرق السهم من الرمية، وفى الصحيحين في حديث أبى سعيد: «يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» (¬3). وهذا نعت سائر الخارجين ¬

(¬1) البخاري (12/ 350/6931) ومسلم (2/ 743 - 744/ 1064 (147)). (¬2) البخاري (6/ 766/3610) ومسلم (2/ 744/1064 (148)). (¬3) البخاري (6/ 463 - 464/ 3344) ومسلم (2/ 741 - 742/ 1064).

كالرافضة ونحوهم، فإنهم يستحلون دماء أهل القبلة لاعتقادهم أنهم مرتدون أكثر مما يستحلون من دماء الكفار الذين ليسوا مرتدين؛ لأن المرتد شر من غيره. وفى حديث أبى سعيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر قوما يكونون في أمته يخرجون فى فرقة من الناس، سيماهم التحليق. قال: «هم شر الخلق أو من شر الخلق تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق» (¬1). وهذه السيما سيما أولهم كما كان ذو الثدية؛ لأن هذا وصف لازم لهم. وأخرجا في الصحيحين حديثهم من حديث سهل بن حنيف بهذا المعنى (¬2). ورواه البخاري من حديث عبد الله بن عمر (¬3)، ورواه مسلم من حديث أبى ذر ورافع بن عمرو (¬4)، وجابر بن عبد الله (¬5)، وغيرهم. وروى النسائي عن أبى برزة أنه قيل له: هل سمعت رسول الله يذكر الخوارج؟ قال: نعم، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأذني ورأيته بعيني: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى بمال فقسمه، فأعطى من عن يمينه ومن عن شماله، ولم يعط من وراءه شيئا، فقام رجل من ورائه، فقال: يا محمد! ما عدلت في القسمة -رجل أسود مطموم الشعر، عليه ثوبان أبيضان- فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضبا شديدا، وقال له: «والله لا تجدون بعدى رجلا هو أعدل مني. ثم قال: يخرج في آخر الزمان ¬

(¬1) البخاري (6/ 766/3610) و (13/ 655/7562) ومسلم (2/ 745/1065). (¬2) البخاري (12/ 360/6934) ومسلم (2/ 750/1068). (¬3) البخاري (12/ 350/6932). (¬4) سيأتي لفظه من كلام الشيخ. (¬5) أحمد (3/ 353) ومسلم (2/ 740/1063) والبخاري مختصرا (6/ 292/3138) والنسائي في الكبرى (5/ 31/8087،8088) وابن ماجه في المقدمة (1/ 61/172).

قوم كأن هذا منهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، سيماهم التحليق، لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم مع الدجال. فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، هم شر الخلق والخليقة» (¬1). وفى صحيح مسلم، عن عبد الله بن الصامت عن أبى ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن بعدي من أمتي -أو سيكون بعدي من أمتي- قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه، هم شر الخلق والخليقة. قال ابن الصامت: فلقيت رافع بن عمرو الغفاري -أخا الحكم بن عمرو الغفاري- قلت: ما حديث سمعته من أبى ذر كذا وكذا؟ فذكرت له الحديث، فقال: وأنا سمعته من رسول الله» (¬2). فهذه المعاني موجودة في أولئك القوم الذين قتلهم علي -رضى الله عنه- وفى غيرهم. وإنما قولنا: إن عليا قاتل الخوارج بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاتل الكفار، أي قاتل جنس الكفار، وإن كان الكفر أنواعا مختلفة. وكذلك الشرك أنواع مختلفة، وإن لم تكن الآلهة التي كانت العرب تعبدها هي التي تعبدها الهند والصين والترك؛ لكن يجمعهم لفظ الشرك ومعناه. وكذلك الخروج والمروق يتناول كل من كان فى معنى أولئك، ويجب قتالهم بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما وجب قتال أولئك. (¬3) ¬

(¬1) تقدم تخريجه قريبا. (¬2) مسلم (2/ 750/1067). (¬3) مجموع الفتاوى (28/ 494 - 499).

موقفه من المرجئة:

موقفه من المرجئة: - جاء في مجموع الفتاوى: إن المرجئة لما عدلوا عن معرفة كلام الله ورسوله، أخذوا يتكلمون في مسمى الإيمان والإسلام وغيرهما بطرق ابتدعوها، مثل أن يقولوا: الإيمان في اللغة هو التصديق، والرسول إنما خاطب الناس بلغة العرب لم يغيرها، فيكون مراده بالإيمان التصديق؛ ثم قالوا: والتصديق إنما يكون بالقلب واللسان، أو بالقلب، فالأعمال ليست من الإيمان، ثم عمدتهم في أن الإيمان هو التصديق قوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ} (¬1) أي بمصدق لنا. فيقال لهم: (اسم الإيمان) قد تكرر ذكره في القرآن والحديث أكثر من ذكر سائر الألفاظ، وهو أصل الدين، وبه يخرج الناس من الظلمات إلى النور؛ ويفرق بين السعداء والأشقياء، ومن يوالى ومن يعادى، والدين كله تابع لهذا؛ وكل مسلم محتاج إلى معرفة ذلك؛ أفيجوز أن يكون الرسول قد أهمل بيان هذا كله. ووكله إلى هاتين المقدمتين؟ ومعلوم أن الشاهد الذي استشهدوا به على أن الإيمان هو التصديق أنه من القرآن. ونقل معنى الإيمان متواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم من تواتر لفظ الكلمة، فإن الإيمان يحتاج إلى معرفة جميع الأمة فينقلونه، بخلاف كلمة من سورة. فأكثر المؤمنين لم يكونوا يحفظون هذه السورة، فلا يجوز أن يجعل بيان أصل الدين مبنيا على مثل هذه المقدمات، ولهذا كثر النزاع والاضطراب بين الذين عدلوا عن صراط الله المستقيم، وسلكوا السبل، وصاروا من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، ومن ¬

(¬1) يوسف الآية (17).

الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات، فهذا كلام عام مطلق. ثم يقال: "هاتان المقدمتان" كلاهما ممنوعة، فمن الذي قال: إن لفظ الإيمان مرادف للفظ التصديق؟ وهب أن المعنى يصح إذا استعمل في هذا الموضع، فلم قلت: إنه يوجب الترادف؟ ولو قلت: ما أنت بمسلم لنا، ما أنت بمؤمن لنا، صح المعنى، لكن لم قلت: إن هذا هو المراد بلفظ مؤمن؟ وإذا قال الله: (أقيموا الصلاة). ولو قال القائل: أتموا الصلاة، ولازموا الصلاة، التزموا الصلاة، افعلوا الصلاة، كان المعنى صحيحا، لكن لا يدل هذا على معنى: أقيموا. فكون اللفظ يرادف اللفظ؛ يراد دلالته على ذلك. (¬1) - وقال: ومن قال: بحصول الإيمان الواجب بدون فعل شيء من الواجبات، سواء جعل فعل تلك الواجبات لازما له؛ أو جزءا منه، فهذا نزاع لفظي، كان مخطئا خطئا بينا، وهذه بدعة الإرجاء، التي أعظم السلف والأئمة الكلام في أهلها، وقالوا فيها من المقالات الغليظة ما هو معروف، والصلاة هي أعظمها وأعمها وأولها وأجلها. (¬2) - وقال رحمه الله في التدمرية: والكرامية قولهم في الإيمان قول منكر، لم يسبقهم إليه أحد، حيث جعلوا الإيمان قول اللسان، وإن كان مع عدم تصديق القلب، فيجعلون المنافق مؤمنا، لكنه يخلد في النار فخالفوا الجماعة في الاسم دون الحكم، وأما في الصفات والقدر والوعيد فهم أشبه من أكثر ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (7/ 288 - 290). (¬2) مجموع الفتاوى (7/ 621).

طوائف الكلام التي في أقوالها مخالفة للسنة. (¬1) - وقال: والمأثور عن الصحابة، وأئمة التابعين، وجمهور السلف، وهو مذهب أهل الحديث، وهو المنسوب إلى أهل السنة، أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأنه يجوز الاستثناء فيه. (¬2) - وقال: والسلف اشتد نكيرهم على المرجئة لما أخرجوا العمل من الإيمان، وقالوا إن الإيمان يتماثل الناس فيه، ولا ريب أن قولهم بتساوي إيمان الناس من أفحش الخطأ، بل لا يتساوى الناس في التصديق، ولا في الحب، ولا في الخشية، ولا في العلم، بل يتفاضلون من وجوه كثيرة. (¬3) - وقال: والتفاضل في الإيمان بدخول الزيادة والنقص فيه يكون من وجوه متعددة: أحدها: الأعمال الظاهرة، فإن الناس يتفاضلون فيها، وتزيد وتنقص وهذا مما اتفق الناس على دخول الزيادة فيه والنقصان، لكن نزاعهم في دخول ذلك في مسمى الإيمان. فالنفاة يقولون هو من ثمرات الإيمان ومقتضاه، فأدخل فيه مجازا بهذا الاعتبار، وهذا معنى زيادة الإيمان عندهم ونقصه، أي زيادة ثمراته ونقصانها، فيقال قد تقدم أن هذا من لوازم الإيمان وموجباته، فإنه يمتنع أن يكون إيمان تام في القلب بلا قول ولا عمل ظاهر، وأما كونه لازما أو جزءا منه، فهذا يختلف بحسب حال استعمال لفظ الإيمان ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (3/ 103). (¬2) مجموع الفتاوى (7/ 505) (¬3) مجموع الفتاوى (7/ 555 - 556).

مفردا أو مقرونا بلفظ الإسلام، والعمل كما تقدم. وأما قولهم: الزيادة في العمل الظاهر لا في موجبه ومقتضيه فهذا غلط، فإن التفاضل معلول الأشياء، ومقتضاها يقتضي تفاضلها في أنفسها، وإلا فإذا تماثلت الأسباب الموجبة، لزم تماثل موجبها ومقتضاها، فتفاضل الناس في الأعمال الظاهرة يقتضي تفاضلهم في موجب ذلك ومقتضيه، ومن هذا يتبين: الوجه الثاني: في زيادة الإيمان ونقصه، وهو زيادة أعمال القلوب ونقصها، فإنه من المعلوم بالذوق الذي يجده كل مؤمن، أن الناس يتفاضلون في حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه والتوكل عليه والإخلاص له، وفي سلامة القلوب من الرياء، والكبر، والعجب، ونحو ذلك، والرحمة للخلق والنصح لهم، ونحو ذلك من الأخلاق الإيمانية، وفي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار» (¬1)، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} إلى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ ¬

(¬1) أحمد (3/ 103) والبخاري (1/ 82/16) ومسلم (1/ 66/43) والترمذي (5/ 16/2624) والنسائي (8/ 471 - 472/ 5003) وابن ماجه (2/ 1338 - 1339/ 4033) من حديث أنس رضي الله عنه.

فَتَرَبَّصُوا} (¬1). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «والله إني لأخشاكم لله وأعلمكم بحدوده» (¬2) وقال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» (¬3) وقال له عمر يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، قال: لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك، قال: فلأنت أحب إلي من نفسي، قال: الآن يا عمر». وهذه الأحاديث ونحوها في الصحاح، وفيها بيان تفاضل الحب والخشية وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} (¬4) وهذا أمر يجده الإنسان في نفسه، فإنه قد يكون الشيء الواحد يحبه تارة أكثر مما يحبه تارة، ويخافه تارة أكثر مما يخافه تارة، ولهذا كان أهل المعرفة من أعظم الناس قولا بدخول الزيادة والنقصان فيه، لما يجدون من ذلك في أنفسهم، ومن هذا قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)} (¬5) وإنما زادهم طمأنينة وسكونا. ¬

(¬1) التوبة الآية (24). (¬2) أحمد (6/ 181) والبخاري (13/ 342/7301) ومسلم (4/ 1829/2356) عن عائشة رضي الله عنها. (¬3) أحمد (3/ 177و275) والبخاري (1/ 80/15) ومسلم (1/ 67/44) والنسائي (8/ 488/5028) وابن ماجه (1/ 26/67) من حديث أنس رضي الله عنه. (¬4) البقرة الآية (165). (¬5) آل عمران الآية (173).

وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» (¬1).اهـ (¬2) - وقال: الاستثناء في الإيمان سنة عند أصحابنا، وأكثر أهل السنة، وقالت المرجئة والمعتزلة، لا يجوز الاستثناء فيه بل هو شك، والاستثناء أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أو مؤمن أرجو، أو آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله، أو إن كنت تريد الإيمان الذي يعصم دمي فنعم، وإن كنت تريد {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (¬3) فالله أعلم. (¬4) - وقال: وطوائف "أهل الأهواء" من الخوارج والمعتزلة، والجهمية والمرجئة، كراميهم وغير كراميهم يقولون: إنه لا يجتمع في العبد إيمان ونفاق، ومنهم من يدعي الإجماع على ذلك، وقد ذكر أبو الحسن في بعض كتبه الإجماع على ذلك، ومن هنا غلطوا فيه، وخالفوا فيه الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين لهم بإحسان مع مخالفة صريح المعقول؛ بل الخوارج والمعتزلة طردوا هذا الأصل الفاسد، وقالوا: لا يجتمع في الشخص الواحد طاعة يستحق بها الثواب ومعصية يستحق بها العقاب، ولا يكون الشخص الواحد محمودا من وجه مذموما من وجه، ولا محبوبا مدعوا له من وجه مسخوطا ملعونا من وجه، ولا يتصور أن الشخص الواحد يدخل الجنة والنار جميعا عندهم، بل من دخل ¬

(¬1) أحمد (2/ 472) وأبو داود (5/ 60/4682) والترمذي (3/ 466/1162) وقال: "حديث حسن صحيح". الحاكم (1/ 3) وصححه ووافقه الذهبي. ابن حبان الإحسان (2/ 227/479) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وفي الباب عن عائشة وابن عباس وغيرهم. (¬2) مجموع الفتاوى (7/ 562 - 564). (¬3) الأنفال الآية (2). (¬4) مجموع الفتاوى (7/ 666).

إحداهما لم يدخل الأخرى عندهم، ولهذا أنكروا خروج أحد من النار، أو الشفاعة في أحد من أهل النار. وحكي عن غالية المرجئة أنهم وافقوهم على هذا الأصل، لكن هؤلاء قالوا: إن أهل الكبائر يدخلون الجنة ولا يدخلون النار مقابلة لأولئك. وأما أهل السنة والجماعة والصحابة، والتابعون لهم بإحسان؛ وسائر طوائف المسلمين من أهل الحديث والفقهاء وأهل الكلام من مرجئة الفقهاء والكرامية والكلابية والأشعرية، والشيعة مرجئهم وغير مرجئهم فيقولون: إن الشخص الواحد قد يعذبه الله بالنار، ثم يدخله الجنة، كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة، وهذا الشخص الذي له سيئات عذب بها، وله حسنات دخل بها الجنة، وله معصية وطاعة باتفاق، فإن هؤلاء الطوائف لم يتنازعوا في حكمه؛ لكن تنازعوا في اسمه، فقالت المرجئة: جهميتهم وغير جهميتهم: هو مؤمن كامل الإيمان. وأهل السنة والجماعة على أنه مؤمن ناقص الإيمان، ولولا ذلك لما عذب، كما أنه ناقص البر والتقوى باتفاق المسلمين وهل يطلق عليه اسم مؤمن؟ هذا فيه القولان، والصحيح التفصيل. فإذا سئل عن أحكام الدنيا كعتقه في الكفارة. قيل: هو مؤمن، وكذلك إذا سئل عن دخوله في خطاب المؤمنين. وأما إذا سئل عن حكمه في الآخرة. قيل: ليس هذا النوع من المؤمنين الموعودين بالجنة، بل معه إيمان يمنعه الخلود في النار، ويدخل به الجنة بعد أن يعذب في النار إن لم يغفر الله له ذنوبه، ولهذا قال من قال: هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، أو مؤمن ناقص الإيمان، والذين لا يسمونه مؤمنا من أهل السنة ومن المعتزلة يقولون: اسم الفسوق ينافي اسم الإيمان لقوله: {بِئْسَ

موقفه من القدرية:

الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} (¬1) وقوله: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} (¬2) وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» (¬3).اهـ (¬4) موقفه من القدرية: لقد أجاد شيخ الإسلام القول في بيان اعتقاد الفرقة الناجية في مسائل القدر ضمن العقيدة الواسطية. - قال رحمه الله: وتؤمن الفرقة الناجية، أهل السنة والجماعة بالقدر خيره وشره، والإيمان بالقدر على درجتين كل درجة تتضمن شيئين: فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم، الذي هو موصوف به أزلا، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال. ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق: فأول ما خلق الله القلم، قال له: أكتب. قال: ما أكتب؟ قال: أكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة (¬5). فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم ¬

(¬1) الحجرات الآية (11). (¬2) السجدة الآية (18). (¬3) تقدم تخريجه في مواقف أبي وائل شقيق بن سلمة سنة (82هـ). (¬4) مجموع الفتاوى (7/ 353 - 355). (¬5) أحمد (5/ 317) من طريق ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه فذكره. قال الشيخ الألباني رحمه الله في 'ظلال الجنة' (1/ 48): "وإسناده لا بأس به في الشواهد رجاله ثقات غير ابن لهيعة وهو سيئ الحفظ لكنه يتقوى بما قبله وما بعده" -يعني من كتاب 'السنة' لابن أبي عاصم-. وأخرجه أبو داود (5/ 76/4700) من طريق إبراهيم بن أبي عبلة عن أبي حفصة قال: قال عبادة بن الصامت لابنه. فذكره. والترمذي (4/ 398/2155) وقال: "وهذا حديث غريب من هذا الوجه". وفيه قصة طويلة. وأخرجه أيضا في (5/ 394 - 395/ 3319) وقال: "هذا حديث حسن صحيح".

يكن ليصيبه، جفت الأقلام وطويت الصحف كما قال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَن اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} (¬1) وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)} (¬2). وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلا فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء، وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكا، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له: أكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد (¬3)، ونحو ذلك، فهذا القدر قد كان ينكره غلاة القدرية قديما، ومنكره اليوم قليل. وأما الدرجة الثانية: فهو مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السماوات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشية الله سبحانه، لا يكون في ملكه إلا ما يريد، وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات. فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه، لا خالق غيره ولا رب سواه. ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله، ¬

(¬1) الحج الآية (70). (¬2) الحديد الآية (22). (¬3) أخرجه أحمد (1/ 382و430) والبخاري (6/ 373/3208) ومسلم (4/ 2036) وأبو داود (5/ 82 - 83/ 4708) والترمذي (4/ 388 - 389/ 2137) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وابن ماجه (1/ 29/76).

ونهاهم عن معصيته. وهو سبحانه يحب المتقين، والمحسنين والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد. والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم، والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر، والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم، كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} (¬1). وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية، الذين سماهم النبي - صلى الله عليه وسلم - مجوس هذه الأمة (¬2)، ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات، حتى سلبوا العبد قدرته واختياره، ويُخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها. (¬3) - وجاء في مجموع الفتاوى عنه قال: فإن الله سبحانه قد فرق بالقرآن وبالإيمان بين أمره الديني وخلقه الكوني. فإن الله سبحانه خالق كل شيء، ورب كل شيء ومليكه، سواء في ذلك الذوات وصفاتها وأفعالها، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لا يخرج عن مشيئته شيء، ولا يكون شيء إلا بمشيئته. وقد كذب ببعض ذلك القدرية المجوسية من هذه الأمة وغيرها، وهم ¬

(¬1) التكوير الآيتان (28و29). (¬2) تقدم في مواقف محمد بن الحسين الآجري سنة (360هـ). (¬3) مجموع الفتاوى (3/ 148 - 150).

الذين يزعمون أن الله لم يخلق أفعال عباده من الملائكة والجن والإنس والبهائم، ولا يقدر على أن يفعل بعباده من الخير أكثر مما فعله بهم، بل ولا على أفعالهم، فليس هو على كل شيء قدير، أو أن ما كان من السيئات فهو واقع على خلاف مشيئته وإرادته. وهم ضلال مبتدعة، مخالفون للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، ولما عرف بالعقل والذوق. ثم إنه قابلهم قوم شر منهم، وهم القدرية المشركية، الذين رأوا الأفعال واقعة بمشيئته وقدرته، فقالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} (¬1) ولو كره الله شيئا لأزاله، وما في العالم إلا ما يحبه الله ويرضاه، وما ثم عاص، وأنا كافر برب يعصى، وإن كان هذا قد عصى الأمر فقد أطاع الإرادة، وربما استدلوا بالجبر، وجعلوا العبد مجبورا، والمجبور معذور، والفعل لله فيه لا له، فلا لوم عليه. فهؤلاء كافرون بكتب الله ورسله، وبأمر الله ونهيه، وثوابه وعقابه، ووعده ووعيده، ودينه وشرعه، كفرا لا ريب فيه، وهم أكفر من اليهود والنصارى، بل أكفر من الصابئة والبراهمة الذين يقولون بالسياسات العقلية. فإن هؤلاء كافرون بالديانات والشرائع الإلهية، وبالآيات والسياسات العقلية. وأما الأولون: ففي تكفيرهم تفصيل ليس هذا موضعه. وهؤلاء أعداء الله وأعداء جميع رسله، بل أعداء جميع عقلاء بني آدم، بل أعداء أنفسهم، فإن هذا القول لا يمكن أحدا أن يطرده، ولا يعمل به ساعة من زمان، إذ لازمه: أن لا يدفع ظلم ظالم، ولا ¬

(¬1) الأنعام الآية (148).

يعاقب معتد، ولا يعاقب مسيء لا بمثل إساءته، ولا بأكثر منها. (¬1) - وفيها: ولا يوجد أحد يحتج بالقدر في ترك الواجب وفعل المحرم، إلا وهو متناقض، لا يجعله حجة في مخالفة هواه، بل يعادي من آذاه وإن كان محقا، ويحب من وافقه على غرضه وإن كان عدوا لله، فيكون حبه وبغضه، وموالاته ومعاداته، بحسب هواه وغرضه وذوق نفسه ووجده، لا بحسب أمر الله ونهيه، ومحبته وبغضه، وولايته وعداوته. إذ لا يمكنه أن يجعل القدر حجة لكل أحد. فإن هذا مستلزم للفساد، الذي لا صلاح معه، والشر الذي لا خير فيه، إذ لو جاز أن يحتج كل أحد بالقدر لما عوقب معتد، ولا اقتص من ظالم باغ، ولا أخذ لمظلوم حقه من ظالمه، ولفعل كل أحد ما يشتهيه، من غير معارض يعارضه فيه، وهذا فيه من الفساد: ما لا يعلمه إلا رب العباد. (¬2) - وفيها سؤال في القدر أورده أحد علماء الذميين فقال: أيا علماء الدين، ذمي دينكم ... تحير دلوه بأوضح حجة إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم ... ولم يرضه مني فما وجه حيلتي؟ دعاني، وسد الباب عني، فهل إلى ... دخولي سبيل؟ بينوا لي قضيتي قضى بضلالي ثم قال: ارض بالقضا ... فما أنا راض بالذي فيه شقوتي فإن كنت بالمقضي يا قوم راضيا ... فربي لا يرضى بشؤم بليتي فهل لي رضا ما ليس يرضاه سيدي؟ ... فقد حرت دلوني على كشف حيرتي إذا شاء ربي الكفر مني مشيئة ... فهل أنا عاص في اتباع المشيئة؟ ¬

(¬1) مجموع فتاوى ابن تيمية (2/ 409 - 410). (¬2) مجموع فتاوى ابن تيمية (2/ 301).

وهل لي اختيار أن أخالف حكمه؟ ... فبالله فاشفوا بالبراهين غلتي فأجاب شيخ الإسلام الشيخ الإمام العالم العلامة أحمد بن تيمية مرتجلا (¬1): الحمد لله رب العالمين: سؤالك يا هذا سؤال معاند ... مخاصم رب العرش، باري البرية فهذا سؤال خاصم الملأ العلا ... قديما به إبليس، أصل البلية ومن يك خصما للمهيمن يرجعن ... على أم رأس هاويا في الحفيرة ويدعى خصوم الله يوم معادهم ... إلى النار طرا، معشر القدرية سواء نفوه، أو سعوا ليخاصموا ... به الله أو ماروا به للشريعة وأصل ضلال الخلق من كل فرقة ... هو الخوض في فعل الإله بعلة فإنهم لم يفهموا حكمة له ... فصاروا على نوع من الجاهلية فإن جميع الكون أوجب فعله ... مشيئة رب الخلق باري الخليقة وذات إله الخلق واجبة بما ... لها من صفات واجبات قديمة مشيئته مع علمه، ثم قدرة ... لوازم ذات الله قاضي القضية وإبداعه ما شاء من مبدعاته ... بها حكمة فيه وأنواع رحمة ولسنا إذا قلنا جرت بمشيئة ... من المنكري آياته المستقيمة بل الحق أن الحكم لله وحده ... له الخلق والأمر الذي في الشريعة هو الملك المحمود في كل حالة ... له الملك من غير انتقاص بشركة ¬

(¬1) مجموع فتاوى ابن تيمية (8/ 245 - 255).

فما شاء مولانا الإله فإنه ... يكون، وما لا لا يكون بحيلة وقدرته لا نقص فيها، وحكمه ... يعم فلا تخصيص في ذي القضية أريد بذا أن الحوادث كلها ... بقدرته كانت، ومحض المشيئة ومالكنا في كل ما قد أراده ... له الحمد حمدا يعتلي كل مدحة فإن له في الخلق رحمته سرت ... ومن حكم فوق العقول الحكيمة أمورا يحار العقل فيها إذا رأى ... من الحكم العليا وكل عجيبة فنؤمن أن الله عز بقدرة ... وخلق وإبرام لحكم المشيئة فنثبت هذا كله لإلهنا وهذا ... ونثبت ما في ذاك من كل حكمة مقام طالما عجز الألى ... نفوه وكروا راجعين بحيرة وتحقيق ما فيه بتبيين غوره ... وتحرير حق الحق في ذي الحقيقة هو المطلب الأقصى لوراد بحره ... وذا عسر في نظم هذي القصيدة لحاجته إلى بيان محقق ... لأوصاف مولانا الإله الكريمة وأسمائه الحسنى، وأحكام دينه ... وأفعاله في كل هذي الخليقة وهذا بحمد الله قد بان ظاهرا ... وإلهامه للخلق أفضل نعمة وقد قيل في هذا وخط كتابه ... بيان شفاء للنفوس السقيمة فقولك: لم قد شاء؟ مثل سؤال ... يقول: فلم قد كان في الأزلية؟ من وذاك سؤال يبطل العقل وجهه ... وتحريمه قد جاء في كل شرعة وفي الكون تخصيص كثير يدل من ... له نوع عقل: أنه بإرادة وإصداره عن واحد بعد واحد ... أو القول بالتجويز رمية حيرة ولا ريب في تعليق كل مسبب ... بما قبله من علة موجبية

بل الشأن في الأسباب، أسباب ما ... وإصدارها عن حكم محض المشيئة ترى وقولك: لم شاء الإله؟ هو ... أزل عقول الخلق في قعر حفرة الذي فإن المجوس القائلين بخالق ... لنفع، ورب مبدع للمضرة سؤالهم عن علة السر، أوقعت ... أوائلهم في شبهة الثنوية وإن ملاحيد الفلاسفة الألى ... يقولون بالفعل القديم لعلة بغوا علة للكون بعد انعدامه ... فلم يجدوا ذاكم، فضلوا بضلة وإن مبادي الشر في كل أمة ... ذوي ملة ميمونة نبوية بخوضهمو في ذاكم صار شركهم ... وجاء دروس البينات بفترة ويكفيك نقضا: أن ما قد سألته ... من العذر مردود لدى كل فطرة فأنت تعيب الطاعنين جميعهم ... عليك، وترميهم بكل مذمة وتنحل من والاك صفوة مودة ... وتبغض من ناواك من كل فرقة وحالهم في كل قول وفعلة ... كحالك يا هذا بأرجح حجة وهبك كففت اللوم عن كل كافر ... وكل غوي خارج عن محجة فيلزمك الإعراض عن كل ظالم ... على الناس في نفس، ومال، وحرمة ولا تغضبن يوما على سافك دما ... ولا سارق مالا لصاحب فاقة ولا شاتم عرضا مصونا وإن علا ... ولا ناكح فرجا على وجه غية ولا قاطع للناس نهج سبيلهم ... ولا مفسد في الأرض في كل وجهة ولا شاهد بالزور إفكا وفرية ... ولا قاذف للمحصنات بزنية ولا مهلك للحرث والنسل عامدا ... ولا حاكم للعالمين برشوة وكف لسان اللوم عن كل مفسد ... ولا تأخذن ذا جرمة بعقوبة

وسهل سبيل الكاذبين تعمدا ... على ربهم، من كل جاء بفرية وإن قصدوا إضلال من يستجيبهم ... بروم فساد النوع، ثم الرياسة وجادل عن الملعون، فرعون، إذ ... فأغرق في اليم انتقاما بغضبة طغى وكل كفور مشرك بإلهه ... وآخر طاغ كافر بنبوة كعاد، ونمروذ، وقوم لصالح ... وقوم لنوح، ثم أصحاب الأيكة وخاصم لموسى، ثم سائر من أتى ... من الأنبياء محييا للشريعة على كونهم قد جاهدوا الناس إذ ... ونالوا من المعاصي بليغ العقوبة بغوا وإلا فكل الخلق في كل لفظة ... ولحظة عين، أو تحرك شعرة وبطشة كف، أو تخطي قديمة ... وكل حراك، بل وكل سكينة همو تحت أقدار الإله وحكمه ... كما أنت فيما قد أتيت بحجة وهبك رفعت اللوم عن كل فاعل ... فعال ردى، طردا لهذي المقيسة فهل يمكن رفع الملام جميعه ... عن الناس طرا عند كل قبيحة وترك عقوبات الذين قد اعتدوا ... وترك الورى الإنصاف بين الرعية فلا تُضْمَنَنْ نفس ومال بمثله ... ولا يعقبن عاد بمثل الجريمة وهل في عقول الناس أو في طباعهم ... قبول لقول النذل: ما وجه حيلتي؟ ويكفيك نقضا: ما بجسم ابن آدم ... صبي، ومجنون، وكل بهيمة من الألم المقضي في غير حيلة ... وفيما يشاء الله أكمل حكمة إذا كان في هذا له حكمة، فما ... يظن بخلق الفعل، ثم العقوبة؟ وكيف، ومن هذا عذاب مولد ... عن الفعل، فعل العبد عند الطبيعة؟ كآكل سم، أوجب الموت أكله ... وكل بتقدير لرب البرية

فكفرك يا هذا، كسم أكلته ... وتعذيب نار. مثل جرعة غصة ألست ترى في هذه الدار من جنى ... يعاقب إما بالقضا أو بشرعة؟ ولا عذر للجاني بتقدير خالق ... كذلك في الأخرى بلا مثنوية وتقدير رب الخلق للذنب موجب ... لتقدير عقبى الذنب إلا بتوبة وما كان من جنس المتاب لرفعه ... عواقب أفعال العباد الخبيثة كخير به تمحى الذنوب. ودعوة ... تجاب من الجاني، ورب شفاعة وقول حليف الشر: إني مقدر ... علي كقول الذئب: هذي طبيعتي وتقديره للفعل يجلب نقمة ... كتقديره الأشياء طرا بعلة فهل يَنْفَعَنْ عذر الملوم. بأنه ... كذا طبعه أم هل يقال لعثرة؟ أم الذم والتعذيب أوكد للذي ... طبيعته فعلا لشرور الشنيعة؟ فإن كنت ترجو أن تجاب بما عسى ... ينجيك من نار الإله العظيمة فدونك رب الخلق، فاقصده ضارعا ... مريدا لأن يهديك نحو الحقيقة وذلل قياد النفس للحق، واسمعن ... ولا تعرضن عن فكرة مستقيمة وما بان من حق فلا تتركنه ... ولا تعص من يدعو لأقوم شرعة ودع دين ذا العادات، لا تتبعنه ... وعج عن سبيل الأمة الغضبية ومن ضل عن حق فلا تقفونه ... وزن ما عليه الناسب المعدلية هنالك تبدو طالعات من الهدى ... تبشر من قد جاء بالحنيفية بملة إبراهيم، ذاك إمامنا ... ودين رسول الله خير البرية فلا يقبل الرحمن دينا سوى الذي ... به جاءت الرسل الكرام السجية وقد جاء هذا الحاشر الخاتم الذي ... حوى كل خير في عموم الرسالة

وأخبر عن رب العباد بأن من ... غدا عنه في الأخرى بأقبح خيبة فهذي دلالات العباد لحائر ... وأما هداه فهو فعل الربوبة وفقد الهدى عند الورى لا يفيد ... غدا عنه، بل يجزي بلا وجه حجة من وحجة محتج بتقدير ربه ... تزيد عذابا، كاحتجاج مريضة وأما رضانا بالقضاء فإنما ... أمرنا بأن نرضى بمثل المصيبة كسقم وفقر ثم ذل وغربة ... وما كان من مؤذ، بدون جريمة فأما الأفاعيل التي كرهت لنا ... فلا ترتضى، مسخوطة لمشيئة وقد قال قوم من أولي العلم: لا ... بفعل المعاصي والذنوب الكبيرة رضا وقال فريق: نرتضي بقضائه ... ولا نرتضي المقضي أقبح خصلة وقال فريق نرتضي بإضافة ... إليه. وما فينا فنلقى بسخطة كما أنها للرب خلق، وأنها ... لمخلوقة ليست كفعل الغريزة فنرضى من الوجه الذي هو خلقه ... ونسخط من وجه اكتساب الخطيئة ومعصية العبد المكلف تركه ... لما أمر المولى وإن بمشيئة فإن إله الخلق حق مقاله ... بأن العباد في جحيم وجنة كما أنهم في هذه الدار هكذا ... بل البهم في الآلام أيضا ونعمة وحكمته العليا اقتضت ما اقتضت من الـ ... ـفروق بعلم ثم أيد ورحمة يسوق أولي التعذيب بالسبب ... يقدره نحو العذاب بعزة الذي ويهدي أولي التنعيم نحو ... بأعمال صدق في رجاء وخشية نعيمهم وأمر إله الخلق بين ما به ... يسوق أولي التنعيم نحو السعادة فمن كان من أهل السعادة أثرت ... أوامره فيه بتيسير صنعة

ومن كان من أهل الشقاوة لم ينل ... بأمر ولا نهي بتقدير شقوة ولا مخرج للعبد عما به قضى ... ولكنه مختار حسن وسوأة فليس بمجبور عديم الإرادة ... ولكنه شاء بخلق الإرادة ومن أعجب الأشياء: خلق مشيئة ... بها صار مختار الهدى بالضلالة فقولك: هل أختار تركا لحكمة؟ ... كقولك: هل أختار ترك المشيئة؟ وأختار أن لا أختار فعل ضلالة ... ولو نلت هذا الترك فزت بتوبة وذا ممكن، لكنه متوقف ... على ما يشاء الله من ذي المشيئة فدونك، فافهم ما به قد أجبت من ... معان، إذا انحلت بفهم غريزة أشارت إلى أصل يشير إلى الهدى ... ولله رب الخلق أكمل مدحة وصلى إله الخلق، جل جلاله ... على المصطفى المختار خير البرية التعليق: قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في الدرة البهية عن هذه المنظومة: وهذا النظم: قد أتى فيه الشيخ بالعجب العجاب، وبين الحق الصريح، وكشف الشكوك والشبهات التي طالما خالطت قلوب أذكياء العلماء، وحيرت كثيرا من أهل العلم الفضلاء. (¬1) - قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى: ومن أقر بالشرع، والأمر والنهي، والحسن والقبح، دون القدر وخلق الأفعال -كما عليه المعتزلة- فهو ¬

(¬1) الدرة البهية (ص.11).

من القدرية المجوسية الذين شابهوا المجوس، وللمعتزلة من مشابهة المجوس واليهود نصيب وافر. ومن أقر بالقضاء والقدر وخلق الأفعال وعموم الربوبية، وأنكر المعروف والمنكر، والهدى والضلال، والحسنات والسيئات، ففيه شبه من المشركين والصابئة. وكان الجهم بن صفوان ومن اتبعه كذلك لما ناظر أهل الهند، كما كان المعتزلة كذلك لما ناظروا المجوس (الفرس)، والمجوس أرجح من المشركين. فإن من أنكر الأمر والنهي، أو لم يقر بذلك، فهو مشرك صريح كافر -أكفر من اليهود والنصارى والمجوس- كما يوجد ذلك في كثير من المتكلمة والمتصوفة -أهل الإباحة ونحوهم. (¬1) - وقال في حديثه عن إرادة الله: وإرادته قسمان: إرادة أمر وتشريع، وإرادة قضاء وتقدير. فالقسم الأول: إنما يتعلق بالطاعات دون المعاصي، سواء وقعت أو لم تقع. كما في قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} (¬2) وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬3). وأما القسم الثاني: وهو إرادة التقدير، فهي شاملة لجميع الكائنات، ¬

(¬1) مجموع فتاوى ابن تيمية (16/ 238 - 239). (¬2) النساء الآية (26). (¬3) البقرة الآية (185).

محيطة بجميع الحادثات، وقد أراد من العالم ما هم فاعلوه بهذا المعنى لا بالمعنى الأول، كما في قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} (¬1) وفي قوله: وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ} (¬2) وفي قول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. ونظائره كثيرة. وهذه الإرادة تتناول ما حدث من الطاعات والمعاصي، دون ما لم يحدث، كما أن الأولى تتناول الطاعات حدثت أو لم تحدث، والسعيد من أراد منه تقديرا ما أراد به تشريعا، والعبد الشقي من أراد به تقديرا ما لم يرد به تشريعا، والحكم يجري على وفق هاتين الإرادتين، فمن نظر إلى الأعمال بهاتين العينين كان بصيرا، ومن نظر إلى القدر دون الشرع أو الشرع دون القدر كان أعور، مثل قريش الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} قال الله تعالى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)} (¬3). ¬

(¬1) الأنعام الآية (125). (¬2) هود الآية (34). (¬3) الأنعام الآية (148).

طرفين ووسط: فالقدرية من المعتزلة وغيرهم قصدوا تعظيم الرب وتنزيهه عما ظنوه قبيحا من الأفعال وظلما، فأنكروا عموم قدرته ومشيئته، ولم يجعلوه خالقا لكل شيء، ولا أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، بل قالوا: يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، ثم إنهم وضعوا لربهم شريعة فيما يجب عليه ويحرم بالقياس على أنفسهم، وتكلموا في التعديل والتجويز بهذا القياس الفاسد الذي شبهوا فيه الخالق بالمخلوق، فضلوا وأضلوا. وقابلهم الجهمية الغلاة في الجبر، فأنكروا حكمة الله ورحمته، وقالوا: لم يخلق لحكمة، ولم يأمر بحكمة، وليس في القرآن "لام كي" لا في خلقه ولا في أمره. وزعموا أن قوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (¬1) و {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (¬2) وقوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)} (¬3) وقوله: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} (¬4) وقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (¬5) -وأمثال ذلك- إنما اللام فيه لام العاقبة كقوله: ¬

(¬1) الجاثية الآية (13). (¬2) البقرة الآية (29). (¬3) النجم الآية (31). (¬4) البقرة الآية (185). (¬5) النساء الآية (165).

تاج الدين الفاكهاني (731 هـ)

{فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} (¬1) وقول القائل: "لدوا للموت وابنوا للخراب". ولم يعلموا أن لام العاقبة إنما تصح ممن يكون جاهلا بعاقبة فعله كفرعون الذي لم يكن يدري ما ينتهي إليه أمر موسى، أو ممن يكون عاجزا عن رد عاقبة فعله، كعجز بني آدم عن دفع الموت عن أنفسهم والخراب عن ديارهم، فأما من هو بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وهو مريد لكل ما خلق: فيمتنع في حقه لام العاقبة التي تتضمن نفي العلم أو نفي القدرة. (¬2) تاج الدين الفاكهاني (¬3) (731 هـ) تاج الدين عمر بن عالم بن سالم اللخمي الإسكندري العلامة النحوي والفقيه المالكي. سمع علي بن طرخان والمكين الأسمر وعتيق العمري. ولد سنة أربع وخمسين وستمائة. قال ابن فرحون: وكان فقيها فاضلا، متفننا في الحديث، والفقه، والأصول، والعربية والأدب، وكان على حظ وافر من الدين المتين، والصلاح العظيم، واتباع السلف الصالح، حسن الأخلاق، صحب جماعة من الأولياء، وتخلق بأخلاقهم، وتأدب بآدابهم وحج غير مرة، وحدث ببعض مصنفاته. وقال البرزالي: رجل جيد كثير البر والتودد والتواضع من بيت كبير. توفي رحمه الله سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة. ¬

(¬1) القصص الآية (8). (¬2) مجموع الفتاوى (17/ 99 - 101). (¬3) الديباج المذهب (2/ 80) والدرر الكامنة (3/ 178 - 179) وشذرات الذهب (6/ 96 - 97).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: بدعة المولد النبوي: له رسالة لطيفة في هذه البدعة سماها 'المورد في عمل المولد' وهي مطبوعة بتحقيق أبي الحارث الحلبي. وهذا نصها، قال الفاكهاني رحمه الله: الحمد لله الذي هدانا لاتباع سيد المرسلين، وأيدنا بالهداية إلى دعائم الدين، ويسر لنا اقتفاء آثار السلف الصالحين، حتى امتلأت قلوبنا بأنوار علم الشرع وقواطع الحق المبين، وطهر سرائرنا من حدث الحوادث والابتداع في الدين. أحمده على ما من به من أنوار اليقين، وأشكره على ما أسداه من التمسك بالحبل المتين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - عبده ورسوله، سيد الأولين والآخرين، - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، صلاة دائمة إلى يوم الدين. أما بعد: فقد تكرر سؤال جماعة من المباركين عن الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول، ويسمونه المولد: هل له أصل في الدين؟؟ وقصدوا الجواب عن ذلك مبينا، والإيضاح عنه معينا. فقلت وبالله التوفيق: لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين. بل هو بدعة، أحدثها البطالون، وشهوة نفس اغتنى بها الأكالون، بدليل أنا إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة قلنا: إما أن يكون واجبا، أو مندوبا، أو مباحا، أو مكروها، أو محرما.

وهو ليس بواجب إجماعا، ولا مندوبا، لأن حقيقة المندوب: ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه، وهذا لم يأذن فيه الشرع، ولا فعله الصحابة، ولا التابعون، ولا العلماء المتدينون -فيما علمت- وهذا جوابي عنه بين يدي الله تعالى إن عنه سئلت. ولا جائز أن يكون مباحا، لأن الابتداع في الدين ليس مباحا بإجماع المسلمين. فلم يبق إلا أن يكون مكروها، أو حراما، وحينئذ يكون الكلام فيه في فصلين، والتفرقة بين حالين: أحدهما: أن يعمله رجل من عين ماله لأهله وأصحابه وعياله، لا يجاوزون في ذلك الاجتماع على أكل الطعام، ولا يقترفون شيئا من الآثام: فهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة، وشناعة، إذ لم يفعله أحد من متقدمي أهل الطاعة، الذين هم فقهاء الإسلام، وعلماء الأنام، سرج الأزمنة، وزين الأمكنة. والثاني: أن تدخله الجناية، وتقوى به العناية، حتى يعطي أحدهم الشيء ونفسه تتبعه، وقلبه يؤلمه ويوجعه، لما يجد من ألم الحيف، وقد قال العلماء رحمهم الله تعالى: أخذ المال بالحياء كأخذه بالسيف. لا سيما إن انضاف إلى ذلك شيء من الغناء مع البطون الملأى بآلات الباطل، من الدفوف، والشبابات، واجتماع الرجال مع الشباب المرد والنساء الغانيات، إما مختلطات بهن أو مشرفات، والرقص بالتثني والانعطاف، والاستغراق في اللهو ونسيان يوم المخاف.

وكذلك النساء إذا اجتمعن على انفرادهن رافعات أصواتهن بالتهنيك والتطريب في الإنشاد، والخروج في التلاوة والذكر عن المشروع والأمر المعتاد، غافلات عن قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)} (¬1). وهذا الذي لا يختلف في تحريمه اثنان، ولا يستحسنه ذوو المروءة الفتيان. وإنما يحل ذلك بنفوس موتى القلوب، وغير المستقلين من الآثام والذنوب. وأزيدك أنهم يرونه من العبادات، لا من الأمور المنكرات المحرمات. فإنا لله وإنا إليه راجعون، بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ. ولله در شيخنا القشيري رحمه الله تعالى حيث يقول فيما أجازناه: قد عرف المنكر واستنكر الـ وصار أهل العلم في وهدة حادوا عن الحق فما للذي فقلت للأبرار أهل التقى ... لا تنكروا أحوالكم قد أتت ... ـمعروف في أيامنا الصعبه وصار أهل الجهل في رتبه سادوا به فيما مضى نسبه والدين لما اشتدت الكربه نوبتكم في زمن الغربه ولقد أحسن الإمام أبو عمرو بن العلاء رحمه الله تعالى حيث يقول: لا يزال الناس بخير ما تعجب من العجب. هذا مع أن الشهر الذي ولد فيه - صلى الله عليه وسلم - وهو ربيع الأول هو بعينه الشهر ¬

(¬1) الفجر الآية (14).

الذي توفي فيه، فليس الفرح بأولى من الحزن فيه. وهذا ما علينا أن نقول، ومن الله تعالى نرجو حسن القبول. التعليق: هذه البدعة التي أحدثها الروافض ومن كان على شاكلتهم حاربها علماء السلف في كل وقت، وسيمر بنا إن شاء الله بعضهم، وكلام هذا الإمام يستحق أن يكتب بماء الذهب، حيث ذكر أن هذا المولد لا أصل له في دين الله إن خلا من المظاهر الشركية ومن سائر المحرمات؛ من أكل مال بالباطل، ومن وجود اختلاط، ومن وجود زنا ولواط، وتغن بالفحش. ومن زابور هذه المواسم ما يقول صاحبه مخاطبا النبي - صلى الله عليه وسلم -: فإن من جودك الدنيا وضرتها يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ... ومن علومك علم اللوح والقلم سواك عند حلول الحادث العمم وقوله: هذه علتي وأنت طبيبي ... ليس يخفى عليك في القلب داء وقوله: وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من ... لولاه لم تخرج الدنيا من العدم وهكذا لو اجتنبت الصلوات المصحوبة بالشرك، التي يصفون فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأوصاف شركية، لو قام - صلى الله عليه وسلم - من قبره لقاتلهم كما كان يقاتل المشركين أعداء الله، لكان الحكم في ذلك كما ذكر هذا الإمام.

إبراهيم بن عمر الجعبري (732 هـ)

إبراهيم بن عمر الجُعْبُرِي (¬1) (732 هـ) إبراهيم بن عمر بن إبراهيم بن خليل بن أبي العباس، الشيخ العلامة، برهان الدين الجعبري، أبو إسحاق السلفي بفتحتين نسبة إلى طريقة السلف. ولد سنة أربعين وستمائة بقلعة جعبر. تلا ببغداد بالسبع على أبي الحسن الوجوهي، وقرأ على تاج الدين بن يونس وغيرهما. اشتغل ببغداد، وقدم دمشق وأقام ببلد الخليل نحو أربعين سنة. قال عنه ابن كثير: كان من المشايخ المشهورين بالفضائل والرياسة والخير والديانة والعفة والصيانة. وقال الذهبي: كان ساكنا وقورا ذكيا واسع العلم. صنف في القراءات والحديث والأصول والعربية والتاريخ وغير ذلك. توفي رحمه الله في رمضان سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة. وكان يكتب بخطه -السَّلَفِي- فسئل عن ذلك: فقال بالفتح نسبة إلى طريق السلف. (¬2) موقفه من المشركين: قال شيخ الإسلام رحمه الله في مجموع الفتاوى: وحدثني تاج الدين الأنباري، الفقيه المصري الفاضل، أنه سمع الشيخ إبراهيم الجعبري يقول: رأيت ابن عربي شيخا مخضوب اللحية، وهو شيخ نجس، يكفر بكل كتاب أنزله الله، وكل نبي أرسله الله ... وحدثني عن الشيخ إبراهيم الجعبري: أنه ¬

(¬1) معجم شيوخ الذهبي (116 - 117) والبداية والنهاية (14/ 167 - 168) وغاية النهاية (1/ 21) وفوات الوفيات (1/ 39) والدرر الكامنة (1/ 50) والوافي بالوفيات (6/ 73 - 76) ومعرفة القراء (2/ 743). (¬2) انظر الدرر الكامنة (1/ 51).

عبد الرحمن القرامزي (732 هـ)

حضر ابن الفارض عند الموت وهو ينشد: إن كان منزلي في الحب عندكم أمنية ظفرت نفسي بها زمنا ... ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي واليوم أحسبها أضغاث أحلام وحدثني الفقيه الفاضل تاج الدين الأنباري، أنه سمع الشيخ إبراهيم الجعبري يقول: رأيت في منامي ابن عربي، وابن الفارض، وهما شيخان أعميان يمشيان ويتعثران، ويقولان كيف الطريق؟ أين الطريق؟ (¬1) عبد الرحمن القرامزي (¬2) (732 هـ) عبد الرحمن بن أبي محمد بن سلطان القرامزي الفقيه العابد أبو محمد وأبو الفرج. ولد سنة أربع وأربعين وستمائة تقريبا، وقرأ بالراويات على الشيخ، الصقلي، وسمع من ابن عبد الدائم وابن النشبي والمجد بن عساكر وجماعة، وتفقه في المذهب، ثم تزهد وأقبل على العبادة والطاعة، وملازمة الجامع، وكثرة الصلوات به، واشتهر بذلك، وصار له قبول وقدر عند الأكابر. موقفه من المشركين: جاء في ذيل طبقات الحنابلة: وكان قوي النفس لا يقوم لأحد. وله محبون. ومن حسناته أنه كان من اللعانين للاتحادية. (¬3) ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (2/ 246). (¬2) طبقات الحنابلة (2/ 416) والدرر الكامنة (2/ 346) ومعجم شيوخ الذهبي (1/ 380 - 381) والمقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد (2/ 109). (¬3) (4/ 416).

بدر الدين بن جماعة (733 هـ)

بدر الدين بن جماعة (¬1) (733 هـ) العالم شيخ الإسلام بدر الدين أبو عبد الله بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الحموي ثم المصري الشافعي. ولد سنة تسع وثلاثين وستمائة. روى عن جملة من الأئمة منهم: الرشيد العطار وابن عزون، وابن أبي اليسر، وأجاز له جماعة منهم ابن سلمة وابن البرادعي. سمع الحديث واشتغل بالعلم، وحصل علوما متعددة، وتقدم وساد أقرانه، وكان قوي المشاركة في علوم الحديث والفقه والأصول والتفسير. تولى القضاء ومناصب أخرى. من أشعاره: أعم خلائق الإنسان نفعا ... وأقربها إلى ما فيه راحه أداء أمانة وعفاف نفس ... وصدق مقالة وسماح راحه توفي رحمه الله سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة. موقفه من المشركين: جاء في العقد الثمين في الرد على ابن عربي من قول ابن جماعة: هذه الفصول المذكورة، وما أشبهها من هذا الباب بدعة وضلالة ومنكر وجهالة، لا يصغي إليها ولا يعرج عليها ذو دين، ثم قال: وحاشا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يأذن في المنام بما يخالف ويعاند الإسلام، بل ذلك من وسواس الشيطان ومحنته وتلاعبه برأيه وفتنته. وقوله في آدم: إنه إنسان العين تشبيه لله تعالى بخلقه. وكذلك قوله الحق المنزه، هو الخلق المشبه، إن أراد بالحق رب العالمين فقد صرح بالتشبيه وتغالى ¬

(¬1) ذيل طبقات الحفاظ (107 - 109) وشذرات الذهب (6/ 105 - 106) والوافي بالوفيات (2/ 18 - 20) وفوات الوفيات (3/ 297 - 298) والبداية والنهاية (14/ 171) وطبقات الشافعية للسبكي (5/ 230 - 232).

ابن سيد الناس (734 هـ)

فيه. وأما إنكاره ما ورد في الكتاب والسنة من الوعيد فهو كافر به عند علماء أهل التوحيد، وكذلك قوله في قوم نوح وهود، قول لغو باطل مردود. وإعدام ذلك وما شابه هذه الأبواب من نسخ هذا الكتاب من أوضح طرق الصواب، فإنها ألفاظ مزوقة وعبارات عن معان غير محققة. وإحداث في الدين ما ليس منه. فحكمه رده والإعراض عنه. (¬1) ابن سيد الناس (¬2) (734 هـ) محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن سيد الناس الشيخ الإمام العلامة الحافظ المحدث الأديب الناظم الناثر فتح الدين أبو الفتح، كان حافظا بارعا أديبا متفننا بليغا، حسن المحاورة، لطيف العبارة، فصيح الألفاظ، كامل الأدوات، جيد الفكرة، صحيح الذهن، لا تمل محاضرته. ولد في رابع عشر ذي القعدة سنة إحدى وسبعين وستمائة. وشيوخه كثر، منهم: أبو الفتح بن دقيق العيد، وأبو الحسن الغرافي وبهاء الدين بن النحاس. ومن تلاميذه المسند أبو الفرج الغزي، وصلاح الدين الصفدي، وأم محمد رقية ابنة علي، وغيرهم. قال البرزالي: كان أحد الأعيان معرفة وإتقانا وحفظا للحديث، وتفهما في علله، وأسانيده، عالما بصحيحه وسقيمه، مستحضرا للسيرة، له حظ في العربية، حسن التصنيف. قال ابن ناصر: كان إماما، حافظا عجيبا، ¬

(¬1) العقد الثمين (2/ 283 - 284). (¬2) شذرات الذهب (6/ 108 - 109) وطبقات الشافعية للسبكي (6/ 29 - 31) والدرر الكامنة (4/ 208 - 213) والوافي بالوفيات (1/ 289 - 311) والبداية والنهاية (14/ 178) وذيل طبقات الحفاظ (16 - 18).

موقفه من المبتدعة:

مصنفا، بارعا، شاعرا أديبا. توفي رحمه الله في يوم السبت حادي عشر شعبان سنة أربع وثلاثين وسبعمائة. موقفه من المبتدعة: له من الآثار السلفية: العقيدة السلفية الموضوعة على الآي والأخبار والاقتفاء بالآثار النبوية. ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية. (¬1) محمد بن محمد بن الحاج (¬2) (737 هـ) محمد بن محمد، أبو عبد الله العبدري الفاسي نزيل مصر. يعرف بابن الحاج، واشتهر بالزهد والورع، وكان فقيها عارفا بمذهب مالك. أخذ العلم عن أعلام منهم: أبو إسحاق المطماطي، وصحب أبا محمد بن أبي جمرة وانتفع به. وأخذ عنه الشيخ عبد الله المنوفي والشيخ خليل وغيرهما. صنف كتاب المدخل إلى تنمية الأعمال بتحسين النيات، وبين فيه البدع المختلفة والعوائد المنتحلة، لكنه للأسف وقع في ما حذر منه، وجوز بعض البدع الشركية، كزيارة القبور، والتوسل بالأولياء، وطلب تفريج الكربات عند زيارة قبور الصالحين، والتوسل بذات النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد نبه على مواضع هذه البدع في المدخل الشيخ الفاضل محمد بن عبد الرحمن الخميس في رسالة قيمة بعنوان: المنخل لغربلة خرافات ابن الحاج في المدخل. توفي ابن الحاج بالقاهرة ¬

(¬1) (14/ 178). (¬2) مقدمة المدخل (1/ 2) وشجرة النور الزكية (1/ 218) والديباج (2/ 321).

موقفه من المبتدعة:

سنة سبع وثلاثين وسبعمائة. موقفه من المبتدعة: له من الآثار ما ذكر في الترجمة: المدخل إلى تنمية الأعمال بتحسين النيات وهو مطبوع طبعات متعددة، وفي وقت مبكر، وفيه ما يستفاد منه غير أنه فيه ما يحذر منه، ففيه كما ذكرت آنفا من دعوات صريحة إلى بعض البدع المنكرة لا سيما بدع القبورية وخرافاتهم وشركياتهم، فليكن القارئ منه على حذر، فإن الكتاب مشهور في الأوساط العلمية. وقد تتبعه -كما ذكرت- أخونا الفاضل محمد بن عبد الرحمن الخميس، وأبان المواطن التي ينبغي أن تُحْذَرَ منه، في جزء صغير سماه 'المنخل لغربلة خرافات ابن الحاج في المدخل' وأتبع كل خرافة بما يناسب من التعليق فجزاه الله خيرا، ورأيت أن أورد هنا من هذه الخرافات شاهدا على ما قلنا: جاء في المدخل: وكذلك يدعو عند هذه القبور عند نازلة نزلت به أو بالمسلمين، ويتضرع إلى الله تعالى في زوالها وكشفها عنه وعنهم. وهذه صفة زيارة القبور عموما، فإن كان الميت المزار ممن ترجى بركته، فيتوسل إلى الله تعالى به، وكذلك يتوسل الزائر بمن يراه الميت (¬1) ممن ترجى بركته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل يبدأ بالتوسل إلى الله تعالى بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ هو العمدة في التوسل، والأصل في هذا كله، والمشرع له، فيتوسل به - صلى الله عليه وسلم - وبمن تبعه بإحسان إلى يوم الدين. (¬2) ¬

(¬1) هكذا بالأصل. (¬2) المدخل (1/ 248).

وقال: ... ثم يتوسل بتلك المقابر، أعني بالصالحين منهم في قضاء حوائجه، ومغفرة ذنوبه، ثم يدعو لنفسه ولوالديه ولمشايخه ولأقاربه ولأهل تلك المقابر ولأموات المسلمين ولأحيائهم وذريتهم إلى يوم الدين، ولمن غاب عنه من إخوانه، ويجأر إلى الله تعالى بالدعاء عندهم، ويكثر التوسل بهم إلى الله تعالى، لأنه سبحانه وتعالى اجتباهم وشرفهم وكرمهم، فكما نفع بهم في الدنيا ففي الآخرة أكثر. فمن أراد حاجة فليذهب إليهم ويتوسل بهم، فإنهم الواسطة بين الله تعالى وخلقه. (¬1) وقال: ثم نرجع إلى ما كنا بسبيله من زيارة القبور فيما ذكر من الآداب، وهو في زيارة العلماء والصلحاء ومن يتبرك بهم. وأما عظيم جناب الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فيأتي إليهم الزائر ويتعين عليه قصدهم من الأماكن البعيدة، فإذا جاء إليهم فليتصف بالذل والانكسار والمسكنة والفقر والفاقة والحاجة والاضطرار والخضوع، ويحضر قلبه وخاطره إليهم، وإلى مشاهدتهم بعين قلبه لا بعين بصره، لأنهم لا يبلون ولا يتغيرون، ثم يثني على الله تعالى بما هو أهله، ثم يصلي عليهم ويترضى عن أصحابهم، ثم يترحم على التابعين بإحسان إلى يوم الدين، ثم يتوسل إلى الله تعالى بهم في قضاء مآربه ومغفرة ذنوبه، ويستغيث بهم ويطلب حوائجه منهم، ويجزم بالإجابة ببركتهم، ويقوي حسن ظنه في ذلك فإنهم باب الله المفتوح. وجرت سنته سبحانه وتعالى في قضاء الحوائج على أيديهم وبسببهم، ¬

(¬1) المدخل (1/ 249).

السلطان الناصر محمد بن قلاوون (741 هـ)

ومن عجز عن الوصول إليهم، فليرسل بالسلام عليهم، ويذكر ما يحتاج إليه من حوائجه، ومغفرة ذنوبه، وستر عيوبه إلى غير ذلك، فإنهم السادة الكرام، والكرام لا يردون من سألهم، ولا من توسل بهم، ولا من قصدهم، ولا من لجأ إليهم. هذا الكلام في زيارة الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام عموما ... (¬1) وهكذا استرسل الشيخ رحمه الله في هذا الهذيان، الذي أغنانا عنه الأئمة بالبيان، وكشفوا ما فيه من الغلط والانحراف، والمعصوم من عصمه الله، والله المستعان. السلطان الناصر محمد بن قلاوون (¬2) (741 هـ) الملك الناصر محمد بن قلاوون بن عبد الله الصالحي بن المنصور. ولد سنة أربع وثمانين وستمائة. سمع من ست الوزراء وابن الشحنة، ووجدت له إجازة بخط البرزالي من ابن مشرف وعيسى المغاري وجماعة. قال ابن جحر: كان مطاعا مهيبا عارفا بالأمور، يعظم أهل العلم والمناصب الشرعية؛ لا يقرر فيها إلا من يكون أهلا لها، ويتحرى لذلك ويبحث عنه. كانت وفاته في تاسع عشر ذي الحجة سنة إحدى وأربعين سبعمائة ¬

(¬1) المدخل (1/ 251 - 252). (¬2) البداية والنهاية (14/ 202 - 203) وذيل العبر (2/ 431) والدرر الكامنة (4/ 144 - 148) وشذرات الذهب (6/ 134 - 135).

موقفه من المشركين:

بالقلعة، وصلى عليه عزالدين ابن جماعة القاضي. موقفه من المشركين: - جاء في البداية والنهاية: قال البرزالي: وفي نصف شعبان أمر السلطان بتسليم المنجمين إلى والي القاهرة فضربوا وحبسوا لإفسادهم حال النساء، فمات منهم أربعة تحت العقوبة، ثلاثة من المسلمين ونصراني، وكتب إلي بذلك الشيخ أبو بكر الرحبي. (¬1) موقف السلف من الدكاكي الزنديق (741 هـ) إدعاؤه الإلهية وتنقصه الأنبياء: - قال ابن كثير: وفي يوم الثلاثاء سلخ شهر شوال، عقد مجلس في دار العدل بدار السعادة، وحضرته يومئذ واجتمع القضاة والأعيان على العادة، وأحضر يومئذ عثمان الدكاكي قبحه الله تعالى، وادعي عليه بعظائم من القول لم يؤثر مثلها عن الحلاج ولا عن ابن أبي العزاقر الشلمغاني، وقامت عليه البينة بدعوى الإلهية لعنه الله، وأشياء أخر من التنقيص بالأنبياء ومخالطته أرباب الريب من الباجريقية وغيرهم من الاتحادية عليهم لعائن الله، ووقع منه في المجلس من إساءة الأدب على القاضي الحنبلي وتضمن ذلك تكفيره من المالكية أيضا، وادعى أن له دوافع وقوادح في بعض الشهود، فرد إلى السجن ¬

(¬1) البداية والنهاية (14/ 169).

أبو الحجاج جمال الدين المزي (742 هـ)

مقيدا مغلولا مقبوحا، أمكن الله منه بقوته وتأييده، ثم لما كان يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من ذي القعدة أحضر عثمان الدكاكي المذكور إلى دار السعادة، وأقيم بين يدي الأمراء والقضاة وسئل عن القوادح في الشهود فعجز فلم يقدر، وعجز عن ذلك فتوجه عليه الحكم، فسئل القاضي المالكي الحكم عليه، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ثم حكم بإراقة دمه وإن تاب، فأخذ المذكور فضربت رقبته بدمشق بسوق الخيل، ونودي عليه: هذا جزاء من يكون على مذهب الاتحادية، وكان يوما مشهودا بدار السعادة، حضر خلق من الأعيان والمشايخ، وحضر شيخنا جمال الدين المزي الحافظ، وشيخنا الحافظ شمس الدين الذهبي، وتكلما وحرضا في القضية جدا، وشهدا بزندقة المذكور بالاستفاضة، وكذا الشيخ زين الدين أخو الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وخرج القضاة الثلاثة المالكي والحنفي والحنبلي، وهم نفذوا حكمه في المجلس فحضروا قتل المذكور، وكنت مباشرا لجميع ذلك من أوله إلى آخره. (¬1) أبو الحجاج جمال الدين المِزِّي (¬2) (742 هـ) يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ الفريد الرحلة، إمام المحدثين جمال الدين أبو الحجاج المزي بن الزكي ¬

(¬1) البداية (14/ 201 - 202). (¬2) أعيان العصر (4/ 2209 - 2215) والدرر الكامنة (4/ 457) وتذكرة الحفاظ (4/ 1498) وشذرات الذهب (6/ 136 - 137) والبداية والنهاية (14/ 203 - 204) وفهرست الفهارس (1/ 107) وفوات الوفيات (4/ 353 - 355) وطبقات الشافعية للسبكي (6/ 251 - 267).

موقفه من المبتدعة:

القضاعي الكلبي الحلبي المولد، خاتمة الحفاظ ناقد الأسانيد والألفاظ. ولد في عاشر شهر ربيع الآخر سنة أربع وخمسين وستمائة. حفظ القرآن في صباه وتفقه للشافعي مدة وعني بشيء من الأصول. سمع أصحاب طبرزد والكندي وابن الحرستاني. سمع منه شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني، وابن سيد الناس والذهبي، وغيرهم. وبه تخرج علم الدين البرزالي وابن عبد الهادي وعلاء الدين مغلطاي وآخرون. قال الصفدي: كان شيخنا الحجة جمال الدين أبو الحجاج شيخ الزمان، وحافظ العصر وناقد الأوان، لو عاصره ابن ماكولا، كان له مشروبا ومأكولا، وجعل هذا الأمر إليه موكولا. وقال أيضا ناقلا عن شيخه ابن سيد الناس في حق المزي: ووجدت بدمشق الإمام المعظم والحاكم الذي فاق من تأخر من أقرانه ومن تقدم، أبا الحجاج المزي بحر هذا العلم الزاخر، القائل من رآه كم ترك الأوائل للأواخر، أحفظ الناس للتراجم، وأعلم الناس بالرواة من أعارب وأعاجم، لا يخص بمعرفته مصرا دون مصر، ولا يتفرد علمه بأهل عصر دون عصر، معتمدا آثار السلف الصالح، مجتهدا فيما نيط به في حفظ السنة من النصائح، معرضا عن الدنيا وأشباهها. توفي رحمه الله في ثاني عشر شهر صفر سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة. موقفه من المبتدعة: - قال عنه الذهبي: وكان مأمون الصحبة، حسن المذاكرة، خيِّر الطوية، محبا للآثار، معظما لطريقة السلف، جيد المعتقد، وكان اغتر في شبيبته وصحب العفيف التلمساني، فلما تبين له ضلاله هجره، وتبرأ منه،

موقفه من المشركين:

وكان أوذي مرة واختفى بسبب إسماعه لتاريخ الخطيب، وأوذي أخرى بسبب قراءته كتاب خلق أفعال العباد. (¬1) موقفه من المشركين: - جاء في تذكرة الحفاظ: وقد لزم في وقت صحبة العفيف التلمساني فلما تبين له انحلاله واتحاده تبرأ منه وحط عليه. (¬2) موقفه من الجهمية: جاء في الدرر الكامنة: قال الذهبي: وكان يترخص في الأداء من غير الأصل ويصلح من حفظه. ويسامح في دمج القارئ ولغط السامعين ويعتمد في ذلك الإجازة. وكان يتمثل بقول ابن منده: يكفيك من الحديث شمه. وأوذي مرة في سنة خمس بعد السبعمائة بسبب ابن تيمية، لأنه لما وقعت المناظرة له مع الشافعية وبحث مع الصفي الهندي ثم ابن الزملكاني بالقصر الأبلق، شرع المزي يقرأ كتاب خلق أفعال العباد للبخاري، وفيه فصل في الرد على الجهمية، فغضب بعض وقالوا: نحن المقصودون بهذا، فبلغ ذلك القاضي الشافعي يومئذ فأمر بسجنه، فتوجه ابن تيمية وأخرجه من السجن، فغضب النائب فأعيد، ثم أفرج عنه، وأمر النائب وهو الأفرم بأن ينادي بأن من يتكلم في العقائد يقتل. (¬3) ¬

(¬1) ذكره ابن حجر في الدرر الكامنة (4/ 461) والصفدي في أعيان العصر (4/ 2212). (¬2) تذكرة الحفاظ (4/ 1499). (¬3) الدرر الكامنة (4/ 458). انظر السير (17/ 551) طبعة دار الفكر.

محمد بن عبد الهادي (744 هـ)

محمد بن عبد الهادي (¬1) (744 هـ) الإمام الأوحد، الحافظ ذو الفنون شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي الجماعلي الأصل، ثم الصالحي، الحنبلي. ولد في شهر رجب سنة خمس وسبعمائة. من شيوخه القاضي تقي الدين أبو الفضل المقدسي وابن عبد الدائم، وسعد الدين بن سعد، وشيخ الإسلام ابن تيمية والمزي. ومن تلاميذه إسماعيل بن يوسف المقرئ وشمس الدين محمد بن المحب الصالحي المعروف بالصامت ومحمد بن علي الطوسي، وزين الدين العراقي. قال الصفدي: الإمام القاضي المفنن الذكي النحرير شمس الدين الحنبلي ... كان ذهنه صافيا وفكره بالمعضلات وافيا، جيد المباحث، أطرب في نقله من المثاني والمثالث، صحيح الانتقاد، مليح الأخذ والإيراد. وقال ابن كثير: الإمام العلامة الناقد البارع في فنون العلوم شمس الدين ... حصل من العلوم ما لا يبلغه الشيوخ الكبار، وتفنن في الحديث والنحو والتصريف والفقه والتفسير والأصلين والتاريخ والقراءات، وله مجاميع وتعاليق مفيدة كثيرة، وكان حافظا جيدا لأسماء الرجال وطرق الحديث، عارفا بالجرح والتعديل، بصيرا بعلل الحديث، حسن الفهم له، جيد المذاكرة صحيح الذهن، مستقيما على طريقة السلف واتباع الكتاب والسنة، مثابرا على فعل الخيرات. توفي رحمه الله سنة أربع وأربعين وسبعمائة. ¬

(¬1) شذرات الذهب (6/ 141) والبداية والنهاية (14/ 221 - 222) والوافي بالوفيات (2/ 161 - 162) وأعيان العصر (3/ 1547 - 1548) والدرر الكامنة (3/ 331 - 332) والبدر الطالع (2/ 108 - 109).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: هذا الإمام العَلَم على قصر عمره نهل علما غزيرا، وكان رحمه الله سيفا مسلولا على المبتدعة، وقد تصدى لأكبر مبتدع في عصره ألا وهو السبكي، بل وألف في الرد عليه كتابا مستقلا أسماه الصارم المنكي -فأزعج به المبتدعة الأقدمين والمحدثين، حتى إنهم لخبثهم وحقدهم الدفين حاولوا مناقشة كلمة "المنكي"- وهو من الكتب السلفية التي لو كتبت بماء الذهب لَعُدَّ في حقها رخيصا، لما حواه في طياته من بيان لخبث المبتدعة عموما وحيلهم ومكرهم وتمويهاتهم، وهو مطبوع بحمد الله. - قال في مطلعه: أما بعد: فإني وقفت على الكتاب الذي ألفه بعض قضاة الشافعية في الرد على شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية في مسألة شد الرحال وإعمال المطيّ إلى القبور، وذكر أنه كان قد سماه 'شن الغارة على من أنكر سفر الزيارة' ثم زعم أنه اختار أن يسميه 'شفاء السقام في زيارة خير الأنام' فوجدت كتابه مشتملاً على تصحيح الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وتقوية الآثار الواهية والمكذوبة، وعلى تضعيف الأحاديث الصحيحة الثابتة والآثار القوية المقبولة وتحريفها عن مواضعها وصرفها عن ظاهرها بالتأويلات المستنكرة المردودة. ورأيت مؤلف هذا الكتاب المذكور رجلاً ممارياً معجباً برأيه متبعاً لهواه، ذاهباً في كثير مما يعتقده إلى الأقوال الشاذة والآراء الساقطة، صائراً في أشياء مما يعتمده إلى الشبه المخيلة والحجج الداحضة، وربما خرق الإجماع في مواضع لم يسبق إليها ولم يوافقه أحد من الأئمة عليها.

وهو في الجملة لون عجيب وبناء غريب؛ تارة يسلك فيما ينصره ويقويه مسلك المجتهدين، فيكون مخطئاً في ذلك الاجتهاد، ومرة يزعم فيما يقوله ويدعيه أنه من جملة المقلدين، فيكون من قلده مخطئاً في ذلك الاعتقاد، نسأل الله سبحانه أن يلهمنا رشدنا ويرزقنا الهداية والسداد. (¬1) - إلى أن قال: فلما وقفت على هذا الكتاب المذكور أحببت أن أنبه على ما وقع فيه من الأمور المنكرة والأشياء المردودة؛ وخلط الحق بالباطل لئلا يغتر بذلك بعض من يقف عليه ممن لا خبرة له بحقائق الدين، مع أن كثيراً مما فيه من الوهم والخطأ يعرفه خلق من المبتدئين في العلم بأدنى تأمل ولله الحمد، ولو نوقش مؤلف هذا الكتاب على جميع ما اشتمل عليه من الظلم والعدوان والخطأ والخبط والتخليط والغلو والتشنيع والتلبيس، لطال الخطاب، ولبلغ الجواب مجلدات، ولكن التنبيه على القليل مرشد إلى معرفة الكثير لمن له أدنى فهم والله المستعان. (¬2) - وقال: أن تعظيمه - صلى الله عليه وسلم - هو موافقته في محبة ما يحب وكراهة ما يكره، والرضا بما يرضى به، وفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، والمبادرة إلى ما رغب فيه والبعد عما حذر منه، وأن لا يتقدم بين يديه ولا يقدم على قوله قول أحد سواه، ولا يعارض ما جاء به بمعقول، ثم يقدم المعقول عليه كما يقوله أئمة هذا المعترض الذين تلقى عنهم أصول دينه، وقدم آراءهم وهو أحسن ظنونهم على كلام الله ورسوله. ثم ينسب ورثة الرسول الواقفين مع ¬

(¬1) الصارم المنكي في الرد على السبكي (ص.6 - 7). (¬2) الصارم المنكي (ص.9).

أقواله المخالفين لما خالفها إلى ترك التعظيم، وأي إخلال بتعظيم، وأي تنقص فوق من عزل كلام الرسول عن إفادة اليقين، وقدم عليه آراء الرجال، وزعم أن العقل يعارض ما جاء به، وأن الواجب تقديم المعقول، وآراء الرجال على قوله. (¬1) - إلى أن قال: أن هذا الذي يفعله عباد القبور من المقاصد والوسائل ليس بتعظيم، فإن التعظيم محله القلب واللسان والجوارح، وهم أبعد الناس منه، فالتعظيم بالقلب ما يتبع اعتقاد كونه رسولاً من تقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين ويصدق هذه المحبة أمران. أحدهما: تجريد التوحيد، فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان أحرص الخلق على تجريده حتى قطع أسباب الشرك ووسائله من جميع الجهات، ونهى عن عبادة الله بالتقرب إليه بالنوافل من الصلوات في الأوقات التي يسجد فيها عباد الشمس لها، بل قبل ذلك الوقت بعد أن تصلى الصبح والعصر لئلا يتشبه الموحدون بهم في وقت عبادتهم، ونهى أن يقال: ما شاء الله وشاء فلان؛ ونهى أن يحلف بغير الله، وأخبر أن ذلك شرك ونهى أن يصلى إلى القبر، أو يتخذ مسجداً، أو عيداً، أو يوقد عليها سراج، وذم من شرك بين اسمه واسم ربه تعالى في لفظ واحد، فقال له: بئس الخطيب أنت، بل مدار دينه على هذا الأصل الذي هو قطب رحى النجاة، ولم يقرر أحد ما قرره - صلى الله عليه وسلم - بقوله وفعله وهديه، وسد الذرائع المنافية له، فتعظيمه - صلى الله عليه وسلم - بموافقته على ذلك لا بمناقضته فيه. ¬

(¬1) الصارم المنكي (ص.339).

الثاني: تجريد متابعته وتحكيمه وحده في الدقيق والجليل من أصول الدين وفروعه والرضا بحكمه والانقياد له والتسليم والإعراض عمن خالفه وعدم الالتفات إليه حتى يكون وحده الحاكم المتبع المقبول قوله، كما كان ربه تعالى وحده المعبود المألوه المخوف المرجو المستغاث به المتوكل عليه الذي إليه الرغبة والرهبة؛ وإليه الوجهة والعمل الذي يؤمل وحده لكشف الشدائد وتفريج الكربات ومغفرة الذنوب؛ الذي خلق الخلق وحده ورزقهم وحده وأحياهم وحده، وأماتهم وحده ويبعثهم وحده ويغفر ويرحم ويهدي ويضل ويسعد ويشقي وحده، وليس لغيره من الأمر شيء كائناً من كان بل الأمر كله لله ... فهذا هو التعظيم الحق المطابق لحال المعظم النافع للمعظم في معاشه ومعاده الذي هو لازم إيمانه وملزومه؛ وأما التعظيم باللسان فهو الثناء عليه بما هو أهله مما أثنى به على نفسه، وأثنى به عليه ربه من غير غلو ولا تقصير؛ فكما أن المقصر المفرط تارك لتعظيمه، فالغالي المفرط كذلك، وكل منهما شر من الآخر من وجه دون وجه؛ وأولياؤه سلكوا بين ذلك قواماً؛ وأما التعظيم بالجوارح فهو العمل بطاعته والسعي في إظهار دينه، وإعلاء كلماته ونصر ما جاء به وجهاد ما خالفه. وبالجملة: فالتعظيم النافع هو تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والموالاة والمعاداة والحب والبغض لأجله وفيه وتحكيمه وحده والرضا بحكمه، وأن لا يتخذ من دونه طاغوت يكون التحاكم إلى أقواله: فما وافقها من قول الرسول قبله وما خالفها رده أو تأوله، أو أعرض عنه، والله سبحانه

يشهد وكفى به شهيداً وملائكته ورسله وأولياؤه أن عباد القبور وخصوم الموحدين ليسوا كذلك، وهم يشهدون على أنفسهم بذلك. وما كان لهم أن ينصروا دينه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - شاهدين على أنفسهم بتقديم آراء شيوخهم، وأقوال متبوعهم على قوله؛ وأنه لا يستفاد من كلامه يقين؛ وأنه إذا عارضه الرجال قدمت عليه؛ وكان الحكم ما تحكم به؛ أفلا يستحي من الله من العقلاء من هذا حاله في أصول دينه وفرعه أن يتستر بتعظيم القبر ليوهم الجهال أنه معظم لرسوله ناصر له منتصر له ممن ترك تعظيمه وتنقصه؛ ويأبى الله ذلك ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)} (¬1)، {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)} (¬2).اهـ (¬3) ومن كتبه السلفية كذلك: - 'طبقات الحفاظ'، لا يزال مخطوطا. - 'العقود الدرية في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية'، وقد طبع بتحقيق الشيخ حامد الفقي رحمه الله. ¬

(¬1) الأنفال الآية (34). (¬2) التوبة الآية (105). (¬3) الصارم المنكي (ص.341 - 343).

موقفه من المشركين:

موقفه من المشركين: - قال رحمه الله ضمن رده على السبكي: والذين يقصدون الحج إلى قبره وقبر غيره ويدعونهم ويتخذونهم أندادا من أهل معصيته ومخالفته لا من أهل طاعته وموافقته، فهم في هذا الفعل من جنس أعدائه لا من جنس أوليائه، وإن ظنوا أن هذا من موالاته ومحبته كما يظن النصارى أن ما هم عليه من الغلو في المسيح والتبرك به من جنس محبته وموالاته، وكذلك دعاؤهم للأنبياء الموتى كإبراهيم وموسى وغيرهما عليهم السلام، ويظنون أن هذا من محبتهم وموالاتهم، وإنما هو من جنس معاداتهم، ولهذا يتبرؤون منهم يوم القيامة. وكذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتبرأ ممن عصاه، وإن كان قصده تعظيمه والغلو فيه، قال تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216)} (¬1) فقد أمر الله المؤمنين أن يتبرؤوا من كل معبود غير الله ومن كل من عبده، قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا ¬

(¬1) الشعراء الآيات (214 - 216).

بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (¬1) وكذلك سائر الموتى ليس في مجرد رؤية قبورهم ما يوجب لهم زيادة المحبة إلا لمن عرف أحوالهم بدون ذلك فيتذكر أحوالهم فيحبهم، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يذكر المسلمون أحواله ومحاسنه وفضائله، وما من الله به عليه، وما من على أمته، فبذلك يزداد حبهم له وتعظيمهم له، لا بنفس رؤية القبر. ولهذا تجد العاكفين على قبور الأنبياء والصالحين من أبعد الناس عن سيرتهم ومتابعتهم، وإنما قصد جمهورهم التأكل والترأس بهم، فيذكرون فضائلهم ليحصل لهم بذلك رئاسة، أو مأكلة لا ليزدادوا هم حبا وخيرا. وفي مسند الإمام أحمد وصحيح أبي حاتم عن ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد» (¬2). وما ذكره هذا من فضائله فبعض ما يستحقه - صلى الله عليه وسلم -، والأمر فوق ما ذكره أضعافا مضاعفة، لكن هذا يوجب إيماننا به وطاعتنا له، واتباع سنته والتأسي به، والاقتداء به ومحبتنا له وتعظيمنا له، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، فإن هذا هو طريق النجاة والسعادة، وهو سبيل الحق ووسيلتهم إلى الله تعالى، ليس في هذا ما يوجب معصيته ومخالفة أمره، والشرك بالله واتباع غير سبيل ¬

(¬1) الممتحنة الآية (4). (¬2) أحمد (1/ 405) وابن حبان (6/ 94/2325) وابن خزيمة (2/ 6 - 7/ 789) والطبراني (10/ 188/10413) والبزار (4/ 151/3420) من حديث ابن مسعود. وقال الهيثمي في المجمع (2/ 27): "رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن". وقال في موضع آخر (8/ 13): "رواه البزار بإسنادين في أحدهما عاصم بن بهدلة وهو ثقة وفيه ضعف وبقية رجاله رجال الصحيح". وقال ابن تيمية في الاقتضاء (330): "إسناده جيد". والشطر الأول من الحديث رواه البخاري معلقا (13/ 17).

المؤمنين السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان، وهو - صلى الله عليه وسلم - قد قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» (¬1)، وقال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا» (¬2)، وقال: «لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني» (¬3). وقال: «خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» (¬4)، وقال: «إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة» (¬5) إلى غير ذلك من الأدلة التي تبين أن الحجاج إلى القبور هم من المخالفين للرسول - صلى الله عليه وسلم - الخارجين عن شريعته وسنته، لا من الموافقين له المطيعين له. (¬6) - وقال: وقد ذكر العلماء ما ذكره وهب في قصة الخليل وليس فيه شيء من هذا، ولكن أهل الضلال افتروا آثارا مكذوبة على الرسول وعلى الصحابة والتابعين توافق بدعهم، وقد رووا عن أهل البيت وغيرهم من ¬

(¬1) أحمد (2/ 234) والبخاري (3/ 81/1189) ومسلم (2/ 1014/1397) وأبو داود (2/ 529/2033) والنسائي (2/ 368/699) وابن ماجه (1/ 452/1409) من حديث أبي هريرة. (¬2) أخرجه أحمد (6/ 34) والبخاري (1/ 700/435 - 436) ومسلم (1/ 377/531) والنسائي (2/ 370 - 371/ 702) من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهما. (¬3) أنظر تخريجه ضمن مواقف حسين بن مهدي النعيمي سنة (1187هـ). (¬4) أحمد (3/ 310 - 311 و319 و371) ومسلم (2/ 592/867) والنسائي (3/ 209 - 210/ 1577) وابن ماجه (1/ 17/45) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (¬5) أحمد (4/ 126) وأبو داود (5/ 13/4607) والترمذي (5/ 43/2676) وقال: "حسن صحيح". وابن ماجه (1/ 16/43) والحاكم (1/ 95 - 96) وقال: "صحيح ليس له علة" ووافقه الذهبي .. (¬6) الصارم المنكي (75 - 77).

الأكاذيب ما لا يتسع هذا الموضع لذكره، وغرض أولئك الحج إلى قبر علي، أو الحسين، أو إلى قبور الأئمة كموسى والجواد، وغيرهما من الأئمة الأحد عشر، فإن الثاني عشر دخل السرداب عندهم، وهو حي إلى الآن ينتظر، ليس لهم غرض في الحج إلى قبر الخليل، وهؤلاء من جنس المشركين الذين فرقوا دينهم، وكانوا شيعا، فلكل قوم هدى يخالف هدى الآخرين قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)} (¬1). وهؤلاء تارة يجعلون الحج إلى قبورهم أفضل من الحج، وتارة نظير الحج، وتارة بدلا عن الحج. (¬2) - وقال: والمقصود هنا أن نعرف ما كان عليه السلف من الفرق بين ما أمر الله به من الصلاة والسلام عليه، وبين سلام التحية الموجب للرد الذي يشترك فيه كل مؤمن حي، ويرد فيه على الكافر، ولهذا كان الصحابة بالمدينة على عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم إذا دخلوا المسجد لصلاة، أو ¬

(¬1) الروم الآيات (30 - 32). (¬2) الصارم المنكي (84).

اعتكاف، أو تعليم، أو تعلم، أو ذكر لله دعاء له ونحو ذلك مما شرع في المساجد لم يكونوا يذهبون إلى ناحية القبر فيزورونه هناك ولا يقفون خارج الحجرة، كما لم يكونوا يدخلون الحجرة أيضا لزيارة قبره، فلم يكن الصحابة بالمدينة يزورون قبره، لا من المسجد خارج الحجرة ولا داخل الحجرة، ولا كانوا أيضا يأتون من بيوتهم لمجرد زيارة قبره، بل هذا من البدع التي أنكرها الأئمة والعلماء، وإن كان الزائر منهم ليس مقصوده إلا الصلاة والسلام عليه، وبينوا أن السلف لم يفعلوها كما ذكره مالك في المبسوط، وقد ذكره أصحابه كأبي الوليد الباجي والقاضي عياض وغيرهما، قيل لمالك: إن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه، يفعلون ذلك أي يقفون على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصلون عليه ويدعون له ولأبي بكر وعمر، يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة والأيام المرة والمرتين، أو أكثر عند القبر يسلمون ويدعون ساعة، فقال: لم يبلغني هذا عن أهل الفقه ببلدنا وتركه واسع، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني هذا عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده. فقد كره مالك رحمه الله هذا وبين أنه لم يبلغه عن أهل العلم بالمدينة، ولا عن صدر هذه الأمة وأولها وهم الصحابة، وإن ذلك يكره لأهل المدينة إلا عند السفر، ومعلوم أن أهل المدينة لا يكره لهم زيارة قبور أهل البقيع وشهداء أحد وغيرهم، بل هم في ذلك ليسوا بدون سائر الأمصار، فإذا لم يكره لأولئك زيارة القبور، بل يستحب لهم زيارتها عند جمهور العلماء، كما

كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل، فأهل المدينة أولى أن لا يكره لهم، بل يستحب لهم زيارة القبور كما يستحب لغيرهم، اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - خص بالمنع شرعا وحسا كما دفن في الحجرة، ومنع الناس من زيارة قبره من الحجرة كما يزار سائر القبور، فيصل الزائر إلى عند القبر، وقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس كذلك، فلا تستحب هذه الزيارة في حقه ولا تمكن، وهذا لعلو قدره وشرفه، لا لكون غيره أفضل منه، فإن هذا لا يقوله أحد من المسلمين، فضلا عن الصحابة والتابعين، وعلماء المسلمين؛ بالمدينة وغيرها. (¬1) - وقال: والمقصود أن الصحابة رضي الله عنهم لم يطمع الشيطان أن يضلهم كما أضل به غيرهم من أهل البدع، الذين تأولوا القرآن على غير تأويله، وجهلوا السنة إذا رأوا أو سمعوا أمورا من الخوارق، فظنوها من جنس آيات الأنبياء والصالحين، وكانت من أفعال الشياطين؛ كما أضل النصارى، وأهل البدع بمثل ذلك، فهم يتبعون المتشابه من الكتاب ويدعون المحكم، ولذلك يتمسكون بالمتشابه من الحجج العقلية والحسية، كما يسمع ويرى أمورا فيظن أنه رحماني، وإنما هو شيطاني، ويدعون البين الحق الذي لا إجمال فيه، ولذلك لم يطمع الشيطان أن يتمثل في صورته، ويغيث من استغاث به، أو أن يحمل إليهم صوتا يشبه صوته، لأن الذين رأوه قد علموا أن هذا شرك لا يحل، ولهذا أيضا لم يطمع فيهم أن يقول أحد منهم لأصحابه: إذا كانت لكم حاجة فتعالوا إلى قبري، ولا تستغيثوا بي لا في محياي ولا في مماتي، كما جرى مثل هذا لكثير من المتأخرين، ولا طمع الشيطان أن يأتي أحدهم ¬

(¬1) الصارم المنكي (115 - 116).

ويقول: أنا من رجال الغيب، أو الأوتاد الأربعة، أو من السبعة أو الأربعين، أو يقول له: أنت منهم، إذ كان هذا عندهم من الباطل الذي لا حقيقة له، ولا طمع الشيطان أن يأتي أحدهم فيقول: أنا رسول الله ويخاطبه عند القبر، كما وقع ذلك لكثير ممن بعدهم عند قبره وقبر غيره وعند غير القبور، كما يقع كثير من ذلك للمشركين، وأهل الكتاب يرون بعد الموت من يعظمونه، فأهل الهند يرون من يعظمونه من شيوخهم الكفار وغيرهم، والنصارى يرون من يعظمونه من الأنبياء والحواريين وغيرهم، والضلال من أهل القبلة يرون من يعظمونه إما النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإما غيره من الأنبياء يقظة ويخاطبهم ويخاطبونه، وقد يستفتونه ويسألونه عن أحاديث فيجيبهم، ومنهم من يخيل له أن الحجرة قد انشقت وخرج منها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعانقه هو وصاحباه، ومنهم من يخيل إليه أنه رفع صوته بالسلام حتى وصل مسيرة أيام إلى مكان بعيد. وهذا وأمثاله أعرف ممن وقع له هذا وأشباهه عددا كثيرا، وقد حدثني بما وقع له في ذلك، وبما أخبر به غيره من الصادقين من يطول هذا الموضع بذكرهم. وهذا موجود عند خلق كثير، كما هو موجود عند النصارى والمشركين، لكن كثير من الناس يكذب بهذا، وكثير منهم إذا صدق به يعتقد أنه من الآيات الإلهية، وأن الذي رأى ذلك رآه لصلاحه ودينه ولم يعلم أنه من الشيطان، وأنه أضل من فعل به ذلك، وأنه بحسب قلة علم الرجل يضله، ومن كان أقل علما قال له: ما يعلم أنه مخالف للشريعة خلافا ظاهرا، ومن عنده علم بها لا يقول له ما يعلم أنه مخالف للشريعة ولا مفيد فائدة في دينه،

بل يضله عن بعض ما كان يعرفه، فإن هذا فعل الشياطين، وهو وإن ظن أنه استفاد شيئا فالذي خسره من دينه أكثر، ولهذا لم يقل قط أحد من الصحابة أن الخضر أتاه ولا موسى ولا عيسى، ولا أنه سمع رد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وابن عمر كان يسلم، ولم يقل قط أنه سمع الرد، وكذلك التابعون وتابعوهم، وإنما حدث هذا في بعض المتأخرين، وكذلك لم يكن أحد من الصحابة يأتيه فيسأله عند القبر عن بعض ما تنازعوا فيه وأشكل عليهم من العلم لا خلفاؤه الأربعة ولا غيرهم، مع أنهم أخص الناس به، حتى ابنته فاطمة، لم يطمع الشيطان أن يقول لها: اذهبي إلى قبره، فسليه هل يورث، كما إنهم أيضا لم يطمع الشيطان فيهم فيقول لهم: اطلبوا منه أن يدعو لكم بالمطر لما أجدبوا، ولا قال: اطلبوا منه أن يستنصر لكم، ولا أن يستغفر كما كانوا في حياته يطلبون منه أن يستسقي لهم، وأن يستغفر لهم، فلم يطمع الشيطان فيهم بعد موته أن يطلبوا منه ذلك، ولا طمع بذلك في القرون الثلاثة، وإنما ظهرت هذه الضلالات ممن قل علمه بالتوحيد والسنة فأضله الشيطان، كما أضل النصارى في أمور لقلة علمهم بما جاء به المسيح ومن قبله من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه. وكذلك لم يطمع الشيطان أن يطير بأحدهم في الهواء، ولا أن يقطع به الأرض في مدة قريبة كما يقع مثل هذا لكثير من المتأخرين، لأن الأسفار التي كانوا يسافرونها كانت طاعات، كسفر الحج والعمرة والجهاد، وهم يثابون على كل خطوة يخطونها فيه، وكلما بعدت المسافة كان الأجر أعظم، كالذي يخرج من بيته إلى المسجد فخطواته إحداهما ترفع درجة، والأخرى

موقفه من الجهمية:

تحط خطيئة، فلم يمكن الشيطان أن يفوتهم ذلك الأجر بأن يحملهم في الهواء أو يؤزهم في الأرض أزا حتى يقطعوا المسافة بسرعة، وقد علموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أسرى به الله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ليريه من آياته، وأنه أراه من آياته الكبرى، وكان هذا من خصائصه، فليس لمن بعده مثل هذا المعراج، ولكن الشياطين تخيل إليه معاريج شيطانية، كما خيلها لجماعة من المتأخرين. لكن المقصود أن يعرف أن الصحابة خير القرون وأفضل الخلق بعد الأنبياء، فما ظهر فيمن بعدهم ممن يظن أنها فضيلة للمتأخرين، ولم تكن فيهم، فإنها من الشيطان وهي نقيصة لا فضيلة سواء كانت من جنس العلوم، أو من جنس العبادات، أو من جنس الخوارق والآيات، أو من جنس السياسة والملك، بل خير الناس بعدهم أتبعهم لهم. قال ابن مسعود رضي الله عنه: من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم، وبسط هذا له موضع آخر. (¬1) موقفه من الجهمية: - قال رحمه الله: واعلم أن السلف الصالح ومن سلك سبيلهم من الخلف متفقون على إثبات نزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا، ¬

(¬1) الصارم المنكي (300 - 303).

الذهبي (748 هـ)

وكذلك هم مجمعون على إثبات الإتيان والمجيء وسائر ما ورد من الصفات في الكتاب والسنة من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، ولم يثبت عن أحد من السلف أنه تأول شيئاً من ذلك. وأما المعتزلة والجهمية فإنهم يردون ذلك ولا يقبلونه، وحديث النزول متواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال عثمان بن سعيد الدارمي: هو أغيظ حديث للجهمية. وقال أبو عمر بن عبد البر: هو حديث ثابت من جهة النقل صحيح الإسناد، لا يختلف أهل الحديث في صحته. (¬1) الذهبي (¬2) (748 هـ) محمد بن أحمد بن عثمان الشيخ الإمام الحافظ الهمام، مفيد الشام، ومؤرخ الإسلام، ناقد المحدثين وإمام المعدلين والمجرحين، شمس الدين أبو عبد الله، التركماني الفارقي الأصل الدمشقي. ولد سنة ثلاث وسبعين وستمائة. وأجمع من ترجم له أنه حافظ عصره الذي تضرب له أكباد الإبل من شتى الأمصار. اسم على مسمى، فهو ذهبي استضاء به المسلمون عامة، والمحدثون خاصة، والسلفيون خاصة الخاصة، ترك ميراثا كبيرا في الحديث والرجال، وهو من مدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية باعترافه في تصريحاته في كثير من تآليفه. أسهم في الدفاع عن العقيدة السلفية بمؤلفاته الجيدة كالعلو والعرش، وأما مؤلفاته العامة فما تأتي مناسبة إلا وينتصر للعقيدة السلفية ويرد ¬

(¬1) الصارم المنكي في الرد على السبكي (ص.220). (¬2) طبقات الشافعية للسبكي (5/ 216) والدرر الكامنة (3/ 336 - 338) والرد الوافر (65 - 73).

موقفه من المبتدعة:

على المخالفين لها. قال تاج الدين السبكي في طبقاته: اشتمل عصرنا على أربعة من الحفاظ بينهم عموم وخصوص: المزي، والبرزالي، والذهبي، والشيخ الوالد، لا خامس لهم في عصرهم، فأما أستاذنا أبو عبد الله فنظير لا نظير له، وكبير هو الملجأ إذا نزلت المعضلة، وَذَهَبُ العصر معنى ولفظا، وشيخ الجرح والتعديل كأنما جمعت الأمة في صعيد واحد فنظرها ثم أخذ يخبر عنها أخبار من حضرها، وكان محط رحال المعنت، ومنتهى رغبات من تعنت. قال ابن ناصر: كان إماما في القراءات، فقيها في النظريات له دربة بمذاهب الأئمة وأرباب المقالات، قائما بين الخلف بنشر السنة ومذهب السلف. أنشدونا عنه لنفسه: الفقه قال الله قال رسوله وحذار من نصب الخلاف جهالة ... إن صح والإجماع فاجهد فيه بين النبي وبين رأي فقيه وله المؤلفات المفيدة والمختصرات الحسنة، والمصنفات السديدة. توفي رحمه الله تعالى عام ثمان وأربعين وسبعمائة. موقفه من المبتدعة: - قال رحمه الله في تذكرة الحفاظ وهو يتكلم عن عزة السنن وخمود البدع في الطبقة الخامسة: وفي زمان هذه الطبقة كان الإسلام وأهله في عز تام، وعلم غزير وأعلام الجهاد منثورة، والسنن مشهورة، والبدع مكبوتة، والقوالون بالحق كثير، والعباد متوافرون، والناس في بُلَهْنِيَّةٍ من العيش بالأمن، وكثرة الجيوش المحمدية من أقصى المغرب وجزيرة الأندلس، وإلى قريب

مملكة الخطا، وبعض الهند وإلى الحبشة. (¬1) - قال رحمه الله في السير: كانت الأهواء والبدع خاملة في زمن الليث ومالك والأوزاعي، والسنن ظاهرة عزيزة. فأما في زمن أحمد بن حنبل وإسحاق وأبي عبيد فظهرت البدعة، وامتحن أئمة الأثر، ورفع أهل الأهواء رؤوسهم بدخول الدولة معهم، فاحتاج العلماء إلى مجادلتهم بالكتاب والسنة، ثم كثر ذلك واحتج عليهم العلماء أيضا بالمعقول، فطال الجدال واشتد النزاع وتولدت الشبه. نسأل الله العافية. (¬2) - وقال: هذه مسألة كبيرة، وهي: القدري والمعتزلي والجهمي والرافضي، إذا علم صدقه في الحديث وتقواه، ولم يكن داعيا إلى بدعته، فالذي عليه أكثر العلماء، قبول روايته والعمل بحديثه، وترددوا في الداعية هل يؤخذ عنه؟ فذهب كثير من الحفاظ إلى تجنب حديثه وهجرانه، وقال بعضهم: إذا علمنا صدقه وكان داعية ووجدنا عنده سنة تفرد بها فكيف يسوغ لنا ترك تلك السنة؟ فجميع تصرفات أئمة الحديث تؤذن بأن المبتدع إذا لم تبح بدعته خروجه من دائرة الإسلام، ولم تبح دمه فإن قبول ما رواه سائغ. وهذه المسألة لم تتبرهن لي كما ينبغي، والذي اتضح لي منها: أن من دخل في بدعة ولم يعد من رؤوسها، ولا أمعن فيها، يقبل حديثه كما مثل الحافظ أبو زكريا بأولئك المذكورين، وحديثهم في كتب الإسلام لصدقهم ¬

(¬1) تذكرة الحفاظ (1/ 244). (¬2) (8/ 144).

وحفظهم. (¬1) - وقال: أنبئت عن أبي جعفر الطرسوسي عن ابن طاهر قال: لو أن محدثا من سائر الفرق أراد أن يروي حديثا واحدا بإسناد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوافقه الكل في عقده، لم يسلم له ذلك، وأدى إلى انقطاع الزوائد رأسا، فكان اعتمادهم في العدالة على صحة السماع والثقة من الذي يروى عنه، وأن يكون عاقلا مميزا. قال الذهبي: العمدة في ذلك صدق المسلم الراوي، فإن كان ذا بدعة أخذ عنه، والإعراض عنه أولى، ولا ينبغي الأخذ عن معروف بكبيرة، والله أعلم. (¬2) - وقال: فلقائل أن يقول: كيف ساغ توثيق مبتدع، وحد الثقة العدالة والإتقان؟ فكيف يكون عدلا من هو صاحب بدعة؟ وجوابه: أن البدعة على ضربين: فبدعة صغرى؛ كغلو التشيع أو كالتشيع بلا غلو ولا تحرف، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق. فلو رد حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بينة. ثم بدعة كبرى؛ كالرفض الكامل والغلو فيه، والحط على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، والدعاء إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة. ¬

(¬1) السير (7/ 154). (¬2) السير (19/ 368).

وأيضا فما أستحضر الآن في هذا الضرب رجلا صادقا ولا مأمونا، بل الكذب شعارهم، والتقية والنفاق دثارهم، فكيف يقبل نقل من هذا حاله حاشا وكلا. (¬1) - وقال: كان الناس أمة واحدة، ودينهم قائما في خلافة أبي بكر وعمر. فلما استشهد قفل باب الفتنة عمر رضي الله عنه، وانكسر الباب، قام رؤوس الشر على الشهيد عثمان حتى ذبح صبرا. وتفرقت الكلمة وتمت وقعة الجمل، ثم وقعة صفين. فظهرت الخوارج، وكفرت سادة الصحابة، ثم ظهرت الروافض والنواصب. وفي آخر زمن الصحابة ظهرت القدرية، ثم ظهرت المعتزلة بالبصرة، والجهمية والمجسمة بخراسان في أثناء عصر التابعين مع ظهور السنة وأهلها إلى بعد المئتين، فظهر المأمون الخليفة- وكان ذكيا متكلما، له نظر في المعقول- فاستجلب كتب الأوائل، وعرب حكمة اليونان، وقام في ذلك وقعد، وخب ووضع، ورفعت الجهمية والمعتزلة رؤوسها، بل والشيعة، فإنه كان كذلك. وآل به الحال إلى أن حمل الأمة على القول بخلق القرآن، وامتحن العلماء، فلم يمهل. وهلك لعامه، وخلى بعده شرا وبلاء في الدين. فإن الأمة مازالت على أن القرآن العظيم كلام الله تعالى ووحيه وتنزيله، لا يعرفون غير ذلك، حتى نبغ لهم القول بأنه كلام الله مخلوق مجعول، وأنه إنما يضاف إلى الله تعالى إضافة تشريف، كبيت الله وناقة الله. فأنكر ذلك العلماء، ولم تكن الجهمية يظهرون ¬

(¬1) الميزان (1/ 5 - 6).

في دولة المهدي والرشيد والأمين فلما ولي المأمون، كان منهم وأظهر المقالة. (¬1) - قال الذهبي: غلاة المعتزلة وغلاة الشيعة وغلاة الحنابلة وغلاة الأشاعرة وغلاة المرجئة وغلاة الجهمية وغلاة الكرامية، قد ماجت بهم الدنيا وكثروا، وفيهم أذكياء وعباد وعلماء، نسأل الله العفو والمغفرة لأهل التوحيد، ونبرأ إلى الله من الهوى والبدع، ونحب السنة وأهلها، ونحب العالم على ما فيه من الاتباع والصفات الحميدة، ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ، وإنما العبرة بكثرة المحاسن. (¬2) - وقال: فيا لله العجب من عالم يقلد دينه إماما بعينه في كل ما قال، مع علمه بما يرد على مذهب إمامه من النصوص النبوية، فلا قوة إلا بالله. (¬3) - وقال: وقد روي من وجوه متعددة، أن أبا بكر بن عياش مكث نحوا من أربعين سنة يختم القرآن في كل يوم وليلة مرة. فعلق الذهبي على هذا القول: وهذه عبادة يخضع لها، ولكن متابعة السنة أولى. فقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عبد الله بن عمرو أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث. وقال عليه السلام: «لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث» (¬4). (¬5) ¬

(¬1) السير (11/ 236). (¬2) السير (20/ 45 - 46). (¬3) التذكرة (1/ 16). (¬4) أخرجه: أحمد (2/ 164،189،195) وأبو داود (2/ 113،116/ 1390 - 1394) والترمذي (5/ 182/2949) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي في الكبرى (5/ 25/8067) وابن ماجه (1/ 428/1347) وابن حبان (الإحسان 3/ 35/758) كلهم من طريق يزيد بن عبد الله بن الشخير عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فذكره". وأصله عند البخاري (9/ 116/5054) ومسلم (2/ 812 - 813/ 1159). (¬5) السير (8/ 503).

- وقال: قال الحاكم: وسمعت الصبغي يقول: صام أبو عمرو الخفاف الدهر نيفا وثلاثين سنة. قلت: ليته أفطر وصام، فما خفي والله عليه النهي عن صيام الدهر (¬1). ولكن له سلف، ولو صاموا أفضل الصوم، للزموا صوم داود عليه السلام. (¬2) - وساق بالسند إلى علي رضي الله عنه: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يرفع الرجل صوته بالقرآن قبل العشاء وبعدها، يغلط أصحابه في الصلاة، والقوم يصلون) (¬3). قال الذهبي: هذا حديث صالح الإسناد، فيه النهي عن قراءة الأسباع التي في المساجد وقت صلوات الناس فيها، ففي ذلك تشويش بين على المصلين، هذا إذا قرؤوا قراءة جائزة مرتلة، فإن كانت قراءتهم دمجا وهذرمة وبلعا للكلمات، فهذا حرام مكرر، فقد -والله- عم الفساد، وظهرت البدع، وخفيت السنن، وقل القوال بالحق، بل لو نطق العالم بصدق وإخلاص، لعارضه عدة من علماء الوقت، ولمقتوه وجهلوه، فلا حول ولا ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (2/ 164) والبخاري (4/ 277/1977) ومسلم (2/ 814 - 815/ 1159 [186]) والنسائي (4/ 521 - 522/ 2376) وابن ماجه (1/ 544/1706) كلهم من طريق أبي العباس عن عبد الله بن عمرو. (¬2) السير (13/ 561). (¬3) رواه أحمد (1/ 88) وأبو يعلى (1/ 384/497) من طريق أبي إسحاق عن الحارث عن علي مرفوعا. وذكره الهيثمي في المجمع (2/ 265) وقال: "رواه أحمد وأبو يعلى وفيه الحارث وهو ضعيف". لكن معنى الحديث صح من وجه آخر. أخرجه أحمد (3/ 94). أبو داود (2/ 83/1332) من حديث أبي سعيد قال: اعتكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر وقال: «ألا إن كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة». وصححه ابن خزيمة (2/ 190/1162) وقال الشيخ الألباني في الصحيحة (4/ 133 - 134/ 1603) بعد أن ذكر سند أبي داود: "وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين".

قوة إلا بالله. (¬1) - ثم ساق أن أبا غسان كان عند علي بن الجعد فذكروا حديث: «إن ابني هذا سيد» (¬2)، قال: "ما جعله الله سيدا". قال الذهبي معلقا: أبو غسان لا أعرف حاله، فإن كان قد صدق، فلعل ابن الجعد قد تاب من هذه الورطة، بل جعله سيدا على رغم أنف كل جاهل، فإن من أصر على مثل هذا من الرد على سيد البشر، يكفر بلا مثنوية (¬3).اهـ (¬4) - وساق بالسند إلى محمد بن يحيى النيسابوري، حين بلغه وفاة أحمد، يقول: ينبغي لكل أهل دار ببغداد أن يقيموا عليه النياحة في دورهم. قال الذهبي: تكلم الذهلي بمقتضى الحزن لا بمقتضى الشرع. (¬5) - وقال: قال أبو نعيم الحافظ -وهو يتحدث عن محمد بن الفضل البلخي الصوفي-: سمع الكثير من قتيبة بن سعيد. وسمعت محمد بن عبد الله الرازي بنسا أنه سمعه يقول: ذهاب الإسلام من أربعة: لا يعملون بما يعلمون، ويعملون بما لا يعلمون، ولا يتعلمون ما لا يعلمون، ويمنعون الناس من العلم. ¬

(¬1) السير (14/ 165 - 166). (¬2) أخرجه: أحمد (5/ 37 - 38) والبخاري (5/ 384/2704) وأبو داود (5/ 48 - 49/ 4662) والترمذي (5/ 616/3773) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (3/ 118 - 119/ 1409) من طرق عن الحسن أنه سمع أبا بكرة يقول: فذكر الحديث. (¬3) أي: بلا استثناء. (قاله في اللسان 14/ 124). (¬4) السير (10/ 464). (¬5) السير (11/ 203 - 204).

قال الذهبي: هذه نعوت رؤوس العرب والترك، وخلق من جهلة العامة، فلو عملوا بيسير ما عرفوا، لأفلحوا، ولو وقفوا عن العمل بالبدع لوفقوا، ولو فتشوا عن دينهم وسألوا أهل الذكر -لا أهل الحيل والمكر- لسعدوا، بل يعرضون عن التعلم تيها وكسلا، فواحدة من هذه الخلال مردية، فكيف بها إذا اجتمعت؟ فما ظنك إذا انضم إليها كبر، وفجور، وإجرام، وتجهرم على الله؟ نسأل الله العافية. (¬1) - قال الذهبي في ترجمة أحمد بن ثابت الطرقي الحافظ: صدوق، كان بعد الخمسمائة لكنه كان يقول: الروح قديمة على رأي جهال الجبالنة، وشبهتهم قوله تعالى: {قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (¬2) قالوا: وأمره تعالى قديم، وهو شيء غير خلقه وتلوا {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} (¬3) {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} (¬4). وهذا من أردى البدع وأضلها، فقد علم الناس أن الحيوانات كلها مخلوقة، وأجسادها وأرواحها. (¬5) - وقال في آخر ترجمة إمام الحرمين أبي المعالي: توفي في الخامس والعشرين من ربيع الآخر، سنة ثمان وسبعين وأربع مئة ودفن في داره، ثم نقل ¬

(¬1) السير (14/ 525). (¬2) الإسراء الآية (85). (¬3) الأعراف الآية (54). (¬4) الشورى الآية (52). (¬5) ميزان الاعتدال (1/ 86 - 87) وأشار إليه في السير (19/ 520).

بعد سنين إلى مقبرة الحسين، فدفن بجنب والده، وكسروا منبره، وغلقت الأسواق، ورثي بقصائد، وكان له نحو من أربعمائة تلميذ، كسروا محابرهم وأقلامهم وأقاموا حولا، ووضعت المناديل عن الرؤوس عاما، بحيث ما اجترأ أحد على ستر رأسه، وكانت الطلبة يطوفون في البلد نائحين عليه، مبالغين في الصياح والجزع. قال الذهبي: هذا كان من زي الأعاجم لا من فعل العلماء المتبعين. (¬1) - وقال: كلام الأقران إذا تبرهن لنا أنه بهوى وعصبية، لا يلتفت إليه، بل يطوى ولا يروى، كما تقرر عن الكف عن كثير مما شجر بين الصحابة وقتالهم رضي الله عنهم أجمعين، وما زال يمر بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء، ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف، وبعضه كذب، وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا، فينبغي طيه وإخفاؤه، بل إعدامه لتصفو القلوب، وتتوفر على حب الصحابة، والترضي عنهم، وكتمان ذلك متعين عن العامة وآحاد العلماء، وقد يرخص في مطالعة ذلك خلوة للعالم المنصف العري من الهوى، بشرط أن يستغفر لهم، كما علمنا الله تعالى حيث يقول: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا} (¬2) فالقوم لهم سوابق، وأعمال مكفرة لما وقع منهم، وجهاد محاء، وعبادة ممحصة، ولسنا ممن يغلو ¬

(¬1) السير (18/ 476). (¬2) الحشر الآية (10).

في أحد منهم، ولا ندعي فيهم العصمة، نقطع بأن بعضهم أفضل من بعض، ونقطع بأن أبا بكر وعمر أفضل الأمة، ثم تتمة العشرة المشهود لهم بالجنة، وحمزة وجعفر ومعاذ وزيد، وأمهات المؤمنين، وبنات نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وأهل بدر مع كونهم على مراتب، ثم الأفضل بعدهم مثل أبي الدرداء وسلمان الفارسي وابن عمر وسائر أهل بيعة الرضوان الذين رضي الله عنهم بنص آية سورة الفتح، ثم عموم المهاجرين والأنصار، كخالد بن الوليد والعباس وعبد الله بن عمرو، وهذه الحلبة، ثم سائر من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاهد معه، أو حج معه، أو سمع منه، رضي الله عنهم أجمعين وعن جميع صواحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المهاجرات والمدنيات وأم الفضل وأم هانئ الهاشمية وسائر الصحابيات. فأما ما تنقله الرافضة وأهل البدع في كتبهم من ذلك، فلا نعرج عليه، ولا كرامة، فأكثره باطل وكذب وافتراء، فدأب الروافض رواية الأباطيل، أو رد ما في الصحاح والمسانيد، ومتى إفاقة من به سُكْران (¬1)؟ ثم قد تكلم خلق من التابعين بعضهم في بعض، وتحاربوا وجرت أمور لا يمكن شرحها، فلا فائدة في بثها، ووقع في كتب التواريخ وكتب الجرح والتعديل أمور عجيبة، والعاقل خصم نفسه، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، ولحوم العلماء مسمومة، وما نقل من ذلك لتبيين غلط العالم، وكثرة وهمه، أو نقص حفظه، فليس من هذا النمط، بل لتوضيح الحديث الصحيح من الحسن، والحسن من الضعيف. ¬

(¬1) هذا عجز بيت وهو: سكران سكر هوى وسكر مدامة ... ومتى إفاقة من به سكران

وإمامنا (¬1)، فبحمد الله ثبت في الحديث، حافظ لما وعى، عديم الغلط (¬2)، موصوف بالإتقان، متين الديانة، فمن نال منه بجهل وهوى ممن علم أنه منافس له، فقد ظلم نفسه، ومقتته العلماء، ولاح لكل حافظ تحامله، وجر الناس برجله، ومن أثنى عليه، واعترف بإمامته وإتقانه، وهم أهل العقد والحل قديما وحديثا، فقد أصابوا، وأجملوا، وهدوا، ووفقوا. وأما أئمتنا اليوم وحكامنا، فإذا أعدموا ما وجد من قدح بهوى، فقد يقال: أحسنوا ووفقوا، وطاعتهم في ذلك مفترضة لما قد رأوه من حسم مادة الباطل والشر. وبكل حال؛ فالجهال والضلال قد تكلموا في خيار الصحابة. وفي الحديث الثابت: «لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله، إنهم ليدعون له ولدا، وإنه ليرزقهم ويعافيهم» (¬3). وقد كنت وقفت على بعض كلام المغاربة في الإمام رحمه الله، فكانت فائدتي من ذلك تضعيف حال من تعرض إلى الإمام، ولله الحمد. ولا ريب أن الإمام لما سكن مصر، وخالف أقرانه من المالكية، ووهى بعض فروعهم بدلائل السنة، وخالف شيخه في مسائل، تألموا منه، ونالوا منه، وجرت بينهم وحشة، غفر الله للكل، وقد اعترف الإمام سحنون، وقال: لم يكن في الشافعي بدعة. فصدق والله، فرحم الله الشافعي، وأين مثل ¬

(¬1) يعني الشافعي. (¬2) قوله: عديم الغلط فيه إطراء زائد. (¬3) أخرجه: البخاري (10/ 626/6099) ومسلم (4/ 2160/2804) كلاهما من طريق أبي عبد الرحمن السلمي عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فذكره.

الشافعي والله في صدقه، وشرفه، ونبله، وسعة علمه، وفرط ذكائه، ونصره للحق، وكثرة مناقبه، رحمه الله تعالى. (¬1) - وقال: وممن كان بعد المئتين من رؤوس المتكلمين والمعتزلة، بشر بن غياث المريسي العدوي، مولى آل زيد بن الخطاب، وأبو سهل بشر بن المعتمر الكوفي الأبرص، من كبار المعتزلة ومصنفيهم، وأبو معن ثمامة بن أشرس النميري البصري، وأبو الهذيل محمد بن العلاف البصري، وأبو إسحاق إبراهيم بن سيار البصري النظام، وهشام بن الحكم الكوفي الرافضي المجسم، وضرار بن عمرو الذي تنسب الضرارية إليه، وأبو المعتمر معمر بن عباد وقيل: معمر بن عمرو البصري العطار، وهشام بن عمرو الفوطي، وداود الجواربي، والوليد بن أبان الكرابيسي، وابن كيسان الأصم، وأبو موسى الفراء البغدادي، وأبو موسى البصري الملقب بالمرداز، وجعفر بن حرب، وجعفر بن مبشر، وآخرون. نعوذ بالله من البدع، وأن نقول على الله ما لا نعلم. (¬2) - وقال: وأصل "المدونة" أسئلة. سألها أسد بن الفرات لابن القاسم. فلما ارتحل سحنون بها عرضها على ابن القاسم، فأصلح فيها كثيرا، وأسقط، ثم رتبها سحنون، وبوبها. واحتج لكثير من مسائلها بالآثار من مروياته، مع أن فيها أشياء لا ينهض دليلها، بل رأي محض. وحكوا أن سحنون في أواخر الأمر علم عليها، وهم بإسقاطها وتهذيب "المدونة"، فأدركته المنية رحمه الله. ¬

(¬1) السير (10/ 92 - 95). (¬2) السير (10/ 441).

فكبراء المالكية، يعرفون تلك المسائل، ويقررون منها ما قدروا عليه، ويوهنون ما ضعف دليله. فهي لها أسوة بغيرها من دوواين الفقه. وكل أحد فيؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب ذاك القبر - صلى الله عليه وسلم - تسليما. فالعلم بحر بلا ساحل، وهو مفرق في الأمة، موجود لمن التمسه. (¬1) - وقال: قال الشيخ محي الدين النواوي -وهو يتحدث عن محمد بن إبراهيم بن المنذر-: له من التحقيق في كتبه ما لا يقاربه فيه أحد، وهو في نهاية من التمكن من معرفة الحديث، وله اختيار، فلا يتقيد في الاختيار بمذهب بعينه، بل يدور مع ظهور الدليل. قال الذهبي: ما يتقيد بمذهب واحد إلا مَنْ هو قاصر في التمكن من العلم كأكثر علماء زماننا، أو من هو متعصب، وهذا الإمام فهو من حملة الحجة، جار في مضمار ابن جرير، وابن سريج، وتلك الحلبة رحمهم الله. (¬2) - وقال في الطبقة التاسعة من تذكرة الحفاظ: ولقد كان في هذا العصر وما قاربه من أئمة الحديث النبوي خلق كثير، وما ذكرنا عشرهم هنا، وأكثرهم مذكورون في تاريخي. وكذلك كان في هذا الوقت خلق من أئمة أهل الرأي والفروع، وعدد من أساطين المعتزلة والشيعة وأصحاب الكلام، الذين مشوا وراء المعقول وأعرضوا عما عليه السلف من التمسك بالآثار النبوية، وظهر في الفقهاء التقليد وتناقص الاجتهاد، فسبحان من له الخلق والأمر. ¬

(¬1) السير (12/ 68). (¬2) السير (14/ 491).

فبالله عليك يا شيخ، ارفق بنفسك، والزم الإنصاف ولا تنظر إلى هؤلاء الحفاظ النظر الشزر، ولا ترمقنهم بعين النقص، ولا تعتقد فيهم أنهم من جنس محدثي زماننا، حاشا وكلا، فما في من سميت أحد، ولله الحمد إلا وهو بصير بالدين، عالم بسبيل النجاة، وليس في كبار محدثي زماننا؛ أحد يبلغ رتبة أولئك في المعرفة، فإني أحسبك لفرط هواك تقول بلسان الحال أن أعوزك المقال: من أحمد؟! وما ابن المديني؟! وأي شيء أبو زرعة وأبو داود؟! هؤلاء محدثون ولا يدرون ما الفقه؟! وما أصوله؟! ولا يفقهون الرأي، ولا علم لهم بالبيان والمعاني والدقائق، ولا خبرة لهم بالبرهان والمنطق، ولا يعرفون الله تعالى بالدليل، ولا هم من فقهاء الملة. فاسكت بحلم أو انطق بعلم، فالعلم النافع هو النافع -كذا- ما جاء عن أمثال هؤلاء، ولكن نسبتك إلى أئمة الفقه كنسبة محدثي عصرنا إلى أئمة الحديث، فلا نحن ولا أنت، وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذو الفضل، فمن اتقى الله راقب الله واعترف بنقصه، ومن تكلم بالجاه وبالجهل أو بالشر والبلوى، فأعرض عنه وذره في غيه فعقباه إلى وبال. نسأل الله العفو والسلامة. (¬1) التعليق: هذا كان في زمن الذهبي، الذي عاش مع الفحول والحفاظ في كل فن، مع ذلك أورد هذه الإيرادات، فماذا يكون في زمننا هذا الذي عم فيه البلاء؟ -نسأل الله العافية- ونطق فيه الرويبضة، وتمشيخ فيه الجهال، ولقب السفلة بالفقهاء، وعقدت لهم المجالس، ووضعت لهم الدور والمدارس والجامعات؛ ¬

(¬1) تذكرة الحفاظ (2/ 627 - 628).

موقفه من المشركين:

لينشروا جهلهم وينثروا حقدهم على السنة وأهلها، وضيق فيه على أهل الحق الذين ليس لهم إلا الله معينا، فهو حسبنا وعليه توكلنا، وكفى به حسيبا ووكيلا {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (¬1). موقفه من المشركين: - قال رحمه الله: وقد كان بعض الزنادقة، والطغام من التناسخية، اعتقدوا أن الباري سبحانه وتعالى، حل في أبي مسلم الخراساني المقتول، عندما رأوا من تجبره، واستيلائه على الممالك، وسفك للدماء. (¬2) - وقال رحمه الله: وقد نهى عليه السلام أن يبنى على القبور، ولو اندفن الناس في بيوتهم، لصارت المقبرة والبيوت شيئا واحدا، والصلاة في المقبرة، فمنهي عنها نهي كراهية، أو نهي تحريم، وقد قال عليه السلام: «أفضل صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة» (¬3). فناسب ذلك ألا تتخذ المساكن قبورا. وأما دفنه في بيت عائشة صلوات الله عليه وسلامه فمختص به، كما خص ببسط قطيفة تحته في لحده، وكما خص بأن صلوا عليه فرادى بلا إمام، فكان هو إمامهم حيا وميتا في الدنيا والآخرة، وكما خص بتأخير دفنه يومين، ويكره تأخير أمته، لأنه هو أمن عليه التغير بخلافنا، ثم إنهم أخروه حتى صلوا كلهم عليه داخل بيته، فطال لذلك الأمر، ولأنهم ترددوا شطر اليوم الأول في موته ¬

(¬1) الطلاق الآية (3). (¬2) السير (6/ 67). (¬3) جزء من حديث طويل أخرجه: البخاري (2/ 273/731) ومسلم (1/ 539/781) وأبو داود (2/ 145/1447) والترمذي (2/ 312/450) مختصرا. والنسائي (3/ 219 - 220/ 1598) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.

حتى قدم أبو بكر الصديق من السنح، فهذا كان سبب التأخير. (¬1) - وقال رحمه الله في شأن الفلسفة: قال سعيد بن عفير: ما رأيت أخطب منه على هذه الأعواد -يعني إسماعيل بن صالح- كان جامعا لكل سؤدد، ويعرف الفلسفة، وضرب العود، والنجوم. قلت: علمه هذا الجهل خير منه. (¬2) - وقال: ولجهلة المصريين فيها اعتقاد يتجاوز الوصف، - يعني السيدة نفيسة -ولا يجوز مما فيه من الشرك، ويسجدون لها، ويلتمسون منها المغفرة، وكان ذلك من دسائس دعاة العبيدية. (¬3) - وقال رحمه الله تعليقا على قول الإمام أحمد في هشام بن عمار: طيَّاش خفيف. قلت: أما قول الإمام فيه: طياش، فلأنه بلغه عنه أنه قال في خطبته: الحمد لله الذي تجلى لخلقه بخلقه. فهذه الكلمة لا ينبغي إطلاقها، وإن كان لها معنى صحيح، لكن يحتج بها الحلولي والاتحادي. وما بلغنا أنه سبحانه وتعالى تجلى لشيء إلا بجبل الطور، فصيره دكا. وفي تجليه لنبينا - صلى الله عليه وسلم - اختلاف، أنكرته عائشة، وأثبته ابن عباس. (¬4) - وقال رحمه الله: فتنة الزنج كانت عظيمة، وذلك أن بعض الشياطين الدهاة، كان طرقيا أو مؤدبا، له نظر في الشعر والأخبار، ويظهر من حاله ¬

(¬1) السير (8/ 29 - 30). (¬2) السير (8/ 359). (¬3) السير (10/ 106). (¬4) السير (11/ 431 - 432).

الزندقة والمروق، ادعى أنه علوي، ودعا إلى نفسه، فالتف عليه قطاع طريق، والعبيد السود من غلمان أهل البصرة، حتى صار في عدة، وتحيلوا وحصلوا سيوفا وعصيا، ثم ثاروا على أطراف البلد فبدعوا وقتلوا، وقووا، وانضم إليهم كل مجرم، واستفحل الشر بهم؛ فسار جيش من العراق لحربهم، فكسروا الجيش، وأخذوا البصرة، واستباحوها، واشتد الخطب، وصار قائدهم الخبيث في جيش وأهبة كاملة، وعزم على أخذ بغداد، وبنى لنفسه مدينة عظيمة، وحار الخليفة المعتمد في نفسه، ودام البلاء بهذا الخبيث المارق ثلاث عشرة سنة، وهابته الجيوش، وجرت معه ملاحم ووقعات يطول شرحها. قد ذكرها المؤرخون إلى أن قتل. فالزنج هم عبارة عن عبيد البصرة الذين ثاروا معه. لا بارك الله فيهم. (¬1) - وقال أيضا في خبيث الزنج: وكاد الخبيث أن يملك الدنيا، وكان كذابا ممخرقا ماكرا شجاعا داهية، ادعى أنه بعث إلى الخلق فرد الرسالة. وكان يدعي علم الغيب، لعنه الله. ودخلت سنة تسع [أي سنة 259هـ]، فعرض الموفق جيشه بواسط، وأما الخبيث فدخل البطائح، وبثق حوله الأنهار وتحصن، فهجم عليه الموفق، وأحرق وقتل فيهم، واستنقذ من السبايا، ورد إلى بغداد، فسار خبيث الزنج إلى الأهواز، فوضع السيف، وقتل نحوا من خمسين ألفا، وسبى أربعين ألفا، فسار لحربه موسى بن بغا فتحاربا بضعة عشر شهرا، وذهب تحت السيف خلائق من الفريقين. فإنا لله، وإنا إليه ¬

(¬1) السير (12/ 375).

راجعون. (¬1) - قال السلمي: وحكي عنه -أي الحلاج- أنه رئي واقفا في الموقف والناس في الدعاء، وهو يقول: أنزهك عما قرفك به عبادك، وأبرأ إليك مما وحدك به الموحدون. قال الذهبي عقبه: هذا عين الزندقة، فإنه تبرأ مما وحد الله به الموحدون الذين هم الصحابة والتابعون وسائر الأمة، فهل وحدوه تعالى إلا بكلمة الإخلاص التي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قالها من قلبه فقد حرم ماله ودمه» (¬2) وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فإذا برئ الصوفي منها، فهو ملعون زنديق، وهو صوفي الزي والظاهر، متستر بالنسب إلى العارفين، وفي الباطن فهو من صوفية الفلاسفة أعداء الرسل، كما كان جماعة في أيام النبي - صلى الله عليه وسلم - منتسبون إلى صحبته وإلى ملته، وهم في الباطن من مردة المنافقين، قد لا يعرفهم نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يعلم بهم. قال الله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} (¬3) فإذا جاز على سيد البشر أن لا يعلم ببعض المنافقين وهم معه في المدينة سنوات، فبالأولى أن يخفى حال جماعة من المنافقين الفارغين عن دين الإسلام بعده عليه السلام على العلماء من أمته، فما ينبغي لك يا فقيه أن ¬

(¬1) السير (12/ 542). (¬2) رواه مسلم (1/ 53/23) من حديث طارق بن أشيم رضي الله عنه. (¬3) التوبة الآية (101).

تبادر إلى تكفير المسلم إلا ببرهان قطعي، كما لا يسوغ لك أن تعتقد العرفان والولاية فيمن قد تبرهن زغله، وانهتك باطنه وزندقته، فلا هذا ولا هذا، بل العدل أن من رآه المسلمون صالحا محسنا، فهو كذلك، لأنهم شهداء الله في أرضه، إذ الأمة لا تجتمع على ضلالة، وأن من رآه المسلمون فاجرا أو منافقا أو مبطلا، فهو كذلك، وأن من كان طائفة من الأمة تضلله، وطائفة من الأمة تثني عليه وتبجله، وطائفة ثالثة تقف فيه وتتورع من الحط عليه، فهو ممن ينبغي أن يعرض عنه، وأن يفوض أمره إلى الله، وأن يستغفر له في الجملة، لأن إسلامه أصلي بيقين، وضلاله مشكوك فيه، فبهذا تستريح ويصفو قلبك من الغل للمؤمنين. ثم اعلم أن أهل القبلة كلهم، مؤمنهم وفاسقهم، وسنيهم ومبتدعهم -سوى الصحابة- لم يجمعوا على مسلم بأنه سعيد ناج، ولم يجمعوا علىمسلم بأنه شقي هالك، فهذا الصديق فرد الأمة، قد علمت تفرقهم فيه، وكذلك عمر، وكذلك عثمان، وكذلك علي، وكذلك ابن الزبير، وكذلك الحجاج، وكذلك المأمون، وكذلك بشر المريسي، وكذلك أحمد بن حنبل، والشافعي، والبخاري، والنسائي، وهلم جرا من الأعيان في الخير والشر إلى يومك هذا، فما من إمام كامل في الخير إلا وثم أناس من جهلة المسلمين ومبتدعيهم يذمونه ويحطون عليه، وما من رأس في البدعة والتجهم والرفض إلا وله أناس ينتصرون له، ويذبون عنه، ويدينون بقوله بهوى وجهل، وإنما العبرة بقول جمهور الأمة الخالين من الهوى والجهل، المتصفين بالورع والعلم، -فتدبر- يا عبد الله- نحلة الحلاج الذي هو من رؤوس القرامطة، ودعاة الزندقة، وأنصف وتورع واتق ذلك، وحاسب

نفسك، فإن تبرهن لك أن شمائل هذا المرء شمائل عدو للإسلام، محب للرئاسة، حريص على الظهور بباطل وبحق، فتبرأ من نحلته، وإن تبرهن لك والعياذ بالله، أنه كان -والحالة هذه- محقا هاديا مهديا، فجدد إسلامك واستغث بربك أن يوفقك للحق، وأن يثبت قلبك على دينه، فإنما الهدى نور يقذفه الله في قلب عبده المسلم، ولا قوة إلا بالله، وإن شككت ولم تعرف حقيقته، وتبرأت مما رمي به، أرحت نفسك، ولم يسألك الله عنه أصلا. (¬1) - وجاء في السير: قال ابن باكويه: سمعت ابن خفيف يسأل: ما تعتقد في الحلاج؟ قال: أعتقد أنه رجل من المسلمين فقط. فقيل له: قد كفره المشايخ وأكثر المسلمين. فقال: إن كان الذي رأيته منه في الحبس لم يكن توحيدا، فليس في الدنيا توحيد. قال الذهبي عقبه: هذا غلط من ابن خفيف، فإن الحلاج عند قتله ما زال يوحد الله ويصيح: الله الله في دمي، فأنا على الإسلام. وتبرأ مما سوى الإسلام. والزنديق فيوحد الله علانية، ولكن الزندقة في سره. والمنافقون فقد كانوا يوحدون ويصومون ويصلون علانية، والنفاق في قلوبهم، والحلاج فما كان حمارا حتى يظهر الزندقة بإزاء ابن خفيف وأمثاله، بل كان يبوح بذلك لمن استوثق من رباطه، ويمكن أن يكون تزندق في وقت، ومرق وادعى الإلهية، وعمل السحر والمخاريق الباطلة مدة، ثم لما نزل به البلاء ورأى الموت الأحمر أسلم ورجع إلى الحق، والله أعلم بسره، ولكن مقالته نبرأ إلى الله منها، فإنها محض الكفر، نسأل الله العفو والعافية، فإنه يعتقد حلول البارئ -عز ¬

(¬1) السير (14/ 342 - 345).

وجل- في بعض الأشراف، تعالى الله عن ذلك. (¬1) - وقال رحمه الله: وهو رأس الفلاسفة الإسلامية -أي ابن سينا- لم يأت بعد الفارابي مثله، فالحمد لله على الإسلام والسنة. وله كتاب 'الشفاء' وغيره، وأشياء لا تحتمل، وقد كفره الغزالي في كتاب 'المنقذ من الضلال'، وكفر الفارابي. (¬2) - وقال وهو يتحدث عن أبي العلاء: ومن أردإ تواليفه 'رسالة الغفران' في مجلد، قد احتوت على مزدكة وفراغ، و'رسالة الملائكة'، و'رسالة الطير' على ذلك الأنموذج، وديوانه 'سقط الزند' مشهور، وله 'لزوم ما لا يلزم' من نظمه. (¬3) - وقال عنه أيضا: قيل: إنه أوصى أن يكتب على قبره: هذا جناه أبي علي ... وما جنيت على أحد قال الذهبي عقبه: الفلاسفة يعدون اتخاذ الولد وإخراجه إلى الدنيا جناية عليه، ويظهر لي من حال هذا المخذول أنه متحير لم يجزم بنحلة. اللهم فاحفظ علينا إيماننا. (¬4) - وقال في رتن الهندي: شيخ كبير من أبناء التسعين. تجرأ على الله، وزعم بقلة حياء أنه من الصحابة، وأنه ابن ست مئة سنة وخمسين سنة، فراج ¬

(¬1) السير (14/ 351). (¬2) السير (17/ 535). (¬3) السير (18/ 25). (¬4) السير (18/ 36).

أمره على من لا يدري. وقد أفردته في جزء، وهتكت باطله. (¬1) - وقال في ابن الفارض: شاعر الوقت شرف الدين عمر بن علي بن مرشد الحموي ثم المصري صاحب الاتحاد الذي قد ملأ به التائية. توفي سنة اثنتين وثلاثين، وله ست وخمسون سنة ... فإن لم يكن في تلك القصيدة صريح الاتحاد الذي لا حيلة في وجوده، فما في العالم زندقة ولا ضلال، اللهم ألهمنا التقوى، وأعذنا من الهوى، فيا أئمة الدين ألا تغضبون لله؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله. (¬2) - وقال في الحسن بن الصباح الإسماعيلي الملقب بألكيا، صاحب الدعوة النزارية وجَدُّ أصحاب قلعة ألموت: كان من كبار الزنادقة، ومن دهاة العالم، وله أخبار يطول شرحها لخصتها في تاريخي الكبير، في حوادث سنة أربع وتسعين وأربعمائة. وأصله من مرو، وقد أكثر التطواف ما بين مصر إلى بلد كاشغر؛ يغوي الخلق ويضل الجهلة، إلى أن صار منه ما صار. وكان قوي المشاركة في الفلسفة والهندسة، كثير المكر والحيل، بعيد الغور، لا بارك الله فيه. (¬3) - وقال في الحسين بن عبد الله بن سيناء، أبي علي الرئيس: ما أعلمه روى شيئا من العلم، ولو روى لما حلت الرواية عنه؛ لأنه فلسفي النحلة ضال. (¬4) ¬

(¬1) السير (22/ 367). (¬2) السير (22/ 368). (¬3) الميزان (1/ 500). (¬4) الميزان (1/ 539).

- وجاء في الميزان: قال ابن معين: كان عبد المجيد أصلح كتب ابن علية عن ابن جريج، فقيل ليحيى: كان عبد المجيد بهذا المحل؟ فقال: كان عالما بكتب ابن جريج، إلا أنه لم يكن يبذل نفسه للحديث. ونقم على عبد المجيد أنه أفتى الرشيد بقتل وكيع؛ والحديث حدثناه قتيبة، حدثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله البهي -أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما مات لم يدفن حتى ربا بطنه وانثنت خنصراه (¬1). قال قتيبة: حدث به وكيع بمكة، وكان سنة حج فيها الرشيد؛ فقدموه إليه، فدعا الرشيد سفيان بن عيينة وعبد المجيد فقال: يجب أن يقتل، فإنه لم يرو هذا إلا وفي قلبه غش للنبي - صلى الله عليه وسلم -. فسأل الرشيد سفيان، فقال: لا يجب عليه القتل، رجل سمع حديثا فرواه، والمدينة شديدة الحر. توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين فترك إلى ليلة الأربعاء؛ فمن ذلك تغير. قال الذهبي عقبه: النبي - صلى الله عليه وسلم - سيد البشر، (وهو بشر) يأكل ويشرب وينام، ويقضي حاجته، ويمرض ويتداوى، ويتسوك ليطيب فمه؛ فهو في هذا كسائر المؤمنين، فلما مات -بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم - عمل به كما يعمل بالبشر من الغسل والتنظيف والكفن واللحد والدفن، لكن ما زال طيبا مطيبا، حيا وميتا، وارتخاء أصابعه المقدسة، وانثناؤها، وربو بطنه ليس معنا نص على انتفائه؛ والحي قد يحصل له ريح وينتفخ منه جوفه، فلا يعد هذا -إن كان قد وقع- عيبا؛ وإنما معنا نص على أنه لا يبلى، وأن الله حرم على الأرض أن ¬

(¬1) رواه ابن عدي في الكامل (5/ 344) وذكره الذهبي في السير (9/ 160) وقال: "خبر منكر ومنقطع".

تأكل أجساد الأنبياء عليهم السلام (¬1)؛ بل ويقع هذا لبعض الشهداء رضي الله عنهم. أما من روى حديث عبد الله البهي ليغض به من منصب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا زنديق، بل لو روى الشخص حديث: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سحر (¬2)، وحاول بذلك تنقصا كفر وتزندق؛ وكذا لو روى حديث أنه سلم من اثنتين (¬3)، وقال: ما درى كم صلى يقصد بقوله شينه ونحو ذلك كفر؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إنما أنا بشر أنسى كما تنسون (¬4)؛ فالغلو والإطراء منهي عنه، والأدب والتوقير واجب، فإذا اشتبه الإطراء بالتوقير توقف العالم وتورع، وسأل من هو أعلم منه حتى يتبين له الحق، فيقول به، وإلا فالسكوت واسع له، ويكفيه التوقير المنصوص عليه في أحاديث لا تحصى، وكذا يكفيه مجانبة الغلو الذي ارتكبه النصارى في عيسى؛ ما رضوا له بالنبوة حتى رفعوه إلى الإلهية وإلى الوالدية، وانتهكوا رتبة الربوبية الصمدية، فضلوا وخسروا؛ فإن إطراء رسول ¬

(¬1) أحمد (4/ 8) وأبو داود (1/ 635/1047) واللفظ له. والنسائي (3/ 101 - 102/ 1373) وابن ماجه (1/ 345/1085) من حديث أوس بن أوس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة: فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي. قال: قالوا: يا رسول الله، وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ يقولون بليت، فقال: إن الله عز وجل حرم على الأرض أجساد الأنبياء. وصححه ابن خزيمة (3/ 118/1733) وابن حبان (3/ 190 - 191/ 910) والحاكم (1/ 278) على شرط البخاري، ووافقه الذهبي. (¬2) أحمد (6/ 63 - 96) والبخاري (10/ 272/5763) ومسلم (4/ 1719 - 1720/ 2189) من حديث عائشة رضي الله عنها .. (¬3) أحمد (2/ 248) والبخاري (2/ 261/714) ومسلم (1/ 403/573) وأبو داود (1/ 612 - 614/ 1008) والترمذي (2/ 247/399) والنسائي (3/ 26 - 27/ 1224) وابن ماجه (1/ 383/1214) من حديث أبي هريرة. (¬4) أحمد (1/ 424) والبخاري (1/ 663/401) ومسلم (1/ 400/572) وأبو داود (1/ 620/1020) والنسائي (3/ 33/1241) وابن ماجه (1/ 380/1203) من حديث عبد الله بن مسعود.

موقفه من الرافضة:

الله - صلى الله عليه وسلم - يؤدي إلى إساءة الأدب على الرب. نسأل الله تعالى أن يعصمنا بالتقوى، وأن يحفظ علينا حبنا للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما يرضى. (¬1) - وقال رحمه الله: وكذلك من أمعن النظر في 'فصوص الحكم'، أو أنعم التأمل لاح له العجب؛ فإن الذكي إذا تأمل من ذلك الأقوال والنظائر والأشباه؛ فهو أحد رجلين: إما من الاتحادية في الباطن، وإما من المؤمنين بالله الذين يعدون أن هذه النحلة من أكفر الكفر. نسأل الله العفو، وأن يكتب الإيمان في قلوبنا، وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. فوالله لأن يعيش المسلم جاهلا خلف البقر! لا يعرف من العلم شيئا سوى سور من القرآن، يصلي بها الصلوات، ويؤمن بالله وباليوم الآخر؛ خير له بكثير من هذا العرفان! وهذه الحقائق! ولو قرأ مائة كتاب أو عمل مائة خلوة. (¬2) موقفه من الرافضة: - جاء في السير: بعد ذكره لترجمة الفأفاء رحمه الله قال: وكان الناس في الصدر الأول بعد وقعة صفين على أقسام: أهل سنة، وهم أولوا العلم، وهم محبون للصحابة كافون عن الخوض في ما شجر بينهم؛ كسعد وابن عمر ومحمد بن مسلمة وأمم. ثم شيعة يتوالون وينالون ممن حاربوا عليا ويقولون: إنهم مسلمون بغاة ظلمة. ثم نواصب: وهم الذين حاربوا عليا يوم صفين، ويقرون بإسلام علي وسابقيه ويقولون: خذل الخليفة عثمان. فما علمت في ذلك الزمان شيعيا كفر معاوية وحزبه، ولا ناصبيا كفر عليا ¬

(¬1) الميزان (2/ 649 - 650). (¬2) الميزان (3/ 660).

وحزبه، بل دخلوا في سب وبغض، ثم صار اليوم شيعة زماننا يكفرون الصحابة، ويبرؤون منهم جهلا وعدوانا، ويتعدون إلى الصديق قاتلهم الله. وأما نواصب وقتنا فقليل، وما علمت فيهم من يكفر عليا ولا صحابيا. (¬1) - وقال في موضع آخر من السير: وخلف معاوية خلق كثير يحبونه ويتغالون فيه ويفضلونه، إما قد ملكهم بالكرم والحلم والعطاء، وإما قد ولدوا في الشام على حبه، وتربى أولادهم على ذلك، وفيهم جماعة يسيرة من الصحابة وعدد كثير من التابعين والفضلاء، وحاربوا معه أهل العراق ونشأوا على النصب نعوذ بالله من الهوى، كما قد نشأ جيش علي - رضي الله عنه - ورعيته -إلا الخوارج منهم- على حبه والقيام معه وبغض من بغى عليه والتبري منهم، وغلا خلق منهم في التشيع، فبالله كيف يكون حال من نشأ في إقليم لا يكاد يشاهد فيه إلا غاليا في الحب مفرطا في البغض، ومن أين يقع له الإنصاف والاعتدال؟ فنحمد الله على العافية، الذي أوجدنا في زمن قد انمحص فيه الحق واتضح من الطرفين، وعرفنا مآخذ كل واحد من الطائفتين، وتبصرنا فعذرنا، واستغفرنا وأحببنا باقتصاد، وترحمنا على البغاة بتأويل سائغ في الجملة أو بخطأ إن شاء الله مغفور، وقلنا كما علمنا الله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا} (¬2). وترضينا أيضا عمن اعتزل الفريقين كسعد بن أبي وقاص وابن ¬

(¬1) السير (5/ 374). (¬2) الحشر الآية (10).

عمر ومحمد بن مسلمة وسعيد بن زيد وخلق، وتبرأنا من الخوارج المارقين الذين حاربوا عليا وكفروا الفريقين. فالخوارج كلاب النار قد مرقوا من الدين، ومع هذا فلا نقطع لهم بخلود النار كما نقطع به لعبدة الأصنام والصلبان. (¬1) - وفيها: قال في ترجمة ابن السمسار: مات ابن السمسار في صفر سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة وقد كمل التسعين، وتفرد بالرواية عن ابن أبي العقب وطائفة، ولعل تشيعه كان تقية لا سجية، فإنه من بيت الحديث، ولكن غلت الشام في زمنه بالرفض، بل ومصر والمغرب بالدولة العبيدية، بل والعراق وبعض العجم بالدولة البويهية، واشتد البلاء دهرا، وشمخت الغلاة بأنفها، وتواخى الرفض والاعتزال حينئذ والناس على دين الملك، نسأل الله السلامة في الدين. (¬2) - وفيها: وضاع أمر الإسلام بدولة بني بويه وبني عبيد الرافضة، وتركوا الجهاد، وهاجت نصارى الروم وأخذوا المدائن وقتلوا وسبوا. (¬3) التعليق: هكذا كان حال شيعة الأمس، وأما اليوم فيخدعون الناس بشعارات كاذبة، أنهم سيحررون القدس من اليهود، ولكن على طريق احتلال العالم الإسلامي وملئه بالرفض والتشيع، ولا يبقى في أمة الإسلام إلا من يتقرب إلى ¬

(¬1) السير (3/ 128). (¬2) السير (17/ 507). (¬3) السير (16/ 232).

الله بسب خيرة الأمة، فهناك يحرر المجوس القدس من اليهود، ولا يدري المغفلون الذين ينخدعون بشعاراتهم أنهم أنجس من اليهود وأمريكا. - وجاء في السير أيضا: وكان جوهر -الأمير أبو الحسن الرومي- هذا حسن السيرة في الرعايا، عاقلا أديبا، شجاعا مهيبا، لكنه على نحلة بني عبيد التي ظاهرها الرفض وباطنها الانحلال، وعموم جيوشهم بربر وأهل زعارة وشر، لا سيما من تزندق منهم، فكانوا في معنى الكفرة، فيا ما ذاق المسلمون منهم من القتل والنهب وسبي الحريم، ولا سيما في أوائل دولتهم، حتى إن أهل صور قاموا عليهم وقتلوا فيهم، فهربوا حتى إن أهل صور استنجدوا بنصارى الروم فجاءوا في المراكب، وكان أهل صور قد لحقهم من المغاربة من الظلم والجور وأخذ الحريم من الحمامات والطرق أمر كبير. (¬1) - وقال في ترجمة أبي بكر بن النابلسي: لا يوصف ما قلب هؤلاء العبيدية الدين ظهرا لبطن، واستولوا على المغرب ثم على مصر والشام وسبوا الصحابة. (¬2) - وقال رحمه الله: فهذا ما تيسر من سيرة العشرة، وهم أفضل قريش، وأفضل السابقين المهاجرين، وأفضل البدريين، وأفضل أصحاب الشجرة، وسادة هذه الأمة في الدنيا والآخرة. فأبعد الله الرافضة، ما أغواهم وأشد هواهم، كيف اعترفوا بفضل واحد منهم وبخسوا التسعة حقهم، وافتروا ¬

(¬1) السير (16/ 468). (¬2) السير (16/ 149).

عليهم بأنهم كتموا النص في علي أنه الخليفة؟! فوالله ما جرى من ذلك شيء، وأنهم زوروا الأمر عنه بزعمهم وخالفوا نبيهم وبادروا إلى بيعة رجل من بني تيم، يتجر ويتكسب، لا لرغبة في أمواله ولا لرهبة من عشيرته ورجاله، ويحك أيفعل هذا من له مسكة عقل؟ ولو جاز هذا على واحد لما جاز على الجماعة، ولو جاز وقوعه من جماعة لاستحال وقوعه والحالة هذه من ألوف من سادة المهاجرين والأنصار وفرسان الأمة وأبطال الإسلام، لكن لا حيلة في برء الرفض فإنه داء مزمن، والهدى نور يقذفه الله في قلب من يشاء، فلا قوة إلا بالله. (¬1) التعليق: انظر هداك الله إلى هذا النص المبارك، وهذا الرد المفحم على أعداء الله، فهل هناك حجة أكثر وضوحا من هذه، فمن قرأ سيرة هؤلاء الأفاضل، كيف يخطر في باله أنهم ينزلون إلى هذا التصور الخسيس الذي أنزلهم له هؤلاء المجوس! ويرد على تصورهم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ترضى على المنافقين وبشر بالجنة المنافقين، وكل ما ورد من النصوص في فضلهم فهو في المنافقين، ولكن كما قال الشيخ: الرفض داء مزمن لا برء له إلا بالسيف، وأما الحجة والبرهان فلا تنفع مع هؤلاء، والله المستعان. - جاء في السير في ترجمة الرواجني المبتدع بعد كلامه من لم يبرأ في صلاته كل يوم من أعداء آل محمد حشر معهم. ¬

(¬1) السير (1/ 140 - 141).

قال الذهبي: هذا الكلام مبدأ الرفض بل نكف ونستغفر للأمة، فإن آل محمد في إِيَّاهُمْ قد عادى بعضهم بعضا، واقتتلوا على الملك، وتمت عظائم فمن أيهم نبرأ؟! (¬1) التعليق: ما أحسن هذا الكلام وما ألزمه للخصم، فمن نحب ونرفض، والسلف هم الوسط في هذا الباب وغيره، فترحموا على الجميع وأحبوا الجميع، واستغفروا للمسيء وهنئوا المصيب، والله المستعان. - وجاء في السير في ترجمة محمد بن الحسن العسكري قال رحمه الله رادا على دعوى المهدية المتخيلة من دخول سرداب وغياب وانتظار: نعوذ بالله من زوال العقل، فلو فرضنا وقوع ذلك في سالف الدهر، فمن الذي رآه؟ ومن الذي نعتمد عليه في إخباره بحياته؟ ومن الذي نص لنا على عصمته وأنه يعلم كل شيء؟ هذا هوس بين، إن سلطناه على العقول ضلت وتحيرت، بل جوزت كل باطل. أعاذنا الله وإياكم من الاحتجاج بالمحال والكذب، أورد الحق الصحيح كما هو ديدن الإمامية. (¬2) - وجاء في الميزان: فالشيعي الغالي في زمان السلف وعرفهم هو من تكلم في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية وطائفة ممن حارب عليا رضي الله عنه، وتعرض لسبهم. والغالي في زماننا وعرفنا هو الذي يكفر هؤلاء السادة، ¬

(¬1) السير (11/ 537 - 538). (¬2) السير (13/ 122).

ويتبرأ من الشيخين أيضا، فهذا ضال معثر. (¬1) - وفيه: علي بن الحسين (العلوي الحسيني الشريف المرتضى المتكلم الرافضي المعتزلي، صاحب التصانيف. حدث عن سهل الديباجي، والمرزباني، وغيرهما. وولي نقابة العلوية، ومات سنة ست وثلاثين وأربعمائة، عن إحدى وثمانين سنة؛ وهو المتهم بوضع كتاب نهج البلاغة، وله مشاركة قوية في العلوم، ومن طالع كتابه نهج البلاغة، جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، ففيه السب الصراح والحط على السيدين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي من له معرفة بنفس القرشيين الصحابة وبنفس غيرهم ممن بعدهم من المتأخرين، جزم بأن الكتاب أكثره باطل. (¬2) - وقال رحمه الله في ترجمة ابن خراش: هذا والله الشيخ المعثر الذي ضل سعيه، فإنه كان حافظ زمانه، وله الرحلة الواسعة، والاطلاع الكثير والإحاطة، وبعد هذا فما انتفع بعلمه، فلا عَتْب على حمير الرافضة وحواثر جَزِّين ومشغَرَا. (¬3) - وقال في التذكرة في ترجمته أيضا: جهلة الرافضة لم يدروا الحديث ولا السيرة ولا كيف ثم، فأما أنت أيها الحافظ البارع الذي شربت بولك إن صدقت في الترحال، فما عذرك عند الله؟ مع خبرتك بالأمور، فأنت زنديق ¬

(¬1) الميزان (1/ 6). (¬2) الميزان (3/ 124). (¬3) الميزان (2/ 600).

معاند للحق فلا رضي الله عنك. (¬1) - وفي الميزان: عمران بن مسلم الفزاري، كوفي. عن مجاهد، وعطية. وعنه الفضل السيناني، وأبو نعيم. قال أبو أحمد الزبيري: رافضي، كأنه جرو كلب. قال الذهبي: خراء الكلاب كالرافضي. (¬2) - وجاء في السير: قال الذهبي: لم يكن سعيد -يعني: ابن زيد- متأخرا عن رتبة أهل الشورى في السابقة والجلالة، وإنما تركه عمر رضي الله عنه، لئلا يبقى له فيه شائبة حظ، لأنه ختنه وابن عمه، ولو ذكره في أهل الشورى لقال الرافضي: حابى ابن عمه. فأخرج منها ولده وعصبته. فكذلك فليكن العمل لله. (¬3) - وفيها: قال في ترجمة مسطح بن أثاثة المذكور في قصة الإفك: إياك يا جري أن تنظر إلى هذا البدري شزرا لهفوة بدت منه، فإنها قد غفرت، وهو من أهل الجنة. وإياك يا رافضي أن تلوح بقذف أم المؤمنين بعد نزول النص في براءتها فتجب لك النار. (¬4) - وفيها: وكان تزويجه - صلى الله عليه وسلم - بها -أي عائشة رضي الله عنها- إثر وفاة خديجة، فتزوج بها وبسودة في وقت واحد، ثم دخل بسودة، فتفرد بها ثلاثة أعوام حتى بنى بعائشة في شوال بعد وقعة بدر. فما تزوج بكرا سواها، ¬

(¬1) التذكرة (2/ 685). (¬2) الميزان (3/ 242). (¬3) السير (1/ 138). (¬4) السير (1/ 188).

وأحبها حبا شديدا كان يتظاهر به، بحيث إن عمرو بن العاص، وهو ممن أسلم سنة ثمان من الهجرة، سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي الناس أحب إليك يا رسول الله؟ قال: «عائشة» قال: فمن الرجال؟ قال: «أبوها» (¬1). وهذا خبر ثابت على رغم أنوف الروافض، وما كان عليه السلام ليحب إلا طيبا. وقد قال: «لو كنت متخذا خليلا من هذه الأمة، لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام أفضل» (¬2) فأحب أفضل رجل من أمته وأفضل امرأة من أمته، فمن أبغض حبيبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو حري أن يكون بغيضا إلى الله ورسوله. وحبه عليه السلام لعائشة كان أمرا مستفيضا، ألا تراهم كيف كانوا يتحرون بهداياهم يومها تقربا إلى مرضاته. (¬3) - وصح من حديث عمارة بن عمير، قال: جيء برأس عبيد الله بن زياد وأصحابه، فأتيناهم وهو يقولون: قد جاءت قد جاءت، فإذا حية تخلل الرؤوس حتى دخلت في منخر عبيد الله، فمكثت هُنية، ثم خرجت، وغابت، ثم قالوا: قد جاءت، قد جاءت، ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثا. قال الذهبي: الشيعي لا يطيب عيشه حتى يلعن هذا ودونه، ونحن ¬

(¬1) أحمد (4/ 203) والبخاري (7/ 22/3662) ومسلم (4/ 1856/2384) والترمذي (5/ 663/3885) والنسائي في الكبرى (5/ 36/8106). (¬2) أحمد (1/ 270) والبخاري (1/ 734/466) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفي الباب عن ابن مسعود وأبي سعيد اخدري وابن الزبير وأبي المعالي الأنصاري وجندب وأبي هريرة - رضي الله عنهم -. (¬3) السير (2/ 141 - 142).

نبغضهم في الله، ونبرأ منهم ولا نلعنهم، وأمرهم إلى الله. (¬1) - وفيها: قال ابن سعد: أنبأنا محمد بن الصلت، حدثنا ربيع بن منذر، عن أبيه قال: كنا مع ابن الحنفية، فأراد أن يتوضأ، فنزع خفيه، ومسح على قدميه. قال الذهبي: هذا قد يتعلق به الإمامية وبظاهر الآية، لكن غسل الرجلين شرع لازم بينه لنا الرسول -اللهم صل عليه- وقال: «ويل للأعقاب من النار» (¬2) وعليه عمل الأمة ولا اعتبار بمن شذ. قال رافضي: فأنتم ترون مسح موضع ثلاث شعرات بل شعرة من الرأس يجزئ، والنص فلا يحتمل هذا، ولا يسمى من اقتصر عليه ماسحا لرأسه عرفا، ولا رأينا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا أحدا من أصحابه اجتزأ بذلك ولا جوزه. فالجواب: أن الباء للتبعيض في قوله: {برؤوسكم} (¬3) وليس هذا الموضع يحتمل تقرير هذه المسألة. (¬4) - وفيها: قال في ترجمة أبي جعفر الباقر: وكان أحد من جمع بين العلم والعمل والسؤدد، والشرف، والثقة، والرزانة، وكان أهلا للخلافة. وهو أحد الأئمة الاثني عشر الذين تبجلهم الشيعة الإمامية وتقول بعصمتهم وبمعرفتهم بجميع الدين. فلا عصمة إلا للملائكة والنبيين، وكل أحد يصيب ويخطئ، ويؤخذ من قوله ويترك سوى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه معصوم، مؤيد بالوحي. ¬

(¬1) السير (3/ 549). (¬2) أحمد (2/ 228 - 284 - 406 - 467) والبخاري (1/ 354/165) ومسلم (1/ 214/242) والترمذي (1/ 58/41) والنسائي (1/ 82/110) كلهم أخرجه من حديث أبي هريرة، وفي الباب عن عبد الله بن عمرو وعائشة وغيرهما. (¬3) المائدة الآية (6). (¬4) السير (4/ 127).

قال ابن فضيل، عن سالم بن أبي حفصة: سألت أبا جعفر وابنه جعفرا عن أبي بكر وعمر، فقالا لي: يا سالم، تولهما وابرأ من عدوهما، فإنهما كانا إمامي هدى. كان سالم فيه تشيع ظاهر، ومع هذا فيبث هذا القول الحق، وإنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذو الفضل، وكذلك ناقلها ابن فضيل، شيعي ثقة. فعثر الله شيعة زماننا ما أغرقهم في الجهل والكذب، فينالون من الشيخين وزيري المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ويحملون هذا القول من الباقر والصادق على التقية. وروى إسحاق الأزرق، عن بسام الصيرفي، قال: سألت أبا جعفر عن أبي بكر وعمر، فقال: والله إني لأتولاهما وأستغفر لهما، وما أدركت أحدا من أهل بيتي إلا وهو يتولاهما. (¬1) - وفيها: عن حنان بن سدير، سمعت جعفر بن محمد، وسئل عن أبي بكر وعمر، فقال: إنك تسألني عن رجلين قد أكلا من ثمار الجنة. وعن عمرو بن قيس الملائي، سمعت جعفر بن محمد يقول: برئ الله ممن تبرأ من أبي بكر وعمر. قال الذهبي: هذا القول متواتر عن جعفر الصادق، وأشهد بالله إنه لبار في قوله غير منافق لأحد، فقبح الله الرافضة. (¬2) - وفيها: قال وكيع: حسن بن صالح عندي إمام. فقيل له: إنه لا ¬

(¬1) السير (4/ 402 - 403). (¬2) السير (6/ 259 - 260).

يترحم على عثمان. فقال: أفتترحم أنت على الحجاج؟ قال الذهبي: لا بارك الله في هذا المثال. ومراده: أن ترك الترحم سكوت، والساكت لا ينسب إليه قول، ولكن من سكت عن ترحم مثل الشهيد أمير المؤمنين عثمان فإن فيه شيئا من تشيع، فمن نطق فيه بغض وتنقص فهو شيعي جلد يؤدب، وإن ترقى إلى الشيخين بذم، فهو رافضي خبيث، وكذا من تعرض للإمام علي بذم، فهو ناصبي يعزر، فإن كفره، فهو خارجي مارق، بل سبيلنا أن نستغفر للكل ونحبهم، ونكف عما شجر بينهم. (¬1) - وفيها: وروى أبو داود الرهاوي، أنه سمع شريكا يقول: علي خير البشر، فمن أبى فقد كفر. قال الذهبي: ما ثبت هذا عنه. ومعناه حق. يعني: خير بشر زمانه، وأما خيرهم مطلقا، فهذا لا يقوله مسلم. (¬2) - وفيها: قال الذهبي في عبيد الله بن موسى: كان صاحب عبادة وليل، صحب حمزة، وتخلق بآدابه، إلا في التشيع المشؤوم، فإنه أخذه عن أهل بلده المؤسس على البدعة. (¬3) - وفيها: عن زر، عن علي رضي الله عنه، قال: والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إنه لعهد النبي الأمي إلي، أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا ¬

(¬1) السير (7/ 369 - 370). (¬2) السير (8/ 205). (¬3) السير (9/ 555).

منافق (¬1). غريب عن شعبة، والمشهور حديث الأعمش عن عدي. فمعناه أن حب علي من الإيمان، وبغضه من النفاق، فالإيمان ذو شعب، وكذلك النفاق يتشعب، فلا يقول عاقل: إن مجرد حبه يصير الرجل به مؤمنا مطلقا، ولا بمجرد بغضه يصير به الموحد منافقا خالصا. فمن أحبه وأبغض أبا بكر، كان في منزلة من أبغضه وأحب أبا بكر، فبغضهما ضلال ونفاق، وحبهما هدى وإيمان، والحديث ففي صحيح مسلم. (¬2) - وفيها: وقد ذكره أبو القاسم ابن عساكر في ترجمة معاوية، فقال: كان أبو عروبة غاليا في التشيع، شديد الميل على بني أمية. قال الذهبي: كل من أحب الشيخين فليس بغال، بلى من تعرض لهما بشيء من تنقص، فإنه رافضي غال، فإن سب، فهو من شرار الرافضة، فإن كفر، فقد باء بالكفر، واستحق الخزي، وأبو عروبة فمن أين يجيئه الغلو، وهو صاحب حديث وحراني؟ بلى لعله ينال من المروانية فيعذر. (¬3) - قال الذهبي في الحاكم بأمر الله (صاحب مصر): وكان شيطانا مريدا جبارا عنيدا، كثير التلون، سفاكا للدماء، خبيث النحلة، عظيم المكر جوادا ممدحا، له شأن عجيب، ونبأ غريب، كان فرعون زمانه، يخترع كل وقت أحكاما يلزم الرعية بها. أمر بسب الصحابة رضي الله عنهم، وبكتابة ذلك ¬

(¬1) تقدم تخريجه في مواقف الآجري سنة (360هـ). (¬2) السير (12/ 509 - 510). (¬3) السير (14/ 511).

على أبواب المساجد والشوارع. وأمر عماله بالسب. (¬1) - وفيها قال: ليس تفضيل علي برفض ولا هو ببدعة، بل قد ذهب إليه خلق من الصحابة والتابعين، فكل من عثمان وعلي ذو فضل وسابقة وجهاد، وهما متقاربان في العلم والجلالة، ولعلهما في الآخرة متساويان في الدرجة، وهما من سادة الشهداء رضي الله عنهما، ولكن جمهور الأمة على ترجيح عثمان على الإمام علي، وإليه نذهب. والخطب في ذلك يسير، والأفضل منهما بلا شك أبو بكر وعمر، من خالف في ذا فهو شيعي جلد، ومن أبغض الشيخين واعتقد صحة إمامتهما فهو رافضي مقيت، ومن سبهما واعتقد أنهما ليسا بإمامي هدى فهو من غلاة الرافضة، أبعدهم الله. (¬2) - قال في التذكرة: فيا أخي إن أحببت أن تعرف هذا الإمام -يعني عمر ابن الخطاب- حق المعرفة فعليك بكتابي 'نعم السمر في سيرة عمر'، فإنه فارق فيصل بين المسلم والرافضي، فوالله ما يغض من عمر إلا جاهل دائص، أو رافضي فاجر وأين مثل أبي حفص فما دار الفلك على مثل شكل عمر، وهو الذي سن للمحدثين التثبت في النقل، وربما كان يتوقف في خبر الواحد إذا ارتاب. (¬3) - وقال في ترجمة محمد بن النعمان الأحول: عراقي شيعي جلد، يلقبه الشيعة بمؤمن الطاق. يعد من أصحاب جعفر بن محمد. صنف كتاب ¬

(¬1) السير (15/ 174). (¬2) السير (16/ 457 - 458). (¬3) التذكرة (1/ 6).

موقفه من الصوفية:

'الإمامة' وكتاب 'الرد على المعتزلة' وكتاب 'طلحة وعائشة' وكتاب 'المعرفة' وكتاب 'في أيام هارون الرشيد'. (¬1) موقفه من الصوفية: - جاء في السير في ترجمة القرميسيني قال: علم الفناء والبقاء يدور على إخلاص الوحدانية وصحة العبودية، وما كان غير هذا فهو من المغالطة والزندقة. قال الذهبي: صدقت والله، فإن الفناء والبقاء من ترهات الصوفية، أطلقه بعضهم فدخل من بابه كل إلحادي وكل زنديق، وقالوا: ما سوى الله باطل فَانٍ، والله تعالى هو الباقي وهو هذه الكائنات، وما ثم شيء غيره، ويقول شاعرهم: وما أنت غير الكون ... بل أنت عينه ويقول الآخر: وما ثم إلا الله ليس سواه. فانظر إلى هذا المروق والضلال، بل كل ما سوى الله محدث موجود. قال الله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} (¬2). وإنما أراد قدماء الصوفية بالفناء نسيان المخلوقات وتركها وفناء النفس عن التشاغل بما سوى الله، ولا يسلم إليهم هذا أيضا، بل أمرنا الله ورسوله بالتشاغل بالمخلوقات ورؤيتها والإقبال عليها وتعظيم خالقها، وقال تعالى: ¬

(¬1) السير (10/ 553). (¬2) السجدة الآية (4).

{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} (¬1) وقال: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬2). وقال عليه السلام: «حبب إلي النساء والطيب» (¬3). وقال: «كأنك علمت حبنا للحم». (¬4) وكان يحب عائشة ويحب أباها (¬5) ويحب أسامة (¬6) ويحب سبطيه (¬7) ويحب ¬

(¬1) الأعراف الآية (185). (¬2) يونس الآية (101). (¬3) أحمد (3/ 128 و199 و285) والنسائي (7/ 72/3949) والحاكم (2/ 160) وقال: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي. وأخرجه: البيهقي (7/ 78) من حديث أنس. (¬4) رواه أحمد (3/ 303،397 - 398) والدارمي (1/ 24) من طريقين عن الأسود بن قيس عن نبيح العنزي عن جابر رضي الله عنه. وأصل الحديث عند: أبي داود (2/ 185/1533) والنسائي في الكبرى (6/ 112/10256) وغيرهما. وصححه ابن حبان (3/ 197/916). (¬5) أحمد (4/ 203) والبخاري (7/ 22/3662) ومسلم (4/ 1856/2384) والترمذي (5/ 663/3885) والنسائي في الكبرى (5/ 36/8106). (¬6) عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يأخذه والحسن ويقول: اللهم أحبهما فإني أحبهما. أخرجه: أحمد (5/ 210) والبخاري (7/ 110/3735) واللفظ له. النسائي في الكبرى (5/ 53/8183). (¬7) عن عبد الله بن مسعود قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره: فإذا أرادوا أن يمنعوهما أشار إليهما أن دعو. هما فإذا قضى الصلاة وضعهما في حجره قال: من أحبني فليحب هذين. أخرجه: النسائي في الكبرى (5/ 50/8170) والطبراني (3/ 40/2644) وأبو يعلى (8/ 434/5017) والبزار (5/ 226/1833و1834 البحر الزخار). ابن حبان (15/ 426 - 427/ 6970 الإحسان) وابن خزيمة (2/ 48/887). قال الهيثمي في المجمع (9/ 179 - 180): "رواه أبو يعلى والبزار والطبراني باختصار، ورجال أبي يعلى ثقات وفي بعضهم خلاف".

الحلواء والعسل (¬1) ويحب جبل أحد (¬2) ويحب وطنه (¬3) ويحب الأنصار (¬4) إلى أشياء لا تحصى مما لا يغني المؤمن عنها قط. (¬5) - وقال بعد كلام في ترجمة ابن الأعرابي: إي والله، دققوا وعمقوا وخاضوا في أسرار عظيمة، ما معهم على دعواهم فيها سوى ظن وخيال، ولا وجود لتلك الأحوال من الفناء والمحو والصحو والسكر إلا مجرد خطرات ووساوس، ما تفوه بعباراتهم صديق ولا صاحب ولا إمام من التابعين، فإن طالبتهم بدعاويهم مقتوك وقالوا: محجوب، وإن سلمت لهم قيادك تخبط ما معك من الإيمان، وهبط بك الحال على الحيرة والمحال، ورمقت العباد بعين المقت، وأهل القرآن والحديث بعين البعد، وقلت: مساكين محجوبون، فلا ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (6/ 59) والبخاري (10/ 77/5599) ومسلم (2/ 1101 - 1102/ 1474 (21)) مطولا. والترمذي (4/ 241/1831) وقال: "حديث حسن صحيح غريب". وأبو داود (4/ 106 - 107/ 3715) والنسائي في الكبرى (4/ 370/7562) وابن ماجه (2/ 1104/3323) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬2) أحمد (3/ 149) والبخاري (7/ 480/4083) ومسلم (2/ 1011/1393) والترمذي (5/ 678/3922) من حديث أنس رضي الله عنه. ورواه البخاري معلقا (3/ 438) من حديث سهل بن سعد. وفي الباب عن أبي حميد وسويد بن عامر وغيرهما. (¬3) كأنه يشير إلى ما رواه: أحمد (4/ 305) والترمذي (5/ 679/3925) والنسائي في الكبرى (2/ 479/4252) وابن ماجه (2/ 1037/3108) والحاكم (3/ 7) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي .. ابن حبان (9/ 22/3708) كلهم من طريق الزهري عن أبي سلمة عن عبد الله بن عدي بن الحمراء الزهري أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو واقف بالحزورة في سوق مكة: «والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله عز وجل ولولا أني أخرجت منك ما خرجت». (¬4) عن أنس رضي الله عنه قال: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - النساء والصبيان -مقبلين قال: حسبت أنه قال من عرس- فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - ممثلا فقال: «اللهم أنتم من أحب الناس إلي». قالها ثلاث مرار. رواه: أحمد (3/ 175 - 176) والبخاري (7/ 142 - 143/ 3785) ومسلم (4/ 1948/2508). (¬5) السير (15/ 393 - 394).

حول ولا قوة إلا بالله. فإنما التصوف والتأله والسلوك والسير والمحبة؛ ما جاء عن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - من الرضى عن الله، ولزوم تقوى الله، والجهاد في سبيل الله، والتأدب بآداب الشريعة من التلاوة بترتيل وتدبر، والقيام بخشية وخشوع، وصوم وقت وإفطار وقت، وبذل المعروف، وكثرة الإيثار، وتعليم العوام، والتواضع للمؤمنين، والتعزز على الكافرين، ومع هذا فالله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (¬1). التعليق: كان الصحابة يهتدون بهدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويحتذون حذوه قدر ما يستطيعون، وكذلك السلف من بعدهم، الذين نهجوا نهجهم واقتدوا بسيرتهم، فأما ما ذكره الشيخ من نسبة التصوف إلى الصحابة فهذه هفوة منه، فهذا الاسم لا ينبغي أن يطلق في حقهم، فهم أشرف من ذلك، وهذا من مخترعات الرهبان ومن سار على دربهم. - وقال في ترجمة "كرز" بعد أن حكى زهده وعبادته: هكذا كان زهاد السلف وعبادهم أصحاب خوف وخشوع، وتعبد وقنوع، ولا يدخلون في الدنيا وشهواتها، ولا في عبارات أحدثها المتأخرون من الفناء والمحو والاصطلام والاتحاد، وأشباه ذلك مما لا يسوغه كبار العلماء، فنسأل الله التوفيق والإخلاص ولزوم الاتباع. (¬2) ¬

(¬1) السير (15/ 409 - 410). (¬2) السير (6/ 86).

- وقال بعد كلام في الجوع والسهر في ترجمة أحمد بن أبي الحواري: الطريقة المثلى هي المحمدية وهو الأخذ من الطيبات، وتناول الشهوات المباحة من غير إسراف كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} (¬1). وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام وآتي النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني» (¬2) فلم يشرع لنا الرهبانية ولا التمزق ولا الوصال بل ولا صوم الدهر، ودين الإسلام يسر وحنيفية سمحة، فليأكل المسلم من الطيب إذا أمكنه كما قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} (¬3). وقد كان النساء أحب شيء إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك اللحم والحلواء والعسل والشراب الحلو البارد والمسك، وهو أفضل الخلق وأحبهم إلى الله تعالى. ثم العابد العري من العلم متى زهد وتبتل وجاع وخلا بنفسه وترك اللحم والثمار واقتصر على الدقة والكسرة صفت حواسه ولطفت، ولازمته خطرات النفس، وسمع خطابا يتولد من الجوع والسهر لا وجود لذلك الخطاب -والله- في الخارج وولج الشيطان في باطنه، وخرج فيعتقد أنه قد وصل وخوطب وارتقى، فيتمكن منه الشيطان ويوسوس له، فينظر إلى المؤمنين بعين الازدراء ويتذكر ذنوبهم وينظر إلى نفسه بعين الكمال، وربما آل ¬

(¬1) المؤمنون الآية (51). (¬2) أحمد (3/ 285) والبخاري (9/ 129/5063) ومسلم (2/ 1020/1401) والنسائي (6/ 368 - 369/ 3217) من حديث أنس. وليس عند البخاري ذكر أكل اللحم وعند الباقين ذكره في كلام النفر. (¬3) الطلاق الآية (7).

به الأمر إلى أن يعتقد أنه ولي صاحب كرامات وتمكن، وربما حصل له شك، وتزلزل إيمانه، فالخلوة والجوع أبو جاد الترهب، وليس ذلك من شريعتنا في شيء، بلى، السلوك الكامل هو الورع في القوت، والورع في المنطق وحفظ اللسان، وملازمة الذكر، وترك مخالطة العامة، والبكاء على الخطيئة والتلاوة بالترتيل والتدبر، ومقت النفس وذمها في ذات الله، والإكثار من الصوم المشروع، ودوام التهجد، والتواضع للمسلمين، وصلة الرحم والسماحة وكثرة البشر، والانفاق مع الخصاصة، وقول الحق المر برفق وتؤدة، والأمر بالعرف والأخذ بالعفو والإعراض عن الجاهلين، والرباط بالثغر، وجهاد العدو، وحج البيت، وتناول الطيبات في الأحايين، وكثرة الاستغفار في السحر، فهذه شمائل الأولياء وصفات المحمديين أماتنا الله على محبتهم. (¬1) - قال رحمه الله في ترجمة الأنصاري كما في السير: قد انتفع به خلق وجهل آخرون، فإن طائفة من صوفة الفلسفة والاتحاد يخضعون لكلامه في منازل السائرين وينتحلونه ويزعمون أنه موافقهم. كلا بل هو رجل أثري لهج بإثبات نصوص الصفات، منافر للكلام وأهله جدا، وفي منازله إشارات إلى المحو والفناء، وإنما مراده بذلك الفناء، هو الغيبة عن شهود السوى ولم يرد محو السوى في الخارج، وياليته لا صنف ذلك، فما أحلى تصوف الصحابة والتابعين؛ ما خاضوا في هذه الخطرات والوساوس، بل عبدوا الله وذلوا له، وتوكلوا عليه وهم من خشيته مشفقون، ولأعدائه مجاهدون، وفي الطاعة مسارعون، وعن اللغو معرضون، والله يهدي من يشاء إلى صراط ¬

(¬1) السير (12/ 89 - 91).

مستقيم. (¬1) التعليق: قال جامعه غفر الله له: إضافته التصوف إلى الصحابة قد نبهنا عليه في التعليق السالف فلينظر. - قال الذهبي في ترجمة محمد بن منصور الطوسي: متى رأيت الصوفي مكبا على الحديث فثق به، ومتى رأيته نائيا عن الحديث فلا تفرح به، لاسيما إذا انضاف إلى جهله بالحديث عكوف على ترهات الصوفية، ورموز الباطنية، نسأل الله السلامة، كما قال ابن المبارك: وهل أفسد الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها (¬2) - وقال في ترجمة ابن عطاء: ثبت الله علينا عقولنا وإيماننا، فمن تسبب في زوال عقله بجوع، ورياضة صعبة، وخلوة، فقد عصى وأثم، وضاهى من أزال عقله بعض يوم بسكر. فما أحسن التقيد بمتابعة السنن والعلم. (¬3) - وقال: قال مكي بن عمر البيع: سمعت محمد بن عيسى يقول: صام طاهر أربعين يوما أربعين مرة، فآخر أربعين عملها صام على قشر الدخن، فَلِيُبْسِه قرع رأسه، واختلط في عقله، ولم أر أكثر مجاهدة منه. قال الذهبي: فعل هذه الأربعينات حرام قطعا، فعقباها موت من الخور ¬

(¬1) السير (18/ 510). (¬2) السير (12/ 213). (¬3) السير (14/ 256).

أو جنون واختلاط، أو جفاف يوجب للمرء سماع خطاب لا وجود له أبدا في الخارج، فيظن صاحبه أنه خطاب إِلِّي (¬1). كلا والله. (¬2) - وقال: قيل: إنه عمل له خلوة، فبقي خمسين يوما لا يأكل شيئا. وقد قلنا: إن هذا الجوع المفرط لا يسوغ، فإذا كان سرد الصيام والوصال قد نهي عنهما، فما الظن؟ وقد قال نبينا - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع» (¬3). ثم قل من عمل هذه الخلوات المبتدعة إلا واضطرب، وفسد عقله، وجف دماغه، ورأى مرأى، وسمع خطابا لا وجود له في الخارج، فإن كان متمكنا من العلم والإيمان، فلعله ينجو بذلك من تزلزل توحيده، وإن كان جاهلا بالسنن وبقواعد الإيمان، تزلزل توحيده، وطمع فيه الشيطان، وادعى الوصول، وبقي على مزلة قدم، وربما تزندق، وقال أنا هو. نعوذ بالله من النفس الأمارة، ومن الهوى، ونسأل الله أن يحفظ علينا إيماننا آمين. (¬4) - وقال رحمه الله: أما 'الإحياء' ففيه من الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خير كثير لولا ما فيه من آداب ورسوم وزهد من طرائق الحكماء ومنحرفي الصوفية، نسأل الله علما نافعا، تدري ما العلم النافع؟ هو ما نزل به القرآن، وفسره الرسول - صلى الله عليه وسلم - قولا وفعلا، ولم يأت نهي عنه، قال عليه السلام: «من ¬

(¬1) أي إلهي. (¬2) السير (17/ 391). (¬3) أبو داود (2/ 191/1547) والنسائي (8/ 656/5483) وابن ماجه (2/ 1113/3354) وابن حبان (3/ 304/1029) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) السير (17/ 576 - 577).

رغب عن سنتي، فليس مني» (¬1)، فعليك يا أخي بتدبر كتاب الله، وبإدمان النظر في الصحيحين، وسنن النسائي، ورياض النواوي وأذكاره، تفلح وتنجح، وإياك وآراء عباد الفلاسفة، ووظائف أهل الرياضات، وجوع الرهبان، وخطاب طيش رؤوس أصحاب الخلوات، فكل الخير في متابعة الحنيفية السمحة، فواغوثاه بالله، اللهم اهدنا إلى صراطك المستقيم. (¬2) - وفي السير: وقال ابن هلالة: جلست عنده -أي نجم الدين الكبرى - في الخلوة مرارا، وشاهدت أمورا عجيبة، وسمعت من يخاطبني بأشياء حسنة. قال الذهبي: لا وجود لمن خاطبك في خلوتك مع جوعك المفرط، بل هو سماع كلام في الدماغ الذي قد طاش وفاش وبقي قرعة، كما يتم للمبرسم والمغمور بالحمى والمجنون، فاجزم بهذا واعبد الله بالسنن الثابتة تفلح. (¬3) - وقال في ترجمة يونس بن يوسف بن مساعد الشيباني المخارقي الجزري القنيي الزاهد: أحد الأعلام، شيخ اليونسية أولي الزعارة والشطح والخواثة وخفة العقل. كان ذا كشف وحال، ولم يكن عنده كبير علم، وله شطح، وشعر ملحون ينظمه على لسان الربوبية، وبعضه كأنه كذب، والله أعلم بسره، فلا يغتر المسلم بكشف ولا بحال ولا بإخبار عن مغيب، فابن ¬

(¬1) تقدم تخريجه قريبا. (¬2) السير (19/ 339 - 340). (¬3) السير (22/ 112).

موقفه من الجهمية:

صائد وإخوانه الكهنة لهم خوارق، والرهبان فيهم من قد تمزق جوعا وخلوة ومراقبة على غير أساس ولا توحيد، فصفت كدورات أنفسهم وكاشفوا وفشروا، ولا قدوة إلا في أهل الصفوة وأرباب الولاية المنوطة بالعلم والسنن، فنسأل الله إيمان المتقين، وتأله المخلصين، فكثير من المشايخ نتوقف في أمرهم حتى يتبرهن لنا أمرهم، وبالله الاستعانة. (¬1) - وقال في محمد بن إبراهيم الفخر الفارسي الصوفي: ومن تصانيفه كتاب الأسرار، وسر الأسكار، جمع فيه بين الحقيقة والشريعة فتكلف، وقال ما لا ينبغي. وله كتاب مطية النقل وعطية العقل في علم الكلام، وكتاب الفرق بين الصوفي والفقير، وكتاب جمحة النهى في لمحة المها. (¬2) موقفه من الجهمية: - قال في السير: والمعتزلة تقول: لو أن المحدثين تركوا ألف حديث في الصفات والأسماء والرؤية والنزول لأصابوا. والقدرية تقول: لو أنهم تركوا سبعين حديثا في إثبات القدر. والرافضة تقول: لو أن الجمهور تركوا من الأحاديث التي يدعون صحتها ألف حديث لأصابوا، وكثير من ذوي الرأي يردون أحاديث شافه بها الحافظ المفتي المجتهد أبو هريرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويزعمون أنه ما كان فقيها، ويأتوننا بأحاديث ساقطة أو لا يعرف لها، إسناد أصلا محتجين بها. قلنا: وللكل موقف بين يدي الله تعالى. يا سبحان الله، أحاديث رؤية ¬

(¬1) السير (22/ 178 - 179). (¬2) الميزان (3/ 452).

الله في الآخرة متواترة، والقرآن مصدق لها، فأين الإنصاف؟ (¬1) التعليق: ما ذكره الإمام الذهبي من أمنية هؤلاء المبتدعة، معناه رفض السنة من أَلِفِها إلى يائها، والعيش على الهوى والتخبط حتى تصير حالة أرباب هذا التصور الفاسد شرا من حالة عباد الأصنام في الجاهلية. نسأل الله العافية. - قال في ترجمة علي بن عبيد الله: وله تصانيف فيها أشياء من بحوث المعتزلة بدعوه بها، لكونه نصرها وما هذا من خصائصه، بل قل من أمعن النظر في علم الكلام إلا وأداه اجتهاده إلى القول بما يخالف محض السنة، ولهذا ذم علماء السلف النظر في علم الأوائل، فإن علم الكلام مولد من علم الحكماء الدهرية، فمن رام الجمع بين علم الأنبياء عليهم السلام، وبين علم الفلاسفة بذكائه، لابد وأن يخالف هؤلاء وهؤلاء. ومن كف ومشى خلف ما جاءت به الرسل من إطلاق ما أطلقوا ولم يتحذلق ولا عمق، فإنهم صلوات الله عليهم أطلقوا وما عمقوا، فقد سلك طريق السلف الصالح، وسلم له دينه ويقينه. نسأل الله السلامة في الدين. (¬2) التعليق: لله درك يا محدث الشام. ويا مؤرخ الإسلام، كم لك من الحسنات، وكم لك من الحكم، وهذه منها. غير أن الذين بعدوا عن السنة في هذا ¬

(¬1) السير (10/ 455). (¬2) الميزان (3/ 144).

الزمان لا يعترفون إلا بمن تضلع في علم الكلام، وأما علم الأنبياء فيرونه علم الجهال لأن الأنبياء في نظرهم ما بعثوا إلا للجهال، نسأل الله العافية. - قال في السير معلقا على قول أبي قربة: إذا حدثت الرجل بالسنة فقال: دعنا من هذا وهات كتاب الله، فاعلم أنه ضال. قلت أنا: وإذا رأيت المتكلم المبتدع يقول: دعنا من الكتاب والأحاديث الآحاد، وهات (العقل)؟ فاعلم أنه أبو جهل. وإذا رأيت السالك التوحيدي يقول: دعنا من النقل ومن العقل، وهات الذوق والوجد، فاعلم أنه إبليس قد ظهر بصورة بشر أو قد حل فيه فإن جبنت منه فاهرب، وإلا فاصرعه وابرك على صدره واقرأ عليه آية الكرسي واخنقه. (¬1) التعليق: وهل بعد هذا الوصف من وصف؟ ولو نطق أحدنا في هذا الزمان بهذه العبارات، لعد من كبار المتنطعين والمتشددين، فانظر -هداك الله- إلى هذه العبارات التي تستحق أن تكتب بماء الذهب، وهو فيها رخيص، والحمد لله رب العالمين. - جاء في السير قال: قلت: الجهمية يقولون: إن الباري تعالى في كل مكان، والسلف يقولون: إن علم الباري في كل مكان، ويحتجون بقوله ¬

(¬1) السير (4/ 472).

تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (¬1)، يعني بالعلم. ويقولون: إنه على عرشه استوى كما نطق به القرآن والسنة. وقال الأوزاعي وهو إمام وقته: كنا -والتابعون متوافرون- نقول: إن الله تعالى فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته، ومعلوم عند أهل العلم من الطوائف أن مذهب السلف، إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تأويل ولا تحريف ولا تشبيه ولا تكييف، فإن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات المقدسة، وقد علم المسلمون أن ذات الباري موجودة حقيقة لا مثل لها، وكذلك صفاته تعالى موجودة لا مثل لها. (¬2) - جاء في السير: قال -عند قول أبي يوسف: العلم بالخصومات والكلام جهل- مثاله شبه وإشكالات من نتائج أفكار أهل الكلام، تورد في الجدال على آيات الصفات وأحاديثها، فيكفر هذا هذا، وينشأ الاعتزال والتجهم والتجسيم وكل بلاء. نسأل الله العافية. (¬3) - وفيها أيضا: قال -بعد كلام نعيم بن حماد: من شبه الله بخلقه فقد كفر-: قلت: هذا الكلام حق نعوذ بالله من التشبيه، ومن إنكار أحاديث الصفات، فما ينكر الثابت منها من فقه، وإنما بعد الإيمان بها هنا مقامان مذمومان: ¬

(¬1) الحديد الآية (4). (¬2) السير (8/ 402). (¬3) السير (8/ 539).

تأويلها وصرفها عن موضوع الخطاب، فما أولها السلف ولا حرفوا ألفاظها عن مواضعها، بل آمنوا بها وأمروها كما جاءت. المقام الثاني: المبالغة في إثباتها وتصورها من جنس صفات البشر وتشكلها في الذهن، فهذا جهل وضلال. وإنما الصفة تابعة للموصوف، فإذا كان الموصوف عز وجل لم نره، ولا أخبرنا أحد أنه عاينه مع قوله لنا في تنزيله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (¬1). فكيف بقي لأذهاننا مجال في إثبات كيفية الباري تعالى الله عن ذلك، فكذلك صفاته المقدسة نقر بها ونعتقد أنها حق ولا نمثلها أصلا ولا نتشكلها. (¬2) - جاء في السير: قال رحمه الله: ومسألة النزول، فالإيمان به واجب، وترك الخوض في لوازمه أولى، وهو سبيل السلف، فما قال هذا: نزوله بذاته، إلا إرغاما لمن تأوله وقال: نزوله إلى السماء بالعلم فقط. نعوذ بالله من المراء في الدين. وكذا قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ} (¬3) ونحوه فنقول: جاء وينزل، وننهى عن القول: ينزل بذاته، كما لا نقول: ينزل بعلمه، بل نسكت ولا نتفاصح على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعبارات مبتدعة والله أعلم. (¬4) ¬

(¬1) الشورى الآية (11). (¬2) السير (10/ 610). (¬3) الفجر الآية (22). (¬4) السير (20/ 331).

التعليق: ينبغي أن يفهم مراد الشيخ، فالمقصود عنده إثبات الصفة كما ورد بذلك النص دون زيادة، فالله تعالى ينزل كما يشاء ومتى يشاء وكيف يشاء بدون تحديد الكيفية. - جاء في السير: قال أبو عبيد: -وذكر الباب الذي يروى فيه الرؤية والكرسي موضع القدمين وضحك ربنا وأين كان ربنا- فقال: هذه أحاديث صحاح حملها أصحاب الحديث والفقهاء بعضهم عن بعض، وهي عندنا حق لا نشك فيها، ولكن إذا قيل: كيف يضحك وكيف وضع قدمه؟ قلنا: لا نفسر هذا ولا سمعنا أحدا يفسره. قال الذهبي: قلت: قد فسر علماء السلف المهم من الألفاظ وغير المهم، وما أبقوا ممكنا، وآيات الصفات وأحاديثها لم يتعرضوا لتأويلها أصلا، وهي أهم الدين، فلو كان تأويلها سائغا أو حتما، لبادروا إليه، فعلم قطعا أن قراءتها وإمرارها على ما جاءت هو الحق، لا تفسير لها غير ذلك، فنؤمن بذلك ونسكت اقتداء بالسلف، معتقدين أنها صفات لله تعالى، استأثر الله بعلم حقائقها وأنها لا تشبه صفات المخلوقين، كما أن ذاته المقدسة لا تماثل ذوات المخلوقين، فالكتاب والسنة نطق بها، والرسول - صلى الله عليه وسلم - بلغ وما تعرض لتأويل، مع كون الباري قال: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬1) فعلينا الإيمان ¬

(¬1) النحل الآية (44).

والتسليم للنصوص، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. (¬1) - وفيها قال: -بعد كلام أبي العباس السراج في من أنكر الصفات أنه زنديق كافر- قلت: لا يكفر إلا إن علم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قاله، فإن جحد بعد ذلك فهو معاند نسأل الله الهدى، وإن اعترف أن هذا حق ولكن لا أخوض في معانيه فقد أحسن، وإن آمن وأول ذلك كله أو تأول بعضه فهو طريقة معروفة. (¬2) - قال رحمه الله: هذه الصفات من الاستواء والإتيان والنزول، قد صحت بها النصوص، ونقلها الخلف عن السلف، ولم يتعرضوا لها برد ولا تأويل، بل أنكروا على من تأولها مع إصفاقهم على أنها لا تشبه نعوت المخلوقين، وأن الله ليس كمثله شيء، ولا تنبغي المناظرة، ولا التنازع فيها، فإن في ذلك محاولة للرد على الله ورسوله، أو حوما على التكييف أو التعطيل. (¬3) - وقال: قلت: بل قولهم إنه عز وجل في السماء وفي الأرض لا امتياز للسماء، وقول عموم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -: إن الله في السماء يطلقون ذلك وفق ما جاءت النصوص بإطلاقه، ولا يخوضون في تأويلات المتكلمين، مع جزم الكل بأنه تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (¬4).اهـ (¬5) ¬

(¬1) السير (10/ 505 - 506). (¬2) السير (14/ 396 - 397). (¬3) السير (11/ 376). (¬4) الشورى الآية (11). (¬5) السير (11/ 70 - 71).

- جاء في السير: ذكر كلاما بعد حديث رأيت ربي (¬1) ثم قال: والذي دل عليه الدليل عدم الرؤية مع إمكانها، فنقف عن هذه المسألة، فإن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. فإثبات ذلك أو نفيه صعب والوقوف سبيل السلامة والله أعلم. وإذا ثبت شيء قلنا به، ولا نعنف من أثبت الرؤية لنبينا في الدنيا ولا من نفاها بل نقول: الله ورسوله أعلم. بلى، نعنف ونبدع من أنكر الرؤية في الآخرة، إذ رؤية الله في الآخرة ثبت بنصوص متوافرة. (¬2) - قال أبو جعفر العقيلي في ترجمة عبد الله بن ذكوان: حدثنا مقدام بن داود، حدثنا الحارث بن مسكين، وابن أبي الغمر، قالا: حدثنا ابن القاسم قال: سألت مالكا عمن يحدث بالحديث الذي قالوا: «إن الله خلق آدم على صورته» (¬3) فأنكر ذلك إنكارا شديدا، ونهى أن يتحدث به أحد، فقيل: إن ناسا من أهل العلم يتحدثون به قال: من هم؟ قيل: ابن عجلان، عن أبي الزناد، فقال: لم يكن يعرف ابن عجلان هذه الأشياء، ولم يكن عالما، ولم يزل أبو الزناد عاملا لهؤلاء حتى مات، وكان صاحب عمال يتبعهم. قلت: الخبر لم ينفرد به ابن عجلان، بل ولا أبو الزناد، فقد رواه شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد، ورواه قتادة عن أبي أيوب المراغي عن أبي هريرة، ورواه ابن لهيعة عن الأعرج وأبي يونس عن أبي هريرة، ورواه معمر عن همام عن أبي هريرة، وصح أيضا من حديث ابن عمر. وقد قال إسحاق بن راهويه ¬

(¬1) تقدم انظر مواقف البربهاري سنة (329هـ). (¬2) السير (10/ 114). (¬3) تقدم تخريجه بألفاظ مختلفة. انظر مواقف البربهاري سنة (329هـ).

عالم خراسان: صح هذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فهذا الصحيح مخرج في كتابي البخاري ومسلم. فنؤمن به ونفوض ونسلم، ولا نخوض فيما لا يعنينا، مع علمنا بأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. (¬1) - جاء في السير: عن ثابت، عن أبي رافع، عن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن رجلا زار أخا له في قرية أخرى، فأرصد الله على مدرجته ملكا، فلما أتى عليه، قال: أين تريد؟ قال: أردت أخا لي في قرية كذا وكذا. قال: هل له عليك من نعمة تربها؟ قال: لا، إلا أني أحبه في الله. قال: إني رسول الله إليك أن الله قد أحبك كما أحببته فيه» (¬2). أخرجه مسلم عن عبد الأعلى، فوافقناه بعلو، وهو من أحاديث الصفات التي تمر كما جاءت، وشاهده في القرآن وفي الحديث كثير، قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (¬3) وقال: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)} (¬4).اهـ (¬5) - قال في واصل بن عطاء: واصل بن عطاء البصري، الغزال المتكلم، البليغ المتشدق، الذي كان يلثغ بالراء. فلبلاغته هجر الراء وتجنبها في خطابه. سمع من الحسن البصري وغيره. وقال أبو الفتح الأزدي: رجل سوء كافر. قلت: كان من أجلاد المعتزلة، ولد سنة ثمانين بالمدينة، ومما قيل فيه: ¬

(¬1) السير (5/ 449 - 450). (¬2) أحمد (2/ 292) ومسلم (4/ 1988/2567). (¬3) آل عمران الآية (31). (¬4) النساء الآية (125). (¬5) السير (7/ 454 - 455).

ويجعل البر قمحا في تصرفه ... وخالف الراء حتى احتال للشعر ولم يطق مطرا في القول يجعله ... فعاذ بالغيث إشفاقا من المطر وله من التصانيف: كتاب أصناف المرجئة، وكتاب التوبة، وكتاب معاني القرآن. وكان يتوقف في عدالة أهل الجمل، ويقول: إحدى الطائفتين فسقت لا بعينها، فلو شهدت عندي عائشة وعلي وطلحة على باقة بقل لم أحكم بشهادتهم. مات سنة إحدى وثلاثين ومائة. (¬1) - وقال في ضرار بن عمرو: نعم، ومن رؤوس المعتزلة ضرار بن عمرو، شيخ الضرارية. فمن نحلته قال: يمكن أن يكون جميع الأمة في الباطن كفارا لجواز ذلك على كل فرد منهم. ويقول: الأجسام إنما هي أعراض مجتمعة، وإن النار لا حر فيها، ولا في الثلج برد، ولا في العسل حلاوة، وإنما يخلق ذلك عند الذوق واللمس. (¬2) - وقال في أبي الهذيل المعتزلي: ورأس المعتزلة أبو الهذيل، محمد بن الهذيل البصري العلاف، صاحب التصانيف، الذي زعم أن نعيم الجنة وعذاب النار ينتهي بحيث إن حركات أهل الجنة تسكن، حتى لا ينطقون بكلمة، وأنكر الصفات المقدسة حتى العلم والقدرة، وقال: هما الله، وأن لِمَا يقدر الله عليه نهاية وآخرا، وأن للقدرة نهاية لو خرجت إلى الفعل، فإن خرجت لم تقدر على خلق ذرة أصلا. وهذا كفر وإلحاد. (¬3) ¬

(¬1) الميزان (4/ 329). (¬2) السير (10/ 544 - 546). (¬3) السير (10/ 542 - 543).

- وقال في أبي المعتمر معمر بن عمرو: وقيل: ابن عباد، البصري السلمي مولاهم العطار، المعتزلي. وكان يقول: في العالم أشياء موجودة لا نهاية لها، ولا لها عند الله عدد ولا مقدار. فهذا ضلال، يرده قوله تعالى: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)} (¬1) وقال: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)} (¬2) ولذلك قامت عليه المعتزلة بالبصرة، ففر إلى بغداد، واختفى عند إبراهيم ابن السندي. وكان يزعم أن الله لم يخلق لونا، ولا طولا، ولا عرضا، ولا عمقا، ولا رائحة، ولا حسنا، ولا قبحا، ولا سمعا ولا بصرا، بل ذلك فعل الأجسام بطباعها، فعورض بقوله تعالى: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} (¬3) فقال: المراد خلق الإماتة والإحياء، وقال: النفس ليست جسما ولا عرضا، ولا تلاصق شيئا ولا تباينه، ولا تسكن. وكان بينه وبين النظام مناظرات ومنازعات، وله تصانيف في الكلام. وهلك فيما ورخه محمد بن إسحاق النديم سنة خمس عشرة ومئتين. (¬4) - وقال في الجهم بن صفوان: أبو محرز الراسبي، مولاهم، السمرقندي، الكاتب المتكلم، أس الضلالة، ورأس الجهمية، كان صاحب ذكاء وجدال، كتب للأمير حارث بن سريج التميمي. وكان ينكر الصفات، وينزه الباري عنها بزعمه، ويقول بخلق القرآن. ويقول: إن الله في الأمكنة ¬

(¬1) الجن الآية (28). (¬2) الرعد الآية (8). (¬3) الملك الآية (2). (¬4) السير (10/ 546).

كلها. قال ابن حزم: كان يخالف مقاتلا في التجسيم. وكان يقول: الإيمان عقد بالقلب، وإن تلفظ بالكفر. قيل: إن سلم بن أحوز قتل الجهم، لإنكاره أن الله كلم موسى. (¬1) - وقال في إبراهيم بن إسماعيل بن علية: ولابن علية ابن آخر، جهمي شيطان، اسمه إبراهيم بن إسماعيل، كان يقول بخلق القرآن، ويناظر. (¬2) - وقال في بشر المريسي: ونظر في الكلام، فغلب عليه، وانسلخ من الورع والتقوى، وجرد القول بخلق القرآن، ودعا إليه، حتى كان عين الجهمية في عصره وعالمهم، فمقته أهل العلم، وكفره عدة، ولم يدرك جهم بن صفوان بل تلقف مقالاته من أتباعه. (¬3) - وقال في هشام بن عمرو: أبو محمد الفوطي، المعتزلي، الكوفي، مولى بني شيبان. صاحب ذكاء وجدال وبدعة ووبال. أخذ عنه عباد بن سلمان وغيره. ونهى عن قول: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)} وقال: لا يعذب الله كافرا بالنار، ولا يحيي أرضا بمطر، ولا يهدي ولا يضل، ويقول: يعذبون في النار لا بها، ويحيي الأرض عند المطر لا به، وأن معنى: نعم الوكيل، أي المتوكل عليه. قال المبرد: قال رجل لهشام الفوطي: كم تعد من السنين؟ قال: من واحد إلى أكثر من ألف. قال: لم أرد هذا، كم لك من السن؟ قال: اثنان وثلاثون سنا. قال: كم لك من السنين؟ قال: ما هي لي، ¬

(¬1) السير (6/ 26 - 27). (¬2) السير (9/ 113). (¬3) السير (10/ 200).

كلها لله. قال: فما سنك؟ قال: عظم. قال: فابن كم أنت؟ قال: ابن أم وأب. قال: فكم أتى عليك؟ قال: لو أتى علي شيء لقتلني، قال: ويحك، فكيف أقول؟ قال: قل: كم مضى من عمرك. قلت: هذا غاية ما عند هؤلاء المتقعرين من العلم، عبارات وشقاشق لا يعبأ الله بها، يحرفون بها الكلم عن مواضعه قديما وحديثا، فنعوذ بالله من الكلام وأهله. (¬1) - وقال في أبي موسى عيسى بن صبيح: الملقب بالمرداز، البصري، من كبار المعتزلة أرباب التصانيف الغزيرة. أخذ عن بشر بن المعتمر، وتزهد وتعبد، وتفرد بمسائل ممقوتة، وزعم أن الرب يقدر على الظلم والكذب، ولكن لا يفعله. وقال بكفر من قال: القرآن قديم، وبكفر من قال: أفعالنا مخلوقة، وقال برؤية الله، وكفر من أنكرها، حتى إن رجلا قال له: فالجنة التي عرضها السماوات والأرض لا يدخلها إلا أنت وثلاث؟ فسكت. ذكره قاضي حماة شهاب الدين إبراهيم في كتاب 'الفرق'، وأنه مات سنة ست وعشرين ومئتين. (¬2) - وقال في برغوث: وهو رأس البدعة، أبو عبد الله محمد بن عيسى الجهمي. أحد من كان يناظر الإمام أحمد وقت المحنة. صنف كتاب 'الاستطاعة' وكتاب 'المقالات' وكتاب 'الاجتهاد' وكتاب 'الرد على جعفر ¬

(¬1) السير (10/ 547). (¬2) السير (10/ 548).

بن حرب' وكتاب 'المضاهاة'. (¬1) - وقال في أبي سعد السمان: نقل الإمام الذهبي عن ابن عساكر في ترجمة السمان أنه قال: وكان يذهب مذهب الحسن البصري، ومذهب الشيخ أبي هاشم، ودخل الشام والحجاز والمغرب، وقرأ على ثلاثة آلاف شيخ، وقصد أصبهان في آخر عمره لطلب الحديث. قال: وكان يقال في مدحه: إنه ما شاهد مثل نفسه، كان تاريخ الزمان وشيخ الإسلام. قلت -أي الذهبي-: وذكر أشياء في وصفه، وأنى يوصف من قد اعتزل وابتدع، وبالكتاب والسنة فقل ما انتفع. فهذا عبرة، والتوفيق فمن الله وحده. هتف الذكاء وقال لست بنافع ... إلا بتوفيق من الوهاب وأما قول القائل: كان يذهب مذهب الحسن، فمردود، قد كانت هفوة في ذلك من الحسن، وثبت أنه رجع عنها ولله الحمد. وأما أبو هاشم الجبائي، وأبوه أبو علي فمن رؤوس المعتزلة، ومن الجهلة بآثار النبوة، برعوا في الفلسفة والكلام، وما شموا رائحة الإسلام، ولو تغرغر أبو سعد بحلاوة الإسلام، لانتفع بالحديث. فنسأل الله تعالى أن يحفظ علينا إيماننا وتوحيدنا. (¬2) - وقال في ابن الوليد: وكان ذا زهد وورع وقناعة. شاخ فكان ينقض من خشب بيته ما يمونه، وكان يلبس القطني الخام، وكان داعية إلى ¬

(¬1) السير (10/ 554). (¬2) السير (18/ 58 - 59).

الاعتزال، وبه انحرف ابن عقيل. مات في ذي الحجة، سنة ثمان وسبعين وأربع مئة، وكان يدري المنطق جيدا. وما تنفع الآداب والبحث والذكاء، وصاحبها هاو بها في جهنم. (¬1) - وقال: ومن رؤوس المعتزلة البغداديين العلامة أبو موسى الفراء، ومات سنة ست وعشرين ومئتين، أرخه المسعودي. ومنهم ابن كيسان الأصم، قديم تخرج به إبراهيم ابن علية في الكلام. ومنهم جعفر بن حرب، وجعفر بن مبشر، وأبو غفار، وحسين النجار، والرقاش، وأبو سعيد بن كلاب، وقاسم بن الخليل الدمشقي صاحب التفسير، وثمامة بن أشرس النميري، وأشباههم ممن كان ذكاؤهم وبالا عليهم، ثم بينهم من الاختلاف والخباط أمر لا يخفى على أهل التقوى، فلا عقولهم اجتمعت، ولا اعتنوا بالآثار النبوية، كما اعتنى أئمة الهدى {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ} (¬2).اهـ (¬3) - وقال في أبي القاسم عبد الواحد بن برهان العكبري: وكان يميل إلى مذهب مرجئة المعتزلة، ويعتقد أن الكفار لا يخلدون في النار. (¬4) قال الذهبي: حجته في خروج الكفار هو مفهوم العدد من قوله: ¬

(¬1) السير (18/ 490). (¬2) الأنعام الآية (81). (¬3) السير (10/ 555 - 556). (¬4) السير (18/ 125).

{لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)} (¬1) ولا ينفعه ذلك لعموم قوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)} (¬2) ولقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} (¬3) إلى غير ذلك، وفي المسألة بحث عندي أفردتها في جزء. (¬4) - وقال في محمد بن كرام: محمد بن كرام السجستاني المبتدع، شيخ الكرامية، كان زاهدا عابدا ربانيا، بعيد الصيت، كثير الأصحاب، ولكنه يروي الواهيات كما قال ابن حبان. خذل حتى التقط من المذاهب أرداها، ومن الأحاديث أوهاها، ثم جالس الجويباري، وابن تميم، ولعلهما قد وضعا مئة ألف حديث، وأخذ التقشف عن أحمد بن حرب. قلت: كان يقول: الإيمان هو نطق اللسان بالتوحيد، مجرد عن عقد قلب، وعمل جوارح. وقال خلق من الأتباع له: بأن الباري جسم لا كالأجسام، وأن النبي تجوز منه الكبائر سوى الكذب. وقد سجن ابن كرام، ثم نفي. وكان ناشفا عابدا، قليل العلم. قال الحاكم: مكث في سجن نيسابور ثماني سنين، ومات بأرض بيت المقدس سنة خمس وخمسين ومئتين. وكانت الكرامية كثيرين بخراسان. ولهم تصانيف، ثم قلوا وتلاشوا. نعوذ بالله من الأهواء. (¬5) - عن أحمد الدورقي: قلت لأحمد بن حنبل: ما تقول في هؤلاء الذين ¬

(¬1) النبأ الآية (23). (¬2) البقرة الآية (167). (¬3) النساء الآية (169). (¬4) السير (18/ 126). (¬5) السير (11/ 523 - 524).

يقولون: لفظي بالقرآن مخلوق؟ فرأيته استوى واجتمع، وقال: هذا شر من قول الجهمية. من زعم هذا، فقد زعم أن جبريل تكلم به بمخلوق، وجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمخلوق. قال الإمام الذهبي رحمه الله: فقد كان هذا الإمام - أي أحمد بن محمد ابن حنبل- لا يرى الخوض في هذا البحث خوفا من أن يتذرع به إلى القول بخلق القرآن، والكف عن هذا أولى. آمنا بالله تعالى، وبملائكته، وبكتبه، ورسله، وأقداره، والبعث، والعرض على الله يوم الدين. ولو بسط هذا السطر، وحرر وقرر بأدلته لجاء في خمس مجلدات، بل ذلك موجود مشروح لمن رامه، والقرآن فيه شفاء ورحمة للمؤمنين، ومعلوم أن التلفظ شيء من كسب، القارئ غير الملفوظ، والقراءة غير الشيء المقروء، والتلاوة وحسنها وتجويدها غير المتلو، وصوت القارئ من كسبه فهو يحدث التلفظ والصوت والحركة والنطق، وإخراج الكلمات من أدواته المخلوقة، ولم يحدث كلمات القرآن، ولا ترتيبه، ولا تأليفه، ولا معانيه. فلقد أحسن الإمام أبو عبد الله حيث منع من الخوض في المسألة من الطرفين إذ كل واحد من إطلاق الخلقية وعدمها على اللفظ موهم، ولم يأت به كتاب ولا سنة، بل الذي لا نرتاب فيه أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق. والله أعلم. (¬1) قال الحافظ أبو بكر الأعين: مشايخ خرسان ثلاثة: قتيبة وعلي بن حجر ومحمد بن مهران الرازي. ورجالها أربعة: عبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي ومحمد بن إسماعيل البخاري -قبل أن يظهر منه ما ظهر- ومحمد ¬

(¬1) السير (11/ 290).

ابن يحيى وأبو رزعة. قلت: هذه دقة من الأعين، والذي ظهر من محمد -يعني البخاري- أمر خفيف من المسائل التي اختلف فيها الأئمة في القول في القرآن، وتسمى مسألة أفعال التالين، فجمهور الأئمة والسلف والخلف على أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق. وبهذا ندين الله تعالى، وبدعوا من خالف ذلك، وذهبت الجهمية والمعتزلة، والمأمون، وأحمد بن أبي دؤاد القاضي، وخلق من المتكلمين والرافضة إلى أن القرآن كلام الله المنزل مخلوق. وقالوا: الله خالق كل شيء، والقرآن شيء. وقالوا: تعالى الله أن يوصف بأنه متكلم. وجرت محنة القرآن، وعظم البلاء، وضرب أحمد بن حنبل بالسياط ليقول ذلك، نسأل الله السلامة في الدين. ثم نشأت طائفة، فقالوا: كلام الله تعالى منزل غير مخلوق، ولكن ألفاظنا به مخلوقة، يعنون: تلفظهم وأصواتهم به، وكتابتهم له ونحو ذلك، وهو حسين الكرابيسي، ومن تبعه، فأنكر ذلك الإمام أحمد، وأئمة الحديث، وبالغ الإمام أحمد في الحط عليهم، وثبت عنه أن قال: اللفظية جهمية. وقال: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو جهمي. ومن قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فهو مبتدع، وسد باب الخوض في هذا. وقال أيضا: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، يريد به القرآن، فهو جهمي. وقالت طائفة: القرآن محدث كداود الظاهري ومن تبعه، فبدعهم الإمام أحمد، وأنكر ذلك، وثبت على الجزم بأن القرآن كلام الله غير مخلوق وأنه من علم الله، وكَفَّر من قال بخلقه وبدَّع من قال بحدوثه، وبدع من قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، ولم يأت عنه ولا عن السلف القول: بأن القرآن قديم. ما تفوه أحد

منهم بهذا. فقولنا: قديم: من العبارات المحدثة المبتدعة. كما أن قولنا: هو محدث بدعة. وأما البخاري فكان من كبار الأئمة الأذكياء، فقال: ما قلت: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، وإنما حركاتهم، وأصواتهم وأفعالهم مخلوقة، والقرآن المسموع المتلو الملفوظ المكتوب في المصاحف كلام الله غير مخلوق. وصنف في ذلك كتاب 'أفعال العباد' مجلد، فأنكر عليه طائفة، وما فهموا مرامه كالذهلي، وأبي زرعة، وأبي حاتم، وأبي بكر الأعين، وغيرهم. ثم ظهر بعد ذلك مقالة الكلابية، والأشعرية، وقالوا: القرآن معنى قائم بالنفس، وإنما هذا المنزل حكايته وعبارته ودال عليه. وقالوا: هذا المتلو معدود متعاقب، وكلام الله تعالى لا يجوز عليه التعاقب، ولا التعدد. بل هو شيء واحد قائم بالذات المقدسة، واتسع المقال في ذلك، ولزم منه أمور وألوان، تركها -والله- من حسن الإيمان وبالله نتأيد. (¬1) -وقال في السير: قال عبد الله بن أحمد: فترحم عليه أبي -أي أبو بكر الأعين-، وقال: إني لأغبطه، مات وما يعرف إلا الحديث، لم يكن صاحب كلام. قلت: هكذا كان أئمة السلف، لا يرون الدخول في الكلام، ولا الجدال. بل يستفرغون وسعهم في الكتاب والسنة، والتفقه فيهما، ويتبعون ولا يتنطعون. (¬2) - أخبرنا الإمام أبو الحسين علي بن محمد، أخبرنا جعفر بن علي، ¬

(¬1) السير (11/ 510 - 511). (¬2) السير (12/ 120).

أخبرنا أحمد بن محمد الحافظ، أخبرنا ثابت بن بندار، أخبرنا أبو بكر البرقاني، قرأنا على أبي العباس بن حمدان، حدثكم محمد بن نعيم قال: سمعت محمد بن يحيى الذهلي يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته، وحيث تصرف، ولا نرى الكلام فيما أحدثوا فتكلموا في الأصوات والأقلام والحبر والورق، وما أحدثوا من المتلي والمُتلى والمقرئ، فكل هذا عندنا بدعة، ومن زعم أن القرآن محدث، فهو عندنا جهمي لا يشك فيه ولا يمترى. قال الذهبي: كذا قال: المتلي والمتلى، ومراده المتلي والتلاوة، والمقرئ والقراءة. ومذهب السلف وأئمة الدين أن القرآن العظيم المنزل كلام الله تعالى غير مخلوق. ومذهب المعتزلة أنه مخلوق، وأنه كلام الله تعالى على حد قولهم: عيسى كلمة الله، وناقة الله، أي إضافة ملك. ومذهب داود وطائفة أنه كلام الله، وأنه محدث مع قولهم بأنه غير مخلوق. وقال آخرون من الحنابلة وغيرهم: هو كلام الله قديم غير محدث، ولا مخلوق. وقالوا: إذا لم يكن مخلوقا فهو قديم. ونوزعوا في هذا المعنى وفي إطلاقه. وقال آخرون: هو كلام الله مجازا، وهو دال على القرآن القديم القائم بالنفس. وهنا بحوث وجدال لا نخوض فيها أصلا. والقول هو ما بدأنا به، وعليه نص أزيد من ثلاث مئة إمام. وعليه امتحن الإمام أحمد، وضرب

بالسياط رحمه الله. (¬1) - قال الذهبي -عقب قول ابن منده في مسألة الإيمان: صرح محمد بن نصر في كتاب الإيمان بأن الإيمان مخلوق، وأن الإقرار والشهادة وقراءة القرآن بلفظه مخلوق، ثم قال: وهجره على ذلك علماء وقته وخالفه أئمة خراسان والعراق-: قلت: الخوض في ذلك لا يجوز، وكذلك لا يجوز أن يقال: الإيمان، والإقرار، والقراءة، والتلفظ بالقرآن غير مخلوق، فإن الله خلق العباد وأعمالهم، والإيمان: فقول وعمل، والقراءة والتلفظ: من كسب القارئ، والمقروء الملفوظ: هو كلام الله ووحيه وتنزيله، وهو غير مخلوق، وكذلك كلمة الإيمان، وهي قول "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" داخلة في القرآن، وما كان من القرآن فليس بمخلوق، والتكلم بها من فعلنا، وأفعالنا مخلوقة، ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفورا له، قمنا عليه، وبدعناه، وهجرناه، لما سلم معنا لا ابن نصر، ولا ابن منده، ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة. (¬2) - وقال: قد صار الظاهر اليوم ظاهرين: أحدهما حق والثاني باطل، فالحق أن يقول: إنه سميع بصير، مريد متكلم، حي عليم، كل شيء هالك إلا وجهه، خلق آدم بيده، وكلم موسى تكليما، واتخذ إبراهيم خليلا، وأمثال ¬

(¬1) السير (12/ 289 - 290). (¬2) السير (14/ 39 - 40).

ذلك، فنمره على ما جاء، ونفهم منه دلالة الخطاب كما يليق به تعالى، ولا نقول: له تأويل يخالف ذلك. والظاهر الآخر وهو الباطل، والضلال: أن تعتقد قياس الغائب على الشاهد، وتمثل البارئ بخلقه، تعالى الله عن ذلك، بل صفاته كذاته، فلا عدل له، ولا ضد له، ولا نظير له، ولا مثل له، ولا شبيه له، وليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، وهذا أمر يستوي فيه الفقيه والعامي، والله أعلم. (¬1) - قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي صاحب مرآة الزمان: وفي ذي القعدة سنة ست وتسعين وخمس مئة كان ما اشتهر من أمر الحافظ عبد الغني وإصراره على ما ظهر من اعتقاده وإجماع الفقهاء على الفتيا بتكفيره، وأنه مبتدع لا يجوز أن يترك بين المسلمين، فسأل أن يمهل ثلاثة أيام لينفصل عن البلد فأجيب. قلت -أي الذهبي-: قد بَلَوت على أبي المظفر المجازفة وقلة الورع فيما يؤرخه والله الموعد، وكان يترفض، رأيت له مصنفا في ذلك فيه دواه، ولو أجمعت الفقهاء على تكفيره كما زعم لما وسعهم إبقاؤه حيا، فقد كان على مقالته بدمشق أخوه الشيخ العماد والشيخ موفق الدين، وأخوه القدوة الشيخ أبو عمر، والعلامة شمس الدين البخاري، وسائر الحنابلة، وعدة من أهل الأثر، وكان بالبلد أيضا خلق من العلماء لا يكفرونه، نعم، ولا يصرحون بما أطلقه من العبارة لما ضايقوه، ولو كف عن تلك العبارات، وقال بما وردت به النصوص لأجاد ولسلم، فهو الأولى، فما في توسيع العبارات الموهمة خير، ¬

(¬1) السير (19/ 449).

وأسوأ شيء قاله أنه ضلل العلماء الحاضرين، وأنه على الحق، فقال كلمة فيها شر وفساد وإثارة للبلاء، رحم الله الجميع وغفر لهم، فما قصدهم إلا تعظيم الباري عز وجل من الطرفين، ولكن الأكمل في التعظيم والتنزيه الوقوف مع ألفاظ الكتاب والسنة، وهذا هو مذهب السلف رضي الله عنهم. وبكل حال فالحافظ عبد الغني من أهل الدين والعلم والتأله والصدع بالحق، ومحاسنه كثيرة، فنعوذ بالله من الهوى والمراء والعصبية والافتراء، ونبرأ من كل مجسم ومعطل. (¬1) - وقال رحمه الله: وقد سئل أبو القاسم التيمي رحمه الله: هل يجوز أن يقال: لله حد أو لا؟ وهل جرى هذا الخلاف في السلف؟ فأجاب: هذه مسألة أستعفي من الجواب عنها لغموضها، وقلة وقوفي على غرض السائل منها، لكني أشير إلى بعض ما بلغني، تكلم أهل الحقائق في تفسير الحد بعبارات مختلفة، محصولها أن حد كل شيء موضع بينونته عن غيره، فإن كان غرض القائل: ليس لله حد: لا يحيط علم الحقائق به، فهو مصيب، وإن كان غرضه بذلك: لا يحيط علمه تعالى بنفسه فهو ضال، أو كان غرضه أن الله بذاته في كل مكان فهو أيضا ضال. قلت -أي الذهبي-: الصواب الكف عن إطلاق ذلك، إذ لم يأت فيه نص، ولو فرضنا أن المعنى صحيح، فليس لنا أن نتفوه بشيء لم يأذن به الله خوفا من أن يدخل القلب شيء من البدعة، اللهم احفظ علينا إيماننا. (¬2) ¬

(¬1) السير (21/ 464). (¬2) السير (20/ 85 - 86).

- وقال -يعني الغزالي-: ميزان الأعمال معيار يعبر عنه بالميزان، وإن كان لا يساوي ميزان الأعمال ميزان الجسم الثقيل، كميزان الشمس، وكالمسطرة التي هي ميزان السطور، وكالعروض ميزان الشعر. قلت: بل ميزان الأعمال له كفتان، كما جاء في الصحيح (¬1)، وهذا المعتقد -يشير إلى ما نقله الغزالي- غالبه صحيح، وفيه مما لم أفهمه، وبعضه فيه نزاع بين أهل المذاهب، ويكفي المسلم في الإيمان أن يؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والقدر خيره وشره، والبعث بعد الموت، وأن الله ليس كمثله شيء أصلا، وأن ما ورد من صفاته المقدسة حق، يمر كما جاء، وأن القرآن كلام الله وتنزيله، وأنه غير مخلوق، إلى أمثال ذلك مما أجمعت عليه الأمة، ولا عبرة بمن شذ منهم، فإن اختلفت الأمة في شيء من مشكل أصول دينهم، لزمنا فيه الصمت، وفوضناه إلى الله، وقلنا: الله ورسوله أعلم، ووسعنا فيه السكوت. فرحم الله الإمام أبا حامد، فأين مثله في علومه وفضائله، ولكن لا ندعي عصمته من الغلط والخطأ، ولا تقليد في الأصول. (¬2) - وهو القائل في كتاب السنة -أي القصاب-: كل صفة وصف الله بها نفسه أو وصف بها نبيه فهي صفة حقيقة لا مجازا. قلت: نعم، لو كانت ¬

(¬1) أحمد (2/ 213؛221 - 222) والترمذي (5/ 25/2639) وقال: "هذا حديث حسن غريب" وابن ماجه (2/ 1437/4300) وابن حبان (1/ 461 - 462/ 225 الإحسان) والحاكم (1/ 6؛529) وقال في الموطن الأول: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي، وقال في الموطن الثاني: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. كلهم من طرق عن أبي عبد الرحمن الحبلي قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فذكر حديث البطاقة. (¬2) السير (19/ 345 - 346).

موقفه من الخوارج:

صفاته مجازا لتحتم تأويلها ولقيل: معنى البصر كذا، ومعنى السمع كذا، ومعنى الحياة كذا، ولفسرت بغير السابق إلى الأفهام، فلما كان مذهب السلف إمرارها بلا تأويل، علم أنها غير محمولة على المجاز وأنها حق بين. (¬1) - وقد امتحن صاحب الترجمة -يعني رُوَيم- في نوبة غلام خليل، وقال عنه: أنا سمعته يقول: ليس بيني وبين الله حجاب. ففر إلى الشام واختفى زمانا. وأما الحجاب: فقول يسوغ باعتبار أن الله لا يحجبه شيء قط عن رؤية خلقه، وأما نحن فمحجوبون عنه في الدنيا، وأما الكفار فمحجوبون عنه في الدارين. أما إطلاق الحجب، فقد صح «أن حجابه النور» (¬2) فنؤمن بذلك، ولا نجادل، بل نقف. (¬3) موقفه من الخوارج: - قال رحمه الله: عبد الرحمن بن ملجم المرادي، ذاك المعثر الخارجي، ليس بأهل أن يروى عنه؛ وما أظن له رواية، وكان عابدا قانتا لله، لكنه ختم بشر، فقتل أمير المؤمنين عليا متقربا إلى الله بدمه بزعمه، فقطعت أربعته ولسانه، وسملت عيناه، ثم أحرق. نسأل الله العفو والعافية. (¬4) - وجاء في ميزان الاعتدال عن عبد الله بن عمرو، قال: يأتي على الناس زمان يجتمعون في مساجدهم ليس فيهم مؤمن. ¬

(¬1) التذكرة (3/ 939). (¬2) تقدم تخريجه من حديث أبي موسى. انظر مواقف محمد بن خفيف سنة (371هـ). (¬3) السير (14/ 235). (¬4) الميزان (2/ 592).

موقفه من المرجئة:

قال الذهبي رحمه: ومعناه أي مؤمن كامل الإيمان، فأراد: ليس فيهم مؤمن سليم من النفاق، بحيث أنه غير مرتكب صفات النفاق من إدمان الكذب والخيانة، وخلف الوعد والفجور والغدر، وغير ذلك. ونحن اليوم نرى الأمة من الناس من أعراب الدولة يجتمعون في المسجد وما فيهم مؤمن، بل ونحن منهم. نسأل الله توبة وإنابة إليه؛ فإن الله تعالى يقول في كتابه: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} (¬1). وهذا باب واسع ينبغي للشخص أن يترفق فيه بأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلا يسلبهم الإيمان والإسلام، كفعل الخوارج والمعتزلة المكفرة أهل القبلة بالكبائر، ولا ننعتهم بالإيمان الكامل كما فعلت المرجئة، فالمسلم هو من سلم المسلمون من لسانه ويده. (¬2) موقفه من المرجئة: - جاء في السير: قال هارون الحمال: "ما رأيت أخشع لله من وكيع، وكان عبد المجيد أخشع منه". قال الذهبي عقبه: خشوع وكيع مع إمامته في السنة جعله مقدما، بخلاف خشوع هذا المرجئ -عفا الله عنه- أعاذنا الله وإياكم من مخالفة السنة، وقد كان على الإرجاء عدد كثير من علماء الأمة، فهلا عد مذهبا، وهو قولهم: أنا مؤمن حقا عند الله الساعة مع اعترافهم بأنهم لا يدرون بما يموت عليه المسلم من كفر أو إيمان، وهذه قولة خفيفة، وإنما الصعب من ¬

(¬1) الحجرات الآية (14). (¬2) الميزان (3/ 39).

قول غلاة المرجئة: إن الإيمان هو الاعتقاد بالأفئدة، وإن تارك الصلاة والزكاة وشارب الخمر وقاتل الأنفس والزاني وجميع هؤلاء يكونون مؤمنين كاملي الإيمان، ولا يدخلون النار، ولا يعذبون أبدا، فردوا أحاديث الشفاعة المتواترة وجسروا كل فاسق وقاطع طريق على الموبقات، نعوذ بالله من الخذلان. (¬1) - وفيها: بعد ذكر حديث «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب ... » (¬2) قال الذهبي: وفيه دليل على أن النفاق يتبعض ويتشعب، كما أن الإيمان ذو شعب ويزيد وينقص، فالكامل الإيمان من اتصف بفعل الخيرات، وترك المنكرات، وله قرب ماحية لذنوبه، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (¬3)، وقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} (¬4) ودون هؤلاء خلق من المؤمنين، الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، ودونهم عصاة المسلمين، ففيهم إيمان ينجون به من خلود عذاب الله تعالى، وبالشفاعة. ألا تسمع إلى ¬

(¬1) السير (9/ 435 - 436). (¬2) أخرجه من حديث أبي هريرة: أحمد (2/ 357) والبخاري (1/ 120/33) ومسلم (1/ 78/59) والترمذي (5/ 20/2631) والنسائي (8/ 491/5036). (¬3) الأنفال الآيات (2 - 4). (¬4) المؤمنون الآيات (1 - 11).

الحديث المتواتر: «أنه يخرج من النار من في قلبه وزن ذرة من إيمان» (¬1). وكذلك شعب النفاق من الكذب، والخيانة، والفجور، والغدر، والرياء، وطلب العلم ليقال، وحب الرئاسة والمشيخة، وموادة الفجار والنصارى. فمن ارتكبها كلها وكان في قلبه غل النبي - صلى الله عليه وسلم - أو حرج من قضاياه، أو يصوم رمضان غير محتسب، أو يجوز أن دين النصاري أو اليهود دين مليح ويميل إليهم؛ فهذا لا ترتب في أنه كامل النفاق، وأنه في الدرك الأسفل من النار، وصفاته الممقوتة عديدة في الكتاب والسنة من قيامه إلى الصلاة كسلان، وأدائه الزكاة وهو كاره، وإن عامل الناس فبالمكر والخديعة، قد اتخذ إسلامه جنة، نعوذ بالله من النفاق، فقد خافه سادة الصحابة على نفوسهم. فإن كان فيه شعبة من نفاق الأعمال، فله قسط من المقت حتى يدعها ويتوب منها، أما من كان في قلبه شك من الإيمان بالله ورسوله، فهذا ليس بمسلم، وهو من أصحاب النار، كما أن من في قلبه جزم بالإيمان بالله ورسله وملائكته وكتبه وبالمعاد، وإن اقتحم الكبائر فإنه ليس بكافر، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} (¬2). وهذه مسألة كبيرة جليلة قد صنف فيها العلماء كتبا، وجمع فيها الإمام ¬

(¬1) أحمد (3/ 94) والبخاري (13/ 517 - 519/ 7439) ومسلم (1/ 167 - 171/ 183) والترمذي (4/ 615/2598) وقال: "حديث حسن صحيح". والنسائي (8/ 486 - 487/ 5025) وابن ماجه (1/ 23/60) من حديث أبي سعيد الخدري. (¬2) التغابن الآية (2).

موقفه من القدرية:

أبو العباس شيخنا مجلدا حافلا قد اختصرته. نسأل الله تعالى أن يحفظ علينا إيماننا حتى نوافيه به. (¬1) - قال معمر: قلت لحماد: كنت رأسا، وكنت إماما في أصحابك، فخالفتهم فصرت تابعا، قال: إني أن أكون تابعا في الحق خير من أن أكون رأسا في الباطل. قال الذهبي: يشير معمر إلى أنه تحول مرجئا إرجاء الفقهاء، وهو أنهم لا يعدون الصلاة والزكاة من الإيمان، ويقولون: الإيمان إقرار باللسان، ويقين في القلب، والنزاع على هذا لفظي إن شاء الله، وإنما غلو الإرجاء من قال: لا يضر مع التوحيد ترك الفرائض، نسأل الله العافية. (¬2) موقفه من القدرية: - جاء في السير: وقد كان المنصور يعظم ابن عبيد ويقول: كلكم يمشي رويد ... كلكم يطلب صيد غير عمرو بن عبيد قال الذهبي: اغتر بزهده وإخلاصه، وأغفل بدعته. (¬3) - وفيها قال: وكان عبد الواحد -بن زيد البصري- صاحب فنون، داخلا في معاني المحبة والخصوص، قد بقي عليه شيء من رؤية الاكتساب، وفي ذلك شيء من أصول أهل القدر، فإن عندهم: لا نجاة إلا بعمل. فأما ¬

(¬1) السير (11/ 363 - 364). (¬2) السير (5/ 233). (¬3) السير (6/ 105).

أهل السنة فيحضون على الاجتهاد في العمل، وليس به النجاة وحده دون رحمة الله. وكان عبد الواحد لا يطلق: إن الله يضل العباد، تنزيها له، وهذه بدعة. (¬1) - وفيها: عن أبي عوانة قال: دخلت على همام بن يحيى وهو مريض، أعوده، فقال لي: يا أبا عوانة، ادع الله أن لا يميتني حتى يبلغ ولدي الصغار. فقلت: إن الأجل قد فرغ منه، فقال لي: أنت بعد في ضلالك. قال الذهبي: بئس المقال هذا، بل كل شيء بقدر سابق، ولكن وإن كان الأجل قد فرغ منه، فإن الدعاء بطول البقاء قد صح. دعا الرسول - صلى الله عليه وسلم - لخادمه أنس بطول العمر (¬2)، والله يمحو ما يشاء ويثبت. فقد يكون طول العمر في علم الله مشروطا بدعاء مجاب، كما أن طيران العمر قد يكون بأسباب جعلها من جور وعسف، و «لا يرد القضاء إلا الدعاء» (¬3) والكتاب الأول، فلا يتغير. (¬4) ¬

(¬1) السير (7/ 180). (¬2) أخرجه بلفظ: «وأطل عمره»: البخاري في الأدب المفرد (653) (انظر صحيح الأدب (243 - 244)) وابن سعد في الطبقات (7/ 19) والفسوي في المعرفة (2/ 532). وأخرجه بدونها: أحمد (3/ 108) والبخاري (11/ 174/6344) ومسلم (1/ 457 - 458/ 660) والترمذي (5/ 639 - 640/ 3827). (¬3) أخرج هذا اللفظ من حديث سلمان: الترمذي (4/ 390/2139) والشهاب القضاعي في مسنده (2/ 36 - 37/ 832 و833) وهو حديث حسن للشاهد من حديث ثوبان وهو عند: أحمد (5/ 277،280،282) وابن ماجه (1/ 35/90) والحاكم (1/ 493). قال البوصيري في الزوائد (1/ 54): "وسألت شيخنا أبا الفضل العراقي رحمه الله عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن". وفي حديث ثوبان زيادة «وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب ... » وهي ضعيفة (انظر الصحيحة (1/ 154). (¬4) السير (8/ 219 - 220).

أبو فارس عبد العزيز بن محمد (750 هـ)

- وفيها: قال في عبد الوارث بن سعيد: وكان عالما مجودا، من فصحاء أهل زمانه، ومن أهل الدين والورع، إلا أنه قدري مبتدع. (¬1) - وقال رحمه الله في النظام: شيخ المعتزلة، صاحب التصانيف، أبو إسحاق إبراهيم بن سيار مولى آل الحارث بن عباد الضبعي البصري المتكلم. تكلم في القدر، وانفرد بمسائل، وهو شيخ الجاحظ. وكان يقول: إن الله لا يقدر على الظلم ولا الشر، ولو كان قادرا، لكنا لا نأمن وقع ذلك، وإن الناس يقدرون على الظلم، وصرح بأن الله لا يقدر على إخراج أحد من جهنم، وأنه ليس يقدر على أصلح مما خلق. قال الذهبي: القرآن والعقل الصحيح يكذبان هؤلاء، ويزجرانهم عن القول بلا علم، ولم يكن النظام ممن نفعه العلم والفهم، وقد كفره جماعة. وقال بعضهم: كان النظام على دين البراهمة المنكرين للنبوة والبعث، ويخفي ذلك. (¬2) أبو فارس عبد العزيز بن محمد (¬3) (750 هـ) العالم الصالح والإمام الفاضل أبو فارس عبد العزيز بن محمد القروي الفاسي. أكبر تلاميذ أبي الحسن الصغير ومن المكثرين عنه، وعنه أخذ أبو عمران العبدوسي وغيره. له تقييد على المدونة. جاء في الفكر السامي: قال ¬

(¬1) السير (8/ 301). (¬2) السير (10/ 541 - 542). (¬3) شجرة النور الزكية (1/ 221) والفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (4/ 284).

موقفه من الصوفية:

السلطان أبو الحسن المريني للمترجم: وليناك مع عامل الزكاة، فقال له: أما تستحيي من الله، تأخذ لقبا من ألقاب الشريعة، وتضعه على مغرم من المغارم، فضربه السلطان بسكين مغمد كان يعتاد حمله بيده، ثم تحلل منه فسامحه. توفي رحمه الله سنة خمسين وسبعمائة. موقفه من الصوفية: - جاء في المعيار المعرب: وسئل الشيخ الصالح أبو فارس عبد العزيز بن محمد القيرواني تلميذ سيدي أبي الحسن الصغير عن قوم تسموا بالفقراء يجتمعون على الرقص والغنا، فإذا فرغوا من ذلك أكلوا طعاما كانوا أعدوه للمبيت عليه، ثم يصلون ذلك بقراءة عشر من القرآن والذكر، ثم يغنون ويرقصون ويبكون، ويزعمون في ذلك كله أنهم على قربة وطاعة، ويدعون الناس إلى ذلك، ويطعنون على من لم يأخذ بذلك من أهل العلم، ونساء اقتفين في ذلك أثرهم، وعملن في ذلك على نحو عملهم. وقوم استحسنوا ذلك وصوبوا فيه رأيهم. فما الحكم فيهم وفيمن رأى رأيهم هل تجوز إمامتهم وتقبل شهادتهم أم لا؟ بينوا لنا ذلك. فأجاب: بأن قال: الحمد لله حمد الشاكرين، والصلاة على محمد خاتم النبيين، وآله الطيبين الطاهرين، أكرمكم الله وإيانا بتقواه، ووفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، لاتباع سنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى نلقاه، قد وقفنا على ما رستم (¬1) وتصفحنا فصوله. فالجواب فيه ما قاله بعض أيمة الدين، من علماء المسلمين ¬

(¬1) كذا بالأصل ولعلها: رسمتم.

الناصحين، حين سئلوا عن ذلك، من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر: أن بني إسرائيل افترقت على اثنين وسبعين فرقة، وأن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة اثنان وسبعون في النار وواحدة في الجنة (¬1)، وقد ظهر ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - من افتراق أمته على هذه الفرق، وتبين صدقه - صلى الله عليه وسلم - وتحقق. ولم يكن أحد في مغربنا من هذه الطوائف فيما سلف، إلى أن ظهرت هذه الطائفة الأمية الجاهلة الغبية، الذين ولعوا بجمع أقوام جهال فتصدوا إلى العوام الذين صدورهم سالمة، وعقولهم قاصرة، فدخلوا عليهم من طريق الدين، وأنهم لهم من الناصحين وأن هذه الطريق التي هم عليها هي طريق المحبين، فصاروا يحضونهم على التوبة والإيثار والمحبة وصدق الأخوة، وإماتة الحظوظ والشهوة وتفريغ القلب إلى الله بكلية، وصرفه إليه بالقصد والنية. وهذه الخصال محمودة في الدين فاضلة، إلا أن الذي في ضمنه على مذاهب القوم سموم قاتلة، وطامات هائلة. وهذه الطائفة أشد ضررا على المسلمين من مردة الشياطين، وهي أصعب الطوائف للعلاج، وأبعدها عن فهم طرق الاحتجاج، لأنهم أول أصل أصلوه في مذهبهم، بغض العلماء والتنفير عنهم، ويزعمون أنهم عندهم قطاع الطريق المحجوبون بعلمهم عن رتبة التحقيق، فمن كان هذه حالته، سقطت مكالمته. وبعدت معالجته، فليس للكلام معه فائدة، والمتكلم معه يضرب في حديد بارد. وإنما كلامنا مع من لم ينغمس في خابيتهم، ولم يسقط في مهواتهم، لعله يسلم من عاديتهم، وينجو من غاويتهم. واعلموا أن هذه البدعة في فساد عقائد العوام، أسرع من سريان السم ¬

(¬1) تقدم تخريجه في مواقف يوسف بن أسباط سنة (195هـ).

في الأجسام، وأنها أضر في الدين من الزنى والسرقة وسائر المعاصي والآثام، فإن هذه المعاصي كلها معلوم قبحها، عند من يرتكبها ويجتلبها، فلا يلبس مرتكبها على أحد، وترجى له التوبة منها والإقلاع عنها. وصاحب هذه البدعة يرى أنها أفضل الطاعات، وأعلى القربات، فباب التوبة عنده مسدود، وهو عنه شرود مطرود. فكيف ترجى له منها التوبة، وهو يعتقد أنها طاعة وقربة، بل هو ممن قال الله فيهم: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} (¬1)، وممن قال فيهم: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا} (¬2). ثم ضرر المعاصي إنما هي في أعمال الجوارح الظاهرة، وضرر هذه البدع إنما هي في الأصول التي هي العقائد الباطنة، فإذا فسد الأصل، ذهب الفرع والأصل، وإذا فسد الفرع بقي الأصل يرجى أن ينجبر الفرع وإن لم ينجبر الفرع، لم تذهب منفعة الأصل. ثم إن الذي يغوي الناس ويدعوهم إلى بدعته، يكون عليه وزره ووزر من استن بسنته، قال الله العظيم: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)} وقال تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ ¬

(¬1) الكهف الآيتان (103 و104). (¬2) فاطر الآية (8).

أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)} (¬1) وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» (¬2). ولا تنشأ هذه العلل إلا من مرض في القلب خفي، أو حمق جلي، فاحذروها واحذروا أهلها. ولا تغتروا بهم ولو أنهم يطيرون في الهواء، ويمشون على الماء، فإن ذلك فتنة لمن أراد الله فتنته، وعلم شقوته. قال الله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} (¬3). فلا يغتر أحدكم بما يظهر من الأوهام والخيالات، من أهل البدع والضلالات، ويعتقد بأنها كرامات، بل هي شرك وحبالات، نصبها الشيطان ليقتنص بها معتقد البدع ومرتكب الشهوات، وإنما تكون من الله الكرامة لمن ظهرت منه الاستقامة، وإنما تكون الاستقامة باتباع الكتاب والسنة، والعمل بما كان عليه سلف هذه الأمة، فمن لم يسلك طريقهم، ولم يتبع سبيلهم، فهو ممن قال الله فيهم: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} (¬4).اهـ (¬5) ¬

(¬1) العنكبوت الآية (13) .. (¬2) تقدم تخريجه في مواقف صديق حسن خان سنة (1307هـ). (¬3) المائدة الآية (41). (¬4) النساء الآية (115). (¬5) المعيار المعرب (11/ 29 - 32).

محمد بن منظور (750 هـ)

محمد بن منظور (¬1) (750 هـ) محمد بن عبيد الله بن محمد بن يوسف بن منظور القيسي أبو بكر المالقي وأصله من إشبيلية. قرأ على الأستاذ أبي محمد بن السداد الباهلي، وسمع على مالك بن المرحل وأبي عبد الله بن الأديب وأبي عبد الله بن رشد وأبي العباس بن خميس وأبي عبد الله محمد بن أحمد بن أمين الأقشهري الفارسي وغيرهم. ولي قضاء طرابلس وكان صدرا رئيسا فاضلا في الأدب، مليح الإنشاء، كان عارفا بالنحو واللغة والتاريخ والكتابة. وله تصانيف منها: 'التبر المسبوك في شعر الخلفاء والملوك' و'خواص سور القرآن' و'الرد على المضنون به على غير أهله' و'أربعون حديثا في الرقائق بأسانيدها' و'نوازل أبي عبد الله بن منظور' وله شعر مقبول. وكانت وفاته في صفر سنة خمسين وسبعمائة. موقفه من الصوفية: - له الرد على المضنون به على غير أهله للغزالي ذكره في الدرر الكامنة. (¬2) ¬

(¬1) الدرر الكامنة (4/ 37) والأعلام (6/ 260). (¬2) (4/ 37).

العلامة ابن القيم (751 هـ)

العلامة ابن القيم (¬1) (751 هـ) الشيخ الإمام العلامة شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي ثم الدمشقي الفقيه الحنبلي بل المجتهد المطلق المفسر النحوي الأصولي، الشهير بابن قيم الجوزية، وإمامها. ولد سنة إحدى وتسعين وستمائة. وسمع الحديث واشتغل بالعلم، وبرع في علوم متعددة لا سيما علم التفسير والحديث والأصلين. سمع من التقي سليمان وأبي بكر بن عبد الدائم وابن الشيرازي وإسماعيل بن مكتوم وطبقتهم. وقرأ الفقه على المجد الحراني وشيخ الإسلام ابن تيمية وقرأ أيضا على ابن أبي الفتح والصفي الهندي وعدة. ولما عاد الشيخ تقي الدين ابن تيمية من مصر سنة اثنتي عشرة وسبعمائة لازمه إلى أن مات الشيخ فأخذ عنه علما جما. فصار فريدا في بابه في فنون كثيرة، مع كثرة الطلب ليلا ونهارا. قال ابن كثير: وكان حسن القراءة والخلق، كثير التودد لا يحسد أحدا ولا يؤذيه، ولا يستعيبه ولا يحقد على أحد، وكنت من أصحب الناس له، وأحب الناس إليه، ولا أعرف في هذا العالم من زماننا أكثر عبادة منه. وقال ابن رجب: كان رحمه الله ذا عبادة وتهجد وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتأله ولهج بالذكر، وشغف بالمحبة والإنابة والاستغفار، والافتقار إلى الله والانكسار له، والاطراح بين يديه على عتبة عبوديته، لم أشاهد مثله في ذلك، ولا رأيت أوسع منه علما، ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة وحقائق الإيمان أعلم منه، وليس هو المعصوم، ولكن لم ¬

(¬1) البداية والنهاية (14/ 246 - 247) والدرر الكامنة (3/ 400 - 403) والمقصد الأرشد لابن مفلح (2/ 384 - 385) والدر المنضد للعليمي (2/ 521 - 523) وشذرات الذهب (6/ 168 - 170) وذيل طبقات الحنابلة (2/ 447 - 452).

موقفه من المبتدعة:

أر في معناه مثله. وقال ابن حجر: كان جريء الجنان، واسع العلم، عارفا بالخلاف ومذاهب السلف. وقال الشوكاني: برع في شتى العلوم، وفاق الأقران، واشتهر في الآفاق، وتبحر في معرفة مذاهب السلف. وله مصنفات قيمة بلغت ستا وتسعين مؤلفا، منها: 'زاد المعاد' و'إعلام الموقعين' و'بدائع الفوائد' وغيرها. مات رحمه الله تعالى في ثالث عشر من شهر رجب سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، وعاش ستين سنة وكانت جنازته حافلة جدا. موقفه من المبتدعة: هذا الإمام أحد التلامذة البررة لشيخ الإسلام ابن تيمية. نفعه الله بشيخ الإسلام فاستفاد منه العلم والعمل، أحيا كتب الشيخ ودعوته بعد وفاته ودافع عن العقيدة السلفية بقدر ما استطاع، ألف في ذلك الكتب القيمة التي سارت بها الركبان واستفاد منها الأنام، ولم يكن كغيره بالناقل المار الجامع، ولكن كان الناقد الفقيه المحلل. إذا تكلم في مسألة يظن القارئ له أنه لا يحسن غيرها لما يراه من كثرة العلم والحجج وكأنه بحر تتلاطم أمواجه لا تقف أمامه حبيبات الرمال (المبتدعة)، وكأن السنة والكتاب وضعت بين عينيه يأخذ منهما ما يشاء، إن تكلم في اللغة فهو الخليل فيها، وإن تكلم في التفسير فابن جرير قرينه، وإن تكلم في الحديث فالبخاري زميله. وهكذا في كل فن يقارن بأكبر أربابه. ولما له من هذه المكانة، اعترف بفضله وعلمه وحفظه كل من ترجم له حتى الأقران الذين يغلب عليهم التنافس، إلا من في قلبه مرض، فهؤلاء لا يُؤبَه لهم ولا لكلامهم، على حَدِّ قول القائل: القافلة تسير والكلاب تنبح، وكما جاء في الرسالة: ولا يستنجى من ريح.

فالشعوبي الخبيث الذي سخر لسانه في ثلب أئمة السلف، وعلى رأسهم الإمامان الحافظان الكبيران ابن تيمية وابن القيم -قد استوفى الشيخ الفاضل بكر أبو زيد الكلام في الرد على هذا المذموم في كتابه القيم 'ابن القيم وآثاره'، وقد طبع الكتاب واستفاد الناس منه فجزاه الله خيرا. والكلام على الإمام ابن القيم شيق جدا، وأكتفي بالإشارة في ذلك. - جاء في الدرر الكامنة: وكان جريء الجنان واسع العلم عارفا بالخلاف ومذاهب السلف، وغلب عليه حب ابن تيمية حتى كان لا يخرج عن شيء من أقواله، بل ينتصر له في جميع ذلك. وهو الذي هذب كتبه ونشر علمه. وكان له حظ عند الأمراء المصريين، واعتقل مع ابن تيمية بالقلعة بعد أن أهين وطيف به على جمل مضروبا بالدرة، فلما مات أفرج عنه، وامتحن مرة أخرى بسبب فتاوى ابن تيمية، وكان ينال من علماء عصره وينالون منه. قال الذهبي في المختص: حبس مرة لإنكاره شد الرحل لزيارة قبر الخليل، ثم تصدر للأشغال ونشر العلم. (¬1) له آثار سلفية تدل على غزارة علمه وقد بينتها في كتابي 'المصادر العلمية في الدفاع عن العقيدة السلفية' والحمد لله رب العالمين. ومن أقواله رحمه الله: - وكل من أصل أصلا لم يؤصله الله ورسوله قاده قسرا إلى رد السنة وتحريفها عن مواضعها؛ فلذلك لم يؤصل حزب الله ورسوله أصلا غير ما جاء به الرسول، فهو أصلهم الذي عليه يعولون، وجنتهم التي إليها ¬

(¬1) الدرر الكامنة (3/ 401) وذيل طبقات الحنابلة (2/ 448).

يرجعون. (¬1) - وقال: وذكر الصراط المستقيم مفردا، معرفا تعريفين: تعريفا باللام، وتعريفا بالإضافة. وذلك يفيد تعينه واختصاصه، وأنه صراط واحد. وأما طرق أهل الغضب والضلال فإنه سبحانه يجمعها ويفردها، كقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬2) فوحد لفظ الصراط وسبيله. وجمع السبل المخالفة له. وقال ابن مسعود: خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطا، وقال: «هذا سبيل الله»، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن يساره، وقال: «هذه سبل، على كل سبيل شيطان يدعو إليه، ثم قرأ قوله تعالى: {أن هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} " (¬3). وهذا لأن الطريق الموصل إلى الله واحد؛ وهو ما بعث به رسله وأنزل به كتبه، لا يصل إليه أحد إلا من هذه الطريق. ولو أتى الناس من كل طريق، واستفتحوا من كل باب، فالطرق عليهم مسدودة، والأبواب عليهم مغلقة، إلا من هذا الطريق الواحد، فإنه متصل بالله، موصل إلى الله. ¬

(¬1) شفاء العليل (1/ 48). (¬2) الأنعام الآية (153). (¬3) انظر تخريجه في مواقف الإمام مالك سنة (179هـ).

قال الله تعالى: {هذا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)} (¬1).اهـ (¬2) - وقال: ولما كان طالب الصراط المستقيم طالب أمر أكثر الناس ناكبون عنه، مريدا لسلوك طريق مرافقه فيها في غاية القلة والعزة. والنفوس مجبولة على وحشة التفرد، وعلى الأنس بالرفيق، نبه الله سبحانه على الرفيق في هذه الطريق، وأنهم هم الذين: {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (¬3). فأضاف الصراط إلى الرفيق السالكين له. وهم الذين أنعم الله عليهم، ليزول عن الطالب للهداية وسلوك الصراط وحشة تفرده عن أهل زمانه وبني جنسه، وليعلم أن رفيقه في هذا الصراط هم الذين أنعم الله عليهم. فلا يكترث بمخالفة الناكبين عنه له. فإنهم هم الأقلون قدرا، وإن كانوا الأكثرين عددا، كما قال بعض السلف: عليك بطريق الحق، ولا تستوحش لقلة السالكين. وإياك وطريق الباطل، ولا تغتر بكثرة الهالكين (¬4). وكلما استوحشت في تفردك فانظر إلى الرفيق السابق. واحرص على اللحاق بهم. وغض الطرف عمن سواهم. فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا. وإذا صاحوا بك في طريق سيرك، فلا تلتفت إليهم. فإنك متى التفت إليهم أخذوك وعاقوك. وقد ضربت لذلك مثلين. فليكونا منك على بال: ¬

(¬1) الحجر الآية (41). (¬2) مدارج السالكين (1/ 14 - 15). (¬3) النساء الآية (69). (¬4) تقدم من قول الفضيل بن عياض رحمه الله.

المثل الأول: رجل خرج من بيته إلى الصلاة، لا يريد غيرها. فعرض له في طريقه شيطان من شياطين الإنس، فألقى عليه كلاما يؤذيه فوقف ورد عليه وتماسكا فربما كان شيطان الإنس أقوى منه، فقهره، ومنعه عن الوصول إلى المسجد حتى فاتته الصلاة. وربما كان الرجل أقوى من شيطان الإنس، ولكن اشتغل بمهاوشته عن الصف الأول، وكمال إدراك الجماعة. فإن التفت إليه أطمعه في نفسه، وربما فترت عزيمته. فإن كان له معرفة وعلم زاد في السعي والجمز بقدر التفاته أو أكثر، فإن أعرض عنه واشتغل بما هو بصدده، وخاف فوت الصلاة أو الوقت، لم يبلغ عدوه منه ما شاء. المثل الثاني: الظبي أشد سعيا من الكلب، ولكنه إذا أحس به التفت إليه فيضعف سعيه، فيدركه الكلب فيأخذه. والقصد: أن في ذكر هذا الرفيق، ما يزيل وحشة التفرد، ويحث على السير والتشمير للحاق بهم. وهذه إحدى الفوائد في دعاء القنوت: «اللهم اهدني فيمن هديت» (¬1) أي أدخلني في هذه الزمرة، واجعلني رفيقا لهم ومعهم. (¬2) ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (1/ 199،200) وأبو داود (2/ 133 - 134/ 1425) والترمذي (2/ 328/464) وقال: "هذا حديث حسن". والنسائي (3/ 275/1744 - 1745) وابن ماجه (1/ 372 - 373/ 1178) وابن خزيمة (2/ 151 - 152/ 1095 - 1096) وابن حبان (2/ 498 - 499/ 722) وفي (3/ 225/945) والحاكم (3/ 172) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين إلا أن محمد بن جعفر ابن أبي كثير قد خالف إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة في إسناده" كلهم من طريق أبي الحوراء عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمات أقولهن في قنوت الوتر فذكره. (¬2) مدارج السالكين (1/ 21 - 22).

- وقال: ثم قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} (¬1). وهذا دليل قاطع على أنه يجب رد موارد النزاع في كل ما تنازع فيه الناس من الدين كله إلى الله ورسوله، لا إلى أحد غير الله ورسوله، فمن أحال الرد على غيرهما فقد ضاد أمر الله، ومن دعا عند النزاع إلى تحكيم غير الله ورسوله فقد دعا بدعوى الجاهلية، فلا يدخل العبد في الإيمان حتى يرد كل ما تنازع فيه المتنازعون إلى الله ورسوله، ولهذا قال الله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} وهذا مما ذكرناه آنفا شرط ينتفي المشروط بانتفائه، فدل على أن من حكم غير الله ورسوله في موارد مقتضى النزاع كان خارجا من مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر، وحسبك بهذه الآية القاصمة العاصمة بيانا وشفاء، فإنها قاصمة لظهور المخالفين لها، عاصمة للمتمسكين بها الممتثلين لما أمرت به، قال الله تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِن اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} (¬2). وقد اتفق السلف والخلف على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته، والرد إلى سنته بعد وفاته. (¬3) ¬

(¬1) النساء الآية (59). (¬2) الأنفال الآية (42). (¬3) الرسالة التبوكية (133 - 134).

- وقال: وقال تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} (¬1). فهذا نص صريح في أن هدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما حصل بالوحي، فيا عجبا كيف يحصل الهدى لغيره من الآراء والعقول المختلفة والأقوال المضطربة؟ ولكن من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا. فأي ضلال أعظم من ضلال من يزعم أن الهداية لا تحصل بالوحي، ثم يحيل فيها على عقل فلان ورأي فلتان؟ وقول زيد وعمرو؟ فلقد عظمت نعمة الله على عبد عافاه من هذه البلية العظمى والمصيبة الكبرى، والحمد لله رب العالمين. وقال تعالى: {المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)} (¬2). فأمر سبحانه باتباع ما أنزل على رسوله، ونهى عن اتباع غيره، فما هو إلا اتباع المنزل، أو اتباع أولياء من دونه، فإنه لم يجعل بينهما واسطة، فكل من لا يتبع الوحي فإنما اتبع الباطل، واتبع أولياء من دون الله، وهذا بحمد الله ظاهر لا خفاء به. (¬3) ¬

(¬1) سبأ الآية (50). (¬2) الأعراف الآيات (1 - 3). (¬3) الرسالة التبوكية (141 - 142).

- وقال: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَن اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ} تُحْشَرُونَ (¬1)، فتضمنت هذه الآية أمورا، أحدها: أن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله، فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له، وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات. فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسول ظاهرا وباطنا. فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان. ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول، فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة، فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول. (¬2) - وقال: قال الله تعالى: {وكذلك نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} (¬3)، وقال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} (¬4). الآية. والله تعالى قد بين في كتابه سبيل المؤمنين مفصلة، وسبيل المجرمين مفصلة، وعاقبة هؤلاء مفصلة، وعاقبة هؤلاء مفصلة، وأعمال هؤلاء وأعمال ¬

(¬1) الأنفال الآية (24). (¬2) الفوائد (114 - 115). (¬3) الأنعام الآية (55). (¬4) النساء الآية (115).

هؤلاء، وأولياء هؤلاء، وأولياء هؤلاء، وخذلانه لهؤلاء وتوفيقه لهؤلاء، والأسباب التي وفق بها هؤلاء والأسباب التي خذل بها هؤلاء، وجلا سبحانه الأمرين في كتابه وكشفهما وأوضحهما وبينهما غاية البيان، حتى شاهدتهما البصائر كمشاهدة الأبصار للضياء والظلام. فالعالمون بالله وكتابه ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة تفصيلية، وسبيل المجرمين معرفة تفصيلية، فاستبانت لهم السبيلان كما يستبين للسالك الطريق الموصل إلى مقصوده والطريق الموصل إلى الهلكة. فهؤلاء أعلم الخلق وأنفعهم للناس وأنصحهم لهم وهم الأدلاء الهداة، وبذلك برز الصحابة على جميع من أتى بعدهم إلى يوم القيامة، فإنهم نشأوا في سبيل الضلال والكفر والشرك والسبل الموصلة إلى الهلاك وعرفوها مفصلة، ثم جاءهم الرسول فأخرجهم من تلك الظلمات إلى سبيل الهدى وصراط الله المستقيم، فخرجوا من الظلمة الشديدة إلى النور التام، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الجهل إلى العلم، ومن الغي إلى الرشاد، ومن الظلم إلى العدل، ومن الحيرة والعمى إلى الهدى والبصائر، فعرفوا مقدار ما نالوه وظفروا به، ومقدار ما كانوا فيه. فإن الضد يظهر حسنه الضد، وإنما تتبين الأشياء بأضدادها. فازدادوا رغبة ومحبة فيما انتقلوا إليه، ونفرة وبغضا لما انتقلوا عنه، وكانوا أحب الناس في التوحيد والإيمان والإسلام وأبغض الناس في ضده، عالمين بالسبيل على التفصيل. وأما من جاء بعد الصحابة، فمنهم من نشأ في الإسلام غير عالم تفصيل ضده، فالتبس عليه بعض تفاصيل سبيل المؤمنين بسبيل المجرمين، فإن اللبس إنما يقع إذا ضعف العلم بالسبيلين أو أحدهما كما قال عمر بن الخطاب: إنما

تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية، وهذا من كمال علم عمر رضي الله عنه، فإنه إذا لم يعرف الجاهلية وحكمها، وهو كل ما خالف ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنه من الجاهلية، فإنها منسوبة إلى الجهل، وكل ما خالف الرسول فهو من الجهل. فمن لم يعرف سبيل المجرمين ولم تستبن له أوشك أن يظن في بعض سبيلهم أنها من سبيل المؤمنين، كما وقع في هذه الأمة من أمور كثيرة في باب الاعتقاد والعلم والعمل هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل، أدخلها من لم يعرف أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين، ودعا إليها وكفر من خالفها واستحل منه ما حرمه الله ورسوله كما وقع لأكثر أهل البدع من الجهمية والقدرية والخوارج والروافض وأشباههم ممن ابتدع بدعة ودعا إليها وكفر من خالفها. والناس في هذا الموضع أربع فرق: الفرقة الأولى: من استبان له سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين على التفصيل علما وعملا، وهؤلاء أعلم الخلق. الفرقة الثانية: من عميت عنه السبيلان من أشباه الأنعام. وهؤلاء بسبيل المجرمين أحضر ولها أسلك. الفرقة الثالثة: من صرف عنايته إلى معرفة سبيل المؤمنين دون ضدها فهو يعرف ضدها من حيث الجملة والمخالفة، وأن كل ما خالف سبيل المؤمنين فهو باطل وإن لم يتصوره على التفصيل، بل إذا سمع شيئا مما خالف سبيل المؤمنين صرف سمعه عنه ولم يشغل نفسه بفهمه ومعرفة وجه بطلانه،

وهو بمنزلة من سلمت نفسه من إرادة الشهوات فلم تخطر بقلبه ولم تدعه إليها نفسه، بخلاف الفرقة الأولى، فإنهم يعرفونها وتميل إليها نفوسهم ويجاهدونها على تركها لله. وقد كتبوا إلى عمر بن الخطاب يسألونه عن هذه المسألة أيهما أفضل: رجل لم تخطر له الشهوات ولم تمر بباله، أو رجل نازعته إليها نفسه فتركها لله؟ فكتب عمر: إن الذي تشتهي نفسه المعاصي ويتركها لله عزوجل من الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم. وهكذا من عرف البدع والشرك والباطل وطرقه فأبغضها لله وحذرها وحذر منها ودفعها عن نفسه ولم يدعها تخدش وجه إيمانه ولاتورثه شبهة ولا شكا، بل يزداد بمعرفتها بصيرة في الحق ومحبة له، وكراهة لها ونفرة عنها، أفضل ممن لا تخطر بباله ولا تمر بقلبه. فإنه كلما مرت بقلبه وتصورت له ازداد محبة للحق ومعرفة بقدره وسرورا به، فيقوى إيمانه به. كما أن صاحب خواطر الشهوات والمعاصي كلما مرت به فرغب عنها إلى ضدها ازداد محبة لضدها ورغبة فيه وطلبا له وحرصا عليه، فما ابتلى الله سبحانه عبده المؤمن بمحبة الشهوات والمعاصي وميل نفسه إليها إلا ليسوقه بها إلى محبة ما هو أفضل منها وخير له وأنفع وأدوم، وليجاهد نفسه على تركها له سبحانه فتورثه تلك المجاهدة الوصول إلى المحبوب الأعلى. فكلما نازعته نفسه إلى تلك الشهوات واشتدت إرادته لها وشوقه إليها، صرف ذلك الشوق والإرادة والمحبة إلى النوع العالي الدائم، فكان طلبه له أشد وحرصه عليه أتم، بخلاف النفس الباردة الخالية من ذلك، فإنها وإن كانت طالبة للأعلى لكن بين

الطلبين فرق عظيم. ألا ترى أن من مشى إلى محبوبه على الجمر والشوك أعظم ممن مشى إليه راكبا على النجائب، فليس من آثر محبوبه مع منازعة نفسه كمن آثره مع عدم منازعتها إلى غيره، فهو سبحانه يبتلي عبده بالشهوات، إما حجابا له عنه، أوحاجبا له يوصله إلى رضاه وقربه وكرامته. الفرقة الرابعة: فرقة عرفت سبيل الشر والبدع والكفر مفصلة، وسبيل المؤمنين مجملة، وهذا حال كثير ممن اعتنى بمقالات الأمم ومقالات أهل البدع، فعرفها على التفصيل ولم يعرف ما جاء به الرسول كذلك، بل عرفه معرفة مجملة وإن تفصلت له في بعض الأشياء. ومن تأمل كتبهم رأى ذلك عيانا. وكذلك من كان عارفا بطرق الشر والظلم والفساد على التفصيل سالكا لها، إذا تاب ورجع عنها إلى سبيل الأبرار يكون علمه بها مجملا غير عارف بها على التفصيل معرفة من أفنى عمره في تصرفها وسلوكها. والمقصود أن الله سبحانه يحب أن تعرف سبيل أعدائه لتجتنب وتبغض، كما يحب أن تعرف سبيل أوليائه لتحب وتسلك. وفي هذه المعرفة من الفوائد والأسرار ما لا يعلمه إلا الله من معرفة عموم ربوبيته سبحانه وحكمته وكمال أسمائه وصفاته وتعلقها بمتعلقاتها واقتفائها لآثارها وموجباتها. وذلك من أعظم الدلالة على ربوبيته وملكه وإلهيته وحبه وبغضه وثوابه وعقابه، والله أعلم. (¬1) ¬

(¬1) الفوائد (142 - 145).

موقفه من المشركين:

موقفه من المشركين: - قال رحمه الله: ثم إن في اتخاذ القبور أعيادا من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله ما يغضب لأجله كل من في قلبه وقار، وغيرة على التوحيد، وتهجين وتقبيح للشرك. ولكن ما لجرح بميت إيلام، فمن مفاسد اتخاذها أعيادا: الصلاة إليها، والطواف بها، وتقبيلها واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها، وعبادة أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصر والرزق والعافية، وقضاء الديون، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم. فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيدا، وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد، فوضعوا لها الجباه، وقبلوا الأرض وكشفوا الرؤوس، وارتفعت أصواتهم بالضجيج، وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج، ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يبدي ولا يعيد، ونادوا ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ولا أجر من صلى إلى القبلتين، فتراهم حول القبر ركعا سجدا يبتغون فضلا من الميت ورضوانا، وقد ملئوا أكفهم خيبة وخسرانا، فلغير الله، بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات، ويرتفع من الأصوات، ويطلب من الميت من الحاجات ويسأل من تفريج الكربات، وإغناء ذوي الفاقات، ومعافاة أولى العاهات والبليات، ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين، تشبيها له بالبيت الحرام، الذي جعله الله مباركا وهدى للعالمين، ثم أخذوا في التقبيل والاستلام، أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد البيت

الحرام، ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود، التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود. ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق، وقربوا لذلك الوثن القرابين، وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين، فلو رأيتهم يهنئ بعضهم بعضا ويقول: أجزل الله لنا ولكم أجرا وافرا وحظا، فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحج المتخلف إلى البيت الحرام، فيقول: لا، ولو بحجك كل عام. هذا ولم نتجاوز فيما حكيناه عنهم، ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم، إذ هي فوق ما يخطر بالبال، أو يدور في الخيال. وهذا كان مبدأ عبادة الأصنام في قوم نوح، كما تقدم. وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى هذا المحذور، وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهى عنه لما يؤول إليه، وأحكم في نهيه عنه وتوعده عليه. وأن الخير والهدى في اتباعه وطاعته. والشر والضلال في معصيته ومخالفته. (¬1) - وقال: فلو كان الدعاء عند القبور والصلاة عندها والتبرك بها فضيلة أو سنة أو مباحا، لنصب المهاجرون والأنصار هذا القبر علما لذلك، ودعوا عنده، وسنوا ذلك لمن بعدهم، ولكن كانوا أعلم بالله ورسوله ودينه من الخلوف التي خلفت بعدهم، وكذلك التابعون لهم بإحسان راحوا على هذا السبيل، وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأمصار عدد ¬

(¬1) إغاثة اللهفان (1/ 304 - 305).

كثير وهم متوافرون. فما منهم من استغاث عند قبر صاحب، ولا دعاه، ولا دعا به، ولا دعا عنده، ولا استسقى به، ولا استنصر به، ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، بل على نقل ما هو دونه. وحينئذ، فلا يخلو إما أن يكون الدعاء عندها والدعاء بأربابها أفضل منه في غير تلك البقعة، أو لا يكون، فإن كان أفضل، فكيف خفي علما وعملا على الصحابة والتابعين وتابعيهم؟ فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة بهذا الفضل العظيم، وتظفر به الخلوف علما وعملا؟ ولا يجوز أن يعلموه ويزهدوا فيه، مع حرصهم على كل خير، لا سيما الدعاء، فإن المضطر يتشبت بكل سبب، وإن كان فيه كراهة، فكيف يكونون مضطرين في كثير من الدعاء، وهم يعلمون فضل الدعاء عند القبور، ثم لا يقصدونه؟ هذا محال طبعا وشرعا. فتعين القسم الآخر. وهو أنه لا فضل للدعاء عندها، ولا هو مشروع، ولا مأذون فيه بقصد الخصوص، بل تخصيصها بالدعاء عندها ذريعة إلى ما تقدم من المفاسد. ومثل هذا مما لا يشرعه الله ورسوله ألبتة، بل استحباب الدعاء عندها شرع عبادة لم يشرعها الله. ولم ينزل بها سلطانا. وقد أنكر الصحابة ما هو دون هذا بكثير. (¬1) وقال: ومن أعظم كيد الشيطان: أنه ينصب لأهل الشرك قبر معظم يعظمه الناس، ثم يجعله وثنا يعبد من دون الله، ثم يوحي إلى أوليائه: أن من نهى عن عبادته واتخاذه عيدا وجعله وثنا فقد تنقصه، وهضم حقه، فيسعى ¬

(¬1) إغاثة اللهفان (1/ 319 - 320).

الجاهلون المشركون في قتله وعقوبته ويكفرونه. وذنبه عند أهل الشرك: أمره بما أمر الله به ورسوله، ونهيه عما نهى الله عنه ورسوله من جعله وثنا وعيدا، وإيقاد السرج عليه، وبناء المساجد والقباب عليه وتجصيصه، وإشادته وتقبيله، واستلامه، ودعائه، أو الدعاء به، أو السفر إليه، أو الاستعانة به من دون الله، مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله: من تجريد التوحيد به وأن لا يعبد إلا الله، فإذا نهى الموحد عن ذلك غضب المشركون، واشمأزت قلوبهم، وقالوا: قد تنقص أهل الرتب العالية. وزعم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر، وسرى ذلك في نفوس الجهال والطغام، وكثير ممن ينسب إلى العلم والدين، حتى عادوا أهل التوحيد، ورموهم بالعظائم ونفروا الناس عنهم. ووالوا أهل الشرك وعظموها. وزعموا أنهم هم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله. ويأبى الله ذلك. فما كانوا أولياءه. إن أولياؤه إلا المتبعون له الموافقون له، العارفون بما جاء به، الداعون إليه، لا المتشبعون بما لم يعطوا، لابسو ثياب الزور، الذين يصدون الناس عن سنة نبيهم، ويبغونها عوجا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. ولا تحسب أيها المنعم عليه باتباع صراط الله المستقيم -صراط أهل نعمته ورحمته وكرامته- أن النهي عن اتخاذ القبور أوثانا وأعيادا وأنصابا، والنهي عن اتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، وإيقاد السرج عليها، والسفر إليها، والنذر لها، واستلامها، وتقبيلها، وتعفير الجباه في عرصاتها غض من أصحابها، ولا تنقيص لهم، ولا تنقص. كما يحسبه أهل الشرك والضلال. بل ذلك من إكرامهم وتعظيمهم واحترامهم ومتابعتهم فيما يحبونه، وتجنب ما يكرهونه. فأنت والله وليهم

ومحبهم، وناصر طريقتهم وسنتهم، وعلى هديهم ومنهاجهم. وهؤلاء المشركون أعصى الناس لهم، وأبعدهم من هديهم ومتابعتهم. كالنصارى مع المسيح، واليهود مع موسى، والرافضة مع علي، وأهل الحق أولى بأهل الحق من أهل الباطل. {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (¬1) و {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} (¬2). فاعلم أن القلوب إذا اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن، فتجد أكثر هؤلاء العاكفين على القبور معرضين عن طريقة من فيها وهديه وسنته، مشتغلين بقبره عما أمر به ودعا إليه، وتعظيم الأنبياء والصالحين ومحبتهم إنما هي باتباع ما دعوا إليه من العلم النافع، والعمل الصالح، واقتفاء آثارهم، وسلوك طريقتهم، دون عبادة قبورهم، والعكوف عليها، واتخاذها أعيادا. فإن من اقتفى آثارهم كان متسببا إلى تكثير أجورهم باتباعه لهم، ودعوته الناس إلى اتباعهم فإذا أعرض عما دعوا إليه، واشتغل بضده حرم نفسه وحرمهم ذلك الأجر. فأي تعظيم لهم واحترام في هذا؟. وإنما اشتغل كثير من الناس بأنواع من العبادات المبتدعة التي يكرهها الله ورسوله. لإعراضهم عن المشروع أو بعضه، وإن قاموا بصورته الظاهرة فقد هجروا حقيقته المقصودة منه، وإلا فمن أقبل على الصلوات الخمس بوجهه وقلبه، عارفا بما اشتملت عليه من الكلم الطيب والعمل الصالح، ¬

(¬1) التوبة الآية (71). (¬2) التوبة الآية (67).

مهتما بها كل الاهتمام، أغنته عن الشرك، وكل من قصر فيها أو في بعضها تجد فيه من الشرك بحسب ذلك. (¬1) - وقال: ومن بعض حقوق الله على عبده رد الطاعنين على كتابه ورسوله ودينه ومجاهدتهم بالحجة والبيان، والسيف والسنان، والقلب والجنان، وليس وراء ذلك حبة خردل من الإيمان، وكان انتهى إلينا مسائل أوردها بعض الكفار الملحدين على بعض المسلمين فلم يصادف عنده ما يشفيه، ولا وقع دواؤه على الداء الذي فيه، وظن المسلم أنه بضربه يداويه، فسطا به ضربا وقال هذا هو الجواب، فقال الكافر: صدق أصحابنا في قولهم: إن دين الإسلام إنما قام بالسيف لا بالكتاب، فتفرقا وهذا ضارب وهذا مضروب، وضاعت الحجة بين الطالب والمطلوب، فشمر المجيب ساعد العزم، ونهض على ساق الجد، وقام لله قيام مستعين به مفوض إليه متكل عليه في موافقة مرضاته، ولم يقل مقالة العجزة الجهال: إنما الكفار يعاملون بالجلاد دون الجدال، وهذا فرار من الزحف، وإخلاد إلى العجز والضعف، وقد أمر الله بمجادلة الكفار بعد دعوتهم، إقامة للحجة وإزاحة للعذر {ليهلك مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} (¬2) والسيف إنما جاء منفذا للحجة، مقوما للمعاند، وحدا للجاحد، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ¬

(¬1) إغاثة اللهفان (1/ 330 - 331). (¬2) الأنفال الآية (42).

وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)} (¬1) فدين الإسلام قام بالكتاب الهادي ونفذه السيف الماضي. فما هو إلا الوحي أو حد مرهف ... يقيم ضباه أخدعي كل مائل فهذا شفاء الداء من كل عاقل ... وهذا دواء الداء من كل جاهل (¬2) - وقال: وقد ذكرنا اتفاق أمة الضلال وعباد الصليب على مسبة رب العالمين أقبح مسبة، على ما يعلم بطلانه بصريح العقل، فإن خفي عليهم أن هذا مسبة الله، وأن العقل يحكم ببطلانه وبفساده من أول وهلة لم يكثر على تلك العقول السخيفة أن تسب بشرا أرسله الله، وتجحد نبوته، وتكابر ما دل عليه صريح العقل من صدقه وصحة رسالته، فلو قالوا فيه ما قالوا لم يبلغ بعض قولهم في رب الأرض والسموات الذي صاروا به ضحكة بين جميع أصناف بني آدم، فأمة أطبقت على أن الإله الحق -سبحانه عما يقولون- صلب وصفع وسمر ووضع الشوك على رأسه ودفن في التراب، ثم قام في اليوم الثالث وصعد وجلس على عرشه يدبر أمر السموات والأرض، لا يكثر عليها أن تطبق على جحد نبوة من جاء بسبها ولعنها ومحاربتها وإبداء معايبها والنداء على كفرها بالله ورسوله، والشهادة على براءة المسيح منها ومعاداته لها، ثم قاتلها وأذلها وأخرجها من ديارها وضرب عليها الجزية، ¬

(¬1) الحديد الآية (25). (¬2) هداية الحيارى (ص.31 - 32).

وأخبر أنها من أهل الجحيم خالدة مخلدة لا يغفر الله لها وأنها شر من الحمير، بل هي شر الدواب عند الله. (¬1) - وقال رحمه الله: وكيف ينكر لأمة أطبقت على صلب معبودها وإلهها ثم عمدت إلى الصليب فعبدته وعظمته، وكان ينبغي لها أن تحرق كل صليب تقدر على إحراقه، وأن تهينه غاية الإهانة إذ صلب عليه إلهها الذي يقولون تارة: إنه الله، وتارة يقولون إنه ابنه، وتارة يقولون ثالث ثلاثة، فجحدت حق خالقها وكفرت به أعظم كفر وسبته أقبح مسبة، أن تجحد حق عبده ورسوله وتكفر به، وكيف يكثر على أمة قالت في رب الأرض والسموات أنه ينزل من السماء ليكلم الخلق بذاته لئلا يكون لهم حجة عليه، فأراد أن يقطع حجتهم بتكليمه لهم بذاته لترتفع المعاذير عمن ضيع عهده بعد ما كلمه بذاته فهبط بذاته من السماء، والتحم في بطن مريم، فأخذ منها حجابا، وهو مخلوق من طريق الجسم، وخالق من طريق النفس، وهو الذي خلق جسمه وخلق أمه، وأمه كانت من قبله بالناسوت، وهو كان من قبلها باللاهوت، وهو الإله التام والإنسان التام، ومن تمام رحمته تبارك وتعالى على عباده أنه رضي بإراقة دمه عنهم على خشبة الصليب، فمكن أعداءه اليهود من نفسه ليتم سخطه عليهم، فأخذوه وصلبوه وصفعوه وبصقوا في وجهه، وتوجوه بتاج من الشوك على رأسه، وغار دمه في أصبعه لأنه لو وقع منه شيء إلى الأرض ليبس كلما كان على وجهها، فنبت في موضع صلبه النوار، ولما لم يكن في الحكمة الأزلية أن ينتقم الله من عبده العاصي الذي ظلمه أو ¬

(¬1) هداية الحيارى (ص 47 - 48).

استهان بقدره لاعتلاء منزلة الرب وسقوط منزلة العبد، أراد سبحانه أن ينتصف من الإنسان الذي هو إله مثله، فانتصف من خطيئة آدم بصلب عيسى المسيح الذي هو إله مساو له في الإلهية، فصلب ابن الله الذي هو الله في الساعة التاسعة من يوم الجمعة، هذه ألفاظهم في كتبهم؟ فأمة أطبقت على هذا في معبودها، كيف يكثر عليها أن تقول في عبده ورسوله أنه ساحر وكاذب وملك مسلط ونحو هذا؟. (¬1) - وقال: فيا معشر المثلثة وعباد الصليب، أخبرونا من كان الممسك للسماوات والأرض حين كان ربها وخالقها مربوطا على خشبة الصليب، وقد شدت يداه ورجلاه بالحبال وسمرت اليد التي أتقنت العوالم، فهل بقيت السماوات والأرض خلوا من إلهها وفاطرها وقد جرى عليه هذا الأمر العظيم؟ أم تقولون استخلف على تدبيرها غيره وهبط عن عرشه لربط نفسه على خشبة الصليب وليذوق حر المسامير وليوجب اللعنة على نفسه حيث قال في التوراة: ملعون من تعلق بالصليب. أم تقولون: كان هو المدبر لها في تلك الحال، فكيف وقد مات ودفن؟ أم تقولون -وهو حقيقة قولكم- لا ندري، ولكن هذا في الكتب وقد قاله الآباء وهم القدوة، والجواب عليهم، فنقول لكم وللآباء معاشر المثلثة عباد الصليب، ما الذي دلكم على إلهية المسيح؟ فإن كنتم استدللتم عليها بالقبض من أعدائه عليه وسوقه إلى خشبة الصليب وعلى رأسه تاج من الشوك وهم يبصقون في وجهه ويصفعونه ثم أركبوه ذلك المركب الشنيع، وشدوا يديه ورجليه بالحبال، وضربوا فيها ¬

(¬1) هداية الحيارى (ص 48 - 49).

المسامير وهو يستغيث، وتعلق ثم فاضت نفسه وأودع ضريحه، فما أصحه من استدلال عند أمثالكم ممن هم أضل من الأنعام؟ وهم عار على جميع الأنام، وإن قلتم إنما استدللنا على كونه إلها بأنه لم يولد من البشر، ولو كان مخلوقا لكان مولودا من البشر، فإن كان هذا الاستدلال صحيحا فآدم إله المسيح، وهو أحق بأن يكون إلها منه لأنه لا أم له ولا أب، والمسيح له أم، وحواء أيضا اجعلوها إلها خامسا لأنها لا أم لها وهي أعجب من خلق المسيح؟ والله سبحانه قد نوع خلق آدم وبنيه إظهارا لقدرته وأنه يفعل ما يشاء، فخلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى، وخلق زوجه حواء من ذكر لا من أنثى، وخلق عبده المسيح من أنثى لا من ذكر، وخلق سائر النوع من ذكر وأنثى. وإن قلتم: استدللنا على كونه إلها بأنه أحيا الموتى، ولا يحييهم إلا الله. فاجعلوا موسى إلها آخر، فإنه أتى من ذلك بشيء لم يأت المسيح بنظيره ولا ما يقاربه، وهو جعل الخشبة حيوانا عظيما ثعبانا، فهذا أبلغ وأعجب من إعادة الحياة إلى جسم كانت فيه أولا، فإن قلتم هذا غير إحياء الموتى، فهذا اليسع النبي أتى بإحياء الموتى وهم يقرون بذلك، وكذلك إيليا النبي أيضا أحيا صبيا بإذن الله، وهذا موسى قد أحيا بإذن الله السبعين الذين ماتوا من قومه، وفي كتبكم من ذلك كثير عن الأنبياء والحواريين: فهل صار أحد منهم إلها بذلك؟ وإن قلتم جعلناه إلها للعجائب التي ظهرت على يديه، فعجائب موسى أعجب وأعجب، وهذا إيليا النبي بارك على دقيق العجوز ودهنها فلم ينفد ما في جرابها من الدقيق وما في قارورتها من الدهن سبع سنين، وإن جعلتموه إلها لكونه أطعم من الأرغفة اليسيرة آلافا من الناس فهذا موسى قد

أطعم أمته أربعين سنة من المن والسلوى؟ وهذا محمد بن عبد الله قد أطعم العسكر كله من زاد يسير جدا حتى شبعوا وملؤوا أوعيتهم (¬1)، وسقاهم كلهم من ماء يسير لا يملأ اليد حتى ملؤوا كل سقاء في العسكر (¬2)، وهذا منقول عنه بالتواتر؟ وإن قلتم جعلناه إلها لأنه صاح بالبحر فسكنت أمواجه، فقد ضرب موسى البحر بعصاه فانفلق اثنى عشر طريقا وقام الماء بين الطرق كالحيطان، وفجر من الحجر الصلد اثني عشر عينا سارحة، وإن جعلتموه إلها لأنه أبرأ الأكمه والأبرص، فإحياء الموتى أعجب من ذلك، وآيات موسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أعجب من ذلك، وإن جعلتموه إلها لأنه ادعى ذلك فلا يخلو إما أن يكون الأمر كما تقولون عنه، أو يكون إنما ادعى العبودية والافتقار وأنه مربوب مصنوع مخلوق، فإن كان كما ادعيتم عليه فهو أخو المسيح الدجال، وليس بمؤمن ولا صادق فضلا عن أن يكون نبيا كريما وجزاؤه جهنم وبئس المصير، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} (¬3) وكل من ادعى الإلهية من دون الله فهو من أعظم أعداء الله كفرعون ونمرود وأمثالهما من أعداء الله، فأخرجتم المسيح عن كرامة الله ونبوته ورسالته وجعلتموه من أعظم أعداء الله، ولهذا كنتم أشد الناس عداوة للمسيح في صورة محب موال! ومن أعظم ما يعرف به كذب المسيح الدجال أنه يدعي الإلهية، فيبعث الله عبده ورسوله مسيح ¬

(¬1) أخرجه أحمد (2/ 421 - 422) ومسلم (1/ 55 - 56/ 27) من حديث أبي هريرة. (¬2) أحمد (5/ 237 - 238) ومسلم (4/ 1784/706) من حديث معاذ .. (¬3) الأنبياء الآية (29).

موقفه من الرافضة:

الهدى ابن مريم فيقتله، ويظهر للخلائق أنه كان كاذبا مفتريا، ولو كان إلها لم يقتل فضلا عن أن يصلب ويسمر ويبصق في وجهه، وإن كان المسيح إنما ادعى أنه عبد ونبي ورسول كما شهدت به الأناجيل كلها ودل عليه العقل والفطرة وشهدتم أنتم له بالإلهية -وهذا هو الواقع- فلم تأتوا على إلهيته ببينة غير تكذيبه في دعواه، وقد ذكرتم عنه في أناجيلكم في مواضع عديدة ما يصرح بعبوديته وأنه مربوب مخلوق، وأنه ابن البشر، وأنه لم يدع غير النبوة والرسالة، فكذبتموه في ذلك كله وصدقتم من كذب على الله وعليه. (¬1) موقفه من الرافضة: - قال: ولما كان التلقي عنه صلى الله عليه وآله وسلم على نوعين: نوع بوساطة ونوع بغير وساطة، وكان التلقي بلا وساطة حظ أصحابه الذين حازوا قصبات السباق، واستولوا على الأمد، فلا طمع لأحد من الأمة بعدهم في اللحاق، ولكن المبرز من اتبع صراطهم المستقيم، واقتفى منهاجهم القويم، والمتخلف من عدل عن طريقهم ذات اليمين وذات الشمال، فذلك المنقطع التائه في بيداء المهالك والضلال، فأي خصلة خير لم يسبقوا إليها؟ وأي خطة رشد لم يستولوا عليها؟ تالله لقد وردوا رأس الماء من عين الحياة عذبا صافيا زلالا، وأيدوا قواعد الإسلام فلم يدعوا لأحد بعدهم مقالا، فتحوا القلوب بعدلهم بالقرآن والإيمان، والقرى بالجهاد بالسيف والسنان، وألقوا إلى التابعين ما تلقوه من مشكاة النبوة خالصا صافيا، وكان سندهم فيه عن نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم عن جبريل عن رب العالمين سندا ¬

(¬1) هداية الحيارى (275 - 279).

صحيحا عاليا. وقالوا: هذا عهد نبينا إلينا وقد عهدنا إليكم، وهذه وصية ربنا وفرضه علينا وهي وصيته وفرضه عليكم، فجرى التابعون لهم بإحسان على منهاجهم القويم، واقتفوا على آثارهم صراطهم المستقيم، ثم سلك تابعو التابعين هذا المسلك الرشيد، وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد، وكانوا بالنسبة إلى من قبلهم كما قال أصدق القائلين: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ (14)} (¬1) ثم جاءت الأئمة من القرن الرابع المفضل في إحدى الروايتين، كما ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد (¬2) وابن مسعود (¬3) وأبي هريرة (¬4) وعائشة (¬5) وعمران بن حصين (¬6)، فسلكوا على آثارهم اقتصاصا، واقتبسوا هذا الأمر عن مشكاتهم اقتباسا، وكان دين الله سبحانه أجل في صدورهم، وأعظم في نفوسهم، من أن يقدموا عليه رأيا أو معقولا أو تقليدا أو قياسا، فطار لهم الثناء الحسن في العالمين، وجعل الله سبحانه لهم لسان صدق في الآخرين، ثم سار على آثارهم الرعيل الأول من ¬

(¬1) الواقعة الآيتان (13 - 14). (¬2) أخرجه: البخاري (6/ 110/2897) ومسلم (4/ 1962/2532) وورد عند مسلم في رواية ذكر القرن الرابع. قال الحافظ ابن حجر في الفتح (7/ 6): "وهذه رواية شاذة، وأكثر الروايات مقتصر على الثلاثة". (¬3) رواه البخاري (5/ 324/2652) ومسلم (4/ 1962 - 1963/ 2533) والترمذي (5/ 652/3859) والنسائي في الكبرى (3/ 494 - 495/ 6031) وابن ماجه (2/ 791/2362) .. (¬4) رواه أحمد (2/ 228) ومسلم (4/ 1963 - 1964/ 2534). (¬5) رواه أحمد (6/ 156) ومسلم (4/ 1965/2536). (¬6) رواه البخاري (5/ 324/2651) ومسلم (4/ 1964/2535) والترمذي (4/ 434/2221)، وورد ذكر القرن الرابع من حديث عمران خارج الصحيحين ومن حديث غيره أيضاً كما تقدم بعض ذلك، ولا يصح شيء من ذلك كما حققه الشيخ الألباني رحمه الله في الضعيفة برقم (3569)، والله أعلم.

أتباعهم، ودرج على منهاجهم الموفقون من أشياعهم، زاهدين في التعصب للرجال، واقفين مع الحجة والاستدلال، يسيرون مع الحق أين سارت ركائبه، ويستقلون مع الصواب حيث استقلت مضاربه، إذا بدا لهم الدليل بأُخْذته طاروا إليه زرافات ووحدانا، وإذا دعاهم الرسول إلى أمر انتدبوا إليه ولا يسألونه عما قال برهانا، ونصوصه أجل في صدورهم وأعظم في نفوسهم من أن يقدموا عليها قول أحد من الناس، أو يعارضوها برأي أو قياس. (¬1) -وفيه: وكذلك المشركون على اختلاف شركهم، إذا جرد لهم التوحيد وتليت عليهم النصوص المبطلة لشركهم اشمأزت قلوبهم، وثقلت عليهم، ولو وجدوا السبيل إلى سد آذانهم لفعلوا، ولذلك تجد أعداء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سمعوا نصوص الثناء على الخلفاء الراشدين وصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثقل ذلك عليهم جدا، وأنكرته قلوبهم، وهذا كله شبه ظاهر، ومثل محقق من إخوانهم من المنافقين في المثل الذي ضربه الله لهم بالماء، فإنهم لما تشابهت قلوبهم تشابهت أعمالهم. (¬2) - وفيه أيضا: وأما علي بن أبي طالب عليه السلام فانتشرت أحكامه وفتاويه، ولكن قاتل الله الشيعة؛ فإنهم أفسدوا كثيرا من علمه بالكذب عليه، ولهذا تجد أصحاب الحديث من أهل الصحيح لا يعتمدون من حديثه وفتواه إلا ما كان من طريق أهل بيته، وأصحاب عبد الله بن مسعود: كعبيدة السلماني وشريح وأبي وائل ونحوهم، وكان رضي الله عنه وكرم وجهه ¬

(¬1) إعلام الموقعين (1/ 5 - 7). (¬2) إعلام الموقعين (1/ 151 - 152).

يشكو عدم حملة العلم الذي أودعه كما قال: إن ههنا علما لو أصبت له حملة. (¬1) - وجاء في مدارج السالكين: فصل في بيان تضمنها للرد على الرافضة وذلك من قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى آخرها. ووجه تضمنه إبطال قولهم: أنه سبحانه قسم الناس إلى ثلاثة أقسام "منعم عليهم" وهم أهل الصراط المستقيم، الذين عرفوا الحق واتبعوه. و"مغضوب عليهم" وهم الذين عرفوا الحق ورفضوه. و"ضالون" وهم الذين جهلوه فأخطأوه. فكل من كان أعرف للحق، وأتبع له: كان أولى بالصراط المستقيم. ولا ريب أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورضي الله عنهم: هم أولى بهذه الصفة من الروافض. فإنه من المحال أن يكون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهم جهلوا الحق وعرفه الروافض، أو رفضوه وتمسك به الروافض. ثم إنا رأينا آثار الفريقين تدل على أهل الحق منهما. فرأينا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتحوا بلاد الكفر، وقلبوها بلاد إسلام. وفتحوا القلوب بالقرآن والعلم والهدى. فآثارهم تدل على أنهم هم أهل الصراط المستقيم. ورأينا الرافضة بالعكس في كل زمان ومكان. فإنه قط ما قام للمسلمين عدو من غيرهم إلا كانوا أعوانهم على الإسلام. وكم جروا على الإسلام وأهله من بلية! وهل عاثت سيوف المشركين عباد الأصنام -من عسكر هولاكو ¬

(¬1) إعلام الموقعين (1/ 21).

وذويه من التتار- إلا من تحت رءوسهم؟ وهل عطلت المساجد، وحرقت المصاحف، وقتل سروات المسلمين وعلماؤهم وعبادهم وخليفتهم، إلا بسببهم ومن جرائهم؟ ومظاهرتهم للمشركين والنصارى معلومة عند الخاصة والعامة، وآثارهم في الدين معلومة. فأي الفريقين أحق بالصراط المستقيم؟ وأيهم أحق بالغضب والضلال، إن كنتم تعلمون؟. ولهذا فسر السلف الصراط المستقيم وأهله: بأبي بكر وعمر، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورضي الله عنهم، وهو كما فسروه. فإنه صراطهم الذي كانوا عليه. وهو عين صراط نبيهم. وهم الذين أنعم الله عليهم، وغضب على أعدائهم، وحكم لأعدائهم بالضلال، وقال أبو العالية -رفيع الرياحي- والحسن البصري، وهما من أجل التابعين: "الصراط المستقيم: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحباه". وقال أبو العالية أيضا في قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (¬1): "هم آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر وعمر" وهذا حق. فإن آله وأبا بكر وعمر على طريق واحدة. ولا خلاف بينهم، وموالاة بعضهم بعضا، وثناؤهم عليهما، ومحاربة من حاربا، ومسالمة من سالما معلومة عند الأمة. خاصها وعامها. وقال زيد بن أسلم: "الذين أنعم الله عليهم: هم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر". ولا ريب أن المنعم عليهم: هم أتباعه، والمغضوب عليهم: هم ¬

(¬1) الفاتحة الآية (7).

الخارجون عن أتباعه، وأتبع الأمة له وأطوعهم: أصحابه وأهل بيته. وأتبع الصحابة له: السمع والبصر، أبو بكر وعمر. وأشد الأمة مخالفة له: هم الرافضة، فخلافهم له معلوم عند جميع فرق الأمة. ولهذا يبغضون السنة وأهلها، ويعادونها ويعادون أهلها. فهم أعداء سنته - صلى الله عليه وسلم -. وأهل بيته وأتباعه من بنيهم أكمل ميراثا بل هم ورثته حقا. فقد تبين أن الصراط المستقيم: طريق أصحابه وأتباعه. وطريق أهل الغضب والضلال: طريق الرافضة. وبهذا الطريق بعينها - يرد على الخوارج. فإن معاداتهم الصحابة معروفة. (¬1) - وجاء في الصواعق المرسلة: السبب الثالث: أن يعزو المتأول تأويله وبدعته إلى جليل القدر، نبيه الذكر من العقلاء، أو من آل البيت النبوي، أو من حل له في الأمة ثناء جميل ولسان صدق ليحليه بذلك في قلوب الأغمار والجهال، فإن من شأن الناس تعظيم كلام من يعظم قدره في نفوسهم، وأن يتلقوه بالقبول والميل إليه، وكلما كان ذلك القائل أعظم في نفوسهم، كان قبولهم لكلامه أتم، حتى إنهم ليقدمونه على كلام الله ورسوله ويقولون: هو أعلم بالله ورسوله منا. وبهذه الطريق توصل الرافضة والباطنية والإسماعيلية والنصيرية إلى تنفيق باطلهم وتأويلاتهم حتى أضافوها إلى أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما علموا أن المسلمين متفقون على محبتهم وتعظيمهم وموالاتهم وإجلالهم، فانتموا إليهم وأظهروا من محبتهم وموالاتهم واللهج بذكرهم ¬

(¬1) مدارج السالكين (1/ 72 - 74).

وذكر مناقبهم ما خيل إلى السامع أنهم أولياؤهم وأولى الناس بهم، ثم نَفَّقوا باطلهم وإفكهم بنسبته إليهم. فلا إله إلا الله، كم من زندقة وإلحاد وبدعة وضلالة قد نفقت في الوجود بنسبتها إليهم وهم براء منها براءة الأنبياء من التجهم والتعطيل، وبراءة المسيح من عبادة الصليب والتثليت، وبراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البدع والضلالات. (¬1) - وجاء في مفتاح دار السعادة: وحجج الله لا تقوم بخفي مستور -أي مهدي الرافضة- لا يقع العالم له على خبر، ولا ينتفعون به في شيء أصلا، فلا جاهل يتعلم منه، ولا ضال يهتدي به، ولا خائف يأمن به، ولا ذليل يتعزز به، فأي حجة لله قامت بمن لا يرى له شخص، ولا يسمع منه كلمة، ولا يعلم له مكان، ولا سيما على أصول القائلين به، فإن الذي دعاهم إلى ذلك أنهم قالوا: لا بد منه في اللطف بالمكلفين وانقطاع حجتهم عن الله. فيا لله العجب، أي لطف حصل بهذا المعدوم المعصوم؟ وأي حجة أثبتم للخلق على ربهم بأصلكم الباطل؟ فإن هذا المعدوم إذا لم يكن لهم سبيل قط إلى لقائه والاهتداء به، فهل في تكليف ما لا يطاق أبلغ من هذا؟ هل في العذر والحجة أبلغ من هذا؟ فالذي فررتم منه وقعتم في شر منه، وكنتم في ذلك كما قيل: المستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار ولكن أبى الله إلا أن يفضح من تنقص بالصحابة الأخيار وبسادة هذه ¬

(¬1) الصواعق المرسلة (2/ 441 - 443).

الأمة، وأن يري الناس عورته ويغريه بكشفها، ونعوذ بالله من الخذلان. ولقد أحسن القائل: ما آن للسرداب أن يلد الذي فعلى عقولكم العفاء فإنكم ... حملتموه بزعمكم ما آنا ثلثتم العنقاء والغيلانا (¬1) - وفيه: ولهذا كان الصحابة أعرف الأمة بالإسلام وتفاصيله، وأبوابه وطرقه، وأشد الناس رغبة فيه، ومحبة له، وجهادا لأعدائه، وتكلما بأعلامه، وتحذيرا من خلافه، لكمال علمهم بضده، فجاءهم الإسلام كل خصلة منه مضادة لكل خصلة مما كانوا عليه، فازدادوا له معرفة وحبا، وفيه جهادا، بمعرفتهم بضده، وذلك بمنزلة من كان في حصر شديد وضيق ومرض وفقر وخوف ووحشة، فقيض الله له من نقله منه إلى فضاء وسعة وأمن وعافية وغنى وبهجة ومسرة، فإنه يزداد سروره وغبطته ومحبته بما نقل إليه بحسب معرفته بما كان فيه. (¬2) - وقال في فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه: نطقت بفضله الآيات والأخبار، واجتمع على بيعته المهاجرون والأنصار، فيا مبغضيه في قلوبكم من ذكره نار، كلما تليت فضائله علا عليهم الصغار. أترى لم يسمع الروافض الكفار {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} (¬3)؟ دعي إلى الإسلام فما تلعثم ولا أبى، وسار على المحجة فما زل ولا ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة (1/ 452 - 453). (¬2) مفتاح دار السعادة (2/ 288 - 289). (¬3) التوبة الآية (40).

كبا، وصبر في مدته من مدى العدى على وقع الشبا، وأكثر في الإنفاق فما قلل حتى تخلل بالعبا. تالله لقد زاد على السبك في كل دينار دينار {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ}. من كان قرين النبي في شبابه؟ من ذا الذي سبق إلى الإيمان من أصحابه؟ من الذي أفتى بحضرته سريعا في جوابه؟ من أول من صلى معه؟ من آخر من صلى به؟ من الذي ضاجعه بعد الموت في ترابه؟ فاعرفوا حق الجار. نهض يوم الردة بفهم واستيقاظ، وأبان من نص الكتاب معنى دق عن حديد الألحاظ. فالمحب يفرح بفضائله والمبغض يغتاظ. حسرة الرافضي أن يفر من مجلس ذكره، ولكن أين الفرار؟. كم وقى الرسول بالمال والنفس، وكان أخص به في حياته وهو ضجيعه في الرمس. فضائله جلية وهي خلية عن اللبس، يا عجبا، من يغطي عين ضوء الشمس في نصف النهار، لقد دخلا غارا لا يسكنه لابث، فاستوحش الصديق من خوف الحوادث، فقال الرسول: ما ظنك باثنين والله الثالث (¬1). فنزلت السكينة فارتفع خوف الحادث. فزال القلق وطاب عيش الماكث. فقام مؤذن النصر ينادي على رؤوس منائر الأمصار {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ}. ¬

(¬1) ثبت هذا عند أحمد (1/ 4) والبخاري (7/ 10/3653) ومسلم (4/ 1854/2381) والترمذي (5/ 260/3096) من رواية أنس عن أبي بكر رضي الله عنهما.

موقفه من الصوفية:

حبه والله رأس الحنيفية، وبغضه يدل على خبث الطوية. فهو خير الصحابة والقرابة والحجة على ذلك قوية. لولا صحة إمامته ما قيل ابن الحنفية. مهلا مهلا، فإن دم الروافض قد فار. والله ما أحببناه لهوانا، ولا نعتقد في غيره هوانا، ولكن أخذنا بقول علي وكفانا: "رضيك رسول الله لديننا، أفلا نرضاك لدنيانا". تالله لقد أخذت من الروافض بالثأر. تالله لقد وجب حق الصديق علينا، فنحن نقضي بمدائحه ونقر بما نقر به من السنى عينا، فمن كان رافضيا فلا يعد إلينا وليقل لي أعذار. (¬1) موقفه من الصوفية: - قال رحمه الله في إغاثة اللهفان في معرض كلامه عن مكايد الشيطان التي يكيد بها ابن آدم: ومن كيده: ما ألقاه إلى جهال المتصوفة من الشطح والطامات، وأبرزه لهم في قالب الكشف من الخيالات، فأوقعهم في أنواع الأباطيل والترهات، وفتح لهم أبواب الدعاوى الهائلات، وأوحى إليهم: أن وراء العلم طريقا إن سلكوه أفضى بهم إلى كشف العيان، وأغناهم عن التقيد بالسنة والقرآن؛ فحسن لهم رياضة النفوس وتهذيبها، وتصفية الأخلاق والتجافي عما عليه أهل الدنيا، وأهل الرياسة والفقهاء وأرباب العلوم والعمل على تفريغ القلب وخلوه من كل شيء، حتى ينتقش فيه الحق بلا واسطة تعلم، فلما خلا من صورة العلم الذي جاء به الرسول نقش فيه الشيطان بحسب ما هو مستعد له من أنواع الباطل، وخيله للنفس حتى جعله ¬

(¬1) الفوائد (ص.95 - 97).

كالمشاهد كشفا وعيانا. فإذا أنكره عليهم ورثة الرسل قالوا: لكم العلم الظاهر، ولنا الكشف الباطن، ولكم ظاهر الشريعة، وعندنا باطن الحقيقة، ولكم القشور ولنا اللباب. فلما تمكن هذا من قلوبهم سلخها من الكتاب والسنة والآثار كما ينسلخ الليل من النهار، ثم أحالهم في سلوكهم على تلك الخيالات، وأوهمهم أنها من الآيات البينات، وأنها من قبل الله سبحانه إلهامات وتعريفات، فلا تعرض على السنة والقرآن، ولا تعامل إلا بالقبول والإذعان، فلغير الله لا له سبحانه ما يفتحه عليهم الشيطان من الخيالات والشطحات، وأنواع الهذيان. وكلما ازدادوا بعدا وإعراضا عن القرآن وما جاء به الرسول كان هذا الفتح على قلوبهم أعظم. (¬1) - وقال رحمه الله: ومن كيده: أنه يحسن إلى أرباب التخلي والزهد والرياضة العمل بها حسهم وواقعهم دون تحكيم أمر الشارع، ويقولون: القلب إذا كان محفوظا مع الله كانت هواجسه وخواطره معصومة من الخطأ، وهذا من أبلغ كيد العدو فيهم. فإن الخواطر والهواجس ثلاثة أنواع: رحماني، وشيطانية، ونفسانية؛ كالرؤيا، فلو بلغ العبد من الزهد والعبادة ما بلغ، فمعه شيطانه ونفسه لا يفارقانه إلى الموت، والشيطان يجري منه مجرى الدم، والعصمة إنما هي للرسل صلوات الله وسلامه عليهم الذين هم وسائط بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه، ووعده ووعيده، ومن عداهم يصيب ويخطىء، وليس بحجة على الخلق. ¬

(¬1) (1/ 188 - 189).

وقد كان سيد المحدثين الملهمين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول الشيء فيرده عليه من هو دونه، فيتبين له الخطأ فيرجع إليه، وكان يعرض هواجسه وخواطره على الكتاب والسنة، ولا يلتفت إليها ولا يحكم بها ولا يعمل بها. وهؤلاء الجهال يرى أحدهم أدنى شيء فيحكم هواجسه وخواطره على الكتاب والسنة، ولا يلتفت إليهما؛ ويقول حدثني قلبي عن ربي، ونحن أخذنا عن الحي الذي لا يموت وأنتم أخذتم عن الوسائط، ونحن أخذنا بالحقائق وأنتم أخذتم الرسوم، وأمثال ذلك من الكلام الذي هو كفر وإلحاد، وغاية صاحبه أن يكون جاهلا يعذر بجهله، حتى قيل لبعض هؤلاء، ألا تذهب فتسمع الحديث من عبد الرزاق؟ فقال: ما يصنع بالسماع من عبد الرزاق من يسمع من الملك الخلاق؟!. وهذا غاية الجهل؛ فإن الذي سمع من الملك الخلاق: موسى بن عمران كليم الرحمن، وأما هذا وأمثاله فلم يحصل لهم السماع من بعض ورثة الرسول، وهو يدعي أنه يسمع الخطاب من مرسله، فيستغني به عن ظاهر العلم، ولعل الذي يخاطبهم هو الشيطان، أو نفسه الجاهلة، أو هما مجتمعين ومنفردين. ومن ظن أنه يستغني عما جاء به الرسول بما يلقى في قلبه من الخواطر والهواجس فهو من أعظم الناس كفرا. وكذلك إن ظن أنه يكتفي بهذا تارة وبهذا تارة، فما يلقي في القلوب لا عبرة به ولا التفات إليه إن لم يعرض على ما جاء به الرسول ويشهد له بالموافقة وإلا فهو من إلقاء النفس والشيطان. (¬1) ¬

(¬1) إغاثة اللهفان (1/ 192 - 193).

- وقال رحمه الله: ومن مكايد عدو الله ومصايده التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين: سماع المكاء والتصدية، والغناء بالآلات المحرمة، الذي يصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان. فهو قرآن الشيطان، والحجاب الكثيف عن الرحمن، وهو رقية اللواط والزنا، وبه ينال العاشق الفاسق من معشوقه غاية المنى، كاد به الشيطان النفوس المبطلة، وحسنه لها مكرا منه وغرورا، وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه، فقبلت وحيه واتخذت لأجله القرآن مهجورا؛ فلو رأيتهم عند ذياك السماع وقد خشعت منهم الأصوات، وهدأت منهم الحركات، وعكفت قلوبهم بكليتها عليه، وانصبت انصبابة واحدة إليه، فتمايلوا له ولا كتمايل النشوان، وتكسروا في حركاتهم ورقصهم، أرأيت تكسر المخانيث والنسوان؟ ويحق لهم ذلك، وقد خالط خماره النفوس، ففعل فيها أعظم ما يفعله حميا الكؤوس. فلغير الله، بل للشيطان قلوب هناك تمزق، وأثواب تشقق، وأموال في غير طاعة الله تنفق، حتى إذا عمل السكر فيهم عمله، وبلغ الشيطان منهم أمنيته وأمله، واستفزهم بصوته وحيله، وأجلب عليهم برجله وخيله، وخز في صدورهم وخزا، وأزهم إلى ضرب الأرض بالأقدام أزا، فطورا يجعلهم كالحمير حول المدار، وتارة كالدباب ترقص وسيط الديار، فيا رحمتا للسقوف والأرض من دك تلك الأقدام، ويا سوأتا من أشباه الحمير والأنعام، ويا شماتة أعداء الإسلام بالذين يزعمون أنهم خواص الإسلام قضوا حياتهم لذة وطربا، واتخذوا دينهم لهوا ولعبا، مزامير الشيطان أحب إليهم من استماع سور القرآن، لو سمع

أحدهم القرآن من أوله إلى آخره لما حرك له ساكنا، ولا أزعج له قاطنا، ولا أثار فيه وجدا، ولا قدح فيه من لواعج الشوق إلى الله زندا؛ حتى إذا تلي عليه قرآن الشيطان، وولج مزموره سمعه، تفجرت ينابيع الوجد من قلبه على عينيه فجرت، وعلى أقدامه فرقصت، وعلى يديه فصفقت، وعلى سائر أعضائه فاهتزت وطربت، وعلى أنفاسه فتصاعدت، وعلى زفراته فتزايدت، وعلى نيران أشواقه فاشتعلت. فيا أيها الفاتن المفتون، والبائع حظه من الله بنصيبه من الشيطان صفقة خاسر مغبون، هلا كانت هذه الأشجان عند سماع القرآن؟! وهذه الأذواق والمواجيد عند قراءة القرآن المجيد؟! وهذه الأحوال السنيات عند تلاوة السور والآيات؟! ولكن كل امرىء يصبو إلى ما يناسبه، ويميل إلى ما يشاكله، والجنسية علة الضم قدرا وشرعا، والمشاكلة سبب الميل عقلا وطبعا، فمن أين هذا الإخاء والنسب؟ لولا التعلق من الشيطان بأقوى سبب، ومن أين هذه المصالحة التي أوقعت في عقد الإيمان وعهد الرحمن خللا؟ {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)} (¬1) ولقد أحسن القائل: تلي الكتاب فأطرقوا لا خيفة ... لكنه إطراق ساه لاهي وأتى الغناء فكالحمير تناهقوا ... والله ما رقصوا لأجل الله دف ومزمار ونغمة شادن ... فمتى رأيت عبادة بملاهي؟ ثقل الكتاب عليهم لما رأوا ... تقييده بأوامر ونواهي ¬

(¬1) الكهف الآية (50).

سمعوا له رعدا وبرقا إذ حوى ... زجرا وتخويفا بفعل مناهي ورأوه أعظم قاطع للنفس عن ... شهواتها يا ذبحها المتناهي وأتى السماع موافقا أغراضها ... فلأجل ذاك غدا عظيم الجاه أين المساعد للهوى من قاطع ... أسبابه عند الجهول الساهي؟ إن لم يكن خمر الجسوم فإنه ... خمر العقول مماثل ومضاهي فانظر إلى النشوان عند شرابه ... وانظر إلى النسوان عند ملاهي وانظر إلى تمزيق ذا أثوابه ... من بعد تمزيق الفؤاد اللاهي واحكم فأي الخمرتين أحق بالتحريم والتأثيم عند الله. وقال آخر: برئنا إلى الله من معشر ... بهم مرض من سماع الغنا وكم قلت يا قوم أنتم على ... شفا جرف ما به من بنا شفا جرف تحته هوة ... إلى درك كم به من عنا وتكرار ذا النصح منا لهم ... لنعذر فيهم إلى ربنا فلما استهانوا بتنبيهنا ... رجعنا إلى الله في أمرنا فعشنا على سنة المصطفى ... وماتوا على تنتنا تنتنا ولم يزل أنصار الإسلام وأئمة الهدى تصيح بهؤلاء من أقطار الأرض، وتحذر من سلوك سبيلهم، واقتفاء آثارهم من جميع طوائف الملة. (¬1) - وقال: قال أبو بكر الطرطوشي: وهذه الطائفة مخالفة لجماعة ¬

(¬1) إغاثة اللهفان (1/ 344 - 346).

موقفه من الجهمية:

المسلمين، لأنهم جعلوا الغناء دينا وطاعة، ورأت إعلانه في المساجد والجوامع وسائر البقاع الشريفة، والمشاهد الكريمة. وليس في الأمة من رأى هذا الرأي. قلت: ومن أعظم المنكرات تمكينهم من إقامة هذا الشعار الملعون هو وأهله في المسجد الأقصى عشية عرفة، ويقيمونه أيضا في مسجد الخيف أيام منى، وقد أخرجناهم منه بالضرب والنفي مرارا، ورأيتهم يقيمونه بالمسجد الحرام نفسه والناس في الطواف، فاستدعيت حزب الله وفرقنا شملهم، ورأيتهم يقيمونه بعرفات والناس في الدعاء والتضرع والابتهال والضجيج إلى الله، وهم في هذا السماع الملعون باليراع والدف والغناء. فإقرار هذه الطائفة على ذلك فسق يقدح في عدالة من أقرهم ومنصبه الديني. (¬1) موقفه من الجهمية: لقد كان قلم هذا الإمام سيلا جرارا ينقض به أركان أهل الضلال على اختلاف مشاربهم وتنوع مرامهم، ومن أولئك: الجهمية المقيتة فقد تصدى لها الشيخ رحمه الله مبينا عوار أفكارها البائرة، وزيف أصولها الجائرة، بما ألفه من كتبه التي انتشرت في الآفاق منها: 1 - القصيدة النونية -المسماة 'الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية'- وهي من أعظم القصائد وأطولها في العقيدة السلفية. واعتناء السلفيين بها قليل، بحيث لا يوجد إلى الآن -فيما أعلم- شرح واف بمقاصدها. وغاية ما هنالك شرح ابن عيسى، وشرح الشيخ الهراس. ويقال: ¬

(¬1) إغاثة اللهفان (1/ 353).

إن للآلوسي شرحا عليها. وللشيخ عبد الرحمن السعدي توضيح مختصر بمقاصدها. فعسى أن تمتد بنا الحياة حتى نرى لها شرحا يثلج الصدر. 2 - 'اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية' وهو من أنفع الكتب في بابه قد استوفى المؤلف فيه أدلة العلو من جميع الطبقات، وقد نفعنا الله به في هذه المسيرة المباركة. والكتاب طبع مرارا والحمد لله رب العالمين. 3 - 'الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة' وهو من أنفع الكتب في العقيدة السلفية. ولم تر عيني مثله ولا رأيت أحدا حكى عن أحد أنه ألف مثل هذا الكتاب أو يقاربه. وقد استهله المؤلف بفصول نافعة، ثم بين التأويل وبطلانه وبين التأويل عند السلف. وأتى على بنيان هذا الطاغوت حتى خر من فوقه. ثم طاغوت المجاز، ثم أتى بأمثلة من الصفات التي أولها المؤولون وبين بطلان ذلك. وفي الكتاب بحوث قيمة في اعتماد السلف على العقل والنقل وأن الخلف لا النقل اتبعوا ولا بالعقل اهتدوا. - قال رحمه الله في أعلام الموقعين: وقد شاهدنا نحن وغيرنا كثيرا من مخانيث تلاميذ الجهمية والمبتدعة إذا سمعوا شيئا من آيات الصفات وأحاديث الصفات المنافية لبدعتهم رأيتهم عنها معرضين، كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة، ويقول مخنثهم: سدوا عنا هذا الباب، واقرءوا شيئا غير هذا، وترى قلوبهم مولية وهم يجمحون لثقل معرفة الرب سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته على عقولهم وقلوبهم. (¬1) ¬

(¬1) أعلام الموقعين (1/ 151).

ومن دُرَرِ أقواله رحمه الله: - قال في الصواعق مبينا وسطية أهل السنة في باب الصفات: وهدى الله أصحاب سواء السبيل: للطريقة المثلى فلم يتلوثوا بشيء من أوضار هذه الفرق وأدناسها، وأثبتوا لله حقائق الأسماء والصفات، ونفوا عنه مماثلة المخلوقات فكان مذهبهم مذهبا بين مذهبين، وهدى بين ضلالتين، خرج من بين مذاهب المعطلين والمخيلين والمجهلين والمشبهين، كما خرج اللبن من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين وقالوا: نصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل بل طريقتنا إثبات حقائق الأسماء والصفات، ونفي مشابهة المخلوقات، فلا نعطل ولا نؤول ولا نمثل ولا نجهل. (¬1) - وقال مبينا تضارب أهل التأويل واختلافهم في المسألة الواحدة على أقوال شتى لاختلاف مدارك عقولهم: لا ريب أن الله سبحانه وصف نفسه بصفات وسمى نفسه بأسماء وأخبر عن نفسه بأفعال، فسمى نفسه بالرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، إلى سائر ما ذكر من أسمائه الحسنى، ووصف نفسه بما ذكره من الصفات، كسورة الإخلاص، وأول الحديد، وأول طه وغير ذلك، ووصف نفسه بأنه يحب، ويكره، ويمقت، ويرضى، ويغضب، ويأسف، ويسخط، ويجيء، ويأتي، وينزل إلى سماء الدنيا، وأنه استوى على عرشه، وأن له علما، وحياة، وقدرة، وإرادة، وسمعا، وبصرا، ووجها، وأن له يدين، وأنه فوق عباده، وأن ¬

(¬1) الصواعق المرسلة (2/ 425 - 426).

الملائكة تعرج إليه، وتنزل بالأمر من عنده، وأنه قريب، وأنه مع المحسنين، ومع الصابرين، ومع المتقين، وأن السموات مطويات بيمينه. ووصفه رسوله بأنه يفرح، ويضحك، وأن قلوب العباد بين أصابعه، وغير ذلك مما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، فيقال للمتأول: هل تتأول هذا كله على خلاف ظاهره، وتمنع حمله على حقيقته، أم تقر الجميع على ظاهره، وحقيقته؟ أم تفرق بين بعض ذلك، وبعضه؟. فإن تأولت الجميع وحملته على خلاف حقيقته، كان ذلك عنادا ظاهرا وكفرا صراحا، وجحدا للربوبية، وحينئذ فلا تستقر لك قدم على إثبات ذات الرب تعالى، ولا صفة من صفاته، ولا فعل من أفعاله، فإن أعطيت هذا من نفسك ولم تستهجنه التحقت بإخوانك الدهرية الملاحدة الذين لا يثبتون للعالم خالقا ولا ربا. فإن قلت: بل أثبت أن للعالم صانعا وخالقا ولكن لا أصفه بصفة تقع على خلقه وحيث وصف بما يقع على المخلوق أتأوله. قيل لك فهذه الأسماء الحسنى والصفات التي وصف بها نفسه، هل تدل على معان ثابتة هي حق في نفسها أم لا تدل؟ فإن نفيت دلالتها على معنى ثابت كان ذلك غاية التعطيل. وإن أثبت دلالتها على معان هي حق ثابت قيل لك فما الذي سوغ لك تأويل بعضها دون بعض، وما الفرق بين ما أثبته ونفيته، وسكت عن إثباته ونفيه، من جهة السمع أو العقل. ودلالة النصوص على أن له سمعا، وبصرا، وعلما، وقدرة، وإرادة،

وحياة، وكلاما، كدلالتها على أن له رحمة، ومحبة، وغضبا، ورضى، وفرحا، وضحكا، ووجها، ويدين، فدلالة النصوص على ذلك سواء، فلم نفيت حقيقة رحمته، ومحبته، ورضاه، وغضبه، وفرحه، وضحكه، وأولتها بنفس الإرادة. فإن قلت: لأن إثبات الإرادة، والمشيئة لا يستلزم تشبيها وتجسيما، وإثبات حقائق هذه الصفات يستلزم التشبيه، والتجسيم، فإنها لا تعقل إلا في الأجسام، فإن الرحمة رقة تعتري طبيعة الحيوان، والمحبة ميل النفس لجلب ما ينفعها، والغضب غليان دم القلب طلبا للانتقام، والفرح انبساط دم القلب لورود ما يسره عليه. قيل لك وكذلك الإرادة هي ميل النفس إلى جلب ما ينفعها، ودفع ما يضرها، وكذلك جميع ما أثبته من الصفات إنما هي أعراض قائمة بالأجسام في الشاهد، فإن العلم انطباع صورة المعلوم في نفس العالم، أو صفة عرضية قائمة به، وكذلك السمع، والبصر، والحياة، أعراض قائمة بالموصوف، فكيف لزم التشبيه والتجسيم من إثبات تلك الصفات ولم يلزم من إثبات هذه. فإن قلت: لأني أثبتها على وجه لا يماثل صفاتنا ولا يشابهها، قيل لك: فهلا أثبت الجميع على وجه لا يماثل صفات المخلوقين ولا يشابهها، ولم فهمت من إطلاق هذا التشبيه والتجسيم، وفهمت من إطلاق ذلك التنزيه والتوحيد، وهلا قلت أثبت له وجها ومحبة وغضبا ورضى وضحكا ليس من جنس صفات المخلوقين. فإن قلت هذا لا يعقل، قيل لك: فكيف عقلت سمعا وبصرا وحياة وإرادة ومشيئة ليست من جنس صفات المخلوقين. فإن قلت: أنا أفرق بين ما يتأول وبين ما لا يتأول، بأن ما دل العقل على ثبوته يمتنع تأويله كالعلم والحياة والقدرة والسمع والبصر، وما لا يدل عليه

العقل يجب أو يسوغ تأويله كالوجه واليد والضحك والفرح والغضب والرضى. فإن الفعل المحكم دل على قدرة الفاعل، وإحكامه دل على علمه. والتخصيص دل على الإرادة، فيمتنع مخالفة ما دل عليه صريح العقل. قيل لك أولا، وكذلك الإنعام والإحسان وكشف الضر وتفريج الكربات دل على الرحمة كدلالة التخصيص على الإرادة سواء. والتخصيص بالكرامة، والاصطفاء، والاجتباء، دال على المحبة كدلالة ما ذكرت على الإرادة. والإهانة، والطرد، والإبعاد، والحرمان دال على المقت والبغض، كدلالة ضده على الحب والرضى. والعقوبة، والبطش، والانتقام دال على الغضب كدلالة ضده على الرضى. ويقال ثانيا: هب أن العقل لا يدل على إثبات هذه الصفات التي نفيتها، فإنه لا ينفيها. والسمع دليل مستقل بنفسه، بل الطمأنينة إليه في هذا الباب أعظم من الطمأنينة إلى مجرد العقل، فما الذي يسوغ لك نفي مدلوله. ويقال لك ثالثا: إن كان ظاهر النصوص يقتضي تشبيها أو تجسيما فهو يقتضيه في الجميع، فأول الجميع، وإن كان لا يقتضي ذلك لم يجز تأويل شيء منه، وإن زعمت أن بعضها يقتضيه وبعضها لا يقتضيه، طولبت بالفرق بين الأمرين وعادت المطالبة جذعا. ولما تفطن بعضهم لتعذر الفرق قال: ما دل عليه الإجماع كالصفات السبع لا يتأول وما لم يدل عليه إجماع فإنه يتأول. وهذا كما تراه من أفسد الفروق، فإن مضمونه أن الإجماع أثبت ما يدل على التجسيم والتشبيه،

ولولا ذلك لتأولناه، فقد اعترفوا بانعقاد الإجماع على التشبيه والتجسيم. وهذا قدح في الإجماع، فإنه لا ينعقد على باطل. ثم يقال: إن كان الإجماع قد انعقد على إثبات هذه الصفات -وظاهرها يقتضي التجسيم والتشبيه- بطل نفيكم لذلك، وإن لم ينعقد عليها بطل التفريق به. ثم يقال: خصومكم من المعتزلة لم يجمعوا معكم على إثبات هذه الصفات، فإن قلتم: انعقد الإجماع قبلهم. قيل: صدقتم والله. والذين أجمعوا قبلهم على هذه الصفات، أجمعوا على إثبات سائر الصفات، ولم يخصوها بسبع، بل تخصيصها بسبع خلاف قول السلف، وقول الجهمية والمعتزلة، فالناس كانوا طائفتين سلفية وجهمية، فحدثت الطائفة السبعية واشتقت قولا بين القولين فلا للسلف اتبعوا ولا مع الجهمية بقوا. (¬1) - وقال: وحقيقة الأمر أن كل طائفة تتأول ما يخالف نحلتها ومذهبها، فالعيار على ما يتأول، وما لا يتأول هو المذهب الذي ذهبت إليه، والقواعد التي أصلتها فما وافقها أقروه ولم يتأولوه وما خالفها فإن أمكنهم دفعه وإلا تأولوه. ولهذا لما أصلت الرافضة عداوة الصحابة ردوا كل ما جاء في فضائلهم والثناء عليهم أو تأولوه. ولما أصلت الجهمية أن الله لا يتكلم ولا يكلم أحدا، ولا يرى بالأبصار، ولا هو فوق عرشه مبائن لخلقه، ولا له صفة تقوم به، أولوا كل ما خالف ما أصلوه. (¬2) ¬

(¬1) الصواعق المرسلة (1/ 220 - 226). (¬2) الصواعق المرسلة (1/ 230 - 231).

- وقال في إلزام أهل التعطيل بالتعطيل في المعنى الذي جعلوه تأويلا نظير ما فروا منه: هذا فصل بديع لمن تأمله، يعلم به أن المتأولين لم يستفيدوا بتأويلهم إلا تعطيل حقائق النصوص، والتلاعب بها وانتهاك حرمتها، وأنهم لم يتخلصوا مما ظنوه محذورا، بل هو لازم لهم فيما فروا إليه كلزومه فيما فروا منه، بل قد يقعون فيما هو أعظم محذورا كحال الذين تأولوا نصوص العلو والفوقية والاستواء، فرارا من التحيز والحصر، ثم قالوا هو في كل مكان بذاته، فنزهوه عن استوائه على عرشه، ومباينته لخلقه، وجعلوه في أجواف البيوت، والآبار، والأواني، والأمكنة التي يرغب عن ذكرها، فهؤلاء قدماء الجهمية، فلما علم متأخروهم فساد ذلك، قالوا ليس وراء العالم، ولا فوق العرش، إلا العدم المحض، وليس هناك رب يعبد، ولا إله يصلى له ويسجد، ولا هو أيضا في العالم، فجعلوا نسبته إلى العرش كنسبته إلى أخس مكان، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا ... والمقصود أن المتأول يفر من أمر فيقع في نظيره. مثاله: إذا تأول المحبة، والرحمة، والرضى، والغضب، والمقت، بالإرادة، قيل له يلزمك في الإرادة ما لزمك في هذه الصفات كما تقدم تقريره. (¬1) - وقال في بيان خطئهم في فهمهم من النصوص المعاني الباطلة التي تأولوها لأجلها، فجمعوا بين التشبيه والتعطيل: هذا الفصل من عجيب أمر المتأولين، فإنهم فهموا من النصوص الباطل الذي لا يجوز إرادته، ثم أخرجوها عن معناها الحق المراد منها، فأساءوا الظن ¬

(¬1) الصواعق المرسلة (1/ 234 - 235).

بها وبالمتكلم بها، وعطلوها عن حقائقها التي هي عين كمال الموصوف بها. ونقتصر من ذلك على مثال ذكره بعض الجهمية ونذكر ما عليه فيه. قال الجهمي: ورد في القرآن ذكر الوجه، وذكر الأعين، وذكر العين الواحدة، وذكر الجنب الواحد، وذكر الساق الواحد، وذكر الأيدي، وذكر اليدين، وذكر اليد الواحدة فلو أخذنا بالظاهر لزمنا إثبات شخص له وجه وعلى ذلك الوجه أعين كثيرة، وله جنب واحد عليه أيد كثيرة، وله ساق واحد، ولا يرى في الدنيا شخص، أقبح صورة من هذه الصورة المتخيلة، ولا يظن أن عاقلا يرى أن يصف ربه بهذه الصفة. قال السني المعظم لحرمات كلام الله: قد ادعيت أيها الجهمي أن ظاهر القرآن، الذي هو حجة الله على عباده، والذي هو خير الكلام وأصدقه وأحسنه وأفصحه، وهو الذي هدى الله به عباده، وجعله شفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين، ولم ينزل كتاب من السماء أهدى منه، ولا أحسن ولا أكمل، فانتهكت حرمته وَعَضَهْتَهُ، ونسبته إلى أقبح النقص والعيب، فادعيت أن ظاهره ومدلوله إثبات شخص له وجه وفيه أعين كثيرة، وله جنب واحد، وعليه أيد كثيرة، وله ساق واحد. فادعيت أن ظاهر ما وصف الله به نفسه في كتابه يدل على هذه الصفة الشنيعة المستقبحة، فيكون سبحانه قد وصف نفسه بأشنع الصفات في ظاهر كلامه، فأي طعن في القرآن أعظم من طعن من يجعل هذا ظاهره ومدلوله، وهل هذا إلا من جنس قول الذين جعلوا القرآن عضين، فعضهوه بالباطل وقالوا هو سحر أو شعر، أو كذب مفترى، بل هذا أقبح من قولهم من وجه: فإن أولئك أقروا بعظمة

الكلام وشرف قدره وعلوه وجلالته، حتى قال فيه رأس الكفر "والله إن لكلامه لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لجنى، وإنه ليعلو وما يعلى، وما يشبه كلام البشر". ولم يدع أعداء الرسول، الذين جاهروه بالمحاربة، والعداوة، أن ظاهر كلامه أبطل الباطل، وأبين المحال، وهو وصف الخالق سبحانه بأقبح الهيئات والصور، ولو كان ذلك ظاهر القرآن، لكان ذلك من أقرب الطرق لهم إلى الطعن فيه، وقالوا: كيف يدعونا إلى عبادة رب له وجه عليه عيون كثيرة، وجنب واحد، وساق واحد، وأيد كثيرة، فكيف كانوا يسكتون له على ذلك، وهم يوردون عليه ما هو أقل من هذا بكثير. ثم استطرد في الرد عليهم من أحد عشر وجها (¬1). فليرجع إليها من شاء الاستفادة. - وقال رحمه الله في القصيدة النونية (¬2): فصل في بيان أن المصيبة التي حلت بأهل التعطيل والكفران من جهة الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان: يا قوم أصل بلائكم أسماء لم ... ينزل بها الرحمن من سلطان هي عكستكم غاية التعكيس واقتـ ... ـلعت دياركم من الأركان فتهدمت تلك القصور وأوحشت ... منكم ربوع العلم والإيمان والذنب ذنبكم قبلتم لفظها ... من غير تفصيل ولا فرقان ¬

(¬1) الصواعق المرسلة (1/ 238 - 241). (¬2) شرح القصيدة النونية (2/ 165 - 171) (هراس).

وهي التي اشتملت على أمرين من ... حق وأمر واضح البطلان سميتم عرش المهيمن حيزا ... والاستواء تحيزا بمكان وجعلتم فوق السموات العلى ... جهة وسقتم نفي ذا بوزان وجعلتم الإثبات تشبيها وتجـ ... ـسيما وهذا غاية البهتان وجعلتم الموصوف جسما قابل الأ ... عراض والأكوان والألوان وجعلتم أوصافه عرضا وهـ ... ـذا كله جسر إلى النكران وكذاك سميتم حلول حوادث ... أفعاله تلقيب ذي عدوان إذ تنفر الأسماع من ذا اللفظ نفـ ... ـرتها من التشبيه والنقصان فكسوتم أفعاله لفظ الحوا ... دث ثم قلتم قول ذي بطلان ليست تقوم به الحوادث والمرا ... د النفي للأفعال للديان فإذا انتفت أفعاله وصفات ... وكلامه وعلو ذي السلطان فبأي شيء كان ربا عندكم ... يا فرقة التحقيق والعرفان والقصد نفي فعاله عنه بذا التـ ... ـلقيب فعل الشاعر الفتان وكذاك حكمة ربنا سميتم ... عللا وأغراضا وذان اسمان لا يشعران بل ضدها ... فيهون حينئذ على الأذهان نفي الصفات وحكمة الخلاق والأ ... فعال إنكارا لهذا الشان وكذا استواء الرب فوق العر ... ش قلتم أنه التركيب ذو بطلان وكذاك وجه الرب جل جلاله ... وكذاك لفظ يد ولفظ يدان سميتم ذا كله الأعضاء بل ... سميتموه جوارح الإنسان وسطوتم بالنفي حينئذ عليـ ... ـه كنفينا للعيب مع نقصان

قلتم ننزهه عن الأعراض والأ ... غراض والأبعاض والجثمان وعن الحوادث أن تحل بذاته ... سبحانه من طارق الحدثان ... والقصد نفي صفاته وفعاله ... والاستواء وحكمة الرحمن والناس أكثرهم بسجن اللفظ مسـ ... ـجونون خوف معرة السبحان والكل لا الفرد يقبل مذهبا ... في قالب ويرده في ثان والقصد أن الذات والأوصاف والـ ... أفعال لا تنفى بذا الهذيان سموه ما شئتم فليس الشأن في الـ ... أسماء بل في مقصد ومعان كم ذا توسلتم بلفظ الجسم ... والتجسيم للتعطيل والكفران وجعلتموه الترس إن قلنا لكم ... الله فوق العرش والأكوان قلتم لنا جسم على جسم تعا ... لى الله عن جسم وعن جثمان وكذاك إن قلنا القرآن كلامه ... منه بدا لم يبد من إنسان كلا ولا ملك ولا لوح ولـ ... ـكن قاله الرحمن قول بيان قلتم لنا أن الكلام قيامه ... بالجسم أيضا وهو ذا حدثان عرض يقوم بغير جسم لم يكن ... هذا بمعقول لذي الأذهان وكذاك حين نقول ينزل ربنا ... في ثلث ليل وآخر أو ثان قلتم لنا أن النزول لغير أجـ ... ـسام محال ليس ذا إمكان وكذاك إن قلنا يرى سبحانه ... قلتم أجسم كي يرى بعيان أم كان ذا جهة تعالى ربنا ... عن ذا فليس يراه من إنسان ما إذا قلنا له وجه كما ... في النص أو قلنا كذاك يدان وكذاك إن قلنا كما في النص أ ... ن القلب بين أصابع الرحمن

موقفه من الخوارج:

وكذاك إن قلنا الأصابع فوقها ... كل العوالم وهي ذو رجفان وكذاك إن قلنا يداه لأرضه ... وسمائه في الحشر قابضتان وكذاك إن قلنا سيكشف ساقه ... فيخر ذاك الجمع للأذقان وكذاك إن قلنا يجيء لفصله ... بين العباد بعدل ذي سلطان قامت قيامتكم كذاك قيامة الآ ... تي بهذا القول في الرحمن والله لو قلنا الذي قال الصحا ... بة والألى من بعدهم بلسان لرجمتمونا بالحجارة إن قدر ... تم بعد رجم الشتم والعدوان والله قد كفرتم من قال بعـ ... ـض مقالهم يا أمة العدوان وجعلتم الجسم الذي قدرتم ... بطلانه طاغوت ذا البطلان وله رحمه الله غيرها من الأقوال السنية في نصر الطريقة السلفية يضيق المقام بذكرها. موقفه من الخوارج: - قال في تعليقه على سنن أبي داود: والذي صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذمهم من طوائف أهل البدع: هم الخوارج. فإنه قد ثبت فيهم الحديث من وجوه كلها صحاح. لأن مقالتهم حدثت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكلمه رئيسهم (¬1). (¬2) وقال: ومن اعترض على الكتاب والسنة بنوع تأويل من قياس أو ذوق أو عقل أو حال ففيه شبه من الخوارج أتباع ذي الخويصرة. (¬3) ¬

(¬1) يشير إلى حديث ذي الخويصرة، وقد تقدم في مواقف الآجري سنة (360هـ). (¬2) مختصر سنن أبي داود (7/ 61). (¬3) الصواعق المرسلة (1/ 308).

- وقال: فمن الكبائر تكفير من لم يكفره الله ورسوله، وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمر بقتال الخوارج، وأخبر أنهم شر قتلى تحت أديم السماء، وأنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، ودينهم تكفير المسلمين بالذنوب، فكيف من كفرهم بالسنة ومخالفة آراء الرجال لها وتحكيمها والتحاكم إليها. (¬1) - وقال: والصحيح: أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكُفْرَيْنِ، الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم. فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة، وعدل عنه عصيانا، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا كفر أصغر. وإن اعتقد أنه غير واجب، وأنه مخير فيه، مع تيقنه أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر. وإن جهله وأخطأه: فهذا مخطىء، له حكم المخطئين. (¬2) - وقال: وها هنا أصل آخر: وهو أن الرجل قد يجتمع فيه كفر وإيمان، وشرك وتوحيد، وتقوى وفجور، ونفاق وإيمان، هذا من أعظم أصول أهل السنة، وخالفهم فيه غيرهم من أهل البدع كالخوارج والمعتزلة والقدرية، ومسألة خروج أهل الكبائر من النار وتخليدهم فيها مبنية على هذا الأصل، وقد دل عليه القرآن والسنة والفطرة وإجماع الصحابة. قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} (¬3) فأثبت لهم إيمانا به سبحانه مع الشرك. وقال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ ¬

(¬1) إعلام الموقعين (4/ 405). (¬2) مدارج السالكين (1/ 336 - 337). (¬3) يوسف الآية (106).

موقفه من المرجئة:

تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬1) فأثبت لهم إسلاما وطاعة لله ورسوله مع نفي الإيمان عنهم، وهو الإيمان المطلق الذي يستحق اسمه بمطلقه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬2). وهؤلاء ليسوا منافقين في أصح القولين، بل هم مسلمون بما معهم من طاعة الله ورسوله، وليسوا مؤمنين، وإن كان معهم جزء من الإيمان، أخرجهم من الكفر. (¬3) موقفه من المرجئة: - قال في حاشيته على سنن أبي داود تعليقا على قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزني الزاني ... » (¬4) الحديث: وفي لفظ في الصحيحين «ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع إليه الناس فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن -وزاد مسلم- ولا يغل حين يغل وهو مؤمن، فإياكم إياكم». وزاد أبو بكر البزار فيه في المسند «ينزع الإيمان من قلبه. فإن تاب تاب الله عليه». وأخرج البخاري في صحيحه (¬5) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ¬

(¬1) الحجرات الآية (14). (¬2) الحجرات الآية (15). (¬3) كتاب الصلاة وحكم تاركها (ص.60). (¬4) تقدم تخريجه ضمن مواقف الحسن البصري سنة (110هـ). (¬5) البخاري (12/ 136/6809) والنسائي في الكبرى (4/ 268/7135).

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزني العبد حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب حين يشرب وهو مؤمن، ولا يقتل حين يقتل وهو مؤمن» قال عكرمة: "قلت لابن عباس: كيف ينزع الإيمان منه؟ قال: هكذا -وشبك بين أصابعه، ثم أخرجها- فإن تاب عاد إليه هكذا -وشبك بين أصابعه". وروى ابن صخر في الفوائد من حديث محمد بن خالد المخزومي عن سفيان الثوري عن زبيد اليامي عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اليقين الإيمان كله» وذكره البخاري في صحيحه موقوفاً على ابن مسعود. (¬1) وفي صحيح مسلم عن أبي قتادة «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فيهم. فذكر الجهاد في سبيل الله، والإيمان بالله أفضل الأعمال» الحديث (¬2). وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أفضل؟ قال: «الإيمان بالله». قال: ثم ماذا؟ قال: «الجهاد في سبيل الله». قال: ثم ماذا؟ قال: «حج مبرور». (¬3) وفي لفظ: «إيمان بالله ورسوله» وترجم عليه البخاري: (باب من قال: إن الإيمان هو العمل. لقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ ¬

(¬1) تقدم ضمن مواقفه سنة (32هـ). (¬2) أخرجه: أحمد (5/ 297) ومسلم (3/ 1501/1885) والترمذي (4/ 184/1712) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (6/ 341/3156). (¬3) أخرجه: أحمد (2/ 264) والبخاري (1/ 105/26) ومسلم (1/ 88/83) والنسائي (8/ 469/5000).

تَعْمَلُونَ} (¬1) وقال عدة من أهل العلم في قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬2): عن قول لا إله إلا الله). وفي الصحيحين عن أبي ذر الغفاري قال: «قلت: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله والجهاد في سبيله» الحديث. (¬3) وروى البزار في مسنده من حديث عمار بن ياسر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاث من جمعهن، فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار». (¬4) وذكره البخاري في صحيحه عن عائشة من قولها. وقال البخاري قال معاذ: (اجلس بنا نؤمن ساعة) (¬5) وقال البخاري في الصحيح: (باب سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان والإسلام والإحسان، وعلم الساعة وبيان النبي - صلى الله عليه وسلم - له، ثم قال «جاء جبريل يعلمكم دينكم» فجعل ذلك كله ديناً). (¬6) ¬

(¬1) الزخرف الآية (72). (¬2) الحجر الآيتان (92 و93). (¬3) أخرجه: أحمد (5/ 163) والبخاري (5/ 185/2518) ومسلم (1/ 89/84) والنسائي في الكبرى (3/ 172/4894) وابن ماجه (2/ 843/2523). (¬4) تقدم تخريجه موقوفا ضمن مواقفه سنة (37هـ). وأما المرفوع فقال الحافظ في الفتح (1/ 112): "استغربه البزار، وقال أبو زرعة: هو خطأ. قلت: وهو معلول من حيث صناعة الإسناد، لأن عبد الرزاق تغير بآخرة، وسماع هؤلاء منه في حال تغيره، إلا أن مثله لا يقال بالرأي فهو في حكم المرفوع. وقد رويناه مرفوعا من وجه آخر عن عمار أخرجه الطبراني في الكبير وفي إسناده ضعف، وله شواهد أخرى بينتها في تعليق التعليق". (¬5) تقدم ضمن مواقفه سنة (18هـ). (¬6) كتاب الإيمان (1/ 153).

وما بين النبي - صلى الله عليه وسلم - لوفد عبد القيس من الإيمان (¬1) وقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (¬2) وفي حديث الشفاعة المتفق على صحته: «أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان» وفي لفظ: «مثقال دينار من إيمان» وفي لفظ: «مثقال شعيرة من إيمان» وفي لفظ: «مثقال خردلة من إيمان» وفي لفظ: «انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان» وفي لفظ: «إذا كان يوم القيامة شفعت، فقلت: يا رب، أدخل الجنة من كان في قلبه خردلة من إيمان، فيدخلون. ثم أقول: أدخل الجنة من كان في قلبه أدنى شيء. قال أنس: كأني أنظر إلى أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». وفي لفظ عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة. ثم قال: يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن برة. ثم يخرج من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة». وترجم البخاري على هذا الحديث: (باب زيادة الإيمان ونقصانه وقوله تعالى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} (¬3) وقال: {ويزداد الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا} (¬4) وقال: ¬

(¬1) تقدم تخريجه ضمن مواقف ابن الصلاح سنة (643هـ). (¬2) آل عمران الآية (85). (¬3) الكهف الآية (13). (¬4) المدثر الآية (31).

{اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (¬1) فإذا ترك شيئاً من الكمال فهو ناقص). وكل هذه الألفاظ التي ذكرناها في الصحيحين، أو أحدهما. (¬2) والمراد بالخير في حديث أنس الإيمان، فإنه هو الذي يخرج به من النار. وكل هذه النصوص صحيحة صريحة لا تحتمل التأويل في أن نفس الإيمان القائم بالقلب يقبل الزيادة والنقصان، وبعضهم أرجح من بعض. وقال البخاري في صحيحه: قال ابن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم من أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل". (¬3) وقال البخاري أيضاً: (باب الصلاة من الإيمان وقوله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (¬4) يعني صلاتكم عند البيت) ثم ذكر حديث تحويل القبلة. (¬5) وأقدم من روي عنه زيادة الإيمان ونقصانه من الصحابة: عمير بن ¬

(¬1) المائدة الآية (3). (¬2) أحمد (3/ 116) والبخاري (1/ 138 - 139/ 44) وله أطراف، ومسلم (1/ 182/193 [325]) والترمذي (4/ 613/2593) وابن ماجه (2/ 1442 - 1443/ 4312). (¬3) تقدم تخريجه ضمن مواقفه سنة (117هـ). (¬4) البقرة الآية (143). (¬5) أخرجه من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه: أحمد (4/ 304) والبخاري (1/ 128/40) ومسلم (1/ 374/525) والترمذي (2/ 169 - 170/ 340) وقال: "حديث البراء حديث حسن صحيح". والنسائي (1/ 262 - 263/ 487و488) وابن ماجه (1/ 322 - 323/ 1010).

حبيب الخطمي. (¬1) - وقال تمثيلاً لقاعدة الأمر المطلق ومطلق الأمر: إن من بعض أمثلة هذه القاعدة: الإيمان المطلق ومطلق الإيمان، فالإيمان المطلق لا يطلق إلا على الكامل الكمال المأمور به، ومطلق الإيمان يطلق على الناقص والكامل، ولهذا نفى النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان المطلق عن الزاني وشارب الخمر والسارق، ولم ينف عنه مطلق الإيمان لئلا يدخل في قوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)} (¬2) ولا في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} (¬3) ولا في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (¬4) إلى آخر الآيات ويدخل في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (¬5) وفي قوله: {وَإِنْ طائفتان مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} (¬6) وفي قوله: «لا يقتل مؤمن بكافر» (¬7) وأمثال ذلك. فلهذا كان قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} (¬8) نفياً للإيمان المطلق ¬

(¬1) مختصر سنن أبي داود (7/ 53 - 56). (¬2) آل عمران الآية (67). (¬3) المؤمنون الآية (1). (¬4) الأنفال الآية (2). (¬5) النساء الآية (91). (¬6) الحجرات الآية (9). (¬7) أخرجه: أحمد (1/ 79) والبخاري (1/ 271/111) والترمذي (4/ 17/1412) وقال: "حديث حسن صحيح" والنسائي (8/ 392/4758) وابن ماجه (2/ 887/2658) من حديث علي رضي الله عنه. (¬8) الحجرات الآية (14).

لا لمطلق الإيمان لوجوه منها: أنه أمرهم أو أذن لهم أن يقولوا أسلمنا والمنافق لا يقال له ذلك. ومنها أنها قال: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ} ولم يقل: قال المنافقون، ومنها، أن هؤلاء الجفاة الذين نادوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وراء الحجرات ورفعوا أصواتهم فوق صوته غلظة منهم وجفاء، لا نفاقا وكفرا. ومنها أنه قال: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (¬1) ولم ينف دخول الإسلام في قلوبهم، ولو كانوا منافقين لنفى عنهم الإسلام كما نفى الإيمان. ومنها أن الله تعالى قال: {وإن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} (¬2) أي لا ينقصكم والمنافق لا طاعة له. ومنها أنه قال: {يمنون عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ} (¬3) فأثبت لهم إسلاما ونهاهم أن يمنوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو لم يكن إسلاما صحيحا لقال لم تسلموا بل أنتم كاذبون كما كذبهم في قولهم: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} (¬4) لما لم تطابق شهادتهم اعتقادهم. ومنها أنه قال: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ} (¬5) ولو كانوا منافقين لما من عليهم. ومنها أنه قال: {أَنْ هَدَاكُمْ ¬

(¬1) الحجرات الآية (14) .. (¬2) الحجرات الآية (14). (¬3) الحجرات الآية (17). (¬4) المنافقون الآية (1). (¬5) الحجرات الآية (17).

موقفه من القدرية:

لِلْإِيمَانِ} ولا ينافي هذا قوله: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} فإنه نفى الإيمان المطلق ومن عليهم بهدايتهم إلى الإسلام الذي هو متضمن لمطلق الإيمان. ومنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قسم القسم قال له سعد أعطيت فلانا وتركت فلانا وهو مؤمن، فقال أو مسلم ثلاث مرات (¬1) وأثبت له الإسلام دون الإيمان. وفي الآية أسرار بديعة ليس هذا موضعها. والمقصود الفرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان. فالإيمان المطلق يمنع دخول النار، ومطلق الإيمان يمنع الخلود فيها. (¬2) موقفه من القدرية: لقد أبلى رحمه الله البلاء الحسن في الدفاع عن المنهج السلفي والرد على مناهج أهل البدع والزيغ والضلال، فكانت القدرية الخاسئة من جملة أهل الأهواء الذين رد عليهم وبين رحمه الله زيف أقوالهم وشبههم، فدحضها رحمه الله كلها وذلك في كتابه 'شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل'. - قال في مقدمته: ولما كانت معرفة الصواب في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل واقعة في مرتبة الحاجة، بل في مرتبة الضرورة، اجتهدت في جمع هذا الكتاب وتهذيبه وتحريره وتقريبه، فجاء فردا في معناه بديعا في مغزاه، وسميته: 'شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل' ¬

(¬1) أحمد (1/ 176) والبخاري (1/ 108/27) ومسلم (1/ 132/150) وأبو داود (5/ 62 - 63/ 4685) والنسائي (8/ 477 - 478/ 5007) عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه. (¬2) بدائع الفوائد (4/ 16 - 17).

وجعلته أبوابا. (¬1) - قال رحمه الله: أما بعد، فإن أهم ما يجب معرفته على المكلف النبيل، فضلا عن الفاضل الجليل، ما ورد في القضاء والقدر والحكمة والتعليل، فهو من أسنى المقاصد، والإيمان به قطب رحى التوحيد ونظامه، ومبدأ الدين المبين وختامه، فهو أحد أركان الإيمان، وقاعدة أساس الإحسان، التي يرجع إليها، ويدور في جميع تصاريفه عليها، فالعدل قوام الملك، والحكمة مظهر الحمد، والتوحيد متضمن لنهاية الحكمة وكمال النعمة. ولا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، فبالقدر والحكمة ظهر خلقه وشرعه المبين ألا له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين. وقد سلك جماهير العقلاء في هذا الباب في كل واد، وأخذوا في كل طريق، وتولجوا كل مضيق، وركبوا كل صعب وذلول، وقصدوا الوصول إلى معرفته، والوقوف على حقيقته، وتكلمت فيه الأمم قديما وحديثا، وساروا للوصول إلى مغزاه سيرا حثيثا، وخاضت فيه الفرق على تباينها واختلافها، وصنف فيه المصنفون الكتب على تنوع أصنافها. فلا أحد إلا وهو يحدث نفسه بهذا الشأن، ويطلب الوصول فيه إلى حقيقة العرفان، فتراه إما مترددا فيه مع نفسه، أو مناظرا لبني جنسه، وكل قد اختار لنفسه قولا لا يعتقد الصواب في سواه، ولا يرتضي إلا إياه. وكلهم -إلا من تمسك بالوحي- عن طريق الصواب مردود، وباب الهدى في وجهه مسدود، تحسى علما غير طائل، وارتوى من ماء آجن، قد طاف على أبواب الأفكار، ¬

(¬1) شفاء العليل (1/ 22).

ففاز بأخس الآراء والمطالب، فرح بما عنده من العلم الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، وقدم آراء من أحسن به الظن على الوحي المنزل المشروع، والنص المرفوع، حيران يأتم بكل حيران، يحسب كل سراب ماء، فهو طول عمره ظمآن، ينادى إلى الصواب من مكان بعيد، أقبل إلى الهدى فلا يستجيب إلى يوم الوعيد، قد فرح بما عنده من الضلال وقنع بأنواع الباطل وأصناف المحال، منعه الكفر الذي اعتقده هدى، وما هو ببالغه عن الهداة المهتدين، ولسان حاله أو قاله يقول: {أَهَؤُلَاءِ مَن اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} (¬1). ولما كان الكلام في هذا الباب نفيا وإثباتا موقوفا على الخبر عن أسماء الله وصفاته وأفعاله وخلقه وأمره، فأسعد الناس بالصواب فيه من تلقى ذلك من مشكاة الوحي المبين، ورغب بعقله وفطرته وإيمانه عن آراء المتهوكين، وتشكيكات المشككين، وتكلفات المتنطعين، واستمطر ديم الهداية من كلمات أعلم الخلق برب العالمين، فإن كلماته الجوامع النوافع في هذا الباب وفي غيره كفت وشفت وجمعت وفرقت وأوضحت وبينت وحلت محل التفسير والبيان لما تضمنه القرآن. ثم تلاه أصحابه من بعده على نهجه المستقيم، وطريقه القويم، فجاءت كلماتهم كافية شافية مختصرة نافعة، لقرب العهد ومباشرة التلقي من تلك المشكاة التي هي مظهر كل نور، ومنبع كل خير، وأساس كل هدى. ¬

(¬1) الأنعام الآية (53).

ثم سلك آثارهم التابعون لهم بإحسان، فاقتفوا طريقهم، وركبوا منهاجهم، واهتدوا بهداهم، ودعوا إلى ما دعوا إليه، ومضوا على ما كانوا عليه. ثم نبغ في عهدهم وأواخر عهد الصحابة القدرية مجوس هذه الأمة، الذين يقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف، فمن شاء هدى نفسه، ومن شاء أضلها، ومن شاء بخسها حظها وأهملها، ومن شاء وفقها للخير وكملها، كل ذلك مردود إلى مشيئة العبد ومقتطع من مشيئة العزيز الحميد. فأثبتوا في ملكه ما لا يشاء، وفي مشيئته ما لا يكون. ثم جاء خلف هذا السلف فقرروا ما أسسه أولئك من نفي القدر وسموه عدلا، وزادوا عليه نفي صفاته سبحانه وحقائق أسمائه وسموه توحيدا. فالعدل عندهم إخراج أفعال الملائكة والإنس والجن وحركاتهم وأقوالهم وإراداتهم من قدرته ومشيئته وخلقه. والتوحيد عند متأخريهم تعطيله عن صفات كماله ونعوت جلاله، وأنه لا سمع له ولا بصر ولا قدرة ولا حياة ولا إرادة تقوم به ولا كلام، ما تكلم ولا يتكلم، ولا أمر ولا يأمر، ولا قال ولا يقول، إن ذلك إلا أصوات وحروف مخلوقة منه في الهواء أو في محل مخلوق، ولا استوى على عرشه فوق سماواته، ولا ترفع إليه الأيدي، ولا تعرج الملائكة والروح إليه، ولا ينزل الأمر والوحي من عنده، وليس فوق العرش إله يعبد ولا رب يصلى له ويسجد، ما فوقه إلا العدم المحض والنفي الصرف، فهذا توحيدهم وذاك عدلهم.

ثم نبغت طائفة أخرى من القدرية فنفت فعل العبد وقدرته واختياره، وزعمت أن حركته الاختيارية -ولا اختيار- كحركة الأشجار عند هبوب الرياح وكحركات الأمواج، وأنه على الطاعة والمعصية مجبور، وأنه غير ميسر لما خلق له، بل هو عليه مقسور ومجبور. ثم تلاهم أتباعهم على آثارهم مقتدين، ولمنهاجهم مقتفين، فقرروا هذا المذهب وانتموا إليه وحققوه وزادوا عليه أن تكاليف الرب تعالى لعباده كلها تكليف ما لا يطاق، وأنها في الحقيقة كتكليف المقعد أن يرقى إلى السبع الطباق، فالتكليف بالإيمان وشرائعه تكليف بما ليس من فعل العبد ولا هو له بمقدور، وإنما هو تكليف بفعل من هو متفرد بالخلق وهو على كل شيء قدير، فكلف عباده بأفعاله وليسوا عليها قادرين، ثم عاقبهم عليها وليسوا في الحقيقة فاعلين. ثم تلاهم على آثارهم محققوهم من العباد، فقالوا: ليس في الكون معصية ألبتة، إذ الفاعل مطيع للإرادة موافق للمراد. كما قيل: أصبحت منفعلا لما يختاره ... مني ففعلي كله طاعات ولاموا بعض هؤلاء على فعله فقال: إن كنت عصيت أمره فقد أطعت إرادته، ومطيع الإرادة غير ملوم، وهو في الحقيقة غير مذموم. وقرر محققوهم من المتكلمين هذا المذهب بأن الإرادة والمشيئة والمحبة في حق الرب سبحانه هي واحد، فمحبته هي نفس مشيئته، وكل ما في الكون فقد أراده وشاءه، وكل ما شاءه فقد أحبه. وأخبرني شيخ الإسلام قدس الله روحه أنه لام بعض هذه الطائفة على

محبة ما يبغضه الله ورسوله فقال له الملوم: المحبة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب، وجميع ما في الكون مراده، فأي شيء أبغض منه؟ قال الشيخ: فقلت له: إذا كان قد سخط على أقوام ولعنهم وغضب عليهم وذمهم فواليتهم أنت وأحببتهم وأحببت أفعالهم ورضيتها تكون مواليا له أو معاديا؟ قال: فبهت الجبري ولم ينطق بكلمة. وزعمت هذه الفرقة أنهم بذلك للسنة ناصرون، وللقدر مثبتون، ولأقوال أهل البدع مبطلون. هذا وقد طووا بساط التكليف، وطففوا في الميزان غاية التطفيف، وحملوا ذنوبهم على الأقدار، وبرأوا أنفسهم في الحقيقة من فعل الذنوب والأوزار، وقالوا إنها في الحقيقة فعل الخلاق العليم، وإذا سمع المنزه لربه هذا قال: سبحانك هذا بهتان عظيم، فالشر ليس إليك والخير كله في يديك. لقد ظنت هذه الطائفة بالله أسوأ الظن، ونسبته إلى أقبح الظلم. وقالوا إن أوامر الرب ونواهيه كتكليف العبد أن يرقى فوق السموات، وكتكليف الميت إحياء الأموات، والله يعذب عباده أشد العذاب على فعل ما لا يقدرون على تركه وعلى ترك ما لا يقدرون على فعله، بل يعاقبهم على نفس فعله الذي هو لهم غير مقدور، وليس أحد ميسر له بل هو عليه مقهور ونرى العازف منهم ينشد مترنما، ومن ربه متشكيا ومتظلما: ألقاه في اليم مكتوفا وقال له ... إياك إياك أن تبتل بالماء وليس عند القوم في نفس الأمر سبب، ولا غاية، ولا حكمة، ولا قوة في الأجسام، ولا طبيعة ولا غريزة، فليس في الماء قوة التبريد، ولا في النار

قوة التسخين، ولا في الأغذية قوة الغذاء، ولا في الأدوية قوة الدواء، ولا في العين قوة الإبصار، ولا في الأذن قوة السماع، ولا في الأنف قوة الشم، ولا في الحيوان قوة فاعلة ولا جاذبة، ولا ممسكة ولا دافعة، والرب تعالى لم يفعل شيئا بشيء ولا شيئا لشيء، فليس في أفعاله باء تسبيب ولا لام تعليل، وما ورد من ذلك فمحمول على باء المصاحبة ولام العاقبة. (¬1) - وقال في معرض ذكره لحديث احتجاج آدم وموسى (¬2): وقد رد هذا الحديث من لم يفهمه من المعتزلة كأبي علي الجبائي ومن وافقه على ذلك، وقال: لو صح لبطلت نبوات الأنبياء، فإن القدر إذا كان حجة للعاصي بطل الأمر والنهي، فإن العاصي بترك الأمر أو فعل النهي إذ صحت له الحجة بالقدر السابق ارتفع اللوم عنه. وهذا من ضلال فريق الاعتزال وجهلهم بالله ورسوله وسنته، فإن هذا حديث صحيح متفق على صحته، لم تزل الأمة تتلقاه بالقبول من عهد نبيها قرنا بعد قرن وتقابله بالتصديق والتسليم، ورواه أهل الحديث في كتبهم وشهدوا به على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قاله، وحكموا بصحته، فما لأجهل الناس بالسنة ومن عرف بعداوتها وعداوة حملتها والشهادة عليهم بأنهم مجسمة ومشبهة حشوية وهذا الشأن. (¬3) - وقال: وتأمل قوله سبحانه بعد حكايته عن أعدائه واحتجاجهم ¬

(¬1) شفاء العليل (1/ 17 - 21). (¬2) تقدم في مواقف ابن قتيبة سنة (276هـ). (¬3) شفاء العليل (1/ 46).

بمشيئته وقدره على إبطال ما أمرهم به رسوله، وأنه لولا محبته ورضاه به لما شاءه منهم: {قل فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (¬1). فأخبر سبحانه أن الحجة له عليهم برسله وكتبه، وبيان ما ينفعهم ويضرهم وتمكنهم من الإيمان بمعرفة أوامره ونواهيه، وأعطاهم الأسماع والأبصار والعقول فثبتت حجته البالغة عليهم بذلك، واضمحلت حجتهم الباطلة عليه بمشيئته وقضائه، ثم قرر تمام الحجة بقوله: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} (¬2) فإن هذا يتضمن أنه المتفرد بالربوبية والملك والتصرف في خلقه، وأنه لا رب غيره ولا إله سواه، فكيف يعبدون معه إلها غيره؟. فإثبات القدر والمشيئة من تمام حجته البالغة عليهم، وأن الأمر كله لله، وأن كل شيء ما خلا الله باطل، فالقضاء والقدر والمشيئة النافذة من أعظم أدلة التوحيد، فجعلها الظالمون الجاحدون حجة لهم على الشرك. فكانت حجة الله البالغة وحجتهم الداحضة، وبالله التوفيق. إذا عرفت هذا، فموسى أعرف بالله وأسمائه وصفاته من أن يلوم على ذنب قد تاب منه فاعله فاجتباه ربه بعده وهداه واصطفاه، وآدم أعرف بربه من أن يحتج بقضائه وقدره على معصيته، بل إنما لام موسى آدم على المعصية التي نالت الذرية بخروجهم من الجنة ونزولهم إلى دار الابتلاء والمحنة بسبب خطيئة أبيهم، فذكر الخطيئة تنبيها على سبب المعصية والمحنة التي نالت ¬

(¬1) الأنعام الآية (149). (¬2) الأنعام الآية (149).

الذرية، ولهذا قال له: (أخرجتنا ونفسك من الجنة) وفي لفظ (خيبتنا). فاحتج آدم بالقدر على المصيبة، وقال: إن هذه المصيبة التي نالت الذرية بسبب خطيئتي كانت مكتوبة بقدره قبل خلقي، والقدر يحتج به في المصائب دون المعائب، أي أتلومني على مصيبة قدرت علي وعليكم قبل خلقي بكذا وكذا سنة. إلى أن قال: ونكتة المسألة أن اللوم إذا ارتفع صح الاحتجاج بالقدر، وإذا كان اللوم واقعا فالاحتجاج بالقدر باطل. (¬1) - وقال: والفرقة الثانية غلاة القدرية الذين اتفق السلف على كفرهم، وحكموا بقتلهم، الذين يقولون: لا يعلم أعمال العباد حتى يعملوها، ولم يعلمها قبل ذلك ولا كتبها ولا قدرها، فضلا عن أن يكون شاءها وكونها. وقول هؤلاء معلوم البطلان بالضرورة من أديان جميع المرسلين، وكتب الله المنزلة. وكلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - مملوء بتكذيبهم وإبطال قولهم، وإثبات عموم علمه الذي لا يشاركه فيه خلقه، ولا يحيطون بشيء منه إلا بما شاء أن يطلعهم عليه ويعلمهم به. وما أخفاه عنهم ولم يطلعهم عليه ولا نسبة لما عرفوه إليه إلا دون نسبة قطرة واحدة إلى البحار كلها، كما قال الخضر لموسى، وهما أعلم أهل الأرض حينئذ: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من البحر. (¬2) ¬

(¬1) شفاء العليل (1/ 55 - 57). (¬2) جزء من حديث طويل لابن عباس أخرجه: أحمد (5/ 117 - 118) والبخاري (8/ 522 - 523/ 4725) ومسلم (4/ 1847 - 1850/ 2380) والترمذي (5/ 289 - 292/ 3149).

ويكفي أن ما يتكلم به من علمه لو قدر أن البحر يمده من بعده سبعة أبحر مداد وأشجار الأرض كلها من أول الدهر إلى آخره أقلام يكتب به ما يتكلم به مما يعلمه لنفدت البحار وفنيت الأقلام ولم تنفد كلماته. فنسبة علوم الخلائق إلى علمه سبحانه كنسبة قدرتهم إلى قدرته، وغناهم إلى غناه، وحكمتهم إلى حكمته. وإذا كان أعلم الخلق على الإطلاق يقول: «لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك». (¬1) ويقول في دعاء الاستخارة: «فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب» (¬2). ويقول سبحانه للملائكة: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} (¬3). ويقول سبحانه لأعلم الأمم وهم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} (¬4). ويقول لأهل الكتاب: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (¬5). وتقول رسله ¬

(¬1) أحمد (6/ 58،201) ومسلم (1/ 352/486) وأبو داود (1/ 547/879) والترمذي (5/ 524/3566) والنسائي (2/ 558/1099) وابن ماجه (2/ 1262 - 1263/ 3841) كلهم أخرجه من حديث عائشة. (¬2) أخرجه من حديث جابر بن عبد الله: أحمد (3/ 344) والبخاري (11/ 218 - 219/ 6382) وأبو داود (2/ 187 - 188/ 1538) والترمذي (2/ 345 - 346/ 480) والنسائي (6/ 388 - 389/ 3253) وابن ماجه (1/ 440/1383). (¬3) البقرة الآية (30). (¬4) البقرة الآية (216). (¬5) الإسراء الآية (85).

يوم القيامة حين يسألهم ماذا أجبتم: {قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (¬1). وهذا هو الأدب المطابق للحق في نفس الأمر، فإن علومهم وعلوم الخلائق تضمحل وتتلاشى في علمه سبحانه كما يضمحل ضوء السراج الضعيف في عين الشمس. فمن أظلم الظلم وأبين الجهل وأقبح القبيح وأعظم القحة والجراءة أن يعترض من لا نسبة لعلمه إلى علوم الناس التي لا نسبة لها إلى علوم الرسل التي لا نسبة لها إلى علم رب العالمين عليه، ويقدح في حكمته، ويظن أن الصواب والأولى أن يكون غير ما جرى به قلمه وسبق به علمه، وأن يكون الأمر بخلاف ذلك. فسبحان الله رب العالمين تنزيها لربوبيته وإلهيته وعظمته وجلاله عما لا يليق به من كل ما نسبه إليه الجاهلون الظالمون. (¬2) - وقال: والقول الحق في هذه الأقوال كيوم الجمعة في الأيام أضل الله عنه أهل الكتابين قبل هذه الأمة وهداهم إليه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجمعة: «أضل الله عنها من كان قبلنا فاليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى». (¬3) ونحن هكذا نقول بحمد الله، ومنه القول الوسط الصواب لنا، وإنكار الفاعل بالمشيئة والاختيار لأعداء الرسل، وإنكار الحكمة والمصلحة والتعليل والأسباب للجهمية والجبرية، وإنكار عموم القدرة والمشيئة العائدة إلى الرب ¬

(¬1) المائدة الآية (109). (¬2) شفاء العليل (2/ 79 - 81). (¬3) أخرجه من حديث أبي هريرة: مسلم (2/ 586/856) والنسائي (3/ 97/1367) وابن ماجه (1/ 344/1083).

عمر بن عمران البلالي (754 هـ)

سبحانه من محبته وكراهته وموجب حمده ومقتضى أسمائه وصفاته ومعانيها وآثارها للقدرية المجوسية. ونحن نبرأ إلى الله من هذه الأقوال وقائلها، إلا من حق تتضمنه مقالة كل فرقة منهم فنحن به قائلون، وإليه منقادون، وله ذاهبون. (¬1) عمر بن عمران البِلاَلِي (¬2) (754 هـ) عمر بن عمران بن صدقة البلالي نسبة إلى بلال بن الوليد بن هشام بن عبد الملك بن مروان الأموي زين الدين البدوي. ولد سنة خمس وثمانين وستمائة. وسمع الصحيح على ابن الشحنة، وسمع من عبد العزيز بن عبد الرزاق بن الشيخ عبد القادر. وسمع منه ابن رجب، وذكره في معجمه وقال: رأيته ببغداد بالمستنصرية وجرت له قصة مع ملك التتار. وقدم دمشق، واتفقت له كائنة فسجن بقلعة دمشق حين كان الشيخ ابن تيمية بها وأقام بعده مسجونا خمس سنين ثم أطلق. توفي رحمه الله سنة أربع وخمسين وسبعمائة. موقفه من الرافضة: - جاء في الدرر الكامنة: ... وجرت له قصة مع ملك التتار، وذلك أنه اتهمه بمكاتبة المصريين بأخبارهم، فألقاه إلى الكلاب ومعه آخر، فأكلت الكلاب رفيقه ولم تؤذه، وكان في تلك الحالة ملازما للذكر فعظم في أعينهم ¬

(¬1) شفاء العليل (2/ 79). (¬2) الدرر الكامنة (3/ 181)

موقف سلطان الوقت من محمد بن عبد المعطي المخرف (760 هـ)

وأكرموه، وأقام معهم مدة يجاهد الرافضة والمبتدعة، ثم قدم دمشق، واتفقت له كائنة فسجن بقلعة دمشق، حيث كان الشيخ ابن تيمية بها، وأقام بعده مسجونا خمس سنين ثم أطلق. وذكر أن ابن تيمية أنشده وهما في الاعتقال: لا تُفكرن وثق بالله أن له يأتيك من لطفه ما ليس تعرفه ... ألطافا دقت عن الأذهان والفطن حتى تظن الذي قد كان لم يكن (¬1) موقف سلطان الوقت من محمد بن عبد المعطي المخرف (760 هـ) جاء في الدرر الكامنة: وشهدوا عليه بأمور لا تليق بالحكام من أهل العلم، منها أنه كان إذا دخل الحجرة للزيارة يقبل الأرض، وسقطات كثيرة فأمر السلطان بعزله. (¬2) التعليق: رحم الله هذا السلطان حيث عزل هذا الرجل الخرافي القبوري، الذي يفعل فعل المشركين الذين يتمسحون بالأحجار والأشجار. موقف السلف من محمد زبالة الزنديق (761 هـ) جاء في البداية والنهاية: وفي يوم الإثنين السادس والعشرين منه، قتل ¬

(¬1) الدرر الكامنة (3/ 181). (¬2) الدرر الكامنة (4/ 31).

موقف السلف من عثمان بن محمد الدقاق الزنديق (761 هـ)

محمد المدعو زبالة الذي بهتار لابن معبد على ما صدر منه من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعواه أشياء كفرية، وذكر عنه أنه كان يكثر الصلاة والصيام، ومع هذا يصدر منه أحوال بشعة في حق أبي بكر وعمر وعائشة أم المؤمنين، وفي حق النبي - صلى الله عليه وسلم -، فضربت عنقه أيضا في هذا اليوم في سوق الخيل ولله الحمد والمنة. (¬1) موقف السلف من عثمان بن محمد الدقاق الزنديق (761 هـ) جاء في البداية والنهاية: وفي يوم الجمعة السادس عشر منه قتل عثمان ابن محمد المعروف بابن دبادب الدقاق بالحديد على ما شهد عليه به جماعة لا يمكن تواطؤهم على الكذب، أنه كان يكثر من شتم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فرفع إلى الحاكم المالكي وادعى عليه فأظهر التجابن، ثم استقر أمره على أن قتل قبحه الله وأبعده ولا رحمه. (¬2) الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن قلاوون (¬3) (762 هـ) السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون، بويع بالسلطنة بعد أخيه المظفر حاجي في رمضان سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، واستمر حتى ¬

(¬1) البداية (14/ 286). (¬2) البداية (14/ 286). (¬3) البداية والنهاية (14/ 291 - 292) والوافي بالوفيات (12/ 266 - 267) والدرر الكامنة (2/ 38) والعقد الثمين (4/ 180) وأعيان العصر (2/ 615 - 619) والنجوم الزاهرة (10/ 187).

موقفه من المبتدعة:

خلع سنة اثنتين وخمسين بأخيه الصالح صلاح الدين، ثم أعيد إلى السلطنة بعد خلع هذا الأخير سنة خمس وخمسين وسبعمائة. قال ابن حجر: كان الناصر حسنُ مُفْرِطاً في الذكاء ضابطا لما يحصل له، ولما خلع وسجن اشتغل بالعلم كثيرا حتى نسخ دلائل النبوة للبيهقي بخطه، توفي مقتولا سنة اثنتين وستين وسبعمائة على يد الأمير يلبغا الخاصكي، وبويع بعده ابن أخيه المنصور محمد ابن المظفر حاجي. موقفه من المبتدعة: جاء في البداية والنهاية: ومن العجائب والغرائب التي لم يتفق مثلها، ولم يقع من نحو مائتي سنة وأكثر، أنه بطل الوقيد بجامع دمشق في ليلة النصف من شعبان، فلم يزد في وقيده قنديل واحد على عادة لياليه في سائر السنة ولله الحمد والمنة. وفرح أهل العلم بذلك وأهل الديانة، وشكروا الله تعالى على تبطيل هذه البدعة الشنعاء، التي كان يتولد بسببها شرور كثيرة بالبلد، والاستيجار بالجامع الأموي، وكان ذلك بمرسوم السلطان الملك الناصر حسن بن الملك الناصر محمد بن قلاوون خلد الله ملكه، وشيد أركانه. وكان الساعي لذلك بالديار المصرية الأمير حسام الدين أبو بكر بن النجيبي بيض الله وجهه، وقد كان مقيما في هذا الحين بالديار المصرية، وقد كنت رأيت عنده فتيا عليها خط الشيخ تقي الدين ابن تيمية، والشيخ كمال الدين ابن الزملكاني، وغيرهما في إبطال هذه البدعة، فأنفذ الله ذلك ولله الحمد والمنة. وقد كانت هذه البدعة قد استقرت بين أظهر الناس من نحو سنة خمسين وأربعمائة وإلى زماننا هذا، وكم سعى فيها من فقيه وقاض

ومفت، وعالم وعابد، وأمير وزاهد، ونائب سلطنة وغيرهم، ولم ييسر الله ذلك إلا في عامنا هذا، والمسؤول من الله إطالة عمر هذا السلطان، ليعلم الجهلة الذين استقر في أذهانهم إذا أبطل هذا الوقيد في عام يموت سلطان الوقت، وكان هذا لا حقيقة له ولا دليل عليه إلا مجرد الوهم والخيال. (¬1) التعليق: وقد استجاب الله عز وجل دعوة الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى، فعاش السلطان بعد هذه الواقعة أحد عشر عاما. ونحن نقول لو أن الله عز وجل قدر موت هذا السلطان في العام نفسه الذي أزال فيه هذه البدعة، لم يلق ذلك في قلوبنا ريبا ولا شكا أن هذه بدعة منكرة، وما ردنا ذلك عن بيان بطلانها والسعي في إزالتها وغيرها من البدع المنكرة، ولا نخاف عقبى إزالة هذه البدع. فهذه عقيدتنا لقول الله عز وجل: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} (¬2). والله عز وجل كافينا وناصرنا عليهم لقوله عز وجل: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} (¬3)، ونعلم علما جازما أن ملء الدنيا من هؤلاء المبتدعة وشياطينهم ليس لهم على المؤمنين سبيل، ¬

(¬1) البداية (14/ 247). (¬2) آل عمران الآية (175). (¬3) الزمر الآية (36).

وأن كيدهم ضعيف لقول الله عز وجل: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} (¬1)، وقوله تعالى: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)} (¬2)، وأن النصرة والغلبة حسا ومعنى تكون لله عز وجل ولرسله، وأتباع رسله، قال الله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِن اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)} (¬3)، وقال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} (¬4)، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)} (¬5)، وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)} (¬6). وننكر على المبتدعة بدعهم وضلالهم، فإن أصابنا شيء فبما كسبت أيدينا ¬

(¬1) النساء الآية (76). (¬2) المجادلة الآية (19). (¬3) المجادلة الآية (21). (¬4) الحج الآية (40). (¬5) محمد الآيات (7 - 9). (¬6) غافر الآيتان (51و52).

موقفه من الصوفية:

لا بتعرضنا وإنكارنا لهذه البدع، ونرى أن المبتدعة -أعداء السنة- ما علا شأنهم إلا وسفل وانقطع، قال عز وجل: {إِن شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} (¬1). فالواجب على أهل الحق أن ينكروا البدع ما ظهر منها وما بطن وألا يخافوا في الله لومة لائم، والله واقيهم، قال عز وجل: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} (¬2) وأن يصبروا على ما ينالهم من الأذى، قال عز وجل: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)} (¬3)؛ فإن أرانا الله عز وجل عقوبتهم في الدنيا فذاك، وإن توفانا فإليه نرجع فيجزي المبتدعة وأذنابهم بأعمالهم. قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} (¬4)، وقال: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)} (¬5). موقفه من الصوفية: جاء في الخطط: وفي شهر ذي القعدة سنة إحدى وستين وسبعمائة. حضر السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون بخانقاه أبيه الملك الناصر في ناحية سرياقوس خارج القاهرة. ومد له شيخ الشيوخ سماطا، كان من جملة من وقف عليه بين يدي السلطان الشريف علي شيخ زاوية القلندرية ¬

(¬1) الكوثر الآية (3). (¬2) غافر الآية (45). (¬3) غافر الآية (77). (¬4) إبراهيم الآية (42). (¬5) الأنعام الآية (132).

جمال الدين بن إدريس الأنباري (765 هـ)

هذه، فاستدعاه السلطان وأنكر عليه حلق لحيته واستتابه، وكتب له توقيعا سلطانيا منع فيه هذه الطائفة من تحليق لحاهم، وأن من تظاهر بهذه البدعة قوبل على فعله المحرم، وأن يكون شيخا على طائفته كما كان ما دام وداموا متمسكين بالسنة النبوية، وهذه البدعة لها منذ ظهرت ما يزيد على أربعمائة سنة، وأول ما ظهرت بدمشق في سنة بضع عشرة وستمائة. وكتب إلى بلاد الشام بإلزام القلندرية بترك زي الأعاجم والمجوس ولا يمكن أحد من الدخول إلى بلاد الشام حتى يترك هذا الزي المبتدع واللباس المستبشع، ومن لا يلتزم بذلك يعزر شرعا، ويقلع من قراره قلعا. فنودي بذلك في دمشق وأرجائها يوم الأربعاء سادس عشر ذي الحجة. (¬1) التعليق: هؤلاء السلاطين لو يسر الله لهم من يدلهم على السنة لكانوا خير مثال في تطبيقها، ولكن علماء السوء تسلطوا عليهم فدلوهم على البدع. فبنوا الزوايا وعمروها، ومع ذلك نحتفظ لهم ببعض المواقف كهذا الذي معنا. جمال الدين بن إدريس الأنباري (¬2) (765 هـ) القاضي جمال الدين أبو حفص عمر بن عبد المحسن بن إدريس الأنباري ثم البغدادي، وقد ينسب إلى جده، ووهم من جعلهما شخصين. محتسب ¬

(¬1) الخطط (2/ 433). (¬2) ذيل طبقات الحنابلة (2/ 446 - 447) وشذرات الذهب (6/ 204) والمقصد الأرشد (2/ 294 - 296) والدر المنضد (2/ 539) والدرر الكامنة (3/ 154 و173) والسحب الوابلة (2/ 790 - 791).

موقفه من الرافضة:

بغداد وقاضي الحنابلة بها. الإمام الفاضل قرأ على البابصري وغيره، وتفقه حتى مهر في المذهب ونصره، وأقام السنة وقمع البدعة ببغداد وأزال المنكرات، وكان إماما في الترسل والنظم، وله نظم في مسائل الفرائض. قتله الروافض سنة خمس وستين وسبعمائة رحمه الله وتأسف عليه أهل بغداد، لحبهم له. موقفه من الرافضة: جاء في ذيل طبقات الحنابلة: فإنه نصر المذهب وأقام السنة وقمع البدعة ببغداد، وأزال المنكرات، وارتفع حتى لم يكن في المذهب أجمل منه في زمانه. ثم وزر لكبير بعض الرافضة فظفروا به، وعاقبوه مدة فصبر، ثم إن أعداءه أهلكهم الله تعالى عاجلا بعد استشهاده، وفرح أهل بغداد بهلاكهم وذلك عقيب موته في سنة خمس وستين وسبعمائة. (¬1) موقف السلف من محمود بن إبراهيم الشيرازي الرافضي (766 هـ) جاء في البداية والنهاية: وفي يوم الخميس سابع عشرة أول النهار وجد رجل بالجامع الأموي، اسمه محمود بن إبراهيم الشيرازي وهو يسب الشيخين ويصرح بلعنتهما. فرفع إلى القاضي المالكي قاضي القضاة جمال الدين المسلاتي، فاستتابه عن ذلك وأحضر الضراب فأول ضربة قال: لا إله إلا الله ¬

(¬1) ذيل طبقات الحنابلة (4/ 446 - 447) ونحوه في البداية (14/ 324 - 325).

جمال الدين المسلاتي (771 هـ)

علي ولي الله. ولما ضرب الثانية لعن أبا بكر وعمر فالتهمه العامة، فأوسعوه ضربا مبرحا بحيث كاد يهلك. فجعل القاضي يستكفهم عنه فلم يستطع ذلك. فجعل الرافضي يسب ويلعن الصحابة وقال: كانوا على الضلال. فعند ذلك حمل إلى نائب السلطنة وشهد عليه قوله بأنهم كانوا على الضلالة، فعند ذلك حكم عليه القاضي بإراقة دمه فأخذ إلى ظاهر البلد فضربت عنقه وأحرقته العامة قبحه الله. (¬1) التعليق: جزى الله خيرا علماء الإسلام على هذه المواقف المشرفة التي سيؤجرون عليها عند ربهم. ولا أدري لو أحياهم الله إلى وقتنا هذا كيف تكون مواقفهم مع هذه الكثرة الكاثرة من الرافضة التي تنسب نفسها إلى الإسلام وهي إلى المجوسية أنسب؟ جمال الدين المسلاتي (¬2) (771 هـ) القاضي محمد بن عبد الرحيم بن علي بن عبد الملك السلمي المسلاتي، جمال الدين ابن زين الدين المالكي. سمع من ابن مخلوف وابن المنير وأبي حيان والقونوي وغيرهم. ولي نيابة الحكم بدمشق، ثم استقر بالقضاء أكثر من عشرين سنة. صاهر السبكي، وكان رحمه الله عالما فاضلا، ينظم وينثر. وكانت له مواقف مشرفة من أهل البدع والضلال. توفي بمصر في ثالث عشر ¬

(¬1) البداية والنهاية (14/ 325). (¬2) السلوك للمقريزي (4/ 338) والنجوم الزاهرة (11/ 109 - 110) والدرر الكامنة (4/ 11 - 12).

موقفه من المشركين:

ذي القعدة سنة إحدى وسبعين وسبعمائة. موقفه من المشركين: جاء في البداية والنهاية: وفي يوم الأربعاء حادي عشر رجب الفرد من هذه السنة -أي ست وخمسين وسبعمائة- حكم القاضي المالكي، وهو قاضي القضاة جمال الدين المسلاتي بقتل نصراني من قرية الرأس من معاملة بعلبك، اسمه داود بن سالم، ثبت عليه بمجلس الحكم في بعلبك أنه اعترف بما شهد عليه أحمد بن نور الدين علي بن غازي من قرية اللبوة من الكلام السيء الذي نال به من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسبه وقذفه بكلام لا يليق ذكره، فقتل لعنه الله يومئذ بعد أذان العصر بسوق الخيل وحرقه الناس وشفى الله صدور قوم مؤمنين ولله الحمد والمنة. (¬1) الحافظ ابن كثير (¬2) (774 هـ) الإمام العلامة، ثقة المحدثين وعمدة المؤرخين وعلم المفسرين، الحافظ الكبير، عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوء بن كثير بن زرع البصري ثم الدمشقي الفقيه الشافعي. ولد سنة سبعمائة، وقدم دمشق وله سبع سنين مع أخيه بعد موت أبيه. تفقه بالبرهان الفزاري والكمال بن قاضي شهبة، ثم صاهر المزي ولازمه وصحب ابن تيمية، وسمع من ابن ¬

(¬1) البداية والنهاية (14/ 265). (¬2) شذرات الذهب (6/ 231 - 232) والدرر الكامنة (1/ 373 - 374) والبدر الطالع (1/ 153) والرد الوافر (154) والنجوم الزاهرة (11/ 123 - 124).

موقفه من المبتدعة:

عساكر. وكان رحمه الله جيد الحفظ والفهم، مستقل الرأي، يدور مع الدليل حيث دار ولا يتعصب لمذهب. قال عنه الذهبي: الإمام المحدث المفتي البارع فقيه متفنن، محدث متقن، مفسر نقال. وقال تلميذه شهاب الدين بن حجي: كان أحفظ من أدركناه لمتون الأحاديث وأعرفهم بتخريجها ورجالها، وصحيحها وسقيمها. وكان أقرانه وشيوخه يعترفون له بذلك. وكان يستحضر كثيرا من التفسير والتاريخ، قليل النسيان. وكان فقيها جيد الفهم صحيح الذهن. وقال الحافظ ابن حجر: ولازم المزي، وقرأ عليه تهذيب الكمال، وصاهره على ابنته، وأخذ عن ابن تيمية ففتن بحبه، وامتحن بسببه، وكان كثير الاستحضار، حسن المفاكهة، سارت تصانيفه في البلاد في حياته، وانتفع بها الناس بعد وفاته. وقال ابن حبيب: إمام ذوي التسبيح والتهليل، وزعيم أرباب التأويل، سمع وجمع وصنف، وأطرب الأسماع بأقواله وشنف، وحدث وأفاد، وطارت فتاويه إلى البلاد، واشتهر بالضبط والتحرير، انتهت إليه رئاسة العلم في التاريخ والحديث والتفسير. وهو القائل: تمر بنا الأيام تترى وإنما ... نساق إلى الآجال والعين تنظر فلا عائد ذاك الشباب الذي مضى ... ولا زائل هذا المشيب المكدر له مؤلفات كثيرة كـ'التفسير' و'البداية والنهاية' و'جامع المسانيد والسنن' وغير ذلك. توفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة أربع وسبعين وسبعمائة. موقفه من المبتدعة: - ذكر الحافظ ابن حجر في ترجمة إبراهيم بن محمد بن أبي بكر بن قيم

الجوزية، نقلا عن الذهبي في المعجم المختص أنه وقع بينه وبين ابن كثير منازعة في تدريس الناس، فقال له ابن كثير أنت تكرهني لأنني أشعري، فقال له: لو كان من رأسك إلى قدمك شعر ما صدقك الناس في قولك أنك أشعري، وشيخك ابن تيمية. (¬1) - قال رحمه الله تعالى تحت قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} (¬2): فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء، فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد هاهنا ولا رأي ولا قول، كما قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (¬3). وفي الحديث: «والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» (¬4) ولهذا شدد في ¬

(¬1) الدرر الكامنة (1/ 58). (¬2) الأحزاب الآية (36). (¬3) النساء الآية (65). (¬4) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (1/ 12/15) وابن بطة في الإبانة (1/ 387 - 388/ 279) من طيق نعيم بن حماد حدثنا عبد الوهاب الثقفي ثنا بعض مشيختنا هشام أو غيره، عن محمد بن سيرين عن عقبة بن أوس عن عبد الله بن عمرو مرفوعا. ونعيم بن حماد، قال الحافظ في التقريب: "صدوق يخطئ كثيرا". وقال ابن رجب في جامع العلوم: "تصحيح هذا الحديث بعيد جدا".

خلاف ذلك، فقال: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (¬1)، كقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} (¬2).اهـ (¬3) - وقال رحمه الله: فإن أول بدعة وقعت في الإسلام فتنة الخوارج، وكان مبدؤهم بسبب الدنيا حين قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنائم حنين، فكأنهم رأوا في عقولهم الفاسدة أنه لم يعدل في القسمة، ففاجئوه بهذه المقالة، فقال قائلهم -وهو ذو الخويصرة- بقر الله خاصرته -: اعدل فإنك لم تعدل. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل، أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني؟! ... » فلما قفا الرجل استأذن عمر بن الخطاب -وفي رواية خالد بن الوليد- رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتله، فقال: «دعه فإنه يخرج من ضئضىء هذا -أي من جنسه - قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم» (¬4). ثم كان ظهورهم أيام علي بن أبي طالب وقتلهم بالنهروان، ثم تشعبت منهم شعوب وقبائل وآراء وأهواء ومقالات ونحل كثيرة منتشرة، ثم نبعت القدرية، ثم المعتزلة، ثم الجهمية، وغير ذلك من البدع التي أخبر عنها الصادق ¬

(¬1) الأحزاب الآية (36). (¬2) النور الآية (63). (¬3) تفسير ابن كثير (6/ 419). (¬4) انظر تخريجه في مواقف ابن تيمية سنة (728هـ).

المصدوق في قوله: «وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي» (¬1) أخرجه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة. اهـ (¬2) - وقال عند تفسير قوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)} (¬3): ثم قال آمرا لكل أحد من خاص وعام: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي: خالفوا عن أمره {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر، والله لا يحب من اتصف بذلك، وإن ادعى وزعم في نفسه أنه يحب الله ويتقرب إليه، حتى يتابع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل، ورسول الله إلى جميع الثقلين الجن والإنس، الذي لو كان الأنبياء -بل المرسلون، بل أولو العزم منهم- في زمانه لما وسعهم إلا اتباعه والدخول في طاعته واتباع شريعته. (¬4) - وقال عند قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (¬5): أمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة، وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفرق والأمر بالاجتماع والائتلاف، كما في صحيح ¬

(¬1) انظر تخريجه في مواقف الآجري سنة (360هـ). (¬2) تفسير ابن كثير (2/ 7). (¬3) آل عمران الآية (32). (¬4) تفسير ابن كثير (2/ 25). (¬5) آل عمران الآية (103).

موقفه من المشركين:

مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله يرضى لكم ثلاثا، ويسخط لكم ثلاثا، يرضى لكم: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم، ويسخط لكم ثلاثا، قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال». (¬1) وقد ضمنت لهم العصمة، عند اتفاقهم من الخطأ كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضا، وخيف عليهم الافتراق والاختلاف، وقد وقع ذلك في هذه الأمة (فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة، منها فرقة ناجية إلى الجنة ومسلمة من عذاب النار، وهم الذين على ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه) (¬2).اهـ (¬3) موقفه من المشركين: - قال ابن كثير في ترجمة السيدة نفيسة: وكانت وفاتها في شهر رمضان من هذه السنة -أي سنة ثمان ومئتين- فيما ذكره ابن خلكان قال: ولأهل مصر فيها اعتقاد (أي السيدة نفيسة). - قال ابن كثير وإلى الآن قد بالغ العامة في اعتقادهم فيها، وفي غيرها كثيرا جدا، ولا سيما عوام مصر فإنهم يطلقون فيها عبارات بشيعة مجازفة تؤدي إلى الكفر والشرك، وألفاظا كثيرة ينبغي أن يعرفوا أنها لا تجوز، وربما ¬

(¬1) انظر تخريجه في مواقف ابن عبد البر سنة (463هـ). (¬2) انظر تخريجه في مواقف الآجري سنة (360هـ). (¬3) تفسير ابن كثير (2/ 74).

نسبها بعضهم إلى زين العابدين وليست من سلالته. والذي ينبغي أن يعتقد فيها ما يليق بمثلها من النساء الصالحات. وأصل عبادة الأصنام من المغالات في القبور وأصحابها، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتسوية القبور وطمسها (¬1). والمغالاة في البشر حرام، ومن زعم أنها تفك من الخشب، أو أنها تنفع أو تضر بغير مشيئة الله فهو مشرك؛ رحمها الله وأكرمها. (¬2) - وقال أيضا وهو يتحدث عن حوادث (سنة تسع وثمانين ومائتين للهجرة): فيها عاثت القرامطة بسواد الكوفة، فظفر بعض العمال بطائفة منهم فبعث برئيسهم إلى المعتضد وهو أبو الفوارس، فنال من العباس بين يدي الخليفة فأمر به فقلعت أضراسه وخلعت يداه ثم قطعتا مع رجليه، ثم قتل وصلب ببغداد. وفيها قصدت القرامطة دمشق في جحفل عظيم فقاتلهم نائبها طغج بن جف من جهة هارون بن خمارويه، فهزموه مرات متعددة، وتفاقم الحال بهم، وكان ذلك بسفارة يحيى بن زكرويه ابن بهرويه الذي ادعى عند القرامطة أنه محمد بن عبد الله بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وقد كذب في ذلك، وزعم لهم أنه قد اتبعه على أمره مائة ألف، وأن ناقته مأمورة حيث ما توجهت به نصر على أهل تلك الجهة. فراج ذلك عندهم ولقبوه الشيخ، واتبعه طائفة من بني الأصبغ، وسموا بالفاطميين. وقد بعث إليهم الخليفة جيشا كثيفا فهزموه، ثم اجتازوا بالرصافة ¬

(¬1) تقدم تخريجه في مواقف فضالة بن عبيد سنة (53هـ). (¬2) البداية والنهاية (10/ 274).

موقفه من الرافضة:

فأحرقوا جامعها، ولم يجتازوا بقرية إلا نهبوها، ولم يزل ذلك دأبهم حتى وصلوا إلى دمشق فقاتلهم نائبها فهزموه مرات وقتلوا من أهلها خلقا كثيرا، وانتهبوا من أموالها شيئا كثيرا. فإنا لله وإنا إليه راجعون. (¬1) - وقال عن الفارابي: وكان حاذقا في الفلسفة، ومن كتبه تفقه ابن سينا، وكان يقول بالمعاد الروحاني لا الجثماني، ويخصص بالمعاد الأرواح العالمة لا الجاهلة، وله مذاهب في ذلك يخالف المسلمين والفلاسفة من سلفه الأقدمين، فعليه إن كان مات على ذلك لعنة رب العالمين. مات بدمشق فيما قاله ابن الأثير في كامله، ولم أر الحافظ ابن عساكر ذكره في تاريخه لنتنه وقباحته فالله أعلم. (¬2) موقفه من الرافضة: - قال في البداية والنهاية: في يوم الاثنين السادس عشر من جمادى الأولى، اجتاز رجل من الروافض من أهل الحلة بجامع دمشق، وهو يسب أول من ظلم آل محمد، ويكرر ذلك لا يفتر، ولم يصل مع الناس ولا صلى على الجنازة الحاضرة، على أن الناس في الصلاة، وهو يكرر ذلك ويرفع صوته به، فلما فرغنا من الصلاة نبهت عليه الناس، فأخذوه وإذا قاضى القضاة الشافعي في تلك الجنازة حاضر مع الناس. فجئت إليه واستنطقته، من الذي ظلم آل محمد؟ فقال: أبو بكر الصديق، ثم قال جهرة والناس يسمعون: لعن الله أبا بكر وعمر وعثمان ومعاوية ويزيد، فأعاد ذلك مرتين، فأمر به ¬

(¬1) البداية والنهاية (11/ 91 - 92). (¬2) البداية والنهاية (11/ 238).

الحاكم إلى السجن، ثم استحضره المالكي وجلده بالسياط، وهو مع ذلك يصرخ بالسب واللعن والكلام الذي لا يصدر إلا عن شقي، واسم هذا اللعين، علي بن أبي الفضل بن محمد بن حسين بن كثير قبحه الله وأخزاه، ثم لما كان يوم الخميس سابع عشرة، عقد له مجلس بدار السعادة، وحضر القضاة الأربعة، وطلب إلى هنالك فقدر الله أن حكم نائب المالكي بقتله، فأخذ سريعا فضرب عنقه تحت القلعة وحرقه العامة وطافوا برأسه البلد، ونادوا عليه هذا جزاء من سب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد ناظرت هذا الجاهل بدار القاضي المالكي، وإذا عنده شيء مما يقوله الرافضة الغلاة وقد تلقى عن أصحاب ابن مطهر أشياء في الكفر والزندقة قبحه الله وإياهم. (¬1) - وقال رحمه الله في الكلام على الروافض العبيديين: وقد كانت مدة ملك الفاطميين مائتين وثمانين سنة وكسرا، فصاروا كأمس الذاهب، {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} (¬2). وكان أول من ملك منهم المهدي. وكان من سلمية حدادا اسمه عبيد، وكان يهوديا فدخل بلاد المغرب وتسمى بعبيد الله وادعى أنه شريف علوي فاطمي. وقال عن نفسه: إنه المهدي كما ذكر ذلك غير واحد من العلماء والأئمة بعد الأربعمائة، كما قد بسطنا ذلك فيما تقدم. والمقصود أن هذا الدعي الكذاب راج له ما افتراه في تلك البلاد، ووازره جماعة من الجهلة وصارت له دولة وصولة. ثم تمكن إلى أن بنى مدينة سماها ¬

(¬1) البداية (14/ 262). (¬2) هود الآية (95).

المهدية نسبة إليه. وصار ملكا مطاعا، يظهر الرفض، وينطوي على الكفر المحض، ثم كان من بعده ابنه القائم محمد، ثم ابنه المنصور إسماعيل ثم ابنه المعز معد، وهو أول من دخل ديار مصر منهم، وبنيت له القاهرة المعزية والقصران، ثم ابنه العزيز نزار، ثم ابنه الحاكم منصور ثم ابنه الطاهر علي، ثم ابنه المستنصر معد، ثم ابنه المستعلي أحمد، ثم ابنه الآمر منصور، ثم ابن عمه الحافظ عبد المجيد، ثم ابنه الظافر إسماعيل، ثم الفائز عيسى، ثم ابن عمه العاضد عبد الله وهو آخرهم، فجملتهم أربعة عشر ملكا، ومدتهم مائتان ونيف وثمانون سنة. وكذلك عدة خلفاء بني أمية أربعة عشر أيضا، ولكن كانت مدتهم نيفا وثمانين سنة. وقد نظمت أسماء هؤلاء وهؤلاء بأرجوزة تابعة لأرجوزة بني العباس عند انقضاء دولتهم ببغداد في سنة ست وخمسين وستمائة -كما سيأتي- وقد كان الفاطميون أغنى الخلفاء وأكثرهم مالا، وكانوا من أغنى الخلفاء وأجبرهم وأظلمهم، وأنجس الملوك سيرة وأخبثهم سريرة، ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات، وكثر أهل الفساد وقل عندهم الصالحون من العلماء والعباد، وكثر بأرض الشام النصرانية والدرزية والحشيشية، وتغلب الفرنج على سواحل الشام بكماله حتى أخذوا القدس ونابلس وعجلون والغور وبلاد غزة وعسقلان وكرك الشوبك وطبرية وبانياس وصور وعكة وصيدا وبيروت وصفد وطرابلس وأنطاكيا، وجميع ما والى ذلك إلى بلاد إياس وسيس. واستحوذوا على بلاد آمد والرها ورأس العين، وبلاد شتى غير ذلك. وقتلوا من المسلمين خلقا وأُمَماً لا يحصيهم إلا الله، وسبوا ذراري المسلمين من النساء والولدان مما لا يحد ولا يوصف. وكل

هذه البلاد كانت الصحابة قد فتحوها وصارت دار إسلام، وأخذوا من أموال المسلمين ما لا يحد ولا يوصف، وكادوا أن يتغلبوا على دمشق ولكن الله سلم. وحين زالت أيامهم وانتقض إبرامهم، أعاد الله عز وجل هذه البلاد كلها إلى المسلمين بحوله وقوته وجوده ورحمته. وقد قال الشاعر المعروف عرقلة: أصبح الملك بعد آل علي ... مشرقا بالملوك من آل شادي وغدا الشرق يحسد الغر ... ب للقوم فمصر تزهو على بغداد ما حووها إلا بعزم وحزم ... وصليل الفولاذ في الأكباد لا كفرعون والعزيز ومن ... كان بها كالخطيب والأستاذ قال أبو شامة: يعني بالأستاذ كافور الإخشيدي، وقوله: آل علي، يعني الفاطميين على زعمهم ولم يكونوا فاطميين وإنما كانوا ينسبون إلى عبيد، وكان اسمه سعيدا وكان يهوديا حدادا بسلمية، ثم ذكر ما ذكرناه من كلام الأئمة فيهم وطعنهم في نسبهم. قال: وقد استقصيت الكلام في مختصر تاريخ دمشق في ترجمة عبد الرحمن بن إلياس، ثم ذكر في الروضتين في هذا الموضع أشياء كثيرة في غضون ما سقته من قبائحهم وما كانوا يجهرون به في بعض الأحيان من الكفريات، وقد تقدم من ذلك شيء كثير في تراجمهم. قال أبو شامة: وقد أفردت كتابا سميته: 'كشف ما كان عليه بنو عبيد من الكفر والكذب والمكر والكيد'. وكذا صنف العلماء في الرد عليهم كتبا كثيرة من أجل ما وضع في ذلك: كتاب القاضي أبو بكر الباقلاني الذي

سماه: 'كشف الأسرار وهتك الأستار'. وما أحسن ما قاله بعض الشعراء في بني أيوب يمدحهم على ما فعلوه بديار مصر: أبدتم من بنى دولة الكفر من ... بني عبيد بمصر إن هذا هو الفضل زنادقة شيعية باطنية ... مجوس وما في الصالحين لهم أصل ليستروا سابور عمهم الجهل (¬1) يسرون كفرا، يظهرون تشيعا التعليق: انظر حمانا الله وإياك من الرفض وأهله كيف كانت مواقف سلفنا الصالح معهم، هل كانت المسالمة والصمت الدائم، أو الذوبان في أحضانهم والتصفيق والتطبيل لهم في كل صغيرة وكبيرة، وادعاء أن الفرق بيننا وبينهم كالفرق بين الحنفي والشافعي، والتقارب بيننا وبينهم واجب، أو كان هؤلاء الفحول الأخيار لا يفهمون الرافضة، أو كانوا مؤجرين من قبل أحد حتى يتكلموا بلسانه وعقليته وشهوته على حسب ما يريد؟! أم هو الصمود والوقوف في وجوه هؤلاء الكفرة الملاحدة بالسيف واللسان والقلب والجنان والكتاب والتعبير الصادق، كشف كامل لحقيقة الرافضة نسبا وسلالة؟! ولا التفات لما قاله عبد الرحمن بن خلدون والمقريزي، فهذه من سقطاتهم، وقد عاب عليهم جميع المؤرخين، وتعجبوا من حالهم. وفق الله أهل العلم في هذا الزمان للائتساء بسلفهم في كل صغير وكبير. وقال أيضا: وفيها كتبت العامة من الروافض على أبواب المساجد لعنة ¬

(¬1) البداية والنهاية (12/ 286 - 288).

معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه -، وكتبوا أيضا: ولعن الله من غصب فاطمة حقها، وكانوا يلعنون أبا بكر، ومن أخرج العباس من الشورى، يعنون عمر، ومن نفى أبا ذر -يعنون عثمان- رضي الله عن الصحابة، وعلى من لعنهم لعنة الله، ولعنوا من منع من دفن الحسن عند جده يعنون مروان بن الحكم، ولما بلغ ذلك جميعه معز الدولة لم ينكره ولم يغيره، ثم بلغه أن أهل السنة محوا ذلك وكتبوا عوضه لعن الله الظالمين لآل محمد من الأولين والآخرين، والتصريح باسم معاوية في اللعن، فأمر بكتب ذلك، قبحه الله وقبح شيعته من الروافض، لا جرم أن هؤلاء لا ينصرون، وكذلك سيف الدولة بن حمدان بحلب فيه تشيع وميل إلى الروافض، لاجرم أن الله لا ينصر أمثال هؤلاء، بل يديل عليهم أعداءهم لمتابعتهم أهواءهم، وتقليدهم سادتهم وكبراءهم وآبائهم وتركهم أنبياءهم وعلماءهم، ولهذا لما ملك الفاطميون بلاد مصر والشام، وكان فيهم الرفض وغيره، استحوذ الفرنج على سواحل الشام وبلاد الشام كلها، حتى بيت المقدس، ولم يبق مع المسلمين سوى حلب وحمص وحماة ودمشق وبعض أعمالها، وجميع السواحل وغيرها مع الإفرنج، والنواقيس النصرانية والطقوس الإنجيلية تضرب في شواهق الحصون والقلاع، وتكفر في أماكن الإيمان من المساجد وغيرها من شريف البقاع، والناس معهم في حصر عظيم، وضيق من الدين، وأهل هذه المدن التي في يد المسلمين في خوف شديد في ليلهم ونهارهم من الفرنج، فإنا لله وإنا إليه راجعون وكل ذلك من بعض عقوبات المعاصي والذنوب، وإظهار سب خير الخلق بعد الأنبياء. (¬1) ¬

(¬1) البداية (11/ 256 - 257).

- وفيها: وهذا الحديث من دلائل النبوة حيث أخبر صلوات الله وسلامه عليه عن عمار أنه تقتله الفئة الباغية (¬1)، وقد قتله أهل الشام في وقعة صفين وعمار مع علي وأهل العراق كما سيأتي بيانه وتفصيله في موضعه. وقد كان علي أحق بالأمر من معاوية، ولا يلزم من تسمية أصحاب معاوية بغاة تكفيرهم كما يحاوله جهلة الفرقة الضالة من الشيعة وغيرهم، لأنهم وإن كانوا بغاة في نفس الأمر فإنهم كانوا مجتهدين فيما تعاطوه من القتال، وليس كل مجتهد مصيبا، بل المصيب له أجران والمخطئ له أجر؛ ومن زاد في هذا الحديث بعد «تقتلك الفئة الباغية»: «لا أنالها الله شفاعتي يوم القيامة» فقد افترى في هذه الزيادة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لم يقلها إذ لم تنقل من طريق تقبل والله أعلم. وأما قوله: «يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار»، فإن عمارا وأصحابه يدعون أهل الشام إلى الألفة واجتماع الكلمة. وأهل الشام يريدون أن يستأثروا بالأمر دون من هو أحق به، وأن يكون الناس أوزاعا على كل قطر إمام برأسه، وهذا يؤدي إلى افتراق الكلمة واختلاف الأمة، فهو لازم مذهبهم وناشئ عن مسلكهم، وإن كانوا لا يقصدونه والله أعلم. (¬2) - وفيها: وفي الصحيحين أيضا من حديث الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه. قال: خطبنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فقال: "من زعم أن عندنا شيئا نقرأه ليس في كتاب الله وهذه الصحيفة -لصحيفة معلقة في سيفه فيها أسنان الإبل وأشياء من الجراحات- فقد كذب". وفيها قال: قال رسول ¬

(¬1) تقدم تخريجه ضمن مواقف الإمام أحمد سنة (241هـ). (¬2) البداية (3/ 216).

الله - صلى الله عليه وسلم -: «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا، ومن ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا» (¬1). وهذا الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما عن علي رضي الله عنه يرد على فرقة الرافضة في زعمهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصى إليه بالخلافة، ولو كان الأمر كما زعموا لما رد ذلك أحد من الصحابة، فإنهم كانوا أطوع لله ورسوله في حياته وبعد وفاته من أن يفتأتوا عليه فيقدموا غير من قدمه ويؤخروا من قدمه بنصه، حاشا وكلا ولما، ومن ظن بالصحابة رضوان الله عليهم ذلك فقد نسبهم بأجمعهم إلى الفجور والتواطئ على معاندة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومضادتهم في حكمه ونصه، ومن وصل من الناس إلى هذا المقام فقد خلع ربقة الإسلام وكفر بإجماع الأئمة الأعلام، وكان إراقة دمه أحل من إراقة المدام. ثم لو كان مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه نص فلم لا كان يحتج به على الصحابة على إثبات إمارته عليهم وإمامته لهم، فإن لم يقدر على تنفيذ ما معه من النص فهو عاجز، والعاجز لا يصلح للإمارة وإن كان يقدر ولم يفعله فهو خائن، ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (1/ 119) مختصراً. البخاري (13/ 341 - 342/ 7300) ومسلم (2/ 1147/1370) وأبو داود (2/ 529 - 530/ 2034) والترمذي (4/ 381 - 382 - 2127) والنسائي (8/ 387 - 388/ 4748) وابن ماجه (2/ 887/2658) مختصراً.

والخائن الفاسق مسلوب معزول عن الإمارة، وإن لم يعلم بوجود النص فهو جاهل، ثم وقد عرفه وعلمه من بعده هذا محال وافتراء وجهل وضلال. وإنما يحسن هذا في أذهان الجهلة الطغام، والمغتربين من الأنام، يزينه لهم الشيطان بلا دليل ولا برهان، بل بمجرد التحكم والهذيان، والإفك والبهتان، عياذا بالله مما هم فيه من التخليط والخذلان، والتخبيط والكفران، وملاذا بالله بالتمسك بالسنة والقرآن، والوفاة على الإسلام والإيمان، والموافاة على الثبات والإيقان، وتثقيل الميزان، والنجاة من النيران، والفوز بالجنان، إنه كريم منان رحيم رحمن. (¬1) - وفيها: وأما تغضب فاطمة رضي الله عنها وأرضاها على أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه فما أدري ما وجهه، فإن كان لمنعه إياها ما سألته من الميراث فقد اعتذر إليها بعذر يجب قبوله، وهو ما رواه عن أبيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا نورث ما تركنا صدقة» (¬2) وهي ممن تنقاد لنص الشارع الذي خفي عليها قبل سؤالها الميراث، كما خفي على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أخبرتهن عائشة بذلك ووافقتها عليه، وليس يظن بفاطمة رضي الله عنها أنها علمت أنها اتهمت الصديق رضي الله عنه فيما أخبرها به، حاشاها وحاشاه من ذلك، كيف وقد وافقه على رواية هذا الحديث عمر بن الخطاب، وعثمان ابن عفان، وعلي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وأبو ¬

(¬1) البداية (5/ 221). (¬2) تقدم تخريجه في مواقف الفشيديزجي سنة (424هـ).

هريرة، وعائشة رضي الله عنهم أجمعين كما سنبينه قريبا. ولو تفرد بروايته الصديق رضي الله عنه لوجب على جميع أهل الأرض قبول روايته والانقياد له في ذلك، وإن كان غضبها لأجل ما سألت الصديق إذ كانت هذه الأراضي صدقة لا ميراثا أن يكون زوجها ينظر فيها، فقد اعتذر بما حاصله أنه لما كان خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو يرى أن فرضا عليه أن يعمل بما كان يعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويلي ما كان يليه رسول الله، ولهذا قال: "وإني والله لا أدع أمرا كان يصنعه فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا صنعته"، قال: فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى ماتت. وهذا الهجران والحالة هذه فتح على فرقة الرافضة شرا عريضا، وجهلا طويلا، وأدخلوا أنفسهم بسببه فيما لا يعنيهم، ولو تفهموا الأمور على ما هي عليه لعرفوا للصديق فضله، وقبلوا منه عذره الذي يجب على كل أحد قبوله، ولكنهم طائفة مخذولة، وفرقة مرذولة، يتمسكون بالمتشابه، ويتركون الأمور المحكمة المقدرة عند أئمة الإسلام، من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء المعتبرين في سائر الأعصار والأمصار رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين. (¬1) - وفيها قال ابن كثير: وما يتوهمه بعض العوام، بل هو مشهور بين كثير منهم، أن عليا هو الساقي على الحوض، فليس له أصل ولم يجئ من طريق مرضي يعتمد عليه، والذي ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يسقي الناس. وهكذا الحديث الوارد في أنه (ليس أحد يأتي يوم القيامة راكبا إلا أربعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على البراق، وصالح على ناقته، وحمزة على العضباء، ¬

(¬1) البداية (5/ 250).

وعلي على ناقة من فوق الجنة رافعا صوته بالتهليل)، وكذلك (ما في أفواه الناس من اليمين بعلي يقول أحدهم: خذ بعلي، أعطني بعلي)، ونحو ذلك، كل ذلك لا أصل له بل ذلك من نزعات الروافض ومقالاتهم، ولا يصح من شيء من الوجوه، وهو من وضع الرافضة، ويخشى على من اعتاد ذلك سلب الإيمان عند الموت، ومن حلف بغير الله فقد أشرك. (¬1) وفيها: وقد أسرف الرافضة في دولة بني بويه في حدود الأربعمائة وما حولها، فكانت الدبادب تضرب ببغداد ونحوها من البلاد في يوم عاشوراء، ويذر الرماد والتبن في الطرقات والأسواق، وتعلق المسوح على الدكاكين، ويظهر الناس الحزن والبكاء، وكثير منهم لا يشرب الماء لَيْلَتَئِذٍ موافقة للحسين لأنه قتل عطشانا. ثم تخرج النساء حاسرات عن وجوههن ينحن ويلطمن وجوههن وصدورهن، حافيات في الأسواق، إلى غير ذلك من البدع الشنيعة، والأهواء الفظيعة، والهتائك المخترعة، وإنما يريدون بهذا وأشباهه أن يشنعوا على دولة بني أمية، لأنه قتل في دولتهم. وقد عاكس الرافضة والشيعة يوم عاشوراء النواصب من أهل الشام، فكانوا إلى يوم عاشوراء يطبخون الحبوب ويغتسلون ويتطيبون ويلبسون أفخر ثيابهم، ويتخذون ذلك اليوم عيدا يصنعون فيه أنواع الأطعمة، ويظهرون السرور والفرح، يريدون بذلك عناد الروافض ومعاكستهم. وقد تأول عليه من قتله أنه جاء ليفرق كلمة المسلمين بعد اجتماعها، وليخلع من بايعه من الناس واجتمعوا عليه، وقد ورد في صحيح مسلم ¬

(¬1) البداية (7/ 368 - 369).

الحديث بالزجر عن ذلك، والتحذير منه، والتوعد عليه (¬1) وبتقدير أن تكون طائفة من الجهلة قد تأولوا عليه وقتلوه ولم يكن لهم قتله، بل كان يجب عليهم إجابته إلى ما سأل من تلك الخصال الثلاث المتقدم ذكرها، فإذا ذمت طائفة من الجبارين تذم الأمة كلها بكمالها وتتهم على نبيها - صلى الله عليه وسلم -، فليس الأمر كما ذهبوا إليه، ولا كما سلكوه، بل أكثر الأئمة قديما وحديثا كاره ما وقع من قتله وقتل أصحابه، سوى شرذمة قليلة من أهل الكوفة قبحهم الله، وأكثرهم كانوا قد كاتبوه ليتوصلوا به إلى أغراضهم ومقاصدهم الفاسدة. فلما علم ذلك ابن زياد منهم بلغهم ما يريدون من الدنيا وآخذهم على ذلك وحملهم عليه بالرغبة والرهبة، فانكفوا عن الحسين وخذلوه ثم قتلوه. وليس كل ذلك الجيش كان راضيا بما وقع من قتله، بل ولا يزيد بن معاوية رضي بذلك والله أعلم، ولا كرهه، والذي يكاد يغلب على الظن أن يزيد لو قدر عليه قبل أن يقتل لعفا عنه كما أوصاه بذلك أبوه، وكما صرح هو به مخبرا عن نفسه بذلك. وقد لعن ابن زياد على فعله ذلك وشتمه فيما يظهر ويبدو، ولكن لم يعزله على ذلك ولا عاقبه ولا أرسل يعيب عليه ذلك، والله أعلم. فكل مسلم ينبغي له أن يحزنه قتله رضي الله عنه، فإنه من سادات المسلمين، وعلماء الصحابة، وابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي هي أفضل بناته، ¬

(¬1) وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - من حديث عرفجة: «إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة، وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان». وفي رواية: «من أتاكم، وأمركم جميع، على رجل واحد منكم، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم، فاقتلوه». رواه أحمد (5/ 24) ومسلم (3/ 1479 - 1480/ 1852) وأبو داود (5/ 120/4762) والنسائي (7/ 106 - 108/ 4032 و4033 و4034).

وقد كان عابدا وشجاعا وسخيا، ولكن لا يحسن ما يفعله الشيعة من إظهار الجزع والحزن الذي لعل أكثره تصنع ورياء، وقد كان أبوه أفضل منه فقتل، وهم لا يتخذون مقتله مأتما كيوم مقتل الحسين، فإن أباه قتل يوم الجمعة وهو خارج إلى صلاة الفجر في السابع عشر من رمضان سنة أربعين، وكذلك عثمان كان أفضل من علي عند أهل السنة والجماعة، وقد قتل وهو محصور في داره في أيام التشريق من شهر ذي الحجة سنة ست وثلاثين، وقد ذبح من الوريد إلى الوريد، ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتما، وكذلك عمر بن الخطاب وهو أفضل من عثمان وعلي، قتل وهو قائم يصلي في المحراب صلاة الفجر ويقرأ القرآن، ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتما، وكذلك الصديق كان أفضل منه ولم يتخذ الناس يوم وفاته مأتما، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، وقد قبضه الله إليه كما مات الأنبياء قبله، ولم يتخذ أحد يوم موتهم مأتما يفعلون فيه ما يفعله هؤلاء الجهلة من الرافضة يوم مصرع الحسين؛ ولا ذكر أحد أنه ظهر يوم موتهم وقبلهم شيء مما ادعاه هؤلاء يوم مقتل الحسين من الأمور المتقدمة، مثل كسوف الشمس والحمرة التي تطلع في السماء وغير ذلك. (¬1) - وفيها: ففيها -أي سنة اثنتين وعشرين ومائة- كان مقتل زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان سبب ذلك أنه لما أخذ البيعة ممن بايعه من أهل الكوفة، أمرهم في أول هذه السنة بالخروج والتأهب له، فشرعوا في أخذ الأهبة لذلك. فانطلق رجل يقال له سليمان بن سراقة إلى ¬

(¬1) البداية (8/ 204 - 205).

يوسف بن عمر نائب العراق فأخبره -وهو بالحيرة يومئذ- خبر زيد بن علي هذا ومن معه من أهل الكوفة، فبعث يوسف بن عمر يتطلبه ويلح في طلبه، فلما علمت الشيعة ذلك اجتمعوا عند زيد بن علي فقالوا له: ما قولك يرحمك الله في أبي بكر وعمر؟ فقال: غفر الله لهما، ما سمعت أحدا من أهل بيتي تبرأ منهما، وأنا لا أقول فيهما إلا خيرا، قالوا: فلم تطلب إذا بدم أهل البيت؟ فقال: إنا كنا أحق الناس بهذا الأمر، ولكن القوم استأثروا علينا به ودفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفرا، قد ولوا فعدلوا، وعملوا بالكتاب والسنة. قالوا: فلم تقاتل هؤلاء إذا؟ قال: إن هؤلاء ليسوا كأولئك، إن هؤلاء ظلموا الناس وظلموا أنفسهم، وإني أدعو إلى كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وإحياء السنن وإماتة البدع، فإن تسمعوا يكن خيرا لكم ولي، وإن تأبوا فلست عليكم بوكيل. فرفضوه وانصرفوا عنه ونقضوا بيعته وتركوه، فلهذا سموا الرافضة من يومئذ، ومن تابعه من الناس على قوله سموا الزيدية، وغالب أهل الكوفة منهم رافضة، وغالب أهل مكة إلى اليوم على مذهب الزيدية، وفي مذهبهم حق، وهو تعديل الشيخين، وباطل وهو اعتقاد تقديم علي عليهما، وليس علي مقدما عليهما، بل ولا عثمان على أصح قولي أهل السنة الثابتة، والآثار الصحيحة الثابتة عن الصحابة. (¬1) - وفيها: إسماعيل بن محمد بن يزيد بن ربيعة أبو هاشم الحميري الملقب بالسيد، كان من الشعراء المشهورين المبرزين فيه، ولكنه كان رافضيا خبيثا، وشيعيا غثيثا، وكان ممن يشرب الخمر ويقول بالرجعة -أي بالدور- ¬

(¬1) البداية (9/ 342).

موقفه من الجهمية:

قال يوما لرجل: أقرضني دينارا ولك عندي مائة دينار إذا رجعنا إلى الدنيا. فقال له الرجل: إني أخشى أن تعود كلبا أو خنزيرا فيذهب ديناري. وكان قبحه الله يسب الصحابة في شعره. قال الأصمعي: ولولا ذلك ما قدمت عليه أحدا في طبقته، ولا سيما الشيخين وابنيهما. وقد أورد ابن الجوزي شيئا من شعره في ذلك كرهت أن أذكره لبشاعته وشناعته، وقد اسود وجهه عند الموت وأصابه كرب شديد جدا. ولما مات لم يدفنوه لسبه الصحابة رضي الله عنهم. (¬1) - وفيها: وليسوا بالاثني عشر الذين يدعون إمامتهم الرافضة، فإن هؤلاء الذين يزعمون لم يل أمور الناس منهم إلا علي بن أبي طالب وابنه الحسن، وآخرهم في زعمهم المهدي المنتظر في زعمهم بسرداب سامرا، وليس له وجود، ولا عين، ولا أثر، بل هؤلاء من الأئمة الاثني عشر المخبر عنهم في الحديث، الأئمة الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، رضي الله عنهم، ومنهم عمر بن عبد العزيز بلا خلاف بين الأئمة على كلا القولين لأهل السنة في تفسير الاثني عشر. (¬2) موقفه من الجهمية: - قال رحمه الله: وقد زعم بعض المتكلمين على علم الهيئة من الإسلاميين: أن الكرسي عندهم هو الفلك الثامن، وهو فلك الثوابت الذي فوقه الفلك التاسع، وهو الفلك الأثير، ويقال: الأطلس. وقد رد ذلك عليهم ¬

(¬1) البداية (10/ 179). (¬2) البداية (6/ 254).

آخرون. - وروى ابن جرير من طريق جويبر، عن الحسن البصري أنه كان يقول: الكرسي هو العرش. والصحيح أن الكرسي غير العرش، والعرش أكبر منه، كما دلت على ذلك الآثار والأخبار، وقد اعتمد ابن جرير على حديث عبد الله ابن خليفة، عن عمر في ذلك، وعندي في صحته نظر، والله أعلم ... وهذه الآيات (¬1) وما في معناها من الأحاديث الصحاح الأجود فيها طريقة السلف الصالح إمرارها كما جاءت، من غير تكييف ولا تشبيه. (¬2) - وقال في البداية: وكان الأخطل من نصارى العرب المتنصرة، قبحه الله وأبعد مثواه، وهو الذي أنشد بشر بن مروان قصيدته التي يقول فيها: قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق وهذا البيت تستدل به الجهمية على أن الاستواء على العرش بمعنى الاستيلاء، وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه، وليست في بيت هذا النصراني حجة ولا دليل على ذلك، ولا أراد الله عز وجل باستوائه على عرشه استيلاءه عليه، تعالى الله عن قول الجهمية علوا كبيرا، فإنه إنما يقال استوى على الشيء: إذا كان ذلك الشيء عاصيا عليه قبل استيلائه عليه، كاستيلاء بشر على العراق، واستيلاء عبد الملك على المدينة بعد عصيانها عليه، وعرش الرب لم يكن ممتنعا عليه نَفَسا واحدا، حتى يقال استوى عليه، أو معنى الاستواء الاستيلاء، ولا تجد أضعف من حجج الجهمية، حتى أداهم ¬

(¬1) يعني آية الكرسي. (¬2) تفسير القرآن العظيم (1/ 458 - 459).

موقفه من الخوارج:

الإفلاس من الحجج إلى بيت هذا النصراني المقبوح وليس فيه حجة والله أعلم. (¬1) - وقال أيضا: وفيها -أي سنة إحدى وثلاثين ومائتين- قدم خاقان الخادم من بلاد الروم وقد تم الصلح والمفاداة بينه وبين الروم، وقدم معه جماعة من رؤوس الثغور، فأمر الواثق بامتحانهم بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة، فأجابوا إلا أربعة، فأمر بضرب أعناقهم إن لم يجيبوا بالقول بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة. وأمر الواثق أيضا بامتحان الأسارى الذين فودوا من أسر الفرنج بالقول بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة؛ فمن أجاب إلى القول بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة فودي وإلا ترك في أيدي الكفار، وهذه بدعة صلعاء، شنعاء عمياء صماء، لا مستند لها من كتاب ولا سنة ولا عقل صحيح، بل الكتاب والسنة والعقل الصحيح بخلافها كما هو مقرر في موضعه. وبالله المستعان. (¬2) موقفه من الخوارج: - قال رحمه الله في البداية والنهاية: وهذا الضرب من الناس من أغرب أشكال بني آدم، فسبحان من نوع خلقه كما أراد، وسبق في قدره العظيم. وما أحسن ما قال بعض السلف في الخوارج إنهم المذكورون في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ¬

(¬1) البداية والنهاية (9/ 273). (¬2) البداية والنهاية (10/ 320).

وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ ولقائه فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)} (¬1) والمقصود أن هؤلاء الجهلة الضلال، والأشقياء في الأقوال والأفعال، اجتمع رأيهم على الخروج من بين أظهر المسلمين، وتواطئوا على المسير إلى المدائن ليملكوها على الناس ويتحصنوا بها ويبعثوا إلى إخوانهم وأضرابهم -ممن هو على رأيهم ومذهبهم، من أهل البصرة وغيرها- فيوافوهم إليها. ويكون اجتماعهم عليها. فقال لهم زيد بن حصن الطائي: إن المدائن لا تقدرون عليها، فإن بها جيشا لا تطيقونه وسيمنعوها منكم، ولكن واعدوا إخوانكم إلى جسر نهر جوخى، ولا تخرجوا من الكوفة جماعات، ولكن اخرجوا وحدانا لئلا يفطن بكم، فكتبوا كتابا عاما إلى من هو على مذهبهم ومسلكهم من أهل البصرة وغيرها وبعثوا به إليهم ليوافوهم إلى النهر ليكونوا يدا واحدة على الناس، ثم خرجوا يتسللون وحدانا لئلا يعلم أحد بهم فيمنعوهم من الخروج فخرجوا من بين الآباء والأمهات والأخوال والخالات وفارقوا سائر القرابات، يعتقدون بجهلهم وقلة علمهم وعقلهم أن هذا الأمر يرضي رب الأرض والسموات، ولم يعلموا أنه من أكبر الكبائر الموبقات، والعظائم والخطيئات، وأنه مما زينه لهم إبليس الشيطان الرجيم المطرود عن السماوات الذي نصب العداوة لأبينا آدم ثم لذريته ما دامت أرواحهم في أجسادهم مترددات، والله المسئول أن يعصمنا منه بحوله وقوته إنه مجيب الدعوات، وقد تدارك جماعة ¬

(¬1) لكهف الآيات (103 - 105).

من الناس بعض أولادهم وإخوانهم فردوهم وأنبوهم ووبخوهم فمنهم من استمر على الاستقامة، ومنهم من فر بعد ذلك فلحق بالخوارج فخسر إلى يوم القيامة، وذهب الباقون إلى ذلك الموضع ووافى إليهم من كانوا كتبوا إليه من أهل البصرة وغيرها، واجتمع الجميع بالنهروان وصارت لهم شوكة ومنعة، وهم جند مستقلون وفيهم شجاعة وعندهم أنهم متقربون بذلك؟ فهم لا يصطلى لهم بنار، ولا يطمع في أن يؤخذ منهم بثأر، وبالله المستعان. (¬1) - وفيها: إن قال قائل: كيف وقع قتل عثمان رضي الله عنه بالمدينة وفيها جماعة من كبار الصحابة رضي الله عنهم؟ فجوابه من وجوه: أحدها: أن كثيرا منهم بل أكثرهم أو كلهم لم يكن يظن أنه يبلغ الأمر إلى قتله، فإن أولئك الأحزاب لم يكونوا يحاولون قتله عينا، بل طلبوا منه أحد أمور ثلاثة: إما أن يعزل نفسه، أو يسلم إليهم مروان بن الحكم، أو يقتلوه، فكانوا يرجون أن يسلم إلى الناس مروان، أو أن يعزل نفسه ويستريح من هذه الضائقة الشديدة. وأما القتل فما كان يظن أحد أنه يقع، ولا أن هؤلاء يجترئون عليه إلى ما هذا حده، حتى وقع ما وقع والله أعلم. الثاني: أن الصحابة مانعوا دونه أشد الممانعة، ولكن لما وقع التضييق الشديد، عزم عثمان على الناس أن يكفوا أيديهم ويغمدوا أسلحتهم ففعلوا، فتمكن أولئك مما أرادوا، ومع هذا ما ظن أحد من الناس أنه يقتل بالكلية. الثالث: أن هؤلاء الخوارج لما اغتنموا غيبة كثير من أهل المدينة في أيام ¬

(¬1) البداية (7/ 296 - 297).

- موقفه من عبد الرحمن بن الأشعث ومن بايع له:

الحج، ولم تقدم الجيوش من الآفاق للنصرة، بل لما اقترب مجيئهم، انتهزوا فرصتهم، قبحهم الله، وصنعوا ما صنعوا من الأمر العظيم. الرابع: أن هؤلاء الخوارج كانوا قريبا من ألفي مقاتل من الأبطال، وربما لم يكن في أهل المدينة هذه العدة من المقاتلة، لأن الناس كانوا في الثغور وفي الأقاليم في كل جهة، ومع هذا كان كثير من الصحابة اعتزل هذه الفتنة ولزموا بيوتهم، ومن كان يحضر منهم المسجد لا يجيء إلا ومعه السيف، يضعه على حبوته إذا احتبى، والخوارج محدقون بدار عثمان - رضي الله عنه -، وربما لو أرادوا صرفهم عن الدار لما أمكنهم ذلك، ولكن كبار الصحابة قد بعثوا أولادهم إلى الدار يحاجفون عن عثمان - رضي الله عنه -، لكي تقدم الجيوش من الأمصار لنصرته، فما فجيء الناس إلا وقد ظفر أولئك بالدار من خارجها، وأحرقوا بابها، وتسوروا عليه حتى قتلوه، وأما ما يذكره بعض الناس من أن بعض الصحابة أسلمه ورضي بقتله، فهذا لا يصح عن أحد من الصحابة أنه رضي بقتل عثمان - رضي الله عنه -، بل كلهم كرهه، ومقته، وسب من فعله، ولكن بعضهم كان يود لو خلع نفسه من الأمر، كعمار بن ياسر، ومحمد بن أبي بكر، وعمرو بن الحمق وغيرهم. (¬1) - موقفه من عبد الرحمن بن الأشعث ومن بايع له: قال رحمه الله: والعجب كل العجب من هؤلاء الذين بايعوه بالإمارة وليس من قريش، وإنما هو كندي من اليمن، وقد اجتمع الصحابة يوم السقيفة على أن الإمارة لا تكون إلا في قريش، واحتج عليهم الصديق ¬

(¬1) البداية (7/ 206 - 207).

موقفه من القدرية:

بالحديث في ذلك، حتى إن الأنصار سألوا أن يكون منهم أمير مع أمير المهاجرين فأبى الصديق عليهم ذلك، ثم مع هذا كله ضرب سعد بن عبادة الذي دعا إلى ذلك أولا ثم رجع عنه، كما قررنا ذلك فيما تقدم، فكيف يعمدون إلى خليفة قد بويع له بالإمارة على المسلمين من سنين فيعزلونه وهو من صلبية قريش ويبايعون لرجل كندي بيعة لم يتفق عليها أهل الحل والعقد؟! ولهذا لما كانت هذه زلة وفلتة نشأ بسببها شر كبير هلك فيه خلق كثير، فإنا لله وإنا إليه راجعون. (¬1) موقفه من القدرية: قال رحمه الله في تفسيره: وقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (¬2) كقوله: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (¬3) وكقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} (¬4) أي قدر قدرا وهدى الخلائق إليه، ولهذا يستدل بهذه الآية الكريمة أئمة السنة على إثبات قدر الله السابق لخلقه، وهو علمه الأشياء قبل كونها، وكتابته لها قبل تبرمها. وردوا بهذه الآية وبما شاكلها من الآيات وما ورد في معناها من الأحاديث الثابتات على الفرقة القدرية الذين نبغوا في أواخر عصر الصحابة. وقد تكلمنا على هذا المقام مفصلا وما ورد فيه من الأحاديث في شرح ¬

(¬1) البداية والنهاية (9/ 57 - 58). (¬2) القمر الآية (49). (¬3) الفرقان الآية (2). (¬4) الأعلى الآيات (1 - 3).

جمال الدين أبو المظفر يوسف بن محمد السرمري (776 هـ)

كتاب الإيمان من صحيح البخاري رحمه الله. (¬1) جمال الدين أبو المظفر يوسف بن محمد السرمرِي (¬2) (776 هـ) الشيخ الإمام العلامة الحافظ ذو الفنون البديعة والمصنفات النافعة، جمال الدين أبو المظفر يوسف بن محمد بن مسعود بن محمد العبادي ثم العقيلي السرمري نزيل دمشق الحنبلي. ولد في رجب سنة ست وتسعين وستمائة بسر من رأى، وتفقه ببغداد على الشيخ صفي الدين عبد المؤمن وغيره، ثم قدم دمشق وتوفي بها. من تصانيفه: 'نظم مختصر ابن رزين في الفقه' و'نظم الغريب في علوم الحديث' لأبيه. قال ابن حجي: رأيت بخطه ما صورته: مؤلفاتي تزيد على مائة مصنف كبار وصغار في بضعة وعشرين علما. أخذ عنه ابن رافع مع تقدمه عليه وحدث عنه. توفي في جمادى الأولى سنة ست وسبعين وسبعمائة بدمشق رحمه الله تعالى. موقفه من المبتدعة: جاء في الرد الوافر: ومن مؤلفاته النظامية، كتاب 'الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية'. (¬3) ¬

(¬1) تفسير القرآن العظيم (4/ 269). (¬2) الرد الوافر (ص.216) والشذرات (6/ 249) والدر المنضد (2/ 554 - 555) والسحب الوابلة (3/ 1181 - 1188). (¬3) الرد الوافر (216).

موقفه من الرافضة:

موقفه من الرافضة: من تصانيفه: 'غيث السحابة في فضل الصحابة'. الكرماني محمد بن يوسف (¬1) (786 هـ) محمد بن يوسف بن علي الكرماني ثم البغدادي. ولد في جمادى الآخرة سنة سبع عشرة وسبعمائة. وأخذ عن أبيه بهاء الدين وجماعة ببلده، ثم ارتحل إلى شيراز فأخذ عن القاضي عضد الدين ولازمه اثنتي عشرة سنة حتى قرأ عليه تصانيفه، ثم حج واستوطن بغداد ودخل الشام ومصر. وشرح البخاري، وسمعه بالجامع الأزهر من لفظ المحدث ناصر الدين الفارقي .. وسمى شرحه بالكواكب الدراري. سمع منه جماعة منهم القاضي محب الدين البغدادي وولده يحيى الكرماني. وصنف في العربية وغيرها. قال الشيخ شهاب الدين بن حجي: تصدى لنشر العلم ببغداد ثلاثين سنة، وكان مقبلا على شأنه لا يتردد إلى أبناء الدنيا، قانعا باليسير، ملازما للعلم مع التواضع والبر بأهل العلم. توفي رحمه الله تعالى راجعا من الحج في المحرم سنة ست وثمانين وسبعمائة. موقفه من القدرية: قال عقب ترجمة البخاري في كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {فَلَا ¬

(¬1) الدرر الكامنة (4/ 310 - 311) وشذرات الذهب (6/ 294).

أبو إسحاق الشاطبي (790 هـ)

تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} (¬1): المراد بيان كون أفعال العباد بخلق الله تعالى، إذ لو كانت أفعالهم بخلقهم لكانوا أندادا لله وشركاء له في الخلق، ولهذا عطف ما ذكر عليه، وتضمن الرد على الجهمية في قولهم: لا قدرة للعبد أصلا، وعلى المعتزلة حيث قالوا: لا دخل لقدرة الله تعالى فيها، والمذهب الحق أن لا جبر ولا قدر بل أمر بين أمرين. (¬2) أبو إسحاق الشاطبي (¬3) (790 هـ) أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي المالكي، الشهير بالشاطبي. أصولي حافظ محدث، لغوي مفسر مع الصلاح والعفة، والورع واتباع السنة واجتناب البدع. قيل ولد سنة عشرين وسبعمائة. نشأ بغرناطة، وأخذ عن أئمة منهم: ابن الفخار وأبو عبد الله البلنسي وأبو القاسم الشريف السبتي وأبو عبد الله الشريف التلمساني والإمام المقري وعدة. وعنه أبو بكر بن عاصم، وأخوه أبو يحيى محمد بن عاصم، وأبو عبد الله محمد البياني. كان رحمه الله من العلماء العاملين المجاهدين في إظهار الدين وإبطال البدع وإماتتها. قال أحمد التنبكتي: الإمام العلامة المحقق القدوة، الحافظ الجليل المجتهد، كان أصوليا، مفسرا، فقيها، محدثا، لغويا ... من أفراد العلماء المحققين الأثبات، وأكابر الأئمة المتفننين الثقات، له القدم الراسخ، والإمامة ¬

(¬1) البقرة الآية (22). (¬2) الفتح (13/ 491). (¬3) معجم المؤلفين (1/ 118) والأعلام (1/ 75) وشجرة النور الزكية (1/ 231) وفهرس الفهارس (1/ 191).

موقفه من المبتدعة:

العظمى في الفنون، من التحري والتحقيق، له استنباطات جليلة، ودقائق منيفة، وفوائد لطيفة، وأبحاث شريفة، وقواعد محررة محققة، وبالجملة فقدره في العلوم فوق ما يذكر، وتحليته في التحقيق فوق ما يشتهر. وقال أيضا: كان ثبتا ورعا صالحا زاهدا سنيا إماما مطلقا، على قدم راسخ من الصلاح والعفة والتحري والورع. وقال محمد مخلوف: العلامة المؤلف المحقق النظار، أحد الجهابذة الأخيار، وكان له القدم الراسخ في سائر الفنون والمعارف. له تآليف نفيسة منها: 'الاعتصام' و'الموافقات' و'المجالس' شرح فيه كتاب البيوع من صحيح البخاري و'الإفادات والإنشاءات' وغيرها. توفي رحمه الله تعالى في شعبان سنة تسعين وسبعمائة. موقفه من المبتدعة: له من الآثار السلفية: كتاب 'الاعتصام' وهو من أنفع الكتب في العقيدة السلفية. لم تر العين مثله في مناقشة البدع والمبتدعة، وقد نفعنا الله به في هذا البحث المبارك. وهو مع الأسف لم يتمه صاحبه، وقد أتمَّه أحد علماء اليمن، فلعلنا نظفر بالتتمة، وهو كغيره من الكتب، قد تقع فيه بعض الهفوات، وكان ينبغي أن يكون على علم بهذه الأمور، فقد جعل إثبات الصفات لله رب العالمين من البدع، قال ما لفظه: ومثاله في ملة الإسلام مذهب الظاهرية في إثبات الجوارح للرب، المنزه عن النقائص، من العين واليد والرجل والوجه المحسوسات والجهة، وغير ذلك من الثابت للمحدثات. ولعل العذر للشيخ أنه لم يفهم تفاصيل مذهب السلف في إثبات الصفات لله رب العالمين، فوقع في هذا الخلط وهذه التعابير المشينة. والله

المستعان. والكتاب مطبوع متداول غصة في حلق المبتدعة حتى إنهم بدؤوا يؤلفون بعض الكتب الركيكة السمجة ويسمونها بأسماء، كصاحب 'إتقان الصنعة في تعريف البدعة' (¬1) وهو أحق أن يسمى كتاب: 'الدعوة إلى البدعة' وكل ما فيه غث ليس فيه شيء من العلم، وإنما هو سباب وشتم وتنقيص من مكانة العلماء ومحاولة جعل الصحابة من كبار المبتدعة، وحاشاهم من ذلك. وتعرض لهذا الكتاب -الاعتصام- بنقد بارد لا يدل على إنصاف ولا علم. وكذلك: "عزت" الذي ألف كتاب البدعة وصار له رواج في الأسواق، وهو أحق كذلك أن يسمى: الدعوة إلى بعض البدع، كالمولد وغيره، وقد أشاد بكتابه حتى جعل من قرأ المقدمة يشعر وكأنه حصل على علم لم يسبق به، وجعل الاعتصام بالمقارنة مع كتابه لا يساوي شيئا والله المستعان. ومن أقوال الإمام الشاطبي رحمه الله في نصر السنة وذم البدعة: - قال في الاعتصام: ثم استمر مزيد الإسلام، واستقام طريقه على مدة حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن بعد موته، وأكثر قرن الصحابة رضي الله عنهم ... إلى أن نبغت فيهم نوابغ الخروج عن السنة، وأصغوا إلى البدع المضلة، كبدعة القدر، وبدعة الخوارج، وهي التي نبه عليها الحديث بقوله: «يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم» (¬2)، ¬

(¬1) لعبد الله بن الصديق الغماري. (¬2) انظر تخريجه في مواقف ابن تيمية سنة (728هـ).

يعني: لا يتفقهون فيه، بل يأخذونه على الظاهر، كما بينه حديث ابن عمر الآتي بحول الله، وهذا كله في آخر عهد الصحابة. ثم لم تزل الفرق تكثر حسبما وعد به الصادق - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» (¬1). وفي الحديث الآخر: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا في جحر ضب، لاتبعتموهم». قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟. قال: «فمن؟» (¬2). وهذا أعم من الأول، فإن الأول عند كثير من أهل العلم خاص بأهل الأهواء، وهذا الثاني عام في المخالفات، ويدل على ذلك من الحديث قوله: «حتى لو دخلوا في جحر ضب، لاتبعتموهم». وكل صاحب مخالفة، فمن شأنه أن يدعو غيره إليها، ويحض سواه عليها، إذ التأسي في الأفعال والمذاهب موضوع طلبه في الجبلة، وبسببه تقع من المخالف المخالفة، وتحصل من الموافق المؤالفة، ومنه تنشأ العداوة والبغضاء للمختلفين. (¬3) - وقال فيه أيضا: وهذه سنة الله في الخلق، أن أهل الحق في جنب أهل ¬

(¬1) انظر تخريجه في مواقف الآجري سنة (360هـ). (¬2) انظر تخريجه في مواقف علي بن المديني سنة (234هـ). (¬3) الاعتصام (1/ 28 - 29).

الباطل قليل، لقوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (¬1)، وقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)} (¬2)، ولينجز الله ما وعد به نبيه - صلى الله عليه وسلم - من عود وصف الغربة إليه، فإن الغربة لا تكون إلا مع فقد الأهل أو قلتهم، وذلك حين يصير المعروف منكرا والمنكر معروفا، وتصير السنة بدعة والبدعة سنة، فيقام على أهل السنة بالتثريب والتعنيف كما كان أولا يقام على أهل البدعة، طمعا من المبتدع أن تجتمع كلمة الضلال؛ ويأبى الله أن تجتمع حتى تقوم الساعة، فلا تجتمع الفرق كلها -على كثرتها- على مخالفة السنة عادة وسمعا، بل لا بد أن تثبت جماعة أهل السنة حتى يأتي أمر الله، غير أنهم -لكثرة ما تناوشهم الفرق الضالة وتناصبهم العداوة والبغضاء، استدعاء إلى موافقتهم- لا يزالون في جهاد ونزاع، ومدافعة وقراع، آناء الليل والنهار، وبذلك يضاعف الله لهم الأجر الجزيل، ويثيبهم الثواب العظيم. (¬3) - وقال أيضا: ومن الآيات قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} (¬4). فالصراط المستقيم: هو سبيل الله الذي دعا إليه، وهو السنة. والسبل: هي سبل أهل الاختلاف الحائدين عن ¬

(¬1) يوسف الآية (103). (¬2) سبأ الآية (13). (¬3) الاعتصام (1/ 30 - 31). (¬4) الأنعام الآية (153).

الصراط المستقيم، وهم أهل البدع، ليس المراد سبل المعاصي، لأن المعاصي من حيث هي معاص لم يضعها أحد طريقا تسلك دائما على مضاهاة التشريع، وإنما هذا الوصف خاص بالبدع المحدثات. ويدل على هذا ما روى إسماعيل عن سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد الله، قال: «خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما -وخط لنا سليمان- خطا طويلا، وخط عن يمينه وعن يساره فقال: هذا سبيل الله ثم خط لنا خطوطا عن يمينه ويساره وقال: هذه سبل، وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه. ثم تلا هذه الآية: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} -يعني: الخطوط- {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬1)».اهـ (¬2) - وقال عقب حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه (¬3): فقرن عليه السلام -كما ترى- سنة الخلفاء الراشدين بسنته، وأن من اتباع سنته اتباع سنتهم، وأن المحدثات خلاف ذلك، ليس منها في شيء، لأنهم رضي الله عنهم فيما سنوه: إما متبعون لسنة نبيهم عليه السلام نفسها، وإما متبعون لما فهموا من سنته - صلى الله عليه وسلم - في الجملة والتفصيل على وجه يخفى على غيرهم مثله، لا زائد على ذلك. (¬4) ¬

(¬1) انظر تخريجه في مواقف الإمام مالك سنة (179هـ). (¬2) الاعتصام (1/ 75 - 76). (¬3) انظر تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ). (¬4) الاعتصام (1/ 118).

- وقال: والشواهد في هذا المعنى كثيرة، وهي تدل على أن الهين عند الناس من البدع شديد وليس بهين، {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} (¬1).اهـ (¬2) - وقال: فقيل: ما خان أمين قط، ولكنه ائتمن غير أمين، فخان. قال: ونحن نقول: ما ابتدع عالم قط، ولكنه استفتي من ليس بعالم، فضل وأضل. (¬3) - وقال: إن الإحداث في الشريعة إنما يقع: إما من جهة الجهل، وإما من جهة تحسين الظن بالعقل، وإما من جهة اتباع الهوى في طلب الحق، وهذا الحصر بحسب الاستقراء من الكتاب والسنة. (¬4) - وقال: ولقد زل بسبب الإعراض عن الدليل والاعتماد على الرجال أقوام خرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين، واتبعوا أهواءهم بغير علم، فضلوا عن سواء السبيل. ولنذكر لذلك عشرة أمثلة: (فذكرها تِبَاعاً فمنها قوله): والعاشر: رأي أهل التحسين والتقبيح العقليين، فإن محصول مذهبهم تحكيم عقول الرجال دون الشرع، وهو أصل من الأصول التي بنى عليها أهل الابتداع في الدين، بحيث إن الشرع، إن وافق آراءهم قبلوه، وإلا ردوه. فالحاصل مما تقدم أن تحكيم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل ¬

(¬1) النور الآية (15). (¬2) الاعتصام (2/ 537). (¬3) الاعتصام (2/ 680). (¬4) الاعتصام (2/ 804).

موقفه من الرافضة:

للحكم الشرعي المطلوب شرعا ضلال، وما توفيقي إلا بالله، وإن الحجة القاطعة والحاكم الأعلى هو الشرع لا غيره. ثم نقول: إن هذا مذهب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن رأى سيرهم والنقل عنهم وطالع أحوالهم، علم ذلك علما يقينا. (¬1) موقفه من الرافضة: - جاء في الموافقات: وأصحابه - صلى الله عليه وسلم - الذين عرفوا مقاصد الشريعة فحصلوها، وأسسوا قواعدها وأصلوها، وجالت أفكارهم في آياتها، وأعملوا الجد في تحقيق مبادئها وغاياتها، وعنوا بعد ذلك باطراح الآمال، وشفعوا العلم بإصلاح الأعمال، وسابقوا إلى الخيرات فسبقوا، وسارعوا إلى الصالحات فما لُحِقوا، إلى أن طلع في آفاق بصائرهم شمس الفرقان، وأشرق في قلوبهم نور الإيقان، فظهرت ينابيع الحكم منها على اللسان، فهم أهل الإسلام والإيمان والإحسان، وكيف لا وقد كانوا أول من قرع ذلك الباب، فصاروا خاصة الخاصة ولباب اللباب، ونجوما يهتدي بأنوارهم أولو الألباب؟ رضي الله عنهم وعن الذين خلفوهم قدوة للمقتدين، وأسوة للمهتدين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. (¬2) - وفيها: ومن هنالك لم يسمع أهل السنة دعوى الرافضة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على عليّ أنه الخليفة بعده، لأن عمل كافة الصحابة على خلافه دليل على بطلانه أو عدم اعتباره، لأن الصحابة لا تجتمع على خطأ، وكثيرا ما ¬

(¬1) الاعتصام (2/ 863 - 872) باختصار. (¬2) الموافقات (1/ 7).

تجد أهل البدع والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة، يحملونهما مذاهبهم، ويغبرون بمشتبهاتهما في وجوه العامة، ويظنون أنهم على شيء. (¬1) - وفيها: وحكى بعض العلماء أن عبيد الله الشيعي المسمى بالمهدي حين ملك إفريقية واستولى عليها، كان له صاحبان من كتامة ينتصر بهما على أمره، وكان أحدهما يسمى بنصر الله، والآخر بالفتح، فكان يقول لهما: أنتما اللذان ذكركما الله في كتابه فقال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (¬2). قالوا: وقد كان عمل ذلك في آيات من كتاب الله تعالى: فبدل قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (¬3) بقوله: كتامة خير أمة أخرجت للناس، ومن كان في عقله لا يقول مثل هذا، لأن المتسميين بنصر الله والفتح المذكورين إنما وجدا بعد مئين من السنين من وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيصير المعنى: إذا مت يا محمد ثم خلق هذان، {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ} (¬4) الآية فأي تناقض وراء هذا الإفك الذي افتراه الشيعي قاتله الله؟. (¬5) - وقال خلال سرده لأدلة الرجوع إلى سنة الصحابة رضي الله عنهم: ¬

(¬1) الموافقات (3/ 281). (¬2) النصر الآية (1). (¬3) آل عمران الآية (110). (¬4) النصر الآية (2). (¬5) الموافقات (4/ 226 - 227).

موقفه من الصوفية:

الرابع: ما جاء في الأحاديث من إيجاب محبتهم وذم من أبغضهم، وأن من أحبهم فقد أحب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن أبغضهم فقد أبغض النبي عليه الصلاة والسلام، وما ذاك من جهة كونهم رأوه أو جاوروه أو حاوروه فقط، إذ لا مزية في ذلك، وإنما هو لشدة متابعتهم له، وأخذهم أنفسهم بالعمل على سنته مع حمايته ونصرته، ومن كان بهذه المثابة حقيق أن يتخذ قدوة، وتجعل سيرته قبلة. (¬1) موقفه من الصوفية: جاء في المعيار المعرب: وسئل الشيخ أبو إسحاق الشاطبي عن حال طائفة ينتمون إلى التصوف والفقر، يجتمعون في كثير من الليالي عند واحد من الناس، فيفتتحون المجلس بشيء من الذكر على صوت واحد، ثم ينتقلون بعد ذلك إلى الغنا والضرب بالأكف والشطح هكذا إلى آخر الليل، ويأكلون في أثناء ذلك طعاما يعده لهم صاحب المنزل، ويحضر معهم بعض الفقهاء، فإذا تكلم معهم في أفعالهم تلك يقولون: لو كانت هذه الأفعال مذمومة أو محرمة شرعا لما حضرها الفقهاء. فأجاب بما نصه: الحمد لله كما يجب لجلاله، والصلاة على محمد وعلى آله. سألت وفقني الله وإياك عن قوم يتسمون بالفقراء، يجتمعون في بعض الليالي، ويأخذون في الذكر، ثم في الغناء والضرب بالأكف والشطح إلى آخر الليل. وأن اجتماعهم على إمامين من أيمة ذلك الموضع يتوسمان بوسم الشيوخ في ¬

(¬1) الموافقات (4/ 462 - 463).

تلك الطريقة، وذكرت أن كل من يجزر عن ذلك الفعل، يحتج بحضور الفقهاء معهم، ولو كان حراما أو مكروها لم يحضروا معهم. والجواب والله الموفق للصواب: إن اجتماعهم للذكر على صوت واحد إحدى البدع المحدثات التي لم تكن في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا في زمن الصحابة ولا من بعدهم، ولا عرف ذلك قط في شريعة محمد عليه السلام، بل هو من البدع التي سماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضلالة، وهي مردودة. ففي الصحيح أنه عليه السلام قال: «من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد» (¬1). يعني فهو مردود وغير مقبول، فذلك الذكر الذي يذكرونه غير مقبول. وفي رواية «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو مردود» (¬2) وفي الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في خطبته: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» (¬3). وفي رواية «وكل محدثة بدعة وكل بدعة في النار». وهذا الحديث يدل على أن صاحب البدعة في النار. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. وعن الحسن البصري أنه سئل وقيل له: ما ترى في مجلسنا هذا؟ قوم من أهل السنة والجماعة لا يطعنون على أحد نجتمع في بيت هذا يوما فنقرأ كتاب الله وندعو الله ربنا، ونصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وندعو لأنفسنا ولعامة ¬

(¬1) أحمد (6/ 240) والبخاري (5/ 377/2697) ومسلم (3/ 1343/1718) وأبو داود (5/ 12/4606) وابن ماجه (1/ 7/14) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬2) أحمد (6/ 180) ومسلم (3/ 1343 - 1344/ 1718 (18)). (¬3) أحمد (3/ 310 - 311) ومسلم (2/ 592/867) والنسائي (3/ 209 - 210/ 1577) وابن ماجه (1/ 17/45) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

المسلمين. قال: فنهى الحسن عن ذلك أشد النهي، لأنه لم يكن من عمل الصحابة ولا التابعين. وكل ما لم يكن عليه عمل السلف الصالح، فليس من الدين، فقد كانوا أحرص على الخير من هؤلاء، ولو كان فيه خير لفعلوه. وقد قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (¬1). قال مالك بن أنس: فما لم يكن يومئذ دينا لم يكن اليوم دينا. وإنما يعبد الله بما شرع. وهذا الاجتماع لم يكن مشروعا قط فلا يصح أن يعبد الله به. وأما الغنا والشطح فمذمومان على ألسنة السلف الصالح. فعن الضحاك: الغنا مفسدة للقلب مسخطة للرب. وقال المحاسبي: الغنا حرام كالميتة. وسئل مالك بن أنس عن الغنا الذي يفعل بالمدينة، فقال: إنما يفعله عندنا الفساق. وهذا محمول على غنا النساء. وأما الرجال فغناؤهم مذموم أيضا، بحيث إذا داوم أحد على فعله أو سماعه سقطت عدالته لما فيه من إسقاط المروءة ومخالفة السلف. حكى عياض عن التنيسي أنه قال: كنا عند مالك وأصحابه حوله. فقال رجل من أهل نصيبين: يا أبا عبد الله عندنا قوم يقال لهم الصوفية، يأكلون كثيرا، ثم يأخذون في القصائد ثم يقومون فيرقصون، فقال مالك: أصبيان هم؟ قال: لا. أمجانين هم؟ قال: لا، قوم مشايخ، وغير ذلك عقلاء. فقال مالك: ما سمعت أحدا من أهل السلام (¬2) يفعل هذا. انظر كيف أنكر مالك وهو إمام السنة أن يكون في أهل الإسلام من ¬

(¬1) المائدة الآية (3). (¬2) هكذا في الأصل ولعله: الإسلام.

يفعل هذا إلا أن يكون مجنونا وصبيا!! فهذا بين أنه ليس من شأن الإسلام ثم يقال: ولو فعلوه على جهة اللعب كما يفعله الصبي لكان أخف عليهم مع ما فيه من إسقاط الحشمة وإذهاب المروءة، وترك هدى أهل الإسلام وأرباب العقول، لكنهم يفعلونه على جهة التقرب إلى الله والتعبد به. وأن فاعله أفضل من تاركه. هذا أدهى وأمر، حيث يعتقدون أن اللهو واللعب عبادة، وذلك من أعظم البدع المحرمات، الموقعة في الضلالة، الموجبة للنار والعياذ بالله. وأما ما ذكرتم من شأن الفقيهين الإمامين، فليسا بفقيهين إذا كانا يحضران شيئا من ذلك. وحضورهما ذلك على الانتصاب إلى المشيخة قادح في عدالتهما فلا يصلى خلف واحد منهما حتى يتوبا إلى الله من ذلك، ويظهر عليما أثر التوبة، فإنه لا تجوز الصلاة خلف أهل البدع نص على ذلك العلماء. وعلى الجملة، فواجب على من كان قادرا على تغيير ذلك المنكر الفاحش، القيام بتغيره وإخماد نار الفتنة، فإن البدع في الدين هلاك. وهي في الدين أعظم من السم في الأبدان والله الواقي بفضله. والسلام على من يقف على هذا من كاتبه: إبراهيم الشاطبي. (¬1) اهـ ¬

(¬1) المعيار المعرب (11/ 39 - 42).

الملك الهندي فيروز (790 هـ)

الملك الهندي فيروز (¬1) (790 هـ) أبو المظفر فيروز شاه بن رجب من أسرة آل تغلق. تولى -باتفاق الأمراء- بعد وفاة ابن عمه محمد شاه، وكان في بلاد السند فقدم إلى دهلي (¬2)، واستقل بالملك. كان من خيار السلاطين ومن كبار المصلحين، بنى المساجد والمدارس والمستشفيات وأقام الحصون. ومن المساجد التي عمرها مسجد كبير في دهلي. ومن مدارسه المدرسة الفيروزشاهية، كما أسس مدينة فيروزأباد ومدينة كابنور. واستمر حكمه حتى عام تسعين وسبعمائة رحمه الله تعالى. كان هذا الملك من خيرة ملوك الهند سيرة وعقيدة ووعيا للإسلام، وأكثر الملوك تفهما. ذكر مسعود الندوي في تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند أن له كتابا بين فيه خطته وأعماله التي سار عليها إلا أن عليه ملاحظات وقعت له بسبب الجهل. ويهمنا أن نذكر له بعض المواقف الطيبة التي توافق أهداف العقيدة السلفية. موقفه من الزنادقة والمشركين: جاء في 'تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند'، قال: سادساً: ظهرت فئة من الإباحية والملاحدة تدعو الناس إلى الزندقة والإلحاد، وكان ديدنهم أن يجتمعوا في الليالي ويتعاطوا الخمور ويحسبونها تعبداً منهم. وكانوا يأتون فيها بأمهاتهم وأخواتهم ونسائهم، يهتكون فيها أعراضهن ويتجاسرون على ¬

(¬1) التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر (7/ 229). (¬2) كذا في الأصل ولعله: دلْهي.

اقتراف الكبائر الشنيعة، ولا يفرقون في ذلك بين المحرمات والمحصنات، وإنما يباشر الرجل منهم كل من وصلت يده إليهن من النساء المحتشدة في تلك الأندية والليالي. فأمرنا بضرب أعناق رؤوسهم وشياطينهم وعاقبنا الآخرين بالحبس والجلاء وأنواع أخرى من التعذيب حتى لم تبق لهم عين ولا أثر. سابعاً: نبتت جماعة من الملاحدة تظاهرت بالتقشف والزهد في الدنيا، وكان على رأسهم رجل اسمه أحمد البهاري، يدعي الألوهية وتبعه على ذلك عدد غير قليل من مريديه ... فلما تحققنا من خبرهم وعرفنا من أمرهم ما صاروا إليه أخذنا رؤساءهم بذلك وجزيناهم بما يستحقونه من الحبس والتعذيب، وشردنا أتباعهم في البلاد كل مشرد حتى يتخلص العباد من شرهم ويكونوا في مأمن من ضلالاتهم. ثامناً: رجل ادعى النبوءة وتلقب بالمهدي في دلهي، فتبعه خلق كثير واستفحل أمره وعظم شره حتى جيء به إلينا، فاعترف بالإثم غير هياب ولا وجل فأمرنا بقتله وقتل كل من يقتفي أثره وتقطيع لحومهم وأجسادهم إرباً إرباً. وبذلك جعلناهم مثلاً لكل من ينفخ في أوداجه شيطان الغرور فيجترئ على الزندقة والإلحاد والدعوة إليهما. فانطفأت جذوة الشر ونجا الناس من ضلالاتهم. فالحمد لله الذي تفضل علي بنعمته أن وفقني لمقاومة تيار الشرور واجتثاث شجر البدع والمنكرات وهداني إلى إحياء السنن السنية. فمن استحسن هذه الطريقة واختار لنفسه هذه الجادة المستقيمة فليخترها وليؤثرها على غيرها. وإني أرجو بذلك حسن

موقفه من الرافضة:

الجزاء في الدار الآخرة. فإن الدال على الخير كفاعله «ومن سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من سار عليها من بعده» كما ورد في الحديث (¬1).اهـ (¬2) موقفه من الرافضة: جاء في 'تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند' عند سرده لأعماله، قال: خامسا: شرعت الروافض في نشر عقائدها الباطلة ودعوة الناس إليها، واستعانوا في مهمتهم الواهية هذه بتأليف كتب ورسائل. وكذلك تجرأوا على إطالة لسان القدح في الخلفاء الراشدين وعائشة الصديقة أم المؤمنين رضي الله عنهم، والطعن في سائر علمائنا ومشايخنا وقذفهم بالسباب المقذع الموجع، وغيرهما من أفعالهم الشنيعة التي يندى لها جبين المروءة والإنسانية ... فأخذناهم بأعمالهم المنكرة أخذا، وعاقبناهم عقابا، وأمرنا بإحراق كتبهم على مرأى من الناس ومسمع حتى انعدمت هذه الطائفة عن بكرة أبيها. (¬3) موقفه من الصوفية: جاء في 'تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند'، قال: تاسعاً: رجل من المتصوفة في كجرات اشتهر "بالشيخ" بين أتباعه ومريديه، وانخدعت نفسه بترهات الصوفية الوجودية، وجعل يجاهر بكلمات هي للكفر أقرب منها للإيمان. ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (4/ 357) ومسلم (4/ 2059 - 2060/ 2674) والترمذي (5/ 42 - 43/ 2675) والنسائي (5/ 79 - 80/ 2553) وابن ماجه (1/ 74/203) من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه. (¬2) تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند (ص.33 - 35). (¬3) تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند (ص.33).

وبلغ من سفاهة رأيه وعدم تضلعه في تعاليم الدين أن يقول كلمة "أن الحق" ويشير على مريديه أن يقولوا: "أنت أنت" كلما خرجت من فيه هذه الكلمة "أن الحق" وأيضاً كان يقول: "أن الملك الذي لا يموت"، وكذلك ألف رسالة كلها كفر وزندقة. فأمرنا، فأتي به إلينا مقيداً بالسلاسل. ولما تحققنا من ضلالته ودعوته الناس إليها، ولم يبق عندنا في ذلك أدنى شك عاقبناه بما يستحقه، وأمرنا بإحراق كتابه الذي ملأه كفراً وضلالاً حتى اندفع هذا الشر أيضاً، وأصبح المسلمون والمؤمنون بتوحيد الله عز وجل في مأمن من هذه الفتنة العمياء. هذا برض من عد، وغيض من فيض من ترهات المتصوفة الوجودية، وأقاويلهم الباطلة المعادية للكتاب العزيز والسنة النبوية، اطلع عليه فيروز تغلق فكبح جماحه وأراد أن يقضي عليه قضاء لا حياة بعده. لكن فتنة "وحدة الوجود" وما ينشأ عنها من الضلالات، كانت قد عمت البلاد وقتئذ واستولت على قلوب المتصوفة، وأخذت بمجامع ألبابهم ورسخت في أذهانهم أي رسوخ. وما كان اضطهاد رجل واحد منهم وعقابه ليهدأ من ثائر هذه الفتنة أو يفل من حدها. إلا أن فيروز تغلق ومن نحا نحوه من الأمراء والملوك مجزيون على أعمالهم ونياتهم، سواء نجحوا في مهمتهم أو لم ينجحوا. (¬1) التعليق: جزى الله هذا الملك خيرا على هذه المواقف، ما أحسن ما عمل مع ¬

(¬1) تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند (ص.35 - 36).

ابن أبي العز الحنفي (792 هـ)

هؤلاء الملاحدة الذين كان ضررهم على الأمة بالغا. فعسى الله أن يرزق المسلمين أمثال هؤلاء الأبطال. ابن أبي العز الحنفي (¬1) (792 هـ) الإمام العلامة صدر الدين، أبو الحسن علي بن علاء الدين علي بن محمد، المعروف بابن أبي العز، الأذرعي الأصل، الدمشقي الصالحي الحنفي. ولد في الثاني والعشرين من ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وسبع مائة. نشأ في ظل أسرة كان لها علو شأن في مجال العلم والدعوة، متزعمة للمذهب الحنفي في دمشق، فأبوه هو القاضي علاء الدين علي بن أبي العز الحنفي، خطيب جامع الأفرم، وجده هو القاضي شمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن أبي العز، كان من مشايخ الحنفية وأئمتهم، وهو أول من خطب بجامع الأفرم ودرس بالمعظمية والقليجية والظاهرية، وكذا أبو جده محمد بن أبي العز، كان مدرسا بالمرشدية، وكان فيه صلاح. أما عن مشايخه، فالمتتبع لكتاب 'شرح العقيدة الطحاوية' يجده كثير النقول عن الأئمة السلفيين كالإمام ابن القيم وشيخه ابن تيمية وكذا ابن كثير، وقد وصف هذا الأخير بأنه شيخه في أكثر من موضع من شرحه. له عدة مؤلفات منها: 'شرحه على العقيدة الطحاوية' و'التنبيه على مشكلات الهداية' و'النور اللامع في ما يعمل به في الجامع' و'رسالة في الاتباع' وغيرها. ¬

(¬1) إنباء الغمر (3/ 50) وشذرات الذهب (6/ 326) وهدية العارفين (1/ 726) وكشف الظنون (ص.1143).

موقفه من المبتدعة:

امتحن رحمه الله في أواخر حياته، عندما اعترض على ابن أيبك الشاعر الذي مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - بقصيدة لامية على وزن "بانت سعاد" فأنكر أمورا: منها التوسل به والقدح في عصمته وغير ذلك، فرفع الأمر إلى السلطان، وعقد له عدة مجالس مع فقهاء عصره، وسئل عما أراد بما كتب فقال: ما أردت إلا تعظيم جانب النبي - صلى الله عليه وسلم - وامتثال أمره، فحكم بحبسه. فبقي رحمه الله بعد هذه الواقعة ملازما بيته إلى سنة إحدى وتسعين وسبعمائة للهجرة، حيث أعيد إلى وظائفه بأمر من الأمير سيف الدين، فخطب بجامع الأفرم ودرس بالجوهرية. وفي سنة ثنتين وتسعيين وسبعمائة توفي الشيخ رحمه الله رحمة واسعة، ودفن بسفح قاسيون. موقفه من المبتدعة: قال رحمه الله في 'الاتباع': الواجب في مسائل النزاع الرد إلى الله والرسول؛ قال الله سبحانه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬1). والرد إلى الله الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول الرد إليه في حياته وإلى سنته بعد وفاته. وأهل التقليد لا يفعلون ذلك، بل يأخذ أحدهم بما يجد في كتب أصحاب ذلك الإمام الذي قلده، ولا يلتفت إلى قول من خالفه كائنا من كان. ونص ذلك الإمام والكتب عنده بمنزلة نص الشارع. وكثيرا ما يكون ذلك النص من كلام بعض الأصحاب في الفتاوى، ولم يكن لذلك ¬

(¬1) النساء الآية (59).

موقفه من الصوفية:

الإمام في تلك المسألة قول منقول. (¬1) موقفه من الصوفية: قال رحمه الله شارحا قول الإمام الطحاوي: ولا نفضل أحدا من الأولياء على أحد من الأنبياء عليه السلام ... يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على الاتحادية وجهلة المتصوفة، وإلا فأهل الاستقامة يوصون بمتابعة العلم ومتابعة الشرع. فقد أوجب الله على الخلق كلهم متابعة الرسل، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} إلى أن قال: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)} (¬2). قال أبو عثمان النيسابوري: من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة. وقال بعضهم: ما ترك بعضهم شيئا من السنة إلا لكبر في نفسه. والأمر كما قال: فإنه إذا لم يكن متبعا للأمر الذي جاء به الرسول كان يعمل بإرادة نفسه فيكون متبعا لهواه بغير هدى من الله، وهذا غش النفس، وهو من الكبر، فإنه شبيه بقول الذين قالوا: {قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ ¬

(¬1) (ص.20). (¬2) آل عمران الآية (31).

حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (¬1) وكثير من هؤلاء يظن أنه يصل برياسته واجتهاده في العبادة وتصفية نفسه إلى ما وصلت اليه الأنبياء من غير اتباع لطريقتهم، ومنهم من يظن أنه قد صار أفضل من الأنبياء! ومنهم من يقول إن الأنبياء والرسل إنما يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء! ويدعي لنفسه أنه خاتم الأولياء! ويكون ذلك العلم هو حقيقة قول فرعون، وهو أن هذا الوجود المشهود واجب بنفسه ليس له صانع مباين له، لكن هذا يقول: هو الله! وفرعون أظهر الإنكار بالكلية لكن كان فرعون في الباطن اعرف بالله منهم، فإنه كان مثبتا للصانع، وهؤلاء ظنوا أن الوجود المخلوق هو الوجود الخالق، كابن عربي وأمثاله! وهو لما رأى أن الشرع الظاهر لا سبيل الى تغييره قال: النبوة ختمت لكن الولاية لم تختم! وادعى من الولاية ما هو أعظم من النبوة وما يكون للأنبياء والمرسلين، وأن الأنبياء مستفيدون منها كما قال: مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي وهذا قلب للشريعة، فإن الولاية ثابتة للمؤمنين المتقين كما قال تعالى: {أَلَا إِن أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)} (¬2) والنبوة أخص من الولاية، ¬

(¬1) الأنعام الآية (124) .. (¬2) يونس الآيتان (62و63).

موقفه من الخوارج:

والرسالة أخص من النبوة. (¬1) - وقال رحمه الله: ويقول بعض الناس: الفقراء يسلم إليهم حالهم! وهذا كلام باطل بل الواجب عرض أفعالهم وأحوالهم على الشريعة المحمدية، فما وافقها قبل وما خالفها رد، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» وفي رواية: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (¬2) فلا طريقة إلا طريقة الرسول، ولا حقيقة إلا حقيقته، ولا شريعة إلا شريعته، ولا عقيدة إلا عقيدته، ولا يصل أحد من الخلق بعده إلى الله وإلى رضوانه وجنته وكرامته إلا بمتابعته باطنا وظاهرا. ومن لم يكن له مصدقا فيما أخبر ملتزما لطاعته فيما أمر في الأمور الباطنة التي في القلوب، والأعمال الظاهرة التي على الأبدان، لم يكن مؤمنا، فضلا عن أن يكون وليا لله تعالى، ولو طار في الهواء، ومشى على الماء، وأنفق من الغيب، وأخرج الذهب من الخشب، ولو حصل له من الخوارق ماذا عسى أن يحصل! فإنه لا يكون مع تركه الفعل المأمور وعزل المحظور إلا من أهل الأحوال الشيطانية المبعدة لصاحبها عن الله تعالى، المقربة الى سخطه وعذابه. (¬3) موقفه من الخوارج: قال رحمه الله في شرحه على العقيدة الطحاوية: ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب، ما لم يستحله، ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب ¬

(¬1) شرح الطحاوية (ص 492 - 493). (¬2) تقدم تخريجها في مواقف الشاطبي سنة (790هـ). (¬3) شرح الطحاوية (ص507).

لمن عمله. - ... يشير الشيخ رحمه الله بهذا الكلام إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب. واعلم -رحمك الله وإيانا- أن باب التكفير وعدم التكفير، باب عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم. فالناس فيه، في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم، على طرفين ووسط، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية. فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحدا، فتنفي التكفير نفيا عاما، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين، الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع، وفيهم من قد يظهر بعض ذلك حيث يمكنهم، وهم يتظاهرون بالشهادتين. وأيضا: فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة، ونحو ذلك، فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل كافرا مرتدا. والنفاق والردة مظنتها البدع والفجور، كما ذكره الخلال في كتاب السنة، بسنده إلى محمد بن سيرين، أنه قال: إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء، وكان يرى هذه الآية نزلت فيهم: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ

حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (¬1) ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنا لا نكفر أحدا بذنب، بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب، كما تفعله الخوارج. وفرق بين النفي العام ونفي العموم. والواجب إنما هو نفي العموم، مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب. ولهذا -والله اعلم- قيده الشيخ رحمه الله بقوله: ما لم يستحله، وفي قوله: ما لم يستحله، إشارة إلى أن مراده من هذا النفي العام لكل ذنب من الذنوب العملية لا العلمية. وفيه إشكال فإن الشارع لم يكتف من المكلف في العمليات بمجرد العمل دون العلم، ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل، وليس العمل مقصورا على عمل الجوارح، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح، وأعمال الجوارح تبع. إلا أن يضمن قوله: يستحله، بمعنى يعتقده، أو نحو ذلك. (¬2) وقال: فقوله: وأهل الكبائر من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم موحدون، رد لقول الخوارج والمعتزلة، القائلين بتخليد أهل الكبائر في النار. لكن الخوارج تقول بتكفيرهم، والمعتزلة بخروجهم عن الإيمان، لا بدخولهم في الكفر، بل لهم منزلة بين منزلتين، كما تقدم عند الكلام على قول الشيخ رحمه الله: ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله. (¬3) - وقال: فقد دل الكتاب والسنة على وجوب طاعة أولي الأمر، ما لم ¬

(¬1) الأنعام الآية (68). (¬2) (ص.316 - 317). (¬3) شرح الطحاوية (ص.370).

يأمروا بمعصية، فتأمل قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (¬1) كيف قال: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} ولم يقل: وأطيعوا أولي الأمر منكم، لأن أولي الأمر لا يفردون بالطاعة، بل يطاعون فيما هو طاعة لله ورسوله. وأعاد الفعل مع الرسول لأن من يطع الرسول فقد أطاع الله، فإن الرسول لا يأمر بغير الله، بل هو معصوم في ذلك، وأما ولي الأمر فقد يأمر بغير طاعة الله، فلا يطاع إلا فيما هو طاعة لله ورسوله. وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا، فلأنه يترتب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم، بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات ومضاعفة الأجور، فإن الله تعالى ما سلطهم علينا إلا لفساد أعمالنا، والجزاء من جنس العمل، فعلينا الاجتهاد في الاستغفار والتوبة وإصلاح العمل. قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (¬2) وقال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} (¬3) وقال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (¬4) وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ ¬

(¬1) النساء الآية (59). (¬2) الشورى الآية (30). (¬3) آل عمران الآية (165). (¬4) النساء الآية (79).

موقفه من المرجئة:

نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)} (¬1) فإذا أراد الرعية أن يتخلصوا من ظلم الأمير الظالم، فليتركوا الظلم. (¬2) موقفه من المرجئة: قال رحمه الله: اختلف الناس فيما يقع عليه اسم الإيمان اختلافاً كثيراً، فذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحق بن راهويه وسائر أهل الحديث وأهل المدينة رحمهم الله وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين: إلى أنه تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان. وذهب كثير من أصحابنا إلى ما ذكره الطحاوي رحمه الله: أنه الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان. ومنهم من يقول: إن الإقرار باللسان ركن زائد ليس بأصلي، وإلى هذا ذهب أبو منصور الماتريدي رحمه الله، ويروى عن أبي حنيفة رضي الله عنه. وذهب الكرّامية إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط، فالمنافقون عندهم مؤمنون كاملو الإيمان، ولكنهم يقولون بأنهم يستحقون الوعيد الذي أوعدهم الله به! وقولهم ظاهر الفساد. وذهب الجهم بن صفوان وأبو الحسن الصالحي أحدُ رؤساء القدرية - إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب! وهذا القول أظهر فساداً مما قبله! فإن لازمه أن فرعون وقومه كانوا مؤمنين، فإنهم عرفوا صدق موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام، ولم يؤمنوا بهما، ولهذا قال موسى لفرعون: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ¬

(¬1) الأنعام الآية (129). (¬2) المصدر نفسه (ص.381).

بصائر} (¬1). وقال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)} (¬2). وأهل الكتاب كانوا يعرفون النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يعرفون أبناءهم، ولم يكونوا مؤمنين به، بل كافرين به، معادين له، وكذلك أبو طالب عنده يكون مؤمناً، فإنه قال: ولقد علمتُ بأن دين محمد ... لولا الملامة أو حذار مسبَّة ... من خير أديان البرية دينا لوجدتَني سمحاً بذاك مبينا بل إبليس يكون عند الجهم مؤمناً كامل الإيمان! فإنه لم يجهل ربه، بل هو عارف به، {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36)} (¬3). {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} (¬4). {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)} (¬5). والكفر عند الجهم هو الجهل بالرب تعالى، ولا أحد أجهل منه بربه! فإنه جعله الوجود المطلق، وسلب عنه جميع صفاته، ولا جهل أكبر من هذا، فيكون كافراً بشهادته على نفسه! وبين هذه المذاهب مذاهب أخر، بتفاصيل وقيود، أعرضتُ عن ذكرها اختصاراً، ذكر هذه المذاهب أبو المعين النسفي في 'تبصرة الأدلة' وغيره. (¬6) ¬

(¬1) الإسراء الآية (102). (¬2) النمل الآية (14). (¬3) الحجر الآية (36). (¬4) الحجر الآية (39). (¬5) ص الآية (82). (¬6) شرح الطحاوية (ص.332 - 333).

وقال أيضاً: ... ولا خلاف بين أهل السنة أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل، وأعني بالقول: التصديق بالقلب والإقرار باللسان، وهذا الذي يُعنى به عند إطلاق قولهم: الإيمان قول وعمل. لكن هذا المطلوب من العباد: هل يشمله اسم الإيمان؟ أم الإيمان أحدُهما، وهو القول وحده، والعمل مغاير له لا يشمله اسم الإيمان عند إفراده بالذكر، وإن أطلق عليهما كان مجازاً؟ هذا محل النزاع. وقد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه: أنه عاص لله ورسوله، مستحق للوعيد، لكن فيمن يقول: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان مَن قال: لما كان الإيمان شيئا واحداً فإيماني كإيمان أبي بكر الصديق وعمر رضي الله عنهما! بل قال: كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبرائيل وميكائيل عليهم السلام!! وهذا غلوّ منه. فإن الكفر مع الإيمان كالعمى مع البصر، ولا شك أن البصراء يختلفون في قوة البصر وضعفه، فمنهم الأخفش والأعشى، ومن يرى الخط الثخين، دون الدقيق إلا بزجاجة ونحوها، ومن يرى عن قرب زائد على العادة، وآخر بضده. (¬1) وقال رحمه الله: وأما زيادة الإيمان من جهة الإجمال والتفصيل: فمعلوم أنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله، ولا يجب على كل أحد من الإيمان المفصل مما أخبر به الرسول ما يجب على من بلغه خبره، كما في حق النجاشي وأمثاله. وأما الزيادة بالعمل والتصديق المستلزم لعمل القلب والجوارح: فهو أكمل من التصديق الذي لا يستلزمه، فالعلم الذي يعمل به ¬

(¬1) شرح الطحاوية (333 - 334).

صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به، فإذا لم يحصل اللازم دل على ضعف الملزوم. ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ليس المخبر كالمعايِن» (¬1) وموسى عليه السلام لما أخبِر أن قومه عبدوا العجل لم يلق الألواح، فلما رآهم قد عبدوه ألقاها، وليس ذلك لشك موسى في خبر الله، لكن المخبَر، وإن جزم بصدق المخبِر، فقد لا يتصور المخبَر به نفسه، كما يتصوره إذا عاينه، كما قال إبراهيم الخليل صلوات الله على نبينا محمد وعليه: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (¬2). وأيضاً: فمن وجب عليه الحج والزكاة مثلا، يجب عليه من الإيمان أن يعلم ما أمِر به، ويؤمن بأن الله أوجب عليه ما لا يجب على غيره الإيمان به إلا مجملا، وهذا يجب عليه فيه الإيمان المفصل. وكذلك الرجل أول ما يُسلم، إنما يجب عليه الإقرار المجمل، ثم إذا جاء وقت الصلاة كان عليه أن يؤمن بوجوبها ويؤديها، فلم يتساو الناس فيما أمِروا به من الإيمان. ولا شك أن من قام بقلبه التصديق الجازم، الذي لا يقوى على معارضته شهوة ولا شبهة: لا تقع معه معصية، ولولا ما حصل له من الشهوة والشبهة أو إحداهما لما عصى، بل يشتغل قلبه ذلك الوقت بما يواقعه من المعصية، فيغيبُ عنه التصديق والوعيد فيعصي. ولهذا -والله أعلم- قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزني الزاني حين يزني وهو ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (1/ 215 - 271) والحاكم (2/ 321) وصححه ووافقه الذهبي. وصححه ابن حبان (14/ 96/6213) من حديث ابن عباس. (¬2) البقرة الآية (260).

مؤمن»، الحديث (¬1). فهو حين يزني يغيب عنه تصديقه بحرمة الزنا، وإن بقي أصل التصديق في قلبه، ثم يعاوده. فإن المتقين كما وصفهم الله بقوله: {إِن الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)} (¬2). قال ليث عن مجاهد: هو الرجل يَهُمّ بالذنب فيذكر الله فيدعه. والشهوة والغضب مبدأ السيئات، فإذا أبصر رجع. ثم قال تعالى: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)} (¬3)، أي: وإخوان الشياطين تمدهم الشياطين في الغي ثم لا يقصرون. قال ابن عباس: لا الإنس تقصر عن السيئات، ولا الشياطين تمسك عنهم. فإذا لم يبصر بقي قلبه في عمى، والشيطان يمده في غيِّه، وإن كان التصديق في قلبه لم يكذب، فذلك النور والإبصار، وتلك الخشية والخوف تخرج من قلبه. وهذا كما أن الإنسان يغمض عينه فلا يرى، وإن لم يكن أعمى، فكذلك القلب، بما يغشاه من رَيْن الذنوب، لا يبصر الحق وإن لم يكن أعمى كعمى الكافر. وجاء هذا المعنى مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا زنا العبد نُزع منه الإيمان، فإذا تاب أعيد إليه». (¬4) إذا كان النزاع في هذه المسألة بين أهل السنة نزاعاً لفظياً، فلا محذور ¬

(¬1) تقدم تخريجه ضمن مواقف الحسن البصري سنة (110هـ). (¬2) الأعراف الآية (201). (¬3) الأعراف الآية (202). (¬4) أخرجه: أبو داود (5/ 66/4690) والحاكم (1/ 22) من حديث أبي هريرة وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وصححه أيضاً الحافظ في الفتح (12/ 72).

فيه، سوى ما يحصل من عدوان إحدى الطائفتين على الأخرى والافتراق بسبب ذلك، وأن يصير ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام المذموم من أهل الإرجاء ونحوهم، وإلى ظهور الفسق والمعاصي، بأن يقول: أنا مؤمن مسلم حقا كامل الإيمان والإسلام ولي من أولياء الله! فلا يبالي بما يكون منه من المعاصي. وبهذا المعنى قالت المرجئة: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله! وهذا باطل قطعا. (¬1) وقال أيضاً: والأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب والسنة والآثار السلفية كثيرة جدا منها: قوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (¬2). {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} (¬3). {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا} (¬4). {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} (¬5). {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (¬6). وكيف يقال في هذه الآية والتي قبلها إن الزيادة باعتبار زيادة ¬

(¬1) شرح الطحاوية (ص.335). (¬2) الأنفال الآية (2). (¬3) مريم الآية (76). (¬4) المدثر الآية (31). (¬5) الفتح الآية (4). (¬6) آل عمران الآية (173).

المؤمن به؟ فهل في قول الناس: {قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} زيادة مشروع؟ وهل في إنزال السكينة على قلوب المؤمنين زيادة مشروع؟ وإنما أنزل الله السكينة في قلوب المؤمنين مرجعهم من الحديبية ليزدادوا إيماناً ويقيناً، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} (¬1). وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)} (¬2) ... وقد وصف النبي - صلى الله عليه وسلم -، النساء بنقصان العقل والدين (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» (¬4). والمراد نفي الكمال، ونظائره كثيرة، وحديث شُعب الإيمان، وحديث الشفاعة، وأنه يخرج من النار من في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، فكيف يقال بعد هذا: إن إيمان أهل السموات والأرض سواء؟! وإنما التفاضل بينهم بمعان أخر غير الإيمان؟! وكلام الصحابة رضي الله عنهم ¬

(¬1) آل عمران الآية (167). (¬2) التوبة الآيتان (124 و125). (¬3) أخرجه: البخاري (1/ 534/304) ومسلم (1/ 87/80) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وفي الباب عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم. (¬4) تقدم تخريجه في مواقف شيخ الإسلام ابن تيمية سنة (728هـ).

عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي (795 هـ)

في هذا المعنى كثير أيضا. منه: قول أبي الدرداء رضي الله عنه: "من فِقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه، ومن فِقه العبد أن يعلم أيزداد هو أم ينتقص" (¬1)، وكان عمر رضي الله عنه يقول لأصحابه: "هلموا نزدد إيماناً"، فيذكرون الله تعالى عز وجل. وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول في دعائه: "اللهم زدنا إيماناً ويقيناً وفقهاً" (¬2). وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول لرجل: "اجلس بنا نؤمن ساعة" (¬3). ومثله عن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه. وصح عن عمار ابن ياسر رضي الله عنه أنه قال: "ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان: إنصاف من نفسه، والإنفاق من إقتار، وبذل السلام للعالم" ذكره البخاري رحمه الله في صحيحه (¬4). وفي هذا المقدار كفاية وبالله التوفيق. (¬5) عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي (¬6) (795 هـ) عبد الرحمن بن أحمد بن رجب البغدادي الدمشقي الحنبلي، الشيخ المحدث الحافظ الشهير بابن رجب. ولد ببغداد سنة ست وسبعمائة. سمع من محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن الخباز، وإبراهيم بن داود العطار وأبي الفتح ¬

(¬1) تقدم تخريجه ضمن مواقفه سنة (32هـ). (¬2) تقدم ضمن مواقفه سنة (32هـ). (¬3) تقدم ضمن مواقفه سنة (18هـ). (¬4) تقدم ضمن مواقفه سنة (37هـ). تخرج الموقوف منه أما المرفوع متقدم ضمن مواقف ابن القيم سنة (751هـ). (¬5) شرح الطحاوية (ص.342 - 344). (¬6) الدرر الكامنة (2/ 321) والبدر الطالع (1/ 328) وإنباء الغمر بأبناء العمر (3/ 175 - 176) وشذرات الذهب (6/ 339) والأعلام (3/ 295) والرد الوافر (106) والسحب الوابلة (2/ 474 - 476).

موقفه من المبتدعة:

الميدومي وغيرهم. قال ابن حجي: أتقن الفن -أي فن الحديث- وصار أعرف أهل عصره بالعلل وتتبع الطرق. قال ابن ناصر الدين: أحد الأئمة الزهاد والعلماء العباد. وقال ابن حجر: مهر في فنون الحديث أسماء ورجالا، وعللا وطرقا واطلاعا على معانيه، صنف شرح الترمذي فأجاد فيه في نحو عشرة أسفار وشرح قطعة كبيرة من البخاري وشرح الأربعين للنووي، وعمل وظائف الأيام سماه 'اللطائف' وعمل طبقات الحنابلة ذيلا على طبقات ابن أبي يعلى. وقال العليمي: لازم مجالس الشيخ شمس الدين ابن القيم إلى أن مات، وكان أحد الأئمة الكبار، والحفاظ والعلماء والزهاد والأخيار، وكانت مجالس تذكيره للقلوب صادعة، وللناس عامة مباركة نافعة، اجتمعت الفرق عليه ومالت القلوب بالمحبة إليه، وزهده وورعه فائق الحد. توفي رحمه الله سنة خمس وتسعين وسبعمائة. موقفه من المبتدعة: له من الآثار السلفية: 1 - 'فضل علم السلف على علم الخلف': وهو عبارة عن رسالة صغيرة طبعت محققة في الكويت. 2 - 'الكلام على لا إله إلا الله' طبع، وهو عبارة كذلك عن رسالة صغيرة. 3 - 'صفة النار' طبع. 4 - 'فتح الباري شرح صحيح البخاري'، طبع محققا في مصر. قال عنه ابن عبد الهادي: (وشرح قطعة من البخاري إلى كتاب الجنائز، وهي من

عجائب الدهر ولو كمل كان من العجائب). له مواقف مشرفة منها على سبيل المثال ما ذكره في جامع العلوم والحكم: - قال عقب حديث: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (¬1): هذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها كما أن حديث: «الأعمال بالنيات» (¬2) ميزان للأعمال في باطنها، فكما أن كل عمل لا يراد به وجه الله تعالى فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله، فهو مردود على عامله، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله، فليس من الدين في شيء. (¬3) - وقال عند شرح حديث «الدين النصيحة» (¬4): ومن أنواع النصح لله تعالى وكتابه ورسوله -وهو مما يختص به العلماء- رد الأهواء المضلة بالكتاب والسنة، وبيان دلالتهما على ما يخالف الأهواء كلها، وكذلك رد الأقوال الضعيفة من زلات العلماء، وبيان دلالة الكتاب والسنة على ردها، ومن ذلك بيان ما صح من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما لم يصح منه بتبين حال رواته ومن تقبل رواياته منهم ومن لا تقبل، وبيان غلط من غلط من ثقاتهم ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (6/ 240) والبخاري (5/ 377/2697) ومسلم (3/ 1343/1718) وأبو داود (5/ 12/4606) وابن ماجه (1/ 7/14) كلهم من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا. (¬2) أخرجه: أحمد (1/ 25) والبخاري (1/ 11/1) ومسلم (3/ 1515 - 1516/ 1907) وأبو داود (2/ 651 - 652/ 2201) والترمذي (4/ 154/1647) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (1/ 62 - 63/ 75) وابن ماجه (2/ 1413/4227) من حديث عمر رضي الله عنه. (¬3) جامع العلوم والحكم (1/ 176). (¬4) انظر تخريجه في مواقف محمد بن نصر المروزي سنة (294هـ).

الذين تقبل روايتهم. (¬1) - وقال في شرح حديث العرباض بن سارية (¬2): وفي أمره - صلى الله عليه وسلم - باتباع سنته، وسنة خلفائه الراشدين بعد أمره بالسمع والطاعة لولاة الأمور عموما دليل على أن سنة الخلفاء الراشدين متبعة، كاتباع سنته، بخلاف غيرهم من ولاة الأمور. (¬3) - وقال أيضا: فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كل بدعة ضلالة» من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين، وهو شبيه بقوله: «من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد» (¬4)، فكل من أحدث شيئا، ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه، فهو ضلالة، والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات، أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة. وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع، فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية. فمن ذلك: قول عمر رضي الله عنه لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد، وخرج ورآهم يصلون كذلك فقال: نعمت البدعة هذه. وروي عنه أنه قال: إن كانت هذه بدعة، فنعمت البدعة. وروي أن أبي بن كعب قال له: إن هذا لم يكن، فقال عمر: قد علمت، ولكنه حسن. ومراده أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا ¬

(¬1) جامع العلوم والحكم (1/ 223 - 224). (¬2) انظر تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ). (¬3) جامع العلوم والحكم (2/ 121). (¬4) تقدم تخريجه قريباً.

الوقت، ولكن له أصول من الشريعة يرجع إليها، فمنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحث على قيام رمضان، ويرغب فيه (¬1)، وكان الناس في زمنه يقومون في المسجد جماعات متفرقة ووحدانا، وهو - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه في رمضان غير ليلة، ثم امتنع من ذلك معللا بأنه خشي أن يكتب عليهم، فيعجزوا عن القيام به (¬2)، وهذا قد أمن بعده - صلى الله عليه وسلم -. وروي عنه أنه كان يقوم بأصحابه ليالي الأفراد في العشر الأواخر (¬3). ومنها أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر باتباع سنة خلفائه الراشدين، وهذا قد صار من سنة خلفائه الراشدين، فإن الناس اجتمعوا عليه في زمن عمر وعثمان وعلي. ومن ذلك: أذان الجمعة الأول زاده عثمان لحاجة الناس إليه، وأقره علي، واستمر عمل المسلمين عليه، وروي عن ابن عمر أنه قال: هو بدعة، ولعله أراد ما أراد أبوه في قيام رمضان. ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (2/ 281) والبخاري (4/ 314/2008 - 2009) ومسلم (1/ 523/759 [174]) وأبو داود (2/ 102 - 103/ 1371) والترمذي (3/ 171 - 172/ 808) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (3/ 223/1601 - 1602) كلهم من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة ثم يقول: (من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه). وقد ورد من حديث عائشة رضي الله عنها في قصة التأخر عن الناس وفي آخره (وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرغبهم في قيام شهر رمضان) الحديث، أخرجه ابن حبان (الإحسان 1/ 353 - 354/ 141). (¬2) أخرجه: البخاري (3/ 12 - 13/ 1129) ومسلم (1/ 524/761) وأبو داود (2/ 104/1373) والنسائي (3/ 223 - 224/ 1603) كلهم من طريق عروة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى في المسجد ذات ليلة ... فذكره. (¬3) أخرجه: أبو داود (2/ 105/1375). الترمذي (3/ 169/806) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". النسائي (3/ 93/1363). ابن ماجه (1/ 420 - 421/ 1327) كلهم من طريق جبير بن نفير عن أبي ذر قال: صمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث.

موقفه من الصوفية:

ومن ذلك جمع المصحف في كتاب واحد، توقف فيه زيد بن ثابت، وقال لأبي بكر وعمر: كيف تفعلان ما لم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ ثم علم أنه مصلحة، فوافق على جمعه، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بكتابة الوحي (¬1)، ولا فرق بين أن يكتب مفرقا أو مجموعا، بل جمعه صار أصلح. وكذلك جمع عثمان الأمة على مصحف واحد وإعدامه لما خالفه خشية تفرق الأمة، وقد استحسنه علي وأكثر الصحابة، وكان ذلك عين المصلحة. (¬2) موقفه من الصوفية: له كتاب: 'نزهة الأسماع في مسألة السماع'. ومما جاء فيه: أن يقع استماع الغناء بآلات اللهو أو بدونها على وجه التقرب إلى الله تعالى وتحريك القلوب إلى محبته، والأنس به والشوق إلى لقائه، وهذا هو الذي يدعيه كثير من أهل السلوك ومن يتشبه بهم ممن ليس منهم، وإنما يستتر بهم ويتوصل بذلك إلى بلوغ غرض نفسه من نيل لذته، فهذا المتشبه بهم مخادع ملبس، ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (2/ 162،192) وأبو داود (4/ 60 - 61/ 3646) والحاكم (1/ 105 - 106) وقال: "رواة هذا الحديث قد احتجا بهم عن آخرهم غير الوليد هذا، وأظنه الوليد بن أبي الوليد الشامي، فإنه الوليد بن عبد الله. وقد علمت على أبيه الكتبة. فإن كان كذلك فقد احتج مسلم به وقد صحت الرواية عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه قال: قيدوا العلم بالكتاب" ووافقه الذهبي. وقال العراقي كما في تخريج الإحياء (4/ 1804/2857): "رواه أبو داود بنحوه بإسناد صحيح". وقال الحافظ في الفتح: (1/ 276 - 277): بعد عزوه لأحمد وأبي داود: "ولهذا طرق أخرى عن عبد الله بن عمرو يقوي بعضها بعضا" كلهم من طريق الوليد بن عبد الله عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أريد حفظه ... الحديث وفيه: «اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق» وفي الباب أحاديث في كتابة الوحي غير هذا. (¬2) جامع العلوم والحكم (2/ 128 - 129).

وفساد حاله أظهر من أن يخفى على أحد؛ وأما الصادقون في دعواهم ذلك -وقليل ما هم- فإنهم ملبوس عليهم حيث تقربوا إلى الله بما لم يشرعه الله، واتخذوا دينا لم يأذن الله فيه، فلهم نصيب ممن قال الله فيه: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} (¬1). والمكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق باليد، كذلك قال غير واحد من السلف. وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (¬2). فإنه إنما يتقرب إلى الله بما يشرع التقرب به إليه على لسان رسوله، فأما ما نهي عنه فالتقرب به إليه مضادة لله في أمره. قال القاضي أبو الطيب الطبري رحمه الله في كتابه في السماع: (اعتقاد هذه الطائفة مخالف لإجماع المسلمين، فإنه ليس فيهم من جعل السماع دينا وطاعة، ولا أرى إعلانه في المساجد والجوامع، وحيث كان من البقاع الشريفة والمشاهد الكريمة، وكان مذهب هذه الطائفة مخالفا لما اجتمعت عليه العلماء؛ ونعوذ بالله من سوء الفتن). انتهى ما ذكره، ولا ريب أن التقرب إلى الله بسماع الغناء الملحن لا سيما مع آلات اللهو مما يعلم بالضرورة من دين الإسلام بل ومن سائر شرائع المسلمين أنه ليس مما يتقرب به إلى الله ولا ¬

(¬1) الأنفال الآية (35). (¬2) الشورى الآية (21).

موقفه من الجهمية:

مما تزكى به النفوس وتطهر به، فإن الله تعالى شرع على ألسنة الرسل كلها ما تزكو به النفوس وتطهر من أدناسها وأوضارها، ولم يشرع على لسان أحد من الرسل في ملة من الملل أشياء من ذلك، وإنما يأمر بتزكية النفوس بذلك من لا يتقيد بمتابعة الرسل من أتباع الفلاسفة، كما يأمرون بعشق الصور، وذلك كله مما تحيى به النفوس الأمارة بالسوء لما لها فيه من الحظ، ويقوى به الهوى وتموت به القلوب المتصلة بعلام الغيوب، وتبعد به عنه، فغلط هؤلاء واشتبه عليهم حظوظ النفوس وشهواتها بأقوات القلوب الطاهرة والأرواح الزكية المعلقة بالمحل الأعلى. واشتبه الأمر في ذلك أيضا على طوائف من المسلمين بعد انقراض القرون الفاضلة. (¬1) موقفه من الجهمية: ذكر في رسالته اللطيفة 'فضل علم السلف على الخلف' أبحاثا منيفة منها قوله وهو يتحدث عن الكلام في الصفات: ومن ذلك أعني محدثات الأمور: ما أحدثه المعتزلة ومن حذا حذوهم من الكلام في ذات الله وصفاته بأدلة العقول، وهو أشد خطرا من الكلام في القدر، لأن الكلام في القدر كلام في أفعاله وهذا كلام في ذاته وصفاته. وينقسم هؤلاء إلى قسمين: أحدهما: من نفى كثيرا مما ورد به الكتاب والسنة من ذلك لاستلزامه عنده التشبيه بالمخلوقين كقول المعتزلة: لو رؤي لكان جسما، ووافقهم من ¬

(¬1) نزهة الأسماع (ص 80 - 82).

نفى الاستواء فنفوا لهذه الشبهة. وهذا طريق المعتزلة والجهمية. وقد اتفق السلف على تبديعهم وتضليلهم. وقد سلك سبيلهم في بعض الأمور كثير ممن انتسب إلى السنة والحديث من المتأخرين. والثاني: من رام إثبات ذلك بأدلة العقول التي لم يرد بها الأثر، ورد على أولئك مقالتهم، كما هي طريقة مقاتل بن سليمان ومن تابعه كنوح بن أبي مريم، وتابعه طائفة من المحدثين قديما وحديثا، وهو أيضا مسلك الكرامية، فمنهم من أثبت لإثبات هذه الصفات الجسم إما لفظا وإما معنى. ومنهم من أثبت لله صفات لم يأت بها الكتاب والسنة كالحركة وغير ذلك مما هي عنده لازم الصفات الثابتة. وقد أنكر السلف على مقاتل قوله في رده على جهم بأدلة العقل وبالغوا في الطعن عليه، ومنهم من استحل قتله، منهم مكي بن إبراهيم شيخ البخاري وغيره. والصواب ما عليه السلف الصالح من إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تفسير لها ولا تكييف ولا تمثيل، ولا يصح عن أحد منهم خلاف ذلك البتة، خصوصا الإمام أحمد، ولا خوض في معانيها ولا ضرب مثل من الأمثال لها. وإن كان بعض من كان قريبا من زمن الإمام أحمد فيهم من فعل شيئا من ذلك اتباعا لطريقة مقاتل، فلا يقتدى به في ذلك، إنما الاقتداء بأئمة الإسلام كابن المبارك ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد ونحوهم.

موقفه من الخوارج:

وكل هؤلاء لا يوجد في كلامهم شيء من جنس كلام المتكلمين فضلا عن كلام الفلاسفة، ولم يدخل ذلك في كلام من سلم من قدح وجرح. وقد قال أبو زرعة الرازي: كل من كان عنده علم فلم يصن علمه واحتاج في نشره إلى شيء من الكلام فلستم منه. (¬1) موقفه من الخوارج: - قال رحمه الله: وهذه المسائل -أعني مسائل الإسلام والإيمان والكفر والنفاق- مسائل عظيمة جدا، فإن الله عز وجل علق بهذه الأسماء السعادة، والشقاوة، واستحقاق الجنة والنار، والاختلاف في مسمياتها أول اختلاف وقع في هذه الأمة، وهو خلاف الخوارج للصحابة، حيث أخرجوا عصاة الموحدين من الإسلام بالكلية، وأدخلوهم في دائرة الكفر وعاملوهم معاملة الكفار، واستحلوا بذلك دماء المسلمين وأموالهم. (¬2) - وقال: وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمر بقتال الخوارج وقتلهم. وقد اختلف العلماء في حكمهم. فمنهم من قال: هم كفار، فيكون قتلهم لكفرهم. ومنهم من قال: إنما يقتلون لفسادهم في الأرض بسفك دماء المسلمين وتكفيرهم لهم، وهو قول مالك وطائفة من أصحابنا، وأجازوا الأبتداء بقتالهم والإجهاز على جريحهم. ومنهم من قال: إن دعوا إلى ما هم عليه، قوتلوا، وإن أظهروه ولم ¬

(¬1) فضل علم السلف (28 - 31). (¬2) جامع العلوم والحكم (1/ 114).

موقفه من المرجئة:

يدعوا إليه لم يقاتلوا، وهو نص عن أحمد وإسحاق، وهو يرجع إلى قتال من دعا إلى بدعة مغلظة. ومنهم من لم ير البداءة بقتالهم حتى يبدءوا بقتالنا، وإنما يبيح قتالهم من سفك دماء ونحوه، كما روي عن على رضي الله عنه (¬1)، وهو قول الشافعي وكثير من أصحابنا. (¬2) موقفه من المرجئة: - قال في جامع العلوم والحكم عند شرحه لحديث جبريل (¬3): فإن قيل: فقد فرق النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث بين الإسلام والإيمان، وجعل الأعمال كلها من الإسلام لا من الإيمان، والمشهور عن السلف وأهل الحديث أن الإيمان: قول وعمل ونية، وأن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان؛ وحكى الشافعي على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم. وأنكر السلف على من أخرج الأعمال عن الإيمان إنكارا شديدا. وممن أنكر ذلك على قائله، وجعله قولا محدثا: سعيد بن جبير، وميمون بن مهران، وقتادة، وأيوب السختياني، وإبراهيم النخعي، والزهري، ويحيى بن أبي كثير، وغيرهم. وقال الثوري: هو رأي محدث، أدركنا الناس على غيره (¬4). وقال ¬

(¬1) تقدم مرارا. (¬2) جامع العلوم والحكم (1/ 328). (¬3) تقدم تخريجه في مواقف محمد بن أسلم الطوسي سنة (242هـ). (¬4) تقدم ضمن مواقفه سنة (161هـ).

الأوزاعي: كان من مضى ممن سلف لا يفرقون بين الإيمان والعمل. (¬1) وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أهل الأمصار: أما بعد، فإن للإيمان فرائض وشرائع وحدودا وسننا، فمن استكملها، استكمل الإيمان. ومن لم يستكملها، لم يستكمل الإيمان، ذكره البخاري في صحيحه. (¬2) قيل: الأمر على ما ذكره، وقد دل على دخول الأعمال في الإيمان قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (¬3). وفي الصحيحين عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لوفد عبد القيس: «آمركم بأربع: الإيمان بالله، وهل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس» (¬4). وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستون شعبة، فأفضلها: قول لا إله إلا الله، ¬

(¬1) تقدم ضمن مواقفه سنة (157هـ). (¬2) تقدم ضمن مواقف عمر بن عبد العزيز سنة (101هـ). (¬3) الأنفال الآيات (2 - 4). (¬4) تقدم تخريجه ضمن مواقف ابن الصلاح سنة (643هـ).

وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» (¬1) ولفظه لمسلم. وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» (¬2). فلولا أن ترك هذه الكبائر من مسمى الإيمان، لما انتفى اسم الإيمان عن مرتكب شيء منها، لأن الاسم لا ينتفي إلا بانتفاء بعض أركان المسمى أو واجباته. وأما وجه الجمع بين هذه النصوص وبين حديث سؤال جبريل عليه السلام عن الإسلام والإيمان، وتفريق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما، وإدخاله الأعمال في مسمى الإسلام دون مسمى الإيمان، فإنه يتضح بتقرير أصل، وهو أن من الأسماء ما يكون شاملا لمسميات متعددة عند إفراده وإطلاقه، فإذا قرن ذلك الاسم بغيره، صار دالا على بعض تلك المسميات، والاسم المقرون به دال على باقيها، وهذا كاسم الفقير والمسكين، فإذا أفرد أحدهما، دخل فيه كل من هو محتاج، فإذا قرن أحدهما بالآخر، دل أحد الاسمين على بعض أنواع ذوي الحاجات، والآخر على باقيها، فهكذا اسم الإسلام والإيمان: إذا أفرد أحدهما، دخل فيه الآخر، ودل بانفراده على ما يدل عليه الآخر بانفراده، فإذا قرن بينهما، دل أحدهما على بعض ما يدل عليه بانفراده، ودل الآخر على الباقي. (¬3) ¬

(¬1) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي إسحاق الفزاري سنة (186هـ). (¬2) تقدم تخريجه ضمن مواقف الحسن البصري سنة (110هـ). (¬3) جامع العلوم والحكم (1/ 104 - 106).

- وقال رحمه الله في فتح الباري شرح صحيح البخاري: وأكثر العلماء قالوا: هو قول وعمل. وهذا كله إجماع من السلف وعلماء أهل الحديث. وقد حكى الشافعي إجماع الصحابة والتابعين عليه، وحكى أبو ثور الإجماع عليه أيضا. وقال الأوزاعي: كان من مضى ممن سلف لا يفرقون بين الإيمان والعمل، وحكاه غير واحد من سلف العلماء عن أهل السنة والجماعة. وممن حكى ذلك عن أهل السنة والجماعة: الفضيل بن عياض، ووكيع بن الجراح. وممن روي عنه أن الإيمان قول وعمل: الحسن، وسعيد بن جبير، وعمر بن عبد العزيز، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، والزهري، وهو قول الثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي ثور، وغيرهم، حتى قال كثير منهم: إن الرقبة المؤمنة لا تجزىء في الكفارة حتى يؤخذ منها الإقرار وهو الصلاة والصيام، منهم: الشعبي، والنخعي، وأحمد في رواية. وخالف في ذلك طوائف من علماء أهل الكوفة والبصرة وغيره، وأخرجوا الأعمال من الإيمان وقالوا: الإيمان: المعرفة مع القول. وحدث بعدهم من يقول: المعرفة خاصة، ومن يقول: الإيمان: القول خاصة. والبخاري عبر عنه بأنه: قول وفعل. والفعل: من الناس من يقول: هو مرادف للعمل.

ومنهم من يقول: هو أعم من العمل. فمن هؤلاء من قال: الفعل يدخل فيه القول وعمل الجوارح، والعمل لا يدخل فيه القول عند الإطلاق. (¬1) وقال فيه أيضا: وقد تلا البخاري الآيات التي فيها ذكر زيادة الإيمان، وقد استدل بها على زيادة الإيمان أئمة السلف قديما، منهم: عطاء بن أبي رباح فمن بعده. وتلا البخاري -أيضا- الآيات التي ذكر فيها زيادة الهدى؛ فإن المراد بالهدى هنا: فعل الطاعات كما قال تعالى بعد وصف المتقين بالإيمان بالغيب وإقام الصلاة والإنفاق مما رزقهم وبالإيمان بما أنزل إلى محمد وإلى من قبله وباليقين بالآخرة، ثم قال: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} (¬2)، فسمى ذلك كله هدى، فمن زادت طاعاته فقد زاد هداه. ولما كان الإيمان يدخل فيه المعرفة بالقلب والقول والعمل كله كانت: زيادته بزيادة الأعمال، ونقصانه بنقصانها. وقد صرح بذلك كثير من السلف فقالوا: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. فأما زيادة الإيمان بزيادة القول ونقصانه بنقصانه: فهو كالعمل بالجوارح -أيضا-؛ فإن من زاد ذكره لله وتلاوته لكتابه زاد إيمانه، ومن ترك الذكر الواجب بلسانه نقص إيمانه. (¬3) ¬

(¬1) (1/ 5 - 6). (¬2) البقرة الآية (5). (¬3) المصدر السابق (1/ 8 - 9).

موقفه من القدرية:

وقال: واليقين: هو العلم الحاصل للقلب بعد النظر والاستدلال، فيوجب قوم التصديق حتى ينفي الريب، ويوجب طمأنينة القلب بالإيمان وسكونه وارتياحه به، وقد جعله ابن مسعود الإيمان كله. وكذا قال الشعبي أيضا. وهذا مما يتعلق به من يقول: إن الإيمان هو مجرد التصديق؛ حيث جعل اليقين: الإيمان كله، فحصره في اليقين؛ ولكن لم يرد ابن مسعود أن ينفي الأعمال من الإيمان؛ إنما مراده: أن اليقين هو أصل الإيمان كله، فإذا أيقن القلب بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر انبعثت الجوارح كلها للاستعداد للقاء الله تعالى بالأعمال الصالحة فنشأ ذلك كله عن اليقين. قال الحسن البصري: ما طلبت الجنة إلا باليقين، ولا هرب من النار إلا باليقين، ولا أديت الفرائض إلا باليقين، ولا صبر على الحق إلا باليقين. وقال سفيان الثوري: لو أن اليقين وقع في القلب كما ينبغي لطارت القلوب اشتياقا إلى الجنة وخوفا من النار. (¬1) موقفه من القدرية: قال رحمه الله: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فلو أن الخلق جميعا أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله، لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك، لم يقدروا عليه» (¬2). هذه رواية الإمام أحمد، ورواية الترمذي بهذا المعنى أيضا، والمراد: أن ما يصيب العبد في دنياه مما يضره أو ينفعه، فكله مقدر ¬

(¬1) المصدر السابق (1/ 15). (¬2) تقدم تخريجه في مواقف أبي عثمان الصابوني سنة (449هـ).

عليه، ولا يصيب العبد إلا ما كتب له من ذلك في الكتاب السابق، ولو اجتهد على ذلك الخلق كلهم جميعا. وقد دل القرآن على مثل هذا في قوله عزوجل: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} (¬1)، وقوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} (¬2)، وقوله: {قل لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} (¬3). وخرج الإمام أحمد من حديث أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن لكل شيء حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه». (¬4) وخرج أبو داود وابن ماجه من حديث زيد بن ثابت، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معنى ذلك أيضا. واعلم أن مدار جميع هذه الوصية على هذا الأصل، وما ذكر قبله وبعده، فهو متفرع عليه، وراجع إليه، فإن العبد إذا علم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له من خير وشر، ونفع وضر، وأن اجتهاد الخلق كلهم على خلاف المقدور غير مفيد البتة، علم حينئذ أن الله وحده هو الضار النافع، المعطي المانع، فأوجب ¬

(¬1) التوبة الآية (51). (¬2) الحديد الآية (22). (¬3) آل عمران الآية (154). (¬4) رواه أحمد (6/ 441) قال الهيثمي (7/ 197): "رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات، ورواه الطبراني في الأوسط".

ذلك للعبد توحيد ربه عزوجل، وإفراده بالطاعة، وحفظ حدوده، فإن المعبود إنما يقصد بعبادته جلب المنافع ودفع المضار، ولهذا ذم الله من يعبد من لا ينفع ولا يضر، ولا يغني عن عابده شيئا، فمن علم أنه لا ينفع ولا يضر، ولا يعطي ولا يمنع غير الله، أوجب له ذلك إفراده بالخوف والرجاء والمحبة والسؤال والتضرع والدعاء، وتقديم طاعته على طاعة الخلق جميعا، وأن يتقي سخطه، ولو كان فيه سخط الخلق جميعا، وإفراده بالاستعانة به، والسؤال له، وإخلاص الدعاء له في حال الشدة وحال الرخاء، بخلاف ما كان المشركون عليه من إخلاص الدعاء له عند الشدائد، ونسيانه في الرخاء، ودعاء من يرجون نفعه من دونه، قال الله عز وجل: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} (¬1). قوله - صلى الله عليه وسلم -: «واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا» يعني: أن ما أصاب العبد من المصائب المؤلمة المكتوبة عليه إذا صبر عليها، كان له في الصبر خير كثير. وفي رواية عمر مولى غفرة وغيره عن ابن عباس زيادة أخرى قبل هذا الكلام، وهي: «فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا في اليقين، فافعل، وإن لم ¬

(¬1) الزمر الآية (38).

تستطع، فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا». (¬1) وفي رواية أخرى من رواية علي بن عباس عن أبيه، لكن إسنادها ضعيف، زيادة أخرى بعد هذا، وهي: قلت: يا رسول الله، كيف أصنع باليقين؟ قال: «أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، فإذا أنت أحكمت باب اليقين» (¬2). ومعنى هذا أن حصول اليقين للقلب بالقضاء السابق والتقدير الماضي يعين العبد على أن ترضى نفسه بما أصابه، فمن استطاع أن يعمل في اليقين بالقضاء والقدر على الرضا بالمقدور، فليفعل، فإن لم يستطع الرضا، فإن في الصبر على المكروه خيرا كثيرا. فهاتان درجتان للمؤمن بالقضاء والقدر في المصائب: إحداهما: أن يرضى بذلك، وهذه درجة عالية رفيعة جدا، قال الله عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (¬3). قال علقمة: هي المصيبة تصيب الرجل، فيعلم أنها من عند الله، فيسلم لها ويرضى. وخرج الترمذي من حديث أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله إذا أحب ¬

(¬1) أخرجه البيهقي في الشعب (7/ 203/10000) وهناد في الزهد (1/ 304/536) وله طريق آخر عن ابن عباس من رواية عبد الملك بن عمير عنه أخرجها الحاكم (3/ 541) وقال: "إن الشيخين رضي الله عنهما لم يخرجا شهاب بن خراش ولا القداح في الصحيحين ... " وأقره الذهبي وزاد: "لأن القداح قال أبو حاتم: متروك، والآخر مختلف فيه، وعبد الملك لم يسمع من ابن عباس فيما أرى". انظر الضعيفة (5107). (¬2) انظر الذي قبله. (¬3) التغابن الآية (11).

قوما ابتلاهم، فمن رضي، فله الرضا، ومن سخط فله السخط» (¬1)، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه: «أسألك الرضا بعد القضاء» (¬2). ومما يدعو المؤمن إلى الرضا بالقضاء تحقيق إيمانه بمعنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له: إن أصابته سراء شكر، كان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، كان خيرا له، وليس ذلك إلا للمؤمن» (¬3). وجاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسأله أن يوصيه وصية جامعة موجزة، فقال: «لا تتهم الله في قضائه» (¬4). قال أبو الدرداء: إن الله إذا قضى قضاء أحب أن يرضى به، وقال ابن مسعود: إن الله بقسطه وعدله جعل الروح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط، فالراضي لا يتمنى غير ما هو عليه من شدة ورخاء كذا روي عن عمر وابن مسعود وغيرهما. وقال عمر بن عبد العزيز: أصبحت ومالي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر. فمن وصل إلى هذه الدرجة، كان عيشه كله في نعيم وسرور، قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (4/ 519/2396) وابن ماجه (2/ 1338/4031). وقال الترمذي: "حسن غريب". (¬2) أخرجه النسائي (3/ 62/1304) وصححه ابن حبان (5/ 304 - 305/ 1971) والحاكم (1/ 524 - 525). وأخرجه أحمد (4/ 264) دون ذكر محل الشاهد. كلهم من حديث عمار بن ياسر مطولا. (¬3) سيأتي تخريجه في مواقف محمد بن صالح العثيمين سنة (1421هـ). (¬4) أخرجه من حديث عبادة بن الصامت: أحمد (5/ 318 - 319). قال البوصيري في (مختصر اتحاف السادة المهرة رقم:1): "رواه أبو يعلى الموصلي واللفظ له وأبو بكر بن أبي شيبة وأحمد بن حنبل والطبرني بإسناد حسن"، وحسن إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (2/ 289).

صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (¬1)، قال بعض السلف: الحياة الطيبة: هي الرضا والقناعة. وقال عبد الواحد بن زيد: الرضا باب الله الأعظم وجنة الدنيا ومستراح العابدين ... والدرجة الثانية: أن يصبر على البلاء، وهذه لمن لم يستطع الرضا بالقضاء، فالرضا فضل مندوب إليه، مستحب، والصبر واجب على المؤمن حتم، وفي الصبر خير كثير، فإن الله أمر به، ووعد عليه جزيل الأجر. قال الله عزوجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (¬2)، وقال: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (¬3). قال الحسن: الرضا عزيز، ولكن الصبر معول المؤمن. والفرق بين الرضا والصبر: أن الصبر: كف النفس وحبسها عن التسخط مع وجود الألم، وتمني زوال ذلك، وكف الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع، والرضا: انشراح الصدر وسعته بالقضاء، وترك تمني زوال ذلك المؤلم، وإن وجد الإحساس بالألم، لكن الرضا يخففه لما يباشر القلب من روح اليقين والمعرفة، وإذا قوي الرضا، فقد يزيل الإحساس بالألم بالكلية كما سبق. (¬4) ¬

(¬1) النحل الآية (97). (¬2) الزمر الآية (10). (¬3) البقرة الآيات (155 - 157). (¬4) جامع العلوم والحكم (1/ 483 - 488).

إبراهيم بن داود الآمدي (797 هـ)

إبراهيم بن داود الآمدي (¬1) (797 هـ) إبراهيم بن داود بن عبد الله الآمدي ثم الدمشقي برهان الدين. مات أبوه وهو صغير على دين النصرانية فحمله وصيه الشيخ عبد الله الدمشقي وأحضره مجلس الشيخ تقي الدين ابن تيمية فأسلم على يده وصحبه، ثم صحب أصحابه وأخذ عنهم، وتفقه على مذهب الشافعي، وسمع الحديث. روى عن إبراهيم بن الخيمي والحسن بن عبد الرحمن الإربلي وشمس الدين بن السراج وغيرهم. كان دينا خيرا فاضلا. توفي سنة سبع وتسعين وسبعمائة. موقفه من المبتدعة: محنته ومناظرته على عقيدته السلفية: قال في الدرر الكامنة: قلت له مرة: أخبركم رضي الله عنكم وعن والديكم، فنظر إلي منكرا وقال: ما كانا على الإسلام. وكان ممتحنا بحب ابن تيمية، ونسخ غالب تصانيفه بخطه، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر برياضة وتؤدة، ويناظر في مسائل ابن تيمية من غير مماراة. (¬2) التعليق: هذا من أعمال الشيخ ابن تيمية المباركة؛ حيث أسلم على يديه، وبقي سلفيا يناظر على العقيدة السلفية، فرضي الله عنك يا شيخ الإسلام، يا أبا العباس ورضي عن المترجم له. ¬

(¬1) الدرر الكامنة (1/ 25 - 26) وشذرات الذهب (6/ 347). (¬2) (1/ 25 - 26).

القرن 9

محمد بن عرفة (¬1) (803 هـ) أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن عرفة الوَرْغَمِي التونسي المالكي، شيخ الإسلام بالمغرب. ولد سنة ست عشرة وسبعمائة. روى عن المحدث أبي عبد الله بن جابر الوادي والفقيه القاضي أبي عبد الله بن عبد السلام وأبي عبد الله محمد بن محمد بن حسين بن سلمة الأنصاري. لم يرض لنفسه الدخول في الولايات، بل اقتصر على الإمامة والخطابة بجامع الزيتونة، وانقطع للاشتغال بالعلم والتصدر لتجويد القراءات. وصار المرجوع إليه بالمغرب. قال ابن ظهيرة: برع في الأصول والفروع والعربية والمعاني والبيان والفرائض والحساب، وسمع من الوادي آشى الصحيحين، وكان رأسا في العبادة والزهد والورع ملازما للشغل بالعلم، رحل إليه الناس وانتفعوا به ولم يكن بالعربية من يجري مجراه في التحقيق ولا من اجتمع له في العلوم ما اجتمع له، وكانت الفتوى تأتي إليه من مسافة شهر. له أوقاف جزيلة في وجوه البر وفكاك الأسارى، ومناقبه عديدة وفضائله كثيرة. توفي رحمه الله سنة ثلاث وثمانمائة. موقفه من المشركين: جاء في العقد الثمين: وقد سئل عنه -أي عن ابن عربي- وعن شيء من كلامه شيخنا العلامة أبو عبد الله محمد بن عرفة الورغمي التونسي المالكي، عالم إفريقية بالمغرب. فقال ما معناه: من نُسب إليه هذا الكلام، لا ¬

(¬1) الشذرات (7/ 38) والبدر الطالع (2/ 255 - 256) والديباج المذهب (2/ 331 - 333) والأعلام (7/ 43).

سراج الدين البلقيني (805 هـ)

ليشك مسلم منصف في فسقه وضلاله وزندقته. (¬1) سراج الدين البُلْقِينِي (¬2) (805 هـ) عمر بن رسلان بن بصير، السراج البلقيني ثم القاهري الشافعي. ولد سنة أربع وعشرين وسبعمائة ببلقينة، فحفظ بها القرآن وهو ابن سبع سنين، وحفظ المحرر في الفقه والكافية لابن مالك في النحو، ومختصر ابن الحاجب في الأصول، والشاطبية في القراءات. سمع من الميدومي وابن القماح وابن عقيل وابن عدلان وغيرهم، وأجاز له من دمشق الحافظان المزي والذهبي وغيرهما، وفاق الأقران واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها، ووقع الاتفاق على أنه أحفظ أهل عصره وأوسعهم معارفا وأكثرهم علوما، وكان معظما عند الأكابر عظيم السمعة عند العوام، إذا ذكر البلقيني خضعت الرقاب. قال ابن حجي: كان أحفظ الناس لمذهب الشافعي واشتهر بذلك وطبقة شيوخه موجودون، قدم علينا دمشق قاضيا وهو كهل فبهر الناس بحفظه وحسن عبارته وجودة معرفته، وخضع له الشيوخ في ذلك الوقت واعترفوا بفضله، ثم رجع وتصدى للفتيا فكان معول الناس عليه في ذلك وكثرت طلبته، فنفعوا وأفتوا ودرسوا وصاروا شيوخ بلادهم وهو حي. قال برهان الدين المحدث: رأيته فريد دهره فلم تر عيناي أحفظ للفقه ولأحاديث الأحكام منه. ¬

(¬1) العقد الثمين (2/ 288). (¬2) شذرات الذهب (7/ 51) والبدر الطالع (1/ 506) وإنباء الغمر بأبناء العمر (5/ 107 - 109) والضوء اللامع (6/ 85 - 90).

موقفه من المشركين:

قال له ابن كثير: أذكرتنا سمت ابن تيمية. وكذلك قال له ابن شيخ الجبل: ما رأيت بعد ابن تيمية أحفظ منك. أخذ عنه حافظ دمشق ابن ناصر الدين والحافظ ابن حجر وغيرهما. توفي رحمه الله سنة خمس وثمانمائة بالقاهرة. موقفه من المشركين: جاء في العقد الثمين: وقد سمعت صاحبنا الحافظ الحجة القاضي شهاب الدين أبا الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني الشافعي، وهو الآن المشار إليه بالتقدم في علم الحديث -أمتع الله بحياته- يقول: إنه ذكر لمولانا شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني شيئا من كلام ابن عربي المشكل. وسأله عن ابن عربي فقال له شيخنا البلقيني: هو كافر. (¬1) الهيثمي (¬2) (807 هـ) علي بن أبي بكر بن سليمان بن أبي بكر نور الدين أبو الحسن الهيثمي. ولد سنة خمس وثلاثين وسبعمائة قرأ القرآن وهو نشأ ثم صحب الزين العراقي وهو بالغ ولم يفارقه سفرا وحضرا. وسمع من ابن عبد الهادي والميدومي ومحمد بن إسماعيل بن الملوك ومحمد بن عبد الله النعامني وغيرهم. كان إماما عالما حافظا زاهدا متواضعا متوددا إلى الناس ذا عبادة وتقشف وورع. وهو أشهر من ألف في الزوائد. فمن ذلك مجمع الزوائد، ومجمع ¬

(¬1) العقد الثمين (2/ 288). (¬2) الضوء اللامع (5/ 200 - 203) وشذرات الذهب (7/ 70) وذيل تذكرة الحفاظ (5/ 239 - 244).

موقفه من الجهمية:

البحرين، والبدر المنير في زوائد المعجم الكبير، وغاية المقصد في زوائد أحمد، والمقصد الأعلى في زوائد أبي يعلى، وموارد الظمآن وغيرها. توفي في ليلة الثلاثاء تاسع عشر رمضان سنة سبع وثمانمائة بالقاهرة ودفن من الغد خارج باب البرقية منها. موقفه من الجهمية: قال الهيثمي تعليقا على بعض الأحاديث: رواه الطبراني وفيه عمرو بن عبيد وهو من أعداء الله. (¬1) أحمد الناشري (¬2) (815 هـ) الشيخ شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن علي بن محمد الناشري، أبو العباس الزبيدي اليمني الشافعي. ولد سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة. سمع الحديث من أبيه والمجد الشيرازي وطائفة. ولي قضاء زبيد وأعمالها فراعى الحق في أحكامه فتعصبوا عليه فعزل. تفقه به جمع كثيرون في المملكة اليمنية منهم الموفق علي بن أبي بكر الناشري وولده الجمال محمد الطيب، والجمال بن الخياط والكمال موسى بن محمد الضجاعي وغيرهم. انتهت إليه رحمه الله رئاسة الفتوى ببلده، وكان شديدا على الصوفية ¬

(¬1) المجمع (4/ 288). (¬2) الضوء اللامع (1/ 257 - 258) وإنباء الغمر (7/ 80 - 81) وذيل الدرر الكامنة (ص.158 - 159) وشذرات الذهب (7/ 109).

موقفه من الصوفية:

وكانت لهم شوكة قائمة، ومع ذلك فكان لا يفتر عن الإنكار والرد عليهم. قال عنه السخاوي: وكان عالما عاملا فقيها، كاملا فريدا تقيا ذكيا، غاية في الحفظ وجودة النظر في الفقه ودقائقه، مقصودا من الآفاق بحيث ازدحم عليه الخلائق. وقال ابن حجر: اجتمعت به واستفدت منه بزبيد، ونعم الشيخ كان. مات رحمه الله سنة خمس عشرة وثمانمائة، وقد جاوز السبيعن. موقفه من الصوفية: - جاء في الضوء اللامع: وجرت له مع الصوفية بزبيد، لما أنكر عليهم الاشتغال بكتب ابن عربي واعتقاد ما فيها، لاسيما الفصوص. وشق ذلك على أكابرهم فتعصبوا عليه بسبب ذلك والتمسوا من السلطان منعه من التعرض لهم، وكان للسطان فيه حسن اعتقاد، فلم يزده إلا حمية لله ولرسوله صلى على الله عليه وسلم، ولقب في وقته لذلك بناصر السنة وقامع المبتدعة. (¬1) - وفيه: وعمل كتابا حافلا بين فيه فساد عقيدة ابن عربي ومن ينتمي إليه. (¬2) ¬

(¬1) الضوء اللامع (1/ 257/258). (¬2) المصدر السابق (1/ 258).

أبو زرعة العراقي (826 هـ)

أبو زرعة العراقي (¬1) (826 هـ) أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين العراقي الإمام ابن الإمام، والحافظ ابن الحافظ، وشيخ الإسلام ابن شيخ الإسلام، الشافعي ويعرف كأبيه بابن العراقي. ولد سنة اثنتين وستين وسبعمائة بالقاهرة. سمع من أبي الحرم القلانسي وأبي الحسن العرضي وأبي البقاء السبكي والبهاء بن خليل والبهاء ابن عقيل وغيرهم. تدرب بوالده في الحديث وفنونه وكذا في غيره من فقه وأصول وعربية ومعان وبيان، وبرع في جميع ذلك. وأذن له غير واحد من شيوخه بالإفتاء والتدريس. كان من خير أهل عصره بشاشة وصلابة في الحكم وقياما في الحق وطلاقة وجه وحسن خلق وطيب عشرة. قال التقي الفاسي: هو أكثر فقهاء عصرنا هذا حفظا للفقه وتعليقا له وتخريجا، وفتاويه على كثرتها مستحسنة، ومعرفته للتفسير والعربية والأصول متقنة، وأما الحديث فأوتي فيه حسن الرواية وعظيم الدراية في فنونه. وقال الجمال بن موسى: الإمام العلامة الفريد، شيخ الحفاظ، هو أشهر من أن يوصف. وقال البدر العيني: كان عالما فاضلا، له تصانيف في الأصول والفروع وفي شرح الأحاديث، ويد طولى في الإفتاء، كان آخر الأئمة الشافعية بالديار المصرية، له مصنفات كثيرة. توفي رحمه الله سنة ست وعشرين وثمانمائة. موقفه من المشركين: جاء في العقد الثمين: وسئل عنه -أي ابن عربي- شيخنا العلامة المحقق ¬

(¬1) شذرات الذهب (7/ 173) والبدر الطالع (1/ 72 - 74) والضوء اللامع (1/ 336 - 344) وإنباء الغمر بأبناء العمر (8/ 21 - 22).

تقي الدين الفاسي (832 هـ)

الحافظ المفتي المصنف أبو زرعة أحمد بن شيخنا الحافظ العراقي الشافعي -أبقاه الله تعالى- فقال: لا شك في اشتمال: 'الفصوص' المشهورة على الكفر الصريح الذي لا يُشك فيه، وكذلك 'فتوحاته المكية'. فإن صح صدور ذلك عنه واستمر عليه إلى وفاته فهو كافر مخلد في النار بلا شك. (¬1) تقي الدين الفاسي (¬2) (832 هـ) محمد بن أحمد بن علي يكنى أبا عبد الله وأبا الطيب وبها اشتهر أخيرا، ويلقب تقي الدين الحسيني الفاسي المكي القاضي المالكي. ولد في ليلة الجمعة العشرين من ربيع الأول سنة خمس وسبعين وسبعائة بمكة. حفظ القرآن من سن مبكرة وصلى بالناس التراويح بمقام الحنابلة بالمسجد الحرام. ودرس عدة متون في صغره منها الأربعين النووية وكتاب الرسالة لابن أبي زيد وعمدة الأحكام ومختصر ابن الحاجب والألفية لابن مالك والورقات. وحبب إليه سماع الحديث فسمع على المسند أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن صديق الدمشقي المعروف بابن الرسام المنتخب من مسند عبد بن حميد ثم صحيح البخاري ومسند الدارمي وسنن النسائي وسنن ابن ماجه وعدة أجزاء. كما أنه سمع على شهاب الدين القرافي صحيح مسلم وجامع الترمذي وسنن ¬

(¬1) العقد الثمين (2/ 294). (¬2) العقد الثمين (2/ 44 - 71) والضوء اللامع (7/ 18 - 20) وطبقات الحفاظ (ص.544 - 545) وإنباء الغمر (8/ 187 - 188).

موقفه من المشركين:

أبي داود. وعلى القاضي علي بن أحمد النويري الموطأ لمالك برواية يحيى بن يحيى. وقرأ على العراقي شرحه لألفيته في الحديث المسماة بالتبصرة. كما أنه قرأ على البلقيني وابن الملقن والهيثمي والتنوخي وغيرهم. واعتنى بأخبار بلده فأحيا معالمها وأوضع مجاهلها وترجم أعيانها فكتب لها تاريخا حافلا. قال ابن حجر: رافقني في السماع كثيرا بمصر والشام واليمن وغيرها، وكنت أوده وأعظمه وأقوم معه في مهماته، ولقد سائني موته وأسفت على فقد مثله. مات رحمه الله ثالث شوال سنة اثنتين وثلاثين وثمانمائة بمكة. موقفه من المشركين: له العقد الثمين ضمنه مبحثا نفيسا جدا في عقيدة ابن عربي الطائي وأقوال أهل العلم فيه، مبينا ضلاله وكفره وزيغه عن الصراط السوي المستقيم. (¬1) ابن الجزري (¬2) (833 هـ) الإمام المقرئ محمد بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف بن الجزري، شمس الدين أبو الخير العمري الدمشقي ثم الشيرازي. ولد في ليلة السبت الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة إحدى وخمسين وسبعمائة بدمشق. ¬

(¬1) ينظر العقد الثمين (2/ 277 - 300). (¬2) غاية النهاية في طبقات القراء للمترجم (2/ 247 - 251) والضوء اللامع (9/ 255 - 260) وإنباء الغمر بأبناء العمر (8/ 245 - 248).

وحفظ القرآن سنة أربع وستين وصلى به سنة خمس، ولهج بطلب الحديث وبرز في القراآت، وذكر أن ابن الخباز أجاز له، واتهم في ذلك، واحتمله السخاوي لأنه خال جده. سمع الحديث من جماعة من أصحاب الفخر ابن البخاري وغيرهم، وأفرد القراآت على أبي محمد بن السلار وأحمد بن إبراهيم بن الطحان وأحمد بن رجب وغيرهم، وأجاز له وأذن له بالإفتاء الشيخ أبو الفداء ابن كثير والشيخ ضياء الدين والشيخ البلقيني. تصدى للإقراء تحت النسر من الجامع الأموي سنين، وولي مشيخة الإقراء بالعادلية، ثم مشيخة دار الحديث الأشرفية، ثم مشيخة تربة أم الصالح بعد شيخه ابن السلار. وولي قضاء الشام وكان يلقب في بلاده الإمام الأعظم. ووصفه ابن حجر بالحافظ الإمام المقرئ، وقال: إنه كان مثريا وشكلا حسنا وفصيحا بليغا كثير الإحسان لأهل الحجاز، انتهت إليه رياسة علم القراآت في الممالك، وممن أخذ عنه القراآت ابنه أبو بكر أحمد والشيخ محمود ابن الحسين الشيرازي والشيخ أبو بكر الحموي والشيخ أحمد بن محمود الحجازي والمحب محمد بن أحمد بن الهائم وغيرهم. صنف كتاب 'الحصن الحصين' في الأدعية، لهج به أهل اليمن واستكثروه وتنافسوا في تحصيله وروايته، وحصل له رواج عظيم، وذيل طبقات القراء للذهبي وجمع النشر في القراآت العشر، وله كتاب أسنى المطالب في مناقب علي بن أبي طالب والجوهرة في النحو وغيرهما كثير. وكانت وفاته بشيراز في ضحوة الجمعة لخمس خلون من ربيع الأول

موقفه من الجهمية:

سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة للهجرة فرحمه الله تعالى. موقفه من الجهمية: قال رحمه الله في النشر: ومنها ما يكون حجة لأهل الحق ودفعا لأهل الزيغ كقراءة {وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)} (¬1) بكسر اللام وردت عن ابن كثير وغيره وهي من أعظم دليل على رؤية الله تعالى في الدار الآخرة. (¬2) شرف الدين ابن المقري (¬3) (837 هـ) أبو محمد إسماعيل بن أبي بكر بن عبد الله اليمني الشافعي المعروف بابن المقري. عالم البلاد اليمنية وإمامها ومفتيها. تفقه على جمال الدين شارح التنبيه وغيره، وقرأ في عدة فنون وبرز في جميعها وفاق أهل عصره وطال صيته واشتهر ذكره ومهر في صناعة النظم والنثر. قال ابن حجر: وله تصانيف وحذق تام ونظر مليح، ما رأيت باليمن أذكى منه. وقال الموفق الخزرجي: إنه كان فقيها محققا بحاثا مدققا مشاركا في كثير من العلوم والاشتغال بالمنثور والمنظوم، إن نظم أعجب وأعجز، وإن نثر أجاد وأوجز، فهو المبرز على أترابه والمقدم على أقرانه وأصحابه. كان رحمه ¬

(¬1) الإنسان الآية (20). (¬2) النشر (1/ 29). (¬3) شذرات الذهب (7/ 220 - 222) والبدر الطالع (1/ 142 - 145) وإنباء الغمر (8/ 309) والضوء اللامع (2/ 292 - 295).

موقفه من المشركين:

الله إماما في الفقه والعربية والمنطق والأصول، وله اليد الطولى في الأدب نظما ونثرا، وكان متفردا بالذكاء وقوة الفهم وجودة الفكر، وكان ينكر نحلة ابن عربي وأتباعه، وبينه وبين متبعيه معارك وله في ذلك رسالتان وقصائد كثيرة. توفي سنة سبع وثلاثين وثمانمائة. موقفه من المشركين: لهذا الإمام قصيدة من أجمل القصائد في بيان زندقة ابن عربي وكفره، وهي قصيدة بليغة، ينبغي لمن وقف عليها أن يحفظها حتى تكون زندقة هذا الضال معروفة محفوظة. وإليك بعض القصيدة منقولا من العقد الثمين. قال التقي الفاسي: وقد بين شيخنا فاضل اليمن شرف الدين إسماعيل ابن أبي بكر المعروف بابن المقري الشافعي من حال ابن عربي مالم يبينه غيره، لأن جماعة من صوفية زبيد أوهموا من ليس له كثير نباهة علو مرتبة ابن عربي ونفي العيب عن كلامه. وذكر ذلك شيخنا ابن المقري مع شيء من حال الصوفية المشار إليهم في قصيدة طويلة من نظمه فقال فيما أنشدنيه إجازة (¬1): ألا يا رسول الله غارة ثائر ... غيور على حرماته والشعائر يحاط بها الإسلام ممن يكيده ... ويرميه من تلبيسه بالفواقر فقد حدثت بالمسلمين حوادث ... كبار المعاصي عندها كالصغائر ... حوتهن كتب حارب الله ربها ... وغر بها من غر بين الحواضر تجاسر فيها ابن العريبي واجترى ... على الله فيما قال كل التجاسر وقال بأن الرب والعبد واحد ... فربي مربوبي بغير تعاير ¬

(¬1) العقد الثمين (2/ 296 - 298).

وأنكر تكليفا إذ العبد عنده ... إله وعبد فهو إنكار حائر وخطأ إلا من يرى الخلق صورة ... وهوية لله عند التناظر وقال تجلى الحق في كل صورة ... تجلى عليها فهي إحدى المظاهر وأنكر أن الله يغني عن الورى ... ويغنون عنه لاستواء المقادر كما ظل في التهليل يهزا بنفيه ... وإثباته مستجملا للمغاير وقال الذي ينفيه عين الذي ... أتى به مثبتا لا غير عند التجاور فأفسد معنى ما به الناس أسلموا ... وألغاه إلغا بينات التهاتر فسبحان رب العرش عما يقوله ... أعاديه من أمثال هذي الكبائر فقال عذاب الله عذب وربنا ... ينعم في نيرانه كل فاجر وقال بأن الله لم يعص في الورى ... فما ثم محتاج لعاف وغافر وقال مراد الله وفق لأمره ... فما كافر إلا مطيع الأوامر وكل امرئ عند المهيمن مرتضى ... سعيد فما عاص لديه بخاسر وقال يموت الكافرون جميعهم ... وقد آمنوا غير المفاجا المبادر وما خص بالإيمان فرعون وحده ... لدى موته بل عم كل الكوافر فكذبه يا هذا تكن خير مؤمن ... وإلا فصدقه تكن شر كافر وأثنى على من لم يجب نوحا إذ دعا ... إلى ترك ود أو سواع وناسر وسمى جهولا من يطاوع أمره ... على تركها قول الكفور المجاهر ولم ير بالطوفان إغراق قومه ... ورد على من قال رد المناكر وقال بلى قد أغرقوا في معارف ... من العلم والباري لهم خير ناصر كما قال فازت عاد بالقرب واللقا ... من الله في الدنيا وفي اليوم الآخر

وقد أخبر الباري بلعنته لهم ... وإبعادهم فاعجب له من مكابر وصدق فرعونا وصحح قوله: ... أنا الرب الأعلى وارتضى كل سامر وأثنى على فرعون بالعلم والذكا ... وقال بموسى عجلة المتدابر وقال خليل الله في الذبح واهم ... ورؤيا ابنه تحتاج تعبير عابر يعظم أهل الكفر والأنبياء ... لا يعاملهم إلا بحط المقادر ويثني على الأصنام خيرا ولا يرى ... لها عابدا ممن عصى أمر آمر وكم من جراءات على الله قالها ... وتحريف آيات لسوء تفاسر ولم يبق كفرا لم يلابسه عامدا ... ولم يتورط فيه غير محاذر وقال سيأتينا من الصين خاتم ... من الأولياء للأولياء الأكابر له رتبة فوق النبي ورتبة ... له دونه فاعجب لهذا التنافر فرتبته العليا تقول لأخذه ... عن الله لا وحيا بتوسيط آخر ورتبته الدنيا تقول لأنه ... من التابعية في الأمور الظواهر وقال اتباع المصطفى ليس واضعا ... لمقداره الأعلى وليس بحاقر فإن تدن منه لاتباع فإنه ... يرى منه أعلى من وجوه أواخر ترى حال نقصان له في اتباعه ... لأحمد حتى جا بهذه المعاذر فلا قدس الرحمان شخصا يحبه ... على ما يرى من قبح هذي المخابر وقال بأن الأنبياء جميعهم ... بمشكاة هذا تستضى في الدياجر وقال فقال الله بي بعد مدة ... بأنك أنت الختم رب المفاخر أتاني ابتدا بيضاء سطر ربنا ... بإنفاذه في العالمين أو أمري وقال فلا تشغلك عني ولاية ... وكن كل شهر طول عمرك زائري

فرفدك أجزلنا وقصدك لم يخب ... لدينا فهل أبصرت يابن الأخاير بأكذب من هذا وأكفر في الورى ... وأجرا على غشيان هذى الفواطر فلا يدعوا من صدقوه ولاية ... وقد ختمت فليؤخذوا بالأقادر فيا لعباد الله ماثم ذو حجا ... به بعض تمييز بقلب وناظر إذا كان ذو كفر مطيعا كمؤمن ... فلا فرق فينا بين بر وفاجر كما قال هذا إن كل أوامر ... من الله جاءت فهي وفق المقادر فلم بعثت رسل وسنت شرائع ... وأنزل الله بهذي الزواجر أيخلع منكم ربقة الدين عاقل ... بقول غريق في الضلالة حائر ويترك ما جاءت به الرسل من هدى ... لأقوال هذا الفيلسوف المغادر فيا محسني ظنا بما في 'فصوصه' ... وما في فتوحات الشرور الدوائر عليكم بدين الله لا تصبحوا غدا ... مساعر نار قبحت من مساعر فليس عذاب الله عذبا كمثل ما ... يمنيكم بعض الشيوخ المدابر ولكن أليم مثل ما قال ربنا ... به الجلد إن ينضج يبدل بآخر غدا يعلمون الصادق القول منهما ... إذا لم يتوبوا اليوم علم مباشر ويبدو لكم غير الذي يعدونكم ... بأن عذاب الله ليس بضائر ويحكم رب العرش بين محمد ... ومن سن علم الباطل المتهاتر ومن جا بدين مفترى غير دينه ... فأهلك أغمارا به كالأباقر فلا تخدعن المسلمين عن الهدى ... وما للنبي المصطفى من مآثر ولا تؤثروا غير النبي على النبي ... فليس كنور الصبح ظلما الدياجر دعو كل ذي قول لقول محمد ... فما آمن في دينه كمخاطر

ابن الوزير (840 هـ)

وأما رجالات الفصوص فإنهم ... يعومون في بحر من الكفر زاخر إذا راح بالربح المتابع أحمدا ... على هديه راحوا بصفقة خاسر سيحكي لهم فرعون في دار خلده ... بإسلامه المقبول عند التجاور ويا أيها الصوفي خف من فصوصه وخذ نهج سهل والجنيد وصالح ... خواتم سوء غيرها في الخناصر على الشرع كانوا ليس فيهم لوحدة ... وقوم مضوا مثل النجوم الزواهر رجال رأوا ما لدار دار إقامة ... ولا لحلول الحق ذكر لذاكر فأحيوا لياليهم صلاة وبيتوا ... لقوم ولكن بلغة للمسافر مخافة يوم مستطير بشره ... بها خوف رب العرش صوم البواكر فقد نحلت أجسادهم وأذابها ... عبوس المحيا قمطرير المظاهر أولئك أهل الله فالزم طريقهم ... قيام لياليهم وصوم الهواجر وعد عن دواعي الابتداع الكوافر التعليق: قول ابن المقري: وخذ نهج سهل والجنيد وصالح، فيه دعوة إلى اتباع هؤلاء المتصوفة، والواجب الدعوة إلى الاستنان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أبرِّ هذه الأمة قلوبا وأعمقِها علما وأقلها تكلفا وبالصالحين بعدهم المتمسكين بهديهم. ابن الوزير (¬1) (840 هـ) الشيخ الإمام محمد بن إبراهيم بن علي بن المرتضى المعروف بابن ¬

(¬1) البدر الطالع (2/ 81 - 93) وإنباء الغمر (7/ 372) والضوء اللامع (6/ 272) والأعلام (5/ 300) ومقدمة كتاب العواصم والقواصم (1/ 12 - 81) والتاج المكلل لصديق حسن خان (ص.340 - 347).

الوزير اليماني. ولد سنة خمس وسبعين وسبعمائة بهجرة الظهراوين من شَظَب شمال غرب صنعاء. نشأ في بيت علم ودين، فقرأ على أخيه الهادي بن إبراهيم ومحمد بن حمزة وعلي بن محمد بن أبي القاسم وغيرهم. اشتغل في أول طلبه بعلم الكلام والجدال ثم تحول إلى علوم الكتاب والسنة فانشرح صدره وصلح أمره. رحل إلى تعز ثم إلى مكة. كان رحمه الله من أبرز علماء اليمن المجتهدين على الإطلاق، تبحر في جميع العلوم وفاق الأقران، واشتهر صيته وبعد ذكره وطار علمه في الأقطار. كان بينه وبين بعض علماء عصره منازعات وردود، وذلك لذبه عن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتمسكه بها، قال رحمه الله: يا حبذا يوم القيامة شهرتي ... بين الخلائق في المقام الأحمد لمحبتي سنن الرسول وأنني ... فيها عصيت معنفي ومفندي وتركت فيها جيرتي وعشيرتي ... ومحل أترابي وموضع مولدي قال أحمد بن عبد الله الوزير: له في علوم الاجتهاد المحل الأعلى، والقدح المعلى، وبلغ مبلغ الأوائل، بل زاد واستدرك، واختار وصنف، وألف وأفاد وجمع وقيد، وبنى وشيد، وكان اجتهاده اجتهادا كاملا مطلقا، لا كاجتهاد بعض المتأخرين. وقال عبد الرحمن العطاب: الإمام الحافظ أبو عبد الله شيخ العلوم وإمامها، ومن في يديه زمامها، قلد فيها وما قلد، وألفى جيد الزمان عاطلا فطوقه بالمحاسن وقلد، صنف في سائر فنونها، وألف كتبا تقدم فيها وما تخلف، وله في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الباع المديد، والشأو البعيد الذي ما عليه مزيد. وقال الحافظ ابن حجر عند ترجمته لأخيه الهادي: وله أخ يقال له

موقفه من المبتدعة:

محمد بن إبراهيم مقبل على الاشتغال بالحديث شديد الميل إلى السنة بخلاف أهل بيته. قال الإمام الشوكاني: ولو لقيه الحافظ ابن حجر بعد أن تبحر في العلوم لأطال عنان قلمه في الثناء عليه. وقال أيضا: لو قلت: إن اليمن لم ينجب مثله لم أبعد عن الصواب. له مؤلفات عديدة مفيدة منها: 'إيثار الحق على الخلق' وهو آخر مؤلفاته، و'العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم' ومختصره 'الروض الباسم' وغيرها. توفي رحمه الله في الرابع والعشرين من محرم سنة أربعين وثمانمائة، وله من العمر أربع وستون سنة. موقفه من المبتدعة: فمن مواقفه الطيبة قال في 'إيثار الحق': - فإن قيل: فمن أين جاء الاختلاف الشديد؟ فاعلم أن منشأ معظم البدع يرجع إلى أمرين واضح بطلانهما، فتأمل ذلك بإنصاف وشد عليه يديك. وهذان الأمران الباطلان هما: الزيادة في الدين بإثبات ما لم يذكره الله تعالى ورسله عليهم السلام من مهمات الدين الواجبة. والنقص منه بنفي بعض ما ذكره الله تعالى ورسله من ذلك بالتأويل الباطل. (¬1) - وقال: فاعلم أن معظم ابتداع المبتدعين من أهل الإسلام، راجع إلى ¬

(¬1) إيثار الحق على الخلق (85).

هذين الأمرين الباطلين، الواضح بطلانهما كما تقدم. وهما الزيادة في الدين والنقص منه، ثم يلحق بهما التصرف فيه بالعبارات المبتدعة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) - وقال: أما الأمر الأول: وهو الزيادة في الدين، فسببه تجويز خلو كتب الله تعالى وسنن رسله الكرام عليهم الصلاة والسلام عن بيان بعض مهمات الدين اكتفاء بدرك العقول لها، ولو بالنظر الدقيق، ليكون ثبوتها بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطريق النظر العقلي. هذا مذهب أهل الكلام، ومذهب أهل الأثر أنه ممنوع. (¬2) - وقال: ومن ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬3). واتفق أهل الإسلام على أن المراد بالرد إلى الله ورسوله الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله، ولو لم يكونا وافيين ببيان مهمات الدين ما أمرهم الله بالرجوع إليهما عند الاختلاف. (¬4) - وقال: والمسلم بالفطرة ينكر هذه البدع، وبالرسوخ في علم الحديث يعلم بالضرورة حدوثها وأن عصر النبوة والصحابة بريء منها. (¬5) - وقال: بل الغالب على أهل البدع شدة العجب بنفوسهم والاستحسان لبدعتهم وربما كان أجر ذلك عقوبة على ما اختاروه أول مرة من ذلك كما حكى الله تعالى ذلك في قوله: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ¬

(¬1) إيثار الحق على الخلق (100). (¬2) إيثار الحق على الخلق (103). (¬3) النساء الآية (59). (¬4) إيثار الحق على الخلق (107). (¬5) إيثار الحق على الخلق (130).

بِكُفْرِهِمْ} (¬1). وهي من عجائب العقوبات الربانية. والمحذرات من المؤاخذات الخفية: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)} (¬2). وقد كثرت الآثار في أن إعجاب المرء بنفسه من المهلكات كما في حديث أبي ثعلبة الخشني عند (د ت) (¬3)، وعن ابن عمر مرفوعا: «ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه». (¬4) ¬

(¬1) البقرة الآية (93). (¬2) آل عمران (54). (¬3) أخرجه: أبو داود (4/ 512/4341) والترمذي (5/ 240/3058) وقال: "حسن غريب". وابن ماجه (2/ 1330 - 1331/ 4014) وابن حبان (2/ 108 - 109/ 385 الإحسان) وصححه الحاكم (4/ 322) ووافقه الذهبي. (¬4) أخرجه من حديث ابن عمر: الطبراني في الأوسط (6/ 351 - 352/ 5750) من طريق الوليد بن عبد الواحد التميمي عن ابن لهيعة عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عمر. وقال الطبراني عقبه: "لم يرو هذا الحديث عن سعيد بن جبير إلا عطاء بن دينار، ولا عن عطاء إلا ابن لهيعة، تفرد به الوليد بن عبد الواحد، ولا يروى عن ابن عمر إلا بهذا الإسناد". وذكره الهيثمي في المجمع (1/ 90 - 91) وقال: "رواه الطبراني في الأوسط وفيه ابن لهيعة ومن لا يعرف". قال المناوي في الفيض (3/ 308): "قال العلاء: سنده ضعيف. وعده في الميزان من المناكير". وأخرجه من حديث أنس: العقيلي في الضعفاء الكبير (3/ 447) والدينوري في المجالسة وجواهر العلم (3/ 256 - 262/ 899)، والقضاعي في مسند الشهاب (1/ 214 - 215/ 325) وأبو نعيم في الحلية (2/ 343)، والهروي في ذم الكلام (ص.310) والخرائطي في مساوئ الأخلاق (ص.144 حديث رقم:367) والبيهقي في الشعب (1/ 471/745) والبزار (كشف الأستار 1/ 60/81) وقال: "قال البزار: وهذا لم يروه هكذا إلا الفضل ولا عنه إلا أيوب". كلهم من طرق عن أيوب بن عتبة عن الفضل بن بكر العبدي عن قتادة عن أنس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره. وقال العقيلي عقبه: "وقد روي عن أنس من غير هذا الوجه وعن غير أنس بأسانيد فيها لين" وقال قبله: "الفضل بن بكر العبدي عن قتادة ولا يتابع عليه من وجه يثبت". وقال أبو نعيم في الحلية: "هذا حديث غريب من حديث قتادة، ورواه عكرمة بن إبراهيم عن هشام عن يحيى ابن أبي كثير عن قتادة عن أنس رضي الله تعالى عنه". وقال الذهبي عن الفضل بن بكر في الميزان (3/ 349): "الفضل بن بكر عن قتادة لا يعرف وحديثه منكر" ثم ذكر له هذا الحديث. والحديث ضعف إسناده العراقي في تخريج الإحياء (4/ 1902/3016). وأخرجه: البزار (كشف الأستار 1/ 59 - 60/ 80) وابن شاهين في الترغيب في فضائل الأعمال (1/ 102/33) و (2/ 403/525) والهروي في ذم الكلام (ص.310 - 311) وأبو نعيم (6/ 268 - 269) كلهم من طريق زائدة ابن=

وعن أنس وابن عباس وابن أبي أوفى كلهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وآله مثل ¬

= أبي الرقاد عن زياد النميري عن أنس رفعه. وذكره الهيثمي في المجمع (1/ 91) وقال بعد عزوه للبزار والطبراني في الأوسط ببعضه: "وفيه زائدة بن أبي الرقاد وزياد النميري وكلاهما مختلف في الاحتجاج به". وأخرجه: الطبراني في الأوسط (6/ 214 - 215/ 5448) وابن حبان في المجروحين (1/ 263) كلهم من طريق حميد بن الحكم قال: سمعت الحسن، يقول حدثنا أنس بن مالك. قال الطبراني عقبه: "لم يرو هذا الحديث عن الحسن إلا حميد بن الحكم تفرد به محمد بن عرعرة". وإسناده ضعيف جدا فإن حميد بن الحكم هذا قال عنه ابن حبان: "منكر الحديث جدا". وأخرجه: ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/ 568/961) من طريق يغنم بن سالم عن أنس رفعه. ويغنم كان يضع على أنس كما في المجروحين (2/ 498). وقال ابن يونس: "حدث عن أنس فكذب". وقال الذهبي كما في الميزان (4/ 459): "أتى عن أنس بعجائب". وأخرجه من حديث ابن عباس: ابن عدي في الكامل (5/ 1882) وأبو نعيم في الحلية (3/ 219) والهروي في ذم الكلام (ص.311) عن شيبان بن فروخ عن عيسى بن ميمون عن محمد بن كعب عنه بذكر المهلكات فقط. وعيسى هذا الظاهر أنه المديني وهو منكر الحديث كما قال البخاري في التاريخ الكبير (6/ت:2781). وأخرجه: البزار (كشف الأستار 1/ 60/82) من طريق محمد بن عون الخراساني عن محمد بن زيد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به. وذكره الهيثمي في المجمع (1/ 92) وقال بعد عزوه للبزار: "وفي سنده محمد بن عون الخراساني وهو ضعيف جدا". وأخرجه من حديث ابن أبي أوفى: البزار (كشف الأستار 1/ 60/83) وقال الهيثمي في المجمع (1/ 92): "وفي سند ابن أبي أوفى محمد بن عون الخراساني وهو ضعيف جدا". وأخرجه من حديث أبي هريرة: الهروي في ذم الكلام (ص.311) وأبو القاسم الأصبهاني في الترغيب والترهيب (1/ 174/346) من طريق سعيد بن سعيد عن عبد الله ابن سعيد عن أبيه عنه بذكر المهلكات. وعبد الله بن سعيد متروك واتهم. وأخرجه: البيهقي في الشعب (5/ 452 - 453/ 7252) من طريق عبيد الله بن محمد حدثني بكر بن سليم الصواف عن أبي حازم عن الأعرج عن أبي هريرة رفعه بذكر المنجيات والمهلكات. وفيه بكر بن سليم الصواف قال عنه ابن عدي في الكامل: (2/ 462): "يحدث عن أبي حازم عن سهل بن سعد وعن غيره ما لا يوافقه أحد عليه". وحديثه هذا من هذا الباب. وقال أبو حاتم في الجرح والتعديل (2/ 386 - 387): "شيخ يكتب حديثه". وقال المنذري في الترغيب (1/ 286) بعد عزوه للبزار والبيهقي عن أنس: "وهو مروي عن جماعة من الصحابة، وأسانيده وإن كان لا يسلم شيء منها من مقال، فهو بمجموعها حسن إن شاء الله تعالى" ووافقه الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (رقم:1802). وهذه الطرق كما ترى كلها شديدة الضعف والجبر إنما يكون في الضعف اليسير والله أعلم.

ذلك، رواها الهيثمي في مجمعه، ودليل العقوبة في ذلك أنك ترى أهل الضلال أشد عجبا وتيها وتهليكا للناس واستحقارا لهم، نسأل الله العفو والمعافاة من ذلك كله. (¬1) - وله قصيدة دالية طويلة يعتز فيها بالتمسك بالكتاب والسنة فمنها: قالوا: الأدلة ليس تخفى جملة ... قلنا لهم: ذا قول من لم ينقد إن كان للإسلام عشر دعائم ... فانقص من العشر الدعائم أو زد تجد الزيادة في الدليل محالة ... والنقص للبرهان أعظم مفسد يا لائمي في مذهبي بالله قل ... لم زدت في الإسلام ما لم يعهد ما للسنين قضت ولم ينطق بذا ... خير البرية مرة في مشهد؟ أو لم يكن أولى بتبيين الهدى ... والمشكلات لأحمر ولأسود ما كان أحمد في المرا متدربا ... كلا، ولا للمشكلات بمورد بل كان يأمر بالجهاد لكل من ... جحد الدليل وكل باغ معتد حتى استقام الدين وانتعش الهدى ... بالمشرفية والقنا المتقصد قامت شريعته لكل مجرب ... ماضي المضارب لا يكل مجلد وكذاك أهل البيت ما زالوا على ... منهاجه من قائم أو سيد (¬2) إلى أن قال: وكذا الصحابة والذين يلونهم ... سل كل تاريخ بذاك ومسند وكذلك الفقهاء قالوا وامتحن ... قولي وسل كتب التراجم وانقد ¬

(¬1) إيثار الحق على الخلق (385 - 386). (¬2) من مقدمة العواصم والقواصم (1/ 35 - 36).

ما كنت بدعا في الذي قد قلته ... يا لائمي فدع الغواية ترشد وإذا أبيت وكنت لا تدري فقم ... عن مجلس العلما وقف بالمربد فلأجهرن بما علمت فإن أعش ... أنصح وإن أقضي فغير مخلد هذا وما اخترت العتيق لحيرتي ... في الغامضات، ولا لفرط تبلد فأنا الذي أفنيت شرخ شبيبتي ... في بحث كل محقق ومجود والافتخار مذمة مني فسل ... عني المشايخ فالمشايخ شهدي وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فافهم فتلك كناية عن سؤددي وإذا شككت بأن تلك فضيلة ... فاستقر -ويحك- وصف كل محسد فلحسدي ما في الضمائر منهم ... أبدا ولي ما هم عليه حسدي (¬1) - وقال في 'الروض الباسم': فإذا عرفت هذا تبين لك أن المحدثين هم الذين اختصوا بالذب عن السنن النبوية والمعارف الأثرية، وحموا حماها من أكاذيب الحشوية، وصنفوا كتب الموضوعات، وناقشوا في دقائق الأوهام حفاظ الثقات، وعملوا في ذلك أعمالا عظيمة، وقطعوا فيها أعمارا طويلة، وقسموا الكلام فيه في أربعة فنون: أحدها: معرفة العلل. وثانيها: معرفة الرجال. وثالثها: معرفة علوم الحديث. ¬

(¬1) العواصم والقواصم (1/ 37).

ورابعها: معرفة الحديث وطرقه. واشتملت هذه الفنون من المعارف النبوية والقواعد العلمية على ما يضطر كل عارف إلى أنهم أتم الخلق عناية بحماية علم الحديث عن التبديل والتحريف، وأنهم الجهابذة النقاد بعلم المتن والإسناد، فإنهم الذين بينوا أنواع الحديث التي اختلف في قبولها أهل العلم، مثل التدليس والإعضال، والاضطراب والإعلال، والنكارة والإرسال، والوصل والقطع، والوقف والرفع، وغير ذلك من علوم الحديث الغزيرة، وفوائده العزيزة، ولأمر ما سارت تصانيفهم فيه سير الكواكب، وانتفع بكلامهم فيه الولي الصادق والعدو المناصب، والمتهم لهم بحشو الأحاديث واختلاق الأباطيل في الحديث لا يكون من أهل العقول التامة، دع عنك أهل المعارف من الخاصة، وذلك أنه لا خفاء على العاقل أن أئمة الفن لا يكونون هم المتهمين فيه، إذ لو كان كذلك لبطل العلم بالمرة، فإنا لو اتهمنا النحاة في النحو واللغويين في اللغة، والفقهاء في الفقه، والأطباء في الطب لم يتعلم جاهل ولا تداوى مريض. فيا هذا من للحديث إذا ترك أهله؟ فلو عدمت تآليفهم فيه وتحقيقهم لألفاظه ومعانيه، لأظلمت الدنيا على طالبه وأوحشت المسائل على مريده. يا هذا، فكر لم سموا أهل الحديث، ولم سمي أهل الكلام بذلك، وكذلك أهل النحو وسائر الفنون؟! فإن كان أهل الحديث قد سموا بذلك عندك مع عدم معرفتهم به وكذبهم فيه فهلا جوزت مثل ذلك في سائر أهل الفنون، بل في سائر أهل الصناعات، بل في جميع أهل الأسماء المشتقات، فيجوز أن يسمى الفقيه نحويا والمتكلم عروضيا والغني فقيرا والصغير كبيرا.

وهذا ما لا يقول به عاقل، ولا يرتضيه أحد من أهل الباطل!! ومن أحب أن يعرف حق المحدثين واجتهادهم في التحري للمسلمين فليطالع تآليف نقادهم في الرجال والعلل والأحكام، مثل 'ميزان الاعتدال في نقد الرجال' للذهبي، و'التهذيب' للمزي، و'العلل' للدارقطني، و'علوم الحديث' لابن الصلاح وزين الدين العراقي وغير ذلك، ثم ليطالع بعد ذلك كتب الصحاح والسنن لاحظا لما فيها من اختيار أصح الأسانيد، والإشارة إلى مهمات ما يتعلق بالأحاديث من العلل القادحة والمرجحات الواضحة. ثم ليوازن بينها وبين سائر مصنفات الفرق في الحديث، يجد الفرق بين التصانيف واضحا، والبون بين الرجال نازحا، ومن موازين الإنصاف العادلة وأدلة الأوصاف الفاضلة أنك تراهم يضعفون الضعيف من فضائل أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ويصدعون بالحق في ذلك، وكذلك يضعفون ما يدل على مذهبهم متى كان ضعيفا، ويضعفون كثيرا من علمائهم إذا كانوا ضعفاء، نصيحة منهم للمسلمين واحتياطا في أمر الدين. وهذه إشارة مختصرة دعا إلى ذكرها تعريف من أنكر الجليات، ودافع ما هو كالمعارف الأوليات، إذ من المعلوم أن أهل الحديث اسم لمن عني به وانقطع في طلبه، كما قال بعضهم: إن علم الحديث علم رجال ... فإذا جن ليلهم كتبوه ... تركوا الابتداع للاتباع وإذا أصبحوا غدوا للسماع فهؤلاء هم أهل الحديث من أي مذهب كانوا، وكذلك أهل العربية وأهل اللغة، فإن أهل كل فن هم أهل المعرفة فيه، والتحقيق لألفاظه ومعانيه،

وقد ذكر أئمة الحديث ما يتقضى ذلك، فإنهم يجمعون على أن أبا عبد الله الحاكم بن البيع من أئمة الحديث مع معرفتهم أنه من الشيعة، وقد ذكروا في كتب الرجال كثيرا من أئمة الحديث، ورواة الصحيح منسوبا إلى البدع. وبهذا يزداد قول المعترض بطلانا في نسبة المحدثين إلى الحشوية، ويظهر له أنه قد نسب إلى الحشو جماعة من أهل مذهبه وسائر الفرق، بل نسبة ذلك إلى خير القرون، فإن المتمكن من الآثار النبوية هم خير الفرق الإسلامية، لأنهم أشبه الخلق خلقا وسيرة وعقيدة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والمحدث إن كان مراعيا للسنة مجانبا للبدعة ملاحظا لما كان عليه السلف فهو جدير بإجماع من يعتد به بصحة ما هو عليه وقوة ما استند إليه، وإن كان من بعض الفرق المبتدعة، فهو خير تلك الفرقة وأشبههم خلقا وسيرة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا هو الغالب، ولا عبرة بالنادر ولا بمن ليس من أهل الديانة، فنسبة خير الفرق إلى شر فرقة وتلقيبهم بأخس لقب من التهافت في مهاوي الضلال، والخبط في تيه الوبال. ويلحق بهذا فائدة تزيد ما ذكرناه تحقيقا وتزيد أئمة الحديث توثيقا، وهي أن من المشهور بتجويز الكذب في الحديث من الحشوية الطائفة المعروفة بالكرامية، وقد يطلق الرازي نسبة هذا إلى الكرامية، وحققه الإمام أبو بكر محمد بن منصور السمعاني فنسبه إلى بعضهم فيما لا يتعلق بالأحكام مما يتعلق بالترغيب والترهيب، والمحدثون براء من هذه الطائفة، وقد تكلموا عليهم في غير كتاب؛ ممن تكلم عليهم الذهبي في 'ميزان الاعتدال' فإنه قال في ترجمة ابن كرام شيخ هذه الطائفة ما لفظه: محمد بن كرام العابد المتكلم،

ساقط الحديث على بدعته، أكثر عن أحمد الجويباري ومحمد بن تميم السعدي وكانا كذابين، قال ابن حبان: خذل حتى التقط من المذاهب أرذلها ومن الأحاديث أوهاها (¬1). وقال أبو العباس: شهدت البخاري ودفع إليه كتاب من ابن كرام يسأله عن أحاديث، منها الزهري عن سالم عن أبيه مرفوعا: الإيمان لا يزيد ولا ينقص. فكتب البخاري على ظهر كتابه: من حدث بهذا استوجب الضرب الشديد والحبس الطويل. وقال ابن حبان: جعل ابن كرام الإيمان قولا بلا معرفة. وقال ابن حزم: قال ابن كرام: الإيمان قول باللسان وإن اعتقد الكفر بقلبه. قال شيخ أهل الحديث الذهبي: هذا منافق محض في الدرك الأسفل من النار، فإيش ينفع ابن كرام أن نسميه مؤمنا؟ قال الذهبي: وقد سجن ابن كرام لبدعته بنيسابور ثمانية أعوام. وقد سقت أخباره في تاريخي الكبير. انتهى كلامه. فيا من لا يفرق بين الحشوى والمحدث، انظر إلى نصوص أئمة الحفاظ في إنكار مذهب ابن كرام في رواية الأحاديث الواهية وفي القول بالإرجاء، وقد نص البخاري على أن راوي الحديث المقدم الذي هو حجة المرجئة يستوجب الضرب الشديد والحبس الطويل، وعن قريب تأتي نسبتك للإرجاء إلى المحدثين، وقل لي من الذي حبس ابن كرام في نيسابور على بدعته، ولمن كانت الشوكة في نيسابور في ذلك العصر وهو بعد المائتين؟ فإن قلت: إنك إنما أسميت المحدثين بالحشوية لكون الحشوية من فرقهم والجامع لهم ردهم لمذهب الشيعة والمعتزلة، قلت: ليس هذا مما يعتذر به، فإن المنصور بالله روى ¬

(¬1) في الأصل: "أوهاما" والتصحيح من "الميزان".

موقفه من الرافضة:

عن المطرفية وهم من فرق الزيدية أنهم يستجيزون الكذب في الحديث في نصرة ما اعتقدوه حقا، وذكر أنهم صرحوا له بذلك في المناظرة، وقد صح عنهم من البدع ما هو شر من هذا. وكذلك الحسينية قد صح وتواتر عنهم أنهم يفضلون الحسين ابن القاسم العياني على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم من فرق الزيدية، والزيدية يكفرون هاتين الطائفتين، فكما لم تلزم الزيدية بشيء من هذه البدع، لقول بعض جهالهم بها مع إنكارهم على من قالها، فكذلك لا يلزم أهل الحديث كل بدعة قيلت في بلادهم وقالها من وافقهم في بعض عقائدهم، فزن الأشياء بالموازين العلمية وتعرف من الحشوية، واحذر أن تكون من هذه الفرقة الغوية، لقبولك لكثير من الأحاديث الفرية، المدسوسة في الأحاديث المروية. (¬1) موقفه من الرافضة: - جاء في إيثار الحق على الخلق: وكذلك دلت النصوص المتواترة على وجوب حب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآله، ورضي الله عنهم وأرضاهم، وتعظيمهم وتكريمهم، واحترامهم وتوقيرهم، ورفع منزلتهم والاحتجاج بإجماعهم، والاستنان بآثارهم، واعتقاد ما نطق به القرآن الكريم، والذكر الحكيم، من أنهم خير أمة أخرجت للناس وفيهم يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا ¬

(¬1) الروض الباسم (ص.180 - 184)

مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (¬1) الآية. (¬2) - وجاء في الروض الباسم عنه قال: فإن قلت: فما الفرق بين مذهب الشيعة وأهل الحديث في الصحابة؟ قلت: من وجوه: الأول: في الخلافة وهو معروف. والثاني: أن أهل الحديث يحملون من أظهر التأويل من الصحابة على أنه متأول. الثالث: أن أهل الحديث لا يكرهون العاصي من الصحابة، وإنما يكرهون معصيته، ويحبونه لإسلامه وصحبته، ويترحمون عليه ويترضون عنه ويذكرون ما له من الفضائل ولا يسبونه ولا يؤذونه، وتفصيل المقاصد والحجج مما لا يتسع له هذا الموضع. (¬3) - وقال عند قوله - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب: «لايحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق» (¬4): على أن بغض علي رضي الله عنه إنما كان علامة للنفاق في أول الإسلام، فإن المنافقين كانوا يبغضون من فيه قوة على الحرب لكراهتهم لقوة الإسلام، ولذلك جاء في الحديث أيضا: إن بغض الأنصار علامة النفاق (¬5) لهذا المعنى، وكذلك حبهم وحب علي كان في ذلك ¬

(¬1) الفتح الآية (29). (¬2) إيثار الحق على الخلق (ص.417). (¬3) الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم (ص.191 - 192). (¬4) تقدم تخريجه ضمن مواقف الآجري سنة (360هـ). (¬5) أحمد (3/ 134،249) والبخاري (1/ 85/17) ومسلم (1/ 85/74).

سبط ابن العجمي إبراهيم بن محمد أبو الوفاء (841 هـ)

الزمان علامة للإيمان لهذا المعنى. وأما في الأعصار المتأخرة عن أول الإسلام فلا يدل على ذلك، فإن الخوارج يبغضون عليا ويكفرونه، مع الإجماع على أنهم غير منافقين وأن ذنبهم عظيم، ومروقهم من الإسلام منصوص، والباطنية يحبونه مع الإجماع على كفرهم، وكذلك الروافض يحبونه مع ضلالهم وفسوقهم نعوذ بالله. (¬1) سبط ابن العجمي إبراهيم بن محمد أبو الوفاء (¬2) (841 هـ) برهان الدين أبو الوفاء إبراهيم بن محمد بن خليل سبط ابن العجمي الطرابلسي، الشيخ الإمام الحافظ الحلبي الشافعي. ولد سنة ثلاث وخمسين وسبع مائة بالجلوم، مات أبوه وهو صغير جدا فكفلته أمه، وحفظ القرآن وقرأ القراءات على عدة شيوخ. سمع من الحافظ ابن المحب وصلاح الدين ابن أبي عمر والحافظ زين الدين العراقي وغيرهم. وسمع منه ابن حجر وابن ناصر الدين وغيرهما. قال البقاعي: إنه كان على طريقة السلف في التوسط في العيش وفي الانقطاع عن الناس لا سيما أهل الدنيا، عالما بغريب الحديث، شديد الاطلاع على المتون، بارعا في معرفة العلل، إذا حفظ شيئا لا يكاد يخرج من ذهنه. وقال السخاوي: كان إماما علامة حافظا خيرا دينا ورعا متواضعا، ¬

(¬1) الروض الباسم (ص.215 - 216). (¬2) الضوء اللامع (1/ 138 - 145) والبدر الطالع (1/ 28 - 30) وشذرات الذهب (7/ 237 - 238) والأعلام (1/ 65).

موقفه من المبتدعة:

وافر العقل حسن الأخلاق. ألف التآليف المفيدة الحسنة الدالة على سعة علمه واطلاعه. توفي رحمه الله سنة إحدى وأربعين وثمانمائة. موقفه من المبتدعة: دفاعه عن شيخ السلفيين في وقته وبعده: جاء في الضوء اللامع: ولما دخل التقي الحصني (¬1) حلب، بلغني أنه لم يتوجه لزيارته -أي سبط- لكونه كان ينكر مشافهة على لابسي الأثواب النفيسة على الهيئة المبتدعة وعلى المتقشفين، ولا يعدو حال الناس ذلك. فتحامى قصده. فما وسع الشيخ إلا المجيء إليه. فوجده نائما بالمدرسة الشرفية، فجلس حتى انتبه، ثم سلم عليه فقال له: لعلك التقي الحصني فقال: أنا أبو بكر. ثم سأله عن شيوخه فسماهم له فقال: إن شيوخك الذين سميتهم هم عبيد ابن تيمية أو عبيد من أخذ عنه، فما بالك تحط أنت عليه. فما وسع التقي إلا أن أخذ نعله وانصرف ولم يجسر يرد عليه. ولم يزل على جلالته وعلو مكانته حتى مات مطعونا في يوم الاثنين. سادس عشر شوال سنة إحدى وأربعين بحلب ولم يغب له عقل بل مات وهو يتلو. (¬2) التعليق: 1 - هذا النص يدل دلالة واضحة على حب هذا المحدث الكبير لشيخ الإسلام، فسياق القصة من أولها إلى آخرها يدل على ذلك. ¬

(¬1) كان من الذين يطعنون في ابن تيمية ويصرحون بكفره. (¬2) الضوء اللامع (1/ 145).

ابن ناصر الدين الدمشقي (842 هـ)

2 - عدم ذهابه لزيارة أكبر عدو للسلفية في وقته، على شهرته، واحتفاء أمثاله به. ولو كان من السلفيين لذهب الشيخ إليه، وكان في مقدمة من يستقبله ويعتبر ذلك شرفا له. 3 - سؤاله له بتلك الصيغة مما يدل على احتقاره له وعدم المبالاة به. 4 - عدم الاعتراف بشيوخ المخرف وأنهم في مرتبة العبيد، أو أقل. 5 - المقارنة بين شيوخ المخرف ونسبتهم إلى شيخ الإسلام ابن تيمية. 6 - تأنيبه للمخرف وأن هذا الفعل الذي يفعله لا يليق به، وأن قدر شيخ الإسلام لا يدانيه مثل هذا المخرف. 7 - إغلاظه القول للمخرف فانصرف ذليلا حقيرا. ابن ناصر الدين الدمشقي (¬1) (842 هـ) الشيخ المحدث أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد الدمشقي الشافعي الشهير بابن ناصر الدين. ولد في العشر الأول من المحرم سنة سبع وسبعين وسبعمائة بدمشق وبها نشأ وحفظ القرآن وعدة متون في صغره، وحبب إليه علم الحديث، فوجه همته إليه وعكف ليله ونهاره عليه. سمع من بدر الدين بن قوام ومحمد بن عوض الابناسي وقرأ على ابن حجر وقرأ ابن حجر عليه. وأجاز له من القاهرة الحافظ الزين العراقي والسراج ابن الملقن وغيرهما. كان إماما علامة حافظا كثير الحياء سليم الصدر حسن الأخلاق دائم ¬

(¬1) شذرات الذهب (7/ 243 - 244) والبدر الطالع (2/ 198 - 199) والضوء اللامع (8/ 103 - 106) والنجوم الزاهرة (15/ 465) والأعلام (6/ 237) وجلاء العينين في محاكمة الأحمدين (ص.40).

موقفه من المبتدعة:

الفكر متواضعا محببا إلى الناس حسن البشر والود لطيف المحاضرة والمحادثة بحيث لا تمل مجالسته. ذكره المقريزي فقال: طلب الحديث فصار حافظ بلاد الشام بغير منازع، وصنف عدة مصنفات، ولم يخلف في الشام بعده مثله. وأثنى عليه البرهان الحلبي بقوله: الشيخ الإمام المحدث الفاضل الحافظ، إلى أن قال: وقد اجتمعت به فوجدته رجلا كيسا متواضعا من أهل العلم وهو الآن محدث دمشق وحافظها. وقال المحب بن نصر الله: لم يكن بالشام في علم الحديث آخر مثله ولا قريب منه. خرج في ربيع الثاني سنة اثنتين وأربعين وثمانمائة مع جماعة لقسم قرية من قرى دمشق، فسمهم أهلها، فتوفي ودفن بمقابر العقيبة عند والده. موقفه من المبتدعة: - ' الرد الوافر على من زعم أن من سمى ابن تيمية شيخ الإسلام كافر'، والكتاب مطبوع متداول. جمع فيه من أقوال فحول العلماء الذين شهدوا لشيخ الإسلام بالإمامة والفضل. - 'إتحاف السامع بافتتاح الجامع في فضل الحديث وأهله'، ذكره في كشف الظنون (¬1) وقال: ذكر فيه فضل الحديث وأهله وفضل الصحيحين وتدريسه. أوله: "الحمد لله الذي افتتح كتابه بعد ذكر اسمه .. " وذكره البغدادي في هدية العارفين. (¬2) من مواقفه الطيبة ما جاء في الرد الوافر: ¬

(¬1) (1/ 6). (¬2) (2/ 193).

- قال: فالواجب على كل مسلم اتباع السنة المحمدية، واقتفاء الآثار النبوية الأحمدية، التي منها: التمسك بسنة الخلفاء الراشدين، والتبرك (¬1) بآثار الأئمة المهديين، ولقد أقام الناس على ذلك بعد عصر النبوة زمانا، تابعين للشريعة النبوية احتسابا وإيمانا. كما أشار إليه الإمام أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي في كتاب: 'الحجة'، فقال: وقد كان الناس على ذلك زمانا بعده، إذ كان فيهم العلماء، وأهل المعرفة بالله من الفهماء، من أراد تغيير الحق منعوه، ومن ابتدع بدعة زجروه، وإن زاغ عن الواجب قوموه، وبينوا له رشده وفهموه، فلما ذهب العلماء من الحكماء ركب كل أحد هواه، فابتدع ما أحب وارتضاه، وناظر أهل الحق عليه، ودعاهم بجهله إليه، وزخرف لهم القول بالباطل فتزين به، وصار ذلك عندهم دينا يكفر من خالفه، ويلعن من باينه، وساعده على ذلك من لا علم له من العوام، ويوقع به الظنة والاتهام، ووجد على ذلك الجهال أعوانا، ومن أعداء العلم أخدانا، أتباع كل ناعق، ومجيب كل زاعق، لا يرجعون فيه إلى دين، ولا يعتمدون على يقين، قد تمكنت لهم به الرئاسة، فزادهم ذلك في الباطل نفاسة، تزينوا به للعامة، ونسوا شدائد يوم الطامة. ثم روى الشيخ نصر بإسناده إلى محمد بن عبد الله ابن أبي الثلج، قال: حدثنا الهيثم بن خارجة، ثنا هيثم بن عمران العبسي، سمعت إسماعيل بن عبيد الله المخزومي يقول: ينبغي لنا أن نتحفظ ما جاءنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن الله عز ¬

(¬1) لعله يقصد الاهتداء بما أثر عن الأئمة المهديين وهو الموافق لسياق الكلام.

تقي الدين المقريزي (845 هـ)

وجل قال: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬1) فهو بمنزلة القرآن. (¬2) تقي الدين المقريزي (¬3) (845 هـ) الإمام المؤرخ أحمد بن علي بن عبد القادر أبو العباس تقي الدين الحسيني العبيدي، البعلي الأصل، القاهري المقريزي -نسبة لحارة في بعلبك تعرف بحارة المقارزة. ولد سنة ست وستين وسبعمائة بالقاهرة. نشأ نشأة حسنة، فحفظ القرآن وسمع من جماعة من الشيوخ كالآمدي والبلقيني والعراقي والهيثمي والتنوخي وغيرهم. ولي الحسبة والخطابة والإمامة مرات في القاهرة. كان إماما بارعا مفننا متقنا ضابطا دينا خيرا محبا لأهل السنة يميل إلى الحديث والعمل به حتى نسب إلى الظاهر، حسن الصحبة حلو المحاضرة. وكان متبحرا في التاريخ على اختلاف أنواعه، ومؤلفاته تشهد له بذلك. قال السخاوي: وقد قرأت بخطه أن تصانيفه زادت على مائتي مجلدة كبار، وأن شيوخه بلغت ستمائة نفس. وقال الحافظ ابن حجر: له النظم الفائق، والنثر الرائق، والتصانيف الباهرة، وخصوصا في تاريخ القاهرة، فإنه أحيا معالمها وأوضح مجاهلها، وجدد مآثرها وترجم أعيانها. وقال أيضا: أولع بالتاريخ ¬

(¬1) الحشر الآية (7). (¬2) (ص.29 - 30). (¬3) شذرات الذهب (7/ 254 - 255) والبدر الطالع (1/ 79) وإنباء الغمر (9/ 170 - 172) والضوء اللامع (2/ 21 - 25) والأعلام (1/ 177 - 178).

موقفه من المبتدعة:

فجمع منه شيئا كثيرا وصنف فيه كتبا، وكان لكثرة ولعه به يحفظ كثيرا منه. توفي رحمه الله سنة خمس وأربعين وثمانمائة. موقفه من المبتدعة: - قال في الخطط: القسم الثاني: فرق أهل الإسلام الذين عناهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «ستفترق أمتي ثلاثا وسبعين فرقة: ثنتان وسبعون هالكة وواحدة ناجية» وهذا الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» (¬1) ... واعلم أن فرق المسلمين خمسة: أهل السنة والمرجئة والمعتزلة والشيعة والخوارج، وقد افترقت كل فرقة منها على فرق. فأكثر افتراق أهل السنة في الفتيا ونبذ يسيرة من الاعتقادات، وبقية الفرق الأربع منها من يخالف أهل السنة الخلاف البعيد، ومنهم من يخالفهم الخلاف القريب فأقرب فرق المرجئة من قال: الإيمان إنما هو التصديق بالقلب واللسان معا فقط، وأن الأعمال إنما هي فرائض الإيمان وشرائعه فقط، وأبعدهم أصحاب جهم بن صفوان ومحمد بن كرام. وأقرب فرق المعتزلة أصحاب الحسين النجار وبشر بن غياث المريسي، وأبعدهم أصحاب أبي الهذيل العلاف وأقرب مذاهب الشيعة أصحاب الحسن ابن صالح بن حي، وأبعدهم الإمامية؛ وأما الغالية فليسوا بمسلمين ولكنهم أهل ردة وشرك. وأقرب فرق الخوارج أصحاب عبد الله بن يزيد الإباضي، ¬

(¬1) انظر تخريجه في مواقف يوسف بن أسباط سنة (195هـ).

موقفه من المشركين:

وأبعدهم الأزارقة. وأما البطيخية ومن جحد شيئا من القرآن أو فارق الإجماع من العجاردة وغيرهم فكفار بإجماع الأمة. وقد انحصرت الفرق الهالكة في عشر طوائف -ثم ذكرها-. (¬1) - وقال: والحق الذي لا ريب فيه أن دين الله تعالى ظاهر لا باطن فيه، وجوهر لا سر تحته، وهو كله لازم كل أحد لا مسامحة فيه، ولم يكتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الشريعة ولا كلمة، ولا أطلع أخص الناس به من زوجة أو ولد عمٍّ على شيء من الشريعة كتمه عن الأحمر والأسود ورعاة الغنم، ولا كان عنده - صلى الله عليه وسلم - سر ولا رمز ولا باطن غير ما دعا الناس كلهم إليه؛ ولو كتم شيئا لما بلغ كما أمر، ومن قال هذا فهو كافر بإجماع الأمة. وأصل كل بدعة في الدين البعد عن كلام السلف والانحراف عن اعتقاد الصدر الأول. (¬2) - وقال: واعلم أنك إذا تأملت جميع طوائف الضلال والبدع وجدت أصل ضلالهم راجعا إلى شيئين: أحدهما: الظن بالله ظن السوء. والثاني: لم يقدروا الرب حق قدره. (¬3) موقفه من المشركين: جاء في الخطط له: هذا وقد كان المأمون عبد الله بن هارون الرشيد سابع خلفاء بني العباس ببغداد لما شغف بالعلوم القديمة بعث إلى بلاد الروم ¬

(¬1) المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار "المعروف بالخطط المقريزية" (2/ 345). (¬2) الخطط (2/ 362). (¬3) تجريد التوحيد المفيد (ص.49 - 50).

موقفه من الرافضة:

من عرَّب له كتب الفلاسفة وأتاه بها في أعوام بضع عشرة سنة ومائتين من سني الهجرة، فانتشرت مذاهب الفلاسفة في الناس، واشتهرت كتبهم بعامة الأمصار، وأقبلت المعتزلة والقرامطة والجهمية وغيرهم عليها، وأكثروا من النظر فيها والتصفح لها، فانجر على الإسلام وأهله من علوم الفلاسفة ما لا يوصف من البلاء والمحنة في الدين، وعظم بالفلسفة ضلال أهل البدع وزادتهم كفرا إلى كفرهم. (¬1) موقفه من الرافضة: - جاء في الخطط: وقام في زمنه -أي علي بن أبي طالب- رضي الله عنه عبد الله بن وهب بن سبأ المعروف بابن السوداء السبأي، وأحدث القول بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي بالإمامة من بعده، فهو وصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخليفته على أمته من بعده بالنص، وأحدث القول برجعة علي بعد موته إلى الدنيا، وبرجعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضا، وزعم أن عليا لم يقتل وأنه حي، وأن فيه الجزء الإلهي، وأنه هو الذي يجيء في السحاب، وأن الرعد صوته والبرق سوطه، وأنه لابد أن ينزل إلى الأرض فيملأها عدلا كما ملئت جورا. ومن ابن سبأ هذا تشعبت أصناف الغلاة من الرافضة وصاروا يقولون بالوقف يعنون أن الإمامة موقوفة على أناس معينين، كقول الإمامية بأنها في الأئمة الاثني عشر، وقول الإسماعلية بأنها في ولد إسماعيل بن جعفر الصادق. وعنه أيضا أخذوا القول بفيئة الإمام والقول برجعته بعد الموت إلى الدنيا كما تعتقده الإمامية إلى اليوم في صاحب السرداب، وهو القول بتناسخ الأرواح. وعنه أخذوا أيضا القول بأن الجزء ¬

(¬1) الخطط (2/ 357).

الإلهي يحل في الأئمة بعد علي بن أبي طالب، وأنهم بذلك استحقوا الإمامة بطريق الوجوب كما استحق آدم عليه السلام سجود الملائكة، وعلى هذا الرأي كان اعتقاد دعاة الخلفاء الفاطميين ببلاد مصر. وابن سبأ هذا هو الذي أثار فتنة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه حتى قتل كما ذكر في ترجمة ابن سبأ من كتاب التاريخ الكبير المقفى، وكان له عدة أتباع في عامة الأمصار وأصحاب كثيرون في معظم الأقطار، فكثرت لذلك الشيعة وصاروا ضدا للخوارج وما زال أمرهم يقوى وعددهم يكثر. (¬1) - وقال: واعلم أن السبب في خروج أكثر الطوائف عن ديانة الإسلام، أن الفرس كانت من سعة الملك وعلو اليد على جميع الأمم وجلالة الخطر في أنفسها بحيث أنهم كانوا يسمون أنفسهم الأحرار والأسياد، وكانوا يعدون سائر الناس عبيدا لهم، فلما امتحنوا بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب، وكانت العرب عند الفرس أقل الأمم خطرا تعاظمهم الأمر، وتضاعفت لديهم المصيبة، وراموا كيد الإسلام بالمحاربة في أوقات شتى، وفي كل ذلك يظهر الله تعالى الحق، وكان من قائميهم شنفاد واشنيس والمقفع وبابك وغيرهم، وقبل هؤلاء رام ذلك عمار الملقب خداشا، وأبو مسلم السروح، فرأوا أن كيده على الحيلة أنجع. فأظهر قوم منهم الإسلام واستمالوا أهل التشيع بإظهار محبة أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستبشاع ظلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم سلكوا بهم مسالك شتى حتى أخرجوهم عن طريق الهدى. فقوم أدخلوهم إلى القول بأن رجلا ينتظر يدعى المهدي ¬

(¬1) الخطط (2/ 356 - 357).

عنده حقيقة الدين، إذ لا يجوز أن يؤخذ الدين عن كفار إذ نسبوا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الكفر. وقوم خرجوا إلى القول بادعاء النبوة لقوم سموهم به، وقوم سلكوا بهم إلى القول بالحلول وسقوط الشرائع، وآخرون تلاعبوا بهم فأوجبوا عليهم خمسين صلاة في كل يوم وليلة، وآخرون قالوا: بل هي سبع عشرة صلاة في كل صلاة خمس عشرة ركعة، وهو قول عبد الله بن عمرو بن الحارث الكندي قبل أن يصير خارجيا صفريا. وقد أظهر عبد الله بن سبأ الحميري اليهودي الإسلام، ليكيد أهله، فكان هو أصل إثارة الناس على عثمان بن عفان رضي الله عنه، وأحرق علي رضي الله عنه منهم طوائف أعلنوا بإلهيته، ومن هذه الأصول حدثت الإسماعيلية والقرامطة. والحق الذي لا ريب فيه أن دين الله تعالى ظاهر لا باطن فيه وجوهر لا سر تحته، وهو كله لازم كل أحد لا مسامحة فيه، ولم يكتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الشريعة ولا كلمة، ولا أطلع أخص الناس به من زوجة أو ولد عم على شيء من الشريعة كتمه عن الأحمر والأسود ورعاة الغنم، ولا كان عنده - صلى الله عليه وسلم - سر ولا رمز ولا باطن غير ما دعا الناس كلهم إليه، ولو كتم شيئا لما بلغ كما أمر، ومن قال هذا، فهو كافر بإجماع الأمة. وأصل كل بدعة في الدين البعد عن كلام السلف والانحراف عن اعتقاد الصدر الأول، حتى بالغ القدري في القدر، فجعل العبد خالقا لأفعاله، وبالغ الجبري في مقابلته، فسلب عنه الفعل والاختيار، وبالغ المعطل في التنزيه فسلب عن الله تعالى صفات الجلال ونعوت الكمال، وبالغ المشبه في مقابلته، فجعله كواحد من البشر، وبالغ المرجئ في سلب العقاب، وبالغ المعتزلي في التخليد في العذاب،

وبالغ الناصبي في دفع علي رضي الله عنه عن الإمامة، وبالغت الغلاة حتى جعلوه إلها، وبالغ السني في تقديم أبي بكر رضي الله عنه، وبالغ الرافضي في تأخيره حتى كفره، وميدان الظن واسع وحكم الوهم غالب، فتعارضت الظنون وكثرت الأوهام وبلغ كل فريق في الشر والعناد والبغي والفساد إلى أقصى غاية وأبعد نهاية، وتباغضوا وتلاعنوا، واستحلوا الأموال واستباحوا الدماء، وانتصروا بالدول، واستعانوا بالملوك، فلو كان أحدهم إذا بالغ في أمر نازع الآخر في القرب منه، فإن الظن لا يبعد عن الظن كثيرا، ولا ينتهي في المنازعة إلى الطرف الآخر من طرفي التقابل، لكنهم أبوا إلا ما قدمنا ذكره من التدابر والتقاطع، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك. (¬1) التعليق: يتلخص من هذه الكلمة المباركة الأمور الآتية: 1 - السبب في خروج الطوائف عن ملة الإسلام. ومكائد المنافقين الذين أظهروا إسلامهم خداعا. 2 - ليس في الإسلام ظاهر وباطن، بل كله ظاهر يشترك في فهمه والعمل به كل على قدر استطاعته. 3 - لم يخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحدا بشيء من شرعه، بل بلغه للجميع القريب والبعيد والأحمر والأسود، كلهم سواء. ومن قال غير هذا فهو كافر مرتد. 4 - بيان أصل البدع والسبب في وجودها: البعد عن كلام السلف والانحراف عن اعتقاد الصدر الأول. ¬

(¬1) الخطط (2/ 362).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: هذا المؤرخ الكبير كان من أفاضل علماء زمانه. له اطلاع واسع وباع طويل ومعرفة واسعة بالعقيدة السلفية والخلفية، وقد أبدى في كتابه الخطط إعجابا بالعقيدة السلفية وبين أنها عقيدة الصحابة والتابعين لهم بإحسان. فقال: - فصل: اعلم أن الله سبحانه طلب من الخلق معرفته بقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} (¬1) قال ابن عباس وغيره: يعرفون، فخلق تعالى الخلق، وتعرف إليهم بألسنة الشرائع المنزلة، فعرفه من عرفه سبحانه منهم على ما عرفهم فيما تعرف به إليهم، وقد كان الناس قبل إنزال الشرائع ببعثة الرسل عليهم السلام علمهم بالله تعالى إنما هو بطريق التنزيه له عن سمات الحدوث وعن التركيب وعن الافتقار، ويصفونه سبحانه بالاقتدار المطلق، وهذا التنزيه هو المشهور عقلا، ولا يتعداه عقل أصلا. فلما أنزل الله شريعته على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأكمل دينه، كان سبيل العارف بالله أن يجمع في معرفته بالله بين معرفتين إحداهما المعرفة التي تقتضيها الأدلة العقلية والأخرى المعرفة التي جاءت بها الإخبارات الإلهية وأن يرد علم ذلك إلى الله تعالى ويؤمن به وبكل ما جاءت به الشريعة على الوجه الذي أراده الله تعالى من غير تأويل بفكره، ولا تحكم فيه برأيه، وذلك أن الشرائع إنما أنزلها الله تعالى لعدم استقلال العقول البشرية بإدراك حقائق الأشياء على ما ¬

(¬1) الذاريات الآية (56).

هي عليه في علم الله وأنى لها ذلك؟! وقد تقيدت بما عندها من إطلاق ما هنالك، فإن وهبها علما بمراده من الأوضاع الشرعية، ومنحها الإطلاع على حكمه في ذلك كان من فضله تعالى، فلا يضيف العارف هذه المنة إلى فكره، فإن تنزيهه لربه تعالى بفكره يجب أن يكون مطابقا لما أنزله سبحانه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب والسنة وإلا فهو تعالى منزه عن تنزيه عقول البشر بأفكارها، فإنها مقيدة بأوطارها، فتنزيهها كذلك مقيد بحسبها، وبموجب أحكامها وآثارها، إلا إذا خلت عن الهوى فإنها حينئذ يكشف الله لها الغطاء عن بصائرها ويهديها إلى الحق فتنزه الله تعالى عن التنزيهات العرفية بالأفكار العادية، وقد أجمع المسلمون قاطبة على جواز رواية الأحاديث الواردة في الصفات ونقلها وتبليغها من غير خلاف بينهم في ذلك، ثم أجمع أهل الحق منهم على أن هذه الأحاديث مصروفة عن احتمال مشابهة الخلق، لقول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (¬1) ولقول الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4)} وهذه السورة يقال لها سورة الإخلاص، وقد عظم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شأنها ورغب أمته في تلاوتها حتى جعلها تعدل ثلث القرآن، من أجل أنها شاهدة بتنزيه الله تعالى وعدم الشبه والمثل له سبحانه، وسميت سورة الإخلاص لاشتمالها على إخلاص التوحيد لله عن أن ¬

(¬1) الشورى الآية (11) ..

يشوبه ميل إلى تشبيهه بالخلق، وأما الكاف التي في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فإنها زائدة وقد تقرر أن الكاف والمثل في كلام العرب أتيا للتشبيه، فجمعهما الله تعالى ثم نفى بهما عنه ذلك، فإذا ثبت إجماع المسلمين على جواز رواية هذه الأحاديث ونقلها، مع إجماعهم على أنها مصروفة عن التشبيه، لم يبق في تعظيم الله تعالى بذكرها إلا نفي التعطيل، لكون أعداء المرسلين سموا ربهم سبحانه أسماء؛ نفوا فيها صفاته العلا، فقال قوم من الكفار: هو طبيعة، وقال آخرون منهم: هو علة، إلى غير ذلك من إلحادهم في أسمائه سبحانه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الأحاديث المشتملة على ذكر صفات الله العلا، ونقلها عنه أصحابه البررة، ثم نقلها عنهم أئمة المسلمين حتى انتهت إلينا، وكل منهم يرويها بصفتها من غير تأويل لشيء منها، مع علمنا أنهم كانوا يعتقدون أن الله سبحانه وتعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} ففهمنا من ذلك أن الله تعالى أراد بما نطق به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من هذه الأحاديث، وتناولها عنه الصحابة رضي الله عنهم وبلغوها لأمته، أن يغص بها في حلوق الكافرين، وأن يكون ذكرها نكتا في قلب كل ضال معطل مبتدع، يقفو أثر المبتدعة من أهل الطبائع وعباد العلل، فلذلك وصف الله تعالى نفسه الكريمة بها في كتابه، ووصفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضا بما صح عنه وثبت، فدل على أن المؤمن إذا اعتقد أن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأنه أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، كان ذكره

لهذه الأحاديث تمكين الإثبات، وشجا في حلوق المعطلة. وقد قال الشافعي رحمه الله: الإثبات أمكن؛ نقله الخطابي. ولم يبلغنا عن أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم أنهم أولوا هذه الأحاديث، والذي يمنع من تأويلها إجلال الله تعالى عن أن تضرب له الأمثال، وأنه إذا أنزل القرآن بصفة من صفات الله كقوله سبحانه: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (¬1) فإن نفس تلاوة هذا يفهم منها السامع المعنى المراد به، وكذا قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (¬2) عند حكايته تعالى عن اليهود نسبتهم إياه إلى البخل. فقال تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} فإن نفس تلاوة هذا، مبينة للمعنى المقصود، وأيضا فإن تأويل هذه الأحاديث يحتاج أن يضرب لله تعالى فيها المثل، نحو قولهم في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (¬3) الاستواء الاستيلاء كقولك استوى الأمير على البلد وأنشدوا: قد استوى بشر على العراق فلزمهم تشبيه الباري تعالى ببشر، وأهل الإثبات نزهوا جلال الله عن أن يشبهوه بالأجسام حقيقة ولا مجازا، وعلموا مع ذلك أن هذا النطق يشتمل على كلمات متداولة بين الخالق وخلقه، وتحرجوا أن يقولوا مشتركة لأن الله لا شريك له، ولذلك لم يتأول السلف شيئا من أحاديث الصفات مع ¬

(¬1) الفتح الآية (10). (¬2) المائدة الآية (64). (¬3) طه الآية (5).

علمنا قطعا أنها عندهم مصروفة عما يسبق إليه ظنون الجهال من مشابهتها لصفات المخلوقين، وتأمل تجد الله تعالى لما ذكر المخلوقات المتولدة من الذكر والأنثى في قوله سبحانه: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} (¬1) علم سبحانه ما يخطر بقلوب الخلق فقال عز من قائل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (¬2).اهـ (¬3) التعليق: يتلخص من هذه العقيدة المباركة الأمور الآتية: 1 - سلفية الشيخ ودفاعه عن العقيدة السلفية، وأنها هي الأصل، وهي الموافقة للفطرة السليمة. وما سوى ذلك طارئ وحادث. 2 - معرفة الله بالفطرة والشرائع مفصلة ومبية لذلك. 3 - آيات الصفات وأحاديثها جاءت ردا على المعطلة والملاحدة في القديم والحديث، وهي العمدة في معرفة الله، فهي ترد وهم الطبائعيين وخيالات المتفلسفين وأوهام المعطلين. 4 - لازم التأويل التشبيه، ولا يمكن أن يكون تأويل إلا بذلك. - وفيها أيضا: اعلم أن الله تعالى لما بعث من العرب نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) الشورى الآية (11). (¬2) الشورى الآية (11). (¬3) الخطط (2/ 360 - 362).

رسولا إلى الناس جميعا، وصف لهم ربهم سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه الكريمة في كتابه العزيز الذي نزل به على قلبه - صلى الله عليه وسلم - الروح الأمين، وبما أوحى إليه ربه تعالى؛ فلم يسأله - صلى الله عليه وسلم - أحد من العرب بأسرهم قرويهم وبدويهم عن معنى شيء من ذلك، كما كانوا يسألونه - صلى الله عليه وسلم - عن أمر الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك مما لله فيه سبحانه أمر ونهي، وكما سألوه - صلى الله عليه وسلم - عن أحوال القيامة والجنة والنار، إذ لو سأله إنسان منهم عن شيء من الصفات الإلهية لنقل كما نقلت الأحاديث الواردة عنه - صلى الله عليه وسلم - في أحكام الحلال والحرام، وفي الترغيب والترهيب، وأحوال القيامة والملاحم والفتن، ونحو ذلك مما تضمنته كتب الحديث، معاجمها ومسانيدها وجوامعها، ومن أمعن النظر في دواوين الحديث النبوي ووقف على الآثار السلفية علم أنه لم يرد قط من طريق صحيح ولا سقيم عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم على اختلاف طبقاتهم وكثرة عددهم أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن معنى شيء مما وصف الرب سبحانه به نفسه الكريمة في القرآن الكريم وعلى لسان نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، بل كلهم فهموا معنى ذلك وسكتوا عن الكلام في الصفات، نعم ولا فرق أحد منهم بين كونها صفة ذات أو صفة فعل، وإنما أثبتوا له تعالى صفات أزلية: من العلم والقدرة، والحياة والإرادة، والسمع والبصر، والكلام والجلال، والإكرام والجود والإنعام، والعز والعظمة، وساقوا الكلام سوقا واحدا، وهكذا أثبتوا رضي الله عنهم ما أطلقه الله سبحانه على نفسه الكريمة من الوجه واليد ونحو ذلك مع نفي مماثلة المخلوقين، فأثبتوا رضي الله عنهم بلا تشبيه، ونزهوا من غير تعطيل، ولم يتعرض مع ذلك أحد منهم إلى تأويل

موقفه من الخوارج:

شيء من هذا، ورأوا بأجمعهم إجراء الصفات كما وردت، ولم يكن عند أحد منهم ما يستدل به على وحدانية الله تعالى وعلى إثبات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - سوى كتاب الله، ولا عرف أحد منهم شيئا من الطرق الكلامية ولا مسائل الفلسفة. (¬1) - وفيها: وفي أثناء ذلك حدث مذهب الاعتزال منذ زمن الحسن بن الحسين البصري رحمه الله بعد المائتين من سني الهجرة، وصنفوا فيه مسائل في العدل والتوحيد وإثبات أفعال العباد، وأن الله تعالى لا يخلق الشر، وجهروا بأن الله لا يرى في الآخرة، وأنكروا عذاب القبر على البدن، وأعلنوا بأن القرآن مخلوق محدث، إلى غير ذلك من مسائلهم؛ فتبعهم خلائق في بدعهم، وأكثروا من التصنيف في نصرة مذهبهم بالطرق الجدلية، فنهى أيمة الإسلام عن مذهبهم، وذموا علم الكلام وهجروا من ينتحله، ولم يزل أمر المعتزلة يقوى وأتباعهم تكثر ومذهبهم ينتشر في الأرض. (¬2) موقفه من الخوارج: قال: وحدث أيضا في زمن الصحابة رضي الله عنهم مذهب الخوارج، وصرحوا بالتكفير بالذنب والخروج على الإمام وقتاله، فناظرهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فلم يرجعوا إلى الحق، وقاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقتل منهم جماعة كما هو معروف في كتب الأخبار. ودخل في دعوة الخوارج خلق كثير، ورمى جماعة من أئمة الإسلام ¬

(¬1) الخطط (2/ 356 - 357). (¬2) الخطط (2/ 357).

موقفه من المرجئة:

بأنهم يذهبون إلى مذهبهم، وعد منهم غير واحد من رواة الحديث كما هو معروف عند أهله. (¬1) موقفه من المرجئة: قال: واعلم أن العبادة أربع قواعد، وهي: التحقيق بما يحب الله ورسوله ويرضاه، وقيام ذلك بالقلب واللسان والجوارح، فالعبودية اسم جامع لهذه المراتب الأربع، فأصحاب العبادة حقا هم أصحابها. فقول القلب: هو اعتقاد ما أخبر الله تعالى عن نفسه وأخبر رسوله عن ربه من أسمائه وصفاته وأفعاله، وملائكته ولقائه وما أشبه ذلك. وقول اللسان: الإخبار عنه بذلك والدعاء إليه، والذب عنه وتبيين بطلان البدع المخالفة له، والقيام بذكره تعالى وتبليغ أمره. وعمل القلب كالمحبة له والتوكل عليه، والإنابة والخوف، والرجاء والإخلاص، والصبر على أوامره ونواهيه، وإقراره والرضاء به وله وعنه، والموالاة فيه والمعاداة فيه، والإخبات إليه والطمأنينة، ونحو ذلك من أعمال القلوب التي فرضها آكد من فرض أعمال الجوارح، ومستحبها إلى الله تعالى أحب من مستحب أعمال الجوارح. وأما أعمال الجوارح فكالصلاة والجهاد ونقل الأقدام إلى الجمعة والجماعات ومساعدة العاجز والإحسان إلى الخلق ونحو ذلك، فقول العبد في صلواته: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} التزام أحكام هذه الأربعة وإقرار بها. ¬

(¬1) الخطط (2/ 356).

موقفه من القدرية:

وقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} طلب الإعانة عليها والتوفيق لها. وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} متضمن للأمرين على التفصيل، وإلهام القيام بهما، وسلوك طريق السالكين إلى الله تعالى، والله الموفق بمنه وكرمه، والحمد لله وحده وصلى الله على من لا نبي بعده وآله وصحبه ووارثيه وحزبه. (¬1) موقفه من القدرية: قال رحمه الله: قضى عصر الصحابة رضي الله عنهم على هذا -أي على ما تركهم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحق الذي أنزل عليه- إلى أن حدث في زمنهم القول بالقدر وأن الأمر أنفة -أي أن الله تعالى لم يقدر على خلقه شيئا مما هم عليه-. وكان أول من قال بالقدر في الإسلام معبد بن خالد الجهني، وكان يجالس الحسن بن الحسين البصري، فتكلم في القدر بالبصرة، وسلك أهل البصرة مسلكه لما رأوا عمرو بن عبيد ينتحله، وأخذ معبد هذا الرأي عن رجل من الأساورة يقال له أبو يونس سنسويه ويعرف بالأسواري. فلما عظمت الفتنة به عذبه الحجاج وصلبه بأمر عبد الملك بن مروان سنة ثمانين؛ ولما بلغ عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما مقالة معبد في القدر تبرأ من القدرية، واقتدى بمعبد في بدعته هذه جماعة، وأخذ السلف رحمهم الله في ذم القدرية وحذروا منهم كما هو معروف في كتب الحديث. وكان عطاء بن يسار قاضيا يرى القدر وكان يأتي هو ومعبد ¬

(¬1) تجريد التوحيد المفيد (ص.82 - 84).

ابن حجر العسقلاني (852 هـ)

الجهني إلى الحسن البصري فيقولان له: إن هؤلاء يسفكون الدماء، ويقولون: إنما تجري أعمالنا على قدر الله، فقال: كذب أعداء الله، فطعن عليه بهذا ومثله. (¬1) ابن حجر العسقلاني (¬2) (852 هـ) شيخ الإسلام أمير المؤمنين في الحديث حافظ العصر شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد الشهير بابن حجر -وهو لقب لبعض آبائه- الكناني العسقلاني الأصل، المصري المولد والمنشأ، الشافعي. ولد في ثاني عشر شعبان سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة بالقاهرة ونشأ بها يتيما في كنف أحد أوصيائه الزكي الخروبي. فحفظ القرآن وتولع بالنظم. ثم حبب الله إليه طلب الحديث فأقبل عليه، ورحل من أجله إلى قوص ثم إلى الإسكندرية والحجاز واليمن والشام. ودرس على عدة شيوخ بلغوا ستمائة نفس، منهم: البلقيني وابن الملقن والعراقي والهيثمي ومحمد المنبجي وعدة. واجتمع له من ذلك ما لم يجتمع لغيره. وأدرك من الشيوخ جماعة كل واحد رأس في فنه الذي اشتهر به. تتلمذ عليه السخاوي والسيوطي والديلمي وابن مرزوق وغيرهم. مؤلفاته كثيرة مشهورة وصلت إلى أكثر من مائة وخمسين مؤلفا منها: 'شرح البخاري' و'تهذيب التهذيب' و'التقريب' و'الإصابة' و'لسان الميزان' ¬

(¬1) الخطط (2/ 356). (¬2) النجوم الزاهرة (15/ 532 - 534) والضوء اللامع (2/ 36 - 40) وفهرس الفهارس (1/ 321 - 337) وحسن المحاضرة (1/ 363 - 366) والبدر الطالع (1/ 87 - 92) وشذرات الذهب (7/ 270 - 273) ومعجم المؤلفين (2/ 20 - 21).

موقفه من المبتدعة:

و'الدرر الكامنة'. وكان رحمه الله تعالى كثير الصوم ملازما للعبادة واقتفاء السلف الصالح، وأوقاته مقسمة للطلبة مع كثرة المطالعة والتصنيف والإفتاء والتدريس. أثنى عليه جمع من أهل العلم، وخصه بعضهم بالترجمة كالإمام السخاوي في كتابه 'الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر'. قال البرهان الحلبي: ما رأينا مثله. وقال العلامة التقي الفاسي: هو أحفظ أهل العصر للأحاديث والآثار وأسماء الرجال، المتقدمين منهم والمتأخرين، والعالي من ذلك والنازل، وصنف عدة تصانيف في علل الأحاديث، وبراعته حسنة في الفقه وغيره، ويبدي في دروسه للفقه أشياء حسنة. وقال أيضا: إن الله لا يستحيي من الحق، ما رأينا مثل الشيخ شهاب الدين ابن حجر، قيل له: ولا شيخكم العراقي، قال: ولا العراقي، رحمهم الله. وقال محدث الحجاز نجم الدين بن فهد: كان رحمه الله فريد عصره ونسيج وحده، وإمام وقته، انتهى إليه علم الأثر والمعرفة بالعلل وأسماء الرجال وأحوال الرواة والجرح والتعديل والناسخ والمنسوخ والمشكلات، تشد إليه الرحال في معرفة ذلك. توفي رحمه الله تعالى ليلة السبت ثامن عشر ذي الحجة سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة. موقفه من المبتدعة: - قال في شرحه حديث حذيفة: «كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني» (¬1): يؤخذ منه ذم من جعل للدين أصلا خلاف الكتاب والسنة وجعلهما فرعا لذلك الأصل الذي ابتدعوه، وفيه وجوب رد الباطل وكل ما خالف الهدي النبوي ولو قاله من قاله من رفيع أو وضيع. (¬2) - وقال في شرحه حديث ابن عباس: «أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين .. » (¬3): فيه تخطئة من يقيم بين أهل المعصية باختياره لا لقصد صحيح من إنكار عليهم مثلا أو رجاء إنقاذ مسلم من هلكة، وأن القادر على التحول عنهم لا يعذر. (¬4) - وقال في شرحه حديث عبد الله بن عمر (¬5) وذكروا له نجدا فقال - صلى الله عليه وسلم -: «هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان»، فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن الفتنة تكون من تلك الناحية فكان كما أخبر، وأول الفتن كان من قبل المشرق فكان ذلك سببا للفرقة بين المسلمين وذلك مما يحبه الشيطان ويفرح به، وكذلك البدع نشأت من تلك الجهة. (¬6) ¬

(¬1) أخرجه: البخاري (6/ 763 - 764/ 3606) ومسلم (3/ 1475 - 1476/ 1847) وابن ماجه (2/ 1317/3979) من طريق بسر بن عبيد الله الحضرمي قال: حدثني أبو إدريس الخولاني أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول: فذكره. وأخرجه: أحمد (5/ 386 - 387) وأبو داود (4/ 447/4246) وابن حبان (الإحسان 13/ 298 - 299/ 5963) من طرق عن سليمان بن المغيرة عن حميد عن نصر بن عاصم الليثي قال: أتينا اليشكري في رهط ... فذكره. (¬2) الفتح (13/ 37). (¬3) أخرجه: البخاري (13/ 47/7085). (¬4) الفتح (13/ 38). (¬5) أخرجه: أحمد (2/ 118) والبخاري (2/ 662/1037) والترمذي (5/ 689/3953) وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه من حديث ابن عون". (¬6) الفتح (13/ 47).

موقفه من المشركين:

- وقال: وأما قوله في حديث العرباض (¬1): «فإن كل بدعة ضلالة» بعد قوله: «وإياكم ومحدثات الأمور» فإنه يدل على: أن المحدث يسمى بدعة. وقوله: «كل بدعة ضلالة»: قاعدة شرعية كلية بمنطوقها ومفهومها، أما منطوقها فكأن يقال: "حكم كذا بدعة وكل بدعة ضلالة" فلا تكون من الشرع لأن الشرع كله هدى، فإن ثبت أن الحكم المذكور بدعة صحت المقدمتان، وأنتجتا المطلوب، والمراد بقوله «كل بدعة ضلالة» ما أحدث ولا دليل له من الشرع بطريق خاص ولا عام. (¬2) موقفه من المشركين: - قال في قوله تعالى: {فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (¬3) ويستفاد من هذا مشروعية الهرب من الكفار ومن الظلمة لأن الإقامة معهم من إلقاء النفس إلى التهلكة، هذا إذا لم يعنهم ولم يرض بأفعالهم، فإن أعان أو رضي فهو منهم، ويؤيده أمره - صلى الله عليه وسلم - بالإسراع في الخروج من ديار ثمود (¬4).اهـ (¬5) موقفه من الرافضة: جاء في الفتح: ¬

(¬1) انظر تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ). (¬2) الفتح (13/ 254). (¬3) النساء الآية (140). (¬4) أحمد (2/ 9 و58 و72) والبخاري (6/ 467/3381) ومسلم (4/ 2286/2980 (39)) من حديث ابن عمر. (¬5) الفتح (13/ 61).

- واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عرف المحق منهم، لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد، وقد عفا الله تعالى عن المخطئ في الاجتهاد، بل ثبت أنه يؤجر أجرا واحدا وأن المصيب يؤجر أجرين. (¬1) - وقال عند حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة عظيمة ... » الحديث (¬2): قوله: «كلهم يزعم أنه رسول الله» ظاهر في أن كلا منهم يدعي النبوة، وهذا هو السر في قوله في آخر الحديث الماضي «وإني خاتم النبيين» (¬3) ويحتمل أن يكون الذين يدعون النبوة منهم ما ذكر من الثلاثين أو نحوها، وأن من زاد على العدد المذكور يكون كذابا فقط لكن يدعو إلى الضلالة، كغلاة الرافضة، والباطنية، وأهل الوحدة، والحلولية، وسائر الفرق الدعاة إلى ما يعلم بالضرورة أنه خلاف ما جاء به محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويؤيده أن في حديث علي عند أحمد، "فقال علي لعبد الله بن الكواء: وإنك لمنهم" وابن الكواء لم ¬

(¬1) الفتح (13/ 34). (¬2) أحمد (2/ 313 - 530) والبخاري (6/ 764/3609) و (13/ 102/7121) ومسلم (4/ 2239 - 2240/ 157) وأبو داود (4/ 506 - 507/ 4333) والترمذي (4/ 432/2218) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ورواه ابن ماجه (2/ 1304/3952) من حديث ثوبان - رضي الله عنه -. (¬3) ذكره في شرح قوله - صلى الله عليه وسلم -: (قريب من ثلاثين). من رواية حذيفة «سيكون في أمتي كذابون دجالون سبعة وعشرون: منهم أربع نسوة، وإني خاتم النبيين لا نبي بعدي» أخرجه: أحمد (5/ 396) والطبراني في الكبير (3/ 188/3026) والأوسط (6/ 214/5446) والبزار (7/ 294/2888) البحر الزخار) مختصراً. وذكره الهيثمي في المجمع (7/ 332) وقال: "رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط والبزار، ورجال البزار رجال الصحيح". وجود إسناده الحافظ في الفتح (13/ 108).

موقفه من الصوفية:

يدع النبوة وإنما كان يغلو في الرفض. (¬1) موقفه من الصوفية: قال رحمه الله: المراد بتوحيد الله تعالى الشهادة بأنه إله واحد، وهذا الذي يسميه بعض غلاة الصوفية توحيد العامة، وقد ادعى طائفتان في تفسير التوحيد أمرين اخترعوهما، أحدهما: تفسير المعتزلة كما تقدم، ثانيهما: غلاة الصوفية، فإن أكابرهم لما تكلموا في مسألة المحو والفناء، وكان مرادهم بذلك المبالغة في الرضا والتسليم وتفويض الأمر، بالغ بعضهم حتى ضاهى المرجئة في نفي نسبة الفعل إلى العبد، وجر ذلك بعضهم إلى معذرة العصاة، ثم غلا بعضهم فعذر الكفار، ثم غلا بعضهم فزعم أن المراد بالتوحيد اعتقاد وحدة الوجود. (¬2) - وقال رحمه الله: واستدل جماعة من الصوفية بحديث الباب (¬3) على إباحة الغناء وسماعه بآلة، وبغير آلة، ويكفى في رد ذلك تصريح عائشة في الحديث الذي في الباب بعده بقولها: "وليستا بمغنيتين" فنفت عنهما من طريق المعنى ما أثبته لهما باللفظ، لأن الغناء يطلق على رفع الصوت وعلى الترنم الذي تسميه العرب النصب بفتح النون وسكون المهملة وعلى الحداء، ولا يسمى فاعله مغنيا وإنما يسمى بذلك من ينشد بتمطيط وتكسير وتهييج وتشويق بما فيه تعريض بالفواحش أو تصريح. (¬4) ¬

(¬1) الفتح (13/ 108). (¬2) الفتح (13/ 348). (¬3) أي حديث عائشة قالت: دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث ... الحديث. أخرجه أحمد (6/ 84) والبخاري (2/ 559/949 - 950) ومسلم (2/ 609/892 (19)) والنسائي (3/ 218/1596). (¬4) فتح الباري (2/ 562).

موقفه من الجهمية:

- وقال أيضا: واستدل قوم من الصوفية بحديث الباب (¬1) على جواز الرقص وسماع آلات الملاهي، وطعن فيه الجمهور باختلاف المقصدين. فإن لعب الحبشة بحرابهم كان للتمرين على الحرب فلا يحتج به للرقص في اللهو والله أعلم. (¬2) - وقال رحمه الله في شرحه لحديث: «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب» (¬3): وقد تمسك بهذا الحديث بعض الجهلة من أهل التجلي والرياضة فقالوا: القلب إذا كان محفوظا مع الله كانت خواطره معصومة من الخطأ. وتعقب ذلك أهل التحقيق من أهل الطريق فقالوا: لا يلتفت إلى شيء من ذلك إلا إذا وافق الكتاب والسنة، والعصمة إنما هي للأنبياء ومن عاداهم فقد يخطأ، فقد كان عمر رضي الله عنه رأس الملهمين ومع ذلك فكان ربما رأى الرأي فيخبره بعض الصحابة بخلافه فيرجع إليه ويترك رأيه، فمن ظن أنه يكتفي بما يقع في خاطره عما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام فقد ارتكب أعظم الخطأ، وأما من بالغ منهم فقال: حدثني قلبي عن ربي فإنه أشد خطأ، فإنه لا يأمن أن يكون قلبه إنما حدثه عن الشيطان والله المستعان. (¬4) موقفه من الجهمية: - وقد شاع فاشيا عمل الصحابة والتابعين بخبر الواحد من غير نكير فاقتضى الاتفاق منهم على القبول. (¬5) ¬

(¬1) يعني حديث الحبشة. (¬2) فتح الباري (6/ 686). (¬3) أخرجه البخاري (11/ 414/6502) عن أبي هريرة رضي الله عنه. (¬4) فتح الباري (11/ 419 - 420). (¬5) الفتح (13/ 234).

- واعترض بعض المخالفين بأن إرسالهم -يعني معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما- إنما كان لقبض الزكاة والفتيا ونحو ذلك وهي مكابرة، فإن العلم حاصل بإرسال الأمراء لأعم من قبض الزكاة وإبلاغ الأحكام وغير ذلك، ولو لم يشتهر من ذلك إلا تأمير معاذ بن جبل وأمره له وقوله له: «إنك تقدم على قوم أهل كتاب فأعلمهم أن الله فرض عليهم» (¬1) إلخ، والأخبار طافحة بأن أهل كل بلد منهم كانوا يتحاكمون إلى الذي أمر عليهم ويقبلون خبره، ويعتمدون عليه من غير التفات إلى قرينة، وفي أحاديث هذا الباب كثير من ذلك. واحتج بعض الأئمة بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (¬2) مع أنه كان رسولا إلى الناس كافة ويجب عليه تبليغهم، فلو كان خبر الواحد غير مقبول لتعذر إبلاغ الشريعة إلى الكل ضرورة لتعذر خطاب جميع الناس شفاها، وكذا تعذر إرسال عدد التواتر إليهم، وهو مسلك جيد ينضم إلى ما احتج به الشافعي ثم البخاري ... ومن حيث النظر أن الرسول عليه الصلاة والسلام بعث لتبليغ الأحكام، وصدق خبر الواحد ممكن فيجب العمل به احتياطا، وأن إصابة الظن بخبر الصدوق غالبة، ووقوع الخطأ فيه نادر، فلا تترك المصلحة الغالبة خشية المفسدة النادرة. (¬3) - وفيه: وقد نقل بعض العلماء لقبول خبر الواحد: أن كل صاحب وتابع سئل عن نازلة في الدين فأخبر السائل بما عنده فيها من الحكم أنه لم ¬

(¬1) تقدم تخريجه في مواقف ابن خزيمة سنة (311هـ). (¬2) المائدة الآية (67). (¬3) الفتح (13/ 235).

يشترط عليه أحد منهم أن لا يعمل بما أخبره به من ذلك حتى يسأل غيره فضلا عن أن يسأل الكواف، بل كان كل منهم يخبره بما عنده فيعمل بمقتضاه ولا ينكر عليه ذلك، فدل على اتفاقهم على وجوب العمل بخبر الواحد. (¬1) - وفيه: وقد توسع من تأخر عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة أصلا يردون إليه ما خالفه من الآثار بالتأويل ولو كان مستكرها، ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتبوه هو أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل، وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عامي جاهل، فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف واجتنب ما أحدثه الخلف، وإن لم يكن له منه بد فليكتف منه بقدر الحاجة، ويجعل الأول المقصود بالأصالة والله الموفق. (¬2) - وفيه: وليس الذي أنكروه على الجهمية مذهب الجبر خاصة، وإنما الذي أطبق السلف على ذمهم بسببه إنكار الصفات. حتى قالوا إن القرآن ليس كلام الله وأنه مخلوق. (¬3) - وفيه: والعجب أن من اشترط ذلك من أهل الكلام ينكرون التقليد، وهم أول داع إليه حتى استقر في الأذهان أن من أنكر قاعدة من القواعد التي ¬

(¬1) الفتح (13/ 238). (¬2) الفتح (13/ 253). (¬3) الفتح (13/ 345).

أصلوها فهو مبتدع ولو لم يفهمها ولم يعرف مأخذها؛ وهذا هو محض التقليد، فآل أمرهم إلى تكفير من قلد الرسول عليه الصلاة والسلام في معرفة الله تعالى، والقول بإيمان من قلدهم. وكفى بهذا ضلالا وما مثلهم إلا كما قال بعض السلف: إنهم كمثل قوم كانوا سفرا فوقعوا في فلاة ليس فيها ما يقوم به البدن من المأكول والمشروب ورأوا فيها طرقا شتى فانقسموا قسمين: فقسم وجدوا من قال لهم أنا عارف بهذه الطرق وطريق النجاة منها واحدة فاتبعوني فيها تنجوا فتبعوه فنجوا، وتخلفت عنه طائفة فأقاموا إلى أن وقفوا على أمارة ظهر لهم أن في العمل بها النجاة فعملوا بها فنجوا، وقسم هجموا بغير مرشد ولا أمارة فهلكوا، فليست نجاة من اتبع المرشد بدون نجاة من أخذ بالأمارة إن لم تكن أولى منها. (¬1) - وفيه: واحتج المعتزلي بأن السمع ينشأ عن وصول الهواء المسموع إلى العصب المفروش في أصل الصماخ والله منزه عن الجوارح، وأجيب بأنها عادة أجراها الله تعالى فيمن يكون حيا فيخلقه الله عند وصول الهواء إلى المحل المذكور، والله سبحانه وتعالى يسمع المسموعات بدون الوسائط وكذا يرى المرئيات بدون المقابلة وخروج الشعاع، فذات الباري مع كونه حيا موجودا لا تشبه الذوات، فكذلك صفات ذاته لا تشبه الصفات. (¬2) - وفيه: وبأن أصل ما ذكروه -أي أهل الكلام- قياس الغائب على الشاهد وهو أصل كل خبط، والصواب الإمساك عن أمثال هذه المباحث ¬

(¬1) الفتح (13/ 354). (¬2) الفتح (13/ 373).

والتفويض إلى الله في جميعها، والاكتفاء بالإيمان بكل ما أوجب الله في كتابه أو على لسان نبيه إثباته له أو تنزيهه عنه على طريق الإجمال وبالله التوفيق، ولو لم يكن في ترجيح التفويض على التأويل إلا أن صاحب التأويل ليس جازما بتأويله بخلاف صاحب التفويض. (¬1) -وقال: قوله: «وأنا معه إذا ذكرني» (¬2) أي بعلمي، وهو كقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (¬3) والمعية المذكورة أخص من المعية التي في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} -إلى قوله- {إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (¬4).اهـ (¬5) - وفيه: وليس قولنا إن الله على العرش أي مماس له أو متمكن فيه أو متحيز في جهة من جهاته بل هو خبر جاء به التوقيف، فقلنا له به ونفينا عنه التكييف، إذ ليس كمثله شيء وبالله التوفيق. (¬6) ¬

(¬1) الفتح (13/ 383). (¬2) أحمد (2/ 251؛413) والبخاري (13/ 473 - 474/ 7405) ومسلم (4/ 2061/2675) والترمذي (5/ 542/3603) وقال: "هذا حديث حسن صحيح" والنسائي في الكبرى (4/ 412/7730) وابن ماجه (2/ 1255 - 1256/ 3822). (¬3) طه الآية (46). (¬4) المجادلة الآية (7). (¬5) الفتح (13/ 386). (¬6) الفتح (13/ 413).

- وفيه: وفي الحديث (¬1) إثبات الشفاعة، وأنكرها الخوارج والمعتزلة، وهي أنواع أثبتها أهل السنة، منها: الخلاص من هول الموقف، وهي خاصة بمحمد رسول الله المصطفى - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم بيان ذلك واضحا في الرقاق، وهذه لا ينكرها أحد من فرق الأمة. ومنها: الشفاعة في قوم يدخلون الجنة بغير حساب، وخص هذه المعتزلة بمن لا تبعة عليه. ومنها: الشفاعة في رفع الدرجات، ولا خلاف في وقوعها. ومنها: الشفاعة في إخراج قوم من النار عصاة أدخلوها بذنوبهم وهذه التي أنكروها، وقد ثبتت بها الأخبار الكثيرة، وأطبق أهل السنة على قبولها وبالله التوفيق. (¬2) - وفيه: قال الأئمة: هذه الآية -أي قوله تعالى: {وكلم اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} (¬3) - أقوى ما ورد في الرد على المعتزلة. (¬4) تنبيه: لابن حجر رحمه الله تأويلات لجملة من صفات الله عز وجل منها تأويله: - صفة العين. (¬5) - صفة الوجه: قال في قول الله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا ¬

(¬1) أي حديث: «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة في صفوان ... » الحديث. أخرجه: البخاري (13/ 555/7481) وأبو داود (4/ 288 - 289/ 3989) والترمذي (5/ 337/3223) وابن ماجه (1/ 69 - 70/ 194) عن أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) الفتح (13/ 459 - 460). (¬3) النساء الآية (164). (¬4) الفتح (13/ 479). (¬5) انظر الفتح (13/ 389).

موقفه من الخوارج:

وَجْهَهُ} والمراد بالوجه الذات ... (¬1) - كما تردد في الصوت بين التفويض والتأويل. (¬2) - تبنيه لقول الأشاعرة في القرآن ونفيه الصوت والحرف. (¬3) موقفه من الخوارج: - قال الحافظ عقب حديث أبي بكرة «إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فكلاهما من أهل النار» (¬4): قال العلماء: معنى كونهما في النار أنهما يستحقان ذلك ولكن أمرهما إلى الله تعالى إن شاء عاقبهما ثم أخرجهما من النار كسائر الموحدين، وإن شاء عفا عنهما فلم يعاقبهما أصلا. وقيل هو محمول على من استحل ذلك، ولا حجة فيه للخوارج ومن قال من المعتزلة بأن أهل المعاصي مخلدون في النار لأنه لا يلزم من قوله: "فهما في النار" استمرار بقائهما فيها. (¬5) - وقال في شرح حديث ابن عمر أنه لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده فقال: إني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة (¬6)، وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ¬

(¬1) انظر الفتح (13/ 402). (¬2) انظر الفتح (13/ 458). (¬3) انظر الفتح (13/ 493 - 494). (¬4) أحمد (5/ 43) والبخاري (1/ 115/31) ومسلم (4/ 2214/2888 (15)) وأبو داود (4/ 462/4268) والنسائي (7/ 142/4132). وأخرجه ابن ماجه (2/ 1311/3965) بمعناه. عن أبي بكرة. وورد أيضا عن عدة من الصحابة. (¬5) الفتح (13/ 33). (¬6) أحمد (2/ 48،96) والبخاري (13/ 85/7111) ومسلم (3/ 1360/1735 (10)) وأبو داود (3/ 188/2756) والترمذي (4/ 122/1581) وقال: "هذا حديث حسن صحيح".

ورسوله، وإني لا أعلم غدرا أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله ثم ينصب له القتال، وإني لا أعلم أحدا منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه. وفي هذا الحديث وجوب طاعة الإمام الذي انعقدت له البيعة، والمنع من الخروج عليه ولو جار في حكمه وأنه لا ينخلع بالفسق. (¬1) - وقال: أما الخوارج فهم: جمع خارجة أي طائفة، وهم قوم مبتدعون سموا بذلك لخروجهم عن الدين وخروجهم على خيار المسلمين، وأصل بدعتهم فيما حكاه الرافعي في الشرح الكبير أنهم خرجوا على علي رضي الله عنه حيث اعتقدوا أنه يعرف قتلة عثمان رضي الله عنه ويقدر عليهم ولا يقتص منهم لرضاه بقتله أو مواطأته إياهم، كذا قال. وهو خلاف ما أطبق عليه أهل الأخبار فإنه لا نزاع عندهم أن الخوارج لم يطلبوا بدم عثمان بل كانوا ينكرون عليه أشياء ويتبرءون منه، وأصل ذلك أن بعض أهل العراق أنكروا سيرة بعض أقارب عثمان فطعنوا على عثمان بذلك، وكان يقال لهم القراء لشدة اجتهادهم في التلاوة والعبادة، إلا أنهم كانوا يتأولون القرآن المراد منه ويستبدون برأيهم ويتنطعون في الزهد والخشوع وغير ذلك، فلما قتل عثمان قاتلوا مع علي واعتقدوا كفر عثمان ومن تابعه، واعتقدوا إمامة علي وكفر من قاتله من أهل الجمل الذين كان رئيسهم طلحة والزبير، فإنهما خرجا إلى مكة بعد أن بايعا عليا فلقيا عائشة وكانت حجت تلك السنة فاتفقوا على طلب قتلة عثمان، وخرجوا إلى البصرة يدعون الناس إلى ذلك، ¬

(¬1) الفتح (13/ 71 - 72).

فبلغ عليا فخرج إليهم فوقعت بينهم وقعة الجمل المشهورة، وانتصر علي وقتل طلحة في المعركة وقتل الزبير بعد أن انصرف من الوقعة، فهذه الطائفة هي التي كانت تطلب بدم عثمان بالاتفاق. ثم قام معاوية بالشام في مثل ذلك وكان أمير الشام إذ ذاك، وكان علي أرسل اليه لأن يبايع له أهل الشام، فاعتل بأن عثمان قتل مظلوما وتجب المبادرة إلى الاقتصاص من قتلته، وأنه أقوى الناس على الطلب بذلك، ويلتمس من علي أن يمكنه منهم، ثم يبايع له بعد ذلك. وعلي يقول: ادخل فيما دخل فيه الناس وحاكمهم إلي أحكم فيهم بالحق، فلما طال الأمر خرج علي في أهل العراق طالبا قتال أهل الشام، فخرج معاوية في أهل الشام قاصدا إلى قتاله، فالتقيا بصفين فدامت الحرب بينهما أشهرا، وكاد أهل الشام أن ينكسروا فرفعوا المصاحف على الرماح ونادوا ندعوكم إلى كتاب الله تعالى، وكان ذلك بإشارة عمرو بن العاص وهو مع معاوية، فترك جمع كثير ممن كان مع علي وخصوصا القراء القتال بسبب ذلك تدينا، واحتجوا بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} (¬1) الآية، فراسلوا أهل الشام في ذلك، فقالوا: ابعثوا حكما منكم وحكما منا، ويحضر معهما من لم يباشر القتال، فمن رأوا الحق معه أطاعوه، فأجاب علي ومن معه إلى ذلك وأنكرت ذلك تلك الطائفة التي صاروا خوارج، وكتب علي بينه وبين معاوية كتاب الحكومة بين أهل العراق والشام: هذا ما قضى عليه ¬

(¬1) آل عمران الآية (23).

أمير المؤمنين علي معاوية فامتنع أهل الشام من ذلك وقالوا أكتبوا اسمه واسم أبيه، فأجاب علي إلى ذلك فأنكره عليه الخوارج أيضا، ثم انفصل الفريقان على أن يحضر الحكمان ومن معهما بعد مدة عينوها في مكان وسط بين الشام والعراق، ويرجع العسكران إلى بلادهم إلى أن يقع الحكم، فرجع معاوية إلى الشام ورجع علي إلى الكوفة، ففارقه الخوارج وهم ثمانية آلاف وقيل: كانوا أكثر من عشرة آلاف، وقيل ستة آلاف، ونزلوا مكانا يقال له حروراء بفتح المهملة وراءين الأولى مضمومة، ومن ثم قيل لهم: الحرورية. وكان كبيرهم عبد الله بن الكواء بفتح الكاف وتشديد الواو مع المد اليشكري، وشبث بفتح المعجمة والموحدة بعدها مثلثة التميمي فأرسل إليهم علي ابن عباس فناظرهم فرجع كثير منهم معه، ثم خرج إليهم علي، فأطاعوه ودخلوا معه الكوفة معهم رئيساهم المذكوران، ثم أشاعوا أن عليا تاب من الحكومة ولذلك رجعوا معه، فبلغ ذلك عليا فخطب وأنكر ذلك، فتنادوا من جوانب المسجد: لا حكم إلا لله، فقال: كلمة حق يراد بها باطل، فقال لهم: "لكم علينا ثلاث: أن لا نمنعكم من المساجد، ولا من رزقكم من الفيء، ولا نبدؤكم بقتال ما لم تحدثوا فسادا". وخرجوا شيئا بعد شيء إلى أن اجتمعوا بالمدائن، فراسلهم في الرجوع فأصروا على الامتناع حتى يشهد على نفسه بالكفر لرضاه بالتحكيم ويتوب، ثم راسلهم أيضا فأرادوا قتل رسوله، ثم اجتمعوا على أن من لا يعتقد معتقدهم يكفر ويباح دمه وماله وأهله، وانتقلوا إلى الفعل. فاستعرضوا الناس، فقتلوا من اجتاز بهم من المسلمين، ومر بهم عبد الله بن خباب بن

الأرت وكان واليا لعلي على بعض تلك البلاد ومعه سرية وهي حامل، فقتلوه وبقروا بطن سريته عن ولد، فبلغ عليا فخرج إليهم في الجيش الذي كان هيأه للخروج إلى الشام، فأوقع بهم بالنهروان ولم ينج منهم إلا دون العشرة، ولا قتل ممن معه إلا نحو العشرة. فهذا ملخص أول أمرهم، ثم انضم إلى من بقى منهم من مال إلى رأيهم فكانوا مختفين في خلافة علي حتى كان منهم عبد الرحمن بن ملجم الذي قتل عليا بعد أن دخل علي في صلاة الصبح، ثم لما وقع صلح الحسن ومعاوية ثارت منهم طائفة، فأوقع بهم عسكر الشام بمكان يقال له النجيلة، ثم كانوا منقمعين في إمارة زياد وابنه عبيد الله على العراق طول مدة معاوية وولده يزيد، وظفر زياد وابنه منهم بجماعة فأبادهم بين قتل وحبس طويل، فلما مات يزيد ووقع الافتراق وولى الخلافة عبد الله ابن الزبير وأطاعه أهل الأمصار إلا بعض أهل الشام ثار مروان فادعى الخلافة وغلب على جميع الشام إلى مصر، فظهر الخوارج حينئذ بالعراق مع نافع بن الأزرق، وباليمامة مع نجدة بن عامر، وزاد نجدة على معتقد الخوارج أن من لم يخرج ويحارب المسلمين فهو كافر ولو اعتقد معتقدهم، وعظم البلاء بهم، وتوسعوا في معتقدهم الفاسد، فأبطلوا رجم المحصن، وقطعوا يد السارق من الابط، وأوجبوا الصلاة على الحائض في حال حيضها، وكفروا من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن كان قادرا، وإن لم يكن قادرا فقد ارتكب كبيرة، وحكم مرتكب الكبيرة عندهم حكم الكافر، وكفوا عن أموال أهل الذمة وعن التعرض لهم مطلقا، وفتكوا فيمن ينسب إلى الإسلام بالقتل والسبي والنهب، فمنهم من يفعل ذلك مطلقا بغير دعوة منهم، ومنهم من

موقفه من المرجئة:

يدعو أولا ثم يفتك، ولم يزل البلاء بهم يزيد إلى أن أمر المهلب بن أبي صفرة على قتالهم، فطاولهم حتى ظفر بهم وتقلل جمعهم، ثم لم يزل منهم بقايا في طول الدولة الأموية وصدر الدولة العباسية، ودخلت طائفة منهم المغرب. وقد صنف في أخبارهم أبو مخنف -بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح النون بعدها فاء واسمه لوط بن يحيى- كتابا لخصه الطبري في تاريخه. وصنف في أخبارهم أيضا الهيثم بن عدي كتابا، ومحمد بن قدامة الجوهري -أحد شيوخ البخاري خارج الصحيح- كتابا كبيرا، وجمع أخبارهم أبو العباس المبرد في كتابه 'الكامل'، لكن بغير أسانيد بخلاف المذكورين قبله. قال القاضي أبو بكر بن العربي: الخوارج صنفان: أحدهما يزعم أن عثمان وعليا وأصحاب الجمل وصفين وكل من رضى بالتحكيم كفار. والآخر يزعم أن كل من أتى كبيرة فهو كافر مخلد في النار أبدا. وقال غيره: بل الصنف الأول مفرع عن الصنف الثاني، لأن الحامل لهم على تكفير أولئك كونهم أذنبوا فيما فعلوه بزعمهم. (¬1) موقفه من المرجئة: قال رحمه الله: قوله: (وهو) أي الإيمان (قول وفعل ويزيد وينقص) وفي رواية الكشميهني: "قول وعمل" وهو اللفظ الوارد عن السلف الذين أطلقوا ذلك، ووهم ابن التين فظن أن قوله (وهو) إلى آخره مرفوع لما رآه معطوفاً، وليس ذلك مراد المصنف، وإن كان ذلك ورد بإسناد ضعيف. والكلام هنا في مقامين: أحدهما كونه قولاً وعملاً، والثاني: كونه يزيد وينقص. فأما ¬

(¬1) فتح الباري (12/ 351 - 353).

القول: فالمراد به النطق بالشهادتين، وأما العمل: فالمراد به ما هو أعم من عمل القلب والجوارح، ليدخل الاعتقاد والعبادات. ومراد من أدخل ذلك في تعريف الإيمان ومن نفاه إنما هو بالنظر إلى ما عند الله تعالى، فالسلف قالوا: هو اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان. وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله. ومن هنا نشأ لهم القول بالزيادة والنقص كما سيأتي. والمرجئة قالوا: هو اعتقاد ونطق فقط. والكرامية قالوا: هو نطق فقط. والمعتزلة قالوا: هو العمل والنطق والاعتقاد. والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطاً في صحته، والسلف جعلوها شرطاً في كماله. وهذا كله كما قلنا بالنظر إلى ما عند الله تعالى. أما بالنظر إلى ما عندنا: فالإيمان هو الإقرار فقط، فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا، ولم يحكم عليه بكفر إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره كالسجود للصنم، فإن كان الفعل لا يدل على الكفر كالفسق، فمن أطلق عليه الإيمان فبالنظر إلى إقراره، ومن نفى عنه الإيمان فبالنظر إلى كماله، ومن أطلق عليه الكفر فبالنظر إلى أنه فعل فعل الكافر، ومن نفاه عنه فبالنظر إلى حقيقته. وأثبتت المعتزلة الواسطة. فقالوا: الفاسق لا مؤمن ولا كافر. وأما المقام الثاني: فذهب السلف إلى أن الإيمان يزيد وينقص. وأنكر ذلك أكثر المتكلمين وقالوا: متى قبل ذلك كان شكا. قال الشيخ محيي الدين: والأظهر المختار أن التصديق يزيد وينقص بكثرة النظر ووضوح الأدلة، ولهذا كان إيمان الصدّيق أقوى من إيمان غيره بحيث لا يعتريه الشبهة. ويؤيده أن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل، حتى إنه يكون في بعض

الأحيان الإيمان أعظم يقيناً وإخلاصاً وتوكلاً منه في بعضها، وكذلك في التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها. وقد نقل محمد بن نصر المروزي في كتابه: 'تعظيم قدر الصلاة' عن جماعة من الأئمة نحو ذلك، وما نقل عن السلف صرح به عبد الرزاق في مصنفه عن سفيان الثوري ومالك ابن أنس والأوزاعي وابن جريج ومعمر وغيرهم، وهؤلاء فقهاء الأمصار في عصرهم. وكذا نقله أبو القاسم اللالكائي في 'كتاب السنة' عن الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه وأبي عبيد وغيرهم من الأئمة، وروى بسنده الصحيح عن البخاري قال: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحداً يختلف في أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص. وأطنب ابن أبي حاتم واللالكائي في نقل ذلك بالأسانيد عن جمع كثير من الصحابة والتابعين، وكل من يدور عليه الإجماع من الصحابة والتابعين. وحكاه فضيل بن عياض ووكيع عن أهل السنة والجماعة، وقال الحاكم في مناقب الشافعي: حدثنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص. وأخرجه أبو نعيم في ترجمة الشافعي من الحلية (¬1) من وجه آخر عن الربيع وزاد: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. ثم تلا: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا} (¬2) الآية. ثم شرع المصنف يستدل لذلك بآيات من القرآن مصرحة بالزيادة، ¬

(¬1) (9/ 114 - 115). (¬2) المدثر الآية (31).

موقفه من القدرية:

وبثبوتها يثبت المقابل، فإن كل قابل للزيادة قابل للنقصان ضرورة. (¬1) موقفه من القدرية: - قال في الفتح: وأما قوله في الأنعام: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا} (¬2) فقد تمسك بها المعتزلة، وقالوا إن فيها ردا على أهل السنة. والجواب أن أهل السنة تمسكوا بأصل قامت عليه البراهين: وهو أن الله خالق كل مخلوق، ويستحيل أن يخلق المخلوق شيئا، والإرادة شرط في الخلق ويستحيل ثبوت المشروط بدون شرطه، فلما عاند المشركون المعقول وكذبوا المنقول الذي جاءتهم به الرسل وألزموا الحجة بذلك تمسكوا بالمشيئة والقدر السابق، وهي حجة مردودة لأن القدر لا تبطل به الشريعة وجريان الأحكام على العباد بأكسابهم فمن قدر عليه بالمعصية كان ذلك علامة على أنه قدر عليه العقاب إلا أن يشاء أن يغفر له من غير المشركين، ومن قدر عليه بالطاعة كان ذلك علامة على أنه قدر عليه بالثواب، وحرف المسألة أن المعتزلة قاسوا الخالق على المخلوق وهو باطل، لأن المخلوق لو عاقب من يطيعه من أتباعه عد ظالما لكونه ليس مالكا له بالحقيقة، والخالق لو عذب من يطيعه لم يعد ظالما لأن الجميع ملكه فله الأمر كله يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل. (¬3) ¬

(¬1) فتح الباري (1/ 64 - 65). (¬2) الأنعام الآية (148). (¬3) الفتح (13/ 449).

الجزولي وضلاله (870 هـ)

- وقال: قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬1) هذه الآية مما تمسك بها المعتزلة لقولهم فقالوا: هذا يدل على أنه لا يريد المعصية، وتعقب بأن معنى إرادة اليسر التخيير بين الصوم في السفر ومع المرض، والإفطار بشرطه. وإرادة العسر المنفية الإلزام بالصوم في السفر في جميع الحالات، فالإلزام هو الذي لا يقع لأنه لا يريده وبهذا تظهر الحكمة في تأخيرها عن الحديث المذكور والفصل بين آيات المشيئة وآيات الإرادة، وقد تكرر ذكر الإرادة في القرآن في مواضع كثيرة أيضا، وقد اتفق أهل السنة على أنه لا يقع إلا ما يريده الله تعالى، وأنه مريد لجميع الكائنات وإن لم يكن آمرا بها. وقالت المعتزلة لا يريد الشر لأنه لو أراده لطلبه، وزعموا أن الأمر نفس الإرادة، وشنعوا على أهل السنة أنه يلزمهم أن يقولوا إن الفحشاء مرادة لله وينبغي أن ينزه عنها، وانفصل أهل السنة عن ذلك بأن الله تعالى قد يريد الشيء ليعاقب عليه، ولثبوت أنه خلق النار وخلق لها أهلا، وخلق الجنة وخلق لها أهلا؛ وألزموا المعتزلة بأنهم جعلوا أنه يقع في ملكه ما لا يريد. (¬2) - وقال: والمراد هنا الإشارة إلى أن من زعم أنه يخلق فعل نفسه يكون كمن جعل لله ندا، وقد ورد فيه الوعيد الشديد فيكون اعتقاده حراما. (¬3) الجزولي وضلاله (870 هـ) ¬

(¬1) البقرة الآية (185). (¬2) الفتح (13/ 451). (¬3) الفتح (13/ 495).

ذكر صاحب 'الإعلام بمن حل بمراكش وأغمات من الأعلام' نقولاً للجزولي يظهر منها إغراقه في التصوف والضلال منها قوله: قال رضي الله عنه: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: أنا زين المرسلين، وأنت زين الأولياء. (¬1) وقال رضي الله عنه: معشرَ الإخوان ليس هنا معكم إلا جسمي، وأما أنا قد مشيت إليه وصرت معه، معشر الإخوان تهت ووصلت وصولاً لم يصله أحد قطّ. (¬2) وقال رضي الله عنه: قيل لي: يا عبدي، من أراد أن ينظر في وجه أبي بكر الصديق رضي الله عنه فلينظر في وجهك، وقال رضي الله عنه: لا تقولوا رحمكم الله إني آخذ العلم من الأرض أو من السماء، بل آخذه من الملك الحقّ من غير أرض ولا سماء، وقال رضي الله عنه: معشر المريدين انظروا إلى مولاكم وهو معي ليس لي نظر إلا فيه، كماله قد عمّ صدري وعم حياتي وعمني طول حياتي، كماله قد أفناني عما سواه، وقال رضي الله عنه: معشر المريدين فرّحوني بتعظيم ربي وإجلاله وجماله، أنا معه وأنتم لم تشتغلوا بشيء، غبت في أنوار كماله ومشاهدة جلاله وجماله، ألا لعنة الله على من عبر عن مقام غير مقامه. (¬3) وقال رضي الله عنه: يا من كان ينظر إليّ في الأرض فانظر إلي في ¬

(¬1) الإعلام بمن حلّ مراكش وأغمات من الأعلام (ص.47). (¬2) الإعلام (ص.47). (¬3) الإعلام (ص.47 - 48).

السماء وفي العرش وفوق ذلك، أما علمتم أن الأقطاب تحتاج إليهم جميع المكونات هم في مقام النبوة يفشون السر، يا من كان سعيداً فعليك بالمشي إليهم ولو كان من بغداد، المشي إليهم نور ورحمة وسر في القلوب. (¬1) وقال: ليس العزيز من تعزز بالقبيلة وحسب الجاه، وإنما العزيز من تعزز بالشرف والنسب، أنا شريف في النسب، جدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا أقرب إليه من كل ما خلق الله، وعنايتي في الأزل مصبوغة بالذهب والفضة، يا من أراد الذهب والفضة فعليك باتباعنا، ومن تبعنا يسكن في أعلى عليين في دار الدنيا والآخرة، ودولتنا كانت الأمم الماضون تدعو أن يلحقوا بها، ولكن لا يلحق بها إلا من سبقت له السعادة، ودولتنا دولة المجتهدين المجاهدين في سبيل الله القاتلين أعداء الله، ملوك الأرض كلها في يدي وتحت قدمي، معشر المسلمين أما علمتم أن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - قريب مني وحكمه في يدي، من تبعني فهو متبع له، ومن لم يتبعني فليس بمتبع له، سمعته - صلى الله عليه وسلم - يقول: أنت المهدي، من أراد أن يسعد فليأت إليك، معشر المسلمين كونوا من أمة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ولا تكونوا من أعدائه بالتكذيب والنكران والغش والخيانة، معشر المسلمين خلق الله لكم من يهديكم في آخر الزمان فاحمدوه، معشر المسلمين لا يبغضنا على دين الله عز وجل إلا من ليس له دنيا ولا آخرة، ولا يحسدنا على طاعة الله عز وجل إلا من ليس له حظ عند الله عز وجل، وقال رضي الله عنه: قيل لي يا عبدي خصصتك بعنايتي في الأزل، فلا أحد يصل إلى عنايتك، يا عبدي سيادتك على أهل المشرق والمغرب الماضين والباقين، يا عبدي وصلتك إلى ¬

(¬1) الإعلام (ص.48).

مقام لا يصل إليه أحد من الواصلين، وقال رضي الله عنه: قيل لي: يا عبدي تاهت العقول فيما أعطيتك، وما بقي لك عندي أكثر وأعظم من قبل إقدامك بالحب والشوق أُثبته يوم القيامة بالعفو والصفح، يا عبدي تنافست الأولياء فيما أعطيتهم ولا يبلغ أحد ما أعطيتك من كرامتي، يا عبدي لو كانت الملائكة كتابا، والأشجار أقلاما، والبحار مداداً، لا يكتبون من أحوالك السنية إلا مقدار ما يكتب الولد الصغير في اللوح من الأسطار، يا عبدي لا يبلغ أحد مقامك من أوليائي، سبق ذلك في علم الغيب عندي، وعزتي وجلالي لأعطيتك يوم القيامة حكما على أوليائي. (¬1) وقال رضي الله عنه: قيل لي: يا عبدي فضلتك على جميع خلقي بكثرة صلاتك على نبيي يا عبدي من أطاعك من الأولياء فقد أطاعني ومن عصاك من الأولياء فقد عصاني، ومن تكبر عليك من أولياء الزمان سلبته من نوري. (¬2) ثم ذكر له كرامات منها قوله: من كرامات القطب الجزولي رضي الله عنه أن بعض من احترم به لما أخرج كرهاً عليه من ضريحه الشريف رأى بعضهم مناما الشيخ رمى بيدي ورجلي من أخرجه في طنجير يغلي بباب قبته، فأصبح المجترئ المذكور معطَّل الجوارح المذكورة وما زال يُبلى بالمصائب والعياذ بالله من التجرئ على أوليائه، فإن الله تعالى يغارُ لهم، وهذه القضية وقعت في عصرنا، أصحبنا الله ¬

(¬1) الإعلام (ص.48 - 49). (¬2) الإعلام (ص.51).

تعالى السلامة والعافية في الدارين، وأدام ستره علينا آمين. (¬1) وقال: وقد ذكر في 'تحفة الإخوان' العلامة الطاهري ما نصه: ومن كراماته رضي الله عنه ما أخبرني سيدي ومولاي قاسم في هذا المعنى: قال لي رحمه الله: كنت أعرف رجلاً من أصحاب سيدي محمد بن ناصر رحمه الله، وكان أخذ عنه ولازمه إلى أن مات، فلم يستخلف من بعده أحداً، لا ولده سيدي أحمد ولا غيره، وظهر له أنه حصل على شيء وأنه استغنى عن معرفة الأشياخ، فتولته الشياطين، وصحبه الجان، وجعلوا ينصحونه في زعمه ويطلعونه على العجائب مما هو مخصوص بجنسهم، ويطوفونه على قبائلهم حتى كان يعرف جمّاً غفيرا منهم، فركن لذلك وفُتن به، وشغله عن ورده وعبادته، وجعل يكثر من لغو الكلام والفضول ويهرتل ولا يعلم ما يقول، قال مولاي قاسم رحمه الله: فكان ذلك الرجل يحدثني بما وقع له لما تحقق ذلك من نفسه، ولما سبق له من السعادة ببركة شيخه، قال لي: لما اشتد علي الحال جعلت أرقى على الآكام والجبال وأنادي بأعلى صوتي: الغياث الغياث يا أولياء الله، الغياث الغياث، تشفعت لكم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويذكر ويعيّن كل من يعرف من الأولياء باسمه، ويكثر من النداء على شيخه، قال فبينما أنادي في بعض الأيام إذ أقبلت علي كتيبة من الخيل، فلما دنت مني جاءني عدو من الجن كان يعرفني وخطفني ووضعني على عنقه وفرّ بي أمامهم، فجعلت الكتيبة من الخيل تتبعنا وهو يسبق أمامهم وهم في طلبه، يسمع جريهم وصياحهم وجعلوا يتأخرون عنا زمراً زمراً حتى لم يبق في طلبنا إلا أربعة ¬

(¬1) الإعلام (ص.93).

رجال؛ اثنان منهم على فرسين أحدهما أدهم والآخر أشهب، واثنان طائران. قال: فخاض بي البحر فخاضوا في طلبه فخرج إلى البر فتبعونا، فلما تحقق الهلاك وتعذر له منهم الفكاك رماني وفر أمامهم، فلحقوه وقتلوه وجاؤوا بي. فقلت لهم: نشدتكم الله أخبروني من أنتم الذين تفضل الله علي بهم؟ قال: فقال له صاحب الفرس الأشهب: أنا عبد السلام بن مشيش، وقال صاحب الأدهم: أنا أبو يعزى، وقال أحد الطيور: أنا محمد بن سليمان الجزولي أو قال: أبو سلهام، الشك من مولاي قاسم رحمه الله، قال: والغالب على ظني أنه قال: أبو سلهام، وقال الرابع: أنا عبد الله بن إبراهيم -يعني شيخنا مولانا عبد الله الشريف- نفعنا به وحشرنا في زمرته. انتهى ما كتبت في 'إظهار الكمال'. (¬1) وله كتاب 'دلائل الخيرات' جمع فيه من الحديث الضعيف والمكذوب ومن الصلوات المبتدعة صيغةً وعدداً الشيء الكثير ووصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسماء وأوصاف لم ترد في الكتاب ولا في السنة إلى كثير من العقائد الباطلة التي بثها في كتابه كقوله بوحدة الوجود وكتوسله بالمخلوقات وذلك مبسوط في كتابنا 'وقفات مع الكتاب المسمى بدلائل الخيرات' وهو مطبوع متداول فليرجع إليه من شاء الوقوف على ذلك. وإليك بعض النماذج من هذا الكتاب المشؤوم: قال في الدلائل مقرِّراً لعقيدة وحدة الوجود (¬2): اللهم جدد من صلواتك ¬

(¬1) الإعلام (ص.96 - 97). (¬2) (ص.38).

التامات وتحياتك الزاكيات على الذي أقمته لك ظلاًّ، وجعلته لحوائج خلقك قبلة ومحِلاًّ، وأظهرته بصورتك، واخترته مستوى لتجليك، ومنزلاً لتنفيذ أوامرك ونواهيك في أرضك وسمواتك، وواسطة بينك وبين مكوَّناتك. (¬1) وقال وهو يتوسل بالمخلوقات: أسألك بحرمة الشهر الحرام والبلد الحرام والمشعر الحرام وقبر نبيك عليه السلام. (¬2) وقال وهو يمجد الله بزعمه: يا أزلي يا أبدي يا دهري يا ديمومي. (¬3) وقال وهو يصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بأوصاف لا تليق إلا بالله: اللهم صل على مجلي الظلمة اللهم صل على مولي النعمة اللهم صل على موتي الرحمة. (¬4) ووصفه أيضاً بقوله: محيي، مدعو، مجيب، متين، غوث، غياث، جبار، مهيمن، شاف، كاشف الكرب، رافع الرتب، صاحب الفرج، حق، عفو، وكيل. وسماه أيضاً بأسماء لم ترد في الكتاب ولا في السنة، بل بعضها مستهجن لا يقره عاقل كتسميته بأحيد، رسول الراحة، إكليل، حريص عليكم، معلوم، شهير، سراج، مصباح، هدى، قدم صدق، رحمة، بشرى، غيث، عروة وثقى، حزب الله، النجم الثاقب، أجير، مبرّ، مقدس، روح القدس، روح الحق، روح القسط، موصول، مفتاح، دليل الخيرات، مصحح الحسنات، مقيل العثرات، صفوح عن الزلات، صاحب القدم، صاحب الإزار، صاحب الرداء، صاحب القضيب، أذن خير، عين النعيم، عين الغرّ، ¬

(¬1) انظر كتب ليست من الإسلام للإستانبولي (ص.28). (¬2) الدلائل (ص.122 - 123). (¬3) الدلائل (ص.152). (¬4) الدلائل (ص.62).

إبراهيم بن عمر البقاعي (885 هـ)

عز العرب، ... إلخ. (¬1) إبراهيم بن عمر البِقَاعِي (¬2) (885 هـ) الإمام الكبير برهان الدين إبراهيم بن عمر بن حسن الرُّبَاط البقاعي، الشافعي المحدث المفسر، الإمام العلامة المؤرخ. ولد سنة تسع وثمانمائة بقرية من عمل البقاع، ونشأ بها ثم تحول إلى دمشق ثم فارقها ودخل بيت المقدس ثم القاهرة. قرأ على التاج بن بهادر في الفقه والنحو. وعلى ابن الجزري القراءات، وأخذ عن ابن ناصر الدين وابن حجر والعماد بن شرف وغيرهم. وبرع في جميع العلوم، وفاق الأقران، وناظر وانتقد حتى على شيوخه، وصنف تصانيف عديدة من أجلها: 'نظم الدرر في تناسب الآي والسور' و'الأصل الأصيل في تحريم النقل من التوراة والإنجيل' و'القول المألوف في الرد على منكر المعروف' و'تنبيه الغبي بتكفير عمر بن الفارض وابن عربي'. وقد تعرض رحمه الله تعالى لعدة محن وشدائد ومناهدة العظائم من معاصريه. وتوفي رحمه الله تعالى بعد أن تفتت كبده في ليلة السبت ثامن عشر رجب سنة خمس وثمانين وثمانمائة. ¬

(¬1) الدلائل (ص.26 - 33). (¬2) الضوء اللامع (1/ 101 - 111) وفهرس الفهارس (2/ 619 - 620) والبدر الطالع (1/ 19 - 22) وشذرات الذهب (7/ 339 - 340) ومعجم المؤلفين (1/ 71) والأعلام (1/ 56).

موقفه من الصوفية:

موقفه من الصوفية: له من الآثار السلفية: 1 - 'تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي'. 2 - 'تحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد' وطبع الكتابان تحت عنوان: 'مصرع التصوف' بتحقيق عبد الرحمن الوكيل رحمه الله. ابن حجر الهيتمي (973 هـ) هذا الشخص معروف بالتصوف مما أورثه عداوة لشيخ الإسلام ابن تيمية، ولكن له كلمات جيدة في القبورية وفي فضح الروافض وبيان ضلالهم. موقفه من المشركين: - قال في الزواجر: ومن الكبائر اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها، واتخاذها أوثانا، والطواف بها واستلامها والصلاة إليها. (¬1) - وقال: وأما اتخاذها أوثانا فجاء النهي عنه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تتخذوا قبري وثنا يعبد بعدي» (¬2) أي لا تعظموه تعظيم غيركم لأوثانهم ¬

(¬1) الزواجر عن اقتراف الكبائر (1/ 326). (¬2) أخرجه أحمد (2/ 246) وابن سعد (2/ 241 - 242) وأبو يعلى (12/ 33 - 34/ 6681) والحميدي (2/ 445/1025) وأبو نعيم (7/ 317) كلهم من حديث أبي هريرة مرفوعا، وتمامه: «لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». وصحح إسناده الشيخ الألباني في تحذير الساجد (25) وأورد له شاهدين مرسلين: الأول عن زيد بن أسلم، والآخر عن عطاء. قال ابن عبد البر تعليقا على مرسل عطاء في التمهيد (فتح البر: 1/ 281): "فهذا الحديث صحيح عند من قال بمراسيل الثقات".

موقفه من الرافضة:

بالسجود له أو نحوه ... قال بعض الحنابلة: قصد الرجل الصلاة عند القبر متبركا بها عين المحادة لله ورسوله، وإبداع دين لم يأذن به الله للنهي عنها، ثم إجماعا: فإن أعظم المحرمات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد أو بناؤها عليها. والقول بالكراهة محمول على غير ذلك إذ لا يظن بالعلماء تجويز فعل تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن فاعله، ويجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور إذ هي أضر من مسجد الضرار لأنها أسست على معصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه نهى عن ذلك وأمر - صلى الله عليه وسلم - بهدم القبور المشرفة. وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر، ولا يصح وقفه ونذره. (¬1) موقفه من الرافضة: - له كتاب 'الصواعق المحرقة لإخوان الشياطين أهل الابتداع والضلال والزندقة' وله رسالة أخرى ملحقة بالصواعق بعنوان 'تطهير الجنان واللسان عن الخطر والتفوه بثلب سيدنا معاوية بن أبي سفيان'. - قال في الصواعق: اعلم أن الذي أجمع عليه أهل السنة والجماعة أنه يجب على كل مسلم تزكية جميع الصحابة بإثبات العدالة والكف عن الطعن فيهم والثناء عليهم. (¬2) - وقال في الزواجر: عد ما ذكر -أي بغض الأنصار وشتم واحد من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين- كبيرتين هو ما صرح به غير واحد وهو ظاهر، وقد صرح الشيخان وغيرهما أن سب الصحابة كبيرة، قال الجلال ¬

(¬1) الزواجر (1/ 328). (¬2) (2/ 603).

البلقيني: وهو [أي سب الصحابة] داخل تحت مفارقة الجماعة، وهو الابتداع المدلول عليه بترك السنة، فمن سب الصحابة رضي الله عنهم أتى كبيرة بلا نزاع. (¬1) - وقال أيضا: فقد نص الله تعالى على أنه رضي عن الصحابة في غير آية قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} (¬2) فمن سبهم أو واحدا منهم فقد بارز الله بالمحاربة، ومن بارز الله بالمحاربة أهلكه وخذله، ومن ثم قال العلماء: إذا ذكر الصحابة بسوء كإضافة عيب إليهم وجب الإمساك عن الخوض في ذلك، بل ويجب إنكاره باليد ثم اللسان ثم القلب على حسب الاستطاعة كسائر المنكرات، بل هذا من أشرها وأقبحها، ومن ثم أكد النبي - صلى الله عليه وسلم - التحذير من ذلك بقوله: «الله الله» أي احذروا الله أي عقابه وعذابه على حد قوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} وكما تقول لمن تراه مشرفا على الوقوع في نار عظيمة: النار النار أي احذرها. وتأمل أعظم فضائلهم ومناقبهم التي نوه بها - صلى الله عليه وسلم - حيث جعل محبتهم محبة له وبغضهم بغضا له، وناهيك بذلك جلالة لهم وشرفا، فحبهم ¬

(¬1) (2/ 509). (¬2) التوبة الآية (100).

عبد الوهاب الشعراني: ترهاته ومخازيه (973 هـ)

عنوان محبته وبغضهم عنوان بغضه. ثم قال: وإنما يعرف فضائل الصحابة من تدبر سيرهم معه - صلى الله عليه وسلم - وآثارهم الحميدة في الإسلام في حياته وبعد مماته، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأكمله وأفضله، فقد جاهدوا في الله حق جهاده حتى نشروا الدين وأظهروا شرائع الإسلام ولولا ذلك منهم ما وصل إلينا قرآن ولا سنة ولا أصل ولا فرع، فمن طعن فيهم فقد كاد أن يمرق من الملة؛ لأن الطعن فيهم يؤدي إلى انطماس نورها: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)} (¬1) وإلى عدم الطمأنينة والإذعان؛ لثناء الله ورسوله عليهم، وإلى الطعن في الله وفي رسوله؛ إذ هم الوسائط بيننا وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والطعن في الوسائط طعن في الأصل، والإزراء بالناقل إزراء بالمنقول عنه، وهذا ظاهر لمن تدبره، وقد سلمت عقيدته من النفاق والغلو والزندقة، فالواجب على من أحب الله ورسوله؛ حب من قام بما أمر الله ورسوله به، وأوضحه وبلغه لمن بعده، وأداه جميع حقوقه، والصحابة هم القائمون بأعباء ذلك كله. (¬2) عبد الوهاب الشعراني: ترهاته ومخازيه (973 هـ) كان هذا الرجل من أكابر مخرّفي الصوفية -في القرن العاشر- الذين تخرّج على أيديهم فئام من الجهلة، يُساقون سَوق النَّعَم، ولا يدري المساكين إلى أين؟ ¬

(¬1) التوبة الآية (32) .. (¬2) الزواجر (2/ 510 - 511).

له مصنفات في التصوف، ظاهرها فيه الرحمة، وباطنها من قِبَله الخسران والنقمة. قامت دعوته على مناقضة التوحيد، ونشر الشرك، وكتبه خير شاهد بذلك. ولولا أمانة حماية التوحيد؛ لما سطرتُ ما سطرت، ولما أضعت الوقت في قراءة مثل هذه الكتب التي تفسد على المرء دينه ودنياه. ويكفي القارئ المنصف -مريدَ الحق- نماذج نذكرها من مخازي هذا الشعراني، يتبين له من خلالها صدق ما نقول. ولا يهولنك -أخي- ما قد تسمعُه من الألقاب التي تضفى على مثل هذا الرجل، كالإمام، والهيكل الصمداني، والقطب الرباني، وغيرها، فإنما هي ألقاب عارية عن المضمون، وشعارات واهية لا تنبئ عن المكنون. فكن أخا الإسلام منها على حذر! وفرَّ منها تنجُ من الشرر! ولنأخذ على سبيل المثال كتابه الطبقات، ولنُجِلِ النظر فيه، لنرى هل هذا الكتاب يطابق اسمه مسماه؟ أم العكس؟ فاسم الكتاب: 'لواقح الأنوار في طبقات الأخيار'، وهو عبارة عن تراجم صنعها مؤلفه لأئمة طريقته ومشايخهم، وأقحم -غير مبالٍ- تراجم بعض الصحب والتابعين، وزمرة من أئمة الحديث المجتهدين، وختمها بشيوخ وقته الذين عاصرهم. وقد ضمن التراجم ألواناً من الشرك، وأنواعاً من الكفر والزندقة، وشذوذاً في السلوك والأخلاق. أقول: كيف طاب لهذا الجرّيء أن يجمع بين خير الناس بعد النبيين،

وبين شرهم من الزنادقة الهالكين كابن عربي وابن الفارض وابن سبعين وغيرهم، تلبيساً منه وتدليساً. والعجب ادعاؤه اتباع سنن المحَدِّثين ومنهجهم في انتقاء هذه الأخبار، فلم يروِ -كما زعم- في كتابه هذا إلا ما صح بالسند الصحيح عند القوم. وما أدري أين يتجلى انتقاؤه المزعوم؟ أَكُلُّ هذه الطّامّات العقدية والتعبدية والخلقية منتقاة؟ فماذا لو لم ينتقِ!! وإليك أخي القارئ أقوال الشعراني في كتابه، ولا تعجل بالإنكار علينا إلا بعد قراءتك لهذه الأقوال. وقارنها بأقوال من تشبّع بالكتاب والسنة من الصحب ومن اتبعهم بإحسان، تجد البون شاسعاً، رغم ما زعمه الشعراني في مقدمة طبقاته من أن القوم ما وصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا من طريق الكتاب والسنة وتشبثهم بهما. 1 - مشاركة أولياء الشعراني لله عز وجل في التصريف والتدبير: قال الشعراني: - وكان رضي الله عنه يقول: فقدت قلبي منذ عشرين سنة مع الله تعالى، وتركت قولي للشيء كن فيكون منذ عشرين سنة أدباً مع الله عز وجل ... (¬1) - وكان رضي الله عنه يقول: النقباء ثلاثمائة، والنجباء سبعون، والأبدال أربعون، والأخيار سبعة، والعمد أربعة، والغوث واحد، فمسكن النقباء المغرب، والنجباء مصر، والأبدال بالشام، والأخيار سياحون في الأرض، والعمد في زوايا الأرض، والغوث مسكنه بمكة. فإذا عرض حاجة ¬

(¬1) الطبقات (1/ 102).

من أمر العامة ابتهل فيها النقباء ثم النجباء ثم الأبدال ثم الأخيار ثم العمد ثم الغوث. (¬1) - ... مات رضي الله عنه عن أربعين مريداً كلهم من أرباب الأحوال. وحكى أنه لما مات اجتمع هؤلاء المريدون في روضة تجاه زاويته، فجعل كل منهم يأخذ من تلك الروضة قبضة من بنائها، ويتنفس عليها فتزهر من جميع الأزهار المختلفة الألوان من أصفر وأخضر وأزرق وأبيض وغير ذلك، حتى أقرّ بعضهم لبعض بالتمكين والتصريف. (¬2) - وكان يقول: إن العبد إذا تمكن من الأحوال بلغ محل القرب من الله تعالى، وصارت همته خارقة للسبع السماوات، وصارت الأرضون كالخلخال برجله، وصار صفة من صفات الحق جل وعلا، لا يعجزه شيء، وصار الحق تعالى يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه، قال ويدل لما قلناه ما ورد في بعض الكتب الإلهية، يقول الله عز وجل: يا بني آدم أطيعوني أطعكم، واختاروني أختركم، وارضوا عني أرض عنكم، وأحبوني أحبكم، وراقبوني أراقبكم، وأجعلكم تقولون للشيء كن فيكون. (¬3) - ومنهم الشيخ سويد السنجاري رضي الله عنه ... وهو أحد من ملكه الله تعالى التصرف في العالم، وجمع له بين علمي الشريعة والحقيقة. (¬4) - ومنهم الشيخ حياة بن قيس الحراني رضي الله تعالى عنه ... وهو ¬

(¬1) الطبقات (1/ 110). (¬2) الطبقات (1/ 138). (¬3) الطبقات (1/ 142). (¬4) الطبقات (1/ 152).

أحد الأربعة الذين يتصرفون في قبورهم بأرض العراق. (¬1) - وكان يقول: كل بدل في قبضة العارف؛ لأن ملك البدل من السماء إلى الأرض، وملك العارف من العرش إلى الثرى. (¬2) - وقد كان سهل بن عبد الله التستري رضي الله عنه يقول: أعرف تلامذتي من يوم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} (¬3)، وأعرف من كان في ذلك الموقف عن يميني، ومن كان عن شمالي، ولم أزل من ذلك اليوم أربي تلامذتي وهم في الأصلاب لم يحجبوا عني إلى وقتي هذا، نقله ابن عربي رضي الله عنه في الفتوحات. (¬4) - وكان رضي الله عنه يقول: ... حركت ما سكن، وسكنت ما تحرك بإذن الله تعالى وأنا ابن أربع عشرة سنة. (¬5) - وسافر إلى العراق فتلقاه أشياخها منهم سيدي عبد القادر وسيدي أحمد بن الرفاعي فقالا: يا أحمد مفاتيح العراق والهند واليمن والروم والمشرق والمغرب بأيدينا، فاختر أيّ مفتاح شئت منها، فقال لهما سيدي أحمد رضي الله عنه: لا حاجة لي بمفاتيحكما، ما آخذ المفتاح إلا من الفتّاح. (¬6) - فدار الكلام بينهما فقال سيدي علي: ما تقول في رجل رحى ¬

(¬1) الطبقات (1/ 153). (¬2) الطبقات (1/ 156). (¬3) الأعراف الآية (172). (¬4) الطبقات (1/ 183). (¬5) الطبقات (1/ 183). (¬6) الطبقات (1/ 183).

الوجود بيده يدورها كيف شاء؟ فقال له سيدي محمد رضي الله عنه: فما تقول فيمن يضع يده عليها فيمنعها أن تدور؟ فقال له سيدي علي: والله كنا نتركها لك، ونذهب عنها ... (¬1) - كان رضي الله عنه من الرجال المتمكنين أصحاب التصريف ... وكان رضي الله عنه يقول كثيراً: كنت أمشي بين يدي الله تعالى تحت العرش، وقال لي كذا وقلت له كذا، فكذبه شخص من القضاة فدعا عليه بالخرس، فخرس حتى مات ... (¬2) (التعليق: انظر رعاك الله إلى هذه الأقوال المشينة المخالفة لأبجديات عقيدة المسلم، كيف يتفوّه امرؤ عاقل بمثلها؟ بل كيف يترضى على أصحابها؟ 2 - اطلاع أولياء الشعراني على الغيب ورؤيتهم اللوح المحفوظ: قال الشعراني: - هو أحد أئمة القوم، ومن أكابر علمائهم المتكلمين في علوم الإخلاص والرياضات وغيوب الأفعال ... (¬3) - وكان يقول في قوله تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (¬4): ¬

(¬1) الطبقات (2/ 90). (¬2) الطبقات (2/ 104). (¬3) الطبقات (1/ 77). (¬4) النساء الآية (83).

المستنبط هو الذي يلاحظ الغيب أبداً، فلا يغيب عنه شيء، ولا يخفى عليه شيء. وقال في قوله: {لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} (¬1): المتوسم هو الذي يعرف الوسم وهو العارف بما في سويداء القلب ... (¬2) - وكان يقول: إذا امتحن القلب بالتقوى ترحل عنه حب الدنيا وحب الشهوات، واطلع على المغيبات، ومن لم يمتحن قلبه بالتقوى لا يبرح عن حبّ الدنيا، ولم يزل محجوباً عن المغيبات ... (¬3) - ... وحفظ حكم السر يوسع قدرة الاطلاع على مكامن المكنونات ... (¬4) - هو أوحد الأئمة، أبرز الله تعالى له المغيبات، وخرق له العادات ... (¬5) - وكان يقول: ما أخذت العهد قط على مريد حتى رأيت اسمه مكتوباً في اللوح المحفوظ، وأنه من أولادي ... (¬6) - وكان رضي الله عنه يقول: العارف من جعل الله تعالى في قلبه لوحاً منقوشاً بأسرار الموجودات، وبإمداده بأنوار حق اليقين يدرك حقائق تلك السطور على اختلاف أطوارها، ويدرك أسرار الأفعال فلا تتحرك حركة ظاهرة أو باطنة في الملك والملكوت إلا ويكشف الله تعالى له عن بصيرة إيمانه ¬

(¬1) الحجر الآية (75). (¬2) الطبقات (1/ 92). (¬3) الطبقات (1/ 125). (¬4) الطبقات (1/ 137). (¬5) الطبقات (1/ 139). (¬6) الطبقات (1/ 149).

وعن عيانه فيشهدها علماً وكشفاً ... (¬1) - وكان رضي الله عنه يقول: إذا كمل العارف في مقام العرفان أورثه الله علماً بلا واسطة، وأخذ العلوم المكتوبة في ألواح المعاني ففهم رموزها وعرف كنوزها .. وأطلعه الله على العلوم المودعة في النقط، ولولا خوف الإنكار لنطقوا بما يبهر العقول ... وكذلك لهم الاطلاع على ما هو مكتوب على أوراق الشجر والماء والهواء، وما في البر والبحر، وما هو مكتوب على صفحة قبة خيمة السماء، وما في جباه الإنس والجان، مما يقع لهم في الدنيا والآخرة، وكذلك لهم الاطلاع على ما هو مكتوب بلا كتابة من جميع ما فوق الفوق وما تحت التحت، ولا عجب من حكيم يتلقى علماً من حكيم عليم ... (¬2) - وكان رضي الله عنه يقول: إن أولياء الله يطلعون على أمور لم يطلع عليها العلماء، فلا يسع الخائف على دينه إلا الأدب والتسليم. (¬3) - وهو أحد من أظهره الله تعالى إلى الوجود وصرفه في الكون ... وأنطقه بالمغيبات ... (¬4) - عن أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه أنه كان يقول: سيظهر بمصر رجل يعرف بمحمد الحنفي يكون فاتحاً لهذا البيت، ويشتهر في زمانه ويكون له شأن عظيم، وفي رواية أخرى عن الشاذلي رضي الله عنه: يظهر بمصر ¬

(¬1) الطبقات (1/ 153). (¬2) الطبقات (1/ 169 - 170). (¬3) الطبقات (2/ 76). (¬4) الطبقات (2/ 89).

شاب يعرف بالشاب التائب، حنفي المذهب اسمه محمد بن حسن وعلى خده الأيمن خال، وهو أبيض اللون مشرب بحمرة، وفي عينيه حور ويربى يتيماً فقيراً. (¬1) - ... فيقول الشيخ رضي الله عنه لذلك الشخص: أما تسأل؟ فلو سألتني شيئاً لم يكن عندي أجبتك من اللوح المحفوظ ... (¬2) - وكان آخر عمره مقعداً، ويتكلم على أخبار سائر الأقاليم من أطراف الأرض، وكانت له نصرانية تعتقده في بلاد الإفرنج، فنذرت إن عافى الله ولدها أن تصنع للفرغل بساطاً، فكان يقول: هاهم غزلوا صوف البساط، هاهم دوروا الغزل على المواسير، هاهم شرعوا في نسجه، هاهم أرسلوه، هاهم نزلوه المركب، هاهم وصلوا إلى المحل الفلاني ثم الفلاني، فقال يوماً: واحد يخرج يأخذ البساط؛ فإنه قد وصل على الباب فخرجوا فوجدوا البساط على الباب كما قال الشيخ رحمه الله. (¬3) - كان رضي الله عنه إذا دخل بلداً سلم على أهلها كباراً وصغاراً بأسمائهم حتى كأنه تربّى بينهم. (¬4) - وكان رضي الله عنه يخبر بالوقائع في مستقبل الزمان للولاة، فيقع كما أخبر لا يخطئ. (¬5) ¬

(¬1) الطبقات (2/ 90). (¬2) الطبقات (2/ 97). (¬3) الطبقات (2/ 104). (¬4) الطبقات (2/ 142). (¬5) الطبقات (2/ 143).

- وكان قد أعطاه الله تعالى التمييز بين الأشقياء والسعداء في هذه الدار. (¬1) - وكان محل كشفه اللوح المحفوظ ... (¬2) - وكان يخبر بوقائع الزمان المستقبل، وأخبرني سيدي علي الخواص رضي الله عنه أن الله تعالى يطلع الشيخ شعبان على ما يقع في كل سنة من رؤية هلالها، فكان إذا رأى الهلال عرف جميع ما فيه مكتوباً على العباد. (¬3) (التعليق: ما ترك هؤلاء لله عز وجل من علم الغيب؟ وهو القائل سبحانه: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (¬4) و {وعنده مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} (¬5) والقائل: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} (¬6). وأين هم من النبي - صلى الله عليه وسلم - القائل كما حكى الله عنه آمراً له بذلك: {قل ¬

(¬1) الطبقات (2/ 150). (¬2) الطبقات (2/ 150). (¬3) الطبقات (2/ 185). (¬4) النمل الآية (65). (¬5) الأنعام الآية (59). (¬6) لقمان الآية (34).

لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)} (¬1). بل لِمَ لُعن الكهنة والعرافون إلا لادعائهم الغيب؟ 3 - تلقي أولياء الشعراني الوحي عن الله مباشرة، أو بواسطة المَلَك: قال الشعراني في كتابه الأنوار القدسية وهو يحكي عن نفسه: فبينما أنا بالفسطاط مقابل الروضة بمصر، أخذتني حالة بين النائم واليقظان، فسمعت هاتفاً أسمع صوته ولا أرى شخصه، يقول على لسان الحق سبحانه وتعالى: عبدي لو أطلعتك على جميع الكائنات وعدد الرمال واسم كل ذرة منه، والنبات وأسمائها وأعمارها، والحيوانات وأعمارها وأنسابها إلى أصولها من الوحش والطيور والحشرات وسائر الدواب، وكشفت لك عن ملكوت السموات والأرض والجنة والنار وما فيهن ظاهراً وباطناً ... (¬2) وقال أيضاً عن نفسه: ولو أن أبا حامد وغيره اجتمعوا في زمانهم بكامل من أهل الله، وأخبرهم بتنزل الملك على الولي، لقبلوا ذلك، ولم ينكروه، وقد نزل علينا ملك ولله الحمد. (¬3) ¬

(¬1) الأعراف الآية (188). (¬2) انظر هامش الطبقات (1/ 2 - 3). (¬3) الطبقات.

قال: وقد كان سهل بن عبد الله التستري رضي الله عنه يقول: أعرف تلامذتي من يوم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} (¬1)، وأعرف من كان في ذلك الموقف عن يميني، ومن كان عن شمالي، ولم أزل من ذلك اليوم أربي تلامذتي وهم في الأصلاب لم يحجبوا عني إلى وقتي هذا .. وكان رضي الله عنه يقول: أشهدني الله تعالى ما في العلا وأنا ابن ست سنين، ونظرت في اللوح المحفوظ وأنا ابن ثمان سنين، وفككت طلسم السماء وأنا ابن تسع، ورأيت في السبع المثاني حرفاً معجماً حار فيه الجن والإنس ففهمته ... (¬2) وقال الشعراني عن أوليائه: وكان رضي الله عنه يقول: إذا صلح القلب صار مهبط الوحي والأسرار. (¬3) - وكان رضي الله عنه يقول: لو أخذت من ربي عز وجل عهداً أن لا تحرق النار جسداً دخل تربتي. (¬4) - فرأيت الحق جل وعلا، فقال لي: يا عبدي قد جعلتك من صفوتي في أرضي، وأيدتك في جميع أحوالك بروح مني، وأقمتك رحمة لخلقي، فاخرج إليهم، واحكم فيهم بما علمتك من حكمي، وأظهر لهم بما أيدتك به من آياتي، فاستيقظت وخرجت إلى الناس فهرعوا إليَّ من كل جانب، رضي الله عنه. (¬5) ¬

(¬1) الأعراف الآية (172). (¬2) الطبقات (1/ 183). (¬3) الطبقات (1/ 141 - 142). (¬4) الطبقات (1/ 132). (¬5) الطبقات (1/ 139).

- وكان رضي الله عنه يقول: عليكم بتصديق القوم في كل ما يدعون، فقد أفلح المصدقون، وخاب المستهزئون، فإن الله تعالى يقذف في سرّ خواصّ عباده ما لا يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل. (¬1) - وكان رضي الله عنه يقول: أنا موسى عليه السلام في مناجاته ... أنا في السماء شاهدت ربي، وعلى الكرسي خاطبته .. وما كان ولي متصلاً بالله تعالى إلا وهو يناجي ربه كما كان موسى عليه السلام يناجي ربه ... وإن الله عز وجل خلقني من نور رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمرني أن أخلع على جميع الأولياء بيدي. (¬2) (التعليق: فما عسى أن يقول العاقل إذا قرأ أو سمع مثل هذا الكلام! متى سُمع عن صحابيّ من أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن الله كلّمه مباشرة أو جالسه، أو أنزل عليه مَلَكاً؟ وهم رضي الله عنهم خير الناس بعد الأنبياء على الإطلاق. فكيف يزعم الشعراني وأضرابه مرتبة لهم أفضل من مرتبة الصحابة؟ بل كيف يتخذ هؤلاء الأنذال لأنفسهم طريقاً غير طريق النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ والأولى أن نقول: كيف يزعم هؤلاء أنه يوحى إليهم مثل النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ يكفينا فيهم قول الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (¬3). ¬

(¬1) الطبقات (1/ 173). (¬2) الطبقات (1/ 181). (¬3) الأنعام الآية (93).

4 - اجتماع أولياء الشعراني بالخضر عليه السلام: زعم المتصوفة اجتماعهم بالخضر صاحب موسى عليهما السلام، ومذاكرتهم له، وأخذهم العلم عنه. قال الشعراني في طبقاته: - ... وكان يجتمع بالخضر عليه السلام، وذلك أدلّ دليل على ولايته، فإن الخضر لا يجتمع إلا بمن حقت له قدم الولاية المحمدية. (¬1) - وكان رضي الله عنه يقول: دخلت داري يوماً فإذا رجل جالس في الدار، فقلت له: كيف دخلت داري بغير إذني، فقال: أنا أخوك الخضر، فقلت: ادع الله تعالى لي. فقال عليه السلام: هوّنَ الله عليك طاعته. (¬2) - وكان يقول: لقيت إبراهيم بن أدهم بمكة، فقال لي: اجتمعت بالخضر عليه السلام، فقدم لي قدحاً أخضر فيه رائحة السكباج، فقال لي: كل يا إبراهيم، فرددته عليه، فقال: إني سمعت الملائكة تقول: من أُعطِيَ فلم يأخذ سأل فلا يُعطى. (¬3) - وكان رضي الله عنه يقول: علّمني الخضر عليه السلام رقية للوجع، فقال: إن أصابك وجع فضع يدك على الموضع وقل: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} (¬4) فلم أزل أقولها على الوجع فيذهب لساعته. (¬5) ¬

(¬1) الطبقات (2/ 125). (¬2) الطبقات (1/ 72). (¬3) الطبقات (1/ 76). (¬4) الإسراء الآية (105). (¬5) الطبقات (1/ 82).

- وكان يقول: لقيت الخضر عليه السلام في بادية، فسألني الصحبة فخشيت أن يفسد عليّ توكلي بالسكون إليه ففارقته. (¬1) - وكان رضي الله عنه كثيراً ما يجتمع بالخضر عليه السلام، وكان يطبخ طعام القمح كثيراً، فقيل له في ذلك، فقال رضي الله عنه: إن الخضر عليه السلام زارني ليلة فقال: اطبخ لي شوربة قمح، فلم أزل أحبها لمحبة الخضر عليه السلام لها. (¬2) - وكان الخضر عليه السلام يحضر مجلسه مراراً، فيجلس على يمينه، فإن قام الشيخ، قام معه، وإن دخل الخلوة شيعه إلى باب الخلوة ... (¬3) (التعليق: انظر رعاك الله كيف لَبَّسَ الشيطان على هؤلاء المغفلين فأراهم أشباحاً لا حقيقة لها، ثم هم يزعمون أنه الخضر، أيّ خضر هذا؟ أما خضر موسى فقد مات منذ أمد بعيد، هذا الذي عليه المحققون من أهل العلم، وأما خضر هؤلاء الصوفية فهو من شياطين الجن، إن صدق القوم في دعواهم، وإلا فهو أسطورة من اختلاق أربابهم وكبرائهم. 5 - زعمهم أن موتاهم من الأولياء يتصرفون ويقضون حوائج الناس: قال الشعراني وهو يحكي عن بيعته التي بايع بها السيد أحمد البدوي ¬

(¬1) الطبقات (1/ 97). (¬2) الطبقات (1/ 159). (¬3) الطبقات (2/ 100).

وهو في قبره: ... قد كان أخذ عليَّ العهد في القبلة تجاه وجه سيدي أحمد رضي الله عنه، وسلمني إليه بيده فخرجت اليد الشريفة من الضريح وقبضت على يدي، وقال: سيدي يكون خاطرك عليه، واجعله تحت نظرك، فسمعت سيدي أحمد رضي الله عنه من القبر يقول: نعم ... وفرش لي فرشاً فوق ركن القبة التي على يسار الداخل وطبخ لي حلوى، ودعا الأحياء والأموات إليه وقال: أزل بكارتها هنا ... وأخبرني أن سيدي أحمد رضي الله عنه كان ذلك اليوم يكشف الستر عن الضريح ويقول أبطأ عبد الوهاب ما جاء ... ثم أراني خلقاً كثيراً من الأولياء وغيرهم الأحياء والأموات. (¬1) - قال الشعراني: ... فلما مات وسوّوا عليه اللبن وقعت عليه لبنة فإذا هو قائم يصلي في قبره ... ولما مات كان الناس يسمعون من قبره تلاوة القرآن رضي الله تعالى عنه. (¬2) - وقال أيضاً: ولما وضعوه في لحده نهض قائماً يصلي واتسع له القبر وأغمي على من كان نزل قبره ... (¬3) وغير هذه كثير، وإنما هي غيض من فيض، يكفينا منها ما ذكرنا للدلالة على المقصود. أقول: هذه هي الصوفية المسعورة، وهؤلاء هم رجالاتها، ومربّو أجيالها. ¬

(¬1) الطبقات (1/ 186). (¬2) الطبقات (1/ 36). (¬3) الطبقات (1/ 140).

أما حمق مشايخها وجنونهم فلدينا منه الأمثلة الكثيرة، أعرضنا عن ذكرها قصداً. وأما سلوكاتهم وأخلاقهم فاسمعها من الشعراني يحكيها عن أوليائه، وليته ما ذكرها!! فهي تنبئ عن سفاهة، وقلة مروءة، وذهاب حياء. والعجب كيف يترضّى الشعراني عن أصحابها ومرتكبيها. قال الشعراني: - وكان أهل مصر لا يمنعون حريمهم منه في الرؤية والخلوة، فأنكر عليه بعض الفقهاء، فقال: يا فقيه اشتغل بنفسك، فإنه بقي من عمرك سبعة أيام وتموت، فكان كما قال. (¬1) - وقد رأى السيد عبد القادر الجيلي لمريده أنه لا بد له أن يزني بامرأة سبعين مرة، فقال: يا رب اجعلها في النوم، فكان كذلك ... وكان رضي الله عنه يقول: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال لي: كَنِّ أصحابك فلاناً كذا، وفلاناً كذا، وكَنِّ فلاناً أبا الظهور لأنه يتبع ظهور النساء ببصره ولا عليك منه. (¬2) - وكان الشويمي رضي الله عنه يدخل بيت الشيخ يحسس بيده على النساء، فكنَّ يشكين لسيدي مدين رضي الله عنه فيقول: حصل لكم الخير فلا تشوّشوا. (¬3) - وأخبرني الشيخ شمس الدين البوصيري رضي الله عنه أَجَلُّ أصحابه ¬

(¬1) الطبقات (1/ 157). (¬2) الطبقات (2/ 72). (¬3) الطبقات (2/ 103).

قال: لم يزل الشيخ يمتحنني إلى أن مات، وأراني ضرب المقارع على أجنابي من الدعاوي التي كان يدعيها علي عند الحكام، قال: وكنت أعترف عند الحكام إيثاراً لجناب الشيخ أن يُرَدَّ قوله، فإذا قال: هذا زنى بجاريتي، أقول: نعم، أو يقول: هذا أراد الليلة أن يقتلني، أقول: نعم، أو يقول: هذا سرق مالي، أقول: نعم. (¬1) - وكان رضي الله عنه إذا غلب عليه الحال نزع ثيابه وصار عرياناً ليس في وسطه شيء. (¬2) - وكان رضي الله عنه إذا رأى امرأة أو أمرد راوده عن نفسه، وحسس على مقعدته، سواء كان ابن أمير أو ابن وزير، ولو كان بحضرة والده أو غيره، ولا يلتفت إلى الناس ولا ينكر عليه من أحد. (¬3) - وكان يتكلم بالكلام الذي يستحى منه عرفاً، وخطب مرة عروساً فرآها فأعجبته فتعرى لها بحضرة أبيها، وقال لها: انظري أنت الأخرى حتى لا تقولي بعد ذلك بدنه خشن، أو فيه برص أو غير ذلك، ثم مسك ذكره، وقال: انظري هل يكفيك هذا؟ وإلا فربما تقولي هذا ذكره كبير لا أحتمله، أو يكون صغيراً لا يكفيك فتقلقي مني وتطلبي زوجاً أكبر آلة مني. (¬4) - وكان إذا رأى شيخ بلد أو غيره ينزله من على الحمارة ويقول له: أمسك رأسها لي حتى أفعل فيها، فإن أبى شيخ البلد تسمر في الأرض لا ¬

(¬1) الطبقات (2/ 130). (¬2) الطبقات (2/ 130). (¬3) الطبقات (2/ 135). (¬4) الطبقات (2/ 184).

القرن 11

يستطيع يمشي خطوة، وإن سمع حصل له خجل عظيم والناس يمرون عليه. (¬1) - وكان رضي الله عنه عرياناً لا يلبس إلا قطعة جلد أو بساط أو حصير أو لباد، يغطي قبله ودبره فقط، وكان يرى حلال زينة الدنيا كالحرام في الاجتناب. (¬2) (التعليق: فهل يسع عاقلاً بعد هذا أن ينسب نفسه إلى هذا المستنقع الذي هؤلاء هم أسياده وأشياخه؟ اللهم، فلا. ونعوذ بالله من أناس هذا حالهم، وهذه أخلاقهم وصفاتهم. ونعوذ بالله من منافح عنهم وعن أفكارهم. ونسأل الله عز وجل أن يبصرنا بعيوبنا، وأن يثبتنا على الحق حتى نلقاه. علي بن سلطان القاري (¬3) (1014 هـ) نور الدين علي بن سلطان بن محمد الهروي المكي الحنفي، وقد عرف بالقاري لأنه كان إماما في القراءات، وكان أيضا فقيها محدثا أصوليا مفسرا مقرئا مؤرخا نحويا أدبيا. ولد بهراة من مدن خراسان، وتلقى عن علمائها ثم رحل إلى مكة فاستقر بها. أخذ العلم في مكة عن أبي الحسن البكري والسيد زكرياء الحسيني تلميذ العالم الرباني إسماعيل الشرواني وعبد الله السندي وغيرهم. صنف ¬

(¬1) الطبقات (2/ 150). (¬2) الطبقات (2/ 186). (¬3) البدر الطالع (1/ 445 - 446) والأعلام للزركلي (5/ 12 - 13).

موقفه من المشركين:

القاري في علوم كثيرة منها: الفقه والحديث والتفسير والقراءات وأصول الفقه وعلم الكلام والفرائض وغيرها. أهم مؤلفاته: مرقاة المفاتح شرح مشكاة المصابيح، وفتح باب العناية بشرح النقاية، وشرح ثلاثيات البخاري، وشرح الفقه الأكبر، والمصنوع في معرفة الموضوع وغيرها. وقد تأثر القاري بصوفية أهل زمانه، فشغف بهم وألف في فنونهم، لكن لم يصل به الحد إلى الحلول والاتحاد. كانت وفاته بمكة في شوال في سنة أربع عشرة وألف ودفن بالمعلاة. موقفه من المشركين: له كتاب رد الفصوص (¬1)، وكتاب فر العون ممن يدعي إيمان فرعون (¬2) سخر قلمه فيهما للرد على قائد الاتحادية ابن عربي الحاتمي محذرا منه ومن مذهبه الخبيث، مع أن القاري نفسه ينتسب إلى طريقة التصوف بل وألف لهم مؤلفات في ذلك، فتنبه. موقفه من الرافضة: له مؤلفات طيبة في ذم الروافض: 1 - 'رسالة في سب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - '، ذكره القاري نفسه في كتابه 'الأسرار المرفوعة' (¬3) حين تكلم عن سب الصحابة فقال: وقد كتبت في ¬

(¬1) انظر الأعلام (5/ 13). (¬2) انظر إيضاح المكنون (4/ 187). (¬3) (ص.219).

علي الهيتي (كان حيا سنة 1025 هـ)

المسألة رسالة مستقلة. 2 - 'سلالة الرسالة في ذم الروافض من أهل الضلالة'. 3 - 'شم العوارض في ذم الروافض'. علي الهِيتِي (¬1) (كان حيا سنة 1025 هـ) علي بن أحمد الهيتي لغوي متفقه. نسبته إلى هِيت في العراق. كان إماما في جامع الحسين بالقاهرة. موقفه من الرافضة: ألف في الرد على أهل هذه النحلة كتابان: - 'السيف الباتر لرقاب الشيعة والرافضة الكوافر'، وهو مطبوع محقق. - 'فضائل الصحابة والحث على محبتهم'. مَرْعِي بن يوسف الحنبلي (¬2) (1033 هـ) مرعي بن يوسف بن أبي بكر الكرمي ثم المقدسي، العالم المفسر المحدث الفقيه الأصولي النحوي. أخذ عن محمد المرداوي والقاضي يحيى الحجاوي وأحمد الغنيمي وغيرهم. تصدر للإقراء والتدريس بجامع الأزهر، وكان منهمكا على تحصيل العلوم انهماكا كليا. قال المحبي: كان فقيها، محدثا، إماما، ذا اطلاع واسع على نقول الفقه ودقائقه، ومعرفة تامة بالعلوم النقلية ¬

(¬1) معجم المؤلفين (7/ 32) هدية العارفين (1/ 754) والأعلام (4/ 258). (¬2) الأعلام (7/ 203) والسحب الوابلة (3/ 1118 - 1125) ومعجم المؤلفين (12/ 218).

موقفه من الجهمية:

والعقلية وجميع العلوم المتداولة، له فيها اليد الطولى. كانت وفاته بمصر سنة ثلاث وثلاثين وألف. موقفه من الجهمية: له من الآثار: 1 - 'أقاويل الثقات في الأسماء والصفات' وقد سجل رسالة علمية في جامعة أم القرى ونوقش. وهو عبارة عن مقارنة بين بعض أقوال شيخ الإسلام الذي يمثل الاتجاه السلفي وغيره ممن يمثل الاتجاه الخلفي، وقد اعتمد في هذا الاتجاه الأخير على القرطبي، وكذلك الطوفي الرافضي. والكتاب قليل الفائدة في نظري. 2 - 'ترجمة لشيخ الإسلام ابن تيمية' وهو مطبوع كذلك مع مجموعة من الكتب السلفية. أحمد بن عبد الأحد السرهندي (¬1) (1034 هـ) أحمد بن عبد الأحد الفاروقي السرهندي مجدد الألف الثاني من الهجرة النبوية، ولد من بيت عريق في المجد والعلم سنة إحدى وسبعين وثمانمائة للهجرة، ونشأ في بيئة دينية صالحة. من علماء الهند الأفذاذ الذين أحيى الله بهم السنة وأمات بهم الكفر والبدعة، فتابعه على هذا الأمر خلق كثير نفعهم الله بدعوته. وكان رحمه الله ¬

(¬1) تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند (97 - 117) وأبجد العلوم (3/ 180 - 181) وهدية العارفين (1/ 186) والأعلام (1/ 142 - 143).

موقفه من المبتدعة:

سيفا مسلولا على الصوفية وأذنابهم. توفي رحمه الله سنة أربع وثلاثين وألف للهجرة. موقفه من المبتدعة: - جاء في تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند عنه قال: ومن حيث أن البدعة قد ظهرت وفشت، يتراءى أن العالم غارق في بحر من الظلمات، قد غرق العالم كله في بحر البدعة وارتطم في ظلماتها، فمَنْ للسنة يقوم لها ويذب عنها ويرد كيد المبتدعين في نحورهم؟! وعلماء عصرنا أكثرهم من الممالئين للبدعة وأعداء السنة الساعين في القضاء عليها. (¬1) - وقال أيضاً: النصيحة هي الدين، ومتابعة سيد المرسلين عليه وعليهم الصلاة والسلام وإتيان السنة السنية، والاجتناب عن (كذا) البدعة اللامرضية، وإن كانت البدعة ترى مثل فلق الصبح، لأنه في الحقيقة لا نور فيها ولا ضياء، ولا للعليل منها شفاء، ولا للداء منها دواء. كيف والبدعة إما رافعة للسنة أو ساكتة عنها. والساكتة لا بد وأن تكون زائدة على السنة، فتكون ناسخة لها في الحقيقة أيضاً، لأن الزيادة على النص نسخ له. فالبدعة كيف كانت تكون رافعة للسنة، نقيضة لها، فلا خير فيها ولا حسن فيها. ليت شعري من أين حكموا بحسن البدعة المحدثة في الدين الكامل؟! - وورد في مكتوب له آخر إلى بعض أصحابه: يسأل هذا الفقير إلى الله متضرعا إليه تعالى سبحانه أن يقيه والذين معه شرور كل ما استحدث في الدين وابتدع مما لم يكن له أثر في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين رضي الله ¬

(¬1) تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند (ص.100 - 101).

موقفه من الرافضة:

عنهم أجمعين، وأن يتراءى للناظر مستنيرا مثل فلق الصبح، يدعو الله أن يجعلنا في منجاة من تلك البدع المستحدثة. يقولون: إن البدعة تنقسم إلى نوعين: الحسنة والسيئة. أما هذا العاجز فلا يرى في شيء من هذه البدعة حسنا ولا نورا، ولا يشاهد فيها إلا ظلمة وقذرا. وقد قال سيد البشر عليه وعلى آله التسليمات: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (¬1)، وقال عليه الصلاة والسلام: «إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» (¬2)، فإذا ثبت أن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، فأي معنى لوجود الحسن في البدعة وأي علاقة بينهما؟! (¬3) موقفه من الرافضة: قال: ... ولكنه لما ألف كتابه في الرد على الروافض، وانتقد أعمالهم وعقائدهم علنا، كاد له بعض أفراد الشيعة، وأضمروا له في قلوبهم العداوة يتحينون الفرص لاضطهاده، فوشوا به إلى الملك ... حتى أرسل إليه الملك وأمر بإحضاره ... ولما دخل على الملك حياه بتحية الإسلام ولم يسجد له شأن أهل زمانه، فاستشاط أمراء المملكة غضبا، وانتهزوا الفرصة للتنكيل به. لكن المجاهد أبى إلا أن يصدع بالحق ويندد برجال الملك وأعمالهم المنكرة المعادية للدين الحنيف، فما كان من الملك إلا أن أمر بحبسه في سجن كوايار. (¬4) ¬

(¬1) تقدم تخريجه في مواقف ابن رجب سنة (795هـ). (¬2) انظر تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ). (¬3) تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند (ص.109 - 110). (¬4) تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند (ص.101).

موقفه من الصوفية:

موقفه من الصوفية: قال رحمه الله في تاريخ الدعوة الإسلامية عنه: إياك وأن تنخدع بترهات الصوفية، وتزعم أن غير الحق والحق جل وعز شأنه كلاهما واحد لا فرق بينهما. (¬1) وقال: إنما المعتبر في إثبات الأحكام الشرعية الكتاب والسنة، والقياس والإجماع أيضا مما تثبت به الأحكام. وليس هناك حجة أخرى غير هذه الأربعة في إثبات الأحكام الشرعية، أما إلهام الأولياء فلا يحل حراما ولا يحرم حلالا. وكذلك (كشوف) الصوفية لا عمل لها في وجوب شيء من الأحكام أو جعلها سنة، والذين حظوا بالولاية الخاصة من الصوفية لا فرق بينهم وبين العامة في تقليدهم الأئمة المجتهدين. (¬2) أحمد بن عبد القادر الرومي (¬3) (1041 هـ) أحمد بن عبد القادر الرومي: فاضل ومحدث من أهل آقحصار في تركيا. له كتب منها مجالس الأبرار ومسالك الأخيار. ومختصر إغاثة اللهفان. والمجالس الرومية في نهار العربية. توفي سنة إحدى وأربعين وألف. موقفه من المبتدعة: قال: في 'مجالس الأبرار': فلابد لك أن تكون شديد التوقي من محدثات الأمور، وإن اتفق عليه الجمهور، فلا يغرنك اتفاقهم على ما أحدث بعد ¬

(¬1) تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند (ص.114). (¬2) تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند (ص.115 - 116). (¬3) معجم المؤلفين (1/ 224) الأعلام (1/ 153)

عبد الباقي بن عبد الباقي (ابن فقيه فصة) (1071 هـ)

الصحابة، بل ينبغي لك أن تكون حريصا على التفتيش عن أحوالهم وأعمالهم، فإن أعلم الناس وأقربهم إلى الله أشبههم بهم وأعرفهم بطريقهم إذ منهم أخذ الدين، وهم أصول في نقل الشريعة عن صاحب الشرع وقد جاء في الحديث: «إذا اختلف الناس فعليكم بالسواد الأعظم» (¬1) والمراد به لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك به قليلا والمخالف كثيرا، لأن الحق ما كان عليه الجماعة الأولى وهم الصحابة ولا عبرة بكثرة الباطل بعدهم. (¬2) عبد الباقي بن عبد الباقي (ابن فقيه فصة) (¬3) (1071 هـ) عبد الباقي بن عبد الباقي بن عبد القادر البعلي، الأزهري، الدمشقي، الأثري، المشهور بـ"البدر" ثم بـ "ابن فقيه فصة". وفصة: قرية ببعلبك من جهة دمشق. ولد في السنة الخامسة بعد الألف للهجرة. وارتحل إلى دمشق، وأخذ عن مجموعة من الشيوخ كأمثال الشيخ أحمد المفلحي والعلامة عمر القارئ وغيرهما. وأخذ عنه ولده أبو المواهب والشيخ إبراهيم الكوراني وغيرهما. توفي رحمه الله سنة إحدى وسبعين وألف للهجرة، ودفن في مقبرة الفراديس. ¬

(¬1) انظر تخريجه في مواقف الطوسي سنة (242هـ). (¬2) صيانة الإنسان (308). (¬3) الأعلام (3/ 272) وهدية العارفين (1/ 497) والسحب الوابلة (2/ 439 - 443).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: له من الآثار: - 'العين والأثر في عقائد أهل الأثر' وقد طبع الكتاب بحمد الله. ناصر الدين أبو بكر بن أبهم (¬1) (1085 هـ) الإمام الفقيه المجاهد ناصر الدين أبو بكر بن أبهم بن الفغ الشمشوي، عاش في القرن الحادي عشر الهجري، في وسط قبائل من الزوايا تسود فيها المثل العليا والاستقامة والمحافظة على شعائر الإسلام، وتُولِي العلم أهمية قصوى، وقد درس في المحاضر حتى أكمل دراسته فيها، وبرز في العلوم الشرعية، اشتهر بالتقوى والورع والعفة ونصرة السنة ورفع راية الجهاد ضد النصارى. وكان يحث على اتباع السنة ومحاربة البدعة، وكان يتولى تدريس العلم بنفسه ويركز على صحيح البخاري، ويدعو إلى الله تعالى وينظم الإدارة والشؤون المالية. وقد توفي رحمه الله تعالى في جهاد مانعي الزكاة في موقعة ترتلاس عام خمس وثمانين وألف. موقفه من المبتدعة: جاء في كتاب السلفية وأعلامها في موريتانيا: - وقبل دخول الإمام ناصر الدين في حرب ضد مانعي الزكاة من بني حسان وجه لهم خطابا قال فيه: "اتركونا نحيي السنة، ونقيم حدود الله، ¬

(¬1) السلفية وأعلامها في موريتانيا للشيخ الطيب بن عمر بن الحسين (245 وما بعدها).

ونخدم العلم، ونعمر البلاد، ونعدل فيها". غير أن هذا الخطاب -وللأسف- لم يجد آذانا صاغية من بني حسان الذين يقف وراءهم الفرنسيون، إبان ذاك، واندلعت الحرب وعرفت [بشرببه]. وكادت دعوة الإمام ناصر الدين الإصلاحية أن تنجح فيما تسعى إليه من نشر العقيدة الإسلامية، وتحكيم شرع الله عز وجل، على أرضه، لولا أن قبائل بني حسان أدركت تعارض هذه الدعوة مع ما تسعى إليه من سيطرة على البلاد، وأحس كشافة الغرب الرابضون على سواحل المنطقة بتهديدها لسياستهم التي أقاموها مع زعماء بني حسان. لذلك كان لهذه الدعوة أعداء في الداخل، وهم قبائل بني حسان الذين يخشون من قيام دولة إسلامية منظمة ذات سلطة مركزية تحد من نفوذهم وتصرفاتهم .. وأعداء في الخارج ممثلين في الفرنسيين. (¬1) - وفيه: إن دعوة الإمام ناصر الدين دعوة سلفية، قامت على التمسك بالكتاب والسنة، واقتفاء آثار السلف الصالح، والجهاد في سبيل الله، ونشر العقيدة الإسلامية، ومحاربة البدع والمنكرات، ومحاولة استنهاض القوى الإسلامية، والعودة بالمجتمع إلى ما كان عليه المسلمون في صدر الإسلام، وأعادت هذه الدعوة إلى الأذهان صورة المجتمع الإسلامي في عهد الخلفاء الراشدين. (¬2) ¬

(¬1) السلفية وأعلامها في موريتانيا (252 - 253). (¬2) السلفية وأعلامها في موريتانيا (246 - 247).

عثمان بن أحمد بن قائد النجدي (1097 هـ)

عثمان بن أحمد بن قائد النَّجْدِي (¬1) (1097 هـ) عثمان بن عثمان بن أحمد بن قائد النجدي ثم الدمشقي ثم القاهري. ولد في مدينة العيينة، ونشأ فيها، وأخذ عن علمائها، ثم ارتحل إلى دمشق. أخذ عن الشيخ محمد بن موسى البصيري النجدي، ومحمد أبي المواهب مفتي الحنابلة في دمشق وعبد الحي بن العماد صاحب الشذرات وغيرهم. وانتفع به خلق كثير منهم أحمد بن عوض المرداوي النابلسي، ومحمد بن الحاج مصطفى الجيتي ومحمد الجيلي. قال الشيخ محمد حسنين مخلوف: أما الشارح -يعني ابن القائد- فيظهر من شرحه أنه فقيه متبحر، وعالم ضليع في مذهب الإمام أحمد بن حنبل، حسن التأليف جيد السبك والتصنيف. والمترجم ليس على طريقة أكثر الفقهاء المتأخرين في صفات الله تعالى بل هو محقق على طريقة السلف، يظهر ذلك من خلال مصنفاته. توفي سنة سبع وتسعين وألف. موقفه من المبتدعة: له من الآثار: 1 - 'نجاة الخلف في اعتقاد السلف'. 2 - 'تلخيص نونية ابن القيم'. ذكر ذلك صاحب علماء نجد. (¬2) ¬

(¬1) علماء نجد (3/ 683 - 685) والأعلام (4/ 202 - 203) ومعجم المؤلفين (6/ 249) والسحب الوابلة (2/ 697 - 699). (¬2) (3/ 685 - 686).

إبراهيم بن سليمان الحنفي الأزهري (كان حيا سنة 1100 هـ)

إبراهيم بن سليمان الحنفي الأزهري (كان حيا سنة 1100 هـ) موقفه من المشركين: جاء في دائرة المعارف الإسلامية: له 'الرسالة المختارة في مناهي الزيارة' بين فيها أن لمس القبور عند زيارتها وتقبيلها والاتكاء عليها مخالف للشرع. (¬1) محمد بن حمد بن عباد الدوسري (¬2) (1175 هـ) الشيخ محمد بن حمد بن عباد الدوسري من آل عوسج، ولد في بلدة البير، إحدى قرى المحمل ونشأ فيها. أخذ عن الشيخ فوزان بن نصر الله والشيخ عجلان بن منيع. عين قاضيا لبلدة ثرمداء إحدى مدن الوشم. وكانت له مراسلات مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب في أول بدء الدعوة. له تاريخ عن حوادث وأخبار نجد مختصر. توفي رحمه الله سنة خمس وسبعين ومائة وألف من الهجرة. موقفه من المبتدعة: له مراسلات مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب حول مسائل في التوحيد يتحرى فيها مذهب السلف. (¬3) ¬

(¬1) دائرة المعارف الإسلامية (3/ 225). (¬2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/ 516 - 518). (¬3) انظر روضة ابن غنام (2/ 71 - 76). الدرر السنية (1/ 67 - 69). علماء نجد (5/ 517).

الأمير محمد بن سعود (1179 هـ)

الأمير محمد بن سعود (¬1) (1179 هـ) الإمام الرئيس محمد بن سعود بن محمد بن مقرن بن مرخان، أول من لقب بالإمامة من آل سعود في نجد. استقر في الدرعية، ثم ولي الإمارة بعد وفاة أبيه ببضع سنين، وفي سنة سبع أو ثمان وخمسين ومائة وألف وفد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب إلى الدرعية، فاستقبله الأمير ورحب به، ونصره باللسان والسنان، حتى اتسعت دائرة الدعوة السلفية وامتدت إلى بلدان وأمصار شتى. أحيا السنة وأمات البدعة وجدد الدعوة والجهاد، وأظهر التوحيد، وحارب الشرك. قال الشيخ أحمد بن علي بن مشرف مادحا له ولذريته: ومهما ذكرت الحي من آل مقرن ... تهلل وجه الفخر وابتسم المجد هموا نصروا الإسلام بالبيض والقنا ... فهم للعدا حتف وهم للهدى جند غطارفة ما إن ينال فخارهم ... ومعشر صدق فيهم الجد والحد وهم أبحر في الجود إن ذكر الندى ... وأن أشعلت نار الوغى فهم الأسد وقال فيه الشيخ سليمان بن سحمان بعد ثنائه على الشيخ محمد بن عبد الوهاب: وساعده في نصرة الدين والهدى ... أئمة عدله مهتدون ذووا رشد وقد نال مجدا أهل نجد ورفعة ... بآل سعود واستطالوا على الضد بإظهار دين الله قسرا ودعوة ... إلى الله بالتقوى وبالصارم الهند ¬

(¬1) روضة ابن غنام (1/ 80 - 81) والتاج المكلل (ص.300 - 301) والأعلام (6/ 138) والدرر السنية (12/ 25 - 30).

موقفه من المبتدعة:

قال الشيخ صديق خان: وكان عالي الهمة، ثابت العزم، حزوما، ذا خبرة بتقلبات الأيام، بصيرا بعواقب الأمور، حسن الخلق، عذب الفكاهة، أديبا متفننا، زاد في عمارة الدرعية وبنى فيها المساجد والقصور وجعلها حاضرة أمارته، وكان الناس يميلون إليه ويرغبون التقرب منه لكثرة حلمه واتضاع جانبه، وكان يأبى سفك الدماء. وقال الشيخ عبد الرحمن بن محمد العاصمي: وهو أشهر من أن ينبه على سيرته، قد انصبغت في القلوب مودته وظهر حسن خليقته، ونطقت الألسن بحسن طريقته وسارت الركبان بنشر فضيلته، كان في العبادة والزهادة فردا، محافظا على أوراده متأهبا لمعاده. توفي رحمه الله سنة تسع وسبعين ومائة وألف. موقفه من المبتدعة: لقد انتهى بنا المطاف في هذه المسيرة المباركة إلى رجل جعل الله إنقاذ العالم على يديه من ورطة الشرك والخرافات، التي أطبقت على العالم الإسلامي. وقد بين المؤلفون في ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب حالة العالم الإسلامي -الأصدقاء والأعداء منهم- بيانا شافيا. ولنمسك الأقلام عن ذكر أعمال هذا الإمام، فإنها تحتاج إلى تأليف خاص وهو جدير بذلك. وينبغي أن يعترف بالفضل لأهله، فإن هذا الرجل له حق الدعاء بالخير على كل سلفي يأتي بعده، فإن الله تعالى بارك في مسيرته، حتى وصلت إلى أرجاء العالم الإسلامي. وسأكتفي بذكر صلته بشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ولقائه به، وبيان الشيخ لهذا الإمام المبارك الدعوة السلفية.

- جاء في روضة ابن غنام: ... فخرج الشيخ سنة سبع أو ثمان وخمسين ومائة وألف من العيينة إلى بلدة الدرعية، فنزل في الليلة الأولى على عبد الله بن سويلم، ثم انتقل في اليوم التالي إلى دار تلميذه الشيخ أحمد بن سويلم، فلما سمع بذلك الأمير محمد بن سعود، قام من فوره مسرعا إليه ومعه أخواه ثنيان ومشاري، فأتاه في بيت أحمد بن سويلم، فسلم عليه، وأبدى له غاية الإكرام والتبجيل، وأخبره أنه يمنعه بما يمنع به نساءه وأولاده. فأخبره الشيخ بما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما دعا إليه، وما كان عليه صحابته رضي الله عنهم من بعده وما أمروا به وما نهوا عنه، وأن كل بدعة ضلالة، وما أعزهم الله به بالجهاد في سبيل الله وأغناهم به وجعلهم إخوانا. ثم أخبره بما عليه أهل نجد في زمنه من مخالفتهم لشرع الله وسنة رسوله بالشرك بالله تعالى والبدع والاختلاف والظلم. فلما تحقق الأمير محمد بن سعود معرفة التوحيد، وعلم ما فيه من المصالح الدينية والدنيوية قال له: يا شيخ إن هذا دين الله ورسوله الذي لا شك فيه؛ فأبشر بالنصرة لك ولما أمرت به والجهاد لمن خالف التوحيد، ولكن أريد أن أشترط عليك اثنتين: نحن إذا قمنا في نصرتك والجهاد في سبيل الله وفتح الله لنا ولك البلدان أخاف أن ترتحل عنا وتستبدل بنا غيرنا. والثانية: أن لي على الدرعية قانونا آخذه منهم في وقت الثمار وأخاف أن تقول لا تأخذ منهم شيئا. فقال الشيخ: أما الأولى فابسط يدك: الدم بالدم والهدم بالهدم. وأما الثانية فلعل الله أن يفتح لك الفتوحات فيعوضك الله من الغنائم ما هو خير منها.

الشيخ مربد بن أحمد بن عمر التميمي وعداؤه للدعوة السلفية (1181 هـ)

فبسط الأمير محمد يده وبايع الشيخ على دين الله ورسوله والجهاد في سبيله وإقامة شرائع الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فقام الشيخ ودخل معه البلد واستقر عنده. (¬1) التعليق: 1 - في هذا النص منقبة للأمير محمد بن سعود وللشيخ محمد بن عبد الوهاب حيث إن كل واحد منهما تفرس شيئا فحقق الله فراستهما وأمنيتهما. 2 - فضيلة العقيدة السلفية. 3 - حرص الأمير على الشيخ مما يدل على فضله، وحبه لأهل العلم وخصوصا من كانوا على منهج الشيخ. 4 - لا تقوم دعوة إلا بالطريق الذي رسمه الشيخ محمد بن عبد الوهاب للأمير من غير خرافة ولا رفض ولا دجل، إنما هو القرآن والسنة واتباع السلف الصالح. الشيخ مربد بن أحمد بن عمر التميمي وعداؤه للدعوة السلفية (1181 هـ) هذا الرجل وأمثاله من الذين عارضوا وعادوا هذه الدعوة الطيبة، وعملوا جاهدين لتشويه سمعتها وطمس معلمها، وذلك بتلفيق الأكاذيب بها ¬

(¬1) روضة ابن غنام (80 - 81).

وأهلها والتحذير منها، وممن كان ضحية تلبيسه الأمير الصنعاني الذي كان قد أثنى على الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ثم تراجع عن ذلك بسبب هذا الأفاك الأثيم والعدو اللئيم، عامله الله بما يستحق. - جاء في علماء نجد: قال الأمير الصنعاني العالم المشهور: لما طارت الأخبار بظهور عالم في نجد، يقال له محمد بن عبد الوهاب، ووصل إلينا بعض تلاميذه، وأخبرنا عن حقائق أحواله، وتشميره في التقوى، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اشتاقت النفس إلى مكاتبته بهذه الأبيات سنة 1163هـ وأرسلناها من مكة المشرفة وهي: سلام على نجد ومن حل في نجد ... وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي إلى آخر القصيدة التي مدح فيها الشيخ محمدا رحمه الله، ودعوته. ثم قال الأمير بعد ذلك: لما بلغت هذه الأبيات نجد، وصل إلينا بعد أعوام من أهل نجد عالم يسمى: مربد بن أحمد التميمي، وكان وصوله في شهر صفر سنة 1170هـ وأقام لدينا ثمانية أشهر، وحصل بعض كتب ابن تيمية وابن القيم بخطه، وفارقنا في عشرين شوال سنة 1170هـ راجعا إلى وطنه ووصل من طريق الحجاز مع الحجاج. وكان قد تقدمه في الوصول إلينا الشيخ عبد الرحمن النجدي، ووصف لنا من حال محمد بن عبد الوهاب أشياء أنكرناها، فبقينا مترددين فيما نقله الشيخ عبد الرحمن النجدي، حتى وصل إلينا الشيخ مربد، وله نباهة وأوصل بعض رسائل ابن عبد الوهاب، وحقق لنا أحواله، وكانت أبياتنا قد طارت كل مطار، وأتتنا فيها جوابات من مكة المشرفة ومن البصرة وغيرهما، إلا أنها

محمد بن بدر الدين (1182 هـ)

جوابات خالية من الإنصاف. ولما أخذ علينا الشيخ مربد تأكدنا من ذلك، ورأينا أنه يتعين علينا نقض ما قدمناه، وحل ما أبرمناه، فكتبت أبياتا وشرحها هي: رجعت عن النظم الذي قلت في النجدي ... فقد صح لي عنه خلاف الذي عندي وقد جاءنا من أرضه الشيخ مربد ... فحقق من أحواله كل ما يبد إلى آخر القصيدة. (¬1) محمد بن بدر الدين (¬2) (1182 هـ) محمد بن بدر الدين الشافعي، سبط الشمس الشرنبابلي. أحد أذكياء العصر ونجباء الدهر، ولد قبل القرن الثاني عشر الهجري بقليل. له شعر جيد وميل لعلم اللغة ومعرفة بالأنساب. توفي رحمه الله سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف، وصلي عليه بالأزهر، ودفن بالقرافة عند جده لأمه. موقفه من المشركين: - له من الآثار: الرد على ابن عربي. (¬3) ¬

(¬1) علماء نجد (6/ 417 - 418). (¬2) معجم المؤلفين (9/ 100) وهدية العارفين (2/ 338) وتاريخ الجبرتي (1/ 368). (¬3) انظر عجائب الآثار (1/ 368).

محمد بن إسماعيل الصنعاني (1182 هـ)

محمد بن إسماعيل الصنعاني (¬1) (1182 هـ) محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد الحسني، الكحلاني ثم الصنعاني، صاحب سبل السلام، يعرف بالأمير كأسلافه، الإمام الكبير المجتهد. ولد سنة تسع وتسعين وألف بكحلان، ثم انتقل مع والده إلى صنعاء -وكان من الفضلاء الزاهدين- وأخذ عن علمائها كالعلامة زيد بن محمد بن الحسن والعلامة صلاح الأخفش وغيرهما. وأخذ عنه الشيخ عبد القادر بن أحمد والشيخ محمد بن إسحاق بن المهدي وأحمد بن محمد قاطن وغيرهم. أصيب رحمه الله بمحن كثيرة من الجهال والعوام. قال عنه الشوكاني: برع في جميع العلوم، وفاق الأقران، وتفرد برئاسة العلم في صنعاء، وتظهر بالاجتهاد، وعمل بالأدلة، ونفر عن التقليد، وزيف ما لا دليل عليه من الآراء الفقهية. وقال: وبالجملة، فهو من الأئمة المجددين لمعالم الدين. وقال العلامة محمد بن إسحاق المهدي فيه أبياتا، منها: لله درك يا ابن إسماعيلا ... لم تتركن فتى سواك نبيلا حزت الفخار قليله وكثيره ... هلا تركت من الفخار قليلا وسلكت نهج الحق وحدك جاعلا ... نور البصيرة لا سواه حليلا وصرفت عمرك في العبادة والإ ... فادة والإجادة بكرة وأصيلا توفي رحمه الله سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف. ¬

(¬1) تاريخ المخلاف السليماني (429) وتاريخ المملكة العربية السعودية (44) والأعلام (6/ 38) والبدر الطالع (2/ 133 - 139) ومعجم المؤلفين (9/ 56) وأبجد العلوم (3/ 156 - 157).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: - هذا الرجل كان من فحول اليمن، وعاصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتأثر بدعوته ومدحه بقصيدة مشهورة بليغة منها (¬1): سلام على نجد ومن حل في نجد ... وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي لقد صدرت من سفح صنعا سقى الحيا ... رباها وحياها بقهقهة الرعد سرت من أسير ينشد الريح إن سرت ... ألا ياصبا نجد متى هجت من نجد يذكرني مسراك نجدا وأهله ... لقد زادني مسراك وجدا على وجد قفي واسألي عن عالم حل سوحها ... به يهتدي من ضل عن منهج الرشد محمد الهادي لسنة أحمد ... فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي لقد أنكرت كل الطوائف قوله ... بلا صدر في الحق منهم ولا ورد وما كل قول بالقبول مقابل ... ولا كل قول واجب الطرد والرد سوى ما أتى عن ربنا ورسوله ... فذلك قول جل ياذا عن الرد وأما أقاويل الرجال فإنها ... تدور على قدر الأدلة في النقد وقد جاءت الأخبار عنه بأنه ... يعيد لنا الشرع الشريف لما يبدي وينشر جهرا ما طوى كل جاهل ... ومبتدع منه فوافق ما عندي ويعمر أركان الشريعة هادما ... مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد - ومنها (¬2): لقد سرني ماجاءني من طريقه ... وكنت أرى هذي الطريقة لي وحدي ¬

(¬1) القصيدة الدالية (9 - 11). (¬2) القصيدة الدالية (13 - 17).

وأقبح من كل ابتداع سمعته ... وأنكاه للقلب الموفق للرشد مذاهب من رام الخلاف لبعضها ... يعض بأنياب الأساود والأسد يصب عليه سوط ذم وغيبة ... ويجفوه من قد كان يهواه عن عمد ويعزى إليه كل ما لا يقوله ... لتنقيصه عند التهامي والنجدي فيرميه أهل النصب بالرفض فرية ... ويرميه أهل الرفض بالنصب والجحد وليس له ذنب سوى أنه غدا ... يتابع قول الله في الحل والعقد ويتبع أقوال الرسول محمد ... وهل غيره بالله في الناس من يهدي وإن عده الجهال ذنبا فحبذا ... به حبذا يوم انفرادي في لحدي علام جعلتم أيها الناس ديننا ... لأربعة لاشك في فضلهم عندي؟ هم علماء الدين شرقا ومغربا ... ونور عيون الفضل والحق والزهد ولكنهم كالناس ليس كلامهم ... دليلا ولا تقليدهم في غد يجدي ولا زعموا -حاشاهم- أن قولهم ... دليل فيستهدي به كل مستهدي بلى صرحوا أنا نقابل قولهم ... إذا خالف المنصوص بالقدح والرد سلامي على أهل الحديث فإنني ... نشأت على حب الأحاديث من مهدي هم بذلوا في حفظ سنة أحمد ... وتنقيحها من جهدهم غاية الجهد وأعني بهم أسلاف أمة أحمد ... أولئك في بيت القصيد هم قصدي أولئك أمثال البخاري ومسلم ... وأحمد أهل الجهد في العلم والجد بحور وحاشاهم عن الجزر إنما ... لهم مدد يأتي من الله بالمد رووا وارتووا من علم سنة أحمد ... وليس لهم تلك المذاهب من ورد كفاهم كتاب الله والسنة التي ... كفت قبلهم صحب الرسول ذوي الرشد

أأنتم أهدى أم صحابة أحمد ... وأهل الكسا هيهات ما الشوك كالورد أولئك أهدى في الطريقة منكم ... فهم قدوتي حتى أوسد في لحدي وشتان ما بين المقلد في الهدى ومن ... يقتدي والضد يعرف بالضد تنبيه: للصنعاني قصيدة أخرى نقض فيها هذه الأبيات، ورجع عما كان يعتقده في الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وقد ذكرنا آنفا أن سبب تراجعه تلبيس الشيخ مربد عليه وسقنا الخبر كاملا في مواقف 1181هـ. وله هنات بعضها في المعتقد ذكرها عبد الله آل بسام في 'علماء نجد'. (¬1) ومن مواقفه المشرفة: - قال في كتابه 'الإنصاف في حقيقة الأولياء ومالهم من الكرامات والألطاف': بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله الذي له الملك والملكوت، الحي الجبار الذي لا يموت، الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} (¬2)، فليس للعبد تصرف مع مولاه، ولا له تقدم بين يديه ولا شفاعة ولا غيرها إلا بإذنه ورضاه. والصلاة والسلام على من تركنا على الواضحة البيضاء، ليلها كنهارها، وأشرقت شمس نبوته، فامتلأت الأرض بأنوارها. أخرج ابن ماجه، ¬

(¬1) (6/ 418 - 419). (¬2) مريم الآية (93).

عن جبير بن نفير، عن أبي الدرداء قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نتذاكر الفقر ونتخوفه، فقال: «آلفقر تخافون، والذي نفسي بيده لتصبن عليكم الدنيا صبا، حتى قال: لقد تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها ونهارها سواء» (¬1). وعلى آله الذين بهديه يهتدون، وبه يقتدون. واعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - قد حذر أمته من الابتداع، لما أعلمه الله أن أمته تأتي بالابتداع بأجناس وأنواع، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» (¬2). وقال: «خير الأمور كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» (¬3). وقال: «لا يقبل الله لصاحب بدعة صوما ولا صلاة ولا صدقة ولا حجا ولا عمرة ولا جهادا ولا صرفا ولا عدلا، يخرج من الإسلام كما تخرج الشعرة من العجين» (¬4). أخرج هذه الأحاديث ابن ماجه وغيره. قلت: ووجه عظمة الابتداع في الدين أنه كالرد على قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬5). ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه (1/ 4/5) وصححه الألباني (انظر الصحيحة (688)). (¬2) انظر تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ). (¬3) انظر تخريجه في مواقف ابن تيمية سنة (728هـ). (¬4) أخرجه ابن ماجه (1/ 19/49) وفيه محمد بن محصن العكاشي. قال عنه البخاري: "منكر الحديث". وقال ابن معين: "كذاب". وقال الدارقطني: "يضع الحديث". انظر الميزان (3/ 476) والحديث حكم عليه بالوضع الشيخ الألباني (انظر الضعيفة 1493). (¬5) المائدة الآية (3).

فالابتداع بزيادة في الدين أو نقصان منه، فلهذا عظم شأن البدعة التي خرج بها صاحبها من الدين كما تخرج الشعرة من العجين. (¬1) - وقال رحمه الله في كتابه 'إيقاظ الفكرة لمراجعة الفطرة': ولنقدم قبل المقصود أصلا مهما وهو أن الله تبارك وتعالى قد أخبر عن الكفار بأن نظرهم مقصور على اتباع الآباء في كتابه العزيز في غير آية عايبا عليهم ذلك، مثل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (¬2)، {قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (¬3) {مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ} (¬4) أي ليس لهم مستند سوى ذلك {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (¬5) {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا} (¬6) فهم في جميع الآيات قاصرون نظرهم على اتباع الآباء لحسن الظن بهم، حتى صار ذلك عادة لهم، بل فخرا يعيرون به من خالفهم ويضربون به المثل، حتى سموا محمدا صلى الله عليه وآله ¬

(¬1) الإنصاف (ص.1 - 2). (¬2) البقرة الآية (170). (¬3) الزخرف الآية (23). (¬4) هود الآية (109). (¬5) الشعراء الآية (74). (¬6) يونس الآية (78).

وسلم ابن أبي كبشة لأنه عبد ما لم يعبد آباؤه كما عبد أبو كبشة الشعرى، وحتى ذكروا بذلك أبا طالب وهو في طريق الموت وقالوا له: أترغب عن ملة عبد المطلب (¬1)، ولذلك خص الأبوان في الإخبار عن تغيير الفطرة وأنهما يهودانه وينصرانه (¬2) ولذلك مقت الله الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله. وفسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اتخاذهم بأنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه، كما أخرجه الترمذي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه (¬3)، فمن عقل وأنصف، فلينظر إلى جميع بني آدم في القديم والحديث في الملل الكفرية ثم المذاهب الإسلامية بعد إخراجه للأنبياء صلى الله عليهم ومن سار سيرتهم من السابقين والتابعين، وقليل ما هم، بالنظر إلى الخليقة فإنه يجد الناس تبعا لما ألفوه من اتباع الآباء بمجرد تقليد وهوى ومحبة للجمود على دين الآباء. (¬4) -وقال رحمه الله: وكذلك أهل المذاهب على مذاهب آبائهم منذ أسس الشيطان بدعة التمذهب، لا يتحنف الشافعي ولا يتشفع الحنفي ولا يتشيع الناصبي والخارجي ولا يقول بالاعتزال الجبري ولا بالجبر المعتزلي، وإن وجدت في الألف بل الألوف فردا واحدا فارق ما عليه آباؤه، فلا يخلو عن ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (5/ 433) والبخاري (3/ 284 - 285/ 1360) ومسلم (1/ 54/24) والنسائي (4/ 395 - 396/ 2034) كلهم من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه المسيب بن حزن. (¬2) أخرجه: أحمد (2/ 393) والبخاري (3/ 281/1358) ومسلم (4/ 2047/2658) والترمذي (4/ 389 - 390/ 2138) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: "هذا حديث حسن صحيح" .. (¬3) سيأتي تخريجه في مواقف المعصومي سنة (1380هـ). (¬4) إيقاظ الفكرة (45 - 48).

موقفه من المشركين:

دسيسة هوى أو غرض دنيوي، وهو الغالب، إذ الأديان صارت تبعا للدنيا. ولقد اتفق لبعض الشافعية أنه تمذهب بمذهب الزيدية، إما عن نظر منه وهو بعيد جدا أو لغرض آخر، فرماه قومه عن قوس واحدة حتى كأنه ارتد عن الدين ولحق بعبدة الأوثان فقال: إذا ما رأوني من بعيد تغامزوا فوالله ما بعت الهدى بضلالة ... علي وقالوا شافعي تزيدا ولكنني بعت الضلالة بالهدى وكذلك اتفق لآخر كان شافعيا فانتقل إلى مذهب ابن حنبل، أو حنفيا أو حنبليا فانتقل إلى أحدهما، فقيل فيه أبيات منها أنه سيصير إلى مالك (¬1) وقصده التورية فحكم أنه من أهل النار، وكذلك يزداد من يوم إلى يوم الشر، ويوطن كل البلا نفسه على اتباع الآباء. (¬2) - وله من الآثار السلفية: 1 - 'تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد' وهو مطبوع. 2 - 'إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد'. 3 - 'حسن الاتباع وقبح الابتداع'. موقفه من المشركين: - قال رحمه الله: فهذا 'تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد' وجب علي تأليفه، وتعين علي ترصيفه، لما رأيته وعلمته من اتخاذ الأنداد في الأمصار والقرى وجميع البلاد، من اليمن والشام ومصر ونجد وتهامة، وجميع ديار ¬

(¬1) ذكرناها في مواقف المؤيد أبي البركات محمد التكريتي سنة (599هـ). (¬2) إيقاظ الفكرة (52 - 54).

الإسلام، وهو الاعتقاد في القبور، وفي الأحياء ممن يدعي العلم بالمغيبات والمكاشفات وهو من أهل الفجور، لا يحضر للمسلمين مسجدا، ولا يرى لله راكعا ولا ساجدا، ولا يعرف السنة ولا الكتاب، ولا يهاب البعث ولا الحساب. فواجب علي أن أنكر ما أوجب الله إنكاره، ولا أكون من الذين يكتمون ما أوجب الله إظهاره. (¬1) - وقال أيضا: وكذلك تسمية القبر مشهدا، ومن يعتقدون فيه وليا لا يخرجه عن اسم الصنم والوثن، إذ هم معاملون لها معاملة المشركين للأصنام، ويطوفون بهم طواف الحجاج ببيت الله الحرام، ويستلمونهم استلامهم لأركان البيت، ويخاطبون الميت بالكلمات الكفرية، من قولهم: على الله وعليك، ويهتفون بأسمائهم عند الشدائد ونحوها، وكل قوم لهم رجل ينادونه. فأهل العراق والهند يدعون عبد القادر الجيلي. وأهل التهائم لهم في كل بلد ميت يهتفون باسمه يقولون: يا زيلعي، يا ابن العجيل، وأهل مكة وأهل الطائف، يا ابن العباس، وأهل مصر: يا رفاعي، يا بدوي والسادة البكرية وأهل الجبال: يا أبا طير، وأهل اليمن: يا ابن علوان. وفي كل قرية أموات يهتفون بهم وينادوهم ويرجونهم لجلب الخير ودفع الضر. وهذا هو بعينه فعل المشركين في الأصنام كما قلنا في الأبيات النجدية: أعادوا بها معنى (سواع) ومثله ... (يغوث) و (ود) بئس ذلك من ود وقد هتفوا عند الشدائد باسمها ... كما يهتف المضطر بالصمد الفرد ¬

(¬1) تطهير الاعتقاد (18 - 19).

وكم نحروا في سوحها من نحيرة ... أهلت لغير الله جهلا على عمد وكم طائف حول القبور مقبلا ... ويلتمس الأركان منهن بالأيدي فإن قال: إنما نحرت لله وذكرت اسم الله عليه. فقل: إن كان النحر لله فلأي شيء قربت ما تنحره من باب مشهد من تفضله وتعتقد فيه؟ هل أردت بذلك تعظيمه؟ إن قال نعم: فقل: هذا النحر لغير الله، بل أشركت مع الله تعالى غيره، وإن لم ترد تعظيمه، فهل أردت توسيخ باب المشهد وتنجيس الداخلين إليه؟ أنت تعلم يقينا أنك ما أردت ذلك أصلا، ولا أردت إلا الأول، ولا خرجت من بيتك إلا قصدا له. ثم كذلك دعاؤهم له. فهذا الذي عليه هؤلاء شرك بلا ريب. وقد يعتقدون في بعض فسقة الأحياء وينادونه في الشدة والرخاء وهو عاكف على القبائح والفضائح، لا يحضر حيث أمر الله عباده المؤمنين بالحضور هناك، ولا يحضر جمعة ولا جماعة ولا يعود مريضا ولا يشيع جنازة، ولا يكتسب حلالا، ويضم إلى ذلك دعوى التوكل وعلم الغيب، ويجلب إليه إبليس جماعة قد عشش في قلوبهم، وباض فيها وفرخ، يصدقون بهتانه ويعظمون شأنه، ويجعلون هذا ندا لرب العالمين ومثلا، فيا للعقول أين ذهبت؟ ويا للشرائع كيف جهلت؟ {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} (¬1) فإن قلت: أفيصير هؤلاء الذين يعتقدون في القبور والأولياء والفسقة والخلعاء مشركين، كالذين يعتقدون في الأصنام؟ ¬

(¬1) الأعراف الآية (194).

قلت: نعم، قد حصل منهم ما حصل من أولئك، وساووهم في ذلك، بل زادوا في الاعتقاد والانقياد والاستعباد: فلا فرق بينهم. فإن قلت: هؤلاء القبوريون يقولون: نحن لا نشرك بالله تعالى، ولا نجعل له ندا، والالتجاء إلى الأولياء ليس شركا. قلت: نعم {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} (¬1) ولكن هذا جهل منهم بمعنى الشرك. فإن تعظيمهم الأولياء، ونحرهم النحائر لهم شرك. والله تعالى يقول: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)} (¬2) أي لا لغيره، كما يفيد تقديم الظرف ويقول تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (¬3)، وقد عرفت بما قدمناه قريبا أنه - صلى الله عليه وسلم - سمى الرياء شركا، فكيف بما ذكرناه؟. فهذا الذي يفعلونه لأوليائهم هو عين ما فعله المشركون وصاروا به مشركين ولا ينفعهم قولهم: نحن لا نشرك بالله شيئا؛ لأن فعلهم أكذب قولهم. فإن قلت: هم جاهلون أنهم مشركون بما يفعلونه. قلت: قد خرج الفقهاء في كتب الفقه في باب الردة: أن من تكلم بكلمة الكفر يكفر، وإن لم يقصد معناها. وهذا دال على أنهم لا يعرفون حقيقة الإسلام ولا ماهية التوحيد، فصاروا حينئذ كفارا كفرا أصليا، فالله ¬

(¬1) آل عمران الآية (167). (¬2) الكوثر الآية (2). (¬3) الجن الآية (18).

موقفه من الصوفية:

تعالى فرض على عباده إفراده بالعبادة {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} (¬1) وإخلاصها له: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬2) الآية. ومن نادى الله ليلا ونهارا، وسرا وجهارا، وخوفا وطمعا، ثم نادى معه غيره، فقد أشرك في العبادة، فإن الدعاء من العبادة، وقد سماه الله تعالى عبادة في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} (¬3) بعد قوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}. موقفه من الصوفية: - قال في تطهير الاعتقاد: فإن قلت: قد يتفق للأحياء وللأموات اتصال جماعة بهم يفعلون خوارق من الأفعال، يتسمون بالمجاذيب، فما حكم ما يأتون من تلك الأمور، فإنها مما جلبت القلوب إلى الاعتقاد بها؟. قلت: أما المتسمون بالمجاذيب الذين يلوكون لفظ الجلالة بأفواههم، ويقولونها بألسنتهم، ويخرجونها من لفظها العربي، فهم من أجناد إبليس اللعين، ومن أعظم حمر الكون الذين ألبستهم الشياطين حلل التلبيس والتزيين، كما أن إطلاق الجلالة مفردا عن إخبار عنها بقولهم: "الله، الله" ليس بكلام ولا توحيد، وإنما هو تلاعب بهذا اللفظ الشريف بإخراجه عن لفظه العربي، ثم إخلاؤه عن معنى من المعاني، ولو أن رجلا عظيما صالحا يسمى بزيد، وصار جماعة يقولون: زيد، زيد، لعد ذلك استهزاء وإهانة ¬

(¬1) هود الآية (2). (¬2) البينة الآية (5). (¬3) غافر الآية (60).

وسخرية، ولا سيما إذا زاد إلى ذلك تحريف اللفظ. ثم انظر: هل أتى في لفظة من الكتاب والسنة ذكر الجلالة بانفرادها وتكريرها؟ إذ الذي فيهما هو طلب الذكر والتوحيد والتسبيح والتهليل. وهذه أذكار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأدعية آله وأصحابه خالية عن هذا الشهيق والنهيق والنعيق الذي اعتاده من هو عن الله وعن هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسمته ودله في مكان سحيق، ثم قد يضيفون إلى الجلالة الشريفة أسماء جماعة من الموتى، مثل ابن علوان أحمد بن الحسين، وعبد القادر، والعيدروس. بل قد ينتهي الحال إلى أنهم يفرون إلى أهل القبور من الظلم والجور، كعلي رومان، وعلي الأحمر، وأشباههما، وقد صان الله سبحانه وتعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأهل الكساء وأعيان الصحابة عن إدخالهم في أفواه هؤلاء الضلال، فيجمعون أنواعا من الجهل والشرك والكفر. فإن قلت: إنه قد يتفق من هؤلاء الذين يلوكون الجلالة ويضيفون إليها عمل أهل الخلاعة والبطالة خوارق عادات، وأمورا تظن كرامات كطعن أنفسهم بالآلات الحادة، وحملهم لمثل الحنش والحية والعقرب وأكلهم النار، ومسحهم إياها بالأيدي وتقلبهم فيها بالأجسام. قلت: هذه أحوال شيطانية، وإنك لملبس عليك إن ظننتها كرامات للأموات، أو حسنات للأحياء، لما هتف هذا الضال بأسمائهم جعلهم أندادا وشركاء لله تعالى في الخلق والأمر، فهؤلاء الموتى أنت تفرض أنهم أولياء الله تعالى، فهل يرضى ولي الله أن يجعله المجذوب أو السالك شريكا له تعالى وندا؟ وإن زعمت ذلك فقد جئت شيئا إدا، وصيرت هؤلاء الأموات

مشركين، وأخرجتهم -وحاشاهم عن ذلك- عن دائرة الإسلام والدين، حيث جعلتهم أندادا لله راضين فرحين، وزعمت أن هذه كرامات لهؤلاء المجاذيب الضلال المشركين، التابعين لكل باطل، المنغمسين في بحار الرذائل، الذين لا يسجدون لله سجدة، ولا يذكرون الله وحده، فإن زعمت هذا فقد أثبت الكرامات للمشركين الكافرين وللمجانين، وهدمت بذلك ضوابط الإسلام وقواعد الدين المبين، والشرع المتين. وإذا عرفت بطلان هذين الأمرين، علمت أن هذه أحوال وأفعال طاغوتية، وأعمال إبليسية، يفعلها الشياطين لإخوانهم من هؤلاء الضالين، معاونة من الفريقين، وقد ثبت في الأحاديث أن الشياطين والجان يتشكلون بأشكال الحية والثعبان، وهذا أمر مقطوع بوقوعه، فهم الثعابين التي يشاهدها الإنسان في أيدي المجاذيب. وقد يكون ذلك من باب السحر، وهو أنواع، وتعلمه ليس بالعسير، بل بابه الأعظم: هو الكفر بالله، وإهانة ما عظمه الله من جعل مصحف في كنيف ونحوه. فلا يفتر من يشاهد ما يعظم في عينيه من أحوال المجاذيب من الأمور التي يراها خوارق، فإن للسحر تأثيرا عظيما في الأفعال، وهكذا الذين يقلبون الأعيان بالأسحار وغيرها. وقد ملأ سحرة فرعون الوادي بالثعابين والحيات حتى أوجس في نفسه خيفة موسى عليه السلام، وقد وصف الله بأنه سحر عظيم، والسحر يفعل أعظم من هذا. (¬1) ¬

(¬1) تطهير الاعتقاد (62 - 66).

موقفه من الجهمية:

- وله رسالة 'الإنصاف في حقيقة الأولياء وما لهم من الكرامات والألطاف'، وهي رسالة جيدة في بابها بين فيها شطط أهل التصوف وغلوهم في باب الكرامات. موقفه من الجهمية: قال: إذا عرفت هذا. فقد سمع الصحابة ومن بعدهم هذه الصفات الشريفة مدحوه بها وأجرَوها عليه كما أجراها على نفسه وتمدح بها، ساكتين عن التأويل والمناقشة لم يقولوا: يلزم من إثبات صفة السميع الصماخ، ومن صفات البصير الحدقة وغير ذلك غير سائلين لمن أرسل إليهم ليبين لهم ما أنزل إليهم عن ذلك ... (¬1) ثم استرسل في الرد على المؤولة من كلام أهل العلم. موقفه من القدرية: وقد حكى في كتابه إيقاظ الفكرة (¬2) ما دار بينه وبين أحد علماء المدينة في القدر، قال: لقد اتفق لشيخنا عبد الرحمن بن أبي الغيث ونحن نأخذ عنه في صحيح مسلم في المدينة النبوية سنة أربع وعشرين ومائة وألف أنه أملى في أول حديث القضاء والقدر منه بعد أن سئل عن الكسب وحقيقته فكأنما نشط من عقال فقال: المعتزلة قالت إنها خالقة لأفعالها والله يقول: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (¬3) فردوا قول الله تعالى، فقلت له: هل القرآن شيء؟ ¬

(¬1) إيقاظ الفكرة (ص.82). (¬2) (ص.257 - 258). (¬3) الزمر الآية (62).

أحمد بن مانع بن إبراهيم التميمي (1186 هـ)

قال: نعم، فقلت: هل هو مخلوق؟ قال: لا، فقلت: قد خصصتم تلك الكلية كما خصصتها المعتزلة فقال: لا سواهم خصصوها بأفراد تعد فقلت: هذا لا يقوله عالم إذ لا فرق بين تخصيصها بفرد واحد أو بأفراد ملء الدنيا. ثم أخذ يفسر الكسب فقال: هو تصميم العبد فقلت له: من أي المقولات التصميم فقال: من مقولات الفعل. قلت: العبد يوجده؟ قال: نعم، وبهذا فارقنا الجهمية. قلت: قد أثبت كون العبد موجدا كما تقوله المعتزلة فما زاد إلا أن قال: اصبر علي احلم عني. فقلت له: لغير هذا جئنا استمر في الإملاء وهذه الأبحاث من البدع ما خاض فيها الصحابة ولا التابعون، فتكدر صفو المقام بعد ذلك، وهذا الرجل من العلماء في المدينة والخطباء وهذا قصارى بحثه. هذا معنى ما دار بيننا وبينه لا لفظه. أحمد بن مانع بن إبراهيم التميمي (¬1) (1186 هـ) الشيخ أحمد بن مانع بن إبراهيم بن مانع بن حمدان الوهيبي التميمي. نشأ في بلدة أشيقر، ثم انتقل إلى الدرعية، فقرأ على شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب. وله ردود في الدفاع عن العقيدة. توفي رحمه الله في الدرعية في شهر رمضان سنة ست وثمانين ومائة وألف للهجرة. موقفه من المبتدعة: - له رسالة رد بها على عبد الله المويس النجدي جاء فيها: ¬

(¬1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (1/ 504 - 507) وروضة ابن غنام (1/ 134).

من أحمد بن مانع إلى جميع الإخوان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فقد بلغني أن المويس ثبط جماعتكم عن المحافظة على صلاة الجماعة وهون أمرها، فيا عجبا هل كان المويس أعلم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. إلى أن قال: فإن تثبيط (المويس) من جهة أن الإمام من أتباع ابن عبد الوهاب، فهذا مذهب ابن عبد الوهاب بيناه وأنه يدعو الناس إلى التوحيد والتبرؤ من الشرك وأهله، وإذا كان هذا دين النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يسعنا ويسعكم غيره. وأما عبد الله المويس وغيره، فلا يصرفكم عن صلاة الجماعة بقوله: هم خوارج يعني أهل العارض، فليس هو بأكثر من صد الناس عن دين نبيكم - صلى الله عليه وسلم -، وما نقم عليهم إلا أنهم يعلمون الناس دينهم الذي أعظمه شهادة أن لا إله إلا الله، ويعلمونهم أنواع الشرك، ويأمرون بالمحافظة على الصلاة مع الجماعة، ويأمرون بالزكاة، وينهون عن المنكرات التي أكبرها الشرك بالله، وينهون عن الفواحش، ويقيمون الحد، وينهون عن الظلم، حتى إن الضعيف يأخذ الحق ممن هو أقوى منه، وقد كان الناس قبل هذا الأمر بعكس ذلك، ولم يوجد أحد يعيب عليهم ذلك، فلما بين لهم أمر الدين واشتغلوا بالعلم وتعليمه وبإقامة أمر الله، وحض الناس عليه، قام (المويس) وأمثاله يصيحون ويقولون: أهل شقراء وأهل العارض مرتدون، وأهل العارض خوارج، فإذا قيل له: أهل العارض وأهل شقراء يطلبون منك الدليل على ما قلت إن كنت صادقا، فرد عليهم من كتاب الله أو سنة رسول الله ولو في مسألة واحدة

حسين بن مهدي النعمي (1187 هـ)

حتى يقبل كلامك. غضب على من قاله. (¬1) حسين بن مهدي النُّعْمِي (¬2) (1187 هـ) حسين بن مهدي النعمي التهامي ثم الصنعاني، من أهل "صبيا" في تهامة اليمن، تعلم وأقام في صنعاء. وعمل رحمه الله على إحياء السنن في "مسجد القبة"، بعد توليه إماما للصلاة فيه من طرف الإمام المهدي العباسي آنذاك. توفي رحمه الله سنة سبع وثمانين ومائة وألف. موقفه من المبتدعة: - له من الآثار السلفية: 'معارج الألباب في مناهج الحق والصواب' (¬3). - قال فيه: والقصد، أن الله جعل الكتاب والسنة أمرا خالدا على مر الأزمان، ليتعلم الجاهل ويسترشد الضال، ويأمن الخائف، ويتذكر المتذكر، ويعتبر المعتبر، ويستمد المؤمن، ويهتدي الحيران، وليقضي بين الناس بما هنالك، وليكون ملاذا عند الاختلاف، وبيانا عند اللبس، ورسما متبعا في الاعتقاد والتعبد والإفتاء، والحكم والتحكم والتحكيم، والتحليل والتحريم، والأبحاث وغيره من أحكام العليم الحكيم، ومستندا يرجع إليه الأمر كله في التأخير والتقديم. ¬

(¬1) علماء نجد (1/ 504 - 506). (¬2) الأعلام (2/ 260). (¬3) والكتاب مطبوع وهو من أجود الكتب التي ردت على القبوريين برد علمي رصين وبأسلوب بليغ وهو عبارة عن رد على بعض مخرفي أهل اليمن.

فتعطيله عن هذه الثمرة، أو منع المجتني لها، وهو المقصود بها، مناقضة ظاهرة وعناد أوفى، ومضادة جلية. والمحروم الذي أضاف المنع أيضا لمن سواه يقول: مالي في هذه الحياض من مشرب، هي للإمام يروى منه، ويخبر عما وجد، ولا سبيل لغيره إليها، بل يكون في أيدينا الأوصاف بأن في ذلك الحوض كذا، وصفته كذا، وفائدته كذا. فإذا جاءهم من يقول: بعض هذه الحياض لم يبلغه الإمام، ولا ادعى لنفسه الإحاطة، أو بلغه ولكني وجدت نعته أو فائدته غير ما ذكر لكم، بعد أن باشرت بنفسي مذاقه. فما تقولون؟ وليس لكم على دفعي حجة، ولا إلى مصادرتي سبيل، إلا دعوى مالها مستند. اللهم إلا إذا باشرتم كما باشرت، فاضطررتم إلى إكذابي. فذاك ما أمرتم به. ويصح منكم -والحال هذه- المدافعة والممانعة، وأما مكاذبة في شيء قد أعربتم عن أنفسكم أنكم ما تبوأتم له منزلا، ولا جسستم له عرقا ولا مفصلا، فغريب منكم التوثب على حماه، والساقي يقول: هلموا، فليس الخبر كالعيان، ولم يحط الإمام بما لدينا خبرا، وربما يخطئ الخبر ويخالف، إذ مبناه على مبلغ صاحبه علما وفهما. ومن علم حال البشر اضطر إلى الحكم بعدم براءتهم من قصور الفهم ونقصان العلم في حالات كثيرة. (¬1) - وقال: ولقد جر سوء هذه المقالة -وهي القول بتعذر الاجتهاد- إلى ما أشرنا إليه، من سلب منافع الكتاب، وكونه عدة للدفع والنفع، ومحلا ¬

(¬1) معارج الألباب في مناهج الحق والصواب (69 - 70).

للاهتداء، وميزانا يعرف به الرشاد والفساد. فقد حيل الآن بينه وبين طالب ما فيه من غيوث الرحمة، وصيب النعمة، وكذا ما يتصل به من حوافل تفسيره. والكلام على نكت فرائده، وعجائب فوائده، وبيان إشارته ومقاصده. فكل ذلك عند المقلدين لغو محض، إذ ما لا تصل إليه -وإن زعمت ذلك- قضت عليك الحقيقة بأنك مكذبه بالكذب، فوجوده وعدمه عندك سيان. وهكذا المؤلفات المشتملة على الأخبار النبوية، وعلومها ووسائلها، ككتب الجرح والتعديل، وطبقات الرواة، وشرح أحوالهم، وعلم غريب الكتاب والسنة وأحكامهما، وكذا المؤلفات في سائر الفنون. كالنحو والتصريف، وأصول الفقه والمعاني، التي يقول مؤلفوها: إن الحكمة من تأليفها هي التوصل إلى تصحيح المطالب بالذات، مع أن عقلاء الفضلاء لا زالوا على ممر الأزمان تتجدد لهم التصانيف، أعلى بصيرة ذلك، وللتبصير ما هنالك، أم دأب فيما لا سبيل إلى الغاية المقصودة به؟. فنقول: أيها الملأ، وإن كان البشر قد علم ضعفه، ونقصه وجهله، فلقد ساءنا أن بلغتم إلى هذه الغاية، وما زدتم على المضادة لله ولرسوله، والتلعب بدينه وبشرائعه وإضاعة مساعي الباحثين والمؤلفين، وأهل التصانيف، وذوي العلم والنظر. فما شأن ما صنعوا؟ وهل للدأب في ذلك الجمع والتأليف، وبيان الصحيح من الفاسد والراجح من الخفيف فائدة وغاية؟ وما بقاء ذلك واستمراره على تعاقب الأحقاب، بل هل لبقاء كتاب الله كثير حاصل؟ إذ مبنى جميع ذلك على فتح باب الاجتهاد، وأن كثيرا من المطالب، أو كلها، أو

إلا النادر منها لا طريق إلى تحصيله إلا البحث والنظر. (¬1) - وقال وهو يتحدث عن آفة التقليد: ومن ذلك -وهو منهم قياس للغائب على الشاهد- وذلك أنهم لما كانوا لا يعرفون إلا حرفة التقليد. واستقر في فكرهم وفطرهم أن من أفتى أو تكلم أو عمل ما لا يصنع شيئا من ذلك. إلا لأنه قاله المقلَّد فلان، أو الإمام علان. أو محصلو مذهبه -بزعمهم- قالوا: إن قائل تلك المقالة -وهي اتجاه وجوب تخريب المشاهد- قلد ابن تيمية في ذلك. ومن تدبر أصول القوم، وجدهم دلوا على أنهم من جملة العامة. ولا أدري من أين جاء لهم ذلك؟ نعم هو نتيجة من نتائج الحكم بتعذر الاجتهاد. ومن حق الباحث أن يدلي بما يوافق خصمه على صحته، أو بحجة قاهرة تؤذن أن دفعها مكابرة، وأن التمسك بمعارضها قصور أو ضلال. وكون من ذكروه قلد ابن تيمية بطلانه معلوم غير موهوم، لما أنه ينهى عن التقليد وينادي بمنعه. ولأن عامة مباحثه مبنية على تحرير المقام بمبلغ نظره، وإن كان لا سبيل إلى رفع الخطأ جملة في كل بحث. وذلك منه من دون تقليد لابن تيمية ولا غيره، ولا احتجاج بقول أحد قط، أو التدين به من دون استبانته منه حسبما علم. وليس معصوما كغيره أيضا. ولأنه في خصوص هذه المسألة أبرز حجته، وحرر من البرهان ما استطاع. فأي معنى لقولكم إنه قلد ابن تيمية؟ والحال أنكم لم تأتوا عن أنفسكم ¬

(¬1) معارج الألباب (104 - 105).

ولا فيما نقلتم بشيء يقابل بعض ما أقامه في هذه المسألة من أدلة الكتاب والسنة، التي لا يردها إلا مشاق لله ولرسوله؟ ولأنه قد ناقض ابن تيمية في كثير من المسائل ذهب إليها، لظهور ضعف كلامه عنده. فلو كان واقفا على تقليده -كما وقفتم على رسوم شرح المنهج وغيره- لما فعل. فما باله يسوغ لنفسه تقليد ابن تيمية في هذه المسألة دون غيرها؟ فلقد حكيتم عجبا. وقد قرأنا عليه وعرفنا مذهبه، وأنتم لا تعرفونه، إنما يبلغكم عنه ما يبلغ، فتأخذون في مضادته بلا بصيرة، ولا وازع لكم عن الرجم بالظنون والأوهام، ولا علم يهدي إلى تمييز الصحيح من ذي السقام. فالعتب عليكم: أترضون أن يكون من خطاب ما لا يفهم؟ وكفى دليلا على تنكبكم الصواب ذكركم الأقوال من فروع المذهب في مقابلة مناهي صريحة صحيحة مشهورة في الصحاح وغيرها، ثم تعرضكم لشيخ من شيوخ الإسلام، وإمام من جلة الأئمة الأعلام -وهو ابن تيمية- بأنه ضال مضل، وما كان -رحمه الله تعالى- أهلا لهذا. والرجل أمره شهير. وأقواله ومذاهبه يتناقلها الجم الغفير. وما مثله يحتاج إلى كشف عن رفيع محله، وقد تعرض له ولتلميذه الإمام محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي -هو ابن قيم الجوزية- رحمه الله تعالى بعض القائلين. وهما إمامان جليلان لاحقان بأماثل السلف كالشافعي، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم، ومؤلفاتهما وتراجمهما، ونقل أهل العلم لأقوالهما ومذاهبهما ونفائس تحقيقهما كافية شافية مقنعة لمن عدل وأنصف. (¬1) ¬

(¬1) معارج الألباب (119 - 120).

- وقال رحمه الله: وأما أنتم معشر المغرمين بالمذاهب الراضين بقيود التقليد في أعناقكم وقلوبكم، فقد جعلتم تلك المتون والمختصرات أظهر عبارة، وأوضح معنى وإشارة، وأصح مسلكا وأبين مدركا، لما أنها -بزعمكم- خلاصة تلك المحاسن. وكيف يكون ذلك كذلك؟ وفيها من التباين والتدافع والاختلاف، وخفاء السند والدليل أو ضعفه، أو مصادمة المأثور الصحيح ما لا يخفى على ذي بصيرة صالح السريرة، قد مارس الحقائق وسبر الطرائق، ورضي بالله ربا ومشرعا حكيما عن جميع الخلائق، وحظي بالتمييز بين الخطأ والصواب، وبالانتفاع بما وهبه الله من عقل وفهم حاذق. وما اشتبه على الناظر من الأدلة نفسها، أو ظهر عنده تعارض فالقطع عنده بأن مفيضها هو محل القدس والبراءة من كل نقص، فإن علم كيفية العمل في ذلك بتعليم المفيض سبحانه، وإلا وقف لقصوره في نفسه، لا لتطرق أمر في المصدر المذكور، بخلاف غيره، فأمره ما ذكرنا. والغافل يقول بجمود خاطره: كل ذلك المختلف فيه بين المختلفين، أو بعضه رشد، لا بل الرشد منه ما سلكه سلفي، واتبعتهم فيه. وقد يكون أيضا كاذبا عليهم أو مفتريا عليهم بذلك ما لا يرضونه له، لجهله ما صدر عنهم، كما جهل الأدلة. وقد صح لنا كل ما ذكرنا وتواتر وروده علينا حتى استيقناه ضرورة، ودان به كل من على وجه الأرض، إلا القلة النادرة. (¬1) ¬

(¬1) معارج الألباب (73 - 74).

- وقال أيضا في معرض رده على مقلدة المذاهب، وما هم عليه من الاهتمام بكتب الخلاف الخالية من الأدلة الشرعية: وأين هي من موائد الكتاب والسنة؟ التي مذاقها يبرئ العاهات، ويقدس من السفاهات، ويعرفك قدر ما حرمت منه هذه الجماعات، وسوء ما وقعوا فيه من فساد الأحوال، بسبب هجرانهم المباشرة لما هنالك، وما ضمن من الدلالات والإشارات، وصنوف التأديب والتهذيب والتثقيف والإفادات. فذاك -بعد استظهار الكون عليه، وتصحيح الطريق إليه وتنقيحه دراية ورواية- هو الباب الذي إن ولجته للاعتصام به من المخاوف نجوت، وإن سلكته كنت على هدى وبصيرة من أمرك، وإن أردت أن تستمد منه حجة تأثرها، أو طريقة تعبرها، أو برهانا تقيمه، أو هدى تلتمسه، أو تصحيحا لاعتقاد أو عمل، أو دليلا قاهرا لخصمك، هاديا لمسترشدك، وجدته صالحا لجميع ذلك. قائما بأعباء هذه المدارك، ولا يعرف ذوو الألباب، ومن رزق صلابة في دينه ما يستأهل القيام بهذه الأثقال، سوى ذلك الباب، لا الرد إلى شرح المنهج وما ذكروه معه وأشباهها من كتب المقلدين. ولو كان البناء دائما على ما أشرنا من ذلك الأساس، لكانت ثمرات الكتاب والسنة يستمتع باقتطافها عامة الناس، ولما عفت رسوم الهدى، واندرست معالم الاهتداء، ولكان أمرهما مشهورا مذكورا، مأنوسا منشورا، متداولا بين الناس، حتى تزاحم الأصاغرُ الأكابر، وينال القاصر حظه من مواهب الله، وإن لم يبلغ شأو الماهر. ولم يؤكد الحكم باستحالة التحلي بتلك الرغائب، بؤسا لها من رزية.

موقفه من المشركين:

ولا يضر في هذا الموضع تفاوت معارف الناس في هذا الباب، ومع ورود الجميع المنهل الراوي متحد. والفاضل يحذو حذو المفضول من عين ذلك الماء المعين، ويتعاورون ذلك فيما بينهم «تسمعون، ويسمع منكم» (¬1)، «ليبلغ الشاهد منكم الغائب» (¬2).اهـ (¬3) موقفه من المشركين: - قال رحمه الله في 'معارج الألباب في مسألة البناء على القبور': ... على أنا لا نسلم أيضا أن أحدا من الأربعة رضي الله عنهم، ذهب إلى ما ضمه نقل هذه المختصرات في هذه المسألة، فهاتوا نصوصهم في ذلك، فإنا لم نرهم نقلوا في جواباتهم هذه حرفا واحدا عن أحد من الأربعة في جواز البناء على القبور، بل نقل المالكي عن إمامه مالك -رضي الله عنه-: أنه كره البناء على القبر، وقال: لا خير فيه، فاعجب لها من طريقة طريفة، حيث يعمل أتباعه على خلاف مذهبه، ويفصلون المسألة بما يباين إطلاق الإمام، ويكون قولهم فيها في شق، وقول الإمام في الشق الآخر، واجعلها لك عبرة في غيره من المفتين الثلاثة، ولا تثق بأن ما حصلوه في كتب المذاهب رأي للأئمة. فإنا لم نسمع عن الإمام الشافعي -رحمه الله- إلا أنه قال: "أدركت ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (1/ 321) وأبو داود (4/ 68/3659) وابن حبان (الإحسان (1/ 263/62)) والحاكم (1/ 95) كلهم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين وليس له علة ولم يخرجاه، وفي الباب أيضا عن عبد الله بن مسعود وثابت بن قيس بن شماس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، ووافقه الذهبي. (¬2) سيأتي تخريجه في مواقف فالح بن مهدي الدوسري سنة (1392هـ). (¬3) معارج الألباب (79 - 80)

الأئمة بمكة يهدمون البناء على القبور" ولا يحضرني الآن محله فأعينه لك، ومثله لا يخفى. فنحن الآن نطالبهم بنقل صحيح: أن كل واحد من الأئمة الأربعة قائل بما نقلوه عن فروع مذاهبهم، حتى يصححوا دعواهم عليهم فقط، إن كانت أيضا، لا أن يكون ذلك حجة لهم في الباب، فذلك معلوم الانتقاء (¬1) بلا شك ولا ارتياب. فإن يأتوا به -ولا نخالهم يجدون له أثرا- وإلا فليعلموا أنهم بعد يقولون ما لا يعلمون، حتى في مذاهب أئمتهم الذين هم من جلة أعلام أئمة المسلمين. وبعد تصحيحه عنهم: فهو اجتهاد في مقابلة نص، ورأي صادم أثرا، فسقوطه معلوم لا يخفى إلا على أغفال المقلدين. (¬2) - وقال: ومن ذلك: أنا تصفحنا أوراقهم هذه، فوجدنا لباب تحقيقها: دعاوى تعاقب أخواتها، وبراهينها عيون دعاويها، ثم ترتبون المقاصد على هذا الخطأ المتباعد، حتى جعلتم هدم القباب والمشاهد أذية لأولياء المليك الواحد، وهل يقال لمن أطاع الله ورسوله فيما أمرا به: آذيت ولي الله، وكيف تكون الولاية -وذلك الولي يؤذيه- حكم المولي؟ وليت شعري، كيف يكون أمرهم إذا لم يرعهم إلا نزول الإمام الأطهر وصاحب السبق الأشهر: علي -رضي الله عنه ونضَّر- بساحتهم يقول: «بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته، ولا تمثالا إلا ¬

(¬1) كذا في الأصل ولعل الصواب: الانتفاء. (¬2) معارج الألباب (ص 38).

طمسته». (¬1) فعلى الذي يشاهد من حالهم: كأنا بهم وقد ثاروا ذلك المثار، وأخذوا لتلك المعاقل بالثأر، وأرجعوا عليا القهقرى، وتركوه زاحفا على الوراء، وقالوا: أذية لأولياء الله، ورأى من درى، فالأمر الآن هو ذاك بعينه، ما الذي ترك الناس سدى، أو نسخ معالم الهدى؟ ثم كيف الخطب لديهم في هذه الأبنية على الأموات المعدة للتلاوة والصلوات، المشتملة على المحاريب والفرش والسرج، وسائر الآلات، إذا أتاهم في شأنها رسول صاحب الوحي المنزل، والهدي السوي الأعدل، يقول: بعثني لإزالة ما قد تقدم إليكم بالنهي عنه من اتخاذ القبور مساجد (¬2)، ورواه لكم عدد من صحابته الجلة الأماجد، وقد أكد الله عليكم في الإجابة له ولرسوله، فماذا أنتم صانعون؟. وهذا كله بالنظر إلى نفس البناء على القبر، لا إلى ما ترتب عليه من الوثنية والشرك، وعلى إحياء هذه المشاهد من كلم الإسلام، وفقء عين شريعة المختار عليه الصلاة والسلام، وما يقع في الزيارات من أنواع الشرك بدعاء المقبورين، والطواف بتلك الأنصاب، والعكوف عندها، والنذر والتقرب لها بأنواع القربات، وما ترتب على ذلك من المفاسد والمنكرات، كترك الصلاة المكتوبة، وما يقولون من أقاويلهم المفتراة المكذوبة، قد حملوا الولي، أو حملها عنه، واختلاط الرجال بالنساء، وأرباب الملاهي، واتخاذ ¬

(¬1) انظر تخريجه في مواقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه سنة (40هـ). (¬2) انظر تخريجه في مواقف ابن تيمية رحمه الله سنة (728هـ).

الزينات، والمجاهرات بالبدع والمعاصي، والمخالفات لله، التي لا طمع في حصرها في الرقاع، وكيف وقد امتدت في أقطار البسيطة، على ما فيها من الاتساع فما أكثر ما ترى هنالك من نسيان الله ونبذ لعهوده، ومحادة له ولكتابه وتعدي لحدوده. ولعمر الله، من رضي بقاء هذه الرسوم، شارك في هذا الخطب المشؤوم، إلا متبرئ لله من هذه الأحداث، وغائر لله مما حل بدينه من خطوب الأبنية، وزوار الأجداث، الذين أعطوها حق ربنا الذي هو أحق أن يدعى ويستغاث، وانهمكوا في صنوف من أنكر الأعمال، وجسائم الأخباث. وأنتم معشر المفتين، أترضون لأنفسكم أن تلقوا الله بشيء من إشادة هذا البنيان؟ فاستعدوا للسؤال. فللأعمال ديان. اللهم فهذه براءة إليك مما تكاد السموات يتفطرن منه. وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا، أتتنا المناهي عن رسولك في هذا الباب، كما نهى رأي عين في سد ذرائعه، وهدم شرائعه، وطمس رسومه وشنائعه، ثم عمد قوم أضاعوا عهد التحقيق ولم يراعوا مشاعر تأديبك وتعليمك، التي تهدي إلى سواء الطريق. فانتصبوا لرفع رايات سوء، كان ينبغي أن تكون مخفوضة معزولة بحكمك الوثيق، وإلا فكل من آمن بك، وعقل عنك، وتحقق بمعرفة دينك، لا يجهل ما في طيها من عظيم المشاقة لك ولرسولك. اللهم فمن زعم عليك أنك رفعت شأن القباب والمشاهد، والزيارات المعروفة من هذه الطوائف، ومواطن الأموات، وجعلتها ترياقا لقضاء

الحوائج، ومثابة للناس، وأعيادا لهم، وزعم على سلفنا الصالح من أمة نبيك الأكرم أنهم دانوا بذلك، أو بذرة منه. اتباعا لأمرك، ورضاء بحكمك، وصار من غاية سعيه زيادة ازدراع هذه المفاسد، وإيقاد نيرانها. فاحكم بيننا وبينه بالحق، وأنت خير الحاكمين. فإن القوم قد أبدلوا -وأنت أعلم- رسوم شرعك بسواها، واستولى اللعين على فطرهم، فثناها عن الهدى ولواها، وسول لهم أن يبدلوا الزيارة التي شرعتها للادكار، والاستغفار والاعتبار، بضدها من التضرع عند القبر، والرقص واللهو، وإبداء الفاقة والافتقار، وأنواع الفجور، والهتف، والتملق، والتأدب مع الرمم، والحكم لها بنفع وإضرار. وكيف لا؟ وقد أصلوا أن لها التصرف والتصريف في البادين والحضار، وصاروا يستمدون من نفحاتهم جسائم الآمال، ويضربون قباب الطلبات بفناء أعتاب قباب الأموات، يا بئس الأعمال. فمن الذي بوأكم هذه المشارع، وسن لكم هذه الآداب والشرائع؟ ووضع لكم هذه الرسوم التي تبعتم آثارها؟ فائتونا بسلطان مبين. نتبعه ونشكر لكم إن كنتم صادقين، أو فامحوا عنكم -عافاكم الله- عارها، وحاشا بعد أن نقول لكم -إن أتيتم بحجة بينة-: دعونا، فقد صرح الشيخ بخلافها، لأن ذا من الحيف بمكان. ثم اللهم، إن القوم أبدلوا مناهي رسولك، الذي جعلته العصمة من

الضلال، عن البناء على القبور، وتشريفها، وتجصيصها، والكتابة عليها (¬1)، وجعلها مساجد (¬2)، وما جاء عنه من النهي عن اتخاذ قبره عيدا (¬3) بأضدادها، فبنوا وشرفوا وجصصوا، وكتبوا، وجعلوها أعيادا ومساجد، كأنه - صلى الله عليه وسلم - أغراهم بذلك الأمر الأسوإ، بل لو كانوا مأمورين بذلك لما حفظوه ورعوه، كما هم الآن، بشهادة المناهي في هذه المسألة، إذ أضيعت، وشهادة غيرها في غير هذا الباب، مما لا يحتاج إلى شرح. وليتهم اقتصروا على هذه المخالفات، بل جاوزوا مما ينسيها إلى أضعاف مضاعفات، واقتدت العامة بمن تخيلوا عنده علما، وهو في الواقع منهم لا يملك رأيا ولا عقلا للحقائق ولا فهما، فهو معهم غارق في باطل لغوهم، حريص على شهود مجالس إفكهم، وإثمهم ولهوهم، لا يهدي ولا يهتدي، ولا تراه في طلب العلم صدقا يروح ولا يغتدي. حتى أنا وجدنا في أفعالهم لدى هذه المشاهد ما كان صنيع الجاهلية عند بيوت الأوثان، وزيادة غلو على من ضاد الله ورسوله باتخاذ إلاه ثان. فإنا ¬

(¬1) وردت أحاديث كثيرة في هذه المسألة منها حديث جابر رضي الله عنه: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه، أو يزاد عليه، أو يكتب عليه". أخرجه: أحمد (3/ 332) ومسلم (2/ 667/970) وأبو داود (3/ 552/3226) والترمذي (3/ 368 - 369/ 1052) والنسائي (4/ 392/2026) وابن ماجه (1/ 498/1562) بعضهم مطولا وبعضهم مختصرا. (¬2) انظر تخريجه في مواقف ابن تيمية رحمه الله سنة (728هـ). (¬3) وردت أحاديث كثيرة بهذا المعنى عن جمع من الصحابة، منها: حديث أبي هريرة: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم». أخرجه: أحمد (2/ 367) وأبو داود (2/ 534/2042). وقال ابن عبد الهادي في الصارم المنكي (111): "وهذا حديث حسن ورواته ثقات مشاهير، لكن عبد الله بن نافع الصائغ فيه لين لا يمنع الاحتجاج به". وحسن إسناده الألباني، وله شاهد من حديث علي بن أبي طالب. انظر تحذير الساجد (142).

سمعنا الله يقول في كتابه إذ سجل على أولئك الأقوام {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} (¬1) أي: هو تعالى ذو الجلال والإكرام. وطالما شاهدنا عباد أرباب هذه القباب. إذا التطمت عليهم أمواج البحر العباب. سمعت ذكر الزيلعي والحداد، وكل يدعو شيخه عند ذلك الاضطراب، إذ لكل طريقة لا ينتحى سواها في الهتف والانتساب، ولكل من الجيلاني، وابن علوان، والعيدروس، والحداد، وغيرهم من آلهة هذه الطوائف طائفة من العباد، ويذكرون الله في جملة من ذكرنا، كما سمعناهم أيضا، كأنه واحد من تلك الأعداد. وحاشا كل من يؤمن بالله واليوم الآخر -خصوصا صلحاء الأمجاد- أن يرضى شيئا من هذا، وإلا كان شريكا لمن حاد الله ورسوله وضاد. (¬2) - وقال: ومن أذيال مصيبة المشاهد -التي أصيب بها الإسلام وشعائره- ما ظهر وانتشر في العامة في جهات كثيرة. كما هو معلوم مشاهد: أن المساجد ربما تكون متروكة مهجورة. وفيها من التراب والعيدان والأوساخ، وزبل الأنعام، وحراق التمباك، وغير ذلك ما يجعلها مزابل، ومشاهد الأموات محترمة مكرمة، مجمرة بالظفر والعطور، مفروشة بالسجاد الفاخر، وعلى القبور ستور الحرير الثمينة، بها الشمعدانات الفضية ما جعلها مرعية مقامة متحاماة. (¬3) ¬

(¬1) الإسراء الآية (67). (¬2) معارج الألباب (43 - 47). (¬3) معارج الألباب (ص 214).

أبو العون السفاريني (1188 هـ)

- وقال: تأمل دين عباد القبور اليوم، خصوصا الغالين منهم فيها، إذا مسهم الضر أنابوا إليها. ويروون -قاتلهم الله أنى يؤفكون- إذا دهمتكم الأمور، فعليكم بأصحاب القبور (¬1)، ثم يذوقون الرحمة من الله مع كفرهم هذا. فيقولون: كرامة الشيخ وبرهانه، وإذا أخفق سعيهم يقولون: هو غائب أو ساخط. وهذه قضية واقعة فاشية في الكثير، أو الأكثر، أو أن السالم من حماها نزر لا يكاد يذكر (¬2). - له أيضا من الآثار السلفية كتاب: 'مدارج العبور على مفاسد القبور'. أبو العون السَّفَارِينِي (¬3) (1188 هـ) محمد بن أحمد بن سالم بن سليمان السفاريني، أبو العون، شمس الدين، العلامة، الحافظ. ولد سنة أربع عشرة ومائة وألف، بقرية سفارين (من قرى نابلس)، قرأ القرآن صغيرا وحفظه وأتقنه، ثم رحل إلى دمشق وأخذ عن علمائها منهم الشيخ عبد القادر التغلبي والشيخ عبد الغني النابلسي والشيخ ¬

(¬1) ذكره صاحب كشف الخفاء (1/ 88/213) بلفظ: «إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا من أصحاب القبور» وعزاه لابن كمال باشا في الأربعين. كما ذكره محمد بشير الأزهري في تحذير المسلمين من الأحاديث الموضوعة على سيد المرسلين، انظر موسوعة الأحاديث الضعيفة (1/ 1297). (¬2) معارج الألباب (ص 239). (¬3) الأعلام (6/ 14) وهدية العارفين (2/ 340) وتاريخ الجبرتي (1/ 468 - 470) والسحب الوابلة (2/ 839 - 846) ومعجم المؤلفين (8/ 262) وفهرس الفهارس (2/ 1002 - 1005).

موقفه من المبتدعة:

أحمد المنيني وغيرهم. قال صاحب السحب الوابلة: برع في فنون العلم، وجمع بين الأمانة والفقه والديانة والصيانة، وفنون العلم والصدق، وحسن السمت والخلق والتعبد وطول الصمت عما لا يعني، وكان محمود السيرة، نافذ الكلمة، رفيع المنزلة عند الخاص والعام. وكان رحمه الله ناصرا للسنة، قامعا للبدعة، قوالا بالحق مقبلا على شأنه، توفي رحمه الله سنة ثمان وثمانين ومائة وألف. موقفه من المبتدعة: - له المنظومة المشهورة المسماة: 'الدرة المضية في عقد أهل الفرقة المرضية'، وقد شرحها المؤلف بشرح مطول، نقل معظمه من بحوث ابن تيمية وابن القيم في كتبهما. وهذا مما يزين الشرح ويجعله ذا قيمة علمية. والكتاب مطبوع متداول. - قال فيها (¬1): اعلم هديت أنه جاء الخبر ... عن النبي المقتفى خير البشر بأنّ ذي الأمة سوف تفترق ... "بضعا وسبعين" اعتقادا والمحق ما كان في نهج "النبي" المصطفى ... و"صحبه" من غير زيغ وجفا وليس هذا النص جزما يعتبر ... في فرقة إلا على "أهل الأثر" - وقال (¬2): والحمد لله على التوفيق ... لمنهج الحق على التحقيق ¬

(¬1) شرح العقيدة السفارينية (ص.63). (¬2) شرح العقيدة السفارينية (ص.78 - 79).

موقفه من الجهمية:

مسلما لمقتضى الحديث ... والنص في القديم والحديث لا أعتني بغير "قول السلف" ... موافقا أئمتي وسلفي ولست في قولي بذا مقلدا ... إلا النبي المصطفى مبدي الهدى صلى عليه الله ما قطر نزل ... وما تعانى ذكره من الأزل وما انجلى بهديه الديجور ... وراقت الأوقات والدهور وآله وصحبه أهل الوفا ... معادن التقوى وينبوع الصفا وتابع وتابع للتابع ... خير الورى حقا بنص الشارع ورحمة الله مع الرضوان ... والبر والتكريم والإحسان تهدى مع التبجيل والإنعام ... مني لمثوى عصمة الإسلام أئمة الدين هداة الأمة ... أهل التقى من سائر الأئمة لا سيما "أحمد" و"النعمان" ... و"مالك" "محمد" الصنوان موقفه من الجهمية: - قال رحمه الله في كتابه 'لوائح الأنوار السنية ولواقح الأفكار السنية شرح قصيدة ابن أبي داود الحائية في عقيدة أهل الآثار السلفية': قد أكثر السلف رضي الله عنهم في ذم الكلام والخوض فيه والتقصي عن دقائقه والتدقيق فيما يزعمون أنه قضايا برهانية وحجج قطعية يقينية، وقد شحنوا ذلك بالقضايا المنطقية والمدارك الفلسفية والتخيلات الكشفية والمباحث القرمطية، وكان أئمة الدين مثل الإمام مالك وسفيان وابن المبارك وأبي يوسف والشافعي وأحمد وإسحاق والفضيل بن عياض وبشر الحافي

موقفه من الخوارج:

يبالغون في ذم الكلام وفي ذم بشر المريسي وتضليله. (¬1) - وقال: وقد أجمع أئمة الهدى على ذم الفرقة المريسية وأكثرهم كفروهم وضللوهم وذموا الكلام وأهله بعبارات رادعة وكلمات جامعة. (¬2) - وقال: وفي قوله: {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} (¬3) دلالة على أمور: منها بطلان قول من يقول إنه كلام مخلوق خلقه في جسم من الأجسام المخلوقة، كما هو قول الجهميين الذين قالوا بخلق القرآن من المعتزلة والنجارية والضرارية وغيرهم. فإن السلف كانوا يسمون كل من نفى الصفات، وقال إن القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة جهميا. فإن جهما أول من ظهرت عنه بدعة نفي الأسماء والصفات وبالغ في نفي ذلك، فله في هذه البدعة مزية المبالغة في النفي والابتداء بكثرة إظهار ذلك والدعوة إليه وإن كان الجعد بن درهم سبقه إلى بعض ذلك. (¬4) موقفه من الخوارج: - قال في منظومته 'الدرة المضية': فصل في الكلام على الذنوب: ¬

(¬1) لوائح الأنوار (1/ 184 - 185). (¬2) لوائح الأنوار (1/ 187). (¬3) الأنعام الآية (114). (¬4) لوائح الأنوار (1/ 219 - 220).

موقفه من المرجئة:

ويفسق المذنب بـ (الكبيره) ... كذا إذا أصر بـ (الصغيره) لا يخرج المرء من (الإيمان) ... بـ (موبقات الذنب) و (العصيان) وواجب عليه أن يتوبا ... من كل ما جر عليه حوبا ويقبل المولى بمحض الفضل ... من غير عبد كافر منفصل ما لم يتب من (كفره) بضده ... فيرتجع عن (شركه) وصده ومن يمت ولم يتب من الخطا ... فأمره مفوض لذي العطا فإن يشأ يعفو وإن شاء انتقم ... وإن يشأ أعطى وأجزل النعم (¬1) - وقال فيها أيضا: الباب السادس في ذكر الإمامة: ولا غنى لأمة الإسلام ... في كل عصر كان عن (إمام) يذب عنها كل ذي جحود ... ويعتني ب (الغزو) و (الحدود) و (فعل معروف) و (ترك نكر) ... و (نصر مظلوم) وقمع كفر و (أخذ مال الفيء) و (الخراج) ... ونحوه والصرف في منهاج ونصبه ب (النص) و (الإجماع) ... و (قهره) فحل عن الخداع وشرطه (الإسلام) و (الحريه) ... (عدالة) (سمع) مع (الدرية) وأن يكون من (قريش) (عالما) ... (مكلفا) ذا (خبرة) و (حاكما) وكن مطيعا أمره فيما أمر ... ما لم يكن ب (منكر) فيحتذر (¬2) موقفه من المرجئة: - قال في منظومته الدرة المضية: (فصل في الكلام على الإيمان ... ) ¬

(¬1) شرح العقيدة السفارينية (68). (¬2) شرح العقيدة السفارينية (77).

إيماننا قول وقصد وعمل ... ونحن في إيماننا نستثني نتابع الأخيار من أهل الأثر ... تزيده التقوى وينقص بالزلل من غير شك فاستمع واستبن ونقتفي الآثار لا أهل الأشر (¬1) - وقال في لوائح الأنوار: تنبيه: هل القول بقبول الإيمان للزيادة والنقصان مختص بمذهب السلف ومن تبعهم -ممن يدخل الأعمال فيه من الخلف- كالقلانسي وغيره من الأشاعرة، أو يعم مذهب من قال إنه التصديق فقط؟ الحق كما قاله الإمام النووي وغيره، وجماعة من مُحَقِّقي علماء الكلام؛ أن الزيادة والنقصان تدخل الإيمان، ولو قيل إنه التصديق والإذعان، لأن التصديق القلبي يزيد وينقص أيضا بكثرة النظر ووضوح البرهان، وعدم ذلك، وما اعترض على هذا القول -من أنه متى قبل ذلك كان شكا- مدفوع بأن مراتب اليقين متفاوتة، مع أنها لا شك معها. وفي القرآن العظيم ما حكى عن خليله إبراهيم عليه وعلى نبينا وسائر الأنبياء أفضل الصلاة وأتم التسليم: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ} قَلْبِي (¬2). وتقدمت قصة موسى الكليم لما رأى قومه عاكفين على عبادة العجل، مع ما كان أخبره الله تعالى به من ذلك، فحصل له من الغضب، وإلقاء الألواح، وأخذه بلحية أخيه هارون عليه السلام ورأسه، ما لم يحصل له ¬

(¬1) شرح العقيدة السفارينية (69). (¬2) سورة البقرة الآية (260).

موقفه من القدرية:

بإخبار الله تعالى، مع جزمه وتيقنه صدق الخبر، ووقوع المخبر عنه بخبر من لا يبقى في القلب أدنى شك ولا ريبة، وبالله التوفيق. تتمة: مذهب السلف ومن وافقهم من الأشعرية جواز الاستثناء في الإيمان، يقول الإنسان: أنا مؤمن إن شاء الله، خلافا لمن يمنعه كالجهمية والمرجئة. وخلافا لمن يوجبه كابن كلاب ومن وافقه. والقول بجواز الاستثناء مذهب أصحاب الحديث كالثوري وابن عيينة وأكثر علماء الكوفة، ويحيى بن سعيد القطان فيما يرويه عن علماء البصرة، وهو مذهب الإمام أحمد، وغيره من علماء السنة، فإنهم يستثنون في الإيمان. وهذا متواتر عنهم، لأن الإيمان عندهم يتضمن فعل جميع الواجبات، فلا يشهدون لأنفسهم بذلك، كما لا يشهدون لها بالبر والتقوى من غير شك في إيمانهم كما هو منصوص الشافعي وأحمد رضي الله عنهما، خلافا لأبي حنيفة رضي الله عنهم أجمعين. (¬1) موقفه من القدرية: - ذكر رحمه الله في الدرة المضية مسائل القدر فقال: (الباب الثاني في الأفعال المخلوقة): وسائر الأشياء غير الذات ... وغير ما الأسماء والصفات مخلوقة لربنا من العدم ... وضل من أثنى عليها بالقدم وربنا يخلق باختيار ... من غير حاجة ولا اضطرار لكنه لا يخلق الخلق سدى ... كما أتى في النص فاتبع الهدى ¬

(¬1) لوائح الأنوار السنية (2/ 343 - 345).

حسين العشاري (1194 هـ)

أفعالنا مخلوقة لله ... لكنها كسب لنا يا لاهي وكل ما يفعله العباد ... من طاعة أو ضدها مراد لربنا من غير ما اضطرار ... منه لنا فافهم ولا تمار وجاز للمولى يعذب الورى ... من غير ما ذنب ولا جرم جرى فكل ما منه تعالى يجمل ... لأنه عن فعله لا يسأل فإن يثب فإنه من فضله ... وإن يعذب فبمحض عدله فلم يجب عليه فعل الأصلح ... ولا الصلاح ويح من لم يفلح فكل من شاء هداه يهتدي ... وإن يرد ضلال عبد يعتدي (¬1) - وقال: (فصل في الكلام على القضاء والقدر): وكل ما قدر أو قضاه ... فواقع حتما كما قضاه وليس واجبا على العبد الرضا ... بكل مقضي ولكن بالقضا لأنه من فعله تعالى ... وذاك من فعل الذي تقالى (¬2) حسين العُشَارِي (¬3) (1194 هـ) حسين بن علي بن حسن بن محمد العشاري، نجم الدين، أبو عبد الله البغدادي الشافعي. ولد سنة خمسين ومائة وألف للهجرة ببغداد، وتعلم فيها، وغلب عليه الفقه حتى كان يسمى الشافعي الصغير. وبعث رحمه الله إلى ¬

(¬1) شرح العقيدة السفارينية (ص66). (¬2) شرح العقيدة السفارينية (ص68). (¬3) هدية العارفين (1/ 328) والأعلام (2/ 248) ومعجم المؤلفين (4/ 28).

موقفه من الرافضة:

البصرة للقضاء والتدريس فيها، فتوفي في تلك السنة (أي سنة أربع وتسعين ومائة وألف). موقفه من الرافضة: - له: 'الأبحاث الرفيعة في الرد على الشيعة'، ذكره في هدية العارفين. (¬1) محمد بن عبد العزيز بن سلطان (¬2) (من القرن الثاني عشر) الشيخ محمد بن عبد العزيز بن سلطان ولد في بلدة البير. قرأ على علماء الدرعية آنذاك، وعلى رأسهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب. وعينه الإمام محمد ابن سعود قاضيا لبلدان المحمل والشعيب، ثم انتقل إلى قضاء الدرعية. توفي رحمه الله في بلدته البير. موقفه من المبتدعة: - جاء في علماء نجد: ولما قامت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب كان المترجم -أي محمد بن عبد العزيز بن سلطان- من الشباب الراغبين في العلم، فانتقل إلى الدرعية، فدرس فيها على الشيخ محمد وعلى عدد من علماء الدرعية المقيمين فيها والواردين إليها، فلما أدرك عَيَّنه الإمام محمد بن سعود بمشورة الشيخ محمد بن عبد الوهاب قاضيا لبلدان المحمل والشعيب. (¬3) ¬

(¬1) (1/ 328). (¬2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (6/ 71). (¬3) علماء نجد (6/ 71).

صفي الدين محمد بن أحمد البخاري (1200 هـ)

صفي الدين محمد بن أحمد البخاري (¬1) (1200 هـ) محمد بن أحمد بن محمد بن خير الله البخاري الأصل المحدث الأثري نزيل نابلس، أبو الفضل صفي الدين. ولد سنة أربع وخمسين ومائة وألف. قال الزبيدي في معجمه: يعرف فن الحديث معرفة جيدة لا نعلم في هذا العصر من يدانيه فيها مع ما عنده من قوة الحافظة والفهم السريع وإدراك المعاني الغريبة. وقال الشمس ابن عابدين: كان في حفظ متون الأحاديث والرجال عديم المثيل، كاد أن يشبه بصاحب الصحيح لو كان أباه إسماعيل. وقال الزركلي: (فاضل من أعلم أهل الشام بالحديث في عصره). وقال الجبرتي: (وكان إنسانا حسنا مجموع الفضائل رأسا في فن الحديث) توفي سحر ليلة الأحد سابع وعشرين رمضان سنة مائتين وألف. موقفه من المبتدعة: - له: 'القول الجلي في ترجمة ابن تيمية الحنبلي'؛ والكتاب مطبوع بهامش جلاء العينين. - وله: 'الصاعقة المحرقة على المتصوفة الرقصة المتزندقة'؛ مطبوع متداول. - قال في 'الصاعقة المحرقة': واعلم أن المعصية إذا عملها صاحبها مع اعتقاد أنها معصية يسمى فاسقا ولا يسمى مبتدعا، فإن اعتقد مع ذلك كونها مشروعة في الدين جوازا أو ندبا أو وجوبا فهو مبتدع. ¬

(¬1) فهرست الفهارس (1/ 214 - 215) وتاريخ الجبرتي (1/ 652 - 653) والأعلام (6/ 15) ومعجم المؤلفين (9/ 5).

فالفسق: أعم من البدعة، فكل بدعة فسق ولا عكس، فيكون هؤلاء بفعلهم هذا فساقا مبتدعين لعملهم المعصية معتقدين أنها طاعة، كذا في الرهص والرقص. (¬1) - وقال: فصل: وإذا تقرر كراهة رفع الصوت بالذكر مع الجنازة في مذاهب الأئمة الأربعة. ففي نحو الذكر قدام العروس بالطريق الأولى. وبالجملة، فالذكر بالصوت الشديد في الطرقات بدعة، لكونه غير معهود في زمنه - صلى الله عليه وسلم -، ولا في القرون المشهود بخيريتها، ولا له سند ظاهر ولا خفي، ولا يجوز قياسه على التلبية والتكبير في طريق يوم العيد لعدم شرط القياس. على أن التلبية لم يشرع الجهر بها إلا لكل فرد بنفسه لا بهيئة الاجتماع والاتفاق في الصوت بالرفع والخفض ومراعاة الأنغام والزيادة والنقص والتمطيط والإبدال في الحروف، لأجل ذلك، فإن ذلك كله حرام في الذكر كما يحرم في قراءة القرآن، كذا في الرهص والرقص. (¬2) - وقال: فالجهر المذكور يدافع السنة الثابتة بالحديث المتقدم ذكره الذي أخرجه البيهقي أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يكرهون رفع الصوت عند الجنازة وعند القتال وعند الذكر. وإذا استقرئت البدع التي في العبادات المحضة فلا بد أن يوجد فيها مزاحمة لسنة، ولو لم تكن تلك السنة إلا متابعة الصحابة لكان فيها كفاية ¬

(¬1) الصاعقة المحرقة (ص.62). (¬2) الصاعقة المحرقة (ص.66 - 67).

موقفه من الصوفية:

لأمره - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء بهم بخلاف غير العبادات المحضة فإنها قد تكون لسبب تجدد بعدهم أو كان تركهم لها المانع ثم زال على ما تقدم. الكل في الرهص والرقص. (¬1) موقفه من الصوفية: - قال رحمه الله في مقدمة 'الصاعقة المحرقة على المتصوفة الرقصة المتزندقة'- وهو كتاب جيد في بابه، ملأه صاحبه بالنقول عن أصحاب المذاهب، وخصوصا المذهب الحنفي ... وقد طبع الكتاب ولله الحمد-: إني أردت أن أكتب أوراقا في شرح أحوال المتصوفة في هذه الأيام مشتملا على فصول للاهتمام. وسميتها: الصاعقة المحرقة على المتصوفة الرقصة. وذلك أن طائفة ممن يدعي التصوف وهو فيه دعي بالتصلف قد اتخذوا الرقص واللعب ديدنا واعتقدوه تدينا، وخلطوا العبادة باللعب، وافتروا على الله الكذب، يأخذ بعضهم بيد بعض ويتحلقون حلقة، ويدورون محركين أيديهم إلى وراء وقدام، ورءوسهم بالتصعيد والتسفيل والتلوي كالهيئة التي يفعلها بعض النصارى في لعب لهم (يسمونهم) بركض الديك. ألا ساء ما يصنعون. (¬2) ¬

(¬1) الصاعقة المحرقة (ص.71). (¬2) الصاعقة المحرقة (ص.17).

القرن 13

السلطان محمد بن عبد الله (¬1) (1204 هـ) محمد (المتوكل على الله، المعتصم بالله) بن عبد الله بن إسماعيل بن الشريف الحسني، المالكي مذهبا الحنبلي اعتقادا. ويعتبر الأمير من ملوك الدولة السجلماسية العلوية بالمغرب، ولد سنة أربع وثلاثين ومائة وألف، وبويع رحمه الله بعد وفاة أبيه سنة إحدى وسبعين ومائة وألف للهجرة. قال صاحب 'الاستقصا': كان السلطان محمد بن عبد الله رحمه الله محبا للعلماء وأهل الخير مقربا لهم، لا يغيبون عن مجلسه في أكثر الأوقات. ثم قال: وجلب من بلاد المشرق كتبا نفسية من كتب الحديث لم تكن بالمغرب، مثل مسند الإمام أحمد، ومسند أبي حنيفة وغيرهما. وقال: ولما ولاه الله أمر المسلمين بعد وفاة والده زهد في التاريخ والأدب بعد التضلع منهما وأقبل على سرد كتب الحديث والبحث عن غريبها وجلبها من أماكنها. وقال صاحب 'نشر المثاني': وهو نصره الله وأيده في العلم بحر لا يجارى، وفي التحقيق والمعارف لا يمارى، وقد جمع من دراية العلم ما تقف العلماء دونه، وتود زواهر الأفق أن تكونه، فكملت بذلك سنة الله على العباد، وأحيا به الله الدين في كل الأرض والبلاد، مع فرط الكرم والجود. وكان رحمه الله له هيبة عظيمة في مشوره وموكبه، وهابته ملوك الإفرنج، ووفدت عليه رسلهم بالهدايا والتحف، وقام بمجموعة من الإصلاحات الداخلية كبناء المدن والمساجد والمدارس. توفي رحمه الله سنة أربع ومائتين وألف، بالقرب من رباط الفتح. ¬

(¬1) الفكر السامي (2/ 293 - 294) والاستقصا (8/ 3 - 72) والأعلام (6/ 241 - 242) وهدية العارفين (2/ 347) والإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام (6/ 109 - 133).

موقفه من المبتدعة:

وقال صاحب 'الفكر السامي': عالم السلاطين، وسلطان العلماء في وقته، إمام جليل، وجهبذ نبيل، أحيا من العلم مآثره وجدد الدولة العلوية بعد أن كانت داثرة، جال بنفسه في المغرب، وتقرى قبائله، وعرف دخائله، وأيقن أن الدين قد كان أن يذهب من أهله باستيلاء الجهل على بطونه وقبائله، فألف لهم تأليفا على نسق رسالة ابن أبي زيد تسهيلا على العوام، ليصلوا من ضروريات دينهم إلى المرام. موقفه من المبتدعة: كان من خيار ملوك العلويين بالمغرب؛ اعتنى بالعلم حتى وصل إلى درجة التأليف، وكان سلفيا في عقيدة الأسماء والصفات. - جاء في الفكر السامي: وقال: إنه أول من أدخل المسانيد الأربعة للمغرب من الحرم الشريف يعني ما عدا الموطأ، وافتتحه -أي كتاب 'الفتوحات الإلهية في أحاديث خير البرية'- بعقيدة رسالة ابن أبي زيد ... وقد كان سلفي العقيدة على مذهب الحنابلة كما صرح بذلك في تآليفه ... ومن مآثره أنه كان يحض على قراءة كتب المتقدمين وينهى عن المختصرات، ويرى الرجوع للكتاب والسنة؛ ولو عملوا برأيه لارتقى علم الدين إلى أوج الكمال. (¬1) التعليق: افتتاحه رحمه الله كتابه مما يؤكد سلفيته في الأسماء والصفات، فرحمة ¬

(¬1) (2/ 293 - 294).

الله عليه وجعل الباقي على نهجه. - وفي الاستقصا: وكان السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله ينهى عن قراءة كتب التوحيد المؤسسة على القواعد الكلامية المحررة على مذهب الأشعرية رضي الله عنهم، وكان يحض الناس على مذهب السلف من الاكتفاء بالاعتقاد المأخوذ من ظاهر الكتاب والسنة بلا تأويل، وكان يقول عن نفسه حسبما صرح به في آخر كتابه الموضوع في الأحاديث المخرجة من الأئمة الأربعة أنه مالكي مذهبا حنبلي اعتقادا، يعني أنه لا يرى الخوض في علم الكلام على طريقة المتأخرين، وله في ذلك أخبار. (¬1) - وفيه: ومن عجيب سيرته رحمه الله أنه كان يرى اشتغال طلبة العلم بقراءة المختصرات في فن الفقه وغيره وإعراضهم عن الأمهات المبسوطة الواضحة تضييع للأعمار في غير طائل، وكان ينهى عن ذلك غاية. ولا يترك من يقرأ مختصر خليل ومختصر ابن عرفة وأمثالهما. ويبالغ في التشنيع على من اشتغل بشيء من ذلك، حتى كاد الناس يتركون قراءة مختصر خليل، وإنما كان يحض على كتاب الرسالة والتهذيب وأمثالهما، حتى وضع في ذلك كتابا مبسوطا أعانه عليه أبو عبد الله الغربي وأبو عبد الله المير وغيرهما من أهل مجلسه. ولما أفضى الأمر إلى السلطان العادل المولى سليمان رحمه الله صار يحض الناس على التمسك بالمختصر، ويبذل على حفظه وتعاطيه الأموال الطائلة، ¬

(¬1) (8/ 68).

موقفه من الجهمية:

والكل مأجور على نيته وقصده. (¬1) التعليق: قال صاحب الاستقصا: إنا نقول: الرأي ما رأى السلطان سيدي محمد رحمه الله، وقد نص جماعة من أكابر الأعلام النقاد مثل الإمام الحافظ أبي بكر ابن العربي، والشيخ النظار أبي إسحاق الشاطبي، والعلامة الواعية أبي زيد عبد الرحمن بن خلدون وغيرهم، أن سبب نضوب ماء العلم في الإسلام ونقصان ملكة أهله فيه إكباب الناس على تعاطي المختصرات الصعبة الفهم، وإعراضهم عن كتب الأقدمين المبسوطة المعاني، الواضحة الأدلة، التي تحصل لمطالعها الملكة في أقرب مدة، ولعمري لا يعلم هذا يقينا إلا من جربه وذاقه. اهـ (¬2) قلت: وأما الناس اليوم، فأقبلوا عما نهى عنه هذا السلطان الصالح محمد ابن عبد الله؛ إذ المتمسك منهم الذي سلم من الإلحاد الشيوعي والاشتراكي، لا يعرف غير هذه المختصرات؛ فـ'مختصر خليل' هو قرآنهم، و'السنوسية' و'أم البراهين' و'مقدمة ابن عاشر' هي معتقدهم. والله المستعان. موقفه من الجهمية: - قال رحمه الله في آخر 'الفتوحات الإلهية في أحاديث خير البرية' (¬3): فصل في بيان قولي في الترجمة: المالكي مذهبا الحنبلي اعتقادا، والأيمة رضي ¬

(¬1) (8/ 67). (¬2) الاستقصا (8/ 67). (¬3) مخطوط بخزانة القرويين بفاس (ص.320 - 322).

الله عنهم اعتقادهم واحد، فأردت أن أشرح قولي: المالكي مذهباً الحنبلي اعتقاداً؛ وأبين المقصود بذلك والمراد، ليلا يفهمه بعض الناس على غير وجهه؛ وذلك أن الإمام أحمد -ثبت الله المسلمين بثبوته- سد طريق الخوض في علم الكلام، وقال: لا يفلح صاحب الكلام أبدا، ولا ترى أحدا ينظر في علم الكلام إلا وفي قلبه مرض وهجر أبا عبد الله الحارث بن أسد البصري المحاسبي وكان ممن اجتمع له علم الظاهر والباطن وذلك لتصنيفه كتابا في الرد على المبتدعة وقال له ويحك ألست تحكي بدعتهم ألست تحمل الناس بتصنيفك على مطالعة كلام أهل البدعة والتكلم فيه فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث فاختفى المحاسبي فلما مات لم يصل عليه إلا أربعة، وإلى ذلك ذهب الشافعي ومالك وسفيان وأهل الحديث قاطبة، حتى قال الشافعي رضي الله عنه لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير له من أن يلقاه بشيء من الكلام فلزم الناس السكوت عن الخوض في علم الكلام إلى أن نبغ الإمام الأشعري فاشتغل يرد على المعتزلة أقوالهم الفاسدة ويجيب عن آرائهم الواهية فاتبعه المالكية على ذلك وسموه ناصر السنة وهو ومن ابتعه على صواب موافقين في اعتقادهم للسنة والكتاب لا في الخوض مع الخائضين والتصدي لذكر شبه المبطلين وتخليدها في الأوراق إلى يوم الدين. وأما الحنابلة فأنكروا ذلك عليه، وفوقوا سهام الانتقاد إليه، وقالوا له كان ينبغي لك أن تسكت كما سكت الأيمة قبلك من السلف الصالح المهتدين الذين يرون أن الخوض في علم الكلام من البدع المحدثة في الدين، أما لك فيهم إسوة أفلا وسعك ما وسعهم من السكوت عن تلك الهفوة. فطريق

الحنابلة في الاعتقاد سهلة المرام، منزهة عن التخيلات والأوهام، موافقة لاعتقاد الأيمة كما سبق مع السلف الصالح من الأنام أعاشنا الله على ما عاشوا عليه وأماتنا على ما ماتوا عليه. قال عبد الحفيظ الفاسي في 'الآيات البينات' (¬1): ولما جلس على عرش مملكة المغرب السلطان المعظم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن إسماعيل العلوي قام في أوائل القرن الثالث عشر بنصرة هذا المذهب (¬2) وصرح في أول كتابه الفتوحات الكبرى (¬3) بكونه مالكي المذهب حنبلي العقيدة وافتتح كتابه بعقيدة الرسالة (¬4) لكونها على مذهب السلف وعقد في آخره بابا بين فيه وجه كونه حنبلي العقيدة ونصره ولم يزل معلنا بذلك في مؤلفاته ورسائله ومجالسه العلمية. وقد نقل عنه أبو القاسم الزياني أنه كان يطعن في الرحالة ابن بطوطة ويلمزه في عقيدته ويكذبه فيما ذكر في رحلته من أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان يقرر يوما حديث النزول، فنزل عن كرسيه وقال كنزولي هذا، ويبرئ ابن تيمية من عقيدة التجسيم التي تفيدها هذه القضية، ويقرر أن ابن بطوطة كان يعتقد ذلك فأراد أن يظهره بنسبته إلى ابن تيمية. - أصدر مرسوما ملكيا سنة ثلاث ومائتين وألف للهجرة في إصلاح المنهج التعليمي بالمغرب، وألزم العلماء والوعاظ به، وتوعد بالعقوبة كل من خالفه، ومما قال فيه: "ومن أراد علم الكلام فعقيدة ابن أبي زيد رضي الله ¬

(¬1) (ص.301). (¬2) أي مذهب السلف. (¬3) هو الفتوحات الإلهية في أحاديث خير البرية. (¬4) رسالة ابن أبي زيد القيرواني.

عنه كافية شافية يستغني بها جميع المسلمين". ثم قال: "ومن أراد أن يخوض في علم الكلام والمنطق وعلوم الفلاسفة وكتب غلاة الصوفية وكتب القصص؛ فليتعاط ذلك في داره مع أصحابه الذين لا يدرون بأنهم لا يدرون، ومن تعاطى ما ذركنا في المساجد ونالته عقوبة فلا يلومن إلا نفسه، وهؤلاء الطلبة الذين يتعاطون العلوم التي نهينا عن قراءتها؛ ما مرادهم بتعاطيها إلا الظهور والرياء والسمعة، وأن يضلوا طلبة البادية، فإنهم يأتون من بلدهم بنية خالصة في التفقه في الدين وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحين يسمعونهم يدرسون هذه العلوم التي نهينا عنها؛ يظنون أنهم يحصلون على فائدة بها، فيتركون مجالس التفقه في الدين واستماع حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإصلاح ألسنتهم بالعربية، فيكون ذلك سببا في ضلالهم". (¬1) ¬

(¬1) نقلا عن النبوغ المغربي لعبد الله كنون (ص.277).

محمد بن عبد الوهاب (1206 هـ)

محمد بن عبد الوهاب (¬1) (1206 هـ) لقد بزغت شمس الهداية في القرن الثاني عشر الهجري، الذي وصل فيه العالم الإسلامي إلى حالة أجمع المؤرخون على وصفها؛ بأنها حالة ظلام دامس، لقد غطته القبورية والقبوريون. وأصبحت الأرض والسماء تشتكيان من رفع أصوات القبوريين بالاستغاثة بالأموات والأشجار والأحجار. وكذلك انزعجت السماوات بزعقات المتصوفين وصراخهم، وارتجت الأرض من شطحهم ورقصهم، وكادت أن تنشق وتتزلزل من فعلهم ومنكرهم، أما طغيان المعاصي الأخرى فلا تسأل عن وصفها والحالة التي بلغتها. أما السنة وكتبها فقد سفت عليها الرمال، وأصبح طلبة العلم لا يعرفون إلا قول فلان وعلان. وأما عقائد الأشعرية والماتوريدية فأصبحت هي الغيم والمطر في قلوب علماء ذلك الزمان، وبها حياتهم. فلكل ما ذكرنا يمكن الجزم بأن شمس الهداية قد بزغت من جديد على يد هذا الإمام بهضاب نجد، وفي الدرعية بالضبط. فانتشر نورها في تلك البقعة، وطهرها من كل الظلمات التي كانت حالكة فيها منذ سنين. ثم تابعت مسيرتها إلى آخر نقطة من الشرق ثم إلى آخر نقطة من الغرب. فوجدت حواجز كثيرة من جبال للشرك والدجل، وغيوم مختلفة من ألوان من الضلال، ولكن لقوة نورها وعدم تكدرها لم تتأثر بأي حاجز يحجزها، وما تزال والحمد لله مشرقة صافية يستضيء بها أهل المشرق والمغرب. وكيف لا وهي شعاع من شمس النبوة التي وعد الله بحفظها إلى أن يرث الله الأرض ¬

(¬1) روضة ابن غنام (1/ 75 - 84) والأعلام (6/ 257) وعلماء نجد (1/ 25) وأبجد العلوم (3/ 158 - 160).

ومن عليها. وإليك نبذة عن شخصيته، فهو الشيخ الإمام، شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي التميمي. ولد سنة خمس عشرة بعد المائة والألف من الهجرة النبوية في العيينة (بنجد). حفظ القرآن قبل العاشرة من عمره، وكان حاد الفهم، وقاد الذهن، سريع الحفظ، فصيحا فطنا. نشأ الشيخ في أحضان بيت علم كبير توارثوه أبا عن جد. أخذ عن أبيه وعن الشيخ المحدث محمد حياة السندي والشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف بن عبد الله الشمري وغيرهم. رحل طالبا للعلم إلى الحجاز ثم إلى البصرة، لكنه أوذي فيها، وعاد إلى نجد، فسكن "حريملا" مع أبيه يقرأ عليه إلى أن توفي أبوه سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف للهجرة. وكان له اهتمام خاص بمطالعة كتب الشيخين ابن تيمية وابن القيم. وبدأ الشيخ رحمه الله بإظهار دعوته منكرا لجميع مظاهر الشرك والبدع، مجددا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وناهجا منهج السلف الصالح في الدعوة إلى التوحيد الخالص. وكان من المساندين له أمير العيينة عثمان بن حمد بن معمر، فناصره وألزم الخاصة والعامة أن يمتثلوا أمره، فهدمت قبور ومشاهد وقطعت أشجار، وعلت كلمة الحق. لكن سرعان ما تخلى الأمير عن الشيخ وخذله، وأمره بالخروج من العيينة، فتلقاه أمير "الدرعية" محمد بن سعود بالإكرام، وقبل دعوته، وتعاهدا على إعلاء كلمة الله وسنة رسوله، فأيدهما الله سبحانه وتعالى بنصره، فملكوا مكة والمدينة وقبائل الحجاز وأمصارا أخرى. وقد تخرج على يده وأخذ عنه علماء أجلاء منهم: أبناؤه علي وحسين وإبراهيم وعبد الله، والشيخ أحمد بن راشد العريني

• موقفه من المبتدعة:

والشيخ حمد بن إبراهيم والشيخ أحمد بن ناصر بن عثمان بن معمر وغيرهم. قال حسين بن غنام: كان رحمه الله يحيي غالب الليل قائما، يصلي ويتهجد ويقرأ القرآن، وكان من دأبه التأني والتثبت في تنفيذ الأحكام، لا يميله الهوى عن الشرع، ولا تصده عداوة عن الحق، بل يحكم بما ترجح له وجه الصواب فيه، فإن وجد نصا في كتاب الله أو سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - التزمه ولم يعدل عنه، وإلا رجع إلى كتب الأئمة الأربعة، وأخذ نفسه بدقة المراجعة والتحقيق للنص، وشدة البحث والكشف والتنقيب. من مؤلفاته: 'كتاب التوحيد' و'مختصر زاد المعاد' و'مسائل الجاهلية' و'الكبائر' و'كشف الشبهات' وغيرها. توفي رحمه الله سنة ست بعد المائتين والألف، وله اثنتان وتسعون سنة. ولكثرة ما لهذا الإمام من الآثار في العقيدة السلفية سأقتصر على بعض المسائل التي نشرف بحثنا بها. • موقفه من المبتدعة: - رسالة الشيخ إلى أهل القصيم لما سألوه عن عقيدته: بسم الله الرحمن الرحيم: أشهد الله ومن حضرني من الملائكة وأشهدكم أني أعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره، ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل، بل أعتقد أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه ولا أحرف الكلم عن مواضعه، ولا ألحد في أسمائه

وآياته، ولا أكيف، ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه لأنه تعالى لا سمي له ولا كفؤ له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره وأصدق قيلا وأحسن حديثا فنزه نفسه عما وصفه به المخالفون من أهل التكييف والتمثيل وعما نفاه عنه النافون من أهل التحريف والتعطيل فقال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬1) والفرقة الناجية وسط في باب أفعاله تعالى بين القدرية والجبرية، وهم في باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية، وهم وسط في باب الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية، وهم وسط في باب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الروافض والخوارج. وأعتقد أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدا وإليه يعود، وأنه تكلم به حقيقة وأنزله على عبده ورسوله وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأومن بأن الله فعال لما يريد، ولا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس شيء في العالم يخرج عن تقديره ولا يصدر إلا عن تدبيره ولا محيد لأحد عن القدر المحدود، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور. وأعتقد الإيمان بكل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يكون بعد الموت، فأومن بفتنة القبر ونعيمه، وبإعادة الأرواح إلى الأجساد، فيقوم الناس لرب العالمين حفاة عراة غرلا تدنو منهم الشمس، وتنصب الموازين وتوزن بها أعمال العباد {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ¬

(¬1) الصافات الآيات (180 - 182).

فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103)} (¬1) وتنشر الدواوين، فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله، وأومن بحوض نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بعرصة القيامة، ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، وآنيته عدد نجوم السماء من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا، وأومن بأن الصراط منصوب على شفير جهنم يمر به الناس على قدر أعمالهم. وأومن بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه أول شافع وأول مشفع، ولا ينكر شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أهل البدع والضلال، ولكنها لا تكون إلا من بعد الإذن والرضى كما قال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} (¬2) وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (¬3) وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)} (¬4) وهو لا يرضى إلا التوحيد، ولا يأذن إلا لأهله، وأما المشركون فليس لهم من الشفاعة نصيب، كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)} (¬5) وأومن بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما اليوم ¬

(¬1) الأعراف الآيتان (102 و103). (¬2) الأنبياء الآية (28). (¬3) البقرة الآية (255). (¬4) النجم الآية (26). (¬5) المدثر الآية (48).

موجودتان، وأنهما لا تفنيان، وأن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة كما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته. وأومن بأن نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين والمرسلين، ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته، وأن أفضل أمته أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى، ثم بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان، ثم سائر الصحابة رضي الله عنهم. وأتولى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأذكر محاسنهم وأترضى عنهم وأستغفر لهم وأكف عن مساويهم وأسكت عما شجر بينهم، وأعتقد فضلهم عملا بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} (¬1) وأترضى عن أمهات المؤمنين المطهرات من كل سوء، وأقر بكرامات الأولياء ومالهم من المكاشفات، إلا أنهم لا يستحقون من حق الله تعالى شيئا ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، ولا أشهد لأحد من المسلمين بجنة ولا نار إلا من شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكني أرجو للمحسن وأخاف على المسيء، ولا أكفر أحدا من المسلمين بذنب، ولا أخرجه من دائرة الإسلام، وأرى الجهاد ماضيا مع كل إمام برا كان أو فاجرا، وصلاة الجماعة خلفهم جائزة، والجهاد ماض منذ بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله، ¬

(¬1) الحشر الآية (10).

ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته، وحرم الخروج عليه، وأرى هجر أهل البدع ومباينتهم حتى يتوبوا، وأحكم عليهم بالظاهر وأكل سرائرهم إلى الله، وأعتقد أن كل محدثة في الدين بدعة. وأعتقد أن الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وهو بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأرى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما توجبه الشريعة المحمدية الطاهرة. فهذه عقيدة وجيزة حررتها وأنا مشتغل البال لتطلعوا على ما عندي والله على ما نقول وكيل. ثم لا يخفى عليكم أنه بلغني أن رسالة سليمان بن سحيم قد وصلت إليكم وأنه قبلها وصدقها بعض المنتمين للعلم في جهتكم، والله يعلم أن الرجل افترى علي أمورا لم أقلها ولم يأت أكثرها على بالي. فمنها قوله: إني مبطل كتب المذاهب الأربعة، وإني أقول إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء، وإني أدعي الاجتهاد، وإني خارج عن التقليد، وإني أقول إن اختلاف العلماء نقمة، وإني أكفر من توسل بالصالحين، وإني أكفر البوصيري لقوله يا أكرم الخلق، وإني أقول لو أقدر على هدم قبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهدمتها، ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزابا من خشب، وإني أحرم زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهما، وإني أكفر من حلف بغير الله، وإني أكفر ابن الفارض وابن عربي، وإني أحرق دلائل الخيرات وروض الرياحين وأسميه روض الشياطين. جوابي عن هذه المسائل أن أقول سبحانك هذا بهتان عظيم. وقبله من بهت محمدا - صلى الله عليه وسلم - أنه يسب عيسى بن مريم ويسب الصالحين فتشابهت

• موقفه من المشركين:

قلوبهم بافتراء الكذب وقول الزور. قال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ} (¬1) الآية، بهتوه - صلى الله عليه وسلم - بأنه يقول إن الملائكة وعيسى وعزيرا في النار. فأنزل الله في ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)} (¬2) وأما المسائل الأخر، وهي أني أقول لا يتم إسلام الإنسان حتى يعرف معنى لا إله إلا الله، وأني أعرف من يأتيني بمعناها، وأني أكفر الناذر إذا أراد بنذره التقرب لغير الله وأخذ النذر لأجل ذلك، وأن الذبح لغير الله كفر والذبيحة حرام. فهذه المسائل حق وأنا قائل بها. ولي عليها دلائل من كلام الله وكلام رسوله، ومن أقوال العلماء المتبعين كالأئمة الأربعة، وإذا سهل الله تعالى بسطت الجواب عليها في رسالة مستقلة إن شاء الله تعالى. ثم اعلموا وتدبروا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} (¬3) الآية. (¬4) • موقفه من المشركين: - محنة الشيخ بسبب عقيدته السلفية: جاء في روضة ابن غنام: وكان في أثناء مقامه في البصرة ينكر ما يرى ويسمع من الشرك والبدع، ويحث على طريق الهدى والاستقامة، وينشر ¬

(¬1) النحل الآية (105). (¬2) الأنبياء الآية (101) .. (¬3) الحجرات الآية (6). (¬4) مؤلفات شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب (6/ 8 - 13).

أعلام التوحيد، ويعلن للناس أن الدعوة كلها لله يكفر من صرف شيئا منها إلى سواه. وإذا ذكر أحد بمجلسه شارات الطواغيت والصالحين الذين كانوا يعبدونهم مع الله نهاه عن ذلك وزجره، وبين له الصواب وقال له: إن محبة الأولياء والصالحين إنما هي باتباع هديهم وآثارهم. وليست باتخاذهم آلهة من دون الله، وكان كثير من أهل البصرة يأتون إليه بشبهات يلقونها عليه، فيجيبهم بما يزيل اللبس، ويوضح الحق، ويكرر عليهم دائما أن العبادة كلها لا تصلح إلا لله، وكان بعض الناس يستغربون منه ذلك، ويعجبون لما يظهر لهم من شدة إنكاره لعبادة الصالحين والأولياء، والتوسل بهم عند قبورهم ومشاهدهم. وكانوا يقولون: إن كان ما يقوله هذا الإنسان حقا فالناس ليسوا على شيء. فلما تكرر منه ذلك، آذاه بعض أهل البصرة أشد الأذى وأخرجوه منها وقت الهجيرة، فاتجه إلى الشام، ولكن نفقته التي كانت معه ضاعت منه في الطريق، فانثنى عائدا إلى نجد، ومر في طريقه إليها بالأحساء، ونزل فيها على الشيخ العالم عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الشافعي الأحسائي، ثم اتجه منها إلى بلدة حريملا، وكان أبوه عبد الوهاب قد انتقل إليها من العيينة، سنة تسع وثلاثين ومائة وألف، بعد أن توفي حاكمها عبد الله بن معمر وتولى بعده ابن ابنه محمد بن حمد الملقب خرفاش، فعزل الشيخ عبد الوهاب عن قضاء العيينة لنزاع بينهما. فأقام الشيخ محمد في حريملا مع أبيه يقرأ عليه سنين، إلى أن توفي أبوه سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف.

فأعلن دعوته واشتد في إنكاره مظاهر الشرك والبدع وجد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبذل النصح للخاص والعام، ونشر شرائع الإسلام وجدد سنة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولم يخش في الحق لومة لائم، وحذر الناس والعلماء منهم خاصة تحقق وعيد الله في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)} (¬1). فذاع ذكره في جميع بلدان العارض: في حريملا والعيينة والدرعية والرياض ومنفوحة، وأتى إليه ناس كثيرون وانتظم حوله جماعة اقتدوا به واتبعوا طريقه ولازموه وقرأوا عليه كتب الحديث والفقه والتفسير. وصنف في تلك السنين كتاب التوحيد. وانقسم الناس فيه فريقين: فريق تابعه وبايعه وعاهده على ما دعا إليه، وفريق عاداه وحاربه وأنكر ذلك عليه وهم الأكثر. وكان رؤساء أهل حريملا قبيلتين أصلهما قبيلة واحدة، وكان كل فريق يدعي لنفسه القوة والغلبة والكلمة العليا، ولم يكن لهم رئيس واحد يزع الجميع. وكان في البلد عبيد لأحد القبيلتين، كثر تعديهم وفسقهم، فأراد الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن يمنعهم عن الفساد وينفذ فيهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهم العبيد أن يفتكوا بالشيخ ويقتلوه سرا بالليل، فلما تسوروا عليه الجدار علم بهم الناس فصاحوا بهم فهربوا. ¬

(¬1) البقرة الآية (159).

فانتقل الشيخ من حريملا إلى العيينة، ورئيسها يومئذ عثمان بن حمد بن معمر فأكرمه وتزوج فيها الجوهرة بنت عبد الله بن معمر. ولما عرض على عثمان دعوته اتبعه وناصره وألزم الخاصة والعامة أن يمتثلوا أمره. وكان في العيينة وما حولها كثير من القباب والمساجد والمشاهد المبنية على قبور الصحابة والأولياء والأشجار التي يعظمونها ويتبركون بها: كقبة قبر زيد بن الخطاب في الجبيلة وكشجرة قريوة وأبي دجانة والذئب. فخرج الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومعه عثمان بن معمر وكثير من جماعتهم، إلى تلك الأماكن بالمعاول، فقطعوا الأشجار وهدموا المشاهد والقبور وعدلوها على السنة، وكان الشيخ هو الذي هدم قبة قبر زيد بن الخطاب بيده، وكذلك قطع شجرة الذئب مع بعض أصحابه، وقطع شجرة قريوة ثنيان بن سعود، ومشارى بن سعود وأحمد بن سويلم وجماعة سواهم. وهكذا لم يبق وثن في البلاد التي تحت حكم عثمان وعلت كلمة الحق، وأحييت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فلما شاع ذلك واشتهر وتحدثت به الركبان أنكرته قلوب الذين حقت عليهم كلمة العذاب، وقالوا مثل ما قال الأولون: {أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)} (¬1). فتجمعوا على رده والإنكار عليه، ومخاصمته ومحاربته، فكتبوا إلى علماء الأحساء والبصرة والحرمين يؤلبونهم عليه، فناصرهم في ذلك أهل الباطل والضلال من علماء تلك البلاد، وصنفوا المصنفات في تبديعه وتضليله وتغييره للشرع ¬

(¬1) ص الآية (5).

والسنة وجهله وغوايته، وأغروا به الخاصة والعامة، خصوصا السلاطين والحكام، وادعوا أن ليس للشيخ وأصحابه عهد ولا ذمام لرفضه سنة الرسول وتغييره أحكام الدين وخوفوا الحكام والولاة منه، وزعموا أنه يملأ قلوب الجهال والطِّغام بكلامه ويغويهم بطريقته فيخرجون على حكامهم وولاتهم ويعلنون العصيان. والشيخ -رحمه الله- صابر على ما يقولون، محتسب أجره عند الله، يتعزى بما قاساه قبله الموحدون، وما لقيه المؤمنون من أنواع البلاء، وما سعى لهم به أهل الشرك والضلال. وهذه سنة الله تعالى في عباده جارية في جميع الأزمان، يختبر بها المؤمنين ويمتحن بها الصابرين، فقد قال تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)} (¬1) وقال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} (¬2).اهـ (¬3) - ومن رسائله رحمه الله إلى أهل الآفاق قال: بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه من علماء الإسلام، أنس الله بهم غربة الدين، وأحيى بهم سنة إمام المتقين، ورسول رب العالمين، سلام ¬

(¬1) العنكبوت الآيتان (1و2). (¬2) العنكبوت الآية (3). (¬3) روضة ابن غنام (1/ 76 - 79).

عليكم معشر الإخوان ورحمة الله وبركاته أما بعد: فإنه قد جرى عندنا فتنة عظيمة، بسبب أشياء نهيت عنها بعض العوام من العادات التي نشؤوا عليها، وأخذها الصغير عن الكبير، مثل عبادة غير الله وتوابع ذلك من تعظيم المشاهد، وبناء القباب على القبور وعبادتها واتخاذها مساجد، وغير ذلك مما بينه الله ورسوله غاية البيان، وأقام الحجة وقطع العذرة، ولكن الأمر كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ» (¬1) فلما عظم العوام قطع عاداتهم وساعدهم على إنكار دين الله بعض من يدعي العلم وهو من أبعد الناس عنه -إذِ العالم من يخشى الله- فأرضى الناس بسخط الله، وفتح للعوام باب الشرك بالله، وزين لهم وصدهم عن إخلاص الدين لله، وأوهمهم أنه من تنقيص الأنبياء والصالحين، وهذا بعينه هو الذي جرى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر أن عيسى عليه السلام عبد مربوب، ليس له من الأمر شيء، قالت النصارى: إنه سب المسيح وأمه، وهكذا قالت الرافضة لمن عرف حقوق أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحبهم، ولم يغل فيهم، رموه ببغض أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهكذا هؤلاء لما ذكرت لهم ما ذكره الله ورسوله، وما ذكره أهل العلم من جميع الطوائف من الأمر بإخلاص الدين لله، والنهي عن مشابهة أهل الكتاب من قبلنا في اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله، قالوا لنا: تنقصتم الأنبياء والصالحين والأولياء، والله تعالى ناصر لدينه ولو كره المشركون. وها أنا أذكر مستندي في ذلك من كلام أهل العلم من جميع الطوائف، فرحم الله من تدبرها بعين البصيرة، ثم نصر الله ورسوله وكتابه ¬

(¬1) مسلم (1/ 130/145) وابن ماجه (2/ 1319 - 1320/ 3986) عن أبي هريرة. وفي الباب عن أنس وابن مسعود وغيرهما.

من معه: اجعل لنا ذات أنواط قال: «الله أكبر؛ قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة» (¬1). انتهى كلامه رحمه الله، وقال في 'اقتضاء الصراط المستقيم': إذا كان هذا كلامه - صلى الله عليه وسلم - في مجرد قصد شجرة لتعليق الأسلحة والعكوف عندها، فكيف بما هو أعظم منها: الشرك بعينه بالقبور ونحوها؟ وأما كلام المالكية فقال أبو بكر الطرطوشي في كتاب 'الحوادث والبدع' لما ذكر حديث الشجرة ذات أنواط: فانظروا رحمكم الله، أين ما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمون من شأنها ويرجون البرء والشفاء لمرضاهم من قبلها، فهي ذات أنواط فاقطعوها، وذكر حديث العرباض بن سارية الصحيح، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة» (¬2) قال: في البخاري عن أبي الدرداء أنه قال: والله ما أعرف من أمر محمد شيئا إلا أنهم يصلون جميعا، وروى مالك في الموطأ عن بعض الصحابة أنه قال: ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة، قال الزهري: دخلت على أنس بدمشق وهو يبكي ... فقال: ما أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت، قال الطرطوشي رحمه الله: فانظروا رحمكم الله إذا كان في ذلك الزمن طمس الحق، وظهر الباطل، حتى ما يعرف من الأمر القديم إلا القبلة، ¬

(¬1) أخرجه أحمد (5/ 218) والترمذي (4/ 412 - 413/ 2180) وقال: "حديث حسن صحيح". وصححه ابن حبان (15/ 94/6702). (¬2) أحمد (4/ 126) وأبو داود (5/ 13/4607) والترمذي (5/ 43/2676) وقال: "حسن صحيح". وابن ماجه (1/ 16/43) والحاكم (1/ 95 - 96) وقال: "صحيح ليس له علة"، ووافقه الذهبي.

فما ظنك بزمانك هذا والله المستعان. وليعلم الواقف على هذا الكلام من أهل العلم أعزهم الله أن الكلام في مسألتين: الأولى: أن الله سبحانه بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - لإخلاص الدين لله، لا يجعل معه أحد في العبادة والتأله، لا ملك ولا نبي، ولا قبر ولا حجر ولا شجر ولا غير ذلك، وأن من عظم الصالحين بالشرك بالله فهو يشبه النصارى، وعيسى عليه السلام بريء منهم. والثانية: وجوب اتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترك البدع، وإن اشتهرت بين أكثر العوام، وليعلم أن العوام محتاجون إلى كلام أهل العلم من تحقيق هذه المسائل، ونقل كلام العلماء، فرحم الله من نصر الله ورسوله ودينه ولم تأخذه في الله لومة لائم، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. (¬1) موازنة بين دعوة التوحيد ودعوة الشرك: - جاء في تاريخ عجائب الآثار: ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائتين وألف وما تجدد بها من الحوادث فكان ابتداء المحرم بالرؤية يوم الخميس في عاشره، وصل كثير من كبار العسكر الذين تخلفوا بالمويلح، فحضر منهم حسين بك دالي باشا وغيره، فوصلوا إلى قبة النصر جهة العادلية، ودخلت عساكرهم المدينة شيئا فشيئا وهم في أسوأ حال من الجوع وتغير الألوان وكآبة المنظر والسحن، ودوابهم وجمالهم في غاية العي، ويدخلون إلى المدينة في كل يوم، ثم دخل أكابرهم إلى بيوتهم وقد سخط عليهم الباشا ومنع أن لا ¬

(¬1) مؤلفات شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب (6/ 175 - 180).

يأتيه منهم أحد ولا يراه، وكأنهم كانوا قادرين على النصرة والغلبة، وفرطوا في ذلك، ويلومهم على الانهزام والرجوع. وطفقوا يتهم بعضهم البعض في الانهزام، فتقول الخيالة: سبب هزيمتنا القرابة، وتقول القرابة بالعكس. ولقد قال لي بعض أكابرهم من الذين يدعون الصلاح والتورع: أين لنا بالنصر، وأكثر عساكرنا على غير الملة، وفيهم من لا يتدين بدين، ولا ينتحل مذهبا، وصحبتنا صناديق المسكرات، ولا يسمع في عرضينا أذان ولا تقام به فريضة، ولا يخطر في بالهم، ولا خاطرهم شعائر الدين، والقوم إذا دخل الوقت أذن المؤذنون، وينتظمون صفوفا خلف إمام واحد، بخشوع وخضوع. وإذا حان وقت الصلاة والحرب قائمة أذن المؤذن، وصلوا صلاة الخوف فتتقدم طائفة للحرب، وتتأخر الأخرى للصلاة، وعسكرنا يتعجبون من ذلك لأنهم لم يسمعوا به فضلا عن رؤيته وينادون في معسكرهم: هلموا إلى حرب المشركين المحلقين الذقون المستبيحين الزنا واللواط، الشاربين الخمور، التاركين للصلاة، الآكلين الربا، القاتلين الأنفس، المستحلين المحرمات. وكشفوا عن كثير من قتلى العسكر، فوجدوهم غلفا غير مختونين، ولما وصلوا بدرا واستولوا عليه وعلى القرى والخيوف وبها خيار الناس وبها أهل العلم والصلحاء، نهبوهم وأخذوا نساءهم وبناتهم وأولادهم وكتبهم، فكانوا يفعلون فيهم، ويبيعونهم من بعضهم لبعض ويقولون: هؤلاء الكفار الخوارج، حتى اتفق أن بعض أهل بدر الصلحاء طلب من بعض العسكر زوجته، فقال له: حتى تبيت معي هذه الليلة وأعطيها لك من الغد. (¬1) ¬

(¬1) تاريخ الجبرتي (3/ 341 - 342).

التعليق: هذا النص الذي نقله هذا المؤرخ، فيه عبرة لمن اعتبر، فاعتبروا يا من يريدون تحرير المقدسات الإسلامية، مثل فلسطين وغيرها من البلاد المغصوبة، أو البلاد التي في طريقها إلى الغصب. يحلم كثير من الناس، فيستلذ بحلمه الذي هو عبارة عن المؤتمرات والمنظمات التي تعقد وقرار اللجان والاقتراحات، وإذا سمعت الإذاعات أو قرأت الجرائد العالمية أو المحلية تظن أن الأمر قد انتهى، ويمكن في الأسبوع القادم أو الشهر الآتي على الأكثر، أن تحرر المقدسات وتقوم الخلافة الإسلامية التي تعقد راية الجهاد تحتها. فلا تحرير ولا جهاد، ويبقى الناس هكذا حتى يراجعوا أنفسهم ويتوبوا إلى الله من هذا التردي أولا، الذي هم فيه، أما الاستخفاف بالشعوب والتلاعب بعقولهم، فما أكثر من يحسنه. والله المستعان. مقارنة بين الدعوة الشركية ودعوة التوحيد الخالص وآفات الأولى وبركة الثانية: - جاء في تاريخ الجبرتي: وفي هذه الأيام أيضا، وصلت الأخبار من الديار الحجازية بمسالمة الشريف غالب للوهابيين، وذلك لشدة ما حصل لهم من المضايقة الشديدة وقطع الجالب عنهم من كل ناحية، حتى وصل ثمن الأردب المصري من الأرز خمس مائة ريال، والأردب من البر ثلاثمائة وعشرة، وقس على ذلك السمن والعسل وغير ذلك. فلم يسع الشريف إلا مسالمتهم والدخول في طاعتهم وسلوك طريقتهم، وأخذ العهد على دعاتهم وكبيرهم بداخل الكعبة وأمر بمنع

المنكرات والتجاهر بها، وشرب الأراجل بالتنباك في المسعى وبين الصفا والمروة بالملازمة على الصلوات في الجماعة ودفع الزكاة وترك لبس الحرير والمقصبات وإبطال المكوس والمظالم، وكانوا خرجوا عن الحدود في ذلك، حتى إن الميت يأخذون عليه خمسة فرانسه وعشرة بحسب حاله. وإن لم يدفع أهله القدر الذي يتقرر عليه، فلا يقدرون على رفعه ودفنه، ولا يتقرب إليه الغاسل ليغسله حتى يأتيه الإذن، وغير ذلك من البدع والمكوس والمظالم التي أحدثوها على المبيعات والمشتروات على البائع والمشتري، ومصادرات الناس في أموالهم ودورهم. فيكون الشخص من سائر الناس جالسا بداره، فما يشعر على حين غفلة منه. إلا والأعوان يأمرونه بإخلاء الدار وخروجه منها، ويقولون إن سيد الجميع محتاج إليها، فإما أن يخرج منها جملة وتصير من أملاك الشريف، وإما أن يصالح عليها بمقدار ثمنها أو أقل أو أكثر، فعاهده على ترك ذلك كله واتباع ما أمر الله تعالى به في كتابه العزيز من إخلاص التوحيد لله وحده، واتباع سنة الرسول عليه الصلاة والسلام وما كان عليه الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون إلى آخر القرن الثالث، وترك ما حدث في الناس من الالتجاء لغير الله من المخلوقين الأحياء والأموات في الشدائد والمهمات، وما أحدثوه من بناء القباب على القبور والتصاوير والزخاريف، وتقبيل الأعتاب والخضوع والتذلل والمناداة والطواف والنذور والذبح والقربان وعمل الأعياد والمواسم لها، واجتماع أصناف الخلائق واختلاط النساء بالرجال، وباقي الأشياء التي فيها شركة المخلوقين مع الخالق في توحيد الألوهية التي بعثت الرسل إلى مقاتلة من خالفها، ليكون

الدين كله لله. فعاهده على منع ذلك كله، وعلى هدم القباب المبنية على القبور والأضرحة، لأنها من الأمور المحدثة، التي لم تكن في عهده بعد المناظرة مع علماء تلك الناحية، وإقامة الحجة عليهم بالأدلة القطعية التي لا تقبل التأويل من الكتاب والسنة، وإذعانهم لذلك. فعند ذلك أمنت السبل. وسلكت الطرق بين مكة والمدينة، وبين مكة وجدة والطائف، وانحلت الأسعار، وكثر وجود المطعومات وما يجلبه عربان الشرق إلى الحرمين من الغلال والأغنام والأسمان والأعسال، حتى بيع الأردب من الحنطة بأربع ريالات، واستمر الشريف غالب يأخذ العشور من التجار، وإذا نوقش في ذلك يقول: هؤلاء مشركون وأنا آخذ من المشركين لا من الموحدين (¬1). ? التعليق: يستفاد من هذا النص الذي ساقه هذا المؤرخ الأمور الآتية: 1 - تصوير الحالة التي كانت عليها الحجاز قبل تشرفها بدعوة التوحيد الخالصة. وهي ما نعت هذا المؤرخ أصحابها بالوهابيين. 2 - وجود مماثلة لها الآن في العالم الإسلامي إلا من شاء الله، فكل تلك الأوصاف السلبية قلما يخلو منها مكان. 3 - عاقبة المشركين والمفسدين الذين أشركوا بالله فاستحلوا محارمه، فجزاهم الله بما سطره هذا المؤرخ. 4 - بركة دعوة التوحيد الخالصة. 5 - منقبة للشريف الذي عرف الحق واقتنع به. وطبقه في رعيته، وما ¬

(¬1) تاريخ الجبرتي (3/ 116 - 117).

• موقفه من الرافضة:

أقل أمثاله في زماننا هذا. والله المستعان. • موقفه من الرافضة: - قال رحمه الله: إن مفيدهم ابن المعلم قال في كتابه 'روضة الواعظين': إن الله أنزل جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد توجهه إلى المدينة في الطريق في حجة الوداع فقال: يا محمد إن الله تعالى يقرئك السلام ويقول لك: انصب عليا للإمامة ونبه أمتك على خلافته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا أخي جبريل، إن الله بغض أصحابي لعلي، إني أخاف منهم أن يجتمعوا على إضراري، فاستعف لي ربي». فصعد جبريل وعرض جوابه على الله تعالى فأنزله الله تعالى مرة أخرى، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلما قال أولا، فاستعفى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في المرة الأولى، ثم صعد جبريل فكرر جواب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمره الله بتكرير نزوله معاتبا له مشددا عليه بقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (¬1) فجمع أصحابه وقال: «يا أيها الناس إن عليا أمير المؤمنين، وخليفة رب العالمين، ليس لأحد أن يكون خليفة بعدي سواه، من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» اهـ. فانظر يا أيها المؤمن إلى حديث هؤلاء الكذبة الذي يدل على اختلاقه ركاكة ألفاظه وبطلان أغراضه، ولا يصح منه إلا: «من كنت مولاه» (¬2)، ومن اعتقد منهم صحة هذا فقد هلك، إذ فيه اتهام المعصوم قطعا من المخالفة ¬

(¬1) المائدة الآية (67). (¬2) تقدم في مواقف الحسن بن الحسن بن علي سنة (145هـ).

بعدم امتثال أمر ربه ابتداء، وهو نقص، ونقص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كفر، وأن الله تعالى اختار لصحبته من يبغض أجل أهل بيته، وفي ذلك ازدراء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ومخالفة لما مدح الله به رسوله وأصحابه من أجل المدح، قال الله تعالى: {محمد رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)} (¬1) واعتقاد ما يخالف كتاب الله والحديث المتواتر كفر، وأنه - صلى الله عليه وسلم - خاف إضرار الناس، وقد قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (¬2) قبل ذلك كما هو معلوم بديهة، واعتقاد عدم توكله على ربه فيما وعده نقص، ونقصه كفر. وإن فيه كذبا على الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} (¬3) وكذبا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن استحل ذلك فقد كفر، ومن لم يستحل ذلك فقد تفسق، وليس في قوله: «من كنت مولاه» أن النص على خلافته متصلة، ولو كان نصا ¬

(¬1) الفتح الآية (29). (¬2) المائدة الآية (67). (¬3) الأنعام الآية (21) ..

لادعاها علي رضي الله عنه لأنه أعلم بالمراد، ودعوى ادعائها باطل ضرورة، ودعوى علمه يكون نصا على خلافته، وترك ادعائها تقية أبطل من أن يبطل. ما أقبح ملة قوم يرمون إمامهم بالجبن والخور والضعف في الدين مع أنه من أشجع الناس وأقواهم. (¬1) - وقال: ومنها أنه روى الكشي منهم -وهو عندهم أعرفهم بحال الرجال وأوثقهم في رجاله- وغيره عن الإمام جعفر الصادق - رضي الله عنه - وحاشاه من ذلك- أنه قال: لما مات النبي - صلى الله عليه وسلم -: ارتد الصحابة كلهم إلا أربعة؛ المقداد وحذيفة وسلمان وأبو ذر - رضي الله عنهم - فقيل له: كيف حال عمار بن ياسر قال: حاص حيصة ثم رجع. هذا العموم المؤكد يقتضي ارتداد علي وأهل البيت وهم لا يقولون بذلك. وهذا هدم لأساس الدين لأن أساسه القرآن والحديث، فإذا فرض ارتداد من أخذ من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا النفر الذين لا يبلغ خبرهم التواتر وقع الشك في القرآن والأحاديث، نعوذ بالله من اعتقاد يوجب هدم الدين، وقد اتخذ الملاحدة كلام هؤلاء الرافضة حجة لهم فقالوا: كيف يقول الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (¬2) وقد ارتدوا بعد وفاة نبيهم إلا نحو خمسة أو ستة أنفس منهم لامتناعهم من تقديم أبي بكر على علي وهو الموصى به، فانظر إلى كلام هذا الملحد تجده من كلام الرافضة. فهؤلاء أشد ¬

(¬1) 'رسالة في الرد على الرافضة'، مطبوعة ضمن مؤلفات محمد بن عبد الوهاب (11/ 5 - 7). (¬2) آل عمران الآية (110).

ضررا على الدين من اليهود والنصارى، وفي هذه الهفوة الفساد من وجوه: فإنها توجب إبطال الدين والشك فيه. وتجوز كتمان ما عورض به القرآن. وتجوز تغيير القرآن وتخالف قوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1)، وقوله تعالى: {رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (¬2) وقوله فيمن آمن قبل الفتح وبعده: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} (¬3).اهـ (¬4) - وقال: ومنها إيجابهم سب الصحابة لاسيما الخلفاء الثلاثة نعوذ بالله، رووا في كتبهم المعتبرة عندهم عن رجل من أتباع هشام الأحول أنه قال: كنت يوما عند أبي عبد الله جعفر بن محمد، فجاءه رجل خياط من شيعته وبيده قميصان فقال: يا ابن رسول الله خطت أحدهما وبكل غرزة إبرة وحدت الله الأكبر، وخطت الآخر وبكل غرزة إبرة لعن الأبعد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم نذرت لك ما أحببته لك منهما، فما تحبه خذه وما لا تحبه رده. فقال الصادق: أحب ما تم بلعن أبي بكر وعمر، واردد إليك الذي خيط بذكر الله الأكبر. فانظر إلى هؤلاء الكذبة الفسقة، ماذا ينسبون إلى أهل البيت من القبائح حاشاهم، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ ¬

(¬1) الفتح الآية (18). (¬2) المائدة الآية (119). (¬3) النساء الآية (95). (¬4) رسالة في الرد على الرافضة، انظر مؤلفات محمد بن عبد الوهاب (11/ 12 - 13).

جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (¬1) فإذا لم يكن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسطا فمن يكون غيرهم. (¬2) - وقال: ومنها أنهم جعلوا مخالفة أهل السنة والجماعة، الذين هم على ما عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أصلا للنجاة، فصاروا كلما فعل أهل السنة تركوه وإن تركوا شيئا فعلوه، فخرجوا بذلك عن الدين رأسا، فإن الشيطان سول لهم وأملى لهم، وادعوا بأن هذه المخالفة علامة أنهم الفرقة الناجية. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «الفرقة الناجية هي السواد الأعظم» (¬3) و «ما أنا عليه وأصحابي» (¬4). فلينظر إلى الفرق ومعتقداتهم وأعمالهم، فما وافقت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه هي الفرقة الناجية، وأهل السنة هم المتبعون لآثاره - صلى الله عليه وسلم - وآثار أصحابه كما لا يخفى على منصف ينظر بعين الحق، فهم أحق أن يكونوا الفرقة الناجية، وآثار النجاة الظاهرة فيهم لاستقامتهم على الدين من غير تحريف، وظهور مذهبهم وشوكتهم في غالب البلاد، ووجود العلماء المحققين والمحدثين والأولياء والصالحين فيهم، وقد نزع الولاية عن الرافضة، فما سمع فيهم ولي قط. (¬5) ¬

(¬1) البقرة الآية (143). (¬2) رسالة في الرد على الرافضة، انظر مؤلفات محمد بن عبد الوهاب (11/ 15 - 16). (¬3) أخرجه: ابن أبي عاصم في السنة (1/ 34/68)، الطبراني في الكبير (8/ 268/8035) وفي الأوسط (8/ 98/7198) البيهقي (8/ 188) من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - وذكره الهيثمي في المجمع (7/ 258) وقال: "رواه الطبراني في الأوسط والكبير بنحوه، وفيه أبو غالب وثقه ابن معين وغيره، وبقية رجال الأوسط ثقات، وكذلك أحد إسنادي الكبير". (¬4) أخرجه الترمذي (5/ 26/2641) والحاكم (1/ 128 - 129) من طريق عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو مرفوعا. وفيه عبد الرحمن بن زياد الأفريقي. وقال فيه الحافظ: "ضعيف في حفظه"، ولكن للحديث شواهد، كشاهد أبي هريرة ومعاوية وأنس وعوف بن مالك الأشجعي - رضي الله عنهم -. (¬5) رسالة في الرد على الرافضة، انظر مؤلفات محمد بن عبد الوهاب (11/ 30 - 31).

• موقفه من الخوارج:

• موقفه من الخوارج: - قال: وأما الكذب والبهتان؛ فقولهم: إنا نكفر بالعموم، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس الذي دين الله ورسوله، وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على عبد القادر، والصنم الذي على أحمد البدوي وأمثالهما لأجل جهلهم، وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا ولم يكفر ويقاتل. (¬1) • موقفه من المرجئة: - قال: وأما ما سألتم عنه من حقيقة الإيمان: فهو التصديق، وأنه يزيد بالأعمال الصالحة وينقص بضدها، قال الله تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا} (¬2) وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)} (¬3) وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (¬4) وغير ذلك من الآيات. قال الشيباني رحمه الله: وإيماننا قول وفعل ونية ... ويزداد بالتقوى وينقص بالردى وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول: لا إله إلا الله ¬

(¬1) الدرر السنية (1/ 66) وعقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1/ 337). نقلا عن مجموع فتاوى ابن عثيمين (2/ 133). (¬2) المدثر الآية (31). (¬3) التوبة الآية (124). (¬4) الأنفال الآية (2).

وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» (¬2). وقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)} (¬3) {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ للطائفين والعاكفين وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)} (¬4) فقال الطواغيت الذي (¬5) قال الله فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (¬6): إن فساق مكة حشو الجنة مع أن السيئات تضاعف فيها كما تضاعف الحسنات، فانقلبت القضية بالعكس حتى آل الأمر إلى الهتيميات المعروفات بالزنا والمصريات يأتون وفودا يوم الحج الأكبر، كل من الأشراف معروفة بغيته منهن جهارا، وأن أهل اللواط وأهل الشرك والرفضة، وجميع الطوائف من أعداء الله ورسوله آمنين فيها، وأن من دعا أبا طالب آمن، ومن وحد الله وعظمه ممنوع من دخولها ولو استجار بالكعبة ما أجارته، وأبو طالب والهتيميات يجيرون من استجار بهم، سبحانك هذا بهتان عظيم {وَمَا كَانُوا ¬

(¬1) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي إسحاق الفزاري سنة (186هـ). (¬2) أحمد (3/ 10،20،49،50) ومسلم (1/ 69/49) وأبو داود (1/ 677 - 378/ 1140) والترمذي (4/ 407 - 408/ 2172) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (8/ 485 - 486/ 5023) وابن ماجه (1/ 406/1275) من حديث أبي سعيد الخدري. (¬3) الحج الآية (25). (¬4) الحج الآية (26). (¬5) كذا بالأصل والصواب (الذين). (¬6) التوبة الآية (31).

• موقفه من القدرية:

أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (¬1).اهـ (¬2) • موقفه من القدرية: - قال رحمه الله: وأومن بأن الله تعالى فعال لما يريد، ولا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس شيء في العالم يخرج عن تقديره ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن القدر المحدود، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور. (¬3) - له كتاب التوحيد ضمنه باب: ما جاء في منكري القدر. حامد بن محمد بن حسن بن محسن من علماء (أول القرن الثالث عشر) • موقفه من القدرية: - له شرح جيد لكتاب التوحيد، قال في شرحه لـ (باب ماجاء في منكري القدر): باب ما جاء في بيان أن منكري القدر قد خالفوا الكتاب والسنة واتبعوا أهواءهم، وأنهم في ضلال مبين وما لهم على الله إلا مجرد دعوة الشيطان، كما قال تعالى عنه لعنه الله أنه يقول يوم القيامة: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} (¬4) ¬

(¬1) الأنفال الآية (34). (¬2) مؤلفات محمد بن عبد الوهاب (6/ 96 - 98). (¬3) مؤلفات محمد بن عبد الوهاب (6/ 9). (¬4) إبراهيم الآية (22).

فقد بين الله تعالى أنه يخاطبهم بأنهم تبعوه بلا سلطان، بل أن دعاهم إلى الباطل فاستجابوا له إما بمخالفتهم الكتاب، فقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} (¬1) أي نخلقها، وقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (¬2). قال البغوي: أي في اللوح المحفوظ، وقوله تعالى: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)} (¬3). وقوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)} (¬4). روي عن عمر أنه كان يطوف ويبكي ويقول: اللهم إن كنت كتبتني من أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كتبتني في أهل الشقاوة فامحني وأثبتني في أهل السعادة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، ومعلوم بالضرورة أن المحو لم يكن إلا بعد الكتابة، والقرينة عليه قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)} فإنه ورد في الحديث الثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب، قال: وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» (¬5).اهـ (¬6) - وقال بعد ذكره النصوص التي ساقها ابن عبد الوهاب في الأصل: ¬

(¬1) الحديد الآية (22). (¬2) الأنعام الآية (38). (¬3) القمر الآية (53). (¬4) الرعد الآية (39). (¬5) تقدم تخريجه في مواقف عبادة بن الصامت رضي الله عنه سنة (34هـ). (¬6) فتح الله الحميد المجيد في شرح كتاب التوحيد (ص.451).

قلت: وهذه السنة نطقت صريحا بالقدر، وماذا بعد الحق إلا الضلال. ولكنهم كما قال تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬1). قال أبو العباس ابن تيمية -رحمه الله-: إن الناس في الأمر الشرعي الديني والقضاء المقدور الكوني انقسموا أربعة أقسام، فمنهم يرى الأمر المقدر الكوني وتوحيد الربوبية الشامل للخليقة، ويقر أن العباد كلهم تحت القضاء والقدر، ولكن لا يفرق بين المؤمنين وبين الفجار الكافرين، فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى، لكن من الناس من يفرق بين المؤمن والكافر ولايفرق بين البر والفاجر، أو يفرق بين بعض الأبرار وبين بعض الفجار ولا يفرق في آخرين اتباعا لظنه وما يهواه، فيكون ناقص الإيمان، بحسب ما سوى بين الأبرار والفجار ويكون معه من الإيمان بدين الله تعالى والفارق بحسب ما فرق بين أوليائه وأعدائه. ومنهم من أقر بالأمر والنهي الدينيين دون القضاء والقدر، وذاك من القدرية والمعتزلة ونحوهم الذين هم مجوس هذه الأمة، فهؤلاء يشبهون المجوس وأولئك يشبهون المشركين الذين هم شر من المجوس، ومن أقر بهما وكان معترضا على ربه في أحكامه فهو كإبليس الذي اعترض على ربه وخاصمه. ومنهم من أقر الأمر الكوني المقدور والأمر الشرعي المأمور فيفعل المأمور ويترك المحظور، ويصبر على ما يصيبه من المقدور، وهؤلاء هم أهل إياك نعبد وإياك نستعين، وإذا أذنب استغفر وتاب ولا يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات، ويؤمن بالقدر ولا ¬

(¬1) الروم الآية (29).

محمد بن علي بن غريب (1208 هـ)

يحتج به كما في الحديث الصحيح: «سيد الاستغفار أن يقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت وأبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» (¬1). فيقر بنعمة الله في الحسنات ويعلم أنه هداه ويسره لليسرى، ويقر بذنوبه من السيئات ويتوب منها كما ذكر عن بعضهم: أطعتك بفضلك والمنة لك، وعصيتك بعلمك والحمد لك فأسألك بوجوب حجتك علي وانقطاع حجتي إلا غفرت لي، وفي الحديث الصحيح الإلهي: «يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها؛ فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» (¬2). والقسم الرابع: شر الأقسام من لا يعبده ولا يستعينه، فلا هو مع الشريعة الأمرية ولما مع القدرية. (¬3) محمد بن علي بن غريب (¬4) (1208 هـ) الشيخ محمد بن علي بن غريب النجدي. تزوج بنت الشيخ محمد بن عبد الوهاب بعدما مات عنها زوجها حمد بن إبراهيم بن مشرف قاضي بلد "مرات". أخذ عنه الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (4/ 122) والبخاري (11/ 117/6306) والترمذي (5/ 436/3393) والنسائي (8/ 674 - 675/ 5537) كلهم من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه. (¬2) أحمد (5/ 154) ومسلم (4/ 1994 - 1995/ 2577) والترمذي (4/ 566 - 567/ 2495) وابن ماجه (2/ 1422/4257) كلهم من حديث أبي ذر الطويل: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي ... ». (¬3) فتح الله الحميد المجيد في شرح كتاب التوحيد (ص.453 - 454). (¬4) علماء نجد خلال ثمانية قرون (6/ 312 - 316) وانظر هامش السحب الوابلة (2/ 690 - 692).

• موقفه من المشركين:

عبد الوهاب والشيخ عبد العزيز بن حمد بن مشرف والشيخ عبد العزيز بن حمد ابن معمر وغيرهم. قال ابن حميد: ورد على مخالفيهم -يعني المخالفين للدعوة السلفية- وأجاب عن عدة فنون أرسلت إليهم من بغداد، فكان عندهم مقبولا عظيما. وفي سنة ثمان ومائتين وألف قتل الشيخ محمد بن غريب في الدرعية، لأجل أمور قيلت عنه. • موقفه من المشركين: - له: 'التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق' وهو رد على شبه أرسلها عبد الله أفندي البغدادي إلى علماء الدرعية يتحداهم بها. إلا أن المؤلف -عفا الله عنه- أورد فيه مسائل ليست على مذهب السلف في العقيدة. (¬1) فائز بن يوشع بن عبد الله آل رحمة (¬2) (1215 هـ تقريبا) الشيخ فائز بن يوشع بن عبد الله بن محمد بن حسين آل رحمة الناصري التميمي. ولد في بلدة الغاط، وذلك في حدود سنة عشر ومائة وألف للهجرة، ثم انتقلت أسرته إلى بلدة الفرعة من بلدان الوشم. عاصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب، واستجاب لدعوته. لم يل منصبا لتعففه وإقباله على العلم. ¬

(¬1) علماء نجد (6/ 313). (¬2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/ 356 - 357).

• موقفه من المبتدعة:

توفي رحمه الله سنة خمس عشرة ومائتين وألف للهجرة تقريبا، وقد تجاوز المائة من عمره. • موقفه من المبتدعة: - جاء في علماء نجد: ولما أخذت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب تمتد، ووصلت إلى الوشم، وحاصر الإمام عبد العزيز بن محمد الفرعة عام 1175هـ، وكان الشيخ فائز من الذين استجابوا للدعوة، بينما امتنعت بلدته، فانتقل إلى بلدة شقراء، وأخذ يدعو جماعته إلى الطاعة والانقياد للدعوة، إلا أنهم بقيادة أميرهم منصور بن حمد آل فائز رفضوا ذلك. ولكن بفضل من الله تعالى، ثم بإلحاح من هذا الداعية الحكيم الرشيد الشيخ فائز، هداهم الله تعالى، فكونوا وفدا، ووفدوا على الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الدرعية، فبايعوا على السمع والطاعة والمتابعة. (¬1) موقف السلف من محمد بن عبد الله بن محمد بن فيروز (1216 هـ) عداؤه للدعوة السلفية: هذا الرجل النجدي الأصل وأتباعه من الذين قاوموا وحاربوا دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية، فتصدوا لها بكل الوسائل، من تحريض السلاطين وتأليف القصائد والرسائل. ¬

(¬1) علماء نجد (5/ 356 - 357).

- جاء في علماء نجد: وقال قصيدة يذم فيها أهل نجد والدعوة السلفية ومطلعها: سلام فراق لا سلام تحية ... على ساكني نجد وأرض اليمامة إلى أن قال: ومن أين هذا العلم جاء إليكم ... أمن أرض نجد أم من رأس خيمتي فرد عليها الشريف الشيخ عبد الله بن محمود من أهل نجد وقد جاء إلى الشارقة في حدود عام 1318هـ بقصيدة مطلعها: سلام ثقيل قد أتى بالمسرة ... علينا من نفحات رب البرية إلى أن قال: على قدم لاعظم الله أمرها ... سعت يومها جاءت لمحو الشريعة (¬1) - وقال محرضا لباشا بغداد عندما أراد الإغارة على نجد أولها: أنامل كف السعد قد أثبتت خطا ... بأقلام أحكام لنا حررت ضبطا فنقضها عليه الشيخ حسين بن غنام الأحسائي بقصيدة قال فيها: على وجهها الموسوم بالشؤم قد خطا ... عروس هوى ممقوتة زارت الشطا تخطت فأخطت في المساعي مَرامَها ... ومرسلها عن نيل مقصودها أخطا وثارت لنار الشرك تُذْكي ضِرامَها ... وسارت فبارت والإله لها قطا لقد شوهت ما زخرفته بزورها ... كما أنها بالْمَيْن قد أحكمت ربطا لقد جاء منشيها بزور ومنكر ... وفحش وبهتان يَغُطُّ به غَطَّا ¬

(¬1) (6/ 244).

عبد العزيز بن محمد بن سعود (1218 هـ)

وحاد به داعي العناد لِمَهْيَعٍ ... تنكب عن سبل الهداية واشتطا عبد العزيز بن محمد بن سعود (¬1) (1218 هـ) الخليفة الراشد والإمام المجاهد عبد العزيز بن محمد بن سعود، ولد سنة اثنتين أو ثلاث وثلاثين بعد المائة والألف للهجرة. تولى بعد وفاة أبيه محمد ابن سعود سنة تسع وسبعين ومائة وألف للهجرة، فأسقط جميع المظالم والمغارم، وارتفع عمود الحق، وأقبلت الدنيا على رعيته، وسارت بفتوحه الركبان، وطارت قلوب أهل الضلال فزعا. وكان رحمه الله مغوارا شديد البأس، لا يمل الحروب، يباشرها بنفسه ولا يخاف في الله لومة لائم. قال الشيخ محمد بن أحمد الحفظي اليمني: وقام فاروق الزمان المؤتمن ... عبد العزيز من ومن ومن فسار في الناس كسيرة الأشج ... ودوخ البر وخاض للثبج يسوس بالآثار والقرآن ... على طريق العدل والإحسان يدعو إلى الله بحزب غالب ... مجاهد بالأربع المراتب ونفسه لله والنفيس ... والصدق للقلوب مغناطيس وقال الشيخ حسين بن غنام: كان الإمام عبد العزيز رحمه الله كثير الخوف من الله والذكر له، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، كثير الرأفة والرحمة بالرعية. ¬

(¬1) الأعلام (4/ 27) روضة ابن غنام (1/ 125) والتاج المكلل (ص.301 - 304) والدرر السنية (12/ 30 - 36).

• موقفه من المشركين:

قتله رافضي من أهل العمادية في جامع الدرعية سنة ثمان عشرة بعد المائتين والألف رحمه الله تعالى. • موقفه من المشركين: تربى منذ ولادته إلى إمارته تحت رعاية سلفية؛ أب سلفي، وأم سلفية صالحة، وأستاذ ومعلم أحيى الله به الأرض بعد موتها. فكان نتيجة ذلك كله إماما عالما سلفيا، يطمح لنشر هذه العقيدة المباركة في أرجاء المعمورة. لقد ذكر من أرخ لهذا الإمام ونقل عنه رسائل متعددة أرسلها إلى مجموعة من القرى والبلدان، يبين لهم فيها العقيدة السلفية والحالة المحزنة التي هم عليها من الشرك والخرافات. ومن أهم هذه الرسائل رسالة أرسلها إلى الحرمين ومصر والشام ... ونذكر نموذجا من رسائله كشاهد، ومن شاء التقصي فعليه بتواريخ نجد والدرر السنية. - رسالة أرسلها إلى أهل المخلاف السليماني مع الشيخ أحمد الفلقي، الذي زار الدرعية وتعلم العقيدة السلفية، فطلب من الأمير أن يبعثه داعية إلى أهل المخلاف، فاستجاب له، وكتب معه الرسالة الآتية: بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد العزيز بن سعود إلى من يراه من أهل المخلاف السليماني، خصوصا الأمراء أبناء حمد بن أحمد، وحمود وناصر ويحيى وسائر إخوانهم وآل النعمي وكافة أهل تهامة، وفقنا الله وإياهم إلى سبيل الحق والهداية، وجنبنا وإياهم طريق الشرك والغواية، وأرشدنا وإياهم إلى اقتفاء آثار أهل العناية، أما بعد، فالموجب لهذه الرسالة أن أحمد بن حسين الفلقي قدم إلينا،

فرأى ما نحن عليه وتحقق صحة ذلك، فالتمس منا أن نكتب لكم ما يزول به الاشتباه، لتعرفوا دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه. فاعلموا رحمكم الله، أن الله سبحانه وتعالى أرسل محمدا - صلى الله عليه وسلم - على فترة من الرسل بالدين الكامل، والشرع التام، وأعظم ذلك وأكبره وزبدته: إخلاص العبادة لله تعالى لا شريك له والنهي عن الشرك، وذلك هو الذي خلق الله الخلق لأجله ودل الكتاب على فضله كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (¬1). وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬2) وإخلاص الدين هو صرف جميع أنواع العبادة لله تعالى وحده لا شريك له، وذلك بأن لا يدعى إلا الله ولا يستغاث إلا بالله ولا يذبح إلا لله ولا يخشى إلا الله ولا يرجى سواه ولا يرهب ولا يرغب إلا في ما لديه، ولا يتوكل في جميع الأمور إلا عليه. وأن كل ما كان لله تعالى لا يصلح شيء منه لملك مقرب ولا لنبي مرسل، وهذا بعينه توحيد الألوهية الذي أسس الإسلام عليه، وانفرد به المسلم دون الكافر، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله. فلما من الله علينا بمعرفة ذلك وعلمنا أنه دين الرسل، اتبعناه ودعونا الناس إليه، وإلا فنحن كنا قبل ذلك على ما عليه غالب الناس من الشرك بالله من عبادة أهل القبور والاستغاثة بهم، والتقرب بالذبح لهم وطلب ¬

(¬1) النحل الآية (36). (¬2) البينة الآية (5).

الحاجات منهم، مع ما ينضم إلى ذلك من فعل الفواحش والمنكرات وارتكاب المحرمات وترك الصلوات وترك شعائر الإسلام، حتى أظهر الله الحق بعد خفائه، وأحيا أثره بعد اندثاره على يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب أحسن الله له في آخرته المآب. فأبرز لنا جهة الحق ووجهة الصواب من كتاب الله المجيد، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. فبين لنا أن الذي نحن عليه وهو دين غالب الناس من الاعتقاد في الصالحين وغيرهم ودعوتهم والتقرب إليهم والنذر لهم والاستغاثة بهم في الشدائد وطلب الحاجات منهم، أنه الشرك الأكبر الذي نهى الله عنه، وتهدد بالوعيد الشديد عليه، وأخبر في كتابه أنه لا يغفره إلا بالتوبة منه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬1). وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (¬2) وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)} (¬3) فحين كشف الله لنا الإسلام، وعرفنا ما نحن عليه من الشرك والكفر بالنصوص القاطعة والأدلة الساطعة من كتاب الله وسنة رسوله وكلام أئمة الأعلام، ¬

(¬1) النساء الآية (48). (¬2) المائدة الآية (72). (¬3) فاطر الآيتان (13 و14) ..

الذين أجمعت الأمة على درايتهم، عرفنا ما نحن عليه، وما كنا ندين به أولا أنه الشرك الأكبر، الذي نهى الله عنه وحذر، وأن الله أول ما أخبرنا به أن ندعوه وحده، وذلك كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)} (¬1). وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دعائهم غَافِلُونَ (5)} (¬2) إذا عرفتم هذا فاعلموا رحمكم الله أن الدين الذي ندين لله تعالى به، هو إخلاص العبادة لله وحده ونفي الشرك، وإقامة الصلاة جماعة وغير ذلك من أركان الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولا يخفى على ذوي البصائر والأفهام والمتدبرين من الأنام، أن هذا هو الدين الذي جاءنا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (¬3). وقال تعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬4). فمن قبل هذا ولزم العمل به، فهو حظه في الدنيا والآخرة، ونعم الحظ دين الإسلام، ومن أبى غير ذلك واستكبر فلم يقبل هدى الله لما تبين له نوره وسناه، نهيناه عن ذلك وقاتلناه، قال ¬

(¬1) الجن الآية (18). (¬2) الأحقاف الآية (5). (¬3) آل عمران الآية (85). (¬4) المائدة الآية (3).

تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (¬1). وقصدنا بهذه، النصيحة إليكم والقيام بواجب الدعوة، قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} (¬2) وصلى الله على محمد. وصل الفلقي بالكتاب وكان يحمل معه مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وبعد ذلك استوطن أسفل وادي بيش عند قبائل الجعافرة وقام بالوعظ والإرشاد، فالتف الناس حوله واجتمعت القلوب عليه وفشت الدعوة بين المجاورين لتلك القبيلة. (¬3) التعليق: لله درك من أمير أجدت وأفدت. بينت لنا البيان الكافي. صورت الحالة التي كانت تعيشها نجد خاصة والعالم الإسلامي عامة. أسندت الفضل لأهله ولم تدعه لنفسك، يشهد الله أنك ذكرتنا منهاج الصحابة رضوان الله عليهم، في دعوتهم وتواضعهم أمام الناس وبيانهم لدعوتهم السلفية. وذكرتنا حادثتك على يد الأشقى الرافضي قتله الله بحادث عمر مع المجوسي، فتلك كانت مع مجوسي القرن الأول، وهذه مع مجوسي القرن الثالث عشر. فرحمة الله عليك الرحمة الواسعة. ¬

(¬1) الأنفال الآية (39). (¬2) يوسف الآية (108). (¬3) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 146 - 148) بتصرف.

صالح بن محمد الفلاني (1218 هـ)

صالح بن محمد الفُلاَّنِي (¬1) (1218 هـ) الإمام الأثري الشيخ صالح بن محمد بن نوح بن عبد الله بن عمر العمري، المالكي، المشهور بالفلاني. و"فلان أو فلانة" نسبة إلى قبيلة بالسودان. ولد سنة ست وستين ومائة وألف من الهجرة في بلد أسلافه (نُس) من إقليم (فوت جلوا)، ونشأ بها. طلب العلم وعمره إذ ذاك نحو اثني عشر عاما، فرحل إلى مراكش، وتونس، ومصر، والحجاز، آخذا عن علمائها وأعلامها كالشيخ أبي عبد الله محمد بن سنة الفلاني وأبي الحسن علي الصعيدي والسيد مرتضى الزبيدي وغيرهم. قال تلميذه عبد الرحمن بن أحمد الشنقيطي: شيخنا الفقيه المحدث النحوي البياني، العالم بجميع فنون المعقول والمنقول. وقال الشيخ عابد السندي: الإمام الذي لا يجارى، والفهامة الذي لا يمارى، ملحق الأصاغر بالأكابر. وذكره محدث الشام الوجيه الكزبري فقال: ومن سادات أشياخي الشيخ الإمام العلامة المتفنن الهمام المشهور بالإسناد العالي، ذو الذهن الوقاد المتلالي، علم الدين الشيخ صالح بن محمد الفلاني. توفي رحمه الله سنة ثماني عشرة بعد المائتين والألف. موقفه من المبتدعة: - له من الآثار السلفية: 'إيقاظ همم أولي الأبصار للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار وتحذيرهم ¬

(¬1) الأعلام (3/ 195) ومعجم المؤلفين (5/ 12) وهدية العارفين (1/ 424 - 425) وفهرس الفهارس (2/ 901 - 906) وأبجد العلوم (3/ 139 - 140).

إبراهيم بن عبد القادر (1223 هـ)

عن الابتداع الشائع في القرى والأمصار من تقليد المذاهب مع الحمية والعصبية بين فقهاء الأعصار' والكتاب مطبوع متداول، وهو من خيرة الكتب في الرد على المقلدة. وعنوانه دال على ذلك. - قال في مقدمته: حمدا لمن جعل أهل الحديث حراس الدين وصرف عنهم كيد المعاندين، وشكرا لمن ألهمهم التمسك بالشرع المبين، وهداهم لاقتفاء آثار الصحابة والتابعين، وصلاة وسلاما على من ببعثته كل منكر متروك وموضوع، وكل معروف موصول غير مقطوع ولا ممنوع، المنزل عليه أحسن الحديث والمبجل بين الورى في القديم والحديث، ورحمة موصولة بطرائق الإكرام من الملك العلام، مكفولة لأنصار السنة المطهرة وحماتها وإبطال الكفاح عنها وكماتها الرامين بشبه التحقيق الثاقبة شبهة التحريف والانتحال، المحرقين بصواعق الحجج البالغة بدع أهل الزيغ والضلال، الذين جعلهم الله أركان الشريعة، وهدم بهم كل بدعة شنيعة. (¬1) إبراهيم بن عبد القادر (¬2) (1223 هـ) العلامة الحافظ إبراهيم بن عبد القادر بن أحمد صارم الدين الكوكباني الأصل الصنعاني المولد والوفاة. مولده بصنعاء في ثامن عشر رمضان سنة تسع وستين ومائة وألف ونشأ بكوكبان، وتخرج بوالده في عدة علوم وما زال مكبا على القراءة، ثم انتقل مع والده إلى صنعاء وعكف على التدريس ¬

(¬1) إيقاظ الهمم (ص.2). (¬2) البدر الطالع (1/ 17 - 18) ونيل الوطر لزبارة (1/ 61 - 67) والأعلام (1/ 48).

موقفه من المبتدعة:

بها. أخذ عنه عدة مشايخ منهم إبراهيم الحوتي والقاضي عبد الرحمن البهكلي التهامي، والوزير الحسن بن علي حنش. له مؤلفات منها: 'فتح المنان في بيان حكم الختان' و'إنباه الأنباه في حكم الطلاق المعلق بإن شاء الله' و'فتح المتعال بجوابات صاحب رجال'. قال عنه الشوكاني: وبعد موت والده، قصده الطلبة إلى منزله وقرأوا عليه في فنون متعددة، وله رسائل ومسائل مفيدة، مع تواضع وحسن أخلاق وكرم وعفاف وشهامة نفس، وصلابة دين، وحسن محاضرة، وقوة عارضة وفصاحة ورجاحة وقدرة على النظم والنثر. توفي رحمه الله تعالى بصنعاء في يوم الأربعاء سنة ثالث عشر رمضان سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف. موقفه من المبتدعة: - قال عنه الشوكاني في 'البدر الطالع': والمترجم له عافاه الله لا يتقيد بمذهب ولا يقلد في شيء من أمور دينه، بل يعمل بنصوص الكتاب والسنة ويجتهد رأيه وهو أهل لذلك. (¬1) حمد بن ناصر (¬2) (1225 هـ) الشيخ العلامة الفقيه حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر النجدي. ولد في العيينة موطن أسرته عام ستين ومائة وألف من الهجرة وقت إمارة جده ¬

(¬1) البدر الطالع (1/ 18). (¬2) علماء نجد (1/ 239 - 243) والأعلام (2/ 273 - 274).

موقفه من المبتدعة:

عثمان بن حمد على العيينة، وبها نشأ، وانتقل إلى الدرعية. ولازم شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وأخذ عنه وعن غيره من العلماء، كالشيخ سليمان بن عبد الوهاب والشيخ حسين بن غنام والشيخ حمد بن مانع وغيرهم. عينه الإمام سعود في قضاء الدرعية، ثم رئيسا لقضاة مكة المكرمة. تصدى للتدريس والقضاء والإفتاء، فصار مرجعا لطلاب العلم، تضرب إليه أكباد الإبل، فتخرج على يديه علماء أجلاء كالشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ وابنه الشيخ عبد العزيز بن حمد والشيخ إبراهيم بن سيف الدوسري والشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين وغيرهم كثير. وكان رحمه الله نظارا شجاعا، لا يخاف في الله لومة لائم. مكث في القضاء حتى توفي سنة خمس وعشرين بعد المائتين والألف، وصلى عليه الإمام سعود في البياضية ودفن فيها رحمه الله. موقفه من المبتدعة: - جاء في تاريخ علماء نجد: ولما كان في سنة ألف ومائتين وإحدى عشرة هجرية، طلب الشريف غالب بن مساعد أمير مكة من الإمام عبد العزيز بن محمد آل سعود أن يبعث إليه عالما ليناظر علماء مكة المكرمة في شيء من أمور الدين، فبعث إليه الإمام عبد العزيز المترجم له الشيخ حمد بن ناصر على رأس ركب من العلماء، فلما وصلوا مكة أناخوا رواحلهم أمام قصر الشريف غالب. فاستقبلهم وأكرمهم وأنزلهم المنزل اللائق بهم. فلما فرغوا من عمرتهم واستراحوا من وعثاء السفر وعنائه، جمع الشريف بينهم وبين علماء الحرم الشريف من أرباب المذاهب الأربعة ما عدا المذهب

الحنبلي، والمقدم فيهم مفتي الأحناف الشيخ عبد الملك بن عبد المنعم القلعي، فصار بينهم وبين الشيخ حمد بن ناصر ورفاقه مناظرة عظيمة هامة عقد لها عدة مجالس بحضرة والي مكة الشريف غالب، وبمشهد كبير من أهل مكة. وذلك في شهر رجب من ذلك العام المذكور، فظهر عليهم الشيخ حمد بن ناصر بحجته وأسكتهم بأدلته وبراهينه، فسلموا له وأذعنوا لأقواله ودلائله (¬1). - وقال مؤلف تاريخ علماء نجد: حدثني وجيه الحجاز الشيخ السلفي محمد بن حسين بن عمر بن عبد الله نصيف قال: حدثني رجل ثقة من آل عطية من أهل جده عن أبيه قال: جمعنا في مسجد عكاشة حينما قدم حمد ابن ناصر بكتاب الصلح بين سعود وغالب، فصعد المنبر وخطب خطبة بليغة تدور حول تحقيق التوحيد وإخلاص العبادة ثم حذر من ترك الصلوات، وأمر بأدائها في المساجد، وعن شرب الدخان وعدم بيعه وتعاطيه بحال من الأحوال، كما أمر بهدم القباب التي على القبور، وأمر بالحضور إلى المساجد لسماع رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فامتثل الناس هذا كله، فصرت لا ترى الدخان، لا استعمالا ولا بيعا، وصارت المساجد تزدحم بالمصلين، وهدمت القباب التي على القبور وصار الناس يحضرون لسماع الدرس. (¬2) التعليق: ما تقدم يدل على: 1 - إخلاص هذا الشيخ لعقيدته السلفية وقوة علمه وذكائه رضي الله ¬

(¬1) (1/ 241 - 242). (¬2) (1/ 242 - 243).

حسين بن غنام (1225 هـ)

عنه. وأن الخرافيين دائما حججهم كبيت العنكبوت تذهب بأقل شيء، فكيف تثبت أمام نور السنة النبوية. 2 - ما كان عليه الناس من اقتداء بالعلماء في ذلك الزمان، فلو قام عالم الآن بمثل ما قام به الشيخ حمد، لا أظن الناس يمتثلون بهذه السرعة التي تحققت للشيخ. وهذا إن دل على شيء فهو يدل على إخلاصهم. - وله من الآثار: 'الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب'. وهو مطبوع. حسين بن غنام (¬1) (1225 هـ) الشيخ حسين بن أبي بكر آل غنام، من قبيلة بني تميم. ولد في بلدة المبرز، ونشأ في الأحساء، وقرأ على علمائها وأعلامها، ثم انتقل إلى الدرعية، فاتصل بالشيخ محمد بن عبد الوهاب، فدرس عليه وعلى أبنائه، حتى أدرك وصار في عداد علماء عصره. قال ابن بشر: كانت له اليد الطولى في العلم ومتونه، وله معرفة في الشعر والنثر، وصنف المصنفات. ألف تاريخ نجد المسمى بـ'روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام' وهو عبارة عن تاريخ الدعوة السلفية وأعلامها. توفي رحمه الله في شهر ذي الحجة سنة خمس وعشرين ومائتين وألف من الهجرة. ¬

(¬1) الأعلام (2/ 251) ومعجم المؤلفين (3/ 317) وهدية العارفين (1/ 328) وعلماء نجد خلال ثمانية قرون (2/ 56 - 58).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: كان من خيرة تلامذة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وأفضل من جمع أخبار الشيخ في كتابه: روضة الأفكار. وله في العقيدة السلفية: 'العقد الثمين في شرح أصول الدين' ويوجد مخطوطا في المكتبة السعودية بالرياض. وقد سجل رسالة علمية في جامعة الإمام. وله مواقف طيبة: - منها قوله: ومعنى ظهور الإسلام غريبا أن الخلق -قبل مبعثه - صلى الله عليه وسلم - كانوا على ضلالة، فدعا إلى الإسلام فلم يستجب له إلا الواحد بعد الواحد من كل قبيلة. وكان المستجيب له خائفا من عشيرته وقبيلته يؤذى ويشرد ويعذب ويقتل، فيهربون إلى البلاد النائية كالحبشة، ثم إلى المدينة بعد الهجرة. فصار الداخلون في الإسلام قبل الهجرة غرباء. ثم أتم الله تعالى نعمته على المسلمين، وأكمل لهم دينهم، فلما قبض سيد المرسلين استمروا على الاستقامة والتعاضد والنصرة في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، حتى أعمل الشيطان مكايده على المسلمين، وألقى بأسهم بينهم، وأفشى فيهم فتنة الشهوات والشبهات، فأضل أكثر المسلمين بهما معا أو بإحداهما. فكان ذلك كما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي صحيح البخاري: عن عمرو بن عوف، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت

على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم» (¬1). وفي صحيح مسلم: عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كيف أنتم إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم؟ أي قوم أنتم؟» قال عبد الرحمن ابن عوف: نقول كما أمر الله تعالى. قال: «أو غير ذلك؛ تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون» (¬2). وفي الصحيحين من حديث عقبة بن عامر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معناه أيضا. (¬3) ولما فتحت كنوز كسرى على عمر بن الخطاب رضي الله عنه بكى وقال: (إن هذا لم يفتح على قوم قط إلا جعل بأسهم بينهم) أو كما قال. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخشى على أمته هاتين الفتنتين، كما في مسند الإمام أحمد، عن أبي برزة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الفتن». وفي رواية: «ومضلات الهوى» (¬4). فلما عمت فتنة الشهوات وأصبح هم الخلق منصرفا إلى الدنيا وزينتها، ارتكبوا المعاصي والكبائر، وأصبحوا متباغضين متدابرين، بعد أن كانوا ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (4/ 137) والبخاري (11/ 292 - 293/ 6425) ومسلم (4/ 2273 - 2274/ 2961) والترمذي (4/ 552 - 553/ 2462) وابن ماجه (2/ 1324 - 1325/ 3997). (¬2) أخرجه مسلم (4/ 2274/2962) وابن ماجه (2/ 1324/3996). (¬3) ولفظ الحديث: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر فقال: «إني فرطكم، وأنا شهيد عليكم. وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض -أو مفاتيح الأرض- وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها». أخرجه: أحمد (4/ 149) والبخاري (11/ 293/6426) ومسلم (4/ 1795/2296) وأبو داود (3/ 551/3223) مختصرا دون ذكر محل الشاهد والنسائي (4/ 363/1953). (¬4) أخرجه: أحمد (4/ 420و423) والبزار (الكشف (1/ 82/132)) والطبراني في الصغير (2/ 204/502) وذكره الهيثمي في المجمع (1/ 188) وقال: "رواه أحمد والبزار والطبراني في الثلاثة ورجاله رجال الصحيح".

إخوانا متناصرين. وأما فتنة الشبهات والأهواء المضلة، فسببها تفرق المسلمين، فصاروا شيعا وفرقا وأحزابا: يعمهون في الضلال، ويفتحون أبواب البدع والغي، فتحاسدوا وتباعدوا وتقاطعوا، بعد أن كانوا على قلب رجل واحد. ولم ينج منهم إلا الفرقة الناجية، وهم المذكورون في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» (¬1). وهم الغرباء المذكورون في هذه الأحاديث، الذين يصلحون إذا فسد الناس، ويصلحون ما أفسد الناس، وهم الذين يفرون بدينهم من الفتن، وهم النزاع من القبائل. وخرج الطبراني من حديث ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أشراط الساعة قال: «وإن من أشراطها أن يكون المؤمن في القبيلة أقل من النقد» (¬2). أي صغار الغنم. وفي مسند الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت أنه قال لرجل من أصحابه: «يوشك إن طالت بكم حياة أن ترى الرجل قد قرأ القرآن على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -، فأعاده وأبدأه، فأحل حلاله، وحرم حرامه، ونزل عند منازله، ما يجوز فيكم إلا كما يجوز رأس الحمار». ¬

(¬1) انظر تخريجه في مواقف عبد الله بن المبارك سنة (181هـ). (¬2) أخرجه الطبراني في الأوسط (5/ 440 - 442/ 4858) وقال الهيثمي في المجمع (7/ 322 - 323) رواه الطبراني في الأوسط والكبير وفيه يوسف بن مسكين وهو ضعيف.

ومنه قول ابن مسعود رضي الله عنه: (سيأتي على الناس زمان يكون المؤمن فيه أذل من الأمة). وإنما ذل المؤمن في آخر الزمان لغربته بين أهل الفساد والضلال، ومباينته لهم في قصدهم، ومخالفته طريقهم. قال أحمد بن أبي عاصم -وكان من كبار العارفين في زمن أبي سليمان الداراني-: إني أدركت من الأزمنة زمانا عاد فيه الإسلام غريبا، وعاد وصف الحق غريبا كما بدأ، إن ترغب فيه إلى عالم وجدته مفتونا بحب الدنيا يحب التعظيم والرياسة، وإن ترغب فيه إلى عابد وجدته جاهلا في عبادته، مخدوعا، صريع عدوه إبليس، قد صعد به إلى أعلى درجات العبادة وهو جاهل بأدناها فكيف له بأعلاها .. إلى آخره. خرجه أبو نعيم في 'الحلية'. وخرج أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده إلى الحسن قال: لو أن رجلا من الصدر الأول بعث اليوم ما عرف من الإسلام شيئا إلا هذه الصلاة. ثم قال: أما والله لئن عاش على هذه المنكرات فرأى صاحب بدعة يدعو إلى بدعته، وصاحب دنيا يدعو إلى دنياه، فعصمه الله تعالى وقلبه يحن إلى ذكر السلف، فيتبع آثارهم ويستن بسنتهم ويتبع سبليهم؛ كان له أجر عظيم. ولقد مدح كثير من السلف السنة، ووصفها بالغربة، ووصف أهلها بالقلة، فكان الحسن رحمه الله تعالى يقول لأصحابه: يا أهل السنة ترفقوا رحمكم الله، فإنكم من أقل الناس. وقال يونس بن عبيد: ليس شيء أغرب من السنة، وأغرب منها من يعرفها. وعن سفيان الثوري قال: استوصوا بأهل السنة خيرا فإنهم غرباء.

التجاني وضلاله (1230 هـ)

والمراد بالسنة عند هؤلاء الأئمة طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي كان عليها هو وأصحابه، السالمة من الشبهات والشهوات، وهي التي ورد أن للمتمسك بها والعامل أجر خمسين ممن قبلهم، والمتمسك بدينه كالقابض على الجمر (¬1). ثم صارت السنة في عرف كثير من العلماء المتأخرين هي السالمة من الشبهات في الاعتقادات، خاصة في مسائل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكذلك في مسائل القدر وفضائل الصحابة. وصنفوا في هذا الباب تصانيف سموها 'كتب السنة'. وإنما خصوا هذا العلم باسم السنة لأن خطره عظيم، والمخالف فيه على شفا جرف. (¬2) التجاني وضلاله (1230 هـ) من قرأ هذه الطامات الكبرى العقدية يتعجب من حال القائل والمقول له، والكاتب والمكتوب له، والأمة التي تلقى فيها هذه العظائم والموبقات العقدية، فهل هي عاقلة ومستيقظة ومنتبهة، أم هي أمة حمقاء لا تميّز بين لون ولون، ولا بين ذات وذات، أو هي نائمة تعيش في أحلام لا حصر لها، أو هي مؤامرة كبرى على أهل الإسلام خطط لها اليهود والنصارى والمجوس وكلّ عدوّ لله ولرسوله ولكتابه ولسنته. ولله درّ الإمام البخاري رحمه الله إذ قال في كلام الجهمية: "نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس فما رأيت قوماً أضلّ في كفرهم من الجهمية، وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا ¬

(¬1) انظر تخريجه في مواقف علي بن المديني سنة (234هـ). (¬2) تاريخ نجد (1/ 28 - 31).

يعرف كفرهم" (¬1). وقال رحمه الله في خلق أفعال العباد: "ما أبالي صلّيت خلف الجهمي أو الرافضي أو صليت خلف اليهود والنصارى، ولا يسلم عليهم، ولا يعادون، ولا يناكحون، ولا يشهدون، ولا تؤكل ذبائحهم" (¬2). فكيف إذا رأى الإمام البخاري رحمه الله هذه الطامات؟ ماذا سيقول؟ وقد قيل: "شر البلايا ما يضحك! " فالسكوت على هذه العظائم يغني عن التعليق عليها، والله المستعان. وإليك هذه المصائب والطامات، وارجع إلى مصادرها لتقف على صفحاتها وأجزائها ولعلك تكون ممن ابتلي بالاعتذار لهؤلاء المنافقين الزنادقة الذين ملؤوا الأمة كفراً وضلالاً لمصلحة مادية أو رئاسة منشودة أو تمرير باطل تقصده، أو غير ذلك مما ابتلي به أهل الزندقة والإلحاد الذين فتحوا باب التأويل حتى أنكروا الحساب والمعاد، وجعلوا ذلك رموز خير وشر لا أقلّ ولا أكثر، واستباحوا المحرمات القطعية، وجعلوها مجرد حجب وحرمان لعموم الأمة، وأما خواصها فألذ ما يتمتع به الواحد منهم قريبته التي هي من صلبه، وأخته التي شاركته في رحم أمه، وأما أمه وجدته فالرجوع إلى الأصل أصل. وما عبد الإنسان إلا نفسه، فهنيئاً لعبّاد الأصنام، وهنيئاً لفرعون وهامان وقارون الذين كانوا على أكمل الإيمان، إلى آخر ما سطره أهل الوحدة والاتحاد. فرحم الله الإمام الذهبي إذ يقول في ترجمة ابن العربي الطائي: فوالله لأن ¬

(¬1) خلق أفعال العباد (ص.13) وشرح السنة للبغوي (1/ 228) والفتاوى الكبرى (5/ 47). (¬2) خلق أفعال العباد (ص.16).

يعيش المسلم جاهلا خلف البقر لا يعرف من العلم شيئا سوى سور من القرآن يصلي بها الصلوات ويؤمن بالله واليوم الآخر خير له بكثير من هذا العرفان وهذه الحقائق، ولو قرأ مائة كتاب أو عمل مائة خلوة. (¬1) - ادعاؤه إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - له في تلقين الخلق: "قال في جواهر المعاني: ... ثم رجع إلى قرية أبي سمغون وأقام بها واستوطن، وفيها وقع له الفتح، وأذن له - صلى الله عليه وسلم - في تلقين الخلق، وعين له الورد الذي يلقنه في سنة 1196هـ، وعين له - صلى الله عليه وسلم - الاستغفار والصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -، وهذا هو الورد في تلك المدة إلى رأس المائة، كمل الورد - صلى الله عليه وسلم - بكلمة الإخلاص ... ". (¬2) - زعمهم أن صلاة الفاتح وحي: "يقول صاحب الجواهر: صلاة الفاتح لما أغلق، لم تكن من تأليف البكري، ولكنه توجه إلى الله مدة طويلة أن يمنحه صلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها ثواب جميع الصلوات وسر جميع الصلوات ... فأتاه الملك بهذه الصلاة مكتوبة في صحيفة من النور". (¬3) - فضل صلاة الفاتح: "من ذلك قول التجاني: واعلم أن كل ما تذكره من الأذكار والصلوات على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأدعية، لو توجهت ¬

(¬1) ميزان الاعتدال (3/ 660). (¬2) 'التجانية' لعليّ بن محمد آل دخيل الله (ص.64). (¬3) 'تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي' لمحمد أحمد لوح (1/ 291).

بجميعها مائة ألف عام كل يوم تذكرها مائة ألف مرة، وجميع ثواب ذلك كله ما بلغ مرة واحدة من 'صلاة الفاتح لما أغلق' فإن كنت تريد نفع نفسك للآخرة فاشتغل بها على قدر جهدك، فإنها كنز الله الأعظم. وتحدث التجاني أيضاً عن فضل هذه الصلاة فقال: "كنت مشتغلاً بذكر صلاة الفاتح لما أغلق حين رجعت من الحج إلى تلمسان لما رأيت من فضلها وهو: أن المرة الواحدة منها بستمائة ألف صلاة ... إلى أن رحلت من تلمسان إلى أبي سمعون، فلما رأيت الصلاة التي فيها المرة الواحدة بسبعين ألف ختمة من 'دلائل الخيرات' تركت 'الفاتح لما أغلق' واشتغلت بها ... ثم أمرني صلى الله عليه وآله وسلم بالرجوع إلى صلاة الفاتح لما أغلق ... فأخبرني أولاً بأن المرة منها تعدل من القرآن ست مرات، ثم أخبرني ثانياً أن المرة الواحدة منها تعدل من كل تسبيح وقع في الكون ومن كل ذكر ومن كل دعاء كبير أو صغير ومن القرآن ستة آلاف مرة. وقال أيضاً: من صلى بها -أي: بالفاتح لما أغلق- مرة واحدة حصل له ثواب ما إذا صلى بكل صلاة وقعت في العالم من كل جن وإنس وملك ستمائة ألف صلاة، من أول العالم إلى وقت تلفظ الذاكر بها. وقال أيضاً: فلو قدرت مائة ألف أمة في كل أمة مائة ألف قبيلة في كل قبيلة مائة ألف رجل وعاش كل واحد منهم مائة ألف عام يذكر كل واحد منهم كل يوم ألف صلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير صلاة الفاتح لما أغلق، وجميع ثواب هذه الأمم كلها في مدة هذه السنين كلها في

هذه الأذكار كلها ما لحقوا كلهم ثواب مرة واحدة من صلاة الفاتح". (¬1) "ولما سئل التجاني عن تفضيله لورده على القرآن أجاب عن هذه المعارضة قائلاً: لا معارضة بين هذا وبين ما ورد من فضل القرآن والكلمة الشريفة؛ لأن فضل القرآن والكلمة الشريفة عام أريد به العموم وهذا خاص، ولا معارضة بينهما؛ لأنه كان - صلى الله عليه وسلم - يلقي الأحكام للعامة في حياته، يعني إذا حرم شيئاً حرمه على الجميع وإذا افترض شيئاً افترضه على الجميع، وهكذا سائر الأحكام الشرعية الظاهرة، ومع ذلك كان - صلى الله عليه وسلم - يلقي الأحكام الخاصة للخاصة .. فلما انتقل إلى الدار الآخرة -وهو كحياته - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا سواء- صار يوحي إلى أمته الأمر الخاص للخاص، ولا مدخل للأمر العام؛ فإنه انقطع بموته - صلى الله عليه وسلم - ... إلخ". (¬2) - جوهرة الكمال من إملاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يقول الشيخ الرباطي: وأما جوهرة الكمال فهي من إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لسيدنا الشيخ ... يقظة لا مناماً". (¬3) - فضائلها وأحكامها: "من فضائلها: 1 - أن المرة الواحدة منها تعدل تسبيح العالم ثلاث مرات. 2 - أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء الأربعة يحضرون مع ¬

(¬1) تقديس الأشخاص (1/ 292 - 293). (¬2) التجانية (ص.113). (¬3) تقديس الأشخاص (1/ 296).

الذاكر عند السابعة منها، ولا يفارقونه حتى يفرغ من ذكرها. 3 - أن من قرأها اثنتي عشرة مرة وقال: هذه هدية مني إليك يا رسول الله فكأنما زار النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأولياء والصالحين من أول الوجود إلى وقته. 4 - أن من نزلت به شدة أو ضيق وقرأها خمساً وستين مرة فرج الله عنه في الحين. 5 - إذا داوم على ذكرها صار وليّاً من أولياء الله. وفي بعض هذه الفضائل يقول صاحب 'منية المريد': ومن تلا جوهرة الكمال ... سبعاً يكون سيد الأرسال والخلفاء الراشدون الأربعة ... ما دام ذاكراً لها بعد معه وذاك بالأرواح والذوات ... وليس للمنكر من نجاة من أحكامها: 1 - أن لا تقرأ إلا بالطهارة المائية. 2 - إذا لم يكن الذاكر متوضئاً يبدلها بعشرين من صلاة الفاتح لما أغلق ولا تقرأ بالتيمم في الوظيفة ولا خارجها. 3 - يجوز للمسافر أن يقرأ أوراده على ظهر الدابة فإذا وصل إلى جوهرة الكمال نزل عن الدابة وذكر ماشياً فإذا وصل إلى السابعة جلس حتى يتمّ الوظيفة إلا لضرورة فادحة فإنه يذكرها ماشياً على رجليه، بشرط أن لا يطأ نجاسة. 4 - يستحب لذاكر الجوهرة نشر ثوب طاهر محقق الطهارة وإن كانت

البقعة طاهرة حكماً. وفي المنية: ونشرنا للثوب ليس يجب ... على الذي يذكرها بل يندب وشيخنا فعل ذا بمحضره ... فدع مقالة جهول منكره" (¬1) - الهيللة: "يقول الشيخ التجاني -مثلاً-: من الأوراد اللازمة للطريقة ذكر الهيللة بعد صلاة العصر يوم الجمعة مع الجماعة، وإن كان له إخوان في البلد فلا بد من جمعهم وذكرهم جماعة، وهذا شرط في الطريقة". (¬2) - قول التجاني بوحدة الوجود: "قال في جواهر المعاني: ... وإبطال ما قاله أهل الظاهر من إحالة الوحدة وبطلان ما ألزموه لِمن قال بها، قال رضي الله عنه: بيانها من وجهين: الوجه الأول: أن العالم الكبير كذات الإنسان في التمثيل، فإنك إذا نظرت إليها وجدتها متحدة مع اختلاف ما تركبت منه في الصورة والخاصية من شعر وجلد ولحم وعظم وعصب ومخ، وكذلك اختلاف جوارحه وطبائعه التي ركبت فيه وبها قيام بنيانه. فإذا فهمت هذا ظهر لك بطلان ما ألزموه من نفي الوحدة؛ لاستلزام تساوي الشريف والوضيع واجتماع المتنافيين والضدين إلى آخر ما قالوه. قلنا: لا يلزم ما ذكره هنا؛ لأنه وإن ¬

(¬1) تقديس الأشخاص (1/ 296 - 297). (¬2) تقديس الأشخاص (1/ 336).

كانت الخواص متباعدة فالأصل الجامع لهذا ذات واحدة كذات الإنسان سواء بسواء. الوجه الثاني: اتحاد ذات العالم في كونه مخلوقاً كله للخالق الواحد سبحانه وتعالى وأثراً لأسمائه، فلا يخرج فرد من أفراد العالم عن هذا الحكم وإن اختلفت أنواعه، فالأصل الذي برز منه واحد. فبهذا النظر هو متساوٍ فيلزم اتحاده وإن اختلفت أجزاؤه، كما ذكر في ذات الإنسان وأنها تختلف نسبه بحسب ما فصلته مشيئة الحق فيه من بين شريف ووضيع، وعالٍ وسافل، وذليل وعزيز، وعظيم الشأن وحقيره، إلى آخر النسب فيه، ولم تخرجه تفرقة النسب عن وحدة ذاتيته، كما أن ذات الإنسان واحدة، ووحدتها لا تنافي اختلاف نسب أجزائها واختصاص كل جزء بخاصية، فإن خاصية اليد غير خاصية الرجل، وخاصيتها غير خاصية العين، وهكذا سائر خواص الأعضاء والأجزاء، وإن ارتفاع وجهه في غاية الشرف، وانخفاض محله في غاية الضعة والإهانة، ولم يخرجه عن كون ذاته واحدة مع اختلاف الخواص مثل ما قلنا في ذات الإنسان .. ثم قال رضي الله عنه: وهناك وجه ثالث في إيضاحه وهو اتحاد وجوده من حيث فيضان الوجود عليه من حضرة الحق فيضاً متحداً، ثم مثاله في الشاهد مثال المداد، فإن الحروف المتفرقة في المداد والكلمات المتنوعة والمعاني المختلفة التي دلت عليها صوره لم تخرجه عن وحدة مداديته، فإنه ما ثم إلا المداد تصور في أشكاله الدالة على المعاني المختلفة والحروف المتفرقة والخواص المتنوعة غير المؤتلفة ولا المتماثلة، فإنك إذا نظرت إلى عين تلك الصور التي

اختلفت حروفها وكلماتها لم تر إلا المداد تجلى في أشكالها بما هو عين المداد فتتحد بالمدادية وتختلف بالصور والأشكال والكلمات والمعاني، فكما أن المداد في تلك الحروف عين تلك الحروف، والحروف في ذلك المداد عين ذلك المداد، وهي مختلفة الأشكال والأسرار والخواصّ والمعاني، كذلك نهاية الوجود في ذوات الوجود عين تلك الذوات، وتلك الذوات في ذلك الوجود عين ذلك الوجود، لم تخرجها عن اختلاف أشكالها وأسرارها ومعانيها وخواصها، ولا افتراقها في هذه الأمور لم يخرجها عن اتحادها في ذلك المداد. ثم قال قدس الله سره العزيز: وقد اتضح الحق لمن فهم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل". (¬1) - معنى الشيخ الواصل عندهم: "قال في جواهر المعاني: اعلم أن سيدنا رضي الله عنه سئل عن حقيقة الشيخ الواصل ما هو؟ فأجاب رضي الله عنه بقوله: وأما ما هو حقيقة الشيخ الواصل، فهو الذي رفعت له جميع الحجب عن كمال النظر إلى الحضرة الإلهية نظراً عينياً وتحقيقاً يقينياً، فإن الأمر أوله محاضرة وهو مطالعة الحقائق من وراء ستر كثيف، ثم مكاشفة وهو مطالعة الحقائق من وراء ستر رقيق، ثم مشاهدة وهو تجلي الحقائق بلا حجاب ولكن مع خصوصية، ثم معاينة وهو مطالعة الحقائق بلا حجاب ولا خصوصية ولا بقاء للغير والغيرية عيناً وأثراً، وهو مقام السحق والمحق والدك وفناء الفناء، فليس هذا إلا معاينة الحق في الحق للحق بالحق. ¬

(¬1) التجانية (ص.91).

فلم يبق إلا الله لا شيء غيره ... فلا ثَمَّ موصول ولا ثَمَّ واصل" (¬1) - من كمالات الشيخ التجاني: "قال في الجواهر: .. ومن كماله رضي الله عنه نفوذ بصيرته الربانية وفراسته النوارنية التي ظهر مقتضاها في معرفة أحوال الأصحاب، وفي غيرها من إظهار مضمرات، وإخبار بمغيبات، وعلم بعواقب الحاجات، وما يترتب عليها من المصالح والآفات، وغير ذلك من الأمور الواقعات". (¬2) - ادعاؤه رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - وتلقيه عنه وسؤاله عن نسبه وعن روايات الحديث: "قال في جواهر المعاني: قال رضي الله عنه: أخبرني سيد الوجود يقظة لا مناماً قال لي: أنت من الآمنين، ومن رآك من الآمنين إن مات على الإيمان .. إلخ". (¬3) "قال مؤلف جواهر المعاني عن الصلاة المسماة بياقوتة الحقائق: هي من إملاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لفظه الشريف على شيخنا يقظة لا مناماً". (¬4) "وقال أيضاً: .. سأل سيد الوجود، وعلم الشهود - صلى الله عليه وسلم - في كل نفس مشهود، عن نسبه وهل هو من الأبناء والأولاد، أو من الآل والأحفاد؟ فأجابه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: 'أنت ولدي حقاً' كررها ثلاثاً - صلى الله عليه وسلم -، وقال: نسبك إلى الحسن بن علي صحيح، وهذا السؤال من سيدنا رضي الله عنه لسيد الوجود ¬

(¬1) التجانية (ص.97). (¬2) التجانية (ص.103). (¬3) التجانية (ص.121). (¬4) التجانية (ص.136).

يقظة لا مناماً، وبشره - صلى الله عليه وسلم - بأمور عظام جسام - صلى الله عليه وسلم - وشرّف وكرّم ومجّد وعظّم". (¬1) "وقال أيضاً فيما يرويه عن شيخه التجاني: قال: رأيته مرة - صلى الله عليه وسلم -، وسألته عن الحديث الوارد في سيدنا عيسى عليه السلام، قلت له: ورد عنك روايتان صحيحتان، واحدة قلت فيها يمكث بعد نزوله أربعين، وقلت في الأخرى سبعاً .. ما الصحيحة منها؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: رواية السبع". (¬2) - إخباره بالمغيبات: "قال في بغية المستفيد: وأما مكاشفته رضي الله عنه، بمعنى إخباره بالأمر قبل وقوعه فيقع وفق ما أخبر به، فلا يكاد ينحصر ما حدث به الثقات عنه رضي الله عنه .. ومن إخباره بالغيب عن طريق كشفه رضي الله عنه إخباره بأمور لم تقع إلا بعد وفاته إما بالتصريح أو بالتلويح". (¬3) - اتهامه النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتمان بعض الأمر ومن ذلك صلاة الفاتح: "قال مؤلف جواهر المعاني: وسألته رضي الله عنه: هل خبر سيد الوجود بعد موته كحياته سواء؟ فأجاب رضي الله عنه بما نصه: الأمر العام الذي كان يأتيه عاماً للأمة طوي بساط ذلك بموته - صلى الله عليه وسلم -، وبقي الأمر الخاص الذي كان يلقيه للخاص فإن ذلك في حياته وبعد مماته دائماً لا ينقطع". (¬4) ¬

(¬1) التجانية (ص.136). (¬2) التجانية (ص.137). (¬3) التجانية (ص.103). (¬4) التجانية (ص.141).

"وقال مؤلف الجيش الكفيل: وسئل: هل كان - صلى الله عليه وسلم - عالماً بفضل صلاة الفاتح لما أغلق؟ فقال: نعم، كان عالماً به. قالوا: ولِمَ لم يذكره لأصحابه؟ قال: لعلمه - صلى الله عليه وسلم - بتأخير وقته وعدم وجود من يظهره الله على يديه في ذلك الوقت". (¬1) - ادعاؤه بأن روحه تمد الأقطاب والعارفين والأولياء: "نقل مؤلف كتاب رماح حزب الرحيم عن التجاني قوله: إن روح النبي - صلى الله عليه وسلم - وروحي هكذا -وأشار بأصبعيه السبابة والتي تليها- فروحه تمد الأنبياء وروحي تمد الأقطاب والعارفين والأولياء". (¬2) - ادعاؤه تلقي الفيوض من ذوات الأنبياء وتفريقها على جميع الخلائق: "قال مؤلف بغية المستفيد: قال رضي الله عنه: إن الفيوض التي تفيض من ذات سيد الوجود - صلى الله عليه وسلم - تتلقاها ذوات الأنبياء، وكل ما فاض وبرز من ذوات الأنبياء تتلقاه ذاتي، ومني يتفرق على جميع الخلائق من نشأة العالم إلى النفخ في الصور .. وقال: لا يتلقى ولي فيضاً من الله تعالى إلا بوساطته رضي الله عنه من حيث لا يشعر به، ومدده الخاص به إنما يتلقاه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ". (¬3) - كلامه عن حقيقة الولاية: "قال مؤلف جواهر المعاني: .. وسألته رضي الله عنه عن حقيقة الولاية، فأجاب رضي الله عنه بما نصه، قال: الولاية خاصة وعامة، فالعامة: هي من ¬

(¬1) التجانية (ص.141). (¬2) التجانية (ص.164). (¬3) التجانية (ص.164 - 165).

آدم عليه السلام إلى عيسى عليه السلام، والخاصة: هي من سيد الوجود - صلى الله عليه وسلم - إلى الختم، والمراد بالخاصة هي من اتصف صاحبها بأخلاق الحق الثلاثمائة على الكمال ولم ينقص منها واحد، إن لله تعالى ثلاثمائة خلق من اتصف بواحد منها دخل الجنة، وهذا خاص بسيد الوجود - صلى الله عليه وسلم - ومن ورثه من أقطاب هذه الأمة الشريفة إلى الختم .. هكذا قال، ونسبه للحاتمي رضي الله عنه. ثم قال سيدنا رضي الله عنه: لا يلزم من هذه الخصوصية التي هي الاتصاف بالأخلاق على الكمال أن يكونوا كلهم أعلى من غيرهم في كل وجه، بل قد يكون من لم يتصف بها أعلى من غيره في المقام، وأظنه يشير إلى نفسه رضي الله عنه وبعض الأكابر، لأنه أخبره سيد الوجود - صلى الله عليه وسلم - بأن مقامه أعلى من جميع المقامات ... انتهى من إملائه علينا رضي الله عنه". (¬1) - ادعاؤه أنه الخاتم المحمدي: "قال مؤلف بغية المستفيد: فقد ثبت عنه من طريق الثقات الأثبات من ملازميه وخاصته، أنه أخبر تصريحاً على الوجه الذي لا يحتمل التأويل أن سيد الوجود أخبره يقظة بأنه هو الخاتم المحمدي المعروف عند جميع الأقطاب والصديقين، وبأن مقامه لا مقام فوقه في بساط المعرفة بالله". (¬2) " .. ومعنى كونه خاتماً لمنصب الولاية المحمدية ألا يظهر أحد في ذلك المنصب بمثل الظهور الذي ظهر به فيه، فهو خاتم لكمال الظهور في ذلك ¬

(¬1) التجانية (ص.175). (¬2) التجانية (ص.176).

المنصب لا لنفس الظهور". (¬1) - ضمانه الجنة بغير حساب ولا عقاب لأتباعه وذويهم ولو عملوا من الذنوب والمعاصي ما عملوا: "قال مؤلف الجواهر: اطلعت على ما رسمه وخطه، ونصه: .. أسأل من فضل سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يضمن لي دخول الجنة بلا حساب ولا عقاب في أول الزمرة الأولى، أنا وكل أب وأم ولدوني من أبوي إلى أول أب وأم لي في الإسلام من جهة أبي ومن جهة أمي، من كل ما تناسل منهم من وقتهم إلى أن يموت سيدنا عيسى بن مريم من جميع الذكور والإناث .. وكل من أحسن إليّ بإحسان حسي أو معنوي من مثقال ذرة فأكثر .. وكل من لم يعادني من جميع هؤلاء، أما من عاداني وأبغضني فلا، وكل من والاني واتخذني شيخاً أو أخذ عني ذكراً، وكل من خدمني أو قضى لي حاجة .. وآباؤهم وأمهاتهم وأولادهم وبناتهم وأزواجهم .. يضمن لي سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولجميع هؤلاء أن نموت وكل حي منهم على الإيمان والإسلام .. ثم قال: كل ما في هذا الكتاب ضمنته لك ضمانة لا تتخلف عنك وعنهم أبداً إلى أن تكون أنت وجميع من ذكرت في جواري في عليين، وضمنت لك جميع ما طلبته منا ضماناَ لا يخلف عليك الوعد فيها والسلام .. ثم قال: وكل هذا واقع يقظة لا مناماً". (¬2) "ونقل مؤلف كتاب رماح حزب الرحيم عن التجاني قوله: .. وليس ¬

(¬1) التجانية (ص.176). (¬2) التجانية (ص.196).

لأحد من الرجال أن يدخل كافة أصحابه الجنة بغير حساب ولا عقاب ولو عملوا من الذنوب ما عملوا وبلغوا من المعاصي ما بلغوا إلا أنا وحدي، ووراء ذلك ما ذكر لي فيهم وضمنه لهم - صلى الله عليه وسلم - أمر لا يحل ذكره ولا يرى ولا يعرف إلا في الآخرة". (¬1) "وقال مؤلف بغية المستفيد: إن من جملة ما ذكره سيدنا رضي الله عنه من فضل هذا الورد العظيم عن نبينا المصطفى الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم، أن كل من أخذه عن الشيخ أو عمن عنده الإذن الصحيح في التلقين، يكون مقامه ومستقره من فضل الله تعالى في أعلى عليين بجوار سيد المرسلين وإمام المتقين - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه أجمعين، ويغفر الله له تعالى بفضله من ذنوبه الكبائر والصغائر، وتؤدى عنه التبعات من خزائن الرب المجيد القادر، ولذلك كان آمناً من أن يروعه هول المحشر، أو يؤلمه ضنك القبر، وأزواجه وأولاده المنفصلون عنه دنية، وكذا أبواه داخلون معه في هذا الخير الجزيل، بشرط ألا يصدر بغض من الجميع في هذا الشيخ الجليل وجانبه الأعز المنيع". (¬2) "وقال في الجيش الكفيل بأخذ الثأر: وسألته - صلى الله عليه وسلم - لكل من أخذ عني ورداً أن تغفر لهم جميع ذنوبهم ما تقدم منها وما تأخر، وأن تودى عنهم تبعاتهم من خزائن فضل الله لا من حسناتهم، وأن يدفع الله عنهم محاسبته ... وأن يكونوا آمنين من عذاب الله من الموت إلى دخول الجنة بلا حساب ولا ¬

(¬1) التجانية (ص.196). (¬2) التجانية (ص.197).

عقاب في أول الزمرة الأولى، وأن يكونوا معي في عليين في جوار النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: ضمنت لك هذا ضماناً لا ينقطع حتى تجاورني أنت وهم في عليين". (¬1) - ضمانه الجنة لمن نظر إليه يوم الجمعة والاثنين ولمن رأى حلته: "ذكر مؤلف جواهر المعاني عن التجاني أنه قال: .. من حصل له النظر فينا يوم الجمعة أو الاثنين يدخل الجنة بغير حساب ولا عقاب، إن لم يصدر منه سب في جانبنا ولا بغض ولا إذاية، ومن حصل له النظر في هذين اليومين فهو من الآمنين إن مات على الإيمان، وإن سبق أنه يحصل له العذاب في الآخرة فلا يموت إلا كافراً فهذا ما يمكن إعلامكم به في هذا الوقت، وفي وقت آخر يفعل الله ما يشاء، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته". (¬2) "قال مؤلف كتاب رماح حزب الرحيم: .. رأيت شيخنا التجاني رضي الله عنه وأرضاه -وعنّا به- في واقعة من الوقائع وبيده حلة من نور وقال لي رضي الله عنه وأرضاه -وعنّا به-: من رأى هذه الحلة دخل الجنة. ثم ألبسني إياها رضي الله عنه". (¬3) "وقال مؤلف بغية المستفيد: وأما الكرامة الثالثة وهي دخول الجنة لمن رآه رضي الله عنه في اليومين الاثنين والجمعة، فهي من كراماته رضي الله عنه التي طارت بها الركبان وتواترت بها الأخبار في سائر الأقطار والبلدان، ¬

(¬1) التجانية (ص.197). (¬2) التجانية (ص.210). (¬3) التجانية (ص.210).

سليمان بن عبد الله آل الشيخ (1233 هـ)

بإخبار من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولفظه الشريف فيما أخبر به سيدنا رضي الله عنه بعزة ربي: يوم الاثنين والجمعة لا أفارقك فيهما من الفجر إلى الغروب ومعي سبعة أملاك، وكل من يراك في اليومين يكتبون -يعني الأملاك السبعة- اسمه في رقعة من ذهب ويكتبونه من أهل الجنة وأنا شاهد على ذلك، ولتكثر من الصلاة عليّ في هذين اليومين فكل صلاة تصليها عليّ نسمعك ونرد عليك، وكذلك جميع أعمالك تعرض عليّ والسلام". (¬1) سليمان بن عبد الله آل الشيخ (¬2) (1233 هـ) سليمان بن عبد الله بن الإمام محمد بن عبد الوهاب النجدي، العلامة، المجاهد. ولد في الدرعية سنة مائتين وألف من الهجرة، واشتغل بالعلم بحثا ومراجعة على مجموعة من الشيوخ منهم والده الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد والشيخ حمد بن معمر والشيخ عبد الله الغريب والشيخ حسين بن غنام والشيخ محمد بن علي الشوكاني وغيرهم. جعله الإمام سعود قاضيا في مكة المكرمة مع حداثة سنه وطراوة شبابه، ثم رجع إلى الدرعية وصار قاضيا أيضا واختاره الإمام سعود مدرسا في قصره. قال عنه ابن بشر: فيا له من عالم قدير وحافظ متقن خبير إذا شرع يتكلم على الأسانيد والرجال والأحاديث وطرقها وروايتها فكأنه لا يعرف غيرها في إتقانه وحفظه. أخذ عنه العلم ¬

(¬1) التجانية (ص.210 - 211). (¬2) علماء نجد (1/ 293 - 298) ومعجم المؤلفين (4/ 268) والأعلام (3/ 129) وهدية العارفين (1/ 408) والدرر السنية (12/ 48).

موقفه من المبتدعة:

عدد كثير من أهل الدرعية وغيرهم منهم الشيخ محمد بن سلطان وغيره. توفي سنة ثلاث وثلاثين بعد المائتين والألف قتله إبراهيم باشا غدرا بعد أمان الدرعية، فرحمة الله عليه. موقفه من المبتدعة: له من الآثار السلفية: 'تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد'، والكتاب مطبوع متداول وهو من أحسن الشروح وأطولها -فيما نعلم- جمع فيه المؤلف آثارا وأحاديث كثيرة، وقد يسر الله بعض إخواننا من أهل الكويت، فاعتنى بالكتاب، فخرج أحاديثه تخريجا جيدا مع فتح المجيد في كتاب سماه: 'النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد'. 'الدلائل في عدم موالاة أهل الشرك' ذكره في علماء نجد. - مقتل الشيخ سليمان في سبيل عقيدته السلفية: "لم يزل على حاله الحميدة من الانقطاع للعلم والإقبال عليه والإعراض عن الدنيا والعبادة والصلاح والتقى حتى أصيبت الدرعية بجيش الدولة العثمانية بقيادة إبراهيم باشا، الذي انتهى بالاستيلاء على المدينة بالصلح وتأمين الأنفس والأموال، إلا أن رجلا بغداديا في جيش الباشا، وشى بالشيخ سليمان وبأفراد معه، فغدر بهم الباشا وقتلهم". (¬1) من مواقفه رحمه الله: ¬

(¬1) علماء نجد (1/ 298).

- قال في التيسير: كرر الله تعالى الأمر بمتابعة الكتاب والسنة في مواضع كثيرة من القرآن، وضرب الأمثال لذلك، وأكده وتوعد على الإعراض عنه، وما ذاك إلا لشدة الحاجة، بل الضرورة إلى ذلك فوق كل ضرورة، فإنه لا صلاح للعبد ولا فلاح ولا سعادة في الدنيا والآخرة إلا بذلك، ومتى لم يحصل ذلك للعبد فهو ميت. كما قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)} (¬1). فسمى سبحانه وتعالى الخالي عن هذا الهدى والنور ميتا، وسمى من حصل له ذلك حيا، وذلك أنه لا مقصود به في حياة الدنيا إلا توحيد الله تعالى، ومعرفته وخدمته، والإخلاص له، والاستلذاذ بذكره، والتذلل لعظمته، والانقياد لأوامره، والإنابة إليه، والإسلام له، فإذا حصل هذا للعبد، فهو الحي، بل قد حصلت له الحياة الطيبة في الدارين. كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬2) فإذا فاته هذا المقصود فهو ميت، بل شر من الميت. ¬

(¬1) الأنعام الآية (122). (¬2) النحل الآية (97).

قال الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)} (¬1)، وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} (¬2)، وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} (¬3). وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)} (¬4). وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ ¬

(¬1) الأعراف الآية (3). (¬2) الأنعام الآية (153). (¬3) المائدة الآيتان (15و16). (¬4) النساء الآية (174).

تَأْوِيلًا} (¬1). {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (¬2). {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (¬3). وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} (¬4). وقال تعالى: {وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101)} (¬5). وقال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)} (¬6) قال ابن عباس: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما ¬

(¬1) النساء الآية (59). (¬2) النساء الآية (64). (¬3) النساء الآية (65). (¬4) النحل الآية (89). (¬5) طه الآيات (99 - 101). (¬6) طه الآيتان (123 و124).

فيه أن لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} (¬1). فيا عجبا ممن يزعم أن الهداية والسعادة لا تحصل بالقرآن ولا بالسنة، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يهتد إلا بذلك. كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)} (¬2) ثم بعد ذلك يحيلها على قول فلان وفلان. وقال تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬3). والآيات في هذا المعنى كثيرة، فوجب على كل من عقل عن الله أن يكون على بصيرة ويقين في دينه. كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} (¬4). ومحال أن يحصل اليقين والبصيرة إلا من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ¬

(¬1) الشورى الآية (52). (¬2) سبأ الآية (50). (¬3) الحشر الآية (7). (¬4) يوسف الآية (108).

موقفه من الرافضة:

وكيف ينال الهدى والإيمان من زعم أن ذلك لا يحصل من القرآن، إنما يحصل من الآراء الفاسدة التي هي زبالة الأذهان. تالله لقد مسخت عقول. هذا غاية ما عندها من التحقيق والعرفان. وهذه المتابعة لكتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - هي حقيقة دين الإسلام، الذي افترضه الله على الخاص والعام، وهو حقيقة الشهادتين الفارقتين بين المؤمنين والكفار، والسعداء أهل الجنة والأشقياء أهل النار، إذ معنى الإله: هو المعبود المطاع، وذلك هو دين الله الذي ارتضاه لنفسه وملائكته ورسله وأنبيائه. فبه اهتدى المهتدون، وإليه دعا المرسلون. {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فاعبدون} (¬1) {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)} (¬2) فلا يتقبل من أحد دينا سواه من الأولين والآخرين. (¬3) موقفه من الرافضة: - جاء في تيسير العزيز الحميد: قوله: «يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله» (¬4). فيه فضيلة عظيمة لعلي رضي الله عنه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - شهد له ¬

(¬1) الأنبياء الآية (25). (¬2) آل عمران الآية (83). (¬3) تيسير العزيز الحميد (ص.18 - 21). (¬4) أحمد (4/ 52) والبخاري (6/ 137 - 138/ 2942) ومسلم (4/ 1872/2406) وأبو داود (4/ 69/3661) والنسائي في الكبرى (5/ 46/8149).

الحسن بن خالد الحازمي (1234 هـ)

بذلك، ولكن ليس هذا من خصائصه. قال شيخ الإسلام: ليس هذا الوصف مختصا بعلي ولا بالأئمة، فإن الله ورسوله يحب كل مؤمن تقي يحب الله ورسوله، لكن هذا الحديث من أحسن ما يحتج به على النواصب الذين يتبرءون منه ولا يتولونه، بل لقد يكفرونه أو يفسقونه كالخوارج، لكن هذا الاحتجاج لا يتم على قول الرافضة الذين يجعلون النصوص الدالة على فضائل الصحابة كانت قبل ردتهم، فإن الخوارج تقول في علي مثل ذلك، لكن هذا باطل فإن الله ورسوله لا يطلق مثل هذا المدح على من يعلم أنه يموت كافرا. (¬1) الحسن بن خالد الحَازِمِي (¬2) (1234 هـ) العلامة الحسن بن خالد بن عز الدين بن محسن بن عز الدين، الحازمي التهامي. مولده في هجرة "ضمد" سنة ثمان وثمانين ومائة وألف من الهجرة. أخذ العلم عن القاضي أحمد بن عبد الله الضمدي، وكان وزيرا للشريف حمود بن محمد، وشهد ما ينيف على عشرين وقعة. قال القاضي حسن عاكش: إن صاحب الترجمة أربى في تحقيقه على الأقران، وسارت بذكره الركبان، وبرع في علمي التفسير والحديث، وإليه الغاية في معرفة الفقه والعلوم الآلية، وآخر أمره جعل همه الاشتغال بعلمي الكتاب والسنة والعمل بما قاد إليه الدليل، والميل عما اختاره العلماء من ¬

(¬1) تيسير العزيز الحميد (ص.125). (¬2) الأعلام (2/ 189) ومعجم المؤلفين (3/ 221) ونيل الوطر (1/ 462).

موقفه من المبتدعة:

الأقاويل، وجزم بتحريم التقليد. توفي رحمه الله في معركته مع الأتراك بعد انهزام هذه الأخيرة، برصاصة أزهقت روحه، فسقط على إثرها ميتا، سنة أربع وثلاثين بعد المائتين والألف. موقفه من المبتدعة: - له من الآثار السلفية: 1 - رسالة جيدة وجهها إلى الأمير عبد الله بن سعود، ذكرها صاحب تاريخ المخلاف السليماني (¬1). 2 - نثر الدرر على منظومة الشيخ محمد سعيد سفر في عدم التعصب والابتداع. ذكره في نيل الوطر (¬2). 3 - 'وجوب هدم المشاهد والأضرحة والقباب'. 4 - 'قوت القلوب بمنفعة توحيد علام الغيوب'. ذكرهما صاحب 'أثر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب'. (¬3) علي بن محمد السُّوَيْدِي (¬4) (1237 هـ) العلامة المحدث أبو المعالي علي بن أبي السعود محمد سعيد بن عبد الله ابن الحسين السويدي العباسي البغدادي. ولد في بغداد، وأقام بدمشق. أخذ ¬

(¬1) (ص.478). (¬2) (1/ 323). (¬3) (ص.141و142). (¬4) الأعلام (5/ 17) ومعجم المؤلفين (7/ 200) وهدية العارفين (1/ 773) وجلاء العينين (42 - 43) وفهرس الفهارس (2/ 1008 - 1010).

موقفه من المبتدعة:

عن أبيه أبي عبد الله محمد سعيد وعمه عبد الرحمن، وبه تخرج، والشيخ محمد الكزبري والشيخ مرتضى الزبيدي ومفتي بغداد محمود الآلوسي وغيرهم. قال عنه صاحب جلاء العينين: أمير المؤمنين في الحديث. وقال أبو الثناء الآلوسي: كان لأهل السنة برهانا، وللعلماء المحدثين سلطانا، ما رأيت أكثر منه حفظا، ولا أعذب منه لفظا، ولا أحسن منه وعظا، ولا أفصح منه لسانا، ولا أوضح منه بيانا، ولا أكمل منه وقارا، ولا آمن منه جارا، ولا أكثر منه حلما، ولا أكبر منه بمعرفة الرجال علما. توفي رحمه الله في دمشق سنة سبع وثلاثين بعد المائتين والألف. موقفه من المبتدعة: الشيخ علي السويدي، من أكابر علماء العراق في وقته، اشتهر بالمعقول والمنقول. - له من الآثار السلفية: - 'العقد الثمين في بيان أصول الدين'، والكتاب مطبوع وتوجد منه نسخة مخطوطة ومطبوعة في المكتبة السعودية. وقد مدحه الشيخ محمد خليل الدمشقي بقصيدة طويلة جيدة منها: عقائد هي عين الحق هادية ... إلى صراط سوي جل عن دغل من سنة المصطفى والآي قد نسجت ... تلك البرود فكانت أشرف الحلل وطرزت بدراري العقل ساطعة ... منها البراهين تمحو غيهب الزلل قد أظهرت بدعا صارت ترى سننا ... لدى الآلي سكروا عن شرعة الرسل قوم هم نهجوا سبل الغواية إذ ... زاغوا فعندهم إبليس خير ولي

عبد العزيز بن عبد الله بن محمد الحصين (1237 هـ)

قال صاحب غاية الأماني: وكان هذا الفاضل رحمه الله تعالى، من أعيان دمشق، علماء دمشق الشام، وكان سلفي العقيدة. وكم له من قصائد غراء منع فيها الاستغاثة والالتجاء بغير الله تعالى، وكان سيفا في أعناق الغلاة المبتدعة عبدة القبور. (¬1) عبد العزيز بن عبد الله بن محمد الحُصَيِّن (¬2) (1237 هـ) الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد الحصين الناصري العمري التميمي. ولد في قرية الوقف من قرى الوشم سنة أربع وخمسين ومائة وألف. وأخذ الفقه منذ صغره عن الشيخ إبراهيم بن محمد بن إسماعيل، ثم أخذ العلم عن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وابنه الشيخ عبد الله والشيخ حسين والشيخ حمد بن ناصر بن معمر وغيرهم. كان رحمه الله عالما عاملا زاهدا ورعا، مهيبا فقيها، واسع الاطلاع، وأوقاته كلها معمورة بالعبادة والتعليم، وجعل الله في علمه البركة وانتفع به خلق كثير، وله مواقف مشرفة مع الملوك والأمراء. قال ابن بشر: وكان يحب طالب العلم محبة عظيمة كأنه ولده، بالتودد إليه وتعليمه وإدخال السرور عليه، والقيام بما ينوبه من بيت المال، وكانت كلمته مسموعة، وقوله نافذا عند الرؤساء ومن دونهم. ولي القضاء في الوشم في ولاية الإمام عبد العزيز بن محمد والإمام سعود بن عبد العزيز وعبد الله بن سعود. ¬

(¬1) غاية الأماني (2/ 321). (¬2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/ 454 - 464) والدرر السنية (12/ 49 - 50) والأعلام (4/ 22).

موقفه من المشركين:

وأخذ عنه عدة من العلماء منهم الشيخ عبد الله أبا بطين والشيخ إبراهيم بن سيف والشيخ محمد بن نشوان والشيخ محمد بن عبد الله الحصين وغيرهم. توفي رحمه الله في بلدة شقراء في رجب سنة سبع وثلاثين ومائتين وألف للهجرة. موقفه من المشركين: - جاء في علماء نجد: وكان موضع الثقة عند ملوك آل سعود وعند أئمة الدعوة، ولذا أرسله الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب سنة 1185هـ إلى والي مكة المكرمة آنذاك الشريف أحمد بن سعيد لمناظرة علماء مكة، وأرسل معه الشيخ محمد رسالة إلى الشريف المذكور، فقدم مكة ونزل عند الشريف الملقب -الفعر- واجتمع هو وبعض علماء مكة عنده، وهم يحيى بن صالح الحنفي وعبد الوهاب بن حسن التركي -مفتي السلطان- وعبد الغني بن هلال، وتفاوضوا في ثلاث مسائل وقت المناظرة فيها. الأولى: ما ينسب إلى أهل نجد من التكفير بالعموم. الثانية: هدم القباب التي على القبور. الثالثة: إنكار دعوة الصالحين لطلب الشفاعة منهم. وبعد البحث أذعنوا بأن الصواب في المسألة الثانية والثالثة هو هدم القباب، ومنع طلب الشفاعة إلا من الله تعالى، وأنه مذهب الإمامين أبي حنيفة وأحمد. كما بين لهم الشيخ الحصين أن نسبة تكفير عموم المسلمين إلى أهل نجد كذب وبهتان، فرجع منهم ظافرا مكرما. ولما كانت سنة أربع ومئتين وألف من الهجرة أرسل الشريف غالب بن

السلطان المولى سليمان (1238 هـ)

مساعد أمير مكة كتابا إلى الإمام عبد العزيز بن محمد ذكر له فيه أن يبعث إليه رجلا عارفا من أهل الدين يعرفه حقيقة أمر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فأرسل إليه المترجم -أي الشيخ عبد العزيز الحصين-، وكتب معه الشيخ محمد بن عبد الوهاب رسالة إلى علماء مكة المكرمة بين لهم فيها دعوته، ونفى ما يشاع عنه وعن دعوته من الأكاذيب. فقدم الشيخ عبد العزيز الحصين مكة، فأكرمه الأمير غالب واجتمع معه مرات، وعرض عليه رسالة الشيخ، فعرف ما بها من الحق والهدى، فأذعن لذلك وأقر به، ولكنه بعد زمن أبى وتمسك بقديم سنته، فطلب منه الشيخ عبد العزيز الحصين أن يحضر العلماء ليقف على كلامهم ويناظرهم في أصول التوحيد، فأبوا الحضور، وقالوا للشريف: هؤلاء الجماعة ليس عندهم بضاعة إلا إزالة نهج آبائك وأجدادك ورفع يدك عما يصل إليك من خير بلادك، فطار لبه حين سمع هذا الكلام، وأصر على ما كان عليه، فمنها ثار الخلاف بين الإمام عبد العزيز بن محمد آل سعود والشريف غالب، ثم تطور إلى القتال، وانتهى باستيلاء الحكومة السعودية على الحجاز. (¬1) السلطان المولى سليمان (¬2) (1238 هـ) سليمان بن محمد بن عبد الله العلوي، أبو الربيع، سلطان المغرب ¬

(¬1) علماء نجد (3/ 459 - 461). (¬2) الاستقصا (8/ 119 - 123) والفكر السامي (2/ 297) وشجرة النور الزكية (1/ 380) والأعلام (3/ 133 - 134) ومعجم المؤلفين (4/ 275) وفهرس الفهارس (2/ 980 - 984).

موقفه من المبتدعة:

الأقصى، بويع بفاس سنة ست ومائتين وألف من الهجرة، بعد وفاة أخيه يزيد ابن محمد إثر معركته مع أخيه هشام. قال الكتاني: كان من نوادر ملوك البيت العلوي في الاشتغال بالعلم وإيثار أهله بالاعتبار. وقال صاحب الاستقصا: وأما الدين والتقوى، فذلك شعاره الذي يمتاز به، ومذهبه الذي يدين الله به، من أداء الفريضة لوقتها المختار حضرا وسفرا، وقيام رمضان وإحياء لياليه. وقال أيضا: وكانت القبائل في دولته قد تمولت ونمت مواشيها وكثرت الخيرات لديها من عدله وحسن سيرته. وكان رحمه الله في أواخر أيامه قد سئم الحياة ومل العيش، وأراد أن يترك أمور البلاد لابن أخيه المولى عبد الرحمن بن هشام، وأن يتجرد لعبادة ربه حتى يأتيه اليقين. وفي سنة ثمان وثلاثين ومائتين وألف، مرض السلطان مرضا أدى إلى وفاته بعد أن عهد كتابة بالإمارة للمولى عبد الرحمن، ودفن رحمه الله بباب آيلان من مراكش. موقفه من المبتدعة: كان هذا الملك من أعقل ملوك أهل زمانه، وأذكاهم وأعلمهم وأفضلهم. حيث إن الملوك الآخرين لما وصلتهم خطابات أمير الرياض والحرمين الشريفين، تسرعوا في الرد عليه، والهجوم بألسنة علمائهم وكتابهم، في وصفه بالمروق والخروج عن الدين، ولكن هذا الملك الفاضل أرسل ابنه الأمير إبراهيم إلى الحج لمشاهدة الحال، فجهزه وأرسل معه مجموعة من العلماء والعقلاء، فذهب الأمير والمرافقون فوجدوا من الخير والحق، ما كان مصورا خلافه في أذهانهم، فرجعوا مقتنعين بالدعوة السلفية بعد المناظرات

التي جرت في الحجاز والاستفسارات التي كانت نتيجتها معرفة الحق الواضح. - قال صاحب الاستقصا (¬1): وفي هذه المدة أيضا، وصل كتاب عبد الله بن سعود الوهابي النابع من جزيرة العرب المتغلب على الحرمين الشريفين. المظهر لمذهبه بهما إلى فاس المحروسة. - وقال (¬2): ولما استولى ابن سعود على الحرمين الشريفين، بعث كتبه إلى الآفاق كالعراق والشام ومصر والمغرب، يدعو الناس إلى اتباع مذهبه والتمسك بدعوته، ولما وصل كتابه إلى تونس بعث مفتيها نسخة منه إلى علماء فاس، فتصدى للجواب عنه الشيخ العلامة الأديب أبو الفيض حمدون ابن الحاج. قال صاحب الجيش العرمرم: كان تصدى الشيخ أبو الفيض لذلك الجواب بأمر السلطان وعلى لسانه، وذهب بجوابه ولده المولى إبراهيم بن سليمان حين سافر للحج. قال صاحب الاستقصا: وهذا يقتضي أن كتاب ابن سعود ورد على السلطان المولى سليمان بالقصد الأول، لا أن نسخة منه وردت بواسطة علماء تونس والله تعالى أعلم. - وجاء في الفكر السامي: ومن خطبه، خطبته في ردع رعيته عن بدع المواسم التي تجعل للصالحين، نقلتها بلفظها في كتاب برهان الحق. وكان ¬

(¬1) (8/ 119). (¬2) (8/ 120).

شديد الإنكار لمثل هذه البدع واقفا مع السنة شديد التحري. (¬1) - قال عبد الحفيظ الفاسي: وأمر بقطع المواسم التي هي كعبة المبتدعة والفاسقين، وكتب رسالته المشهورة، وأمر سائر خطباء إيالته بالخطبة بها على سائر المنابر إرشادا للناس لاتباع السنن ومجانبة البدع، ولولا مقاومة مشايخ الزوايا من أهل عصره له؛ وبَثهم الفتنة في كافة المغرب وتعضيد من خرج عليه من قرابته وغيرهم؛ واشتغاله بمقاتلتهم وإنكاره أمامهم، لولا كل ذلك لعمت دعوته الإصلاحية كافة المغرب، ولكن بوجودهم ذهبت مساعيه أدراج الرياح، فذهبت فكرة الإصلاح ونصرة مذهب السلف بموته. (¬2) - وفي الاستقصا: بعد كلامه على حج الأمير إبراهيم بن سليمان وبيان ما شاهدوه من الأمير ابن سعود وأتباعه من اتباعهم للسنة المحمدية قال: إن السلطان المولى سليمان رحمه الله، كان يرى شيئا من ذلك، ولأجله كتب رسالته المشهورة التي تكلم فيها على حال متفقرة الوقت وحذر فيها رضي الله عنه من الخروج عن السنة والتغالي في البدعة. (¬3) ونص الخطبة قد نشره عبد السلام السرغيني في رسالته 'المسامرة'، وعبد الله كنون في 'النبوغ المغربي'، وإبراهيم الكتاني، ثم محمد تقي الدين الهلالي في رسالة صغيرة مطبوعة مستقلة، وقبلهم أبو القاسم الزياني في 'الترجمانة الكبرى' وهو مطبوع متدوال. ¬

(¬1) (2/ 297). (¬2) الآيات البينات (ص.301). (¬3) (8/ 123).

وهذا نصها: (الحمد لله الذي تعبدنا بالسمع والطاعة. وأمرنا بالمحافظة على السنة والجماعة. وحفظ ملة نبيه الكريم، وصفيه الرؤوف الرحيم من الإضاعة إلى قيام الساعة، وجعل التأسي به أنفع الوسائل النافعة، أحمده حمدا ينتج اعتماد العبد على ربه وانقطاعه، وأشكره شكرا يقصر عنه لسان البراعة، وأستمد معونته بلسان المذلة والضراعة. وأصلي على محمد رسوله المخصوص بمقام الشفاعة، على العموم والإشاعة، والرضى عن آله وصحبه الذين اقتدوا بهديه بحسب الاستطاعة. أما بعد: أيها الناس، شرح الله لقبول النصيحة صدوركم، وأصلح بعنايته أموركم، واستعمل فيما يرضيه آمركم ومأموركم. فإن الله قد استرعانا جماعتكم، وأوجب لنا طاعتكم. وحذرنا إضاعتكم. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (¬1)، سيما فيما أمر الله به ورسوله، أو هو محرم بالكتاب والسنة النبوية، وإجماع الأمة المحمدية {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} (¬2). ولهذا نرثي لغفلتكم أو عدم إحساسكم، ونغار من استيلاء الشيطان بالبدع على أنواعكم وأجناسكم، فألقوا لأمر الله آذانكم، ¬

(¬1) النساء الآية (59). (¬2) الحج الآية (41).

وأيقظوا من نوم الغفلة أجفانكم. وطهروا من دنس البدع إيمانكم، وأخلصوا لله إسراركم وإعلانكم. واعلموا أن الله بفضله أوضح لكم طرق السنة لتسلكوها. وصرح بذم اللهو والشهوات لتملكوها. وكلفكم لينظر عملكم، فاسمعوا قوله في ذلك وأطيعوه، واعرفوا فضله عليكم وعوه، واتركوا عنكم بدع المواسم التي أنتم بها متلبسون، والبدع التي يزينها أهل الأهواء ويلبسون. وافترقوا أوزاعا، وانتزعوا الأديان والأموال انتزاعا، فيما هو حرام كتابا وسنة وإجماعا، وتسموا فقراء، وأحدثوا في دين الله ما استوجبوا به سقرا، {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} (¬1). وكل ذلك بدعة شنيعة، وفعلة فظيعة، وسبة وضيعة، وسنة مخالفة لأحكام الشريعة، وتلبيس وضلال، وتدليس شيطاني وخبال، زينه الشيطان لأوليائه، فوقتوا له أوقاتا، وأنفقوا في سبيل الطاغوت في ذلك دراهم وأقواتا، وتصدى له أهل البدع من عيساوة وجلالة وغيرهم، من ذوي البدع والضلالة، والحماقة والجهالة، وصاروا يترقبون للهوهم الساعات، وتتزاحم على حبال الشيطان وعصيه منهم الجماعات، وكل ذلك حرام ممنوع، والإنفاق فيه إنفاق في غير مشروع. فأنشدكم الله عباد الله هل فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمه سيد الشهداء موسما؟ وهل فعل سيد هذه الأمة أبو بكر لسيد الأرسال - صلى الله عليه وسلم -، وعلى جميع ¬

(¬1) الكهف الآيتان (103و104).

الصحابة والآل موسما؟ وهل تصدى لذلك أحد من التابعين رضي الله عنهم أجمعين؟ ثم أنشدكم الله، هل زخرفت على عهد رسول الله المساجد؟ أو زوقت أضرحة الصحابة والتابعين الأماجد؟ كأني بكم تقولون في نحو هذه المواسم المذكورة وزخرفة أضرحة الصالحين، وغير ذلك من أنواع الابتداع حسبنا الاقتداء والاتباع، {إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)} (¬1) وهذه المقالة قالها الجاحدون، هيهات هيهات لما توعدون. وقد رد الله مقالهم ووبخهم وما أقالهم، فالعاقل من اقتدى بآبائه المهتدين وأهل الصلاح والدين، «خير القرون قرني» (¬2) الحديث. وبالضرورة أنه لن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها. فقد قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعقد الدين قد سجل، ووعد الله بإكماله قد عجل، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬3). قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بحضرة الصحابة رضي الله عنهم: (أيها الناس قد سنت لكم السنن، وفرضت الفرائض، وتركتم على الجادة؛ فلا تميلوا بالناس يمينا ولا شمالا). فليس في دين الله ولا في ما شرع نبي الله أن يتقرب بغناء ولا شطح. والذكر الذي أمر الله به ¬

(¬1) الزخرف الآية (23). (¬2) أخرجه بهذا اللفظ أبو نعيم في الحلية (4/ 172) من طريق إسحاق بن إبراهيم صاحب البان قال ثنا الأعمش عن زيد بن وهب عن عمر بن الخطاب به. قال أبو نعيم عقبه: غريب من حديث الأعمش لم يروه عنه إلا إسحاق. وهو في الصحيحين بلفظ: «خير الناس قرني ... ». (¬3) المائدة الآية (3).

وحث عليه ومدح الذاكرين به، هو على الوجه الذي كان يفعله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن على طريق الجمع ورفع الأصوات على لسان واحد، فهذه سنة السلف وطريقة صالح الخلف، فمن قال بغير طريقهم فلا يستمع، ومن سلك غير سبيلهم فلا يتبع، {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} (¬1). {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} (¬2). فما لكم يا عباد الله ولهذه البدع؟ أأمنا من مكر الله؟ أم تلبيسا على عباد الله؟ أم منابذة لمن النواصي بيده؟ أم غرورا لمن الرجوع بعد إليه؟ فتوبوا واعتبروا وغيروا المناكر واستغفروا، فقد أخذ الله بذنب المترفين من دونهم، وعاقب الجمهور لما أغضوا عن المنكر عيونهم، وساءت بالغفلة عن الله عقبى الجميع. ما بين العاصي والمداهن المطيع، أفيزين لكم الشيطان وكتاب الله بأيديكم؟ أم كيف يضلكم وسنة نبيكم تناديكم؟ فتوبوا إلى رب الأرباب، {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54)} (¬3). ومن أراد منكم التقرب بصدقة أو وفق لمعروف أو إطعام أو نفقة، فعلى من ¬

(¬1) النساء الآية (105). (¬2) يوسف الآية (108). (¬3) الزمر الآية (54).

ذكر الله في كتابه ووعدكم فيهم بجزيل ثوابه، كذوي الضرورة الغير الخافية، والمرضى الذين لستم بأولى منهم بالعافية، ففي مثل هذا تسد الذرائع وفيه تمتثل أوامر الشرائع. {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} (¬1)، ولا يتقرب إلى مالك النواصي بالبدع والمعاصي، بل بما يتقرب به الأولياء والصالحون والأتقياء المفلحون، أكل الحلال وقيام الليالي ومجاهدة النفس في حفظ الأحوال بالأقوال والأفعال، البطن وما حوى، والرأس وما وعى، وآيات تتلى، وسلوك الطريقة المثلى، وحج وجهاد، ورعاية السنة في المواسم والأعياد، ونصيحة تهتدى، وأمانة تُؤدى، وخُلُق على خُلُق القرآن يحذى، وصلاة وصيام، واجتناب مواقع الآثام، وبيع النفس والمال من الله. {* إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} (¬2) الآية. {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬3) الصراط المستقيم كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس الصراط المستقيم كثرة الرايات، والاجتماع للبيات، وحضور النساء والأحداث، وتغيير الأحكام ¬

(¬1) التوبة الآية (60). (¬2) التوبة الآية (111). (¬3) الأنعام الآية (153).

الشرعية بالبدع والأحداث، والتصفيق والرقص، وغير ذلك من أوصاف الرذائل والنقص. {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا} (¬1) عن المقدام ابن معدي كرب رضي الله عنه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يجاء بالرجل يوم القيامة وبين يديه راية يحملها، وأناس يتبعونها فيسأل عنهم ويسألون عنه» (¬2) {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)} (¬3) فيجب على من ولاه الله من أمر المسلمين شيئا من السلطان والخلائف، أن يمنعوا هؤلاء الطوائف، من الحضور في المساجد وغيرها. ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، أو يعينهم على باطلهم. فإياكم ثم إياكم والبدع فإنها تترك مراسم الدين خالية خاوية، والسكوت عن المناكر يحيل رياض الشرائع ذابلة ذاوية، فمن المنقول عن الملل والمشهور في الأواخر والأول أن المناكر والبدع إذا فشت في قوم، أحاط بهم سوء كسبهم، وأظلم ما بينهم وبين ربهم، وانقطعت عنهم الرحمات، ووقعت فيهم المثلات، وشحت السماء، وحلت النقماء وغيض الماء، واستولت الأعداء، وانتشر الداء، وجفت الضروع، ونقعت بركة ¬

(¬1) فاطر الآية (8). (¬2) أخرجه بلفظ: «لا يكون رجل على قوم إلا جاء يوم القيامة يقدمهم وهم يتبعونه يسأل عنهم ويسألون عنه» ابن أبي عاصم في السنة (2/ 523/1099) والطبراني في الكبير (20/ 275 - 276) من حديث المقدام بن معدي كرب .. وقال الهيثمي في المجمع (5/ 208): "رواه الطبراني في الأوسط وفيه محمد بن إسماعيل بن عياش وهو ضعيف". بل هو في الكبير. (¬3) البقرة الآية (166).

الزروع، لأن سوء الأدب مع الله يفتح أبواب الشدائد، ويسد طرق الفوائد. والأدب مع الله ثلاثة: حفظ الحرمة بالاستسلام والاتباع، ورعاية السنة من غير إخلال ولا ابتداع، ومراعاتها في الضيق والاتساع، لا ما يفعله هؤلاء الفقراء، فكل ذلك كذب على الله وافتراء. {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (¬1) عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع فما تعهد إلينا؟ أو قال: أوصنا، فقال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة لمن ولي عليكم، وإن عبدا حبشيا، فإنه من يعش بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» (¬2). وها نحن عباد الله أرشدناكم وحذرناكم وأنذرناكم. فمن ذهب بعد لهذه المواسم، أو أحدث بدعة في شريعة نبيه أبي القاسم، فقد سعى في هلاك نفسه، وجر الوبال عليه، وعلى أبناء جنسه، وتله الشيطان للجبين، وخسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ¬

(¬1) آل عمران الآية (31). (¬2) انظر تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ).

عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (1242 هـ)

أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} (¬1). التعليق: يستفاد من هذا النص المبارك: 1 - مدى تأثر هذا السلطان بالعقيدة السلفية. 2 - قوة علمه وإدراكه في الاستدلال بالكتاب والسنة. 3 - بيان الحالة التي كان عليها أهل ذلك الزمان من ترد في الخرافات والشركيات والطرق الصوفية. 4 - اعتماده في الاستدلال على فعل السلف وفي مقدمتهم الصحابة. عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (¬2) (1242 هـ) عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، ولد في مدينة الدرعية سنة خمس وستين ومائة وألف من الهجرة، وتفقه على أبيه وغيره. وبعد وفاة أبيه وشيخه، تصدى لنشر الدعوة السلفية والرد على المخالفين بالحجة والبرهان. كان ذا فهم جيد وحافظة قوية وذهن سيال وقريحة وقادة، وكان رحمه الله يعتبر المرجع الأساسي في الأعمال الدينية والشؤون الشرعية في المملكة السعودية في عهد ثلاثة أئمة من حكام آل سعود هم: الإمام عبد العزيز بن محمد وابنه سعود وحفيده عبد الله بن سعود. ¬

(¬1) النور الآية (63). (¬2) علماء نجد (1/ 48 - 55) والأعلام (4/ 131) والدرر السنية (12/ 43 - 45).

موقفه من الرافضة:

قال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: أدرك في الأصول والفنون أعلاها، وتفنن في علوم الإسلام حتى بلغ علاها، كان عارفا بالتفسير لا يجارى، وبأصول الدين، وإليه فيها المنتهى، وبالحديث ومعانيه وفقهه، ودقائق الاستنباط منه، لا يلحق في ذلك، وبالفقه وأصوله، وبالعربية. وقال أيضا: كان رحمه الله ذا عبادة وتهجد، وطول قيام، ولهج بالذكر، وشغف بالمحبة والإنابة، والافتقار إلى الله، والانكسار والانطراح بين يديه على عتبة عبوديته، لم ير في معناه مثله. أخذ عنه العلم علماء أجلاء منهم بنوه سليمان وعلي وعبد الرحمن والشيخ عبد الرحمن بن حسن والشيخ عبد اللطيف والشيخ أبا بطين والشيخ محمد بن مقرن وغيرهم. اعتقل رحمه الله عند دخول إبراهيم باشا للدرعية، وأرسل إلى مصر سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف من الهجرة، واستقر بالقاهرة إلى أن توفي بها سنة اثنتين وأربعين ومائتين وألف. موقفه من الرافضة: - له من الآثار السلفية: - 'جواب أهل السنة النبوية في نقد كلام الشيعة والزيدية'، وقد طبع بحمد الله. عبد العزيز بن حمد آل معمر (¬1) (1244 هـ) الشيخ الإمام عبد العزيز بن حمد بن ناصر بن معمر، ولد في مدينة ¬

(¬1) علماء نجد (2/ 445) والأعلام (4/ 17) والدرر السنية (12/ 50 - 52) ومقدمة كتاب منحة القريب المجيب للمترجم (ص.3 - 8).

الدرعية سنة ثلاث ومائتين وألف من الهجرة، وأخذ عن علمائها منهم والده رحمه الله والشيخ عبد الله بن محمد وحسين بن محمد وعلي بن محمد، أبناء شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب والشيخ حسين بن غنام وغيرهم. شغل جميع وقته في تحصيل العلم وطلبه، فصار عالما مجتهدا له اليد الطولى في التفسير والحديث والنحو والفقه. عينه الإمام سعود في جملة قضاة الدرعية. قال ابن بشر: كان فقيها أديبا ومتواضعا، حسن البحث والسيرة، ذا شهرة في العلوم والديانة، وله أشعار رائعة لا سيما في أهل الدرعية. وقال الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ: كان أديبا بارعا، وعالما محققا، وفقيها مدققا، حاضر البديهة، قوي العارضة، فصيح اللسان، بليغ القول، مشاركا في شتى العلوم الأصولية والفروعية، ورعا زاهدا، متقللا من الدنيا، بعيدا عن مفاتنها وزخارفها، له اليد الطولى والباع الواسع في التصنيف والتأليف، ونشر العلم، وتخريج الكثير من الطلاب، والرد على المعارضين، وإفحام المخاصمين. توفي رحمه الله في البحرين سنة أربع وأربعين ومائتين وألف. ورثاه كثير من الأدباء والعلماء منهم الشيخ أحمد بن علي آل مشرف رحمه الله في أبيات منها: لقد صار في الإسلام ثلم بموته وقد كان للإسلام حصنا ومفزعا فأصبح مقصودا لمن طلب الهدى لقد فقد العلم العزيز ونشره هو البحر إن رمت العلوم وبحثها ... وكلم فمن ذا بالعلاج يحاول إذا نزلت بالمسلمين النوازل وكل لنيل المعالي وسائل لدن فقدت عبد العزيز المحافل سوى أنه للبحر يوجد ساحل

موقفه من المشركين:

موقفه من المشركين: - له من الآثار: 'منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب' رد فيه على كتاب 'مفتاح الخزائن ومصباح الدفائن' لقسيس إنجليزي. - ومما جاء فيه: ولما كان الله تعالى قد أمر رسوله بإقامة الحجة على الكافرين بطريق الجدال، وشرع ذلك في السور المكية والمدنية حتى بعد فرض القتال، كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)} (¬1) وقال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)} (¬2) وأمره بعد إقامة الحجة على النصارى بالمجادلة أن يدعوهم إلى الملاعنة والمباهلة، فقال تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)} (¬3). ¬

(¬1) النحل الآية (125). (¬2) العنكبوت الآية (46). (¬3) آل عمران الآية (61).

فلم يزل - صلى الله عليه وسلم - في جدال الكفار على اختلاف مللهم، وتباين نحلهم إلى حين وفاته، وكذلك أصحابه من بعده، ومن تبعهم من أئمة الدين وحماته، وبهذا الأمر قام الدين، واتضح منهاجه للعابدين، وإنما جعل السيف ناصرا للحجة والبرهان، مسهلا طريق البلاغ إلى المكلفين بالسنة والقرآن، وأعدل السيوف سيف ينصر حجج الله وبيناته، وهو سيف رسوله وأتباعه، الذين بذلوا نفوسهم لله ابتغاء مرضاته. (¬1) - وقال: والمقصود أن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - موافقة لدين المسيح في التوحيد، وأصول الديانات، وإن خالفته في بعض ما دون ذلك من الشرائع، لكنها مخالفة لما ابتدعه ضلال النصارى، واخترعوه من قبل أنفسهم، وبدلوا به دين المسيح من الغلو في المخلوق حتى أنزلوه منزلة الخالق وادعوا أنه الله، وأنه ابن الله، تعالى الله وتقدس، وتنزه عن قولهم علوا كبيرا، وكذا ما بدلوه من فروع دين المسيح عليه السلام، كاستحلال الميتة والخنزير، وإحداث البدع في العبادات، مما نسخوا به دين المسيح عليه السلام، فبعث الله رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وإلى متابعة عبده ورسوله المسيح عيسى ابن مريم، وتصديقه في بشارته بخاتم الرسل وسيدهم في الدنيا والآخرة الذي هو أولى الناس به، كما ثبت عن رسول الله صلى عليه وسلم أنه قال: «أنا أولى الناس بابن مريم في الدنيا والآخرة، ليس بيني وبينه نبي، والأنبياء إخوة أبناء علات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد» أخرجه البخاري ¬

(¬1) (ص.14).

محمد بن علي الشوكاني (1250 هـ)

ومسلم (¬1)، وإخوة العلات: أبناء أمهات شتى من رجل واحد. (¬2) - وقال: والمقصود أن القرآن نقل بالتواتر عن محمد - صلى الله عليه وسلم - من أول الأمر حتى لا يتطرق الشك إلى حرف واحد منه أنه من القرآن، ولم يقيض لمن قبلنا من حفظ الكتب وضبطها ما يقارب ذلك، فإنا قد دللنا على وقوع التحريف والتصحيف في كتب النصارى بما لا يمكنهم دفعه، فضلا عما اعترفوا به من الشك في بعضها من أصله، وأما كتابنا فإن أحدا لو حاول أن يغير حرفا أو نقطة منه لقال له أهل الدنيا: هذا كذاب، حتى إن الشيخ المهيب لو اتفق له تغيير في حرف منه لقال الصبيان كلهم: أخطأت أيها الشيخ، وصوابه كذا، ولم يتفق لشيء من الكتب مثل هذا الكتاب العزيز الذي صانه الله عن التحريف، وحفظه عن التغيير والتصحيف، مع أن دواعي الملحدة، واليهود والنصارى متوافرة على إفساده وإبطاله، وانقضى الآن ما ينيف على ألف ومائتين وأربعين سنة من أول نزوله، وهو بحمد الله في زيادة من الحفظ. (¬3) محمد بن علي الشوكاني (¬4) (1250 هـ) الإمام العلامة المحدث محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني ثم ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (2/ 437) والبخاري (6/ 590 - 591/ 3442 - 3443) ومسلم (4/ 1837/2365) وأبو داود (5/ 55/4675) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) (ص.48 - 49). (¬3) (ص.68 - 69). (¬4) البدر الطالع (2/ 214 - 225) والأعلام (6/ 298) ومعجم المؤلفين (11/ 53) ونيل الوطر (2/ 344 - 350) والتاج المكلل (ص.443 - 458) وفهرس الفهارس (ص.1082 - 1088).

موقفه من المبتدعة:

الصنعاني. ولد سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف، بهجرة "شوكان" من بلاد "خولان"، ونشأ بصنعاء، وولي قضاءها سنة تسع وعشرين ومائتين وألف من الهجرة. قرأ على أبيه والقاضي الحسن المغربي والقاسم بن يحيى الخولاني والسيد عبد الرحمن بن قاسم المداني وغيرهم. وأخذ عنه القاضي محمد بن حسن الشجني وأحمد بن عبد الله الضمدي ومحمد بن أحمد السودي وغيرهم. قال عنه تلميذه لطف الله بن أحمد جحاف: له مصنفات تدلك على قوة الساعد وسعة الاطلاع، ورزق السعادة في تصانيفه مع القضاء، وتناقلها من يلوذ به وذكروها في دروسهم، وله رغبة ومحبة في العلم، وما رأيت أنشط منه في التدريس. وقال عبد الرحمن بن سليمان الأهدل: ولقد منح رب العالمين سبحانه من بحر فضل كرمه الواسع هذا القاضي الإمام بثلاثة أمور، لا أعلم أنها في هذا الزمان الأخير جمعت لغيره: سعة التبحر في العلوم على اختلاف أجناسها وأنواعها وأصنافها، وسعة التلاميذ المحققين والنبلاء المدققين أولي الأفهام الخارقة ... وسعة التصانيف المحررة والرسائل والجوابات المحبرة التي تسامي في كثرتها الجهابذة الفحول. وقال عبد الرحمن البهكلي: وعلى الجملة فما رأى مثل نفسه ولا رأى من رأى مثله علما وقياما بالحق، بقوة جنان وسلاطة لسان. توفي رحمه الله بصنعاء سنة خمسين ومائتين وألف من الهجرة عن ست وسبعين سنة وسبعة أشهر، ودفن بمقبرة خزيمة. موقفه من المبتدعة: هذا الإمام الكبير، كانت له صولة وجولة في بلاد اليمن، عاصر

الأحداث التي كانت بين العثمانيين ودعوة التوحيد الخالصة. وقد ذكر في البدر الطالع في بعض تراجم آل سعود ثناء جيدا عليهم وعلى دعوتهم، وله قصيدة في رثاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهي قصيدة طويلة توجد مطبوعة منشورة في عدة رسائل من رسائل الدعوة، وقد ذكرها الشيخ صالح العبود في رسالته في ترجمة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (¬1). وعلى كل حال، فقد استفاد من العقيدة السلفية، عن طريق كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب. غير أنه في باب الأسماء والصفات من نظر في تفسيره: 'فتح القدير' يجد الرجل على طريق المؤولة كما بينت ذلك في كتابي 'المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات' (¬2). ومن نظر في كتابه 'التحف' يجده يمدح مذهب السلف، لكن كأنني به يعني مذهب المفوضة والله أعلم. - قال رحمه الله في القول المفيد في حكم التقليد: فمع ما قد صار عندهم من هذا الاعتقاد في ذلك الإمام إذا بلغهم أن أحد علماء الاجتهاد الموجودين يخالفه في مسألة من المسائل، كان هذا المخالف قد ارتكب أمرا شنيعا، وخالف عندهم شيئا قطعيا، وأخطأ خطئا لا يكفره شيء، وإن استدل على ما ذهب إليه بالآيات القرآنية والأحاديث المتواترة لم يقبل منه ذلك ولم يرفع لما جاء به رأسا كائنا من كان، ولا يزالون منتقصين له بهذه المخالفة انتقاصا شديدا على وجه لا يستحلونه من الفسقة ولا من أهل البدع المشهورة كالخوارج والروافض، ويبغضونه بغضا شديدا فوق ما يبغضون أهل ¬

(¬1) (1/ 240 - 243). (¬2) (3/ 1272 - 1290).

الذمة من اليهود والنصارى. ومن أنكر هذا فهو غير محقق لأحوال هؤلاء. وبالجملة فهو عندهم ضال مضل، ولا ذنب له إلا أنه عمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، واقتدى بعلماء الإسلام في أن الواجب على كل مسلم تقديم كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على قول كل عالم كائنا من كان. (¬1) - وفيه: وإذا تقرر لك إجماع أئمة المذاهب الأربعة على تقديم النص على آرائهم، عرفت أن العالم الذي عمل بالنص وترك قول أهل المذاهب هو الموافق لما قاله أئمة المذاهب، والمقلد الذي قدم أقوال أهل المذاهب على النص هو المخالف لله ولرسوله ولإمام مذهبه ولغيره من سائر علماء الإسلام. ولعمري إن القلم مبري بهذه النقول على وجل من الله وحياء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيا لله العجب -أيحتاج المسلم في تقديم قول الله أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - على قول أحد من علماء أمته إلى أن يعتضد بهذه النقول. يا لله العجب، أي مسلم يلتبس عليه مثل هذا حتى يحتاج إلى نقل هؤلاء العلماء رحمهم الله في أن أقوال الله وأقوال رسوله - صلى الله عليه وسلم - مقدمة على أقوالهم، فإن الترجيح فرع التعارض، ومن ذاك الذي يعارض قوله قول الله أو قول رسوله - صلى الله عليه وسلم - حتى نرجع إلى الترجيح والتقديم. سبحانك هذا بهتان عظيم. فلا حيا الله هؤلاء المقلدة الذين ألجأوا الأئمة الأربعة إلى التصريح بتقديم أقوال الله ورسوله على أقوالهم لما شاهدوهم عليه من الغلو المشابه لغلو اليهود والنصارى في أحبارهم ورهبانهم. وهؤلاء الذين ألجؤونا إلى نقل هذه الكلمات، وإلا فالأمر واضح لا ¬

(¬1) القول المفيد (ص.53).

يلتبس على أحد، ولو فرضنا والعياذ بالله أن عالما من علماء الإسلام يجعل قوله كقول الله أو قول رسوله - صلى الله عليه وسلم - لكان كافرا مرتدا، فضلا عن أن يجعل قوله أقدم من قول الله ورسوله -فإنا لله وإنا إليه راجعون- ما صنعت هذه المذاهب بأهلها؟ وإلى أي موضع أخرجتهم؟ وليت هؤلاء المقلدة الجناة الأجلاف نظروا بعين العقل إذ حرموا النظر بعين العلم، ووازنوا بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين أئمة مذاهبهم وتصوروا وقوفهم بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهل يخطر ببال من بقيت فيه بقية من عقل هؤلاء المقلدين أن هؤلاء الأئمة المتبوعين عند وقوفهم المعروض بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كانوا يردون عليه قوله أو يخالفونه بأقوالهم؟ كلا والله بل هم أتقى لله وأخشى له. فقد كان أكابر الصحابة يتركون سؤاله - صلى الله عليه وسلم - في كثير من الحوادث هيبة وتعظيما. وكان يعجبهم الرجل العاقل من أهل البادية إذا وصل يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليستفيدوا بسؤاله كما ثبت في الصحيح (¬1)، وكانوا يقفون بين يديه كأن على رؤوسهم الطير يرمون بأبصارهم إلى ما بين أيديهم ولا يرفعونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتشاما وتكريما. وكانوا أحقر وأقل عند أنفسهم من أن يعارضوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بآرائهم، وكان التابعون يتأدبون مع الصحابة بقريب من هذا الأدب، وكذلك تابعو التابعين كانوا يتأدبون بقريب من آداب التابعين مع الصحابة. فما ظنك أيها المقلد لو حضر إمامك بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فإذا فاتك يا مسكين الاهتداء بهدى العلم فلا يفوتنك الاهتداء بهدى العقل، فإنك إذا استضأت بنوره خرجت من ظلمات جهلك إلى نور الحق. فإذا عرفت ما ¬

(¬1) أخرجه: مسلم (1/ 41 - 42/ 12) والترمذي (3/ 14 - 15/ 619) والنسائي (4/ 427/2090) من حديث أنس بن مالك.

نقلناه عن أئمة المذاهب الأربعة من تقديم النص على آرائهم، فقد قدمنا لك أيضا حكاية الإجماع على منعهم التقليد، وحكينا لك ما قاله الإمام أبو حنيفة وما قاله إمام دار الهجرة مالك بن أنس من ذلك، أو لاح لك مما نقلناه قريبا ما يقوله الإمام محمد بن إدريس الشافعي من منع التقليد. وقد قال المزني في أول مختصره ما نصه (اختصرت هذا من علم الشافعي ومن معنى قوله لأقرأه على من أراده مع إعلامه بنهيه عن تقليده وتقليد غيره لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه) اهـ. فانظر ما نقله هذا الإمام الذي هو من أعلم الناس بمذهب الشافعي رحمه الله من تصريحه بمنع تقليده وتقليد غيره. وأما الإمام أحمد بن حنبل فالنصوص عنه في منع التقليد كثيرة. قال أبو داود: قلت لأحمد: الأوزاعي أتبع أم مالك، فقال: لا تقلد دينك أحدا من هؤلاء، ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فخذ به. وقال أبو داود سمعته -يعني أحمد بن حنبل- يقول: الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ثم من هو من التابعين بخير. اهـ فانظر كيف فرق بين التقليد والاتباع. وقال لي أحمد: لا تقلدني ولا مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا. وقال: من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال. قال ابن القيم: ولأجل هذا لم يؤلف الإمام أحمد كتابا في الفقه، وإنما دون أصحابه مذهبه من أقواله وأفعاله وأجوبته وغير ذلك. وقال ابن الجوزي في تلبيس إبليس: اعلم أن المقلد على غير ثقة فيما

قلد، وفي التقليد إبطال منفعة العقل ... ثم أطال الكلام في ذلك. وبالجملة فنصوص أئمة المذاهب الأربعة في المنع من التقليد وفي تقديم النص على آرائهم وآراء غيرهم لا تخفى على عارف من أتباعهم وغيرهم. وأما نصوص سائر الأئمة المتبوعين على ذلك الأئمة من أهل البيت عليهم السلام فهي موجودة في كتبهم، معروفة قد نقلها العارفون بمذاهبهم عنهم. ومن أحب النظر في ذلك فليطالع مؤلفاتهم، وقد جمع منها السيد العلامة الإمام محمد بن إبراهيم الوزير في مؤلفاته مايشفي ويكفي لا سيما في كتابه المعروف بالقواعد، فإنه نقل الإجماع عنهم وعن سائر علماء المسلمين على تحريم تقليد الأموات، وأطال في ذلك وأطاب، وناهيك بالإمام الهادي يحيى ابن الحسين فإنه الإمام الذي صار أهل الديار اليمنية مقلدين له، متبعين لمذهبه من عصره وهو آخر المائة الثالثة -إلى الآن مع أنه قد اشتهر عند أتباعه والمطلعين على مذهبه- أنه صرح تصريحا لا يبقى عنده شك ولا شبهة بمنع التقليد له، وهذه مقالة مشهورة في الديار اليمنية يعلمها مقلدوه فضلا عن غيرهم، ولكنهم قلدوه شاء أم أبى. (¬1) - وله من الآثار: 1 - 'البغية في الرؤية'، توجد منه نسخة في الجامعة الإسلامية. 2 - 'الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد'. مطبوع 3 - 'شرح الصدور في عدم جواز رفع القبور'. مطبوع 4 - 'التحف في مذاهب السلف'. مطبوع ¬

(¬1) القول المفيد (ص.57 - 62).

موقفه من الخوارج:

5 - 'القول المفيد في حكم التقليد'. مطبوع موقفه من الخوارج: - قال: (قوله: وعليها قضاء الصيام لا الصلاة). أقول: هذا معلوم الأدلة الصحيحة، وعليه كان العمل في عصر (النبوة) وما بعده، وأجمع عليه سلف الأمة وخلفها، سابقها ولاحقها، ولم يسمع عن أحد من علماء الإسلام في ذلك خلاف. وأما الخوارج الذين هم كلاب النار، فليس هم ممن يستحق أن يذكر خلافهم في مقابلة قول المسلمين أجمعين، ولا هم ممن يخرج المسائل الإجماعية عن كونها إجماعية بخلافهم، وما هذه بأول مخالفة منهم لقطعيات الشريعة، والعجب ممن ينصب نفسه من أهل العلم للاستدلال لباطلهم بما لا يسمن ولا يغني من جوع. (¬1) موقفه من القدرية: - سئل الشيخ: ما الراجح لديكم في مسألة خلق الأفعال، حسنها وقبيحها ... الخ، فهذه مسألة قد تكلم العلماء وكثر الخلاف فيها قديما وحديثا، وكثر الحجاج بين الطرفين، والواجب الرجوع إلى ما عليه الصالحون من سلف الأمة، قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية في الرد على الرافضة: "وأما قوله أنه عدل حكيم لا يظلم أحدا، ولا يفعل القبيح، وإلا لزم الجهل والحاجة -تعالى الله عنهما-، فيقال له: هذا متفق عليه بين المسلمين من حيث الجملة أن الله لا يفعل قبيحا، ولا يظلم أحدا، ولكن ¬

(¬1) السيل الجرار (1/ 148).

النزاع في تفسير ذلك، فهو إذا كان خالقا لأفعال العباد، هل يقال: إنه ما هو قبيح منه وظلم، أم لا؟ فأهل السنة المثبتون للقدر يقولون: ليس هو بذلك ظالما ولا فاعلا قبيحا، والقدرية يقولون: لو كان خالقا لأفعال العبادكان ظالما فاعلا ما هو قبيح منه، وأما كون الفعل قبيحا من فاعله لا يقتضي أن يكون كذلك لخالقه، لأن الخالق خلقه في غيره، لم يقم بذاته، فالمتصف به من قام به الفعل، لا من خلقه في غيره، كما أنه إذا خلق لغيره لونا وريحا وحركة وقدرة وعلما، كان ذلك الغير هو المتصف بذلك اللون، والريح، والحركة، والقدرة، والعلم، فهو المتحرك بتلك الحركة، والمتلون بذلك اللون، والعالم بذلك العلم، والقادر بتلك القدرة، فكذلك إذا خلق في غيره كلاما، أو صلاة، أو صياما، أو طوافا، كان ذلك الغير هو المتكلم بذلك الكلام، وهو المصلي، وهو الصائم، وهو الطائف، ولكن من قال إن الفعل هو المفعول يقول: إن أفعال العباد هي فعل الله، فإن قال: وهو أيضا فعل لهم لزم أن يكون الفعل الواحد لفاعلين، كما يحكى عن أبي إسحاق الإسفراييني، وإن لم يقل هو فعل لهم لزمه أن تكون أفعال العباد فعلا لله لا لعباده كما يقوله الأشعري ومن وافقه من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم، الذين يقولون: إن الخلق هو المخلوق، وإن أفعال العباد خلق الله، فتكون هي فعل الله، وهي مفعول الله، فكما أنها خلقه فهي مخلوقة، وهؤلاء لا يقولون إن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة، ولكنهم مكتسبون لها، وإذا طولبوا بالفرق بين الكسب والفعل لم يذكروا فرقا معقولا، ولهذا كان يقال: عجائب الكلام ثلاثة: أحوال أبي هاشم، وطفرة النظام، وكسب الأشعري.

عثمان بن محمد بن أحمد بن سند (1250 هـ)

وهذا الذي ينكره جمهور العقلاء، ويقولون: إنه مكابرة للحس، ومخالفة للشرع والعقل. وأما جمهور أهل السنة فيقولون: إن فعل العبد له حقيقة، ولكنه مخلوق لله تعالى، ومفعول لله لايقولون هو نفس فعل الله، ويفرقون بين الخلق والمخلوق، والفعل والمفعول. انتهى كلامه. وأهل القول الثاني من السؤال لا يلزم ما يقولون في خلاف قولهم أنه إجبار وإبطال للشرائع، وإلزام الحجة على الشارع، بل -سبحانه- {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} (¬1) و {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} (¬2)، وكل ما فعله فهو فضل أو عدل، فلا يعترض على فضله وعدله، ومن جعل العقل ميزانا للشرائع فقد ضل وأضل، والله يلهمنا رشدنا ويقينا شرور أنفسنا. (¬3) عثمان بن محمد بن أحمد بن سند (1250 هـ) موقفه من الرافضة: هذا الرجل النجدي الأصل، عرف بعداوته وانحرافه عن الدعوة السلفية وأعلامها، إلا أن له موقفا طيبا يشكر عليه، عندما رد على الشاعر الشيعي الخبيث دِعْبِل الخزاعي الذي طعن في سادات الصحابة الكرام أبي بكر وعمر وطلحة والزبير وعائشة وغيرهم، فألف قصيدة تضمنت أكثر من ألفي بيت ¬

(¬1) القصص الآية (68). (¬2) الأنبياء الآية (23). (¬3) الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني (1/ 148 - 152).

الحسن بن علي القنوجي (1253 هـ)

سماها 'الصارم القرضاب في نحر من سب أكارم الأصحاب'. (¬1) الحسن بن علي القَنُّوجِي (¬2) (1253 هـ) حسن بن علي بن لطف الله الحسيني البخاري القنوجي، ابن الأمير نواب أولاد علي خان بهادر أنور جنك. ولد سنة عشر ومائتين وألف للهجرة، وهو والد العلامة صديق حسن خان. أخذ عن الشيخ عبد الباسط القنوجي، ثم سافر إلى لكهنؤ فأخذ عن الشيخ محمد نور وغيره، ثم رحل إلى دهلي فتتلمذ على الشيخ عبد العزيز والشيخ رفيع الدين ابني الشيخ ولي الله الدهلوي، ثم عاد إلى وطنه وبلده قنوج. قال فيه ابنه السيد صديق بن حسن: وكان في التقوى والديانة واتباع الحق واقتداء الدليل ورد الشرك والبدع آية باهرة، وقدرة كاملة، ونعمة ظاهرة من الله سبحانه وتعالى. توفي رحمه الله سنة ثلاث وخمسين ومائتين وألف. موقفه من المشركين: له: 'تقوية اليقين في الرد على عقائد المشركين' ذكره في هدية العارفين (¬3). ¬

(¬1) علماء نجد (5/ 148). (¬2) هدية العارفين (1/ 301) والأعلام (2/ 206) ومعجم المؤلفين (3/ 259) وأبجد العلوم (3/ 212 - 213). (¬3) (1/ 301).

أحمد الهندي (1255 هـ)

أحمد الهندي (¬1) (1255 هـ) أحمد بن عبد الرحيم الهندي الحكيم الحنفي. توفي رحمه الله سنة خمس وخمسين ومائتين وألف. موقفه من الرافضة: له: 'نزهة الاثني عشرية في الرد على الروافض' ذكره في هدية العارفين (¬2). أحمد بن علي بن أحمد بن دعيج (¬3) (1268 هـ) الشيخ أحمد بن علي بن أحمد بن سليمان بن دعيج الكثيري نسبا، المَرَائي بلدا. ولد في بلدة مرات، إحدى بلدان الوشم سنة تسعين ومائة وألف. وعاصر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وله نظم جيد في المحنة التي وقعت في نجد على يد إبراهيم باشا وزير مصر سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف، وله نظم آخر في العقيدة. عين المترجم قاضيا في بلدته خلال استيلاء الدولة العثمانية على نجد، ثم خلال إمامة تركي ثم الإمام فيصل. وما زال في عمله مجدا إلى أن توفي رحمه الله سنة ثمان وستين ومائتين وألف للهجرة. موقفه من الجهمية: له نظم سماه 'كتاب الدر الثمين عقيدة الموحدين' (¬4). قال: وسبب تأليفه ¬

(¬1) هدية العارفين (2/ 370) ومعجم المؤلفين (1/ 272). (¬2) (2/ 370). (¬3) علماء نجد خلال ثمانية قرون (1/ 497 - 501). (¬4) علماء نجد (1/ 500).

محمد بن إبراهيم بن محمد السناني (1269 هـ)

أنه ورد عليَّ جواب من بعض الإخوان سنة ثلاثة وثلاثين ومائتين وألف يريد أن أعرض عليه ما نحن عليه من الاعتقاد وأخبار الصفات، فأجبته ولله الحمد، وهي معروضة على علماء المسلمين لتبيين الصحيح والتنبيه على الخطأ حتى نرجع عنه -إن شاء الله- إلى الصواب. ومطلع النظم هو: باسمه أبدا كل امرئ تبركا وثنيت قبل النظم لله حامدا ... وحفظاً له لا يعتريه جذامها مصل على المبعوث أحمد مقامها إلى أن قال: واقبل أخبار الصفات كما أتى ... بها النص لا ينفك عنك مرامها محمد بن إبراهيم بن محمد السناني (¬1) (1269 هـ) الشيخ محمد بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم السِّنَاني. ولد في بلدة عنيزة، ونشأ فيها، وقرأ على قاضي عنيزة الشيخ عبد الله أبا بطين، ولازمه ملازمة تامة. ولي القضاء بإشارة من شيخه أبا بطين لأعيان أهل عنيزة. وكان ورعا عفيفا، صاحب معتقد طيب، إلا أنه كان معرضا عن كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب لتحذير الناس منها، ثم قرأها بعد، فأولع بها، وأصبح من الداعين إليها. توفي رحمه الله في بلدة عنيزة سنة تسع وستين ومائتين وألف للهجرة. ¬

(¬1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/ 472 - 474).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: - قال رحمه الله مدافعا عن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وعن مؤلفاته بعدما كان معرضا عنها، ومستهزءا بها: كنت في أول أمري مع أناس نسمي (كشف الشبه) بـ (جمع الشبه)، ولم أرها ولم أطالع فيها تقليدا لمن غروني، فلما سافرت إلى بعض الآفاق ورأيت كثرة من أعرض عن الهدى، دعوت الله أن يهديني لما اختلف فيه إلى الحق، فأزال الله عني الهوى والتعصب، وأبدله بالإنصاف، وصار عندي الحق أحق أن يتبع، فَعَنَّ لي أن أطالع (كشف الشبه) فوجدتها كاسمها، مشتملة على أجل المطالب وأوجب الواجبات، فكانت جديرة أن تكتب بماء الذهب، ثم قلت نظما: لقد ضل قوم سموا الكشف بالجمع ... وقالوا مقالا واجب الدفع والرد فجمع الشبه ما لفقوه ببغيهم ... وتضليلهم من هد ما شيد من ند وقام بنصر الدين لله وحده ... وتجريده التوحيد للواحد الفرد وجاهد فيما قام فيه لربه ... بماله والأهلين حقا وباليد إلى أن قال: فيا طالب الإنصاف بالعلم والهدى ... ألا تنظر كشف الشبه درة العقد فقد حل فيها كشف ما كان مشكلا ... بأوضح تبيان ينوف على العد فجازاه رب الخلق خير جزائه ... لما قام في التوحيد يهدي ويهتدي (¬1) ¬

(¬1) علماء نجد (5/ 473 - 474).

عبد الرحمن بن عبد الله آل الشيخ (1274 هـ)

عبد الرحمن بن عبد الله آل الشيخ (¬1) (1274 هـ) الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، ولد في الدرعية سنة تسع عشرة ومائتين وألف من الهجرة ونشأ بها، وفي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف من الهجرة نقل مع أبيه وغيره من أعيان نجد إلى مصر، فأقام بها، وتعلم في الجامع الأزهر، ثم صار مدرسا فيه برواق الحنابلة. قال الشيخ عبد الرزاق البيطار: الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن عبد الوهاب النجدي العالم المشهور والهمام الذي فضله مأثور ... التفت إلى الطلب والتعلم والتعليم والاستفادة والإفادة، إلى أن صار في الأزهر شيخ رواق الحنابلة، وكان ظاهر التقوى والصلاح والزهد والعبادة. وقال الحلواني: وكان عالما فقيها ذا سمة حسنة، يظهر عليه التقى والصلاح. وبقي فيها إلى أن توفي سنة أربع وسبعين ومائتين وألف رحمه الله تعالى. موقفه من المشركين: جاء في تاريخ علماء نجد: وبلغني أن جماعة السبكية، لم يعتنقوا المذهب الحنبلي، ولم يكونوا محققين لتوحيد العبادة إلا عن طريقه. (¬2) ¬

(¬1) علماء نجد (2/ 393 - 395). (¬2) تاريخ علماء نجد (2/ 394).

عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين (1282 هـ)

عبد الله بن عبد الرحمن أبا بُطَيْن (¬1) (1282 هـ) الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن، الملقب كأسلافه (أبا بطين)، ولد في الروضة من قرى سدير سنة أربع وتسعين ومائة وألف من الهجرة، ونشأ بها، وقرأ على عالمها الشيخ محمد بن طراد الدوسري ولازمه ملازمة تامة، ثم ارتحل إلى شقراء، ثم إلى عنيزة وولي قضاءها وقضاء جميع بلدان القصيم. قال عنه الشيخ إبراهيم بن عيسى: الإمام والحبر الهمام العالم العلامة والقدوة الفهامة الشيخ عبد الله أبا بطين، مهر في الفقه وفاق أهل عصره في إبان شبيبته. وقال تلميذه ابن حميد (صاحب السحب الوابلة): وأما اطلاعه على خلاف الأئمة الأربعة بل على غيرهم من السلف والروايات والأقوال المذهبية، فأمر عجيب، ما أعلم أني رأيت من يضاهيه بل ولا من يقاربه. أخذ عنه كبار علماء نجد منهم: الشيخ محمد بن إبراهيم السناني والشيخ علي بن محمد آل راشد والشيخ عثمان بن بشر وغيرهم. توفي رحمه الله سنة اثنتين وثمانين ومائتين وألف للهجرة. موقفه من المبتدعة: - له: 1 - 'تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن سليمان بن جرجيس'، والكتاب مطبوع. 2 - 'تعقبات نفيسة على لوامع الأنوار'، تدل على سعة علمه، وعمق ¬

(¬1) علماء نجد (2/ 567 - 575) والأعلام (4/ 97) ومعجم المؤلفين (6/ 72 - 73) والسحب الوابلة (2/ 626 - 633) والدرر السنية (12/ 75 - 77).

عثمان بن عبد العزيز بن منصور (1282 هـ)

فهمه للعقيدة السلفية. عثمان بن عبد العزيز بن منصور (¬1) (1282 هـ) الشيخ عثمان بن عبد العزيز بن منصور بن حمد الحسيني الناصري العمري التميمي. ولد في أول القرن الثالث عشر في بلدة الفرعة، وقرأ على الشيخ عبد العزيز الحصين الناصري والشيخ عبد الرحمن بن حسن من علماء سدير، ثم سافر إلى العراق، فقرأ على داود بن جرجيس ومحمد بن سلوم. قال فيه ابن بشر: الشيخ النبيه والعالم العلامة الفقيه، الذي حوى فنون العلوم، وكشف عنها الستور، وتلألأت بمعاني بيانه السطور، شيخنا عثمان ابن منصور. وقال الشيخ علي الهندي: للشيخ عثمان بن منصور مجموع فتاوى مخطوطة، وكان ذا فهم حاد، بارعا في فنون من العلم. ألف قصيدة في مدح شيخه ابن جرجيس، فرد عليه علماء السنة بقصائد داحضة. ولاه الإمام تركي قضاء بلدة جلاجل، ثم ولاه الإمام فيصل قضاء مدينة حائل، ثم سدير. كان على خلاف مع شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وألف كتاب 'أسرار المعارج في أخبار الخوارج' يُعَرِّض به للدعوة السلفية. وقد حكى مجموعة من الشيوخ تراجع الشيخ ابن منصور عن عقيدته ولزومه العقيدة السلفية. توفي رحمه الله في ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين ومائتين وألف في حوطة سدير. ¬

(¬1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/ 89 - 106) والأعلام (4/ 208).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: - له من الآثار السلفية: 1 - 'فتح الحميد شرح كتاب التوحيد'. 2 - 'الرد الدافع على من اعتقد أن شيخ الإسلام زائغ'، وهو رد على عثمان بن سند البصري النجدي، وهو عبارة عن قصيدة بين فيها غيرته على العقيدة السلفية. جاء فيها: قال العبد الفقير، المقر بالذنب والتقصير، عثمان بن عبد العزيز بن منصور الناصري العمري التميمي الحنبلي، ستر الله عيوبه وغفر له ذنوبه، ردا على عثمان بن سند الفيلكي ثم البصري -قتله الله تعالى- لما سب شيخ الإسلام، وقدوة الأعلام أحمد بن تيمية، قدس الله روحه، ونور ضريحه، ونسبه مع ذلك للتجسيم والتضليل، في محاورة صدرت بيني وبينه، فأتى به فيها معترضا بسبه، وأنا أسمع بحضرة تلميذ له يقال له: محمد بن تريك، فأبذى في الكلام بذلك السب وأقذع، وسب مع ذلك نجدا وأهلها، فحينئذ لم أتمالك عند سب شيخ الإسلام المذكور أن قلت منشدا ما يأتي منتصرا له ولسلفه الصالح من أهل السنة والجماعة، ومبينا لعقيدته ... إلى أن قال: فنعلم أن الله فوق عباده ... كما جاء في الفرقان للخلق يسمع علا خلقه الرحمن ربي مسافة ... وبالعلم أدنى من وريد وأسرع وتنكر ذا تبا لك اليوم منكرا ... كذبت لأنت بالغواية توضع وإن إله الخلق عال لعرشه ... عليه استوى الرحمن بالنص أقطع

أحمد بن علي بن حسين آل مشرف (1285 هـ)

وإن كلام الله يتلى حقيقة ... على ذاك أهل الخوف لله أجمع وفي قولنا الإيمان قول ونية ... وفعل به الأركان لله تخشع يدور على بضع وسبعين شعبة ... ومنكر هذا القول بالنص يقمع يزيد على الطاعات فينا كقولنا ... ينقص من العصيان والحق مقطع وفي منزل الأبرار ينظر وجهه ... ويحجب عنه الملحدون ويمنعوا نقر بأن الله جل جلاله ... عليم قدير كامل الوصف يسمع بصير يرى مخ البعوض بعضوها ... ويحصي حساب الخلق علما ويجمع فهذا اعتقادي والذي قلت إنه ... يرى مذهب التجسيم هل أنت تسمع وقولك في عرض المذمة شيخكم ... يضل الورى جهلا وفيكم تنطع أبن لي ضلال الشيخ حتى أجيبكم ... أفي هدمه الأوثان فالحق يتبع أبن لي أبن لي لا أبا لك وانتبه ... أفي سده طرق الضلالات مشنع أبن لي أبن لي ما الضلالات عندكم ... أكف دعاة السوء فينا فنسمع كففناهم عن ديننا ودمائنا ... وأنت لسعد آخر الليل تضبع (¬1) أحمد بن علي بن حسين آل مشرف (¬2) (1285 هـ) الشيخ الشاعر أحمد بن علي بن حسين آل مشرف. ولد في مدينة الزبالة، وتعلم بها، وقرأ على علماء الأحساء وأغلبهم مالكي المذهب حتى صار من أعيان الفقهاء الكبار، وعين قاضيا بها. وكان كفيف البصر منذ ¬

(¬1) علماء نجد (5/ 98و103 - 105). (¬2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (1/ 502 - 503) والأعلام (1/ 182 - 183).

موقفه من الجهمية:

طفولته، وأولع بالشعر والأدب فأصبح يقول القصائد والمراثي الجياد. وعرف رحمه الله بالدفاع عن العقيدة السلفية وله في ذلك مصنفات، جمعت في مجلد باسم 'ديوان ابن مشرف' وله مختصر صحيح مسلم. توفي رحمه الله في الأحساء سنة خمس وثمانين ومائتين وألف للهجرة. موقفه من الجهمية: - له من الآثار السلفية: 1 - 'قصيدة نظم فيها عقيدة ابن أبي زيد القيرواني المالكي في رسالته'. 2 - 'جوهرة التوحيد'. وهي نظم عذب على عقيدة السلف. 3 - 'الشهب المرمية على المعطلة والجهمية' (¬1): قال فيها: نفيتم صفات الله، فالله أكمل ... وسبحانه عما يقول المعطل زعمتم بأن الله ليس بمستوٍ ... على عرشه، والاستوا ليس يُجهل فقد جاء في الأخبار في غير موضع ... بلفظ "استوى" لا غير يا مُتَأوِّل وقد جاء في إثباته عن نبينا ... من الخبر المأثور ما ليس يُشْكِل فصرح أن الله جل جلاله ... على عرشه منه المَلائك تنزل يخافونه من فوقهم وعُروجُهم ... إليه وهذا في الكتاب مفصل وتعرج حقا روح من مات مؤمنا ... إليه فتحظى بالمُنى ثم ترسل وبالمصطفى أسرى إلى الله، فارتقى ... على هذه السبع السموات في العلو ومنه دنا الجبار حقا، فكان قا ... ب قوسين أو أدنى كما هو منزل ¬

(¬1) علماء نجد (1/ 503).

وفي ذا حديث في صحيح محمد ... صحيح صريح ظاهر لا يؤول وقد رفع الله المسيح ابن مريم ... إليه ولكن بعد ذا سوف ينزل فيكسر صُلْبان النصارى بكفه ... وما دام حيا للخنازير يقتل وليس له شرع سوى شرع أحمد ... فيقضي به بين الأنام ويعدل وزينب زوج المصطفى افتخرت على ... بقية أزواج النبي بلا غلو فقالت: تولى الله عقدي بنفسه ... فزوجني من فوق سبع من العلو وإن سفيري روحه وكفى بها ... لزينب فخرا شامخا فهو أطول ولما قضى سعد الرضى في قريظة ... بأن يُسْتَرَقّوا والرجال تقتل وأمضى رسول الله في القوم حكمه ... لقد قال ما معناه إذ يتأمل ألا إن سعدا قد قضى فيهم بما ... قضى الله من فوق السموات فافعلوا وقد صح أن الله في كل ليلة ... إذا ما بقي ثلث من الليل ينزل إلى ذي السما الدنيا ينادي عباده ... إلى أن يكون الفجر في الأفق يشعل يناديهم: هل تائب من ذنوبه؟ ... فإني لغفار لها مُتقبِّل وهل منكم داع؟ وهل سائل لنا؟ ... فإني أجيب السائلين وأجزل وقد فطر الله العظيم عباده ... على أنه من فوقهم فلهم سلوا لهذا تراهم يرفعون أكفهم ... إذا اجتهدوا عند الدعاء إلى العلو أقروا بهذا الاعتقاد جِبِلّة ... ودانوا به ما لم يصدوا ويخذلوا على ذا مضى الهادي النبي وصحبه ... وأتباعهم خير القرون وأفضل فأخلف قوم آخرون فحرفوا ... نصوص كتاب الله جهلا وأولوا فجاءوا بقول سيء سره، وما ... بدا منه يزهو باللآلي مكلل

هم عطلوا وصف الإله وأظهروا ... بذلك تنزيها له وهو أكمل ومن نزه الباري بنفي صفاته ... فما هو إلا جاحد ومعطل فيا أيها النافي لأوصاف ربه ... لقد فاتك النهج الذي هو أمثل تحيد عن الذكر الحكيم ونصه ... وتزور عن قول النبي وتعدل وتنفي صفات الله بعد ثبوتها ... بنص من الوحيين ما فيه مجمل إذا جاء نص محكم في صفاته ... جحدت له، أو قلت: هذا مؤول ألا تقتفي آثار صحب محمد؟ ... فمنهاجهم أهدى وأنجى وأفضل فما مذهب الأخلاف أعلم بالهدى ... من القوم لو أنصفت أوكنت تعقل ولكنه من بعض ما أحدث الورى ... ومن يبتدع في الدين فهو مضلل وقال رحمه الله في فصل في اعتقاد السلف الصالح رضوان الله عليهم (¬1): ولكننا والحمد لله لم نزل ... على قول أصحاب الرسول نعول نقر بأن الله فوق عباده ... على عرشه، لكنما الكيف نجهل وكل مكان فهو فيه بعلمه ... شهيد على كل الورى ليس يغفل وما أثبت الباري تعالى لنفسه ... من الوصف أو إبداء من هو مرسل فنثبته لله جل جلاله ... كما جاء، لا ننفي ولا نتأول هو الواحد الحي القديم له البقا ... مليك يولي من يشاء ويعزل سميع بصير قادر متكلم ... عليم مريد آخر هو أول تنزه عن ند وولد ووالد ... وصاحبة فالله أعلى وأكمل ¬

(¬1) انظر آخر رسالة 'الجوهرة الفريدة' للحكمي (ص.61 - 65).

وليس كمثل الله شيء وماله ... شبيه ولا ند بربك يعدل وإن كتاب الله من كلماته ... ومن وصفه الأعلى حكيم منزل فليس بمخلوق، ولا وصف حادث ... فيفنى، ولكن محكم لا يبدل هو الذكر متلو بألسنة الورى ... وفي الصدر محفوظ وفي الصحف يسجل فألفاظه ليست بمخلوقة، ولا ... معانيه، فاترك قول من هو مبطل وقد أسمع الرحمن موسى كلامه ... على طور سينا، والإله يفصل وللطور مولانا تجلى بنوره ... فصار لخوف الله دكا يزلزل وإن علينا حافظين ملائكا ... كراما بسكان البسيطة وكلوا فيحصون أقوال ابن آدم كلها ... وأفعاله طرا، فلا شيء يهمل ولا حي غير الله يبقى، وكل من ... سواه له حوض المنية منهل وإن نفوس العالمين بقبضها ... رسول من الله العظيم موكل ولا نفس تفنى قبل إكمال ... ولكن إذا تم الكتاب المؤجل وسيان منهم من ودى حتف أنفه ... ومن بالظبى والسمهرية يقتل وإن سؤال الفاتنين محقق ... لكل صريع في الثرى حين يجعل يقولان ماذا كنت تعبد؟ ما الذي ... تدين؟ ومن هذا الذي هو مرسل؟ فيا رب ثبتنا على الحق واهدنا ... إليه، وأنطقنا به حين نسأل وإن عذاب القبر حق وروح من ... ودى في نعيم أو عذاب يعجل فأرواح أصحاب السعادة نعمت ... بروح وريحان وما هو أفضل وتسرح في الجنات تجني ثمارها ... وتشرب من تلك المياه وتأكل ولكن شهيد الحرب حي منعم ... فتنعيمه للروح والجسم يحصل

وأرواح أصحاب الشقاء مهانة ... معذبة للحشر، والله يعدل وأن معاد الروح والجسم واقع ... فينهض من قد مات حيا يهرول وصيح بكل العالمين فأحضروا ... وقيل: قفوهم للحساب ليسألوا فذلك يوم لا تحد كروبه ... بوصف فإن الأمر أدهى وأهول يحاسب فيه المرء عن كل سعيه ... وكل يجازى بالذي كان يعمل وتوزن أعمال العباد جميعها ... وقد فاز من ميزان تقواه يثقل وفي الحسنات الأجر يلقى مضاعفا ... وبالمثل تجزى السيئات وتعدل ولا يدرك الغفران من مات مشركا ... وأعماله مردودة ليس تقبل ويغفر غير الشرك ربي لمن يشا ... وحسن الرجا والظن في الله أجمل وإن جنان الخلد تبقى ومن بها ... مقيما على طول المدى ليس يرحل أعدت لمن يخشى الإله ويتقي ... ومات على التوحيد فهو مهلل وينظر من فيها إلى وجه ربه ... بذا نطق الوحي المبين المنزل وإن عذاب النار حق وإنها ... أعدت لأهل الكفر مثوى ومنزل يقيمون فيها خالدين على المدى ... إذا نضجت تلك الجلود تبدل ولم يبق بالإجماع فيها موحد ... ولو كان ذا ظلم يصول ويقتل وإن لخير الأنبياء شفاعة ... لدى الله في فصل القضاء فيفصل ويشفع للعاصين من أهل دينه ... فيخرجهم من ناره وهي تشعل فيلقون في نهر الحياة فينبتوا ... كما في حميل السيل ينبت سنبل وإن له حوضا هنيئا شرابه ... من الشَّهْدِ أحلى فهو أبيض سلسل يُقَدر شهرا في المسافة عرضه ... كأَيْلَة من صنعا وفي الطول أطول

موقفه من المرجئة:

وكيزانه مثل النجوم كثيرة ... ووارده كل أَغَرّ مُحَجَّل من الأمة المستمسكين بدينه ... وعنه ينحى محدِثٌ ومبدِّل فيا رب هب لي شربة من زُلالِه ... بفضلك يا من لم يزل يتفضَّل موقفه من المرجئة: - قال: وإنا نرى الإيمان قولا ونية وينقص بنقصان طاعة ... وفعلا إذا ما وافق الشرع يقبل ويزداد إن زادت فينمو ويكمل (¬1) - وقال في نظمه لعقيدة ابن أبي زيد القيرواني: وأول الفرد إيمان الفؤاد كذا ... نطق اللسان بما في الذكر قد سطرا إلى أن قال (¬2): وأن إيماننا شرعا حقيقته ... وأن معصية الرحمن تنقصه ... قصد وقول وفعل للذي أمرا كما يزيد بطاعة الذي شكرا موقفه من القدرية: - قال رحمه الله (¬3): وبالقدر الإيمان حتم وبالقضا ... فما عنهما للمرء في الدين معدل قضى ربنا الأشياء من قبل كونها ... وكل لديه في الكتاب مسجل فما كان من خير وشر فكله ... من الله والرحمن ما شاء يفعل ¬

(¬1) الجوهرة الفريدة (ص.66). (¬2) الجوهرة الفريدة (ص.52و56). (¬3) الجوهرة الفريدة (ص.66). (الشهب المرمية).

عبد الرحمن بن حسن (حفيد الشيخ) (1285 هـ)

فبالفضل يهدي من يشاء من الورى ... وبالعدل يردي من يشاء ويخذل وما العبد مجبور وليس مخيرا ... ولكن له كسب وما الأمر مشكل عبد الرحمن بن حسن (¬1) (حفيد الشيخ) (1285 هـ) الشيخ الإمام عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب مفيد الطالبين وقامع المبتدعين، ولد في الدرعية سنة ثلاث وتسعين ومائة وألف للهجرة. وقرأ على جده كتاب التوحيد وغيره، ولازم دروسه، وأخذ عن الشيخ حمد بن ناصر بن معمر وعلى عمه الشيخ عبد الله والشيخ حسين بن غنام وغيرهم. نقله إبراهيم باشا إلى مصر فمكث فيها ثمان سنين، ثم عاد إلى نجد، وتولى قضاء الرياض. قال الشيخ عثمان بن بشر: هو العالم النحرير، والبحر الزاخر الغزير، مفيد الطالبين وافتخار العلماء الراسخين، ومرجع الفقهاء والمتكلمين، المحفوظ بعناية رب العالمين، عمدة السلف وبقية الخلف، جامع أنواع العلوم الشرعية، ومحقق العلوم الدينية، والأحاديث النبوية والآثار السلفية، مفتي فرق الأنام، ومؤيد شريعة سيد الأنام. وقال الشيخ إبراهيم بن عيسى: هو الإمام العالم الفاضل القدوة، رئيس الموحدين قامع الملحدين، كان إماما بارعا محدثا فقيها، ورعا تقيا نقيا صالحا، له اليد الطولى في جميع العلوم الدينية، وكان ملازما للتدريس، مرغبا في العلم، معينا عليه، كثير الإحسان للطلبة، لين ¬

(¬1) علماء نجد (1/ 56) والأعلام (3/ 304) ومعجم المؤلفين (5/ 135) والدرر السنية (12/ 60 - 66).

موقفه من المبتدعة:

الجانب، كريما سخيا، ساكنا وقورا، كثير العبادة. وقال فيه الشيخ أحمد بن مشرف بعد ثنائه على الشيخ محمد: كذا عابد الرحمن أعني حفيده ينافح عن دين الهدى كل مبطل ... بنور الهدى يهدي فمن ذا يعادله فيبطل تمويهاته ويناضله أخذ عنه الشيخ عبد اللطيف والشيخ حسين بن حمد آل الشيخ والشيخ عبد الرحمن بن حسين آل الشيخ والشيخ عبد الرحمن بن محمد بن مانع والشيخ حمد بن عتيق وغيرهم. توفي رحمه الله سنة خمس وثمانين ومائتين وألف، ودفن في مقبرة العود في الرياض. موقفه من المبتدعة: - له: 1 - 'فتح المجيد شرح كتاب التوحيد' وقد نفع الله به أهل المشرق والمغرب. 2 - 'القول الفصل النفيس في الرد على ابن جرجيس'. 3 - 'المحجة بالرد على اللجة' رد على صاحب السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة. 4 - 'قرة عيون الموحدين في تحقيق دعوة الأنبياء والمرسلين' وهو عبارة عن تعليق على كتاب التوحيد، وقد طبع والحمد لله. 5 - 'بيان كلمة التوحيد والرد على الكشميري'. 6 - 'المقامات' وهو رد على عثمان بن عبد العزيز بن منصور الناصري، تعرض فيه للحروب الواقعة بين الدعوة السلفية، والدولة العثمانية المصرية، فهو كتاب رد وتاريخ.

موقفه من القدرية:

موقفه من القدرية: - تكلم في فتح المجيد عن القدر في صدد شرحه للنصوص التي أوردها جده في كتاب التوحيد، قال رحمه الله بعد حديث ابن عمر الطويل (¬1): ففي هذا الحديث: أن الإيمان بالقدر من أصول الإيمان الستة المذكورة، فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره، فقد ترك أصلا من أصول الدين وجحده، فشبه من قال الله فيهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (¬2).اهـ (¬3) - وقال بعد حديث عبادة (¬4): وفي هذا الحديث ونحوه: بيان شمول علم الله تعالى، وإحاطته بما كان وما يكون في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} (¬5). وقد قال الإمام أحمد رحمه الله، لما سئل عن القدر، قال: (القدر قدرة الرحمن) واستحسن ابن عقيل هذا من أحمد رحمه الله. والمعنى: أنه لا يمنع عن قدرة الله شيء. ونفاة القدر قد جحدوا كمال قدرة الله تعالى، فضلوا عن سواء السبيل. وقد قال بعض السلف: ناظروهم ¬

(¬1) تقدم تخريجه في مواقف يحيى بن يعمر سنة (89هـ). (¬2) البقرة الآية (85). (¬3) فتح المجيد (ص.598 - 599). (¬4) تقدم تخريجه في مواقف عبادة بن الصامت رضي الله عنه سنة (34هـ). (¬5) الطلاق الآية (12).

عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ (1293 هـ)

بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوا كفروا. (¬1) وقال في خاتمة الباب: وكل هذه الأحاديث، وما في معناها فيها الوعيد الشديد على عدم الإيمان بالقدر، وهي الحجة على نفاة القدر من المعتزلة وغيرهم. ومن مذهبهم: تخليد أهل المعاصي في النار. وهذا الذي اعتقدوه من أكبر الكبائر، وأعظم المعاصي. وفي الحقيقة: إذا اعتبرنا إقامة الحجة عليهم بما تواترت به نصوص الكتاب والسنة من إثبات القدر، فقد حكموا على أنفسهم بالخلود في النار إن لم يتوبوا. وهذا لازم لهم على مذهبهم هذا، وقد خالفوا ما تواترت به أدلة الكتاب والسنة من إثبات القدر، وعدم تخليد أهل الكبائر من الموحدين في النار. (¬2) عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ (¬3) (1293 هـ) الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. ولد في مدينة الدرعية سنة خمس وعشرين ومائتين وألف من الهجرة، أخذ عن أبيه وخاله الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد وجده لأمه الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيرهم. سافر إلى مصر مع أبيه المنقول، فمكث فيها إحدى وثلاثين سنة قضاها في طلب العلم حتى ¬

(¬1) فتح المجيد (ص.600). (¬2) فتح المجيد (ص.602). (¬3) علماء نجد (1/ 63 - 71) ومعجم المؤلفين (6/ 10 - 11) والدرر السنية (12/ 66 - 75).

موقفه من المبتدعة:

صار إماما من أئمته، يقصده الطلاب من أدنى البلاد وأقصاها. وفي عام أربع وستين ومائتين وألف من الهجرة قدم الشيخ إلى الرياض، فبدأ بنشر الدعوة السلفية القائمة على توحيد العبادة وخلوصها من أنواع الشرك، كما دعت إليها الرسل عليهم السلام. قال صاحب الدرر السنية: أدرك مقام الأئمة الكبار، وناسب قيامه من بعض الأمور مقام الصديقين، وأما شجاعته فبها تضرب الأمثال، وببعضها يتشبه الأكابر الأبطال، فلقد أقامه الله في نصرة دينه والتقاء أعباء الأمر بنفسه. وقال فيه الشيخ سليمان بن سحمان: فعبد اللطيف الحبر أوحد عصره ... إمام هدى قد كان لله داعيا لقد كان فخرا للأنام وحجة ... وثقلا على الأعداء عضبا يمانيا إماما سما مجدا إلى المجد وارتقى ... وحل رواق المجد إذ كان عاليا تصدى لرد المنكرات وهد ما ... بنته عداة الدين من كان طاغيا أخذ عنه ابنه الشيخ عبد الله والشيخ إسحاق والشيخ حسن بن حسين آل الشيخ وغيرهم. توفي رحمه الله في مدينة الرياض سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف. موقفه من المبتدعة: عاش رحمه الله فترة تغلب الدولة العثمانية على ديار نجد، فكان هذا الإمام في مصر مدة طويلة قضاها كلها في طلب العلم والدعوة إلى العقيدة السلفية، فلم يذب في عقائد المصريين الباطلة، بل كان الداعية إلى عقيدة السلف، وله مواقف مشرفة سجلها المؤرخون له في كتبهم، وستبقى له ذخرا

عند الله يوم القيامة. - جاء في تاريخ علماء نجد: ولما استولى الإمام فيصل على الأحساء، وكان فيها خليط من العقائد والآراء، فالرافضة لهم شوكة، وعلماء الشافعية والمالكية أشاعرة، وعلماء الأحناف ماتوريدية. وتشترك هذه الطوائف كلها في وسائل الشرك، من نحو تعظيم القبور والغلو في الصالحين، والبدع من نحو الموالد، ومراسم الموت والجنائز، فكان الشيخ عبد اللطيف هو المختار لمقابلة مثل هؤلاء، ومحاربة أمثال هذه الأمور، فبعثه الإمام إليهم، فناقش هؤلاء العلماء بلسان فصيح، وعلم صحيح، وصدر فسيح، وقابل الحجة بأقوى منها، ورد الشبهة بأوضح منها، فأذعنوا له وسلموا، فزال ما في نفوسهم من رواسب الشبه، وباطل التأويل، فتقرر لديهم أن مذهب أهل السنة والجماعة هو الأسلم والأعلم والأحكم، وأن الدعوة السلفية التي نادى بها الشيخ محمد ابن عبد الوهاب هي العودة إلى صفاء العقيدة، وخلوص العبادة، كما دعت إليها الرسل ونزلت بها الكتب، وبعد أن صارت العقيدة واحدة والطريقة متحدة، عاد الشيخ عبد اللطيف إلى الرياض. (¬1) التعليق: نجد في هذا النص المبارك: أن العقيدة السلفية كانت تقوم على الإقناع والحجة والبرهان، ولم تكن تقوم على الغلبة. وفيه منقبة لهذا الشيخ، ومن أرسله للدفاع عن العقيدة السلفية. - آثاره السلفية: ¬

(¬1) (1/ 65 - 66).

القرن 14

1 - 'البراهين الإسلامية في الرد على الشبه الفارسية'. 2 - 'شرح بعض نونية ابن القيم'. 3 - 'منهاج التأسيس في كشف شبهات ابن جرجيس'. 4 - 'الإتحاف في الرد على الصحاف'. ذكرها صاحب هدية العارفين (¬1). حمد بن علي بن عَتِيق (¬2) (1301 هـ) الشيخ حمد بن علي بن محمد بن عتيق، ولد سنة سبع وعشرين ومائتين وألف من الهجرة في بلدة الزلفي. أخذ عن الشيخ عبد اللطيف والشيخ علي ابن حسين والشيخ عبد الرحمن بن عدوان وغيرهم. وممن قرأ عليه واستفاد منه ابنه الشيخ سعد بن حمد وابنه الثاني الشيخ عبد العزيز وابنه الثالث الشيخ عبد اللطيف والشيخ عبد الله بن عبد اللطيف وغيرهم. قال فيه الشيخ سليمان ابن سحمان رحمه الله: يعز علينا أن نرى اليوم مثله ... لحل عويص المشكلات البوادر وللشبهات المعضلات وردها ... إذا ما تبدت من كفور مقامر فلله من حبر تصعد للعلا ... فحل على هام النجوم الزواهر ولله من حبر إمام وبلتع ... يعوم بتيار من العلم زاخر ولي قضاء الحلوة ثم قضاء الأفلاج، إلى أن توفي فيها سنة إحدى ¬

(¬1) (1/ 619). (¬2) علماء نجد (1/ 228 - 232) والأعلام (2/ 272) والدرر السنية (12/ 77 - 79).

موقفه من المبتدعة:

وثلاثمائة وألف، رحمه الله تعالى. ولما مات أسف عليه المسلمون وبكاه المواطنون، لما هو عليه من سعة العلم وتحقيق العقيدة والصراحة في الحق. موقفه من المبتدعة: - جاء في تاريخ علماء نجد: وكان الشيخ حمد معاصرا للعالم المشهور: الشيخ صديق بن حسن، صاحب المؤلفات، وكان بينهما مراسلة. ومن تلك الرسائل المتبادلة بينهما رسالة مطولة، أثنى الشيخ حمد فيها على الشيخ صديق، وعلى تمسكه بالسنة المحمدية، ونبذ الخرافات، والبدع الناشئة في غالب أرجاء العالم الإسلامي. ومدح مؤلفاته، ولكنه بين له بعض الأخطاء في تفسيره، ودله فيها على مذهب السلف الصالح. وقد جاء فيها ما يلي: من حمد بن عتيق إلى الإمام المعظم والشريف المقدم: محمد صديق، زاده الله من التحقيق. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فالواجب إبلاغ السلام، شيد الله بك قواعد الإسلام، ونشر بك السنن والأحكام. اعلم وفقك الله أنه كان بلغنا أخبار سارة بظهور أخ صادق، ذي فهم راسخ وطريقة مستقيمة، يقال له صديق فنفرح بذلك، ونسر لغرابة الزمان، وقلة الإخوان، وكثرة أهل البدع، ثم وصل إلينا كتاب التحرير، فازددنا فرحا وحمدنا الله، فبينما نحن كذلك، إذ وصل إلينا التفسير بكماله، فرأينا أمرا عجبا نظن أن الزمان لم يسمح بمثله، وما قرب منه من التفاسير التي تصل إلينا من التحريف والخروج عن طريق الاستقامة، وحمل كلام الله على غير مراد الله، فلما نظرنا في ذلك التفسير تبين لنا حسن قصد منشئه، وسلامة

عقيدته لعلمنا أن ذلك من فضل الله: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)}، فالحمد لله رب العالمين، فزاد الاشتياق وتضاعفت رغبته، ولكن العوائق كثيرة، فمن العوائق تباعد الديار، وطول المسافات، فإن مقرنا -في فلج اليمامة- ومنها خطر الطريق، وتسلط الحرامية، ونهب الأموال، واستباحة الدماء، وإخافة السبل. ولما رأينا ما من الله به عليكم من التحقيق وسعة الاطلاع، وعرفنا شركتكم من الآلات، وكانت -نونية ابن القيم- بين أيدينا، ولنا بها عناية، ولكن أفهامنا قاصرة، وبضاعتنا مزجاة من أبواب جملة، وفيها موضوعات محتاجة إلى البيان، ولم يبلغنا أن أحدا تصدى لشرحها، فإن غلب على الظن أنك تقدر على ذلك فافعل، وهي واصلة إليك، فاجعل قراءتها شرحها. ولنا مقصد آخر، وهو أن هذا التفسير العظيم وصل إلينا في شعبان سنة سبع وتسعين ومائتين وألف، فنظرت فيه، ولم أتمكن إلا من بعضه، ومع ذلك وقعت على موضوعات تحتاج إلى تحقيق، وظننت أن لذلك سببين: أحدهما أنه لم يحصل منكم إمعان نظر في الكتاب بعد إتمامه. والثاني: أن الظاهر أنك أحسنت الظن ببعض المتكلمة، وأخذت من عباراتهم بعضا بلفظه وبعضا بمعناه، فدخل عليك شيء من ذلك، وهو قليل بالنسبة إلى ما وقع فيه كثير ممن صنف في التفسير وغيره. وقد اجترأت عليك بمثل هذا الكلام نصحا لله ورسوله، ورجاء من الله أن ينفع بك في هذا الزمان، وأنا أنتظر منك الجواب، ثم إني لما رأيت

ترجمتك، وقد سمي فيها بعض مصنفاتك، وكنت في بلاد قليلة فيها الكتب، وقد ابتليت بالدخول في أمور الناس لأجل ضرورتهم؛ كما قيل: خلا لك الجو فبيضي واصفرى، وألتمس من جنابك أن تتفضل علينا بكتاب 'السول في أقضية الرسول' و'الروضة الندية' و'نيل المرام'. فنحن في ضرورة عظيمة إلى هذه كلها، فاجعل من صالح أعمالك معونة إخوانك، وابعث بها إلينا على يد الأخ أحمد بن عيسى الساكن في مكة المكرمة، واكتب لنا تعريفا بأحوالكم. ولعل أحدا يتلقى هذا العلم ويحفظ عنك، واحرص على ذلك طمعا أن يجمع الله لك شرف الدنيا والآخرة. واعلم أنى قد بلغت السبعين، وأنا في معترك الأعمار، ولا آمن هجوم المنية، ولي من الأولاد ثمانية، منهم ثلاثة يطلبون العلم كبيرهم سعد ويليه عبد العزيز وتحته عبد اللطيف وبقيتهم صغار منهم من هو في المكتب. ولا تنسنا من دعائك الصالح كما هو لك مبذول، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه. (¬1) التعليق: هذه الرسالة القيمة لهذا العالم تدل على الأمور الآتية: - اهتمام الشيخ بالعقيدة السلفية. - الطريقة المثلى في التنبيه على الخطأ، بحيث لم يعنف، ولم يقرع، ولكن اللطف والثناء. ¬

(¬1) (1/ 229 - 231).

- تواضع الشيخ الكامل في مدح الصديق والاعتراف بالتقصير. - طيب نفسه، يشم ذلك من عباراته في رسالته حيث ذكرنا بالسلف الأول. - خطورة التأويل الذي في تفسير الصديق، وقد بينت ذلك في كتابي: 'المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات' (¬1). - بيان تأثر الصديق بعلم الكلام، وهذا تراجع عنه كما أثبت الشيخ الفاضل والزميل الطيب عاصم بن عبد الله القريوتي، في مقدمة كتاب 'قطف الثمر' للصديق. - بيان ما كانت عليه الحال في ذلك الزمان، من قلة كتب ومراجع، هي الآن عندنا مبذولة، والحمد لله على نعمه وإحسانه. - تعيين الوقت الذي كتبت فيه هذه الرسالة. آثاره السلفية: 1 - 'الفرق المبين بين السلف وابن سبعين'. 2 - 'الدفاع عن أهل السنة والأتباع'. 3 - 'إبطال التنديد شرح كتاب التوحيد' وهو مطبوع. وكلها مذكورة في علماء نجد (¬2). 4 - الرسالة المذكورة آنفا. ¬

(¬1) (2/ 625 - 646). (¬2) (1/ 229).

محمد بن المدني المستاري (1302 هـ)

محمد بن المدني المستاري (¬1) (1302 هـ) محمد بن المدني بن علي جنون، أبو عبد الله المستاري المغربي. كان من علماء القرن الثالث عشر في بلاد المغرب، مفتيا محدثا لغويا، نزيها، دؤوبا على نشر العلم، قوالا للحق، شديدا على أهل البدع، وأوذي بسبب ذلك وسجن. توفي رحمه الله سنة اثنتين وثلاثمائة وألف. موقفه من الصوفية: جاء في الفكر السامي: هذا الشيخ من أكبر المتضلعين في العلوم الشرعية الورعين، المعلنين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... قوالا للحق مطبوعا على ذلك غير هياب ولا وجل، نزيها مقداما مهيبا، عالي الهمة، دؤوبا على نشر العلم، والإرشاد، والنهي عن المناكر والبدع، التي تكاثرت في أيامه، لا يخشى في الحق لومة لائم، يحضر مجلسه الولاة والأمراء أبناء الملوك وغيرهم، وهو يصرح بإنكار أحوالهم وما هم عليه، مبينا لهناتهم غير متشدق ولا متصنع، بل تعتريه حال ربانية، ولكلامه تأثير على سلطان النفوس، رزق في ذلك القبول والهيبة، على نحولة جسمه، ووصلته بذلك إذاية وسجن، لكن بمجرد سجنه اعتصب الطلبة وقامت قيامة العامة، فأطلق سبيله لذلك. فهو أحق من يقال في حقه مجدد لكثرة المنافع به، وانتشار العلم عنه وعن تلاميذه، وقيامه بالنهي عن مناكر وقته وكان شديدا على أهل الطرق ومالهم من البدع التي شوهت جمال الدين، والمتصوفة أصحاب ¬

(¬1) الفكر السامي (4/ 361 - 363) وشجرة النور الزكية (1/ 429) والأعلام (7/ 94) ومعجم المؤلفين (12/ 10).

سليمان بن علي بن مقبل (1304 هـ)

الدعاوى التي تكذبها الأحوال، وما كان أحد يقدر على الرد عليه مع شدة إغلاظه عليهم وعلى غيرهم، وسلوكه في ذلك مسلك التشديد، بل التطرف في بعض المسائل، ومع ذلك هابه علماء وقته ولم يجرؤوا على انتقاده ... وله تآليف كثيرة في مواضع متنوعة، وكثيرا ما ألف في البدع (¬1). التعليق: نأخذ من هذه النصوص استئناسا بهؤلاء، لعلهم كانوا يوافقون السلف في بعض مواقفهم، وإلا من قرأ تراجمهم المفصلة، يجد عندهم بعض ما يخرج عن منهاج السلف، لكن وقوفه ضد المتصوفة، يُعْتَبَر موقفا سلفيا، وما ذكر المترجم من محاربته للبدع، فأرجو أن يكون عاما في جميع البدع. سليمان بن علي بن مقبل (¬2) (1304 هـ) الشيخ سليمان بن علي بن مقبل، ولد في قرية المنسى التابعة لمدينة بريدة، في حدود سنة عشرين ومائتين وألف للهجرة، ونشأ فيها، وقرأ على علمائها. وأكثر أخذه عن الشيخ قرناس بن عبد الرحمن، ثم سافر إلى الرياض وقرأ على الشيخ عبد الرحمن بن حسن، ثم رحل إلى دمشق، فلازم الشيخ حسن بن عمر الشطي واستفاد منه. ثم عاد إلى وطنه، فاتصل بالشيخ عبد الله أبا بطين قاضي عنيزة فقرأ عليه وأخذ عنه. عين قاضيا في مدينة بريدة سنة ست وخمسين ومائتين وألف للهجرة. ¬

(¬1) الفكر السامي (4/ 362 - 363). (¬2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (2/ 373 - 380).

موقفه من المشركين:

قال فيه الشيخ إبراهيم بن محمد بن ضويان: كان فقيها ذا وقار، مسددا في أحكامه، وطالت مدته في القضاء، فعزل نفسه لكبر سنه، وحج وجاور في مكة، وحج من قابل، ورجع إلى وطنه، فسكن "خب البصر" إلى أن مات فيه عام أربع وثلاثمائة وألف للهجرة. موقفه من المشركين: جاء في علماء نجد: ويذكر أنه لما عين قاضيا في بريدة، شك علماء الرياض في صحة تحقيقه التوحيد، وخافوا أنه ممن يجيز التوسل بذوات الصالحين أو ممن يجيز شد الرحال إلى القبور ونحو ذلك، فطلبوه ليحققوا معه، فذهب إليهم ورافقه تلميذه قاضي الخبراء الشيخ محمد بن عمر بن مبارك العمري، فلما باحثوه وظهر لهم صحة معتقده، عاد إلى بريدة واستمر في عمله القضائي. (¬1) موقف السلف من الدجال الكذاب أحمد زيني دحلان (1304 هـ) محاربته للعقيدة السلفية: - كلمة الشيخ رشيد رضا فيه في مقدمة صيانة الإنسان (¬2): 'رسالة الشيخ أحمد زيني دحلان في الرد على الوهابية'. تصدى للطعن في الشيخ محمد بن عبد الوهاب والرد عليه أفراد من أهل الأمصار المختلفة، منهم رجل ¬

(¬1) علماء نجد (2/ 375). (¬2) (ص.7 - 10).

من أحد بيوت العلم في بغداد، قد عهدناه يفتخر بأنه من دعاة التعطيل والإلحاد، وكان أشهر هؤلاء الطاعنين مفتي مكة المكرمة، الشيخ أحمد زيني دحلان، المتوفى سنة أربع وثلاثمائة وألف، ألف رسالة في ذلك، تدور جميع مسائلها على قطبين اثنين: قطب الكذب والافتراء على الشيخ، وقطب الجهل بتخطئته في ما هو مصيب فيه، أنشئت أول مطبعة في مكة المكرمة في زمن هذا الرجل، فطبع رسالته وغيرها من مصنفاته فيها، وكانت توزع بمساعدة أمراء مكة ورجال الدولة، على حجاج الآفاق فعم نشرها، وتناقل الناس مفترياته وبهاءته في كل قطر، وصدقها العوام وكثير من الخواص، كما اتخذت المبتدعة والحشوية والخرافيون رواياته ونقوله الموضوعة والواهية والمنكرة وتحريفاته للروايات الصحيحة حججا يعتمدون عليها في الرد على دعاة السنة المصلحين، وقد فنيت نسخ رسالته تلك ولم يبق منها شيء بين الأيدي، ولكن الألسن والأقلام لا تزال تتناقل كل ما فيها من غير عزو إليها، ودأب البشر العناية بنقل ما يوافق أهواءهم، فكيف إذا وافقت هوى ملوكهم وحكامهم، كنا نسمع في صغرنا أخبار الوهابية المستمدة من رسالة دحلان هذا، ورسائل أمثاله فنصدقها بالتبع لمشائخنا وآبائنا، ونصدق أن الدولة العثمانية هي حامية الدين، ولأجله حاربتهم، وخضضت شوكتهم. وأنا لم أعلم بحقيقة هذه الطائفة إلا بعد الهجرة إلى مصر، والاطلاع على تاريخ الجبرتي، وتاريخ الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى، فعلمت منهما أنهم هم الذين كانوا على هداية الإسلام دون مقاتليهم، وأكده الاجتماع بالمطلعين على التاريخ من أهلها، ولا سيما تواريخ الإفرنج الذين بحثوا عن حقيقة

الأمر، فعلموها وصرحوا أن هؤلاء الناس أرادوا تجديد الإسلام، وإعادته إلى ما كان عليه في الصدر الأول، وإذا لتجدد مجده وعادت إليه قوته وحضارته، وأن الدولة العثمانية ما حاربتهم إلا خوفا من تجديد ملك العرب، وإعادة الخلافة الإسلامية سيرتها الأولى. على أن العلامة الشيخ: عبد الباسط الفاخوري، مفتي بيروت، كان ألف كتابا في تاريخ الإسلام، ذكر فيه الدعوة التي دعا إليها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وقال: إنها عين ما دعا إليه النبيون والمرسلون، ولكنه قال: إن الوهابيين في عهده متشددون في الدين، وقد عجبنا له كيف تجرأ على مدحهم في عهد السلطان عبد الحميد! ورأيت شيخنا: الشيخ محمد عبده في مصر على رأيه في هداية سلفهم، وتشدد خلفهم وأنه لولا ذلك، لكان إصلاحهم عظيما، ورجى أن يكون عاما، وقد ربى الملك عبد العزيز الفيصل أيده الله غلاتهم المتشددين، منذ سنتين بالسيف، تربية يرجى أن تكون تمهيدا لإصلاح عظيم. ثم اطلعت على أكثر كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب ورسائله وفتاويه، وكتب أولاده وأحفاده ورسائلهم، ورسائل غيرهم من علماء نجد في عهد هذه النهضة التجديدية، ورأيت أنه لم يصل إليهم اعتراض ولا طعن فيهم إلا وأجابوا عنه، فما كان كذبا عليهم قالوا: {سبحانك هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)} (¬1). وما كان صحيحا أو له أصل بينوا حقيقته وردوا عليه، وقد ¬

(¬1) النور الآية (16).

طبعت أكثر كتبهم وعرف الألوف من الناس أصل تلك المفتريات عنهم. ومن المستبعد جدا، أن يكون الشيخ أحمد دحلان لم يطلع على شيء من تلك الكتب والرسائل، وهو في مركزه بمكة المكرمة على مقربة منهم، فإن كان قد اطلع عليها ثم أصر على ما عزاه إليهم من الكذب والبهتان -ولا سيما ما نفوه صريحا وتبرأوا منه- فأي قيمة لنقله ولدينه وأمانته؟ وهل هو إلا ممن باعوا دينهم بدنياهم؟ ولقد نقل عنه بعض علماء الهند ما يؤيد مثل هذا فيه. فقد قال صاحب كتاب 'البراهين القاطعة على ظلام الأنوار الساطعة' المطبوع بالهند: إن شيخ علماء مكة في زماننا قريب من سنة ثلاث وثلاثمائة وألف قد حكم -أي أفتى- بإيمان أبي طالب، وخالف الأحاديث الصحيحة، لأنه أخذ الرشوة -الربابي القليلة- من الرافضي البغدادي اهـ. وشيخ مكة في ذلك العهد هو الشيخ أحمد دحلان الذي توفي سنة أربع وثلاثمائة وألف، وصاحب الكتاب المذكور هو العلامة الشيخ رشيد أحمد الكتكوتي مؤلف كتاب بذل المجهود شرح سنن أبي داود، والخبر مذكور فيه، وهو قد نسب إلى أحد تلاميذ مؤلفه الشيخ خليل أحمد والصحيح أنه هو الذي أملاه عليه، وهو كبير علماء "ديوبند" في عصره رحمه الله. وإذا فرضنا أن الشيخ أحمد دحلان لم ير شيئا من تلك الكتب والرسائل، ولم يسمع بخبر عن تلك المناظرات والدلائل، وأن كل ما كتبه في رسالته قد سمعه من الناس وصدقه، أفلم يكن من الواجب عليه أن يتثبت فيه ويبحث ويسأل عن كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب ورسائله، ويجعل رده

عليها، ويقول في الأخبار اللسانية قال لنا فلان، أو قيل عنه كذا، فإن صح فحكمه كذا؟ إن علماء السنة في الهند واليمن قد بلغهم كل ما قيل في هذا الرجل، فبحثوا وتثبتوا وتبينوا كما أمر الله تعالى فظهر لهم أن الطاعنين فيه مفترون لا أمانة لهم، وأثنى عليه فحولهم في عصره وبعد عصره وعدوه من أئمة المصلحين، المجددين للإسلام، ومن فقهاء الحديث كما نراه في كتبهم. ولا تتسع هذه المقدمة لنقل شيء من ذلك، وإنما هي تمهيد للتعريف بهذا الكتاب في الرد عليه. التعليق: يستفاد من هذا النص الحقائق الآتية: - بيان الحالة التي كان عليها دحلان من محاربته للعقيدة السلفية. - بيان تعاون أهل الضلال، وتكاتفهم ضد العقيدة السلفية - أمراء تجار وعلماء. - الأثر الخبيث الذي تركته كتب هذا المبتدع في نفوس الناس. - التردي الفكري والعلمي الذي كان يعيشه العالم الإسلامي، وإلا كان بالإمكان أن يتوصل لحقيقة طالبها وإن بعدت الديار. - كثير من الناس اقتنعوا بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وإن كان التطبيق ينقصهم. - مبلغ عداوة الدولة العثمانية للعقيدة السلفية. - شجاعة الشيخ عبد الباسط في إظهار العقيدة السلفية على حقيقتها، وإن كان ينقصه بعض الفهم والتصور عنها، كما ينقص الشيخ رشيد رضا.

صديق حسن خان (1307 هـ)

- بيع الخرافيين والدجالين لفتواهم الباطلة، ونزاهة السلفيين عن مثل هذا السقوط. - الإلزامات الجيدة التي ذكرها الشيخ رشيد، تلزم كل خرافي وصاحب بدعة في العقيدة السلفية. صديق حسن خان (¬1) (1307 هـ) الشيخ العلامة محمد صديق خان بن حسن بن علي بن لطف الله الحسيني أبو الطيب البخاري القَنُّوجِي. ولد سنة ثمان وأربعين ومائتين وألف للهجرة في قنوج (بالهند)، ثم ارتحل إلى مدينة دهلي، ثم إلى بهوبال، طالبا للعلم وآخذا من أهله. أخذ عن الشيخ صدر الدين الدهلوي وحسن بن محسن السبعي الأنصاري وغيرهما. وفي عام ثمان وثمانين ومائتين وألف للهجرة تزوج ملكة بهوبال، وعمل وزيرا لها ونائبا عنها. قال عنه تليمذه ابن الآلوسي: شيخنا الإمام الكبير، السيد العلامة الأمير البدر المنير، البحر الحبر في التفسير والحديث والفقه والأصول ... فصيح سريع القراءة، سريع الكتابة، سريع الحفظ والمطالعة، لا يبالي في الله بلومة لائم من أهل الابتداع، ولا تمنعه صولة صائل في تحرير الحق الحقيق بالاتباع. قال عن نفسه رحمه الله: ثم إني لم أمدح في عمري هذا أحدا من الأمراء طمعا في صلته وملازمته كما هو عادة الشعراء، وإنما نظمت الشعر العربي والفارسي، إذا طاب الوقت وطاب ¬

(¬1) هدية العارفين (2/ 388) والأعلام (6/ 167) ومعجم المؤلفين (10/ 90) ومقدمة قطف الثمر (11 - 25) وجلاء العينين (48) والتاج المكلل (ص.541 - 550) وأبجد العلوم (3/ 216 - 218).

موقفه من المبتدعة:

الهواء. وغالب نظمي في التحريض على اتباع الكتاب والسنة لأنهما يكشفان عن كل مدلهمة ودجنة، وفي ذم التقليد الشؤوم، والابتداع المذموم. حسبي بسنة أحمد متمسكا ... عن كل قول في الجدال ملفق أورد أدلتها على أهل الهوى ... إن شئت أن تلهو بلحية أحمق واترك مقالا حادثا متجددا ... من محدث متشدق متفيهق ودع اللطيف وما به قد لفقوا ... فهو الكثيف لدى الخبير المتقي ودع الملقب حكمة فحكيمها ... أبدا إلى طرق الضلالة يرتقي من مؤلفاته: 'فتح البيان في مقاصد القرآن' و'الدين الخالص' و'قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر' و'الإقليد لأدلة الاجتهاد والتقليد' و'الروضة الندية شرح الدرر البهية للشوكاني' وغيرها كثير. توفي رحمه الله سنة سبع وثلاثمائة وألف. موقفه من المبتدعة: - هذا الإمام كان من ملوك الهند الذين من الله عليهم بالهداية إلى الإسلام عموما، وإلى السلفية خصوصا. يقول الشيخ عاصم في مقدمة كتاب قطف الثمر: كان الشيخ حريصا أشد الحرص على العقيدة الصافية والدعوة إلى الكتاب والسنة وذم التقليد والجمود، كما تدل على ذلك سيرته ومؤلفاته. وكتابه العظيم 'الدين الخالص' يشهد له بذلك. والمصنف رحمه الله كان أشعريا كما هو معروف لدى أهل العلم، وكتابه 'فتح البيان في مقاصد القرآن' يدل على ذلك، ولقد يسر الله له الحج عام خمس وثمانين ومائتين وألف. ولابد أنه التقى بعلماء أهل السنة في

سفرته ... وفي عام تسع وثمانين وألف ومائتين، صنف المؤلف رسالته 'قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر' واستفاد من نصيحة الشيخ العلامة حمد بن عتيق -التي تقدم ذكرها في مواقف الشيخ حمد- وانكب على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، واغترف من كتبهما وكتب غيرهما من أهل السنة، وحث على ذلك. (¬1) التعليق: يستفاد من هذا أن الشيخ كان على طريقة المؤولة ثم رجع إلى عقيدة السلف رحمه الله. آثاره السلفية: 1 - 'قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر'، وهو يشبه إلى حد ما كتاب الواسطية لشيخ الإسلام. وقد طبع بتحقيق الشيخ عاصم. 2 - 'الدين الخالص' وهو كتاب جيد فيه فوائد عظيمة، على هنات فيه في التوسل، وعدم التنظيم في السياق، وقد طبع. 3 - 'الجنة في الأسوة الحسنة بالسنة في اتباع السنة'. 4 - 'الطريقة المثلى في الإرشاد إلى ترك التقليد واتباع ما هو الأولى'. 5 - 'قصد السبيل إلى ذم الكلام والتأويل' ذكر هذه الكتب الثلاثة الأخيرة الشيخ عاصم في المقدمة. من طيب أقواله: ¬

(¬1) قطف الثمر (12).

- قال عقب قول الله عز وجل: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا} (¬1) الآية: وفي هذه الآية ما يزجر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد عن التقليد في دين الله، وتأثير ما يقوله الأسلاف على ما في الكتاب العزيز والسنة المطهرة، فإن طاعة المتمذهب لمن يقتدى بقوله ويستن بسنته من علماء هذه الأمة مع مخالفته لما جاءت به النصوص وقامت به حجج الله وبراهينه ونطقت به كتبه وأنبياؤه، هو كاتخاذ اليهود والنصارى للأحبار والرهبان أربابا من دون الله، للقطع بأنهم لم يعبدوهم، بل أطاعوهم. وحرموا ما حرموا وحللوا ما حللوا، وهذا هو صنيع المقلدين من هذه الأمة وهو أشبه به من شبه البيضة بالبيضة والتمرة بالتمرة والماء بالماء. فيا عباد الله ويا أتباع محمد بن عبد الله ما بالكم تركتم الكتاب والسنة جانبا وعمدتم إلى رجال هم مثلكم في تعبد الله لهم بهما، وطلبه للعمل منهم بما دلا عليه وأفاداه، فعملتم بما جاءوا به من الآراء التي لم تعمد بعماد الحق ولم تعضد بعضد الدين، ونصوص الكتاب والسنة تنادي بأبلغ نداء وتصوت بأعلى صوت بما يخالف ذلك ويباينه، فأعرتموها آذانا صما وقلوبا غلفا، وأفهاما مريضة وعقولا مهيضة وأذهانا كليلة وخواطر عليلة، وأنشدتم بلسان الحال: وما أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد فدعوا أرشدكم الله وإياي كتبا كتبها لكم الأموات من أسلافكم، ¬

(¬1) التوبة الآية (31).

واستبدلوا بها كتاب الله خالقهم وخالقكم، ومتعبدهم ومتعبدكم، ومعبودهم ومعبودكم، واستبدلوا بأقوال من تدعونهم بأئمتكم وما جاءوكم به من الرأي بأقوال إمامكم وإمامهم وقدوتهم وقدوتكم، وهو الإمام الأول محمد ابن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -. دعوا كل قول عند قول محمد ... فما آمن في دينه كمخاطر اللهم هادي الضال مرشد التائه موضح السبيل، اهدنا إلى الحق وأرشدنا إلى الصواب وأوضح لنا منهج الهداية. (¬1) - وقال في الدين الخالص عند قوله تعالى: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)} (¬2) أي تخافون ما نزل بكم من العذاب إلى قوله: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)} (¬3). قال أهل العلم: هذا داخل في جملة ما استنكروه، وهكذا يقول المقلدة لأهل الاتباع والمبتدعة لأهل السنة كأنهم هم. (¬4) - ومنها قوله: ومن السنة هجران أهل البدع، ومباينتهم، وترك الجدال والخصومات في الدين والسنة، وكل محدثة في الدين بدعة، وترك النظر في ¬

(¬1) فتح البيان (5/ 286 - 287). (¬2) الأعراف الآية (65). (¬3) الأعراف الآية (70). (¬4) الدين الخالص (1/ 20 - 21).

كتب المبتدعة، والإصغاء إلى كلامهم، في أصول الدين وفروعه، كالرافضة، والخوارج، والجهمية، والقدرية، والمرجئة، والكرامية، والمعتزلة، فهذه فرق الضلالة وطرائق البدع. والاختلاف في الفروع شائع، كما في الطوائف الأربعة، والمختلفون فيه محمودون متابعون على اجتهادهم، من لم يخالف النص، واختلافهم رحمة واسعة، إذا كان مبنيا على أدلة الكتاب والسنة كاختلاف الصحابة فيما بينهم، وهم أسوة الأمة واتفاقهم حجة عند قوم. ثم من طريقهم اتباع آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باطنا وظاهرا، والمشي على ظاهر السنة وواضحها، واتباع سبل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، واتباع وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين» إلى قوله: «وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة» (¬1) ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله تعالى كما قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)} (¬2) وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - من هدي كل أحد سواه، سموا أهل الكتاب والسنة وأهل الحديث والآثار. (¬3) - ومنها قوله: هذه جملة مختصرة من الكتاب والسنة، وآثار السلف فالزمها وما كان مثلها، مما صح عن الله ورسوله، وصالح سلف الأمة بما ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (1/ 435) والنسائي في الكبرى (6/ 343/11174 - 11175) والدارمي (1/ 67 - 68) وابن أبي عاصم (1/ 13/17) وابن حبان (1/ 180 - 181/ 6 - 7 [الإحسان]) والحاكم (2/ 318) وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. (¬2) النساء الآية (122). (¬3) قطف الثمر (ص.142 - 144).

حصل من الاتفاق عليه من خيار الأمة، ودع أقوال من عداهم محقورا مهجورا، مبعدا مدحورا، مذموما ملوما، وإن اغتر كثير من المتأخرين بأقوالهم، وجنحوا إلى اتباعهم، فلا تغتر بكثرة أهل الباطل فقد قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)} (¬1) وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء» (¬2) رواه مسلم. ولنعم ما قيل: إن القلوب يد الباري تقلبها ... من يضلل الله لا تهديه موعظة فهذه غربة الإسلام أنت بها ... فاسأل الله توفيقا وتثبيتا وإن هديت فبالأخبار أنبيتا فكن صبورا ولو في الله أوذيتا فهذه الأقاويل التي وصفت مذاهب أهل السنة والأثر، وأصحاب الرواية، وحملة العلم النبوي، فمن خالف شيئا من هذه، أو طعن فيهم، أو عاب قائلها، فهو مخالف مبتدع، خارج عن الجماعة، زائل عن منهج السنة وسبيل الحق. وما ذكرته من العقائد ينبغي أن يقدم إلى الصبي في أول نشوه ليحفظه، ثم لا يزال ينكشف له معناه في كبره شيئا فشيئا، ومن فضل الله على قلب الإنسان إن شرحه في أول نشوه للإيمان، من غير حاجة إلى حجة وبرهان، فلا بد من إثباته في نفس الصبي والعامي حتى يترسخ ولا يتزلزل. (¬3) ¬

(¬1) سبأ الآية (13). (¬2) مسلم (1/ 130/145) وابن ماجه (2/ 1319 - 1320/ 3986) عن أبي هريرة. وفي الباب عن أنس وابن مسعود وابن عمر وغيرهم. (¬3) قطف الثمر (154 - 155).

- ومنها قوله: وإنما يضل أكثر الخلف من تركهم العمل بآيات الله البينات والسنة وتطلبهم غيرها، قال الله تعالى: {كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)} (¬1). فليحذر من ذلك كل الحذر من عدم القنوع بما قنع به السلف من حجج الله، فيا له من تخويف شديد، ووعيد عظيم. وإنما يعرف الحق من جمع خمسة أوصاف: أعظمها الإخلاص، والفهم، والإنصاف، ورابعها وهو أقلها وجودا وأكثرها فقدانا: الحرص على معرفة الحق وشدة الدعوة إلى ذلك. والبدع قد كثرت، والمحدثات قد عمت البلوى بالإشراك، وكثر الدعاء إليها، والتعويل عليها، وطلاب الحق اليوم شبه طلابه في أيام الفترة وهم سلمان الفارسي، وزيد بن عمرو بن نفيل، وأضرابهما، فإنهم قدوة لطالب الحق، وفيهم له أعظم أسوة لما حرصوا على الحق، وبذلوا الجهد في طلبه حتى بلغهم الله إليه، وأوقفهم عليه، وفازوا من بين العوالم الجمة. فكم أدرك الحق طالبه في زمن الفترة، وكم عمي عنه من طلبه في زمن النبوة، فاعتبر بذلك، واقتد بأولئك الكرام، فإن الحق ما زال مصونا عزيزا نفيسا كريما، لا ينال مع الإضراب عن طلبه، وعدم التشوق والإشراف إلى سببه، ولا يهجم على البطالين المعرضين، ولا يناجي أشباه الأنعام الضالين. ما أعظم المصاب بالغفلة، والاغترار بطول المهلة، فليعرف مريد الحق ¬

(¬1) البقرة الآية (211).

قدر ما هو طالبه، فإنه طالب لأعلى المراتب {وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} (¬1) {خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ} (¬2) فليس في الوجود بأسره أعز من الإيمان بالله وكتبه ورسله، ومتابعتها ومعرفة ما جاؤوا به، إلا تطلب ذلك أهون الطلب، فإن طلبة الدنيا وزخارفها الفانية يرتكبون الأخطاء والمتالف الكبار، وينفق أحدهم غضارة عمره، ونضارة شبابه، وإبان أيامه فيها، وهي لا تحصل لهم على حسب المراد، فكيف بما هو أبقى وخير منها؟ ولم يرفعوا له رأسا ولم يبنوا لها أساسا. وإنما أطلنا القول، لأني أعلم بالضرورة في نفسي وغيري: أن جهل الحقائق أكثرها إنما سببه عدم الاهتمام بمعرفتها على الإنصاف، وترك الاعتساف، لا عدم الفهم والإدراك، فإن من اهتم بشيء أدركه، فكيف لا يفهم طالب الحق مقاصد الأنبياء والمرسلين والسلف الصالحين، مع الاهتمام فيه، وبذل الجهد فيه، وحسن القصد، ولطف أرحم الراحمين؟ ولا ينبغي لطالب الحق والصواب أن يصغي إلى من يصده عن كتب الله، وما أنزل فيها من الهدى والنور والرحمة، لطفا للمؤمنين ونعمة للشاكرين، وليحذر كل الحذر من زخرفتهم وتشكيكهم، وليعتبر بقول الله لرسوله المعصوم {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} الآية (¬3) ويا ¬

(¬1) الإسراء الآية (19). (¬2) البقرة الآية (63). (¬3) الإسراء الآية (73).

لها من موعظة موقظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. ولا يستوحش من ظفر بالحق بكثرة المخالفين، وليوطن نفسه على الصبر واليقين، نسأل الله تعالى أن يرحم غربتنا في الحق ويهدي ضالنا ولا يردنا من أبواب رجائه ودعائه وطلبه ورحمته محرومين. وخامسها -وهو أصعبها-: المشاركة في العلم والتمييز والفهم والدراية حتى يتمكن من معرفة الحق ومقدار ما يقف عليه فيرغب فيه من غير تقليد، لأنه لا يعرف المقادير إلا ذو بصر نافذ، وفهم ماض، فإن عرضت له محنة، لم يتطير بطلب الحق، فيكون ممن يعبد الله على حرف، وليثق بمواعيد الله وقرب الفرج، قال تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)} (¬1) {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)} (¬2) وليعلم يقينا أنه تعالى مع الصابرين والصادقين والمحسنين، وأن الله سبحانه ناصر من ينصره، وذاكر من يذكره، وإن سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأمور عائد على متبعيه، ونصره شامل لناصريه. وقد أمر الله تعالى بالمعاونة على البر والتقوى، وصح الترغيب في الدعاء إلى الحق والخير، وأن الداعي إلى ذلك يؤتى مثل أجور من اتبعه (¬3)، ومن أحيى نفسا ¬

(¬1) النمل الآية (79). (¬2) الروم الآية (60). (¬3) إشارة إلى حديث: «من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده، كتب له مثل أجر عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء ... » الحديث. أخرجه: أحمد (4/ 357) ومسلم (4/ 2059 - 2060/ 2674) والترمذي (5/ 42 - 43/ 2675) والنسائي (5/ 79 - 80/ 2553) وابن ماجه (1/ 74/203) عن جرير بن عبد الله. وأخرجه: ابن ماجه (1/ 75/207) عن أبي جحيفة.

موقفه من الرافضة:

فكأنما أحيى الناس جميعا، ومن أمر بالصلاح والإصلاح ابتغاء مرضات الله فسوف يؤتيه أجرا عظيما. وفي سورة العصر قصر السلامة من الخسر على الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} (¬1).اهـ (¬2) - ومنها قوله: فالزم رحمك الله ما ذكرت لك من كتاب ربك العظيم، وسنة نبيك الرؤوف الرحيم، ولا تحد عنه بقول أحد وعمله، ولا تبتغ الهدى من غيره، ولا تغتر بزخارف المبطلين وانتحالهم وآراء المتكلمين المتكلفين وتأويلهم، إن الرشد والهدى والفوز والرضا فيما جاء من عند الله ورسوله، لا فيما أحدثه المحدثون وأتى به المتنطعون من أرائهم المضمحلة، وعقولهم الفاسدة، وارض بكتاب الله وسنة رسوله بدلا من قول كل قائل وزخرف باطل. (¬3) موقفه من الرافضة: قال رحمه الله: ويتبرؤون من طريقة الروافض والشيعة، الذين يُبْغضون الصحابة ويسبّونهم، وطريقة النواصب والخوارج الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل. ويمسكون عما شجر بين الصحابة بينهم، ويقولون: إن هذه الآثار المروية منها ما هو كذب، ومنها ما هو قد زيد فيه ونقص وغُيّر عن وجهه، ¬

(¬1) فصلت الآية (33). (¬2) قطف الثمر (158 - 161) وهو مقتبس من كلام ابن الوزير في إيثار الحق (26 - 30). (¬3) قطف الثمر (ص.98 - 99).

موقفه من الصوفية:

والصحيح منها هم فيه معذورون، إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون، وهم مع ذلك يعتقدون أن كل أحد من الصحابة ليس معصوماً عن كبائر الإثم وصغائره، بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما صدر منهم إن صدر، حتى أنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم، ولهم من الحسنات التي تمحو سيئات ما ليس لمن بعدهم، وكلهم عدول بتعديل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) موقفه من الصوفية: - قال رحمه الله: ومن أصول السنة التصديق بكرامات الأولياء، وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات، في أنواع العلوم والمكاشفات والتأثيرات، كالمأثور عن سلف الأمة وأئمتها وسالف الأمم في سورة الكهف وسورة مريم وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر قرون الأمة، وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة. والكشف والكرامة ليس بحجة في أحكام الشريعة المطهرة، وخاصة فيما يخالف ظاهر الكتاب والسنة. ولا يمتاز صاحب الولاية والكرامة عن آحاد المسلمين في شيء من الزي والعمل والقول، ولا يختص بالنذر وغيره مما ينبغي لله سبحانه. (¬2) موقفه من الجهمية: من مواقفه رحمه الله الطيبة قوله: ¬

(¬1) قطف الثمر (ص.97). (¬2) قطف الثمر (99). وقد أدرح في فصوله كلام ابن تيمية وخصوصا الواسطية.

- فمذهبنا مذهب السلف: إثبات بلا تشبيه، وتنزيه بلا تعطيل، وهو مذهب أئمة الإسلام، كمالك والشافعي والثوري والأوزاعي وابن المبارك والإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، وهو اعتقاد المشايخ المقتدى بهم، كالفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني وسهل بن عبد الله التستري، وغيرهم. فإنه ليس بين هؤلاء الأئمة نزاع في أصول الدين، وكذلك أبو حنيفة رضي الله عنه، فإن الاعتقاد الثابت عنه، موافق لاعتقاد هؤلاء، وهو الذي نطق به الكتاب والسنة، قال الإمام أحمد: "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا نتجاوز القرآن والحديث" وهكذا مذهب سائرهم، فنتبع في ذلك سبيل السلف الماضين، الذين هم أعلم الأئمة بهذا الشأن، نفيا وإثباتا، وهم أشد تعظيما لله وتنزيها له عما لا يليق بحاله، فإن المعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا ترد بالشبهات، فيكون ردها من باب تحريف الكلم عن مواضعه، ولا يقال هي ألفاظ لا تعقل معانيها، ولا يعرف المراد منها، فيكون ذلك مشابهة للذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني بل هي آيات بينات، دالة على أشرف المعاني وأجلها، قائمة حقائقها في صدور الذين أوتوا العلم. والإيمان إثبات بلا تشبيه، وتنزيه بلا تعطيل، كما قامت حقائق سائر صفات الكمال في قلوبهم، كذلك فكان الباب عندهم بابا واحدا، قد اطمأنت به قلوبهم، كذلك وسكنت إليه نفوسهم، فأنسوا من صفات كماله ونعوت جلاله مما استوحش منه الجاهلون المعطلون، وسكنت قلوبهم إلى ما نفر منه الجاحدون المتكلمون، وعلموا أن الصفات حكمها حكم الذات،

فكما أن ذاته سبحانه لا تشبه الذوات، فكذا صفاته لا تشبه الصفات، فما جاءهم من الصفات عن المعصوم تلقوه بالقبول، وقابلوه بالمعرفة والإيمان والإقرار، لعلمهم بأنه صفة من لا تشبيه لذاته ولا لصفاته، وأن ما جاء مما أطلقه الشرع على الخالق والمخلوق لا تشابه بينهم في المعنى الحقيقي، إذ صفات القديم بخلاف صفات الحادث، وليس بين صفاته وصفات خلقه إلا موافقة اللفظ للفظ. والله سبحانه وتعالى قد أخبر أن في الجنة لحما ولبنا وعسلا وماء وحريرا وذهبا، وقال ابن عباس: "ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء" فإذا كانت هذه المخلوقات الفانية ليست مثل هذه الموجودة، مع اتفاقهما في الأسماء فالخالق جل وعلا أعظم علوا، وأعلى مباينة لخلقه، من مباينة المخلوق للخالق وإن اتفقت الأسماء. وأيضا فقد سمى الله سبحانه نفسه حيا عليما سميعا بصيرا ملكا رؤوفا رحيما، وسمى بعض مخلوقاته حيا وبعضها عليما، وبعضها سميعا بصيرا، وبعضها رؤوفا رحيما، وليس الحي كالحي، ولا العليم كالعليم، ولا السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير، ولا الرؤوف الرحيم كالرؤوف الرحيم. (¬1) - وقوله: ومن ظن أن نصوص الصفات لا يعقل معناها، ولا يدرى ما أراد الله تعالى ورسوله منها، وظاهرها تشبيه وتمثيل، واعتقاد ظاهرها كفر وضلال، وإنما هي ألفاظ لا معاني لها، وإن لها تأويلا وتوجيها لا يعلمه إلا الله، وأنها بمنزلة} {الم} و {كهيعص} وظن أن هذه طريقة السلف، ولم ¬

(¬1) قطف الثمر (47 - 49).

يكونوا يعرفون حقيقة قوله: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (¬1) وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (¬2). وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (¬3) ونحو ذلك. فهذا الظان، من أجهل الناس بعقيدة السلف وأضلهم عن الهدى، وقد تضمن هذا الظن استجهال السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، وسائر الصحابة، وكبار الذين كانوا أعلم الأمة علما وأفقههم فهما، وأحسنهم عملا، وأتبعهم سننا. ولازم هذا الظن أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يتكلم بذلك ولا يعلم معناه، وهو خطأ عظيم وجسارة قبيحة نعوذ بالله منها. (¬4) - وقوله: ومن قال: يخلو العرش عند النزول، أو لا يخلو، فقد أتى بقول مبتدع، ورأي مخترع، وكل ما وصف به الرسول ربه من الأحاديث الصحاح، التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول، وجب الإيمان به كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم براحلته» (¬5) متفق عليه. وضحكه تعالى إلى رجلين، يقتل أحدهما الآخر، فيدخلان الجنة (¬6) رواه الشيخان، وقوله: «حتى ¬

(¬1) الزمر الآية (67). (¬2) ص الآية (75). (¬3) طه الآية (5). (¬4) قطف الثمر (53 - 54). (¬5) تقدم تخريجه. انظر مواقف ابن قدامة صاحب المغني سنة (620هـ). (¬6) أحمد (2/ 244؛464) والبخاري (6/ 49/2826) ومسلم (3/ 1504/1890) والنسائي (6/ 346/3166) وابن ماجه (1/ 68/191) كلهم من طرق عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة ... » الحديث.

موقفه من الخوارج:

يضع رب العزة فيها قدمه» متفق عليه (¬1)، وقوله: «فينادي بصوت» (¬2) رواه البخاري ومسلم، وقوله: «فلا يبصق قبل وجهه، فإن الله قبل وجهه» (¬3) متفق عليه. إلى أمثال هذه الأحاديث، التي يخبر فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ربه فيما يخبر به. فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة، يؤمنون به من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، وهؤلاء هم الوسط في فرقة الأمة، كما أن الأمة المرحومة هي الوسط في الأمم، فهم وسط الأمة في باب الصفات بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة، كما أنهم وسط في باب أفعاله تعالى بين الحرورية والقدرية، وفي باب أسماء الإيمان والدين بين المعتزلة والمرجئة وفي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الرافضة والخوارج. (¬4) موقفه من الخوارج: - قال رحمه الله: ولا يخلد صاحب الكبيرة المسلم في النار، والعفو عن الكبائر جائز، وكذلك عفوها عمن مات بلا توبة جائز، من باب خرق العوائد. وبعثة الرسل إلى الخلق، وتكليف الله عباده بالأمر والنهي عن ألسنتهم ¬

(¬1) تقدم تخريجه من حديث أنس. انظر مواقف عبد العزيز بن الماجشون سنة (164هـ). (¬2) ولفظه: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله: يا آدم. فيقول: لبيك وسعديك. فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار». أخرجه: أحمد (3/ 32 - 33) والبخاري (13/ 555/7483) واللفظ له ومسلم (1/ 201 - 202/ 222) والنسائي في الكبرى (6/ 409/11339) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬3) أحمد (2/ 72) والبخاري (1/ 670/406) ومسلم (1/ 388/547) وأبو داود (1/ 323/479) والنسائي (2/ 383/723) وابن ماجه (1/ 251/763) من طريق نافع عن ابن عمر. (¬4) قطف الثمر (59 - 63).

حق، وهم معصومون من الكفر، والإصرار على الكبائر، يعصمهم الله عنها. إلى أن قال رحمه الله: والخلافة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قريش، ما بقي من الناس اثنان، وليس لأحد من الناس أن ينازعهم فيها، ولا يخرج عليهم ولا يقر لغيرهم بها إلى قيام الساعة. والجهاد ماض قائم مع الأئمة الأبرار والفجار، مذ بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يقاتل آخر الأمة الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل. والجمعة والعيدان: الفطر والأضحى، والحج مع السلاطين وملوك الإسلام وإن لم يكونوا بررة عدولا أتقياء. ودفع الصدقات، والخراج، والأعشار، والفيء، والغنائم إليهم عدلوا فيها أو جاروا، والانقياد لمن ولاه الله عزوجل أمر الناس، ولا ينزع يدا من طاعته ولا يخرج عليه بسيف حتى يجعل الله له فرجا مخرجا. ولا يخرج على السلطان، يسمع ويطيع، ولا ينكث بيعته، فمن فعل ذلك فهو مبتدع، مخالف، مفارق للجماعة، ولا يمنعه حقه. والإمساك في الفتنة سنة ماضية، واجب لزومها، فإن ابتليت فقدم نفسك دون دينك، ولا تعن على الفتنة بيد ولا لسان، ولكن اكفف يدك ولسانك وهواك. ومن ولي الخلافة، واجتمع عليه الناس، ورضوا به، وغلبهم بسيفه، حتى صار خليفة، وسمي أمير المؤمنين، وجبت طاعته، وحرمت مخالفته فيما ليس بمعصية لله ولرسوله، والخروج عليه، وشق عصا المسلمين. وإن أمرك

موقفه من المرجئة:

السلطان بأمر هو لله معصية فليس لك أن تطيعه البتة، وليس لك أن تخرج عليه. (¬1) موقفه من المرجئة: - قال رحمه الله: والإيمان قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، مطابقاً للكتاب والسنّة والنية لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» (¬2). والإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، قال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (¬3) وقال تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} (¬4) وقال تعالى: {ويزداد الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا} (¬5). وفي الحديث: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» (¬6). فجعل القول والعمل جميعاً من الإيمان. (¬7) - وقال أيضاً: والاستثناء في الإيمان جائز غير أن لا يكون للشك، بل هي سنة ماضية عند العلماء، ولو سئل الرجل أمؤمن أنت؟ فإنه يقول: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى، أو مؤمن أرجو الله، أو يقول آمنت بالله وملائكته ¬

(¬1) قطف الثمر (132 - 133). (¬2) تقدم تخريجه ضمن مواقف الشافعي سنة (204هـ). (¬3) التوبة الآية (124). (¬4) الفتح الآية (4). (¬5) المدثر الآية (31). (¬6) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي إسحاق الفزاري سنة (186هـ). (¬7) قطف الثمر (ص.80).

موقفه من القدرية:

وكتبه ورسله. روي ذلك عن ابن مسعود، وعلقمة بن قيس، وأسود بن يزيد، وأبي وائل شقيق بن سلمة، ومسروق بن الأجدع، ومنصور بن المعتمر، وإبراهيم النخعي، ومغيرة بن مقسم الضبي، وفضيل بن عياض، وغيرهم. وهذا استثناء على يقين قال الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ} (¬1).اهـ (¬2) موقفه من القدرية: - قال رحمه الله: ويجب الإيمان بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره، وقليله وكثيره، أنه من الله تعالى، ليس في العالم شيء يخرج عن تقديره، ولا يصدر شيء إلا عن تدبيره وقضائه، ولا محيد لأحد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المحفوظ، لا خير ولا شر، إلا بمشيئته، خلق من شاء للسعادة، واستعمله بها فضلا، وخلق من أراد للشقاوة، واستعمله بها عدلا، فهو سر استأثر الله تعالى به، وحجبه عن خلقه {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} (¬3) قال الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} (¬4) وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ ¬

(¬1) الفتح الآية (27). (¬2) قطف الثمر (ص.134). (¬3) الأنبياء الآية (23). (¬4) الأعراف الآية (179).

الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)} (¬1) وقال: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} (¬2) وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» (¬3) خلق الخلائق وأفعالهم وقدر أرزاقهم وآجالهم، يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته، قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (¬4) وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)} (¬5). ولا يجوز أن يجعل قدر الله تعالى وقضاؤه حجة بعد الرسل، ونعلم أن لله الحجة علينا بإنزال الكتب، وبعثه الرسل، وما أمر الله تعالى ونهى إلا لمستطيع الفعل والترك، ولم يجبر أحدا على معصية، ولا اضطره على ترك الطاعة، قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬6)، وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬7)، وقال: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا ¬

(¬1) السجدة الآية (13). (¬2) القمر الآية (49). (¬3) سيأتي تخريجه في مواقف عبد الرحمن بن ناصر السعدي سنة (1376هـ). (¬4) الأنعام الآية (125). (¬5) الحديد الآية (22). (¬6) البقرة الآية (286). (¬7) التغابن الآية (16).

كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} (¬1)، فدل على أن للعبد كسبا يجزى على حسنته بالثواب، وعلى سيئته بالعقاب، وهو واقع بقضاء الله وقدره، سبحانه وتعالى. والإيمان بالقدر، على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين: الأولى: الإيمان بأن الله عليم بما يعمل الخلق بعلمه القديم الذي هو موصوف به، وقد علم جميع أحوالهم، من الطاعات والمعاصي، والأرزاق والآجال، ثم كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلق، وأول ما خلق الله القلم وقال له: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. وهذا التقدير تابع لعلمه سبحانه، يكون في مواضع جملة وتفصيلا، فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء. وإذا خلق الجنين قبل خلق الروح فيه، بعث إليه ملكا، فيؤمر بأربع كلمات فيقال: اكتب رزقه، وأجله، وعمله، شقي أم سعيد (¬2) ونحو ذلك. فهذا القدر قد كان ينكره غلاة القدرية قديما، ومنكره اليوم قليل. أما الثانية: فهو مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة وهو الإيمان بأن ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وما في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه، لا يكون في ملكه ما لا يريد. وأنه سبحانه على كل شيء قدير، من الموجودات والمعدومات، فما من مخلوق في الأرض، ولا في السماء إلا الله خالقه، سبحانه لا خالق غيره، ولارب سواه، ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسوله، ونهاهم عن معصيته ومعصية رسوله، وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين، ويرضى عن الذين ¬

(¬1) غافر الآية (17). (¬2) هو حديث الصادق المصدوق. تقدم تخريجه في موقف السلف من عمرو بن عبيد سنة (144هـ).

آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد. والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم، والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أفعالهم، ولهم إرادة، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم، وهذه الدرجة من القدر، يكذب بها عامة القدرية، الذين سماهم النبي - صلى الله عليه وسلم - «مجوس هذه الأمة» (¬1)، يغلو فيها قوم من أهل الإثبات، حتى يسلبوا العبد قدرته واختياره، ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه، وحكمها ومصالحها. فالقدر ظاهره وباطنه، ومحبوبه ومكروهه، وحسنه وسيئه، وقله وكثره، وأوله وآخره من الله عزوجل قضاء قضاه على عباده، وقدر قدره عليهم، لا يعدو واحد منهم مشيئة الله، ولا يجاوز قضاه، بل كلهم صائرون إلى ما خلقهم له، واقعون فيما قدر عليهم، وهو عدل منه جل ربنا وعز. والزنا والسرقة وشرب الخمر وقتل النفس وأكل المال الحرام والشرك والكفر والبدعة والمعاصي والكبائر والصغائر كلها بقضاء الله وقدر منه، من غير أن يكون لأحد من الخلق حجة على الله. وعلم الله عزوجل، ماض في خلقه، بمشيئة منه، وقد علم من إبليس وغيره، ممن عصاه من لدن عصي إلى أن تقوم الساعة المعصية وخلقهم لها، وعلم الطاعة من أهل الطاعة، وخلقهم لها، وأن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، وأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في مواقف محمد بن الحسين الآجري سنة (360هـ).

ومن زعم أن الله سبحانه شاء لعباده الذين عصوه الخير والطاعة، وأن العباد شاءوا لأنفسهم الشر والمعصية، فعملوا على مشيئتهم، فقد زعم أن مشيئة العباد أغلب من مشيئة الله، وأي افتراء على الله أكبر من هذا. ومن زعم أن الزنا ليس بقدر، قيل له أرأيت هذه المرأة حملت من الزنا، وجاءت بولد، هل شاء الله تعالى عزوجل أن يخلق هذا الولد؟ وهل مضى في سابق علمه؟ فإن قال: لا، فقد زعم أن مع الله خالقا آخر وهذا هو الشرك صراحا. ومن زعم أن السرقة وشرب الخمر وأكل مال الحرام ليس بقضاء وقدر، فقد زعم أن هذا الإنسان قادر على أن يأكل رزق غيره، وهذا صراح قول المجوسية، بل أكل رزقه الذي قضى الله له أن يأكله من الوجه الذي أكله. ومن زعم أن قتل النفس ليس بقدر الله، فقد زعم أن المقتول مات بغير أجله، وأي كفر أوضح من هذا؟ بل ذلك بقضاء الله عزوجل أو ذلك عدل منه في خلقه وتدبيره فيهم، وما جرى من سابق علمه فيهم وهو العدل الحق الذي يفعل ما يشاء. ومن أقر بالعلم، لزمه الإقرار بالقدر والمشيئة، على الصغر والقمأ، فالأشياء كلها تكون بمشيئة الله تعالى، كما قال سبحانه: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (¬1) وكما قال المسلمون ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. وقالوا: إن أحدا لا يستطيع أن يفعل شيئا قبل أن يفعله، أو يكون أحد يقدر أن يخرج عن علمه تعالى، أو أن يفعل شيئا علم الله أنه لا يفعله، وأقروا أنه لا ¬

(¬1) الانسان الآية (30).

صالح بن محمد بن حمد الشثري (بعد 1309 هـ)

خالق إلا الله، وأن أعمال العباد خلقها الله، وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئا، وأن الله تعالى وفق المؤمنين لطاعته، وخذل الكافرين، ولطف للمؤمنين، ونظر لهم، وأصلحهم وهداهم، ولم يلطف للكافرين، ولا أصلحهم، ولا هداهم، ولو أصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين، وأن الله يقدر أن يصلح الكافرين، ويلطف لهم، حتى يكونوا مؤمنين، كما قال تعالى: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} (¬1) ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وخذلهم وأضلهم وطبع على قلوبهم وختم على سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، ويؤمنون أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله، كما قال، ويلجئون أمرهم إلى الله، ويثبتون الحاجة إليه سبحانه في كل وقت، والفقر إليه في كل حال. (¬2) صالح بن محمد بن حمد الشثري (¬3) (بعد 1309 هـ) الشيخ صالح بن محمد بن حمد الشثري. نشأ في بلدته، ثم رحل إلى الرياض، فأخذ عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن والشيخ عبد الله أبا بطين وغيرهم. له مع كبار العلماء مراسلات وبحوث علمية. له من التلاميذ الشيخ إبراهيم الشثري والشيخ إبراهيم بن عبد الملك آل الشيخ وزيد آل سليمان وحسين الشثري. أرخ لوفاته فيما بعد ¬

(¬1) الأنعام الآية (149). (¬2) قطف الثمر (ص.84 - 88). (¬3) علماء نجد خلال ثمانية قرون (2/ 533 - 535).

موقفه من المشركين:

تسع وثلاثمائة وألف للهجرة. موقفه من المشركين: له: رد على أحمد زيني دحلان، ورد على الشيخ علي بن دعيج في تجويز موالاة المشركين. (¬1) علي بن سالم بن جلعود آل جليدان (¬2) (1310 هـ) الشيخ علي بن سالم بن جلعود آل جليدان. ولد في مدينة عنيزة سنة أربعين ومائتين وألف للهجرة، ونشأ بها. قرأ على الشيخ عبد الله أبا بطين والشيخ علي بن محمد آل راشد والشيخ عبد العزيز بن محمد آل مانع والشيخ قرناس بن عبد الرحمن وغيرهم. تولى الإمامة والتدريس في مسجد المسوكف نحوا من أربعين سنة. أخذ عنه الشيخ عبد الله بن محمد بن مانع وغيره. كان رحمه الله معروفا بكثرة العبادة والغيرة على الدين، لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان حسن الصوت بالقراءة. توفي رحمه الله سنة عشر وثلاثمائة وألف، على إثر مرض أصابه في مكة. موقفه من الصوفية: جاء في علماء نجد: وكان غيورا جسورا لا تأخذه في الله لومة لائم، بلغني أنه لما حج ودخل المسجد الحرام رأى حلق الذكر المقامة هناك، وإذا هم يرددون لفظ الجلالة، ثم الضمير وحده (هو هو)، فلم يتمالك نفسه إلا أن ¬

(¬1) علماء نجد (2/ 534). (¬2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/ 189 - 192).

أحمد بن خالد الناصري (1315 هـ)

أخذ ينكر عليهم بيده ويضربهم بعصاه، فقبض عليه وذهبوا به إلى الشريف أمير مكة في ذلك الوقت، فقال: ما حملك على ذلك؟ فقال: فعلت هذا العمل كي أصل إليك، والقصد من وصولي إليك إخبارك بأن هذا العمل بدعة منكرة، وأنه لا يسعك تركهم يتلاعبون باسم الله، وإني على أتم استعداد لمناظرتهم بحضرتك، فخلى الشريف سبيله وتركهم هم على عملهم. (¬1) أحمد بن خالد الناصري (¬2) (1315 هـ) أحمد بن خالد بن حماد بن محمد الناصري الدرعي، شهاب الدين السلاوي المغربي، أبو العباس. ولد في مدينة سلا سنة خمسين ومائتين وألف للهجرة، وهو من عرب معقل، الداخلين للمغرب في القرن الخامس للهجرة من أسرة تنتمي إلى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. طلب العلم في مسقط رأسه، منكبا على مطالعة التآليف الموجودة من علوم التفسير والحديث والتاريخ وغيرها. شغل منصب موظف في خطة الجمارك في سلا، وتنقل في أعمال حكومية أخرى، ثم انقطع عن الأشغال وتفرغ للكتابة والمطالعة والتأليف إلى أن توفي في سنة خسمة عشر وثلاثمائة وألف للهجرة. موقفه من المشركين والصوفية: - له كلمة جيدة في التصوف والقبورية: قال في الاستقصا: قد ظهر ببلاد المغرب وغيرها منذ أعصار متطاولة -لا سيما في المائة العاشرة وما ¬

(¬1) علماء نجد (5/ 191). وقد منعها أمير مكة الشريف بعد ذلك كما سيأتي ضمن مواقف إبراهيم بن حمد عام (1329هـ). (¬2) الاستقصا (1/ 9 - 34) والأعلام (1/ 120 - 121).

بعدها- بدعة قبيحة، وهي اجتماع طائفة من العامة على شيخ من الشيوخ الذين عاصروهم أو تقدموهم ممن يشار إليهم بالولاية والخصوصية، ويخصونه بمزيد المحبة والتعظيم، ويتمسكون بخدمته والتقرب إليه قدرا زائدا على غيره من الشيوخ، بحيث يرتسم في خيال جلهم، أن كل المشايخ أوجلهم دونه في المنزلة عند الله تعالى، ويقولون: نحن أتباع سيدي فلان، وخدام الدار الفلانية، لا يحولون عن ذلك ولا يزولون خلفا عن سلف. وينادون باسمه ويستغيثون به ويفزعون في مهماتهم إليه، معتقدين أن التقرب إليه نافع والانحراف عنه قيد شبر ضار، مع أن النافع والضار هو الله وحده. وإذا ذكر لهم شيخ آخر أودعوا إليه، حاصوا حيصة حمر الوحش من غير تبصر في أحواله: هل يستحق ذلك التعظيم أم لا. فصار الأمر عصبيا، وصارت الأمة بذلك طرائق قددا، ففي كل بلد أو قرية عدة طوائف، وهذا لم يكن معروفا في سلف الأمة الذين هم القدوة لمن بعدهم. وغرض الشارع إنما هو في الاجتماع وتمام الألفة واتحاد الوجهة وقد قال تعالى لأهل الكتاب: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} (¬1) الآية. وقد ذم قوما فرقوا دينهم وكانوا شيعا ... ثم استرسل هؤلاء الطّغام في ضلالهم، حتى صارت كل طائفة تجتمع في أوقات معلومة في مكان مخصوص -أو غيره- على بدعتهم التي يسمونها الحضرة. فما شئت من طست وطار، وطبل ومزمار وغناء ورقص، وخبط وفحص، وربما أضافوا إلى ذلك نارا أو غيرها، يستعملونه على سبيل الكرامة بزعمهم. ¬

(¬1) آل عمران الآية (64).

ويستغرقون في ذلك الزمن الطويل حتى يمضي الوقت والوقتان من أوقات الصلوات، وداعي الفلاح ينادي على رؤوسهم، وهم في حيرتهم يعمهون، لا يرفعون به رأسا، ولا يرون بما هم فيه من الضلال بأسا، بل يعتقدون أن ما هم فيه من أفضل القرب إلى الله، تعالى الله عن جهالتهم علوا كبيرا. ولا تجد في هذه المجامع الشيطانية غالبا إلا من بلغ الغاية في الجفاء والجهل ممن لا يحسن الفاتحة فضلا عن غيرها، مع ترك الصلاة طول عمره، أو من في معناه من معتوه ناقص العقل والدين. فما أحوج هؤلاء الفسقة إلى محتسب يغير عليهم ما هم فيه من المنكر العظيم، واللبس المقيم، وأعظم من هذا كله أنهم يفعلون تلك الحضرة غالبا في المساجد. فإنهم يتخذون الزاوية باسم الشيخ ويجعلونها مسجدا للصلاة بالمحراب والمنار وغير ذلك، ثم يعمرونها بهذه البدعة الشنيعة. فكم رأينا من عود ورباب ومزمار على أفحش الهيئات في محاريب الصلوات. ومن بدعهم الشنيعة محاكاتهم أضرحة الشيوخ ببيت الله الحرام من جعل الكسوة لها، وتحديد الحرم على مسافة معلومة بحيث يكون من دخل تلك البقعة من أهل الجرائم آمنا، وسوق الذبائح إليها على هيئة الهدي، واتخاذ الموسم كل عام، وهذا وأمثاله لم يشرع إلا في حق الكعبة. ثم يقع في ذلك الموسم ولا سيما مواسم البادية من المناكر والمفاسد العظام، واختلاط الرجال بالنساء باديات متبرجات شأن أهل الإباحة وشأن قوم نوح في جاهليتهم، ما تصم عنه الآذان ولا منكر ولا مغير ولا ممتعض للدين، لا، بل للحسب، فأما الدين عند هؤلاء فلا دين. فإنا لله وإنا إليه راجعون على

ضيعة الدين وغفلة أهله عنه ويالله ويا للمسلمين لهؤلاء الهمج الرعاع، الذين سلبوا المروءة والحياء والغيرة والعقل والدين والإنسانية جملة. فليسوا في فطنة الشياطين ولا في سلامة صدور البهائم، ولا في نخوة السباع فيغضبوا لدينهم ومروءتهم. ومن جهالاتهم الفظيعة: جمعهم بين اسم الله تعالى واسم الولي في مقامات التعظيم، كالقسم والاستعطاف وغيرهما. فإذا أقسموا قالوا: وحق الله وحق سيدي فلان. وإذا عزموا على أحد قالوا: دخلت عليك بالله وسيدي فلان. وإذا سألوا قالوا: من يعطينا على الله وعلى سيدي فلان. فيعطفون اسم العبد على اسم مولاه بالواو المقتضية للتشريك والتسوية التامة في مقام قد حظر الشارع أن يتجاوز فيه اسم الله إلى غيره. وهذا هو صريح الشرك. ومن مناكرهم الجديرة بالتغيير: اجتماعهم كل سنة للوقوف يوم عرفة بضريح الشيخ عبد السلام ابن مشيش -رضي الله عنه- ويسمون ذلك حج المسكين. فانظر إلى هذه الطامة التي اخترعها هؤلاء العامة. (¬1) التعليق: هذا الرجل صور الحالة التي يعيش عليها أهل المغرب في العقائد الباطلة المسماة بالتصوف، مع الكلام على القبورية. وهذا التصوير الذي ذكره هذا المؤرخ من أحسن ما قرأت في المقارنة بفعل هؤلاء المشركين بأضرحتهم وبما شرعه الله في بيته من طواف وكسوة وسوق هدي. فالحمد لله أن تخرج هذه ¬

(¬1) الاستقصا (1/ 142 - 145).

مبارك بن مساعد آل مبارك (1316 هـ تقريبا)

الكلمة من مثل هذا الرجل: لا هو متهم بالوهابية -كما يقول أعداء العقيدة السلفية- ولا تخرج من الجامعة الإسلامية مأجورا من طرف الدولة الوهابية -كما يقوله أعداء العقيدة السلفية- وإنما هو مؤرخ محايد، عالم بالأحوال التي عليها أهل هذه البلاد. فجزاه الله خيرا على كلمته الطيبة. وأرجو الله أن يغفر زلتنا وزلته. مبارك بن مساعد آل مبارك (¬1) (1316 هـ تقريبا) الشيخ مبارك بن مساعد آل مبارك. ولد في بلدة عنيزة سنة ثمان وخمسين ومائتين وألف، ونشأ فيها. أخذ عن الشيخ محمد بن عبد الله بن مانع وابنه الشيخ عبد العزيز بن محمد بن مانع والشيخ علي آل محمد والشيخ علي باصبرين وغيرهم. كان مولعا بالشعر، ويحفظ منه الكثير، وله فيه القصائد الجيدة، وكان شديد الميل للدعوة السلفية وأعلامها. كانت لديه مكتبة كبيرة بيعت بعد وفاته، تضمنت مخطوطات نفيسة. توفي رحمه الله في جدة سنة ست عشرة وثلاثمائة وألف تقريبا. موقفه من المبتدعة: جاء في علماء نجد: حدثني الشيخ محمد نصيف رحمه الله قال: كان العلامة الشيخ علي باصبرين يدرس لطلابه ما بين المغرب والعشاء في جامع الشافعي بجدة، ففي إحدى الليالي جاء البحث في دعوة الشيخ محمد بن ¬

(¬1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/ 433 - 436).

إسحاق بن عبد الرحمن آل الشيخ (1319 هـ)

عبد الوهاب وأتباعها، فنال الشيخ باصبرين منها نيلا فاحشا، وكان من الطلبة الشيخ صالح العبد الله البسام، والشيخ مبارك آل مساعد، فلما فرغ الدرس قاما إليه، وقالا له: هل اطلعت يا شيخ على كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب حينما نلت منه ومن دعوته؟ فقال لهما: لا، إنني لم أطلع عليها، ولكني قلت هذا نقلا عن مشايخي، فقالا له: ألا ترغب في الاطلاع على كتبه؟ فقال: بلى، فأتياه بنسخ من كتبه، فدرسها نحو أسبوع، وهو لا يأتي للشيخ محمد بذكر لا بمدح ولا قدح. وبعد ذلك قال للطلبة: إنني في إحدى الليالي السابقة نلت من الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته، والحق أن كلامي لم يكن عن اطلاع على كتبه، وإنما هو تقليد وحسن ظن في مشايخنا، وقد أطلعني بعض إخواننا النجديين على بعض كتبه ورسائله، فرأيت فيها الحق والصواب، وأنا أستغفر الله تعالى عما قلت: ثم صنف رسالة سماها: 'هداية كُمَّلِ العبيد إلى خالص التوحيد'. (¬1) إسحاق بن عبد الرحمن آل الشيخ (¬2) (1319 هـ) الشيخ الإمام إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب. ولد في مدينة الرياض سنة ست وسبعين ومائتين وألف. قرأ على أخيه الشيخ عبد اللطيف والشيخ حمد بن عتيق وابن أخيه الشيخ عبد الله ¬

(¬1) علماء نجد (5/ 434). (¬2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (1/ 557 - 564).

موقفه من المبتدعة:

بن عبد اللطيف وغيرهم. وكان مع حفظه القرآن يحفظ مختصرات في الفقه والحديث والتوحيد. رحل إلى الهند بعد استيلاء آل رشيد على الرياض سنة تسع وثلاثمائة وألف، فأخذ عن المحدث الشيخ نذير حسين والشيخ حسين بن محسن الأنصاري والشيخ سلامة الله، ثم رحل إلى مصر فقرأ على علماء الأزهر مدة، وجد واجتهد حتى عد من كبار علماء زمانه. ثم عاد إلى وطنه، واشتغل بالتدريس والإفادة، فنفع الله بعلمه، فكان ممن أخذ عنه الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ والشيخ فوزان السابق والشيخ عبد الله بن فيصل والشيخ عبد العزيز بن عتيق وغيرهم. توفي رحمه الله في اليوم التاسع والعشرين من شهر رجب سنة تسع عشرة وثلاثمائة وألف في مدينة الرياض، ورثاه العلماء. موقفه من المبتدعة: قال: ومما هو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام: أن المرجع في مسائل أصول الدين إلى الكتاب والسنة وإجماع الأمة المعتبر، وهو ما كان عليه الصحابة، وليس المرجع إلى عالم بعينه في ذلك. فمن تقرر عنده هذا الأصل تقريرا لا يدفعه شبهة وأخذ بشراشير قلبه هان عليه ما قد يراه من الكلام المشتبه في بعض مصنفات أئمته، إذ لا معصوم إلا النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) موقفه من المشركين: له رد على أمين بن حنش العراقي. (¬2) ¬

(¬1) حكم تكفير المعين (ص.8 - 9). (¬2) علماء نجد (1/ 564).

عبد الله بن محمد بن عثمان بن دخيل (1324 هـ)

عبد الله بن محمد بن عثمان بن دخيل (¬1) (1324 هـ) الشيخ عبد الله بن محمد بن عثمان بن عبد الله بن دُخَيْل الناصري التميمي. ولد في المجمعة سنة إحدى وستين ومائتين وألف، ونشأ فيها، وأخذ عن الشيخ علي بن عيسى والشيخ عبد الرحمن بن حسن والشيخ عبد اللطيف ابن عبد الرحمن والشيخ سليمان بن مقبل والشيخ علي آل محمد الراشد وغيرهم. رحل في طلب العلم إلى المدينة النبوية ثم إلى مكة، ثم إلى بريدة، ثم إلى عنيزة والرياض والمجمعة. ولي قضاء المذنب، وجلس للتدريس والإفتاء، فانتفع بعلمه خلق كثير منهم الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع والشيخ عبد الله ابن بليهد والشيخ محمد بن صالح بن مقبل وغيرهم. توفي رحمه الله في المذنب سنة أربع وعشرين وثلاثمائة وألف. موقفه من المبتدعة: - له رسالة إلى تلميذه الشيخ عبد الله بن إسماعيل ينهاه فيها عن مجالسة من لم يكن مواليا لعلماء الدعوة السلفية. (¬2) حسن عبد الرحمن السني البحيري المصري (1326 هـ) (¬3) موقفه من الصوفية: - له رسالة: 'الحماسة السنية في الرد على بعض الصوفية'، قال في ¬

(¬1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (4/ 490 - 496). (¬2) علماء نجد (4/ 495). (¬3) لم نعثر على سنة وفاته، لذلك أثبتنا سنة طبع هذه الرسالة في مصر.

محمد السهسواني (1326 هـ)

مقدمتها: فقد أهدى إلينا بعض الإخوان مجموعة لبعض متصوفة هذا الزمان، مشتملة على أربع رسائل، أولها: تنوير البصائر، ودليل الحائر في إثبات النبوة ورؤية نبينا لربه. ثانيها: الفتح المبين في الاستغاثة بالأولياء والصالحين. ثالثها: القول المعتبر في القضاء والقدر. رابعها: ما تقول السادة الثقات في إيصال ما يهدى من ثواب القرآن والأذكار للأموات. يقصد ببعضها الرد على من تصدى من أهل العلم ورجال الدين لإخماد نيران البدع التي عمت وضرت محشوة ببدع المضلين، وضلال المتأخرين. وهكذا عوائد شياطين الجن إذا رأوا من تعرض لإخماد نار الضلال أوقدوها بشيطان من شياطين الإنس، يوحون إليه زخارف يجادل بها أهل الحق، قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أوليائهم لِيُجَادِلُوكُمْ} (¬1). وسبب تعرضنا للرد على هذا المتصوف تنبيه الناس على ما وقع في رسائله من الأمور المنكرة والأشياء المردودة شرعا، وخلط الحق بالباطل، لئلا يغتر بها من يقف عليها ممن لا علم له بحقائق الدين، وبالله نستعين. (¬2) محمد السَّهْسَوَانِي (¬3) (1326 هـ) العلامة محمد بن بشير بن محمد بدر الدين السهسواني الهندي، صاحب كتاب 'صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان' ولد في سهسوان -من ¬

(¬1) الأنعام الآية (121). (¬2) الحماسة السنية (11 - 12). (¬3) الأعلام (6/ 53) ومعجم المؤلفين (9/ 103) وصيانة الإنسان (17 - 22).

موقفه من المبتدعة:

أعمال ولاية بدايون بالهند- سنة خمسين ومائتين وألف للهجرة تقريبا. ارتحل إلى دهلي، وقرأ الحديث والتفسير على نذير حسين الدهلوي، ودعي إلى بهوبال سنة تسعين ومائتين للهجرة، وأسند إليه رياسة المدارس الدينية بها، فأقام بها نحوا من خمس وعشرين عاما، ثم عاد إلى دهلي، فتوفي بها سنة ست وعشرين وثلاثمائة وألف، رحمه الله تعالى. موقفه من المبتدعة: - له الكتاب العظيم في الدفاع عن العقيدة السلفية، ذو البحوث القيمة النفيسة القوية. وهو: 'صيانة الإنسان في الرد على أحمد زيني دحلان'. - قال فيه: فالواجب على المؤمن أن لا يتجاسر على التكلم بكل كلمة في ثناء النبي - صلى الله عليه وسلم - فالمقام مقام الاحتياط، إذ اعتقاد اتصاف النبي - صلى الله عليه وسلم - بصفاته الكمالية من جملة مسائل العقائد، فما لم يثبت بالكتاب العزيز أو السنة الثابتة المطهرة لم يجز وصف النبي به، فمن ههنا دريت خطأ البوصيري في قوله: "واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم". وخطأ صاحب الرسالة حيث استحسنه. وبالجملة فنحن معاشر أهل الحديث نعظم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكل تعظيم جاء في الكتاب أو السنة الثابتة، سواء كان ذلك التعظيم فعليا أو قوليا أو اعتقاديا، والوارد في الكتاب العزيز والسنة المطهرة من ذلك الباب في غاية الكثرة، وما ذكر هو بعض منه، ولو رمت إحصاء ذلك على التمام لجاء في مؤلف بسيط، نعم نجتنب التعظيمات التي تشتمل على موجبات الكفر والشرك، وما نهى الله عنه ورسوله، والتعظيمات المحدثة المبتدعة.

وأما أهل البدع فمعظم تعظيمهم تعظيم محدث، كشد الرحال إلى قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والفرح بليلة ولادته، وقراءة المولد، والقيام عند ذكر ولادته - صلى الله عليه وسلم -، وتقبيل الإبهام عند قول المؤذن "أشهد أن محمدا رسول الله" والتمثل بين يدي قبره قياما، وطلب الحاجات منه - صلى الله عليه وسلم -، والنذر له وما ضاهاها، وأما التعظيمات الثابتة فهم عنها بمراحل. فيا أهل البدع أنشدكم الله والإسلام والإنصاف أن تقولوا أي الفريقين أزيد تعظيما للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأكثر اتباعا له وأشد حبا له - صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي. (¬1) - وقال: ثم بعد انقراض قرن الصحابة أتى أمته ما يوعدون من الحوادث والبدع، وكلما أحدثت بدعة رفع مثلها من السنة، ولكن في قرن التابعين وأتباع التابعين لم تظهر البدع ظهورا فاشيا، وأما بعد قرن أتباع التابعين فقد تغيرت الأحوال تغيرا فاحشا، وغلبت البدع، وصارت السنة غريبة، واتخذ الناس البدعة سنة والسنة بدعة، ولا تزال السنة في المستقبل غريبة إلا ما استثني من زمان المهدي رضي الله عنه وعيسى عليه السلام، إلى أن تقوم الساعة على شرار الناس. يدل على ذلك الأحاديث والآثار التي نذكرها الآن بحوله وقوته، منها: حديث عمران بن حصين رضي الله عنه يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، -قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة- ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون، ¬

(¬1) صيانة الإنسان (236 - 237).

ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن» (¬1) رواه البخاري ومسلم. ومنها حديث الأسلمي قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يذهب الصالحون الأول فالأول، ويبقى حفالة كحفالة الشعير أو التمر لا يباليهم الله بالة» (¬2) رواه البخاري. (¬3) ثم ذكر طائفة من الأحاديث والآثار إلى أن قال: وقد علم بما نقل من الأحاديث والآثار أن غربة الإسلام ليس معناها أنه يقل أهل الإسلام، دل عليه ما في حديث ثوبان المتقدم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «بل أنتم يومئذ كثير» (¬4) بل معناها أن الصالحين من أهل الإسلام يذهبون الأول فالأول، وتبقى حفالة كحفالة الشعير وغثاء كغثاء السيل، وأن سنن الإسلام وشعبها وشرائعها من الصلاة والصيام والنسك والصدقة وغيرها تذهب وقتا فوقتا حتى لا يبقى إلا قول لا إله إلا الله (¬5)، فإذا بعث الله ريحا طيبة توفى كل من كان في قلبه مثقال حبة من ¬

(¬1) أحمد (4/ 427و436) والبخاري (5/ 324/2651) ومسلم (4/ 1964 - 1965/ 2535) وأبو داود (5/ 44/4657) والترمذي (4/ 434/2222) والنسائي (7/ 23 - 24/ 3818) من طرق عن عمران بن حصين رضي الله عنه. (¬2) أحمد (4/ 193) والبخاري (11/ 302/6434). (¬3) صيانة الإنسان (322). (¬4) وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكن غثاء كغثاء السيل» الحديث. أخرجه: أحمد (5/ 278) وأبو داود (4/ 483/4297) وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة (2/ 647/958). (¬5) يشير رحمه الله إلى قوله عليه الصلاة والسلام من حديث حذيفة بن اليمان: «يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة وليسرى على كتاب الله عزوجل في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية ... » الحديث. أخرجه: ابن ماجه (2/ 1344/4049) والحاكم (4/ 473و545) وقال: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي. وقال البوصيري في الزوائد: "إسناده صحيح رجاله ثقات".

أحمد بن إبراهيم بن عيسى (1329 هـ)

خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فعليهم تقوم الساعة (¬1). اهـ (¬2) أحمد بن إبراهيم بن عيسى (¬3) (1329 هـ) الشيخ أحمد بن إبراهيم بن حمد بن محمد ينتهي نسبه إلى قبيلة بني زيد ثم إلى قضاعة بن مالك ثم إلى قحطان، شارح نونية ابن القيم. ولد الشيخ بشقراء في الخامس عشر من ربيع الأول عام ثلاثة وخمسين ومائتين وألف، نشأ في حجر والده العالم القاضي الشيخ إبراهيم بن عيسى، فتعلم مبادئ الكتابة والقراءة، ثم حفظ القرآن عن ظهر قلب ثم شرع في القراءة على والده بالتوحيد والفقه والحديث وسائر العلوم. من مشايخه: الشيخ عبد الرحمن ابن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، والشيخ عبد الله بن عبد الرحمن وغيرهم. ثم سافر إلى الرياض ولازم علماءها الأجلاء، أدرك إدراكا تاما. وَفَاق أقرانه لا سيما في التوحيد، ثم سافر إلى مكة فأقام فيها للعبادة والعلم تعلما وتعليما. اتصل بأمير مكة وكلمه في هدم القباب والمباني على القبور والمزارات فأجابه لذلك. فكان من المساهمين في تطهير البلاد من الشرك والساعين في لم شتات الأمة. من ¬

(¬1) يشير رحمه الله إلى حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى ... إلى أن قال: إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحا طيبة، فتوفى كل من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم» أخرجه: مسلم (4/ 2230/2907) من طريق الأسود بن العلاء عن أبي سلمة عن عائشة به. (¬2) صيانة الإنسان (331 - 332). (¬3) علماء نجد (1/ 155 - 162) والأعلام (1/ 89) وفهرس الفهارس (1/ 125 - 126) وإتحاف النبلاء (2/ 281 - 283).

موقفه من المبتدعة:

تلامذته: الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ والشيخ عبد القادر بن مصطفى التلمساني والشيخ عبد الستار الدهلوي وغيرهم. عرّفه الكتاني بالعالم السلفي المسند. توفي في بلد المجمعة بعد صلاة الجمعة في اليوم الرابع من جمادى الثانية من عام تسعة وعشرين وثلاثمائة وألف. موقفه من المبتدعة: - جاء في تاريخ علماء نجد: وحدثني الشيخ الوجيه الأفندي محمد حسين نصيف رحمه الله تعالى قال لي: كان الشيخ أحمد بن عيسى يشتري الأقمشة من جدة من الشيخ عبد القادر بن مصطفى التلمساني أحد تجار جدة بمبلغ ألف جنيه ذهبا، فيدفع له منها أربعمائة ويُقسط عليه الباقي. وآخر قسط يحل ويستلمه الشيخ التلمساني إذا جاء إلى مكة للحج من كل عام. ثم يبتدئون من أول العام بعقد جديد. وكان الكفيل للشيخ أحمد بن عيسى هو الشيخ مبارك المساعد من موالي آل بسام. وكان صاحب تجارة كبيرة في جدة ودام التعامل بينهما زمنا طويلا. وكان الشيخ أحمد بن عيسى يأتي بالأقساط في موعدها المحدد لا يتخلف عنه ولا يماطل في أداء الحق. فقال له الشيخ عبد القادر: إني عاملت الناس أكثر من أربعين عاما، فما وجدت أحسن من التعامل معك -يا وهابي- فيظهر أن ما يشاع عنكم يا أهل نجد مبالغ فيه من خصومكم السياسيين. فسأله الشيخ أحمد أن يبين له هذه الشائعات. قال: إنهم يقولون: إنكم لا تصلون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا تحبونه. فأجابه الشيخ أحمد بقوله: سبحانك هذا بهتان عظيم.

إن عقيدتنا ومذهبنا أن من لم يصل على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأخير فصلاته باطلة، ومن لا يحبه فهو كافر. وإنما الذي ننكره نحن -أهل نجد- هو الغلو الذي نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه، كما ننكر الاستعانة والاستغاثة بالأموات، ونصرف ذلك لله وحده. يقول الشيخ الراوي محمد نصيف عن الشيخ عبد القادر التلمساني: فاستمر النقاش بيني وبينه في توحيد العبادة ثلاثة أيام، حتى شرح الله صدري للعقيدة السلفية. وأما توحيد الأسماء والصفات الذي قرأته في الجامع الأزهر، فهو عقيدة الأشاعرة. وكتب الكلام مثل: 'السنوسية' و'أم البراهين' و'شرح الجوهرة' وغيرها. فلهذا دام النقاش بيني وبين الشيخ ابن عيسى خمسة عشر يوما، بعدها اعتنقت مذهب السلف، وصرت آخذ التوحيد من منابعه الأصيلة: الكتاب والسنة وأتباعهما من كتب السلف. فعلمت أن مذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم بفضل الله تعالى ثم بحكمة وعلم الشيخ أحمد بن عيسى. ثم إن الشيخ التلمساني أخذ يطبع كتب السلف. فطبع منها: 'النونية' و'الصارم المنكي' و'الاستعاذة من الشيطان الرجيم' لابن مفلح و'المؤمل إلى الأمر الأول' لأبي شامة، و'غاية الأماني في الرد على النبهاني' وغيرها. وصار التلمساني من دعاة عقيدة السلف. قال الشيخ محمد نصيف: فهداني الله إلى عقيدة السلف بواسطة الشيخ عبد القادر التلمساني، فالحمد لله على توفيقه. والمترجم له لم يقتصر نشاطه على دعوة الأفراد حتى اتصل بأمير مكة: الشريف عون الرفيق، وكلمه بخصوص هدم القباب والمباني التي على القبور

والمزارات، وشرح له أن هذا مخالف للإسلام، وأنه غلو وتعظيم للأموات يسبب فتنة الأحياء، وبث الاعتقادات الفاسدة فيهم. فما كان من "الشريف عون" إلا أن أمر بهدم القباب التي على القبور عدا قبة قبر خديجة رضي الله عنها، والقبر المنسوب إلى حواء في جدة. فأبقاهما مراعاة للقاعدة الشرعية: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح". وصار المترجم له بسبب علمه وعقله ونصحه مقربا من الشريف عون، يُجله ويُقدره ويعرف له فضله وحقه (¬1). التعليق: يستفاد من هذه القصة المباركة: - أثر الصدق في المعاملة كان من هدي السلف، ولذا كان من نتيجته ما قص علينا في هذه القصة. - منقبة لهذا الشيخ، حيث وفقه الله تعالى لهداية التلمساني والشيخ نصيف. - قوة السلفيين في تأثيرهم على الحكام، وغايتهم في ذلك نشر العقيدة وترسيخها في النفوس، لا المنصب الحكومي، أو المطمع المادي، ولذلك آتت دعوتهم أكلها بإذن ربها، ولله الحمد والمنة. آثار الشيخ السلفية: 1 - 'تنبيه النبيه والغبي في الرد على المدراسي والحلبي' وهو كتاب قيم وقد طبع. ¬

(¬1) (1/ 156 - 158).

موقفه من الجهمية:

2 - 'الرد على ما جاء في خلاصة الكلام من الطعن على الوهابية والافتراء لدحلان'. 3 - 'الرد على شبه المستغيثين بغير الله' طبع. 4 - 'شرح النونية' طبع في جزءين. وهو ينم عن علم غزير وفهم عميق، يمكن أن يستخرج منه مواقفه من الفرق كلها ولكن نكتفي منه بما يلي. موقفه من الجهمية: قال رحمه الله: أشار رحمه الله بهذه الأبيات إلى إثبات صفات الله تعالى التي نطق بها كتابه، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ومذهب سلف الأمة وأئمتها إثبات صفات الله تعالى التي ورد بها الكتاب؛ وصحيح السنة وحسنها، إثباتا بلا تمثيل؛ وتنزيها بلا تعطيل؛ خلافا للجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة، وأمر كما قال نعيم بن حماد الخزاعي شبخ البخاري: من شبه الله خلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله تشبيها. انتهى. بل هو إثبات على ما يليق بجلال الله وعظمته وكبريائه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. (¬1) وقال: ذكر الناظم رحمه الله تعالى في هذا الفصل رؤية أهل الجنة ربهم تبارك وتعالى بأبصارهم جهرة، كما يرى القمر. وقد اتفق عليها الأنبياء والمرسلون، وجميع الصحابة والتابعين، وأئمة الإسلام، وأنكرها أهل البدع، ¬

(¬1) شرح النونية (1/ 254 - 255).

إبراهيم بن حمد بن جاسر (1329 هـ)

كالجهمية، والمعتزلة، والباطنية، والرافضة ... (¬1) إبراهيم بن حمد بن جَاسِر (¬2) (1329 هـ) الشيخ إبراهيم بن حمد بن جاسر، ولد في بلدة بريدة ونشأ فيها وقرأ على علمائها، ومن أشهر مشايخه: الشيخ محمد بن عمر بن سليم، والشيخ محمد بن عبد الله بن سليم والشيخ إبراهيم بن محمد بن عجلان وغيرهم. وأدرك في العلوم لا سيما في التفسير والحديث واللغة العربية، فهو فيها بحر لا يجارى وعالم لا يمارى، واشتهر أمره وذاع صيته حتى عد من كبار علماء نجد، وشاع له ذكر حسن وثناء طيب، ثارت بعض الخلافات والنزاعات بينه وبين آل سليم، اتهمه بعضهم بتساهله في توحيد الألوهية ولكنه كذب مفترى. قال فيه الشيخ يوسف الهندي: لم أر مثله في الاطلاع على الحديث إلا شيخي نذير حسين. وقال الشيخ محمد بن عبد العزيز آل مانع: إنه أعجوبة في سعة الاطلاع في التفسير والحديث. ويقول ابن مانع أيضا: إن الشيخ صالح العثمان آل قاضي يعجب من كثرة حفظه للحديث. وقال الشيخ محمد بن صالح البسام: إني كنت أحضر دروسه العامة قبل صلاة العشاء، فكان يشرع في تفسير الآية ويورد في معناها من الأحاديث والآثار وكلام العرب الشيء الكثير. من تلامذته: الشيخ عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي، والشيخ عثمان ¬

(¬1) شرح النونية (2/ 568). (¬2) علماء نجد (1/ 103).

موقفه من المشركين:

ابن صالح، والشيخ عبد العزيز بن عقيل وغيرهم. توفي بعد عودته من العراق عام تسعة وعشرين وثلاثمائة وألف. موقفه من المشركين: جاء في علماء نجد: الدليل الرابع على صدقه: ما حدثني به الثقات من أقاربي ممن حضروا القصة الآتية فقال: عرض على المترجم له إمامة وخطابة جامع النقيب في بلد الزبير براتب مغر، وكان في أمس الحاجة إليه. فذهب إلى الجامع المذكور ليراه ومعه بعض أفراد أسرتنا آل بسام، فدخل المسجد وتجول فيه، فرأى حجرة في مؤخر المسجد، فسأل عنها فقالوا: إنها قبر بانيه. فخرج من المسجد مسرعا وقال: لا أصلي ولا فرضا واحدا مأموما، فكيف أصير فيه إماما؟. (¬1) موقفه من الصوفية: جاء في تاريخ علماء نجد: والدليل الثالث على صحة معتقده أنه دخل المسجد الحرام أيام الحكم العثماني، فوجد حلق الصوفية تمارس بدعها وخرافاتها، فلم تمنعه غربته ولا إقرار حكومة البلاد لهذه الأعمال من أن يسطو عليهم بعصاه ضربا حتى فرقهم. فرفع أمره إلى أمير مكة المكرمة: "الشريف عون" فلما حضر وحقق معه وعرف أن الصواب مع الشيخ، فمنع هذه الأعمال البدعية. (¬2) ¬

(¬1) علماء نجد (1/ 103 - 104). (¬2) علماء نجد خلال ستة قرون (1/ 103 - 104).

حسين آل الشيخ (1329 هـ)

حسين آل الشيخ (¬1) (1329 هـ) الشيخ حسين بن حسن بن حسين بن علي بن حسين بن الشيخ محمد ابن عبد الوهاب. فهو أخو عبد الله بن حسن آل الشيخ. ولد في الرياض عام أربعة وثمانين ومائتين وألف. قرأ على الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف والشيخ محمد بن حمود والشيخ حمد بن فارس والشيخ عبد الله الخرجي. قد أدرك لا سيما في النحو حتى ألف فيه وفي الفقه، وله قصائد رد بها على يوسف النبهاني وغيره. نزح إلى عمان بساحل الخليج العربي وأقام هناك لنشر الدعوة السلفية، فنفع الله به وما زال هناك حتى توفي عام تسعة وعشرين وثلاثمائة وألف. وليس له أولاد ولا أحفاد. موقفه من المبتدعة: له قصيدة رائية رد بها على قصيدة يوسف النبهاني، وأخرى رد فيها على أمين بن حنش العراقي. (¬2) إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ (¬3) (1329 هـ) الشيخ العلامة إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. ولد في الرياض عام ثمانين ومائتين وألف وبها ¬

(¬1) علماء نجد (1/ 219). (¬2) علماء نجد (1/ 219). (¬3) علماء نجد (1/ 127) والأعلام (1/ 48 - 49) والدرر السنية (12/ 82 - 86).

موقفه من المشركين:

نشأ، ثم أخذ مبادئ الكتابة وقراءة القرآن الكريم على والده العلامة الشيخ عبد اللطيف، ثم حفظ القرآن ثم شرع في طلب العلم، فقرأ على أخيه الشيخ عبد الله والشيخ حمد بن فارس والشيخ محمد بن محمود حتى مهر في التوحيد والتفسير والحديث والفقه وأصولها والنحو. قال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: برع في العلوم النقلية والعقلية، وكان آية في الفهم لم ير مثله في الذكاء والفطنة والحفظ، برز في كل فن حتى كاد يستوعب السنن والآثار حفظا، وفاق أهل عصره فكانت له المعرفة التامة في الحديث والتفسير والفقه مع ما جمع الله له من الزهد والعبادة والورع والديانة ونصرة الحق والقيام به. تولى القضاء بالرياض فسار فيه سيرة حميدة من عدالة الأحكام وإنصاف المظلوم، كما كان له حلقات في التدريس بأنواع العلوم فأخذ عنه جم غفير منهم ابناه محمد وعبد اللطيف، والشيخ عبد الملك بن إبراهيم والشيخ عبد الرحمن بن داود وغيرهم. وتصدى للإفتاء والإفادة، فله فتاوى تدل على جودة فهمه وحسن تصوره وله رد على أمين بن حنش في قصيدة طويلة بديعة نصر بها الحق ودحض بها الضلال. توفي بالرياض ليلة السادس من شهر ذي الحجة عام تسعة وعشرين وثلاثمائة وألف. موقفه من المشركين: له: منظومة في الرد على أمين العراقي بن حنش؛ هذا بعضها: الحمد لله حمدا أستزيد به ... فضل الإلاه وأرجو منه رضوانا وأستعين به في رد خاطئة ... من العراق أتت بغيا وعدوانا

من جاهل عارض الحق المبين بها ... هذا به سفها تيها وطغيانا قد عاب أهل الهدى من غير ما سبب ... وقام يعمر للإشراك بنيانا فليس بالعلم المرضي مقالته ... ولا الأصيل ولا من نال إتقانا قد فهت بالزور فيما قلت مجتريا ... لست الأمين ولكن كنت خوانا من كان يصرف للمخلوق دعوته ... وكان يندب للأموات أحيانا يدعوهموا باعتقاد منه أنهموا ... يفرجون عن المكروب أحزانا هذا هو الشرك قد أعليت ذروته ... وسوف تصبح يوم الدين ندمانا من كان يقصر آيات الكتاب على ... أسباب إنزالها قد نال خسرانا فالاعتبار عموم اللفظ قال بذا ... من شاد للملة السمحاء أركانا وليس ينكر أسبابا مؤثرة ... فالله خالقها سبحان مولانا ومن يعطل للأسباب ينكرها ... قد خالف الشرع والمعقول طغيانا والاعتماد على الأسباب منقصة ... لأنه من قسيم الشرك قد بانا أما الخوارق للعادات فهي إذا ... لا تقتضي الفضل إطلاقا لمن كانا هذا الذي قاله عبد اللطيف إذا ... ولم يكن يمنع المشروع بل كانا مستمسكا بصحيح النقل متبعا ... خير القرون الأولى دانوا بما دانا يحمي طريق رسول الله عن شبه ... وعن ضلال بذا التأسيس أنبانا عن ذاك أفصح مصباح له ولقد ... أعلى بذلك للتوحيد بنيانا هذا جوابك يا هذا موازنة ... فالحر ما دين إنصافا به دانا (¬1) ¬

(¬1) علماء نجد (1/ 127).

جمال الدين القاسمي (1332 هـ)

جمال الدين القاسمي (¬1) (1332 هـ) محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم أبو الفرج من سلالة الحسين السبط، عالم مشارك في أنواع العلوم، إمام الشام في عصره علما بالدين وتضلعا من فنون الأدب، مولده ووفاته في دمشق. كان سلفي العقيدة لا يقول بالتقليد، انتدبته الحكومة للرحلة وإلقاء الدروس العامة في القرى والبلاد السورية، فأقام في عمله هذا أربع سنوات، ثم رحل إلى مصر وزار المدينة، ولما عاد اتهمه حسدته بتأسيس مذهب جديد في الدين، فقبضت عليه الحكومة وسألته فرد التهمة فأخلي سبيله واعتذر إليه والي دمشق، فانقطع في منزله للتصنيف، وإلقاء الدروس الخاصة والعامة في التفسير وعلوم الشريعة الإسلامية والأدب. ونشر بحوثا كثيرة في المجلات والصحف. ترك ثروة وافرة من تآليفه النافعة الكثيرة. وافاه الأجل في الثالث والعشرين من جمادى الأولى سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة وألف. موقفه من المبتدعة: هذا الرجل كان من المصلحين الكبار، من الله عليه بالاطلاع على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم. وظهر ذلك في تفسيره: 'محاسن التأويل'. وله بعض الهنات في الكتاب المنسوب إليه: 'تاريخ الجهمية'. وكذلك بعض عباراته في قواعد التحديث، كالثناء على ابن عربي المجمع على ¬

(¬1) الأعلام (2/ 135) ومعجم المؤلفين (3/ 157 - 158).

زندقته، إلا من شذ، فلا عبرة به. وله من الآثار السلفية: 1 - 'إصلاح المساجد من البدع والعوائد'، وهو جيد في بابه، وقد طبع وانتفع به كثير من الناس. 2 - 'محاسن التأويل' وهو مطبوع متداول، تكلمت عليه في كتابي: 'المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات' (¬1). 3 - 'دلائل التوحيد' وهو مطبوع كذلك. من مواقفه: - قال رحمه الله: الحمد لله الذي أمر بالدعوة إلى سبيله، وجعل الخير والفضل في قبيله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وإمام المرسلين، وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين. أما بعد: فلما كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، والمهم الذي ابتعث الله له النبيين، وجب على كل مستطيع له، أن يقتحم لوجه الله سبله، خشية أن تعم البدعة وتفشو الضلالة، ويتسع الخرق وتشيع الجهالة، فتموت السنة ويندرس الهدي النبوي، ويمحى من الوجود معالم الصراط السوي، ولما أضحت البدع الفواشي، كالسحب الغواشي، يتعذر على البصير حصرها، وضبط أفرادها وسبرها، رأيت أن أدل بجزئي منها على كلياتها، وبنبذة منها على بقياتها، وذلك في البدع والعوائد، الفاشية في كثير من المساجد، لأني ابتليت كآبائي بإمامة بعض الجوامع في ¬

(¬1) (2/ 647 - 662).

دمشق الشام، وبالقيام بالتدريس العام، فكنت أرى من أهم الواجبات إعلام الناس بما ألم بها من البدع والمنكرات، فإن القيم مسئول عن إصلاح من في معيته، وفي الحديث: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» (¬1).اهـ (¬2) - وقال: لا يخفى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ومن تبعهم حذروا قومهم من البدع ومحدثات الأمور، وأمروهم بالاتباع الذي فيه النجاة من كل محذور. وجاء في كتاب الله تعالى من الأمر بالاتباع بما لا يرتفع معه الترك. (¬3) - وقال: لا يخفى أن مدار العبادات إنما هو على المأثور في الكتاب العزيز والسنة الصحيحة مع الإخلاص في القلب وصحة التوجه إلى الله تعالى. ولكل مسلم الحق في إنكار كل عبادة لم ترد في الكتاب والسنة في ذاتها أو صورتها، فقد أخبرنا الله تعالى في كتابه بأنه أكمل لنا ديننا وأتم علينا به نعمته، فكل من يزيد فيه شيئا فهو مردود عليه لأنه مخالف للآية الشريفة وللحديث الصحيح: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (¬4). وكل البدع التي منها حسن ومنها سيء فهي الاختراعات المتعلقة بأمور المعاش ووسائله ومقاصده وهي المراد بحديث: «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» (¬5) ولولا ذلك لكان لنا أن نزيد في ¬

(¬1) أحمد (2/ 5) والبخاري (5/ 222/2554) ومسلم (3/ 1459/1829) وأبو داود (3/ 342 - 343/ 2928) والترمذي (4/ 180 - 181/ 1705) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. (¬2) إصلاح المساجد (ص.7). (¬3) إصلاح المساجد (ص10). (¬4) تقدم في مواقف أبي بكر الخلال سنة (311هـ). (¬5) تقدم ضمن مواقف صديق حسن خان سنة (1307هـ).

محمد بن قاسم آل غنيم (1335 هـ)

ركعات الصلاة أو سجداتها (حققه بعض الفضلاء) والله أعلم. (¬1) محمد بن قاسم آل غنيم (¬2) (1335 هـ) محمد بن قاسم آل غنيم النجدي الزبيري. ولد في بلدة الزبير من أعمال العراق، ونشأ فيها. أخذ عن الشيخ عبد الله بن نفيسة النجدي الزبيري والشيخ صالح بن حمد المبيض والشيخ إبراهيم الغملاس وغيرهم. تعلم الطب ومهر فيه، وطالع كتب الأدب واشتغل به، ونشر العلم وألف المؤلفات. توفي رحمه الله سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة وألف في بلدته الزبير. موقفه من الرافضة: له نظم رد فيه على أحد علماء الرافضة. (¬3) محمد بن محمود بن عثمان الضالع (¬4) (1337 هـ) محمد بن محمود بن عثمان الضالع القصيمي أصلا البغدادي مولدا ومنشأ. ولد في بغداد سنة تسع وخمسين ومائتين وألف، وقرأ القرآن، وأخذ شيئا من النحو على الشيخ بشير الغزي، وطالع كتب الفقه والتفسير وكتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم. وكان رحمه الله مجاهرا بعقيدته السلفية، نابذا لأهل البدع ومنكرا عليهم، لا تأخذه في الله لومة لائم، وله في ذلك ¬

(¬1) إصلاح المساجد (16 - 17). (¬2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (6/ 359 - 361). (¬3) علماء نجد (6/ 360). (¬4) علماء نجد خلال ثمانية قرون (6/ 380 - 383).

موقفه من المبتدعة:

الردود القيمة. توفي رحمه الله في شهر رمضان سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة. موقفه من المبتدعة: جاء في علماء نجد: وكان من المتحمسين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومن الدعاة إليها، يناظر فيها عن علم ممزوج بآداب المناظرة وحسن المجادلة، ولا يمنعه من المجاهرة بعقيدته وإنكاره مخالفة الناس له في ذلك، ونبذه الناس لانتحاله هذا المذهب لمناظرته فيه، ومطالعته كتب الشيخين ابن تيمية وابن القيم، وإنكاره الشديد على أهل البدع، ونسبوا كل من كان يحضر مجلسه إلى الوهابية، فكان يتحاشاه أكثر عارفيه خصوصا في عهد السلطان عبد الحميد، ومع هذا فإنه لم يزل مصرا على عقيدته ومجاهرته بآرائه، لم يثن عزمه لومة لائم ولا وشاية واش. وله رسالة وجيزة في الرد على خطبة (المسيو جبرئيل هانوتو) التزم فيها السجع، وله قصيدة رد بها على المصريين، وسبب ذلك أن الشيخ محمد بن إسماعيل الصنعاني مدح الشيخ محمد بن عبد الوهاب بقصيدة، فرد عليه الشيخ أبو بكر محمد بن غلبون المصري، فلما اطلع المترجم على الأصل وعلى رد أبي بكر بن غلبون رد عليه بقصيدة أولها: سلام على من كان في قومه يهدي ... بأي مكان حل في الغور والنجد ولاشك أن الأرض لا تخلو من فتى ... خلائقه ترضي وأفعاله تجدي

علي بن سليمان بن حلوة آل يوسف (1337 هـ)

ومنها: ألا خبروني أنتموا أو هموا ممن ... يداهن في الدين الحنيفي على عمد يرى كل أقوال الذين تقدموا ... صوابا وإن كان الحلول بما يبدي وتعظيمهم حتى غدا الدين هزأة ... لكل جحود فاقد العقل والرشد بتكذيب رسل الله والكتب التي ... نهتنا عن الإشراك بالواحد الفرد وهي طويلة. وله غيرها من القصائد. (¬1) علي بن سليمان بن حلوة آل يوسف (¬2) (1337 هـ) علي بن سليمان بن حلوة من آل يوسف الوهيبي التميمي نسبا، العنزي القصيمي أصلا، البغدادي مولدا وموطنا. ولد في بغداد ونشأ فيها، وقرأ على علماء بغداد منهم السيد محمود شكري الآلوسي. قال الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن درهم: العلامة ذو العقل الراجح والشهامة علي بن سليمان آل يوسف طلب العلم في بغداد على مشايخ كثر، وأدرك في كثير من الفنون إدراكا تاما، وقد رأيته واجتمعت به واستفدت منه في مدة إقامته عندنا ببلدنا قطر، وهو إذ ذاك في صحبة الشيخ يوسف آل إبراهيم في أيام قدومه على الشيخ المرحوم قاسم آل ثاني عام خمس عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة، فرأيت رجلا لا يجارى فيما تكلم فيه من أي فن خصوصا في الأصول والعقائد، والتحقيق لعقيدة السلف والدعوة إليها والرد على من خالفها. له مؤلفات وردود تدل على سعة علمه، وتبنيه لعقيدة السلف. ¬

(¬1) علماء نجد (6/ 382 - 383). (¬2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/ 195 - 200).

موقفه من المبتدعة:

توفي رحمه الله ببغداد في ذي الحجة سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة وألف. موقفه من المبتدعة: له من الآثار السلفية: 1 - 'أربح البضاعة في معتقد أهل السنة والجماعة'. 2 - 'قصيدة في الرد على أمين حنش البغدادي'. 3 - 'قصيدة في الرد على النبهاني'. (¬1) العلامة طاهر الجزائري (¬2) (1338 هـ) طاهر بن محمد بن صالح بن أحمد بن موهب السمعوني الجزائري الأصل، الدمشقي المولد والنشأة دخل المدرسة الجقمقية وتخرج بالأستاذ عبد الرحمن البستاني، ثم اتصل بالعلامة الشيخ عبد الغني الغنيمي الميداني ولازمه إلى أن توفاه الله ثم أصبح فقيه المالكية بدمشق ومفتيها بالشام. كان مغرما باقتناء المخطوطات والبحث عنها، فساعد في إنشاء "دار الكتب الظاهرية" بدمشق و"المكتبة الخالدية" في القدس. تحلق حول الشيخ طائفة من الشيوخ والعلماء النابعون كالشيخ جمال الدين القاسمي وعبد الرزاق البيطار وغيرهم، والتحق بهم نوابغ الشباب من أمثال محب الدين الخطيب ورفيق العظم ومحمد سعيد الباني الذي ألف في ترجمة الشيخ 'تنوير البصائر بسيرة الشيخ طاهر'. ¬

(¬1) علماء نجد (5/ 196 - 197). (¬2) الأعلام للزركلي (3/ 221 - 222) ومقدمة الجواهر الكلامية (ص.7 - 9).

موقفه من المبتدعة:

من مؤلفاته: 1 - 'الجواهر الكلامية في إيضاح العقيدة الإسلامية'. 2 - 'تنبيه الأذكياء في قصص الأنبياء'. 3 - 'التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن'. 4 - 'توجيه النظر إلى علم الأثر'. وكلها طبعت. 5 - 'الإلمام في السيرة النبوية'. وهو مخطوط. 6 - 'التفسير الكبير' في أربع مجلدات. وهو مخطوط بالمكتبة الظاهرية. وغيرها. توفي رحمه الله بدمشق سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة. موقفه من المبتدعة: قال تلميذه الشيخ سعيد الباني: كان يدعو المارقين إلى التدين، ولكن بالدين الذي تركنا عليه الشارع - صلى الله عليه وسلم -، ونهج عليه سلف الأمة الصالح، ويتحاشى الجمود والتقليد الأعمى، ويرفض كل ما ألصق بالدين من الحرج والتنطع والحشود والبدع مما لا يلتئم مع الإسلامية السمحاء. (¬1) موقفه من الرافضة: س: من أفضل الأمم جميعا بعد الأنبياء عليهم السلام؟ ج: أفضل الأمم جميعا بعد الأنبياء هي الأمة المحمدية، وأفضلها ¬

(¬1) مقدمة 'الجواهر الكلامية' للطاهر الجزائري (ص.8).

موقفه من الصوفية:

الصحابة الكرام وهم الذين اجتمعوا بنبينا عليه الصلاة والسلام وآمنوا به واتبعوا النور الذي أنزل معه، وأفضلهم الخلفاء الأربعة. (¬1) موقفه من الصوفية: س: هل يبلغ الولي درجة النبي، وهل يصل إلى حالة تسقط عنه التكاليف عندها؟ ج: لا يبلغ الولي درجة نبي من الأنبياء أصلا ولايصل العبد ما دام عاقلا بالغا إلى حيث يسقط عنه الأمر والنهي ويباح له ما شاء. ومن زعم ذلك كفر وكذلك يكفر من زعم أن للشريعة باطنا يخالف ظاهرها هو المراد بالحقيقة، فأول النصوص القطعية وحملها على غير ظواهرها. كمن زعم أن المراد بالملائكة القوى العقلية، وبالشياطين القوى الوهمية. (¬2) موقفه من الجهمية: جاء في الجواهر الكلامية: س: ما المراد بالاستواء في قوله سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} (¬3)؟ ج: المراد به استواء يليق بجلال الرحمن جل وعلا، فالاستواء معلوم والكيف مجهول. واستواؤه على العرش ليس كاستواء الإنسان على السفينة ¬

(¬1) (ص.80 - 81). (¬2) (ص.84 - 85). (¬3) طه الآية (5).

أو ظهر الدابة أو السرير مثلا، فمن تصور مثل ذلك فهو ممن غلب عليه الوهم لأنه شبه الخالق بالمخلوقات مع أنه قد ثبت في العقل والنقل أنه ليس كمثله شيء. فكما أن ذاته لا تشابه ذات شيء من المخلوقات كذلك ما ينسب إليه سبحانه لا يشابه شيئا مما ينسب إليها. س: هل يضاف إلى الله سبحانه يدان أو أعين أو نحو ذلك؟ ج: قد ورد في الكتاب العزيز إضافة اليد إلى الله سبحانه في قوله جل شأنه: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (¬1) واليدين في قوله سبحانه: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (¬2)، والأعين في قوله سبحانه: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (¬3) إلا أنه لا يجوز أن يضاف إليه إلا ما أضافه إلى نفسه في كتابه المنزل أو أضافه إليه نبيه المرسل. س: ما المراد باليد هنا؟ ج: المراد باليد هنا معنى يليق بجلاله سبحانه، وكذلك الأعين، فإن كل ما يضاف إليه سبحانه يكون غير مماثل لما يضاف إلى شيء من المخلوقات. ومن اعتقد أن له يدا كيد شيء منها أو عينا كذلك فهو ممن غلب عليه الوهم إذ شبه الله بخلقه وهو ليس كمثله شيء. س: إلى من ينسب ما ذكرته في معنى الاستواء واليدين والأعين؟ ¬

(¬1) الفتح الآية (10). (¬2) ص الآية (75). (¬3) الطور الآية (48).

عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ (1340 هـ)

ج: ينسب ذلك إلى جمهور السلف. وأما الخلف فأكثرهم يفسرون الاستواء بالاستيلاء، واليد بالنعمة أو القدرة، والأعين بالحفظ والرعاية، وذلك لتوهم كثير منهم أنها إن لم تؤول وتصرف عن ظاهرها أوهمت التشبيه وقد اتفق الفريقان على أن المشبه ضال، وغيرهم يقولون إنما توهم التشبيه لولم يدل العقل والنقل على التنزيه، فمن شبه فمن نفسه أتي. س: كيف نثبت شيئا ثم نقول: (الكيف فيه مجهول)؟ ج: هذا غير مستغرب فإنا نعلم أن نفوسنا متصفة بصفات كالعلم والقدرة والإرادة، مع أنا لانعلم كيفية قيام هذه الصفات بها، بل إنا نسمع ونبصر ولا نعلم كيفية حصول السمع والإبصار بل إننا نتكلم ولا نعلم كيف صدر منا الكلام. فإن علمنا شيئا من ذلك فقد غابت عنا أشياء، ومثل هذا لا يحصى. فإذا كان هذا فيما يضاف إلينا فكيف الحال فيما يضاف إليه سبحانه. (¬1) عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ (¬2) (1340 هـ) عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. ولد في الرياض، وتعلم بالمدينة ومصر وتونس، وساح ¬

(¬1) (ص.23 - 26). (¬2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (4/ 457) والأعلام (4/ 99) ومعجم المؤلفين (6/ 126 - 127).

موقفه من المبتدعة:

في مراكش وجنوب آسيا والهند والأفغان وإيران والعراق. كان مرجع النجديين في أمور دينهم، وشارك في سياستهم وحروبهم، واشتهر بالكرم والدهاء، وكان مع آل سعود في هجرتهم إلى الكويت. توفي رحمه الله بالرياض سنة أربعين وثلاثمائة وألف. موقفه من المبتدعة: له من الآثار السلفية: - 'رسالة في الاتباع وحظر الغلو في الدين'. (¬1) محمود شكري الآلوسي (¬2) (1342 هـ) محمود شكري بن عبد الله بن شهاب الدين محمود الآلوسي الحسيني أبو المعالي، حفيد الآلوسي المفسر صاحب 'روح المعاني'، مؤرخ عالم بالأدب والدين من الدعاة إلى الإصلاح. ولد في رصافة بغداد سنة ثلاث وسبعين ومائتين وألف، وأخذ العلم عن أبيه محمد وعمه وغيرهما. وتصدر للتدريس في داره وفي بعض المساجد وحمل على أهل البدع في الإسلام برسائل فعاداه كثيرون فسعوا إلى والي بغداد فكتب إلى السلطان عبد الحميد فصدر الأمر بنفيه إلى بلاد الأناضول فقام أعيانها وكتبوا إلى السلطان يحتجون فسمح له بالعودة إلى بغداد فلزم بيته عاكفا على التأليف والتدريس، عرض عليه قضاء بغداد فزهد فيه، ولم يل عملا بعد ذلك غير عضوية مجلس المعارف في بدء ¬

(¬1) الإعلام للزركلي (4/ 99. علماء نجد خلال ثمانية قرون 4/ 457). (¬2) الأعلام (7/ 172 - 173) ومعجم المؤلفين (12/ 169 - 170).

موقفه من المبتدعة:

تأليف الحكومة العربية في بغداد. له مصنفات كثيرة نافعة. توفي سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة وألف. موقفه من المبتدعة: - قال عنه تلميذه الشيخ بهجة الأثري: ولأستاذنا الآلوسي النصيب الأكبر احتسب حياته لخدمة الدين الإسلامي، وتطهيره من أوضار البدع والمحدثات، التي فتت في ساعده، وبذل في ذلك غاية جهده، فجاهد أهل الحشو ودعاة عبادة القبور جهاد الأبطال في ساحات القتال، فكان سيفا ماضيا في رقاب الحشويين والقبوريين. (¬1) - وقال أيضا: جاهد السيد البدع والوثنيات، ودعا إلى التوحيد الذي هو أول ما كانت تدعو إليه الرسل، وبين ضرر تقليد الآباء والسير على آثارهم الغامضة، غير مدخر في جهاده ودعوته وسعا حتى كبح جماح الوثنيين وخفف من غلواء القبوريين أو كاد، فكان له من التأثير المحمود في قمع الضلال ما لا سبيل لأحد إلى إنكاره. (¬2) - وقال في رده على النبهاني: إن كل ما ليس عليه أثارة من علم ليس بمقبول، وإن الاجتهاد ليس بنبوة حتى يقال إنه ختم بفلان وفلان، أما النبوة فقد دل نص الكتاب والسنة على ختمها. (¬3) ¬

(¬1) أعلام العراق (ص.129 - 131) كما في مقدمة 'صب العذاب على من سب الأصحاب' (ص.95 - 96). (¬2) المصدر نفسه (ص.96). (¬3) غاية الأماني (1/ 64). انظر مقدمة 'صب العذاب على من سب الأصحاب' (ص.100).

موقفه من المشركين:

موقفه من المشركين: لقد أجاد الشيخ رحمه الله في شرحه للمسائل التي خالف فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الجاهلية لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وهي رسالة جيدة في بابها، نذكر نماذج منها: - قال في شرحه المسألة التاسعة عشرة: من خصالهم الاعتياض عن كتاب الله تعالى بكتب السحر. قال: وهذه الخصلة الجاهلية موجودة اليوم في كثير من الناس، لا سيما من انتسب إلى الصالحين وهو عنهم بمراحل، فيتعاطى الأعمال السحرية من إمساك الحيات، وضرب السلاح، والدخول في النيران، وغير ذلك مما وردت الشريعة بإبطاله، فأعرضوا ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، واتبعوا ما ألقاه إليهم شياطينهم، وادعوا أن ذلك من الكرامات، مع أن الكرامة لا تصدر عن فاسق، ومن يتعاطى تلك الأعمال فسقهم ظاهر للعيان، ولذا اتخذوا دينهم لعبا ولهوا، وفي مثلهم قال تعالى: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} (¬1).اهـ (¬2) - وقال في المسألة الثانية والثلاثين: القول بالتعطيل كما كان يقوله آل فرعون. والتعطيل: إنكار أن يكون للعالم صانع، كما قال فرعون لقومه: ¬

(¬1) الكهف الآية (104). (¬2) (ص.92 - 93).

{مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (¬1) ونحو ذلك. ولم يخل العالم عن مثل هذه الجهالات في كل عصر من العصور، وأبناء هذا الزمان إلا النادر على هذه العقيدة الباطلة، لو نظروا بعين الإنصاف والتدبر، لعلموا أن كل موجود في العالم يدل على خالقه وبارئه: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد ومن أين للطبيعة إيجاد مثل هذه الدقائق التي نجدها في الآفاق والأنفس، وهي عديمة الشعور لا علم لها ولا فهم -تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا-. (¬2) - وقال في المسألة الثانية والأربعين: الغلو في الأنبياء والرسل عليهم السلام. قال تعالى في سورة النساء: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} (¬3). والغلو في المخلوق أعظم سبب لعبادة الأصنام والصالحين، كما كان في قوم نوح من عبادة نسر وسواع ¬

(¬1) القصص الآية (38). (¬2) (ص.123). (¬3) النساء الآية (171).

موقفه من الرافضة:

ويغوث ونحوهم، وكما كان من عبادة النصارى للمسيح عليه السلام. (¬1) موقفه من الرافضة: لقد جرد الشيخ قلمه للرد على الروافض ودحض شبههم في أكثر من كتاب منها: 1 - 'السيوف المشرقة مختصر الصواعق المحرقة'. 2 - 'المنحة الإلهية'. 3 - 'سعادة الدارين في شرح الثقلين' ترجمه عن الفارسية لمؤلفه الشيخ عبد العزيز ولي الله الدهلوي. 4 - 'رجوم الشيطان'. 5 - 'صب العذاب على من سب الأصحاب'. - قال في مطلعه: لما انتشر بين الناس البدع والضلالات، وسرى الجهل إلى سائر الجهات، أشاع الروافض رفضهم بين الناس، وأظهروا ما انطووا عليه من الخبث والدس والإلباس، فشمر عند ذلك علماء أهل السنة ساعد الجد والاجتهاد، لتطهير ما لوث به أهل الأهواء وجه الأرض من الفساد، فردوا عليهم في كتبهم أتم رد، وصدوهم عما ذهبوا إليه أكمل صد، بدلائل جلية، وبراهين قطعية. (¬2) - وقال: والعجب كل العجب من رافضي ينتسب لأب؛ فإن من نظر إلى أحوال الروافض في المتعة في هذا الزمان لا يحتاج في حكمه عليهم ¬

(¬1) (ص.157). (¬2) 'صب العذاب على من سب الأصحاب' (ص.227 - 228).

بالزنا إلى شاهد ولا برهان؛ فإن المرأة الواحدة منهم تزني بعشرين رجلا في يوم وليلة، وتقول إنها متمتعة، وقد هيئت عندهم أسواق عديدة للمتعة توقف فيها النساء ولهن قوادون يأتون بالرجال إلى النساء، وبالنساء إلى الرجال، فيختارون ما يرضون، ويعينون أجرة الزنا، ويأخذون بأيديهن إلى لعنة الله تعالى وغضبه، فإذا خرجن من عندهم وقفن لآخرين، وهكذا. كما أخبر بذلك الثقات الذين دخلوا بلادهم، وإن جماعة نحو خمسة أو أقل أو أكثر يأتون إلى امرأة واحدة، فتقول لهم من الصبح إلى الضحى في متعة هذا، ومن الضحى إلى الظهر في متعة هذا، ومن الظهر إلى العصر في متعة هذا، ومن العصر إلى المغرب في متعة هذا، ومن المغرب إلى العشاء في متعة هذا، ومن العشاء إلى نصف الليل في متعة هذا، ومن نصف الليل إلى الصبح في متعة هذا، ويسمونها "المتعة الدورية" ... (¬1) - وقال في خاتمة رده في صب العذاب: فإن هؤلاء الأوغاد، ومنشأ الفتن والفساد أقل من أن تسود جوههم بمداد الأقلام، وأذل من أن يقابلوا بأسنة الألسنة وسهام الأرقام؛ فإنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة، قد كوّروا العمائم، واتخذوا ذلك شبكة لصيد طير الولائم، كل منهم قد شمخ بأنف من الجهل طويل، واشمخرّ بخرطوم كخرطوم الفيل، واحتشى من قيح الخبث وقبح الأباطيل، على أن من "يسمع يخِل"، وغالب الرعاع اليوم كالأنعام بل هم أضل، يتبعون كل ناعق ويألفون كل ناهق. ¬

(¬1) 'صب العذاب على من سب الأصحاب' (ص.239 - 240).

ثم إن ما حرّرته في إبطال كلام الزائغين وأوهام الناكبين عن سبيل المؤمنين، كان في أقل مدة، من غير كلفة ولا عدة؛ فإن فسادهم باد في أول النظر، وكسادهم بيّن لدى كل ذي بصر؛ فإنهم لا فسحة للقول إلا الجدّ، ولا راحة للطبع إلا السرد. وقد اقتصرت على رد ما ذكروه، ولم أتعرض في هذا المقام لسائر ما هَذَوا به وزوّروه، فقد قضي الوطر من إبطال جميع عقائدهم، وهدم أساس أصولهم وقواعدهم؛ فإن عادوا عدنا، وإن زادوا زدنا: إن عادت العقرب عدنا لها ... وكانت النعل لها حاضرة وها أنا قائم على ساق العزم في ساحة المناظرة غير عاجز، ذو نية وبصيرة، يرجو الغداة نجاة فائز، واقف في ميدان البحث والمحاورة: هل من مبارز؟ إني لأرجو أن أقيم عليك نائحة الجنائز. وكيف لا وقد تكفل الله بنصرنا في قوله سبحانه: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)} (¬1). وبمن أبالي وقد قال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} (¬2) مع أني اليوم أقل القوم، وكم فينا معاشر أهل الحق من بطل همام، ونحرير إمام، يشق بذهنه الشعر، ويثقب بثاقب فكره الدرر، كم أقعدوا المخالفين على عجز الإفحام، وألجموا المعاندين بلجام الإلزام. ¬

(¬1) الروم الآية (4). (¬2) الصافات الآية (173).

موقفه من الصوفية:

ومن أين لفئة الضلال مثل هؤلاء الرجال؛ فإن كلا منهم "أحمق من ربيعة البكّاء"، ومن "ناطح الصخرة ولاعق الماء"، و"أخنث من هيت ودلال"، وأخبث ممن سارت بخبثه الأمثال، وقد زادوا بجهلهم على الحمير، وهذه آثارهم والبعرة تدل على البعير. والحمد لله الذي صدقنا وعده، ونصر حزبه وجنده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى الآل والأصحاب ومن أخلص لهم وُدّه. (¬1) موقفه من الصوفية: - له من الآثار السلفية: 'غاية الأماني في الرد على النبهاني'، وقد طبع ووزع على نفقة بعض المحسنين. وكان أول محسن طبعه على نفقته الشيخ نصيف والشيخ عبد القادر التلمساني خدمة للعقيدة السلفية. - ومما قال فيه: وأعظم الناس بلاء في هذا العصر على الدين والدولة مبتدعة الرفاعية؛ فلا تجد بدعة إلا ومنهم مصدرها وعنهم موردها ومأخذها، فذكرهم عبارة عن رقص وغناء والتجاء إلى غير الله وعبادة مشايخهم، وأعمالهم عبارة عن مسك الحيات والعقارب ونحو ذلك. (¬2) - قال رحمه الله في شرحه لكتاب المسائل التي خالف فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الجاهلية لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: المسألة السادسة والستون: تعبدهم بالمكاء والتصدية. قال تعالى في سورة الأنفال: {وَمَا كَانَ ¬

(¬1) 'صب العذاب على من سب الأصحاب' (ص.530 - 533). (¬2) غاية الأماني (1/ 370).

صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)} (¬1). تفسير هذه الآية: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ} أي: المسجد الحرام الذي صدوا المسلمين عنه، والتعبير عنه بالبيت للاختصار مع الإشارة إلى أنه بيت الله، فينبغي أن يعظم بالعبادة وهم لم يفعلوا. {إِلَّا مُكَاءً} أي: صفيرا. {وَتَصْدِيَةً} أي: تصفيقا، وهو ضرب اليد باليد بحيث يسمع له صوت. والمراد بالصلاة إما الدعاء أو أفعال أخر كانوا يفعلونها، ويسمونها صلاة، وحمل المكاء والتصدية عليها بتأويل ذلك بأنها لا فائدة فيها، ولا معنى لها كصفير الطيور، وتصفيق اللعب. وقد يقال: المراد أنهم وضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة التي يليق أن تقع عند البيت ... والمقصود أن مثل هذه الأفعال لا تكون عبادة، بل من شعائر الجاهلية. فما يفعله اليوم بعض جهلة المسلمين في المساجد من المكاء والتصدية يزعمون أنهم يذكرون الله، فهو من قبيل فعل الجاهلية، وما أحسن ما يقول القائل فيهم: أقال الله صفق لي وغن ... وقل كفرا وسم الكفر ذكرا وقد جعل الشارع صوت الملاهي صوت الشيطان، قال تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا ¬

(¬1) الأنفال الآية (35).

موقفه من الجهمية:

غُرُورًا (64)} (¬1).اهـ (¬2) موقفه من الجهمية: قال في شرحه المسألة الخامسة والخمسين: تلقيب أهل الهدى بالصابئة والحشوية: قال: كان أهل الجاهلية يلقبون من خرج عن دينهم بالصابئ، كما كانوا يسمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، كما ورد في عدة أحاديث من صحيح البخاري ومسلم وغيرهما (¬3)، تنفيرا للناس عن اتباع غير سبيلهم. وهكذا تجد كثيرا من هذه الأمة يطلقون على من خالفهم في بدعهم وأهوائهم أسماء مكروهة للناس. وأما الحشوية، فهم قوم كانوا يقولون بجواز ورود ما لا معنى له في الكتاب والسنة، كالحروف في أوائل السور، وكذا قال بعضهم، وهم الذين قال فيهم الحسن البصري لما وجد قولهم ساقطا، وكانوا يجلسون في خلقته أمامه: "ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة"، أي: جانبها. وخصوم السلفيين يرمونهم بهذا الاسم، تنفيرا للناس عن اتباعهم والأخذ بأقوالهم، حيث يقولون في المتشابه: لا يعلم تأويله إلا الله. وقد أخطأت استهم الحفرة، فالسلف لا يقولون بورود ما لا معنى له لا في الكتاب ولا في السنة، بل يقولون في الاستواء مثلا: "الاستواء غير مجهول، ¬

(¬1) الإسراء الآية (64). (¬2) المسائل التي خالف فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الجاهلية (ص.214 - 216) باختصار. (¬3) البخاري (6/ 681 - 682/ 3522) ومسلم (4/ 1919 - 1922/ 2473) من حديث أبي ذر في قصة إسلامه رضي الله عنه.

موقفه من القدرية:

والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر". ولقد أطال الكلام في هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية في كثير من كتبه، ولخص ذلك في كتابه 'جواب أهل الإيمان في التفاضل بين آيات القرآن'. ومن الناس من فرق بين مذهب السلف ومذهب الحشوية، بأن مذهب الحشوية ورود ما يتعذر التوصل إلى معناه المراد مطلقا، فالاستواء -مثلا- عندهم له معنى يتوصل إليه بمجرد سماعه كل من يعرف الموضوعات اللغوية، إلا أنه غير مراد، لأنه خلاف ما يقتضيه دليل العقل والنقل، ومعنى آخر يليق به -تعالى- لا يعلمه إلا هو -عز وجل-. وكيف يكون مذهب السلف هو مذهب الحشوية، وقد رأى الحسن البصري الذي هو من أكابر السلف سقوط قول الحشوية، ولم يرض أن يقعد قائله تجاهه؟!. والمقصود أن أهل الباطل من المبتدعة رموا أهل السنة والحديث بمثل هذا اللقب الخبيث. قال أبو محمد عبد الله بن قتيبة في 'تأويل مختلف الأحاديث': إن أصحاب البدع سموا أهل الحديث بالحشوية، والنابتة، والمتجبرة، والجبرية، وسموهم الغثاء، وهذه كلها أنباز لم يأت بها خبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) موقفه من القدرية: قال في المسألة الخامسة والثلاثين: جحود القدر، والاحتجاج به على الله تعالى ومعارضة شرع الله بقدر الله. ¬

(¬1) (ص.188 - 191).

وهذه المسألة من غوامض مسائل الدين، والوقوف على سرها عسر إلا على من وفقه الله تعالى. ولابن القيم كتاب جليل في هذا الباب سماه 'شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل'. وقد أبطل الله سبحانه هذه العقيدة الجاهلية بقوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} (¬1). تفسير هذه الآية: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا}: حكاية لفن آخر من أباطيلهم. {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}: لم يريدوا بهذا الكلام الاعتذار عن ارتكاب القبيح، إذ لم يعتقدوا قبح أفعالهم، بل هم كما نطقت به الآيات يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وأنهم إنما يعبدون الأصنام ليقربوهم إلى الله زلفى، وأن التحريم إنما كان من الله عزوجل، فما مرادهم بذلك إلا الاحتجاج على أن ما ارتكبوه حق ومشروع ومرضي عند ¬

(¬1) الأنعام الآيتان (148و149).

الله تعالى على أن المشيئة والإرادة تساوي الأمر، وتستلزم الرضى، كما زعمت المعتزلة، فيكون حاصل كلامهم أن ما نرتكبه من الشرك والتحريم وغيرهما تعلقت به مشيئته سبحانه وإرادته، فهو مشروع ومرضي عند الله تعالى. وبعد أن حكى سبحانه وتعالى ذلك عنهم، رد عليهم بقوله عز من قائل: {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، وهم أسلافهم المشركون. وحاصله: أن كلامهم يتضمن تكذيب الرسل عليهم السلام، وقد دلت المعجزة على صدقهم. أو نقول: حاصله: أن ما شاء الله يجب، وما لم يشأ يمتنع، وكل ما هذا شأنه فلا تكليف به، لكونه مشروطا بالاستطاعة، فينتج: أن ما ارتكبه من الشرك وغيره، لم يتكلف بتركه، ولم يبعث له نبي، فرد الله تعالى عليهم بأن هذه كلمة صدق أريد بها باطل، لأنهم أرادوا بها أن الرسل عليهم السلام في دعواهم البعثة والتكليف كاذبون، وقد ثبت صدقهم بالدلائل القطعية، ولكونه صدقا أريد به باطل، ذمهم الله تعالى بالتكذيب. ووجوب وقوع متعلق المشيئة لا ينافي صدق دعوى البعثة والتكليف، لأنهما لإظهار المحجة وإبلاغ الحجة. حتى {ذَاقُوا بَأْسَنَا}، أي: نالوا عذابنا الذي أنزلناه عليهم بتكذيبهم، وفيه إيماء إلى أن لهم عذابا مدخرا عند الله تعالى، لأن الذوق أول إدراك الشيء. {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا}، أي: هل لكم من علم بأن الإشراك وسائر ما أنتم عليه مرضي لله تعالى فتظهروه لنا بالبرهان؟

وهذا دليل على أن المشركين أمم استوجبوا التوبيخ على قولهم ذلك، لأنهم كانوا يهزؤون بالدين، ويبغون رد دعوة الأنبياء عليهم السلام، حيث قرع مسامعهم من شرائع الرسل عليهم السلام تفويض الأمور إليه سبحانه وتعالى، فحين طالبوهم بالإسلام، والتزام الأحكام، احتجوا عليهم بما أخذوه من كلامهم مستهزئين بهم عليهم الصلاة والسلام، ولم يكن غرضهم ذكر ما ينطوي عليه عقدهم، كيف لا والإيمان بصفات الله تعالى فرع الإيمان به عز شأنه وهو عنهم مناط العَيُّوق. (¬1) {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)}، أي: تكذبون على الله تعالى. {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}، أي: البينة الواضحة التي بلغت غاية المتانة والقوة على الإثبات، والمراد بها في المشهور: الكتاب والرسول والبيان. {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} بالتوفيق لها، والحمل عليها، ولكن شاء هداية البعض الصارفين اختيارهم إلى سلوك طريق الحق، وضلال آخرين صرفوه إلى خلاف ذلك. ومن الناس من ذكر وجها آخر في توجيه ما في الآية: وهو أن الرد عليهم إنما كان لاعتقادهم أنهم مسلمون اختيارهم وقدرتهم، وأن إشراكهم إنما صدر منهم على وجه الاضطرار وزعموا أنهم يقيمون الحجة على الله ¬

(¬1) كوكب أحمر مضيء بحيال الثريا من ناحية الشمال ويطلع قبل الجوزاء، سمي بذلك لأنه يعوق الدبران عن لقاء الثريا. لسان العرب مادة [عيق].

تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام بذلك، فرد الله تعالى قولهم في دعواهم عدم الاختيار لأنفسهم، وشبههم بمن اغتر قبلهم بهذا الخيال، فكذب الرسل، وأشرك بالله عزوجل، واعتمد على أنه إنما يفعل ذلك بمشيئة الله تعالى، ورام إفحام الرسل بهذه الشبهة. ثم بين سبحانه أنهم لا حجة لهم في ذلك، وأن الحجة البالغة له تعالى لا لهم، ثم أوضح سبحانه أن كل واقع واقع بمشيئته، وأنه لم يشأ منهم إلا ما صدر عنهم، وأنه تعالى لو شاء منهم الهداية لاهتدوا أجمعين. والمقصود أن يمتحض وجه الرد عليهم، وتتلخص عقيدة نفوذ المشيئة وعموم تعلقها بكل كائن عن الرد، وينصرف الرد إلى دعواهم سلب الاختيار لأنفسهم، وأن إقامتهم الحجة بذلك خاصة. وإذا تدبرت الآية وجدت صدرها دافعا لصدور الجبرية، وعجزها معجزا للمعتزلة، إذ الأول مثبت أن للعبد اختيارا وقدرة على وجه يقطع حجته وعذره في المخالفة والعصيان، والثاني مثبت نفوذ مشيئة الله تعالى في العبد، وأن جميع أفعاله على وفق المشيئة الإلهية، وبذلك تقوم الحجة لأهل السنة على المعتزلة، والحمد لله رب العالمين. ومنهم من وجه الآية: بأن مرادهم رد دعوة الأنبياء عليهم السلام، على معنى أن الله تعالى شاء شركنا، وأراده منا، وأنتم تخالفون إرادته، حيث تدعونا إلى الإيمان، فوبخهم سبحانه وتعلى بوجوه عدة: منها قوله سبحانه: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}، فإنه بتقدير الشرط، أي:

إذا كان الأمر كما زعمتم {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}. وقوله سبحانه: {فلو شَاءَ} بدلا منه على سبيل البيان، أي: لو شاء لدل كلا منكم ومن مخالفيكم على دينه، لو كان الأمر كما تزعمون، لكان الإسلام أيضا بالمشيئة، فيجب أن لا تمنعوا المسلمين من الإسلام، كما وجب بزعمكم ألا يمنعكم الأنبياء عن الشرك، فيلزمكم أن لا يكون بينكم وبين المسلمين مخالفة ومعاداة، بل موافقة وموالاة. وحاصله: أن ما خالف مذهبكم من النِّحل يجب أن يكون عندكم حقا، لأنه بمشيئة الله تعالى فيلزم تصحيح الأديان المتناقضة. وفي سورة النحل: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)} (¬1). الكلام على هذه الآية كالكلام على الآية السابقة، ولا تراهم يتشبثون إلا عند انخذال الحجة، ألا ترى كيف ختم بنحو آخر مجادلتهم في سورة الأنعام في الآية السابقة، وكذلك في سورة الزخرف وهو قوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ¬

(¬1) النحل الآية (35).

سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)} (¬1). ويكفي في الانقلاب ما يشير إليه قوله سبحانه: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ}، والمراد بما حرموه: السوائب والبحائر وغيرها. وفي تخصيص الاشتراك والتحريم بالنفي، لأنهما أعظم وأشهر ما هم عليه، وغرضهم من ذلك تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام والطعن في الرسالة رأسا، فإن حاصله: أي ما شاء الله يجب، وما لم يشأ يمتنع، فلو أنه سبحانه وتعالى شاء أن نوحده، ولا نشرك به شيئا، ونحلل ما أحله، ولا نحرم شيئا مما حرمنا، كما تقول الرسل وينقلونه من جهته تعالى لكان الأمر كما شاء من التوحيد ونفي الإشراك، وتحليل ما أحله، وعدم تحريم شيء من ذلك، وحيث لم يكن كذلك، ثبت أنه لم يشأ شيئا من ذلك، بل شاء ما نحن عليه، وتحقق أن ما يقوله الرسل عليهم السلام من تلقاء أنفسهم. فرد الله تعالى عليهم بقوله: {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} من الأمم، أي: أشركوا بالله تعالى، وحرموا من دونه ما حرموا، وجادلوا رسلهم بالباطل ¬

(¬1) الزخرف الآيات (19 - 22).

ليدحضوا به الحق. {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)}، أي: ليست وظيفتهم إلا البلاغ للرسالة، الموضح طريق الحق، والمظهر أحكام الوحي التي منها تحتم تعلق مشيئته تعالى باهتداء من صرف قدرته واختياره إلى تحصيل الحق، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (¬1). وأما إلجاؤهم إلى ذلك، وتنفيذ قولهم عليه شاؤوا أو أبوا كما هو مقتضى استدلالهم فليس ذلك من وظيفتهم، ولا من الحكمة التي يتوقف عليها التكليف، حتى يستدل بعدم ظهور آثاره على عدم حقية الرسل عليهم السلام أو على عدم تعلق مشيئته تعالى بذلك، فإن ما يترتب عليه الثواب والعقاب من الأفعال لابد في تعلق مشيئته تعالى بوقوعه من مباشرتهم الاختيارية، وصرف اختيارهم الجزئي إلى تحصيله، وإلا لكان الثواب والعقاب اضطراريين. والكلام على هذه الآية ونحوها مستوفى في تفسير 'روح المعاني' (¬2) وغيره. فجحود القدر، والاحتجاج به على الله، ومعارضة شرع الله بقدره، كل ذلك من ضلالات الجاهلية. والمقصود أنه لا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين، فمن زلت ¬

(¬1) العنكبوت الآية (69). (¬2) (8/ 51 - 53).

الشيخ باب (1342 هـ)

قدمه عن هذه الجادة كان على ما كان عليه أهل الجاهلية، وهي الطريقة التي رد عليها الله سبحانه ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) الشيخ بَابَ (¬2) (1342 هـ) العلامة المحدث سيدي بن سيدي محمد، وقد اشتهر بلقبه باب ابن الشيخ سيدي، ويقال له الشيخ سيدي بَابَ، وكنيته أبو محمد ويرجع نسبه إلى قبيلة تَنْدَغ المرابطية. ولد عام سبع وسبعين ومائتين وألف في بلاده، ونشأ في بيئة علمية متدينة فهو من عائلة ذات شهرة دينية وعلمية كبيرة لها مكانة في المجتمع الموريتاني. حفظ القرآن الكريم قبل بلوغه عشر سنين، واشتغل بتحصيل العلم على كبار علماء بلاده، منهم: محمد بن السالم البوحسني، ومحمد بن حنبل بن الفال، وأحمد بن سليمان الديماني، وأحمد بن أزوين. درس السنة وجعلها نصب عينيه وعمل بها، عقيدة وشريعة وسلوكا. كان لا يخشى في الحق لومة لائم، ولا يبالي بما يصيبه في سبيله وقاد دعوة سلفية تهدف إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ونبذ الجمود والتقليد. قال سبطه محمد بن أبي مدين: محيي السنة ومجدد القرن الرابع عشر. وقال عنه أحمد بن أحمد المختار: العلامة المحقق الموحد، العالم المتبحر سيف الله المسلول على المبتدعين والمعطلين وأهل الخرافة أجمعين. وله عدة مؤلفات ¬

(¬1) شرح المسائل التي خالف فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ص.129 - 137). (¬2) السلفية وأعلامها في موريتانيا (282 وما بعدها).

موقفه من المبتدعة:

منها: 'إرشاد المقلدين عند اختلاف المجتهدين' و'أرجحية التفويض في آيات الصفات وأحاديثها' و'حكم الهجرة من البلاد المحتلة' و'بيان إعجاز القرآن' وغيرها. توفي رحمه الله تعالى في بلاده سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة عن عمر بلغ أربعة وستين عاما. موقفه من المبتدعة: - قال رحمه الله في منظومته: كن للإله ذاكرا ... وأنكر المناكرا وكن مع الحق الذي ... يرضاه منك دائرا ولا تعد نافعا ... سواءه أو ضائرا واسلك سبيل المصطفى ... ومت عليه سائرا أما كفى أولنا؟ ... أليس يكفي الآخرا؟ وكن لقوم أحدثوا ... في أمره مهاجرا قد موهوا بشبه ... واعتذروا معاذرا وزعموا مزاعما ... وسودوا دفاترا واحتنكوا أهل الفلا ... واحتنكوا الحواضرا وأورثت أكابر ... بدعتها أصاغرا واحكم بما قد أظهروا ... فما تلي السرائرا وإن دعا مجادل ... في أمرهم إلى مرا فلا تمار فيهم ... إلا مراء ظاهرا

موقفه من الجهمية:

- وقال أيضا: آمن أخي واستقم ... ونهج أحمد التزم واجتنب السبل لا ... تغررك أضغاث الحلم لا خير في دين لدى ... خير القرون منعدم أحدثه من لم يرد ... نص بأنه عصم من بعدما قد أنزلت ... اليوم أكملت لكم وبعدما صح لدى ... جمع على غدير وخم وادع إلى سبيله ... وخص في الناس وعم واذكر إذا ما أعرضوا ... عليكم أنفسكم (¬1) موقفه من الجهمية: - قال رحمه الله: ما أوهم التشبيه في آيات ... وفي أحاديث عن الثقات فهي صفات وصف الرحمن ... بها وواجب بها الإيمان ثم على ظاهرها نبقيها ... ونحذر التأويل والتشبيها قال بذا الثلاثة القرون ... والخير باتباعهم مقرون وهو الذي ينصره القرآن ... والسنن الصحاح والحسان وكم رآه من إمام مرتضى ... من الخلائق بناظر الرضى ومن أجاز منهم التأويلا ... لم ينكروا ذا المذهب الأصيلا ¬

(¬1) السلفية وأعلامها في موريتانيا (295 - 296).

والحق أن من أصاب واحد ... لاسيما إن كان في العقائد ووافق النص وإجماع السلف ... فكيف لا يتبع هذا من عرف ومن تأول فقد تكلفا ... وغير ما له به علم قفا وفي الذي هرب منه قد وقع ... وبعضهم عن قوله به رجع حتى حكى في منعه الإجماعا ... وجعل اجتنابه اتباعا وقد نماه بعض أهل العلم ... من الأكابر لحزب جهم فاشدد يديك أيها المحق ... على الذي سمعت فهو الحق (¬1) - وقال أيضا: وعلى هذا مضى سلف الأمة، وعلماء السنة، من الصحابة والتابعين، وفقهاء الأمصار الذين ساروا على هذا المنهج، كالإمام مالك، والشافعي، والسفيانين، والليث بن سعد، وأحمد بن حنبل، وإسحاق ابن راهويه، وغيرهم من الأئمة المتمسكين بهذا المذهب .. كلهم تلقوا آيات الصفات وأحاديثها بالقبول، وتجنبوا فيها عن التمثيل والتأويل، حيث كانوا يقولون: اقرأوها كما جاءت، بلا كيف، ولا تشبيه، ولا تأويل، على حد قوله تعالى: {ليس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (¬2).اهـ (¬3) ¬

(¬1) السلفية وأعلامها في موريتانيا (290 - 291). (¬2) الشورى الآية (11). (¬3) أعلام السلفية (ص.292).

إسحاق بن حمد بن علي بن عتيق (1343 هـ)

إسحاق بن حمد بن علي بن عتيق (¬1) (1343 هـ) إسحاق بن حمد بن علي بن عتيق. ولد في رجب سنة سبع وثمانين ومائتين وألف وقيل غير ذلك. نشأ نشأة علمية، حيث قرأ على والده العلامة الشيخ حمد وعلى أخيه الشيخ سعد. وله قصائد كثيرة، منها مراثي ومنها أمداح. توفي رحمه الله سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة وألف. موقفه من المبتدعة: له حاشية على كتاب التوحيد. (¬2) وقد نظم شروط "لا إله إلا الله" وما يضادها، فقال: لسبعة الشروط في الشهادة ... حتم علينا قبول ذي الإفادة علم ينافي الجهل واليقين ... إذا نفى للشك يا فطين كذا القبول إن نفى للرد ... والانقياد رابع في العد وهو المنافي الشرك إخلاص الفتى ... إذا نفى للشرك فافهم يا فتى والصدق أيضاً المنافي للكذب ... محبة تنفي لشد فاحتسب (¬3) ¬

(¬1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (1/ 555 - 556). (¬2) علماء نجد (1/ 555) (¬3) علماء نجد خلال ثمانية قرون (1/ 556).

محمد عز الدين القسام (1345 هـ)

محمد عز الدين القسام (¬1) (1345 هـ) محمد عز الدين بن عبد القادر القسام ولد سنة ثلاثمائة وألف للهجرة بجبلة الأدهمية من أعمال اللاذقية بالشام. رحل إلى الأزهر لطلب العلم وعمره أربعة عشر سنة. ثم رجع إلى قريته بعد أن تخرج من الأزهر وحمل شهادته سنة عشرين وثلاثمائة وألف للهجرة. فعمل إماماً وخطيبا بمسجد المنصوري بجبلة، وعين مدرسا في الجامع الكبير بجبلة جامع إبراهيم بن أدهم. شارك في الجهاد ضد الفرنسيين الذين احتلوا بلاده فحكموا عليه بالإعدام وطاردوه، ثم رحل إلى فلسطين واستقل في ضاحية "الياجور" قرب "حيفا"، فأصبح خطيبا ومدرسا بجامع الاستقلال الذي سهر على جمع التبرعات لبنائه وأنشأ مدرسة ليلية لتعليم الأميين العرب ومن خلالها بث فكرة الجهاد في نفوس الناس ثم أسس جمعية لذلك وجمع التبرعات ودرّب من انضمّ إليه تدريبا عسكريا بعد أن هيّأه دينيّاً للجهاد في سبيل الله. ثم بعد أسبوعين من مهاجمة قوات الاحتلال الإنجليزي للمتظاهرين العرب في القدس أعلن الجهاد فتوجّه بالمجاهدين إلى جبال جنين فهاجمهم الإنجليز، فتوفي رحمه الله في تلك المعركة جعله الله من الشهداء الأبرار وذلك يوم الأربعاء لأربع وعشرين خلون من شهر شعبان عام أربع وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة. ¬

(¬1) الأعلام (6/ 267 - 268) ومقدمة مشهور حسن سلمان لكتاب 'السلفيون وقضية فلسطين' (ص.114).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: ألف بالاشتراك مع محمد كامل القصاب رسالة ماتعة في ردّ بدعة الجهر بالذكر في تشييع الجنازة وضمّناها رد الكثير من البدع: كإحياء ذكرى المولد النبوي، وإحياء ليلة النصف من شعبان بصلوات وأذكار مخصوصة، وبدعة التوحيش وهي أناشيد توديع رمضان التي تقام إذا بقي من رمضان أيام قليلة من طرف المؤذنين بعد سلام الإمام من الوتر. - قال في مطلعه: أما بعد؛ فقد اطلعنا على رسالة 'فصل الخطاب في الرد على الزنكلوني والقسام والقصاب' تأليف الفاضل الشيخ محمد صبحي خزيران الحنفي العكي، رئيس كتاب المحمكة الشرعية في ثغر "عكاء"، وقد ألفها انتصارا لأستاذه الفاضل الشيخ عبد الله الجزار مفتي عكاء وقاضيها؛ إذ قد أفتى أحدنا لما سئل عن حكم الصياح في التهليل والتكبير وغيرهما أمام الجنائز، بأنه مكروه تحريما، وبدعة قبيحة، يجب على علماء المسلمين إنكارها، وعلى كل قادر إزالتها، مستدلا بآية قرآنية، وحديث صحيح، وأقوال الفقهاء. (¬1) - قال في 'النقد والبيان' (¬2) عن الاحتفال بالمولد النبوي: إن الاحتفال بقراءة قصة المولد النبوي ليست سنة الخلفاء الراشدين، فيُعضّ عليها بالنواجذ، ولا فعلها أحد من أهل القرون الثلاثة الفاضلة، التي هي خير القرون الإسلامية، بشهادة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإنما أحدثها الملك المظفّر التركماني الجنس، صاحب إربل، ثم صارت عادة متبعة وسنة مبتدعة وشعارا دينينا. ¬

(¬1) ضمن 'السلفيون وقضية فلسطين' (ص.4). (¬2) ضمن 'السلفيون وقضية فلسطين' (ص.117 - 118).

موقفه من المشركين:

- وقال عن بدعة رفع الصوت بالذكر في تشييع الجنائز: .. يتعين على كل قادر على إزالة هذه البدعة أن يزيلها، وإلا فهو آثم وشريك لصاحبها ويجب على كل عالم أن ينكرها .. (¬1) موقفه من المشركين: - جاء في كتاب: 'عز الدين القسام شيخ المجاهدين في فلسطين' (¬2) لمحمد حسن شراب: إن عز الدين القسام حارب حج النساء إلى مقام الخَضِر بجبال "الكرمل" قرب "حيفا" لتقديم النذور وذبح القرابين للشفاء من المرض أو نجاح في مدرسة، وكُنّ يرقصن حول المقام الموهوم فدعا الناس إلى أن يتوجهوا بنذورهم وأضاحيهم إلى الله تعالى فقط لأنه وحده هو القادر على الضر والنفع. (¬3) - ومن مواقفه التي تحفظ له في مواجهة المستعمر الإنجليزي أنه باع بيته ليشتري به السلاح لحرب الكافر المعتدي. عبد الله بن علي بن محمد بن حميد (¬4) (1346 هـ) عبد الله بن علي بن محمد بن عبد الله بن حميد بن غانم من آل أبي غنام، وجده هو صاحب السحب الوابلة. ولد في عنيزة سنة اثنتان وتسعين ومائتين وألف للهجرة، وتوفي جده وله أربع سنين، وتوفي والده وله أربع عشرة ¬

(¬1) المصدر نفسه (ص.144). (¬2) (ص.172 - 173). (¬3) نقلا عن 'السلفيون' (ص.9 - 10). (¬4) علماء نجد خلال ثمانية قرون (4/ 338 - 343) والأعلام (4/ 108).

موقفه من المبتدعة:

سنة. نشأ المترجَم في بيت علم وفضل، وقرأ على علماء مكة كالشيخ شعيب المغربي والشيخ أحمد بن عيسى والشيخ عبد الله بن علي بن عمرو. وأخذ عن الشيخ عبد الله القدومي والشيخ محمد سعيد بابصيل والشيخ صالح العثمان آل قاضي وغيرهم. قال فيه الشيخ زكريا بن عبد الله: عالم فاضل ناسك عرفته يواظب على الصلاة في المسجد الحرام. تولى إفتاء الحنابلة بمكة المكرمة، ثم عزل، ثم أعيد. له من التلاميذ الشيخ سليمان بن عبد الرحمن الصنيع والشيخ سليمان بن محمد ابن شبل والشيخ محمد بن سليمان الفريح الأشيقري والشيخ عبد الله بن سليمان التركي وغيرهم. توفي رحمه الله في ذي الحجة سنة ست وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة في الطائف. موقفه من المبتدعة: له من الآثار السلفية: 'شرح مختصر على عقيدة السفاريني'. (¬1) سليمان بن سَحْمَان (¬2) (1349 هـ) الشيخ سليمان بن سحمان بن مصلح بن حمدان العالم المصنف واللسان المدافع عن الدعوة السلفية. ولد بقرية السقا سنة ثمان وستين ومائتين وألف، فنشأ فيها وقرأ على والده الذي كان من حفاظ القرآن ثم بالرياض ¬

(¬1) علماء نجد (4/ 341) (¬2) علماء نجد (1/ 279 - 281) والأعلام (3/ 126) ومعجم المؤلفين (4/ 264) والدرر السنية (12/ 87 - 93).

موقفه من المبتدعة:

على الشيخ عبد الرحمن بن حسن وابنه العلامة عبد اللطيف، فلازم دروسهما وجد واجتهد حتى صلب عوده في العلم وقوي عضده في النضال. واعتدل قلمه في الكتابة واستقام لسانه في الإنشاء. قال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: بلغ في العلوم مبلغا حتى صار منارا يهتدى به، إماما هماما، شهما مقداما، أصوليا مجتهدا، متبحرا كثير التصانيف، كشف جميع شبه المشبهين نظما ونثرا، حتى أدحض حججهم وأرغم أنوفهم، منارا يهتدى به، أمة وحده، وفردا حتى نزل لحده، أخمل من القرناء كل عظيم، وأخمد من أهل البدع كل حديث وقديم، قام في رد الشبه مقاما فاق به أهل وقته، فثبته الله وسدده، وأدحض به الباطل وأخمده. وله مصنفات كثيرة في توضيح الدعوة السلفية. توفي بالرياض سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وألف. موقفه من المبتدعة: جاء في علماء نجد: جرد قلمه للرد على هؤلاء المغرضين -يعني أعداء الدعوة السلفية- ولسانه برائع الشعر على المارقين، فصار يكيل لهم الصاع صاعين بقوة الكلام، وسطوع الحجة وصحة البرهان، فيدحض أقوالهم، ويرد شبههم، ويوهن حجتهم، كما يرميهم بشهب من قصائده الطنانة، وأشعاره الرنانة، وقوافيه المحكمة، وأبياته الرصينة، وبهذا فهو ذو القلمين، وصاحب الصناعتين، وقلّما اجتمع النثر والشعر لواحد إلاّ لنوابغ الكُتّاب وأصحاب الأقلام، فصار لسان هذه الدعوة، ومحامي هذه الملة، فكان من هذه الردود

موقفه من الجهمية:

القاطعة، والحجج الدامغة هذه المؤلفات الساطعة (¬1)، نذكر منها: 1 - 'الأسنة الحداد في رد شبهات علوي الحداد'. 2 - 'الصواعق المرسلة الشهابية على الشبه الداحضة الشامية'. 3 - 'كشف غياهب الظلام عن أوهام جلاء الأوهام'. 4 - 'الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق'. 5 - 'كشف شبهات البغدادي في تحليله ذبائح الصليب وكفار البوادي'. 6 - 'إقامة الدليل والمحجة'. 7 - 'تبرئة الشيخين الإمامين من تزوير أهل الكذب والمين'. 8 - 'تأييد مذهب السلف وكشف شبهات من حاد وانحرف ودعي باليماني شرف'. 9 - 'منهاج أهل الحق والاتباع'. (¬2) وكتب هذا الشيخ أغلبها مطبوعة، ولعلنا نقف على حقيقتها كلها فنصفها ونعطيها ما تستحقه من الوصف العلمي. موقفه من الجهمية: له مؤلفات عظيمة أفردها رحمه الله في الرد على الجهمية سواء منها الجهمية الغابرة أو جهمية أهل زمانه، من هذه المؤلفات: 1 - 'كشف الأوهام والالتباس عن تلبيس بعض الأغبياء من الناس'، بين فيها إجماع أهل السنة النبوية على تكفير الجهمية، وهي عبارة عن رد ¬

(¬1) (2/ 401). (¬2) علماء نجد (2/ 402).

سعد بن حمد بن عتيق (1349 هـ)

على حسين بن حسن آل الشيخ في ادعائه أن لأهل السنة في تكفير الجهمية قولين. 2 - 'منظومة منظمة الشيخ سليمان بن سحمان في الرد على من أنكر على الإخوان تكفير جهمية أهل هذا الزمان'. وهي كسابقتها. 3 - 'تمييز الصدق من المين في محاورة الرجلين'. وهو كسابقيه. وقد آثرنا الإشارة إلى ذلك فقط دون إسهاب وتطويل، ومن شاء التفصيل فليرجع إلى الرسائل المشار إليها آنفا، فسوف يجد فيها بغيته بإذن الله. سعد بن حمد بن عَتِيق (¬1) (1349 هـ) سعد بن حمد بن علي بن محمد بن عتيق. ولد في بلدة الحلوة سنة سبع وسبعين ومائتين وألف، ونشأ فيها فقرأ على والده، فلما أدرك في التوحيد والتفسير والحديث والفقه والنحو رغب في الزيادة فسافر إلى الهند فقرأ على أعلامها كالشيخ صديق حسن خان والشيخ نذير حسين الدهلوي والشيخ شريف حسين وغيرهم. ثم عاد بعد تسع سنين إلى مكة في موسم الحج فالتقى بالشيخ شعيب الدكالي المغربي وآخرين، وبانكبابه على القراءة والاستفادة من هؤلاء العلماء الكبار بلغ في العلم مبلغا كبيرا وصار في عداد كبار العلماء. قال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: وبرع حتى أدرك من العلوم حظا وافرا، وفاق أهل زمانه محصولا، وسمق حتى كان حجة حافظا، وكان كامل العقل، شديد التثبت، حسن السمت، حسن الخلق، له اليد الطولى في ¬

(¬1) علماء نجد (1/ 266 - 269) والأعلام (3/ 84) ومعجم المؤلفين (4/ 211) والدرر السنية (12/ 93 - 96).

موقفه من المبتدعة:

الأصول والفروع، تام المعرفة في الحديث ورجاله، وكان من العلماء العاملين، واشتهر ذكره في العالمين، وأثنت عليه ألسن الناطقين. توفي رحمه الله سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وألف. موقفه من المبتدعة: جاء في علماء نجد: وصار من عداد كبار العلماء المشار إليهم بالبنان كما ورث عن والده الغيرة الشديدة في الدين، والصلابة في العقيدة. فاشتهر بسعة العلم والتقى والصلاح، وجد واجتهد في نشر الدعوة السلفية، حتى نفع الله باجتهاده وبركة دعوته خلقا كثيرا. له من الآثار السلفية: 'عقيدة الطائفة النجدية في توحيد الألوهية'. يوجد مخطوطا في جامعة سعود. جمعت كتاباته وفتاواه في كتاب سمي: 'المجموع المفيد من رسائل وفتاوى الشيخ سعد بن حمد بن عتيق'. (¬1) أبو بكر خُوقِير (¬2) (1349 هـ) أبو بكر بن محمد عارف بن عبد القادر المكي مولدا وسكنا ووفاة، عين مفتيا للحنابلة، ثم اشتغل بالاتجار في الكتب، ثم عين مدرسا بالحرم المكي في العهد السعودي، واستمر إلى أن توفي رحمه الله سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وألف. ¬

(¬1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (2/ 221). (¬2) الأعلام (2/ 70) ومعجم المؤلفين (3/ 73).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: له من الآثار: 1 - 'ما لا بد منه في أمور الدين' وهو عبارة عن أسئلة وأجوبة في العقيدة يشبه النهج المدرسي، وهو مطبوع. 2 - 'فصل المقال وإرشاد الضال في توسل الجهال'. 3 - 'التحقيق في الطريق' مطبوع وفيه بعض الخلط. 4 - 'تحرير الكلام عن سؤال الهندي في صفة الكلام'. (¬1) ناصر بن سعود بن عبد العزيز شويمي (¬2) (1349 هـ) الشيخ ناصر بن سعود بن عبد العزيز بن إبراهيم بن عيسى شويمي. ولد في بلده شقراء في حدود سنة خمس وثمانين ومائتين وألف للهجرة، ونشأ فيها وأخذ عن علمائها وأشهرهم الشيخ القاضي علي بن عبد الله بن عيسى والشيخ أحمد بن عيسى والشيخ عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ والشيخ سعد بن عتيق وغيرهم. رحل إلى الرياض والحجاز وصنعاء والشام والعراق فأخذ فيها عن العلامة محمود شكري الآلوسي وعن غيره من علماء بغداد. كان رحمه الله واسع الاطلاع في كل العلوم من توحيد وتفسير وحديث وفقه وغيرها، وكانت له اليد الطولى في اللغة وأشعار العرب. جلس للتدريس في جامع شقراء وولي إمامته وخطابته. أخذ عنه الشيخ عبد الرحمن ¬

(¬1) ذكرها الزركلي في الاعلام (2/ 70). (¬2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (6/ 458 - 464).

موقفه من المشركين:

بن عبد العزيز الحصين والشيخ عبد الله أبا بطين والشيخ إبراهيم الهويش والشيخ عبد الرحمن ابن علي بن عودان قاضي عنيزة وغيرهم. عرض عليه القضاء فرفض، واستمر على نشر العلم إلى أن توفي سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وألف وقيل خمسين وثلاثمائة وألف للهجرة رحمه الله. موقفه من المشركين: له قصيدة رد بها على أمين بن حنش العراقي وشيخه داود بن جرجيس وهي تزيد على أربعين بيتا، منها: واضرب بصمصامة الشعر القوي أخا ... جهل لئيم الخيم خوانا أمين ابن الذي يدعونه حنشا ... من اكتسى من ثياب الزيغ ألوانا فظل يمدح جهلا من سفاهته ... ذا الكفر والجهل داود بن سلمانا هلا مدحت الذي شاعت فضائله ... وشاد للملة البيضاء أركانا حبر الزمان ومحيي كل ما اندثرت ... من سنة المصطفى فعلا وتبيانا عبد اللطيف الذي ألقت أزمتها ... كل العلوم إلى يمناه إذعانا (¬1) عبد الله السنوسي (¬2) (1350 هـ) عبد الله بن إدريس بن محمد بن أحمد السنوسي، أبو سالم، العالم الأثري، الفاسي نزيل طنجة. من قبيلة بني سنوس بالبربر من كومية، وتعرف قديما بصطفورة. أخذ عن والده أبي العلاء إدريس وأبي عيسى محمد المهدي ¬

(¬1) علماء نجد (6/ 464). (¬2) معجم الشيوخ أو رياض الجنة لتلميذه عبد الحفيظ الفاسي (2/ 81 - 96).

موقفه من المبتدعة:

ابن سودة والقاضي حميد بناني ومحمد نذير حسين الدهلوي وأبي الفضل جعفر الكتاني وأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن العلوي وغيرهم كثير. وأجازه جماعة. وله تلاميذ كثر من أبرزهم عبد الله كنون وعبد الحفيظ الفاسي. رحل مرات إلى الشرق فحج، واستوطن دمشق الشام، ودرس في كل بلد وأفاد، وهرع الناس للرواية عنه. قال عنه تلميذه عبد الحفيظ الفاسي: العالم العلامة المحدث الأثري السلفي الرحالة المعمر ... وقال عنه العلامة محمد تقي الدين الهلالي في مقال له بمجلة دعوة الحق المغربية (¬1): العالم السلفي المحدث المحقق. وقال عنه الشيخ عبد الرحمن النتيفي (¬2): وكان رحمه الله سلفي المذهب. (¬3) استقر آخر حياته بطنجة معلما ومدرسا إلى أن توفي بها رحمه الله في أربع وعشرين من جمادى الأولى سنة خمسين وثلاثمائة وألف. بعد ما عمر نحو تسعين سنة. موقفه من المبتدعة: - قال عبد الحفيظ الفاسي: ولما حج شيخنا أبو سالم عبد الله بن إدريس السنوسي ورجع إلى المغرب محدثا بما تحمله عمن لقي من أهل الحديث والأثر؛ كمحمد نذير حسين الهندي المحدث الأثري المشهور وأضرابه، ووفد على السلطان المقدس المولى الحسن رحمه الله تعالى قربه وأدناه وأمره بحضور ¬

(¬1) (ص.54) العدد 2 - 3 سنة 1398هـ/1978م. (¬2) ستأتي مواقف النتيفي سنة (1385هـ). (¬3) مقدمة نظر الأكياس (ص.20).

مجالسه الحديثية؛ فأعلن بمحضره وجوب الرجوع للكتاب والسنة، ونبذ ما سواهما من الآراء والأقيسة، ونصر مذهب السلف في العقائد، واشتد الجدال بينه وبين من كان يحضر من العلماء في ذلك المجلس، كل فريق يؤيد مذهبه ومعتقده، إلا أن السلطان لم يكن يعمل بأقوال العلماء فيه ككونه معتزليا، وخارجيا، وبدعيا؛ بل كان في الحقيقة ناصرا له بما كان يخصه به من العطايا والصلات، زيادة على سهمه معهم في جوائزه المعتادة، وبسبب تعضيد السلطان له بعطاياه ثابر على مذهبه طول حياته؛ فنشره في كافة أنحاء المغرب، وتلقاه عنه كثير من مستقلي الأفكار منذ أوائل هذا القرن إلى أن توفي منتصفه رحمه الله تعالى حسبما استوفينا الكلام على ذلك في ترجمته من المعجم (¬1)، هكذا تقلب هذا المذهب في المغرب، وهو اليوم شائع منصور بفضل القائمين به، وتأييده بالأدلة الصحيحة وسيزداد اليوم ظهورا. (¬2) - وقال: كان رحمه الله عالما مشاركا، محدثا ملازما لتلاوة القرآن الكريم، حسن النطق به، دؤوبا على نشر الحديث وتدريسه، سلفي العقيدة، أثري المذهب، عاملا بظاهر الكتاب والسنة، نابذا لما سواهما من الآراء والفروع المستنبطة، منفرا من التقليد، متظاهرا بمذهبه، قائما بنصرته، داعيا إليه، مجاهرا بذلك على الرؤوس، لا يهاب فيه ذا سلطة، شديدا على خصمائه من العلماء الجامدين وعلى المبتدعة والمتصوفة الكاذبين، مقرعا لهم، مسفها أحلامهم، مبطلا آراءهم، مبالغا في تقريعهم، لم يرجع عن ذلك منذ ¬

(¬1) (ص.81 ج 2) وهو رياض الجنة وسيأتي النقل منه. (¬2) الآيات البينات في شرح وتخريج الأحاديث المسلسلات (ص.301 - 302).

موقفه من الصوفية:

اعتقده ولا جل (¬1) من عزمه كثرة معاداتهم له. (¬2) وقال محمد السائح: وكان أثريا سلفيا .. فصدع بوجوب إصلاح العقيدة وفتح باب الاجتهاد والأخذ بالسلفية، فثار في وجهه علماء فاس ورشقوه لسهام الانتقاد عن يد واحدة. (¬3) وقال عنه عبد الله كنون: .. ففي الصنف الرابع وهو المتمسك بالسنة اعتقادا وعملا، وقد قلنا إنه شخص واحد وذلك -فيما أدركنا وما رأينا- وإن كان هناك غيره فإن هذا الشخص هو الذي كان له الظهور والشهرة عند الخاص والعام، ونعني به الشيخ الجليل السيد عبد الله بن إدريس السنوسي الفاسي، فهذا الرجل كان قد وصل إلى المشرق وجال في أقطاره وأخذ من أعلامه، وعاد جبلا راسخا في العلم بالسنة والتمكن من المذهب السلفي، ونبذ التقليد، والجهر بالدعوة إلى توحيد الألوهية، ومحاربة البدع والضلالات والطرقية، والتعلق بالقبور والأموات. ثم قال: ولم يفتأ ينشر الدعوة إلى السنة ويندد بالجمود والابتداع. (¬4) موقفه من الصوفية: وأما اتهامه بإنكار الولاية والكرامات؛ فمعاذ الله أن يصدر منه ذلك؛ وإنما هو من مفترياتهم، إلا أنه ينكر على المدعين الذين جعلوا التصوف حبالا وشباكا يصطادون بها أموال الناس، ويدعون المقامات العالية كذبا وزورا، ¬

(¬1) جل هنا بمعنى صغر وهو من الأضداد. (¬2) رياض الجنة (2/ 82). (¬3) مجلة دعوة الحق العدد 2 سنة 1969م (ص.39). (¬4) مجلة دعوة الحق العدد 7 سنة 1969م (ص.8).

موقفه من الجهمية:

ويبشرون من أخذ عنهم بفضائل وأجور تغنيهم عن تحمل أعباء العبادات والعزائم الشرعية. موقفه من الجهمية: - قال عبد الحفيظ الفاسي في معرض ذكره الكتب التي درسها عليه: (قرأت كتاب 'الرد على الجهمية' لشيخ أهل السنة ومقتداهم الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، وكتاب 'الأدب المفرد' للبخاري إلا يسيرا من آخره، وكذلك 'العلو' للذهبي؛ وهو كتاب حفيل عجيب .. ). (¬1) - وقال عبد الحفيظ وهو يذكر بعض المجالس التي حضرها السنوسي بعد رجوعه إلى فاس مع جمع من أعيانها وعلمائها بحضرة السلطان الحسن الأول رحمه الله: فأعلن في ذلك الجمع بما تحمله في الشرق عن شيوخه الأعلام من الرجوع إلى الكتاب والسنة والعمل بهما دون الأقيسة والآراء والفروع المستنبطة، ومن رفض التأويل في آيات وأحاديث الصفات والمتشابهات، وإبقائها على ظاهرها كما وردت، ورد علم المراد بها إلى الله تعالى مع اعتقاد التنزيه كما كان عليه سلف الأمة. وغير ذلك من المسائل. فقام بينه وبين أولئك العلماء خلاف كبير من أجل ذلك، وتناظروا في مجلس السلطان، ولمزوه بالاعتزال والتمذهب بعقائد أهل البدع والأهواء وإنكار الولاية والكرامات، وألف فيه بعضهم المؤلفات المحشوة بالسب والسخافات، الخارجة عن الأدب، مع لمزه بنزغة الاعتزال، ونقل ما قال الناس في المعتزلة والخوارج، وما طعنوا به من الأقوال البعيدة عن الإنصاف في الإمام ابن حزم ¬

(¬1) رياض الجنة (2/ 95).

محمد بن عثمان الشاوي (1354 هـ)

وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله تعالى. (¬1) اهـ (¬2) - وقال أيضا: ولازمته مدة إقامته بفاس، وتمكنت الرابطة بيني وبينه، وأدركت عنده منزلة عظيمة؛ لما كان يرى من حرصي على سماع الحديث وروايته؛ فأجازني إجازة عامة وهو ضنين بها، ولقد طلب منه بعض إخوة مولاي عبد العزيز الإجازة فامتنع، وكان يقول لي: أنت عندي بمنزلة الولد، وبسبب هذا الاتصال أمكن لي أن أحقق كل ما نسب إليه من الاعتزال والبدع والأهواء؛ فوجدته مباينا للمعتزلة في كل شيء، وبريئا من كل ما نسب إليه؛ بل عقيدته سالمة، على أن ما خالف فيه الفقهاء من الرجوع للكتاب والسنة، ونبذ التأويل في آيات الصفات شيء لم يبتكره ولا اختص به من دون سائر الناس؛ بل ذلك هو مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأيمة المجتهدين ومن بعدهم من الهداة المهتدين. محمد بن عثمان الشاوي (¬3) (1354 هـ) محمد بن عثمان بن محمد بن عبد الله الشاوي، من آل عثمان. ولد في بلدة البكيرية سنة ثلاث وثلاثمائة وألف للهجرة، وكف بصره منذ صغره. رحل إلى بريدة فأخذ عن الشيخ عبد الله بن محمد بن سليم، ثم إلى الرياض فقرأ على الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف والشيخ عبد الله بن راشد، والشيخ ¬

(¬1) رياض الجنة (2/ 84 - 85). (¬2) وقد انبرى للرد على تلك الرسالة الشيخ عبد الرحمن النتيفي في كتابه 'نظر الأكياس'. (¬3) علماء نجد خلال ثمانية قرون (6/ 275 - 286) والأعلام (6/ 263).

موقفه من المبتدعة:

سعد بن عتيق والشيخ عبد الله العنقري وغيرهم. عين قاضيا في قرية سنام، وعمره عشرون سنة، ومنها إلى بلدة الغطغط. حضر غزوات كثيرة أشهرها معركة تربة سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة وألف، وفتح مكة سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة وألف. عين مدرسا في المعهد العلمي السعودي بمكة، ثم تولى القضاء في بلدة تربة، ثم قضاء شقراء. أخذ عنه الفقيه عبد العزيز بن سبيل والشيخ سليمان بن راشد الحديثي والشيخ عبد الله بن يوسف الوابل والشيخ عبد العزيز الخضيري وغيرهم. وكان رحمه الله شاعرا مجيدا، له قصائد دافع فيها عن التوحيد وعن العقيدة السلفية. توفي رحمه الله في رجب سنة أربع وخمسين وثلاثمائة وألف. موقفه من المبتدعة: جاء في علماء نجد: أنه -بعد أن استولت الجيوش السعودية على الحجاز- قام بتصحيح العقائد وتوضيح خالص التوحيد ومحاربة البدع التي رسخت في العالم الإسلامية، ومنه الحرمين الشريفين فنفع الله به. كما ناضل الشعراء وأصحاب المقالات الذين يؤيدون تلك الأمور المنافية لصفاء التوحيد. فكانت مقالاته وقصائده في الصحف المحلية هي اللسان المدافع في ذلك. (¬1) موقفه من الجهمية: له قصائد جيدة نافح بها عن الشريعة والعقيدة السلفية السليمة وصادم ¬

(¬1) علماء نجد (6/ 282 .. 285).

عبد السلام السرغيني (1354 هـ)

كبار الشعراء منها: فيا من هو القدوس لا رب غيره ... تباركت أنت الله للخلق مرجع ويا من على العرش استوى فوق خلقه ... تباركت تعطي من تشاء وتمنع بأسمائك الحسنى وأوصافك العلى ... توسل عبد بائس يتضرع عبد السلام السرغيني (¬1) (1354 هـ) عبد السلام بن محمد السرغيني، أصله من قبيلة "السراغنة" بالمغرب الأقصى، استوطن فاسا، فقيه مطلع. من شيوخه أحمد بن الخياط وأحمد بن الجلالي الأمغاري وأحمد بن المامون البلغيتي ومحمد فتحا القادري ومحمد فتحا كنون وحماد الصنهاجي عبد السلام بناني. كان مدرسا بالمدرسة الثانوية بفاس، وله دروس حافلة بالقرويين، عين قاضيا في قبيلته السراغنة، وبقي هناك إلى أن توفي بها. له كتاب 'المسامرة'، وهو كما قال عنه شيخنا تقي الدين الهلالي: "في الدعوة لإقامة السنة ومحاربة البدع". وقال عن مؤلفه: "فقيد السلفية والدعوة للإصلاح الديني العلامة عبد السلام السرغيني برد الله ثراه". (¬2) وقال عنه محمد الفاسي: "إن تاريخ الحركة الوطنية -بل الفكرة الوطنية نفسها- يرجع الفضل في بثها ونشرها إلى شيخ الإسلام ابن العربي ومن كان معه من بعض العلماء السلفيين كشيخنا السيد عبد السلام السرغيني رحمه الله ¬

(¬1) سل النصال للنضال لعبد السلام بن عبد القادر بن سودة (ص.77). (¬2) مقدمة خطبة السلطان سليمان العلوي (ص.8).

موقفه من المبتدعة:

وكثيرا ممن تتلمذوا لابن العربي، كانوا أيضا في نفس الوقت تلاميذ للسيد عبد السلام السرغيني، وقد لاقت هذه لرحكة أيضا مقاومة شديدة من طرق القبوريين وكان أقطاب السياسة الأهلية من رجال الحماية يساندون الجامدين ويضطهدون بشتى الوسائل دعاة الإصلاح". (¬1) توفي رحمه الله يوم الاثنين الخامس والعشرين من شوال عام أربع وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة. موقفه من المبتدعة: له كتاب 'المسامرة' وهو عبارة عن محاضرة ألقاها بنادي المسامرة بالمدرسة العليا الإدريسية بفاس، قال في مستهله: - الحمد لله الذي أنزل القرآن نورا يهتدى به في ظلمات الجهل الداجن وصراطا مستقيما من سلكه اهتدى لأقوم المحاج. وأرسل سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ليبين للناس ما نزل إليهم من كتابه السراج الوهاج. وصلى الله عليه وسلم - وعلى آله السالكين باتباع سنته أقوم منهاج، القامعين لأهل البدع والضلال باللسان والسيف والسنان في الأفراد والأزواج. أما بعد أيها السادات الكرام إنني ملق إليكم بكلمات طالما اختلج بها الضمير، ولم يكن يمكن عنها باللسان التعبير، وما جرأني على ارتكاب ذلك، وإن كنت لست ممن يقرع تلك الأبواب ولا من يسلك تلك المسالك؛ إلا أني لم أر أحدا من السادة الذين سامروا قبلي تكلم عليها ولا أشار إليها، مع أنها هي التي ينبغي أن تقدم، وتقصد وتؤم؛ إذ ما من مكلف مكلف إلا ¬

(¬1) مجلة دعوة الحق العدد 8 سنة 1959م (ص.19).

ويجب عليه أن يتمسك بالسنة ويعض عليها بالنواجذ، ويجتنب البدع ويفر من أهلها ولا فراره ممن يقصد من مقاتله المنافذ؛ وذلك لأن ارتكاب البدعة أعظم من ارتكاب المعصية؛ لأن المعصية وإن عظمت قد يتوب منها صاحبها، والبدعة لا يتوب منها صاحبها لاعتقاده أنها مطلوبة فهي أحب إلى الشيطان من المعصية ... (¬1) - وقال أيضا: ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمت حتى أتى ببيان جميع ما يحتاج إليه في أمر الدين والدنيا، وهذا لا مخالف له من أهل السنة، وإذا كان كذلك، فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله أن الشريعة لم تتم، وأنه بقي منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها؛ لأنه لو كان معتقدا لكمالها وتمامها من كل وجه لم يبتدع ولم يستدرك عليها. وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم. قال ابن الماجشون: سمعت مالكا يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (¬2) فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا. فالمبتدع معاند للشارع ومشاق له؛ لأن الشارع قد عين لمطالب العبد طرقا خاصة ووجوها خاصة، وقصر الخلق عليها بالأمر والنهي والوعد والوعيد، وأخبر أن الخير فيها، وأن الشر في تعديها إلى غير ذلك، لأن الله يعلم ونحن لا نعلم، وأنه إنما أرسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين. فالمبتدع راد ¬

(¬1) المسامرة (ص.2 - 3). (¬2) المائدة الآية (3).

موقفه من المشركين:

لهذا كله، فإنه يزعم أن ثم طرقا أخر؛ ليس ما حصره الشارع بمحصور، ولا ما عينه بمتعين، كأن الشارع يعلم ونحن أيضا نعلم، بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع؛ أنه علم ما لم يعلمه الشارع؛ وهذا إن كان مقصودا للمبتدع فهو كفر بالشريعة والشارع، وإن كان غير مقصود فهو ضلال بَيِّنٌ. وإلى هذا المعنى أشار عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إذ كتب له عدي بن أرطأة يستشيره في بعض القدرية، فكتب إليه: أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتباع سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وترك ما أحدث المحدثون فيما قد جرت سنته وكفوا مؤنته، فعليك بلزوم السنة؛ فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها من الخطإ والزلل والحمق والتعمق. فارض لنفسك بما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، وهم على كشف الأمور أقوى وبفضل كانوا فيه أحرى. فلئن قلتم: أمر حدث بعدهم، ما أحدثه بعدهم إلا من اتبع غير سنتهم ورغب بنفسه عنهم، إنهم لهم السابقون، فقد تكلموا منه بما يكفي ووصفوا منه ما يشفي. (¬1) موقفه من المشركين: - قال رحمه الله في مكايد الشيطان لبعض الناس: فمن أعظم مكايده التي كاد بها جل الناس، ولم يسلم منها إلا من لم يرد الله فتنته؛ ما أوحاه قديما وحديثا إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور، إلى أن عبد أربابها من دون الله وعبدت قبورهم، وكان أول هذا الداء العظيم في قوم نوح عليه السلام، ¬

(¬1) المسامرة (ص.8 - 10).

كما أخبر الله تعالى في كتابه حيث يقول: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ} الآية (¬1). قال ابن جرير: وكان من خبر هؤلاء أن يغوث ويعوق ونسرا كانوا قوما صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا، قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون بعدهم؛ دب إليهم إبليس اللعين فقال: إنهم كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم. وهذا كان سبب عبادة اللات والعزى؛ وذلك أن رجلا كان يلث السويق للحاج ويطعمهم، ومات فعكفوا على قبره وعبدوه؛ وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور، وهي التي أوقعت كثيرا من الأمم إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك، فإن الشرك بقبر الرجل الصالح الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر، ولهذا تجد أهل الشرك كثيرا يتضرعون عندها، ويخشعون ويخضعون ويعبدونهم بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله ولا وقت السحر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد، ويقولون: قبر فلان الترياق المجرب لقضاء الحوائج؛ فلأجل هذه المفسدة حسم النبي - صلى الله عليه وسلم - مادتها حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقا، وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته، كما يقصد بصلاته بركة المساجد، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ¬

(¬1) نوح الآية (21).

وغروبها؛ لأنها أوقات يقصد المشركون الصلاة فيها للشمس، فنهى أمته عن الصلاة حينئذ وإن لم يقصدوها كما قصده المشركون سدا للذريعة. وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركا بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله ورسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله تعالى. فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الصلاة عند القبور منهي عنها، وأنه لعن من اتخذها مساجد. فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخذها مساجد، وبناء المساجد عليها. فقد تواثرت النصوص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه، فقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة. (¬1) - وقال رحمه الله أيضا: وقد زاد الأمر بهذه الحضرة كغيرها، حتى وصل الحال إلى الشرك بالله قولا واعتقادا، لا سيما طائفة النساء، فقد رأينا وسمعنا من ذلك ما ينفطر له كل قلب دخله الإيمان، فمهما مرض لهم إنسان أو أصابه محذور؛ ذهبوا إلى الشواف أو الشوافة، وسألوه عن المريض وما به، ويزعمون أنهم يعلمون الغيب!! فما أخبر به من سبب الداء وطرق الدواء اعتقدوا ذلك صحيحا، فتارة يقول لهم: إن الذي أصابه: سيدي حموا وشفاؤه في لبسه ثوبه الخاص به من الألوان، وتارة مولى الغابة، ولا بد له من ثوب خاص، أو موسى أو ميرة، أو غير ذلك من مفترياتهم الباطلة، فيعتقد ذلك المريض أنه لابد له من ذلك الثوب الخاص فمهما بلي لابد له من خلفه ¬

(¬1) المسامرة (ص.17 - 19).

موقفه من الصوفية:

وإلا حل به البلاء والمرض. وتارة يقول لهم: لابد له من الليلة، فيجمعون طائفة العبيد ويرقصون له على طبولهم، ولا تسأل عما يقع في ذلك من المناكر التي لا يرضاها من له أدنى مسكة من عقل، فضلا عمن له غيرة على حريمه، فيعتقد ذلك المريض أن شفاءه في ذلك، فيفعل ذلك، رغما عما يلزمه من الخسائر الدينية والدنيوية. وصار شبه النساء من الرجال يعتقدون ذلك ويفعلونه، بل ربما فعل ذلك بعض من ينسب إلى العلم؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون. وهذا الاعتقاد الفاسد لم تعتقده اليهود ولا النصارى، ولا المجوس ولا ملة من الملل فيما علمنا وبلغنا. وهذا غاية الحمق والسفه فضلا عن الشرك بالله الفاعل بالاختيار الذي لا يعلم الغيب سواه، ولا يبري من الأمراض والأدواء إلا إياه: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)} (¬1).اهـ (¬2) موقفه من الصوفية: قال رحمه الله: فمن المناكر الشنيعة التي يندى لها وجه الدين ويتبرأ منها الإسلام وسائر المسلمين؛ اختلاط النساء بالرجال، والرقص على الشبابة والطار والغربال، من الشيوخ والكهول والنساء والأطفال، ويسمون ذلك التخبط وذلك الجنون بالحال. فترى منهم من يشدخ رأسه بالشواقر، ومنهم ¬

(¬1) الأنعام الآية (17). (¬2) المسامرة (ص.37 - 39).

السلطان عبد الحفيظ بن الحسن (1356 هـ)

من يجعل النار في ثوبه أو فيه، ومنهم من يأكل الشوك أو الزجاج، ومنهم ومنهم إلى غير ذلك من أفعالهم الوحشية البهيمية. وقد كنت يوما من أيام مواسمهم مارا إلى المدرسة بطالعة هذه الحضرة الفاسية، فرأيت جمعا منهم على هذا الحال الشنيعة، فخرج من بينهم وحش إلى وسطهم ورمى بكورة من حديد إلى أعلى ولقيها برأسه، فسقطت على أم رأسه فخرج دماغه من أنفه وسقط إلى الأرض، فغطوه وقالوا: إنه غلبه الحال!! والواقع أنه ليس هناك حال، وإنما ذهب التعس المجنون ضحية جهله، وفريسة فعله، فكان الأحمق قاتل نفسه. فأنشدكم الله معشر المسلمين؛ هل مثل هذه الهمجية الوحشية يكون من دين الإسلام؟! حتى صار من لا يعرف حقيقة الإسلام يسمي تلك المناكر بالعوائد الدينية، كلا ومعاذ الله أن يكون لدين الصلاة والصيام والذكر والقيام عوائد شيطانية، بل دين الإسلام برئ من هذه المناكر وأهلها، ومن هم منسوبون إليه بريء منهم ومن أفعالهم. (¬1) السلطان عبد الحفيظ بن الحسن (¬2) (1356 هـ) عبد الحفيظ بن الحسن بن محمد الحسني العلوي، أبو المواهب: سلطان المغرب الأقصى، ولد بفاس، ونشأ في قبيلة بني عامر في الجنوب الغربي من مراكش، تولى السلطنة سنة خمس وعشرين وثلاثمائة وألف من الهجرة. وخلع نفسه سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة وألف من الهجرة، وكان فقيها أديبا. ¬

(¬1) المسامرة (ص.22 - 23). (¬2) الأعلام (3/ 277) ومعجم المؤلفين (5/ 89).

موقفه من المبتدعة:

توفي سنة ست وخمسين وثلاثمائة وألف من الهجرة. موقفه من المبتدعة: له من الآثار: 'كشف القناع عن اعتقاد طوائف الابتداع'. طبع قديما بفاس على الحجر وبالمطبعة المولوية بفاس سنة سبع وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة، وهو عبارة عن رد على الطائفة التجانية في زمانه، وقد تجنت هذه الطائفة على هذا الكتاب؛ فتجندت لتتبعه وشرائه من الأسواق ثم إحراقه، ولكن نجى الله منه بعض النسخ؛ فهي لا تزال إلى الآن، كما توجد منه نسخة في المكتبة الملكية بالرباط، وأخرى في مكتبة باريز. ذكر فيه مقدمة حافلة في الحث على الاتباع وذم الرأي والابتداع، قال رحمه الله: إنما يلتمس رضى الله بكلامه وفروضه وسنة نبيه، لا يلتمس بالبدع وقول الزور على الله ورسوله، والزيادة في الدين ما ليس منه. أبهذا يلتمس رضى الله تعالى ونبيه؟ لا يلتمس بهذا أبدا. (¬1) موقفه من المشركين: - قال: وقد قلت في شدة لرجل يوما يستغيث ببعض الأموات وينادي يا فلان أغثني: قل يا الله؛ فقد قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (¬2) فغضب، وبلغني أنه قال: إن فلانا منكر على الأولياء، وسمعت عن بعضهم أنه قال: الولي أسرع إجابة من ¬

(¬1) كشف القناع (ص.46). (¬2) البقرة الآية (186).

موقفه من الصوفية:

الله عز وجل، وهذا من الكفر بمكان. نسأل الله أن يعصمنا من الزيغ والطغيان. اهـ (¬1) - وقال: وقد صح أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: «السلام عليكم أهل الديار» (¬2) إلخ، ولم يرد عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم وهم أحرص الخلق على كل خير أنه طلب من ميت شيئا، بل قد صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول إذا دخل الحجرة النبوية زائرا: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت، ثم ينصرف ولا يطلب من سيد العالمين عليه الصلاة والسلام أو من ضجيعيه المكرمين رضي الله عنهما شيئا، وهم أكرم من ضمته البسيطة، وأرفع قدرا من سائر من أحاطت به الأفلاك المحيطة. (¬3) موقفه من الصوفية: - قال في كشف القناع وهو يتكلم عن صلاة الفاتح عند التيجانيين: ومن زعمهم الفاسد أيضا أن صلاة الفاتح خصنا الله بها كما خصنا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنها تسمو على كل العبادات، ومن أين للقائل أن صلاة الفاتح خصنا الله بها؟ فإن كان يريد اللفظ العربي فلا مزية لها على غيرها من الصلوات المخترعات، وإن أراد خصوصية شرعية فلا يجد لذلك سبيلا -ولو قولا ¬

(¬1) كشف القناع (ص.54). (¬2) أخرجه: أحمد (5/ 353) ومسلم (2/ 671/975) والنسائي (4/ 399/2039) وابن ماجه (1/ 494/1547) عن بريدة رضي الله عنه. (¬3) كشف القناع (ص.56 - 57).

شاذا- وهل الخصوصية تقبل من مدعيها بلا نص؟ {هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17)} (¬1). {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)} (¬2) قال: لقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي وعلى فرض تسليم أنها خصوصية فهل تجعل مقارنة لخصوصية النبي لنا، على أننا لا خصوصية لنا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فهو مرسل للعالمين جميعا إنسيهم وجنيهم يهوديهم ونصرانيهم، {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (¬3). {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)} (¬4). {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} (¬5). فمقالة هذا الرجل تؤذن بعدم عموم الرسالة، وهذا كفر صراح نعوذ بالله، وتؤذن باستواء الفاتح والنبي، وإن أراد بالخصوصية كونه من العرب فمسلمة، ولكن لانسبة بينهما وبين الفاتح ولا خصوصية للفاتح. وقولهم إنها تسمو على كل العبادات (ال) في العبادات للاستغراق ورفع إيهام الجنسية في ضمن فرد، والاستغراق العرفي بقولهم (كل). فثبت الاستغراق الحقيقي بجميع الأفراد، ¬

(¬1) النور الآيتان (16و17). (¬2) الذاريات الآية (55). (¬3) الكهف الآية (29). (¬4) يونس الآية (25). (¬5) يونس الآية (99).

ويلزم عليه أنها أفضل من القرآن والحج؛ لأنهما عبادة ومن الصلوات الخمس ومن الجهاد ومن سائر العلوم الشرعية فقها وحديثا وتفسيرا وتوحيدا وغير ذلك وهذا كفر صراح، إذ كلام الله بالنسبة لكلام الخلق كنسبة الله من الخلق، وأما غيره مما سردناه فلا يشك أحمق فضلا عن عاقل أن ثواب الواجب أعظم وأفضل. وفي الحديث: «ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه» (¬1). وإن قيل مراده الأذكار، أقول: قال عليه السلام: «أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله» (¬2). وكلام النبي من المخلوقات بمنزلة النبي منهم فهل صلاة مخترعة تعدل بهذا كله؟ كزعمهم الفاسد في التصلية التي يسمونها بجوهرة الكمال، وفيها ما يوهم نقصا في النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وهو قوله: "الأسقم"؛ إذ هو اسم تفضيل من السقم، وقد نص الفقهاء على أن من قال قولاً يوهم نقصاً في النبي يكفر إجماعاً. وكذلك من قال قولاً يتضمن مخالفته - صلى الله عليه وسلم -، انظر الدردير وغيره. ما لهم لم يقولوا "الأقوم" أَثَقُل على ألسنتهم؟ أم قصدوا الاستغراق في المتشابه؟ {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (¬3) على أن ذلك في كتاب الله لا في المخلوقات، وأما كلام المخلوقات فما يوهم نقصا فيه، مما يؤدي لإهانة النبي كفر، {إِنَّ الَّذِينَ ¬

(¬1) أخرجه: البخاري (11/ 414/6502) من حديث أبي هريرة. (¬2) أخرجه: الترمذي (5/ 534/3585) وقال: "هذا حديث غريب من هذا الوجه" وله شاهد من حديث طلحة ابن عبيد الله بن كريز أخرجه مالك (1/ 422 - 423/ 246) وهو مرسل صحيح. انظر الصحيحة (1503). (¬3) آل عمران الآية (7).

يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)} (¬1). ومن زعمهم الفاسد أن سيدي أحمد التيجاني ممد لمن مضى قبله ومن يأتي بعده. و (من) مِن صيغ العموم كما هو معلوم؛ فيدخل النبي وأصحابه وأهل القرون المشهود لهم بالخير، فانظر رحمك الله هذا الحمق الفادح كيف يمد رجل في القرن الثالث العشر أهل القرن الأول؛ أتهوّرٌ؟ أم كفرٌ؟ أم سكرٌ؟ وكيف يمد من بعده وهو ميت انقطع عمله عن الدنيا بالكلية، وحتى الثلاث المستثناة أو العشر فكلها راجعة لكسبه المتقدم في الدنيا؛ إذ لا يوجد فيها ما فعله بعد مماته، أما ما يقرأ عليه أو يتصدق به فليس من عمله، وفيه خلاف بين العلماء منشؤه قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} (¬2)، قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)} (¬3)، قال: وما من كاتب إلا سيبلى ... فلا تكتب بكفك غير شيءٍ ... ويُبقي الدهرُ ما كتبت يداهُ يسرك يوم القيامة أن تراهُ {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)} (¬4). ومن زعمهم الفاسد أن المواظب على تلك الصلاة ينال الخير الرابح، ¬

(¬1) الأحزاب الآية (57). (¬2) النجم الآية (39). (¬3) البقرة الآية (79). (¬4) الزخرف الآية (19).

وأقول: الخير كله في اتباع كلام الله وكلام رسوله، وما استنبطه العلماء رحمهم الله، أما الأمر بالمواظبة على الفاتح؛ فإني لا أرى داعي له؛ فإن كان يريد به الدين النصيحة؛ فالنصيحة أن يرشدهم إلى الفقه والحديث وكلام الله وتعلم الضروري من علوم الدين، وإن كان يريد أنه حصل هذا ولم يبق له إلا العمل، فالنصيحة أن يرشدهم إلى تلاوة كتاب الله؛ فإن الحرف منه بعشر حسنات بفهم وبغير فهم، وإن قال: "هذا من باب التدلي -على زعمهم- ليصل إلى الترقي" فأقول: يرشدهم إلى ما ورد في الحديث من الاستغفار وسبحان الله بحمده، وغير ذلك، وإن أرادوا خصوص الصلاة عليه -عليه السلام- فما أحسن الوارد، كيف وقد قالوا: (كيف نصلي عليك يا رسول الله؟) قال: «قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد» (¬1) على أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلموا أحداً تدلياً ولا ترقياً، بالمعنى المصطلح عند القوم، وإنما علّموا كتاب الله وأحكامه. ومن زعمهم الفاسد الشنيع المتعارف بينهم نشر ثوب وسطهم، حال التصلية، أسمعت، أو علمت، أو روي لك، شيخ من أصحاب الحديث، أم جاء في كتاب الله، أو استنبط من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّ قارئ القرآن ينشر أمامه ثوبا ليقرأ عليه فضلا عن قارئ الفاتح، ألهذا مزية وفضل استوجب به هذا، وما بلغ مداه القرآن والحديث فحرُما، إلا أن خير الهدي هدي محمد - ¬

(¬1) أخرجه: مالك (4/ 772) (فتح البر) وأحمد (4/ 118) و (5/ 273 - 274) ومسلم (1/ 305/405) وأبو داود (1/ 600/980) والنسائي (3/ 52 - 54/ 1284 - 1285) والترمذي (5/ 334 - 335/ 3220) من حديث أبي مسعود الأنصاري.

صلى الله عليه وسلم - وما بلغنا عنه هذا ونظائره {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)} (¬1) نزل الوحي ونطق النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحديث القدسي والنبوي ولم ينشر أمامه الصديق ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا أحد من أصحابه ثوباً. قيل: إن ذلك معدٌّ عندهم لجلوس النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا أيضا، أصار النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبة يأتي لكل حلقة بدعة مشتملة على مناكر كالرقص، ويجلس وسط القوم على خرقة، أرضي بالبدعة فأتى؟ حاشاه، أم صار فُرجة يُجعل في الوسط والناس محدقة به؟ حاشاه، فلو أُمر مقدمهم بالجلوس على تلك الرقعة لأبى وتكبر، أهذا تعظيم أم إهانة؟. وقد علمت أن الصحابة تشاجروا في أحكام وتخالفوا، فما قال أحدهم: أتاني رسول الله وقال لي كذا، وقد تخاصمت بنته الصديقة مولاتنا فاطمة الزهراء مع أبي بكر في مسألة الميراث، ولم يقل لها أبو بكر: سيأتي عندي رسول الله ويقول كذا، ولا أجابته هي رضي الله عنها بذلك، أبخِل عليها وجاد عليكم؟ وانظر يوم موته عليه الصلاة والسلام لما دخلت عليه وهي تبكي فسرّها بأنها أول من يلحق به فضحكت، فهلا قال لها: إنني سآتيك في منزلك؟ وما نقل عن أحد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على عثمان يوم الوقعة، وكفّ الأصحاب عما عزموا عليه، ولا ولا، أترى أن هؤلاء أفضل من أولئك أم هؤلاء على الحق وأولئك على غيره؟ حاشاه. (¬2) ¬

(¬1) الفرقان الآية (4). (¬2) كشف القناع (19 - 23).

أبو شعيب الدكالي (1356 هـ)

- وقال: وقول السبكي: "ومن ثم لا حكم إلا لله" هو وإن كان بصدد الرد على المعتزلة، فيه أيضا رد على من يزعم أن أحكام الله تعالى تدرك بطريق الكشف والفراسة أيضا ورؤيا المنام من غير استناد لشيء من أدلة الفقه الشرعية المقررة، كيف والله تعالى يقول: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (¬1) الآية. ويقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} (¬2) الآية. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «تركتكم على الحنيفية البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك» (¬3). «فمن رغب عن سنتي فليس مني» (¬4).اهـ (¬5) أبو شعيب الدكّاليّ (1356 هـ) اسمه أبو شعيب بن عبد الرحمن الصديقي. وكان يكتب أحيانا بخطه: "شعيب بن عبد الرحمن المغربي" (¬6)، كنيته أبو مدين. ولد سنة خمس وتسعين ومائتين وألف للهجرة. من أشهر شيوخه بالمغرب: عمه محمد بن عبد العزيز الصديقي، وابن ¬

(¬1) الحشر الآية (7). (¬2) المائدة الآية (3). (¬3) أخرجه: أحمد (4/ 126) وأبو داود (5/ 13/4607) والترمذي (5/ 43/2676) وقال: "حسن صحيح". وابن ماجه (1/ 16/43) والحاكم (1/ 96) وقال: "صحيح ليس له علة" ووافقه الذهبي. (¬4) أخرجه: البخاري (9/ 129/5063) ومسلم (2/ 1020/1401) والنسائي (6/ 368 - 369/ 3217) من طريقين عن أنس رضي الله عنه. (¬5) كشف القناع (46 - 47). (¬6) كما في إجازته لعبد السلام بن عبد القادر بن سودة، انظر: سل النصال للنضال (ص.83).

عزوز محمد الطاهر الصديقي قاضي مراكش، وعبد الرحمن بن الفقيه الصديقي، ومحمد بن المعاشي (حفظ عليه القراءات السبع). وبمصر: سليم البشري، ومحمد بخيت، ومحمد محمود الشنقيطي، وغيرهم. ومن أشهر تلاميذه: محمد بن العربي العلويّ، وعبد الحفيظ الفاسيّ، ومحمد السايح، وعبد الله كنون، والمكي بن أحمد بربيش، ومحمد المكي الناصري المفسر. رحل إلى القاهرة سنة أربع عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة ومكث بها نحو ست سنوات، ثم رحل إلى مكة فأقام بها مدة، وكان رجوعه لفاس سنة خمس وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة. ولاّه أمير مكة الشريف عون الرفيق الخطابة في الحرم المكي والإفتاء على المذاهب الأربعة وذلك حينما أقام هناك. كما درس أيضا بجامع الأزهر بمصر، والزيتونة بتونس. عُيّن قاضياً بمراكش ووزيراً للعدليّة والمعارف فيما بعد، ثم رئيساً للاستيناف الشرعيّ، ومع هذه الأشغال كان لا يترك التدريس. قال عنه عبد السلام بن سودة: الشيخ الإمام علم الأعلام، المحدّث المفسّر الرّاوية على طريق أيمة الاجتهاد، آخر الحفاظ بالديار المغربية ومحدثها ومفسرها من غير منازع ولا معارض، وهو آخر من رأينا بل وأول من رأينا على طريق الحفاظ المتقدمين الذين بلغنا وصفهم بالحفظ والإتقان والاستحضار، ولولا رؤيته وحضور دروسه لدخلنا الشك في وصف من تقدم قبله .. (¬1) ¬

(¬1) سلّ النصال (ص.82).

موقفه من المبتدعة:

وقال عبد الحفيظ الفاسي: أوحد علماء عصره وأشهر علماء المغرب في وقته، من أهل التفنن في العلوم والاستبحار فيها والجمع لها، إمام في علوم الحديث والسنة ... متظاهر بالعمل بالحديث والتمذهب به قولاً وعملاً داعية إليه ناصر له ... (¬1) توفي ليلة السبت الثامن جمادى الأولى سنة ست وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة. موقفه من المبتدعة: - قال عبد الله الجراري: ففي سنة خمس وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة قدم إلى المغرب ويمم فاس، وحظي بالتجلة والإكرام عند السلطان المرحوم المولى عبد الحفيظ، وقد حصل له من الشفوف والحظوة لديه ما عزّ نظيره، وتهافت عليه علماء فاس وطلبتها وأعيانها، وأقبلوا عليه باعتناء كبير، في هذا الظرف شمّر عن ساعد الجدّ لمحاربة البدع ونصر السنة، ومقاومة الخرافات والأباطيل. (¬2) - وقال: كان ينادي بردّ الناس إلى الكتاب والسنة، ويحضّهم على اتباع مذهب السلف الصالح ونبذ ما يؤدّي إلى الخلاف وما ينشأ عنه من الحيرة والدوران في منعرجات الطرق، لأن الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه ولا أمتاً؛ هو طريق السنة والكتاب. (¬3) ¬

(¬1) رياض الجنة (2/ 142). (¬2) المحدث الحافظ (ص.9 - 10). (¬3) المحدث الحافظ (ص.80).

- وقال: فكان الشيخ الدكالي -طيب الله ثراه- يحمل حملات شعواء رافعاً مشعل المقاومة ذائداً في إخلاص وإيمان عن الحنيفية السمحة صابراً على ما وجه إليه من معارضة المتطرفين من أهل الزوايا. (¬1) - ومن نماذج انتصاره للسنة وتحرره من التعصب المذهبي أن علماء فاس طلبوا من السلطان عبد الحفيظ أن يسدل الشيخ يديه في الصلاة، فقال الأمير للشيخ: العلماء طلبوا مني أن تسدل، فأجابه بقوله: أطلب منك أن تطلب منهم أن يطلبوا منك أن عسكرك يصلي. ومسألة السدل والقبض تعد من المسائل المفروغ منها والمؤلف فيها تآليف ما بين محبذ للأول ورادّ للثاني والعكس، والمعوّل عليه في السنة هو القبض الذي وردت في شأنه أحاديث وثبتت طرقها -التي أنافت على الثلاثين طريقاً- في غير ما مسند من المساند فلا أطيل بجلبها. ومما ذكره لنا الشيخ الدكالي في أحد مجالسه الحديثية أن طالباً طرح عليه سؤالاً في الموضوع قائلاً: إن السدل وارد في السنة، أجابه الشيخ قائلاً: إن وجدت السدل في السنة فسأكافئك على ذلك، وللحين ذهب الطالب للبحث في كتب السنة يتصفح أبوابها، وبينما هو كذلك إذ فاجأه باب نصه (باب السدل)، وعن عجل طوى الكتاب وأسرع يريد الشيخ، وبعد الاتصال به ذكر له أن السدل موجود وهاهو ذا في الكتاب، فقال له: اقرأ عليّ ففتح الكتاب وأخذ يقرأ، فإذا بلفظ النص (باب سدل الثوب) وسُقِطَ ¬

(¬1) المحدث الحافظ (ص.14).

في يد الطالب الذي ذهب حلمه أدراج الرياح. (¬1) - وقال الجراري أيضاً: وسلفيّته الصالحة المشبعة بأفكاره التحررية، وآرائه المنطقية التي كونت منه رجل المقاومة لكل ما يمت بسبب إلى الشعوذة والشعبذة، وما كان يبدو من بعض الطوائف من غلوّ وانحراف عن الجادّة، مما قد يبرأ منه الشيخ المنتسب إليه، ذلك وأكثر ما حفز الاستعمار الغاشم لعزله عن الوظيفة كانتقام من حريته المطبوعة، ورغم ذلك فما زاده العزل إلا تفرغاً لأداء الرسالة التي تحملها منذ شبابه الأول، فكان من فينة لأخرى ينتقل من بلد لآخر، ومن مدينة لقرية يبث الوعي واليقظة، وينشر السلفيّة الداعية إلى التحرر والانعتاق من بوائق التقليد الأعمى، ورواسب التحجّر والجمود اللذين بليت بدائهما الفتان فترات وفترات، عشنا لحظات مريرة من مساوئها حتى كان بعض علمائنا رحمهم الله كَعُمي لا تكاد تتفتح عيونهم على آي الكتاب وبيان السنة، ولا عجب وقد حالت بينهم وبين الأصلين خرافات وأفكار ودعوات مغرضة أن لا ينظر فيهما بمنظار البحث والكشف عن أسرار من شأنها البعث على التنوير والتحرر من ربقة الجهل والضيق، ومع كل العراقيل التي كانت تنصب أمامه؛ مانعة له وصارفة إياه عما جبل عليه، أو خلق من أجله، فكل ميسّر لما خلق له؛ كان يجهد نفسه ويقف موقف المؤمن الصادق في أداء رسالته المقدسة مما كانت له نهضة مباركة عمّت المغرب وأطرافه مدناً وقرى. (¬2) ¬

(¬1) المحدث الحافظ (ص.33 - 34). (¬2) المحدث الحافظ (ص.82).

- وقال: كانت دروس الشيخ فتحاً جديداً، ونوراً مبيناً أزال كل السدود المانعة من فهم الكتاب المقدس فهماً صحيحاً، وبالتالي أزاح عن الأذهان جميع ما كان يدور في قرارتها من أوهام وخرافات: إننا لا نقدر على الخوض في أحاديث الرسول وآثاره فراراً من الوقوع في التحريف واللحن وكل ما يدعو للافتراء والكذب، إنها لأفكار هي إلى التحجر والجمود أمسّ منها بالتفتح والانطلاق، ولكن جهاد الشيخ وثباته في الدعوة إلى الله بنشر السنة، ودراسة الكتاب رغم مضايقات ومضايقات، رفعت جميع تلك الخيالات، وانفسح المجال للفكر يعمل في طهارة ونضج، متحرراً من قيود الأوهام، وخيالات الأحلام التي كانت طاغية على بعض العقول المثقفة. (¬1) - قال عبد الحفيظ الفاسي: عارف بأصول الدين الصحيحة الخالية من البدع والعقائد الزائغة، شديد على المدعين قامع لأهل الأهواء والمبتدعين، سيف الله القاطع على رقابهم. (¬2) - وقال الرحالي الفاروقي: فقد كان هذا الشيخ رحمه الله علماً من أعلام المغرب الشاهقة، وفذاً من الأفذاذ الذين يفتخر بهم في ميادين المعرفة والإصلاح، وفي خدمة الكتاب والسنة ورفع رايتهما ونشر معانيهما وإقامة أحكامهما، بل كان يعتبر من الرعيل الأول في المغرب الذين أخذوا على أنفسهم إحياء العقيدة السلفية وبعث الروح الإسلامية الصحيحة في النفوس ¬

(¬1) المحدث الحافظ (ص.102). (¬2) رياض الجنة (2/ 142).

باعتماد وحي الكتاب العزيز ووحي سنة الذي لا ينطق عن الهوى، ونبذ ما سوى ذلك من الأقوال الموهومة والعقائد المشبوهة والخرافات المدسوسة التي أخرت سير المسلمين وشوهت سمعة الإسلام ... وكان ينادي في كثير من دروسه باعتبار المعرفة الصحيحة أساساً للحضارة الإسلامية واعتبار العقيدة السلفية التي جاء به الكتاب والسنة حصناً من الأمراض الوثنية، وكان رحمه الله حربا على البدعة لا تأخذه في ذلك لومة لائم، ويحمل حملات عنيفة ضد العقيدة المخلوطة بالشك والشرك، ويوصي بترك الزيارة التي تفضي إلى إفساد العقيدة وإبطال الركن الأول من أركان الإسلام، كما كان رحمه الله يوحي إلى العامة بقراءة توحيد ابن أبي زيد القيرواني. (¬1) - وقال عبد الله كنون: قام الشيخ أبو شعيب الدكالي بدعوته التي كان لها غايتان شريفتان: الأولى إحياء علم الحديث ونشره على نطاق واسع، لما كان فيه من رسوخ القدم، وقوة العارضة، والمشاركة في علومه، والحفظ والإتقان ... والثانية -وهي بيت القصيد- الأخذ بالسنة والعلم بها في العقائد والعبادات؛ فقد جهر في ذلك بدعوة الحق، ودل على النهج القويم، والصراط المستقيم، بالبرهان الساطع والحجة الناصعة، وندد بالخرافات والأوهام، وأطاح بالدعاوي الباطلة والأقوال الواهية، وبين وجه الصواب في كل مسألة مسألة من مسائل الخلاف الفقهي، وأقنع خصوم الدعوة قبل أنصارها بما لم يجدوا فيه دفعا ولا له ردا، وهكذا حدث تحول كبير في مفهوم الاجتهاد ¬

(¬1) شيخ الإسلام أبو شعيب الدكالي في رحاب مدينة مراكش الفيحاء لمحمد رياض (ص.51 - 52).

موقفه من المشركين:

والتقليد بالنسبة إلى أدلة الفقه، وتخفف العلماء من التقيد بالنصوص المذهبية، ومالوا إلى الترجيح والعمل بالسنة عند ثبوتها ونبذ ما خالفها. وكذلك ضعف الاعتقاد في المشايخ وتقديس الأموات، والغلو في الطرقية، والتعلق بتعاليمها التي ما أنزل الله بها من سلطان. (¬1) موقفه من المشركين: - قال عبد الله الجراري: والشيخ الدكالي رحمة الله عليه عمد إلى شجرة كانت بباب لبيبة جوار ضريح سيدي المنكود المجاور للسور الأندلسيّ، وقطعها إذ كان النساء يعقدن بها تمائم وحروزاً وشعوراً وخرقاً كتبرك رجاء دفع ما كان يجول في خواطرهن من هواجس وأوهام سببها الجهل، ولا غرابة، ما دام الشيخ من رواد السلفيّة الصادقة ومحاربة كل ما يمت بصلة إلى الخرف والشعوذة تنقية للأفكار وتطهيرها من آثار الخرافات والوثنية. (¬2) - وقال في خطبة له بإحدى المدارس الكبرى بفاس، واعظاً وموجهاً معلميها وتلاميذها: فما قرأت في الأسفار، وما رأيت في الأسفار، لما خضت البحار، وجبت الأقطار؛ أقبح من المذبذبين، وأعني بهم من ترك لغته ودينه، ولا أخذ من العلم العصريّ لا رخيصه ولا ثمينه، ولا تزين بصنعة ولا حرفة مهمة مما يعد زينته، وقصاراه سوء العقيدة وبيس المذهب مذهب الدهريين. أولئك قوم طلبوا الدنيا فرجعوا بلا دين، فلا ما طلبوا ¬

(¬1) مجلة دعوة الحق العدد 7 سنة 1969م (ص.8 - 9). (¬2) المحدث الحافظ (ص.30 - 31).

وجدوا، ولا ما أخذوا ردوا، فكانوا عند أهل أوربا من الساقطين، وعندنا من المارقين. (¬1) - ذكر علال الفاسي مدى تأثر المغرب بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب والعقيدة السنية والدعوات الإصلاحية ثم قال: ولكن هذا كله لم يكن له من الأثر ما أحدثه رجوع المصلح الكبير الشيخ أبي شعيب الدكالي، فقد عاد وكله رغبة في الدعوة لهذه العقيدة والعمل على نشرها، والتف من حوله جماعة من الشباب النابغ يوزعون الكتب التي يطبعها السلفيون بمصر، ويطوفون معه لقطع الأشجار المتبرك بها والأحجار المعتقد فيها. (¬2) - وقال عبد الكبير الزمراني: أما من الناحية التفكيرية فقد رجع شعيب (¬3) مزودا بعقيدة سلفية مؤيدة بالمعقول والمنقول وكان عمله برهاناً، وكان يقيم البراهين ليحق ما هو حق ويبطل ما هو باطل، وكان مما أوتيه من مواهب كالجيش وحده، شنّ الغارة على كثير من البدع والخرافات فهزمها، وغزا كثيراً من الأرواح والنفوس فقوّمها، وكان يداً من نور تقلع الخيالات وتغرس الحقائق وتمحو الأساطير وتثبت الحق المبين وتحصد الشك والوهم وتبذر الجزم واليقين، وكانت له بجانب هذه المزايا صرامة حادة في الحق، كانت له بمنزلة المنفذ لما يصدر من أحكام الشرع، وقد وقف مواقف كثيرة دلت على ما له من صرامة وإقدام، ولن ننسى قضية (لاَلَّة خضراء) (¬4) وهي صخرة ذات شكل ¬

(¬1) المحدث الحافظ (ص.118). (¬2) الحركات الاستقلالية في المغرب العربي (ص.153). (¬3) أي: من رحلته المشرقية. (¬4) أي: السيدة الخضراء.

موقفه من الصوفية:

هندسيّ افتَتن به النساء بمراكش، وكنّ يقربن لها القرابين، ويقدمن لها النذور ويقمن لها موسماً سنوياً إلى أن سمع بخبرها الشيخ رحمه الله فلم يتردد في تغيير هذه البدعة (¬1) والقيام بنفسه على إزالتها، ومن الغريب أنه كلما دعا عاملاً لكسرها امتنع من ذلك لما علق بذهنه من الأوهام حولها، إذ ذاك رأى نفسه مضطرا لكسرها بيده، وفعلاً أخذ الفأس وكسرها ثم وزّع أشلاءها خارج البلد. (¬2) موقفه من الصوفية: - قال محمد السائح عن الشيخ أبي شعيب: فقام بنشر مبادئ الإصلاح؛ غير هياب ولا وجل، واتصل بالسلطان، وبرز للنضال، وثبت في الميدان، حتى استقرت مبادئه واستحكمت أركانها، وضعضع أرباب الزوايا، بل هدها فاستنارت بهديه العقول، وسار في ضوء معارفه عدد غير قليل من الشباب. (¬3) - وقال: وقد اتصل صدى حركة الإصلاح التي كان يقوم بها الشيخ بالقصر؛ فصدرت بها ظهائر شريفة تؤيد تلك الحركة، منها ظهير في منع ما يقوم بع بعض أرباب الزوايا مما يعد قذى في عين الدين وبهقا في غرة محاسنه. (¬4) ¬

(¬1) وهي بدعة شركية. (¬2) شيخ الإسلام أبو شعيب الدكالي في رحاب مدينة مراكش الفيحاء (ص.58 - 59). (¬3) مجلة دعوة الحق العدد 2 سنة 1969م (ص.39). (¬4) مجلة دعوة الحق العدد 2 سنة 1969م (ص.39).

سليمان بن عبد العزيز السحيمي (1357 هـ)

سليمان بن عبد العزيز السحيمي (¬1) (1357 هـ) الشيخ سليمان بن عبد العزيز بن إبراهيم بن عبد الله الثوري الربابي نسبا السبيعي حلفا. ولد في مدينة عنيزة سنة ست وتسعين ومائتين وألف، وقيل سنة ثلاثمائة وألف. ونشأ بها، وأخذ عن علمائها كالشيخ صالح بن عثمان والشيخ عبد الله بن محمد آل مانع، وتولى التدريس بها في مسجد المسوكف، ثم انتقل إلى مكة المكرمة، فولي القضاء في بلدة الوجه ثم بلدة القنفذة ثم صار مدرسا في المسجد الحرام. كان رحمه الله يوصف بقوة الحفظ والاستحضار، فأعجب به شيخه صالح بن عثمان آل قاضي والعلامة محمد بن عبد الرزاق حمزة. وكان واعظا، محبا للعلماء ومجالستهم والبحث معهم. توفي رحمه الله سنة سبع وخمسين وثلاثمائة وألف. موقفه من المشركين: له من الآثار السلفية: 1 - 'رسالة في التوحيد وعقيدة السلف'. 2 - 'كتاب في الرد على حسن الكاظمي' في مسألة البناء على القبور ودعاء الصالحين. (¬2) ¬

(¬1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (2/ 320 - 325). (¬2) علماء نجد (2/ 323 - 324).

عبد الحميد بن باديس (1359 هـ)

عبد الحميد بن باديس (¬1) (1359 هـ) هو عبد الحميد بن محمد المصطفى بن مكي بن باديس أبو الفتوح، بمدينة قسنطينة ولد يوم الحادي عشر من ذي القعدة عام سبع وثلاثمائة وألف للهجرة من أسرة ثرية بربرية صنهاجية عريقة؛ كان لها الملك والسلطان خلال القرن الرابع الهجري، وأبرز رجالها الأمير المعز لدين الله بن باديس المتوفى سنة أربع وخمسين وأربعمائة للهجرة (¬2)؛ الذي نصر السنة وحارب البدعة وقضى على العبيديين الباطنيين وأبعدهم عن الغرب الإسلامي، وأعلن مذهب أهل السنة. ظهرت على الشيخ علامة النجابة وحب العلم منذ صباه، فسخّر الله له أباً صالحاً وطّأ له سبل العلم وشجعه عليه وكفاه المؤنة حتى قال له: (اكفني همّ الآخرة أكفك همّ الدنيا). حفظ القرآن كاملاً على محمد الماداسي أشهر قراء قسنطينة في وقته، وأتم دراسته بالزيتونة، ودرس بها. من شيوخه الطاهر بن عاشور ومحمد النخلي والبشير صفر وغيرهم كثير. رحل إلى عدة بلدان منها: الحجاز وسوريا ولبنان ومصر، والتقى بعلمائها كمحمد بخيت المطيعي الذي أجازه، وغيره. ومن العوامل التي نهجت به المسلك الصحيح عقيدة وسلوكاً التقاؤه بعلماء الدعوة السلفية بالحجاز، فترعرعت فكرة الإصلاح في نفسه، والتقى ¬

(¬1) الأعلام (3/ 289) ومعجم المؤلفين (5/ 105) وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين لعبد العزيز دخان. (¬2) وقد ذكره ابن خلدون في تأريخه للدولة الصنهاجية.

موقفه من المبتدعة:

للمرة الأولى بالشيخ محمد البشير الإبراهيمي بالمدينة النبوية وتدارسا الإصلاح في الجزائر وسبله مدة ثلاثة أشهر يلتقيان كل ليلة. رجع إلى الجزائر ودرّس بمساجدها، وقد فسر القرآن كله خلال خمس وعشرين سنة في دروس يومية، كما شرح موطأ مالك خلال هذه المدة. وأسس مع مجموعة من العلماء (جمعية العلماء الجزائريين) وكان رئيساً لها منذ تأسست إلى أن مات. وقد أصدر رحمه الله عدة صحف منها 'المنتقد' و'الشهاب' و'البصائر' وغيرها. توفي بعد معاناة شديدة من المرض في ربيع الأول عام تسع وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة بمسقط رأسه رحمه الله. من آثاره: 'العقائد الإسلامية' وجمع له من مجلة 'الشهاب' كتابات في التفسير بإشراف محمد الصالح رمضان وتوفيق شاهين وطبعت بعنوان: 'مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير'. وله مقالات كثيرة جداً في الفقه والحديث في جرائد ومجلات (جمعية العلماء) وقد جمع عمار الطالبي قسطاً طيباً من آثاره ولا يزال قسط آخر لم يجمع بعد. موقفه من المبتدعة: - قال رحمه الله في سبب اختياره الدين على السياسة للنهوض بالأمة: وبعد: فإننا اخترنا الخطة الدينية على غيرها، عن علم وبصيرة، وتمسكا بما هو مناسب لفطرتنا وتربيتنا من النصح والإرشاد، وبث الخير والثبات على وجه

واحد والسير في خط مستقيم، وما كنا لنجد هذا كله إلا فيما تفرغنا له من خدمة العلم والدين، وفي خدمتهما أعظم خدمة، وأنفعها للإنسانية عامة. ولو أردنا أن ندخل الميدان السياسي لدخلناه جهرا، ولضربنا فيه المثل بما عرف عنا من ثباتنا وتضحياتنا، ولقدنا الأمة كلها للمطالبة بحقوقها، ولكان أسهل شيء علينا أن نسير بها على ما نرسمه لها، وأن نبلغ من نفوسها إلى أقصى غايات التأثير عليها، فإن مما نعلمه -ولا يخفى على غيرنا- أن القائد الذي يقول للأمة: إنك مظلومة في حقوقك، وإنني أريد إيصالك إليها)، يجد منها ما لا يجد من يقول لها: (إنك ضالة عن أصول دينك، وإنني أريد هدايتك)، فذلك تلبيه كلها، وهذا يقاومه معظمها أو شطرها. وهذا كله نعلمه، ولكننا اخترنا ما اخترنا لما ذكرنا وبينا، وإننا -فيما اخترناه- بإذن الله لماضون، وعليه متوكلون. (¬1) - وله 'الدرر الغالية في آداب الدعوة والداعية' قال فيه: تحذير: خطبة الجمعة اليوم: أكثر الخطباء في الجمعات اليوم في قطرنا يخطبون الناس بخطب معقدة، مسجعة طويلة، من مخلفات الماضي، لا يراعى فيها شيء من أحوال الحاضر، وأمراض السامعين، تلقى بترنم وتلحين، أو غمغمة وتمطيط، ثم كثيرا ما تختم بالأحاديث المنكرات، أو الموضوعات. هذه حالة بدعية في شعيرة من أعظم الشعائر الإسلامية، سد بها أهلها بابا عظيما من الخير فتحه الإسلام، وعطلوا بها الوعظ والإرشاد وهو ركن ¬

(¬1) مدارك النظر (294 - 295).

عظيم من أركان الإسلام. فحذار أيها المؤمن من أن تكون مثلهم إذا وقفت خطيبا في الناس. وحذار من أن تترك طريقة القرآن والمواعظ النبوية إلى ما أحدثه المحدثون. (¬1) - وقال: بماذا تكون الهداية؟ كما أنعم الله على عباده بالهداية إلى ما فيه كمالهم وسعادتهم، كذلك أنعم عليهم فبين لهم ما تكون به الهداية حتى يكونوا على بينة فيما به يهتدون، إذ من طلب الهدى في غير ما جعله الله سبب الهدى كان على ضلال مبين، فلذا بين تعالى أن هدايته لخلقه إنما تكون برسوله وكتابه، فيتمسك بها من يريد الهدى، وليحكم على من لم يهتد بها بالزيغ والضلال. ولما كانا في حكم شيء واحد في الهداية يصدق كل واحد منهما الآخر، جاء بالضمير مفردا في قوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ} (¬2).اهـ (¬3) - وقال: تمر على العبد أحوال يكون فيها متحيرا مرتبكا: كمن يكون في ظلام: منها حالة الكفر والإنكار، وليس لمنكر الحق المتمسك بالهوى، والمقلد للآباء من دليل يطمئن به، ولا يقين بالمصير الذي ينتهي إليه؛ ومنها حالة الشك؛ ومنها حالة اعتراض الشبهات؛ ومنها حالة ثوران الشهوات. وكما أن الله يرشد ويوفق من اتبعوا رضوانه طرق السلامة والنجاة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - والقرآن، كذلك يخرجهم بهما باتباعهما والاهتداء بهما من ظلمات الكفر والشك والشبهات والشهوات، وما فيها من حيرة وعماية إلى ¬

(¬1) الدرر الغالية (40). (¬2) المائدة الآية (16). (¬3) الدرر الغالية (59).

موقفه من المشركين:

الحالة التي تطمئن فيها القلوب، كما تطمئن في النور عندما يسطع فيبدد سدول الظلام. فباتباعهما فقط تطمئن القلوب بالإيمان واليقين، فتضمحل أمامها الشبهات، وتكسر سلطان الشهوات. فتلك الأحوال العديدة الظلمانية التي يكون فيها من اعرض عنهما، أو خالفهما، يخرج منها إلى الحالة النورانية الوحيدة، وهي حالة من آمن بهما واتبعهما كما قال تعالى: {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (¬1).اهـ (¬2) موقفه من المشركين: داوم في جريدة 'الشهاب' على حرب المشعوذين، فكان يقول فيها: احذر من دجال يتاجر بالطلاسم، ويتخذ آيات القرآن وأسماء الرحمن هزواً يستعملها في التمويه والتضليل. موقفه من الصوفية: حارب التصوف وحذر الناس من سلوكه حتى بلغ بهؤلاء الحقد إلى محاولة اغتياله سنة خمس وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة الموافق لسبع وعشرين وتسعمائة وألف ميلادي. وكان بعضهم يسميه: (ابن إبليس). موقفه من القدرية: له كتاب: 'العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية' بين فيه مسألة القدر فقال: العمل بالشرع والجد في السعي مع الإيمان بالقدر: ¬

(¬1) المائدة الآية (16). (¬2) الدرر الغالية (61 - 62).

الشرع معلوم لنا، وضعه الله لنسيّر عليه أعمالنا. والقدر مغيب عنا، أمرنا الله بالإيمان به لأنه من مقتضى كمال العلم. والإرادة من صفات ربنا. فالقدر في دائرة الاعتقاد، والشرع في دائرة العمل. وعلينا أن نعمل بشرع الله ونتوسل إلى المسببات المشروعة بأسبابها، ونؤمن بسبق قدر الله تعالى: فلا يكون إلا ما قدره منها، فمن سبقت له السعادة يسر لأسبابها، ومن سبقت له الشقاوة يسر لأسبابها. (¬1) ثم ذكر بعض الأدلة فقال: الاحتجاج بالقدر: لا يحتج بالقدر في الذنوب، لأن حجة الله قائمة على الخلق بالتمكن والاختيار والدلالة الشرعية، لقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)} (¬2). الحذر والقدر: مع الإيمان بالقدر، يجب الأخذ بالحذر، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (¬3)، وقوله تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} (¬4). الحكمة والعدل في القدر: القدر كله عدل وحكمة، فما يصيب العباد ¬

(¬1) العقائد الإسلامية (ص.74). (¬2) الزخرف الآية (20). (¬3) النساء الآية (71). (¬4) النساء الآية (102).

فهو جزاء أعمالهم. وقد تدرك حكمة القدر ولو بعد حين، وقد تخفى، لأن من أسمائه تعالى: الحكيم، ورد في الآيات والأحاديث الكثيرة. ومن أسمائه تعالى: العدل، ورد في حديث الأسماء عند الترمذي (¬1). ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الكرب: «عدل في قضاؤك» (¬2). ولقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} (¬3).اهـ (¬4) ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (5/ 496 - 497/ 3507) وقال: "حديث غريب، حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح، ولا نعرفه إلا من حديث صفوان بن صالح، وهو ثقة عند أهل الحديث. وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا نعلم في كثير شيء من الروايات له إسناد صحيح ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث. وقد روى آدم بن أبي إياس هذا الحديث بإسناد غير هذا عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر فيه الأسماء وليس له إسناد صحيح". وابن ماجه (2/ 1269 - 1270/ 3861) وقال البوصري في الزوائد: "لم يخرج أحد من الأئمة الستة عدد أسماء الله الحسنى من هذا الوجه ولا من غيره، غير ابن ماجه والترمذي. مع تقديم وتأخير، وطريق الترمذي أصح شيء في الباب. قال: وإسناد طريق ابن ماجه ضعيف لضعف عبد الملك بن محمد". وقال الحافظ في الفتح (11/ 258): "وليست العلة عند الشيخين تفرد الوليد فقط بل الاختلاف فيه والاضطراب وتدليسه واحتمال الإدراج" اهـ. والحديث ورد بدون تعيين الأسماء الحسنى. من حديث أبي هريرة. وقد تقدم تخريجه ضمن مواقف إسحاق بن راهويه سنة (237هـ). (¬2) أحمد (1/ 391) والطبراني (10/ 209 - 210/ 10352) والحارث بن أبي أسامة (بغية الباحث 1063) وصححه ابن حبان (3/ 253/972) والحاكم (1/ 509) كلهم من حديث ابن مسعود. والحديث ذكره الهيثمي في المجمع (10/ 136و186 - 187) وقال: "رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني ورجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهني وقد وثقه ابن حبان ". (¬3) الشورى الآية (30). (¬4) العقائد الإسلامية (ص.76 - 77).

عبد العزيز بن حمد بن علي بن عتيق (1359 هـ)

عبد العزيز بن حمد بن علي بن عتيق (¬1) (1359 هـ) عبد العزيز بن حمد بن علي بن عتيق. ولد في جمادى الأولى سنة سبع وسبعين ومائتين وألف. ونشأ في بيت علم ودين. قرأ على والده الشيخ حمد ابن علي بن عتيق إلى أن توفي، ثم سافر إلى الرياض، ثم إلى الهند حيث وجد المحدث الشيخ نذير حسين الدهلوي، فأخذ عنه الحديث. كان رحمه الله موصوفا بكثرة العبادة والتهجد، وكانت له عناية كبيرة بكتب الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب والشيخين ابن تيمية وابن القيم. أخذ عنه العلم الشيخ سعد بن سعود آل مفلح والشيخ سعود بن محمد بن رشود والشيخ محمد ابن إسحاق. شارك في الفتوح، وكان قد تولى القضاء في الأفلاج ثم نقل إلى وادي الدواسر، ثم أعيد إلى الأفلاج، إلى أن توفي فيها سنة تسع وخمسين وثلاثمائة وألف. موقفه من المبتدعة: تبنيه لعقيدة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: جاء في علماء نجد: "له وصية بقلم محمد بن إسحاق بن عتيق، حيث يقول: هذا ما أوصى به الفقير إلى الله عبد العزيز بن حمد بن عتيق وهو يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلها واحدا، أحدا صمدا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ولم يكن له كفوا أحد، وأن محمدا عبده ورسوله الصادق المصدق، أفضل الرسل - صلى الله عليه وسلم -، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ¬

(¬1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/ 330 - 335).

علي محفوظ (1361 هـ)

ولو كره المشركون، وأشهد أن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأشهد أن ما دعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب من إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله رب العالمين والبراءة من عبادة ما سواه هو عين ما قام به النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعا الناس إليه، وهو دين الإسلام الذي نعتقده وندين لله به، وأوصى ولدي وولد ولدي وإخواني وأولادهم بأن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأوصيهم بما أوصي به إبراهيم بنيه ويعقوب إذ قال لبنيه: {يا بني إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)} (¬1).اهـ (¬2) علي محفوظ (¬3) (1361 هـ) علي محفوظ المصري، واعظ مرشد، عالم تخرج بالأزهر أستاذا للوعظ والإرشاد بكلية أصول الدين بالجامعة الأزهرية، واختير عضوا في جماعة كبار العلماء. توفي سنة إحدى وستين وثلاثمائة وألف من الهجرة. موقفه من المبتدعة: له: 'الإبداع في مضار الابتداع' والكتاب مطبوع ومتداول، وهو وإن كانت فيه بعض الفوائد لكن فيه خلط في تأييد بعض البدع واستحسانها. جاء ¬

(¬1) البقرة الآية (132). (¬2) علماء نجد (3/ 333 - 334). (¬3) الأعلام (4/ 323) ومعجم المؤلفين (7/ 175).

فيه: الحث على التمسك بالدين وإحياء السنة: وأما الحث على التمسك بالدين وإحياء السنة، فاعلم أن من أمعن النظر فيما شرعه الله لنا مما تضمنه الكتاب وبينته السنة علم أن النبي صلوات الله وسلامه عليه تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يحيد عنها إلا من قد مرض قلبه وطاش في مهاوي الضلال لبه، فإن الله تعالى قد بين للناس قواعد الدين وأكملها قال تعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (¬1) بالتنصيص على قواعد العقائد، والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد، فإذا كان الله سبحانه قد أكمل لنا الدين بما أنزله في كتابه العربي المبين وعلى لسان نبيه الأمين، مما بلغ من الأحكام، وبين لنا من حلال وحرام، فمن اتبع غير سبيل المؤمنين فهو الحقيق بهذا الوعيد الشديد، قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} (¬2) وقال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (¬3): ما تركنا وما أغفلنا شيئا يحتاج إليه من الأشياء المهمة، فقد نفى سبحانه التقصير فيما شرع من كتابه الحكيم الذي هو متن للسنة. وقد أمر الله تعالى باتباع سبيله وما شرع من الدين القويم ونهى عن ¬

(¬1) المائدة الآية (3). (¬2) النساء الآية (115). (¬3) الأنعام الآية (38).

اتباع غير سبيل المؤمنين فقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬1) فذكر تعالى أن له سبيلا واحدا سماها صراطا مستقيما، لأنها أقرب طريق إلى الحق والخير والسلام، وأن هناك سبلا متعددة يتفرق متبعوها عن ذلك الصراط وهي طرق الشيطان، وحث سبحانه على اتباع سبيله الذي هو الكتاب والسنة حثا مقرونا بالنهي عن اتباع السبل، مبينا أن ذلك سبب للتفرق، ولذا ترى المسلمين العاملين قد لزموا سبيلا واحدا أمروا بسلوكه، وأما أهل البدع والأهواء فقد افترقوا في سبلهم على حسب معتقداتهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)} (¬2)، وقد روى أحمد وجماعة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: خط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطا ثم قال: «هذا سبيل الله»، ثم خط خطوطا عن يمينه وخطوطا عن يساره، وقال: «هذه السبل المتفرقة وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو» ثم قرأ هذه الآية، حتى بلغ {تتقون} (¬3). السبل المتفرقة هي البدع، والشيطان هو شيطان الإنس وهو المبتدع. وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬4)، قال العلماء: معناه إلى الكتاب والسنة، فأمر سبحانه برد الأمر حالة النزاع إلى ¬

(¬1) الأنعام الآية (153) .. (¬2) الروم الآية (32). (¬3) تقدم تخريجه في مواقف الإمام مالك سنة (179هـ). (¬4) النساء الآية (59).

كتابه العزيز وسنة نبيه، ففي حالة الوفاق أولى. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (¬1) فقد جعل سبحانه وتعالى علامة محبته اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، فمن لم يتبع الرسول وادعى محبة الله تعالى فهو كاذب في دعواه فإن عصيان الرسول عصيان لله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (¬2)، وعصيان الله تعالى ينافي محبته: تعصى الاله وأنت تظهر حبه ... تعصى الاله وأنت تظهر حبه لو كان حبك صادقا لأطعته ... لو كان حبك صادقا لأطعته ثم رتب على اتباع الرسول حب الله تعالى ورضاءه ومثوبته، فالخير في اتباع الرسول والشر في مخالفة سننه ... وكيف لا ونبينا صلوات الله وسلامه عليه هو المبلغ للكتاب الناطق بالحق والصواب {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} (¬3)، وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)} (¬4): هو الإسلام. وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ} (¬5). ¬

(¬1) آل عمران الآية (31). (¬2) النساء الآية (80). (¬3) النجم الآية (3). (¬4) الشورى الآية (52). (¬5) الأحزاب الآية (21).

فإذا الواجب علينا معاشر المسلمين اتباعه في جميع أقواله وأفعاله، والتأسي به في سائر أحواله، قال تعالى: {وما آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬1)، وما أخبث رجلا ترك سبيل السنة الشارحة للكتاب، واستبدل العذب بالعذاب {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} (¬2). وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)} (¬3) وسر تكرير الفعل: الدلالة على أن ما يأمر به رسول الله صلوات الله وسلامه عليه تجب طاعته فيه وإن لم يكن مأمورا به بعينه في القرآن، فتجب طاعة الرسول مفردة كما تجب مقرونة بأمره سبحانه، فهو إذاً مستقل بالطاعة كما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول بيننا وبينكم كتاب الله ما وجدنا فيه من شيء اتبعناه. ألا إني قد أوتيت الكتاب ومثله معه» (¬4) ¬

(¬1) الحشر الآية (7). (¬2) النور الآية (63). (¬3) النور الآية (54). (¬4) أخرجه: أحمد (4/ 130 - 131) وأبو داود (5/ 10 - 12/ 4604) والترمذي (5/ 37/2664) وقال: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه". وابن ماجه (1/ 6/12) والحاكم (1/ 109) وصحح إسناده وسكت عنه الذهبي، كلهم من حديث المقدام بن معدي كرب.

وقوله: تولوا بحذف إحدى التاءين عام لمن يقع عليه الخطاب من عباده. والمعنى أنه قد حمل أداء الرسالة وتبليغها وحملتم طاعته والانقياد له والتسليم {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)} (¬1) أخبر جل ثناؤه أن الهداية في طاعة الرسول لا في غيرها، فإنه معلق بالشرط فينتفي بانتفائه، وليس عليه إلا البلاغ والبيان الواضح لاهداكم وتوفيقكم، ففي صحيح البخاري عن الزهري: فإن تطيعوه فهو حظكم وسعادتكم، وإن لم تطيعوه فقد أدى ما حمل وما عليه إلا البلاغ. وحكى الإمام الشافعي رضي الله عنه إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم على أن من استبانت له سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن له أن يدعها لقول أحد. وهو كلام حق لا يستراب فيه. وكيف تترك نصوص الشارع المعصوم ويؤخذ بأقوال غيره ممن يجوز عليه الخطأ، فإن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب الرسالة صلوات الله وسلامه عليه. والآيات في هذا الباب كثيرة. والمعنى فإن تتولوا عن الطاعة إثر ما أمرتم بها فاعلموا أنما عليه إثم ما أمر به من التبليغ وقد شاهدتموه عند قوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، وعليكم ما أمرتم به من الطاعة. وأما الأحاديث: فعن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا قال: «أوصيكم بتقوى الله ¬

(¬1) النور الآية (54).

والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فان كل بدعة ضلالة» رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح (¬1)، فقد أوصانا صلوات الله وسلامه عليه بلزوم سنته وسنة خلفائه الراشدين الذين هم على طريقته، وحرض على ذلك بقوله: «عضوا عليها بالنواجذ». وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من تمسك بسنتي عند فساد أمتي فله أجر مائة شهيد» رواه الطبراني والبيهقي (¬2). وعن عباس بن ربيعة قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقبل الحجر -يعني الأسود- ويقول: إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك. متفق عليه (¬3)، وروى الحاكم عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه خطب في حجة الوداع فقال: «إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم، ولكن رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحاقرون من أعمالكم فاحذروا. إني تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله وسنة نبيه» (¬4) ... ¬

(¬1) تقدم تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ). (¬2) الطبراني في الأوسط (6/ 197/5410) ومن طريقه أبو نعيم (8/ 200). وقال الهيثمي في المجمع (1/ 172) رواه الطبراني في الأوسط وفيه محمد بن صالح العدوي ولم أر من ترجمه وبقية رجاله ثقات وأورده الألباني في الضعيفة (1/ 497/327). (¬3) البخاري (3/ 589/1597). مسلم (2/ 925/1270). (¬4) أحمد (2/ 368) والبزار (الكشف 3/ 322/2850) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه، ولكن قد رضي منكم بالمحقرات» وقال الهيثمي (10/ 54) رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح. قال الشيخ الألباني في الصحيحة (1/ 842/471): "وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين". وفي الباب عن جابر وابن مسعود وأبي الدرداء بنحوه.

وقال في الشفاء وشرحه: قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى (سن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وولاة الأمور) يعني الخلفاء الراشدين (بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله) أي حيث قال: {وما آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (¬1) (واستعمال لطاعة الله) أي في طاعة رسوله لقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (¬2)، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» (¬3)، (وقوة على الدين) أي على كمال ملته وجمال شريعته (ليس لأحد تغييرها) بزيادة أو نقصان فيها (ولا تبديلها) بغيرها ظنا أنه أحسن منها (ولا النظر في رأي من خالفها، من اقتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا). وهذا من كلامه الذي عني به ويحفظه العلماء، وكان يعجب مالكا جدا، ولحق ما كان يعجبهم، فإنه كلام مختصر جمع أصولا حسنة من السنة، لأن قوله: (ليس لأحد تغييرها، ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفها): قطع لمادة الابتداع جملة. وقوله: (من عمل بها فهو مهتد) الخ الكلام: مدح لمتبع السنة وذم لمن خالفها بالدليل الدال على ذلك وهو قول الله سبحانه: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا ¬

(¬1) الحشر الآية (7). (¬2) النساء الآية (80). (¬3) تقدم تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ).

تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} (¬1) الآية، ومنها ما سنه ولاة الأمر من بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو سنة لا بدعة فيه ألبتة، وإن لم يعلم في كتاب الله ولا سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - نص عليه على الخصوص فقد جاء ما يدل عليه في الجملة. وقال علي رضي الله عنه: لم أكن أدع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقول أحد من الناس، وقال: إني لست بنبي ولا يوحى إلي، ولكني أعمل بكتاب الله تعالى وسنة نبيه ما استطعت. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله وآله وسلم يعمل به إلا عملت به، إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ. اهـ باختصار. والموفق السعيد من انتظم في سلك من أحيا سنة وأمات بدعة، فكن يا أخي إياه فقد كثرت البدع وعم ضررها. واستطار شررها، ودام الانكباب على العمل بها مع السكوت عن الإنكار لها حتى صارت كأنها سنن مقررات، وشرائع من صاحب الشرع محررات. فاختلط المشروع بغيره، وعاد المتمسك بمحض السنة كالخارج عنها كما سبق، فتأكد وجوب الإنكار على من عنده فيها علم، ولا يهولنه أن المتعرض لهذا الأمر اليوم فاقد المساعد عديم المعين: فالموالي له يخلد به إلى الأرض، ويمد له يد العجز عن نصرة الحق بعد رسوخ البدع في النفوس، والمعادي يصوب إليه سهام الطعن ويرميه بمقذوفات الأذى، لأنه يحارب عاداته الراسخة في القلوب، ويقبح بدعه المألوفة في الأعمال دينا يتعبد به. ومذهبا خامسا يدين الله عليه ¬

(¬1) النساء الآية (115).

مبارك بن محمد الميلي (1364 هـ)

لا حجة له عليها سوى عمل الآباء والأجداد، مع بعض من ينتسب إلى العلم أكانوا من أهل النظر في هذه الأمور أم لا ولم يفقهوا أنهم بموافقتهم للآباء وهؤلاء الأدعياء مخالفون لكتاب الله وسنة رسول الله والسلف الصالح من بعده، فالمتعرض لمثل هذا الأمر ينحو نحو عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في العمل حيث قال: ألا وإني أعالج أمرا لا يعين عليه إلا أنه قد فنى عليه الكبير وكبر عليه الصغير وفصح عليه الأعجمي وهاجر عليه الأعرابي حتى حسبوه دينا لا يرون الحق غيره وكذلك ما عليه الناس اليوم. (¬1) مبارك بن محمد الميلي (1364 هـ) من أفاضل علماء الجزائر، وأحد أعضاء جمعية العلماء بها. ولد سنة أربع عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة، وتوفي رحمه الله سنة أربع وستين وثلاثمائة وألف للهجرة. موقفه من المشركين: له كتاب 'رسالة الشرك ومظاهره'. تناول فيها هذا الموضوع من كل جوانبه؛ فعرف الشرك وبيّن خطره وتاريخه، ثم مثّل لأبرز مظاهره؛ فأجاد رحمه الله وأفاد. - قال رحمه الله: وهذه أطوار البعثة من حين الأمر بالإنذار المطلق في سورة المدثر، إلى الأمر بإنذار العشيرة، إلى الأمر بالصدع بالدعوة، إلى الأمر ¬

(¬1) الابداع في مضار الابتداع (18 - 23).

بالهجرة، إلى الإذن بالقتال، إلى فتح مكة، إلى الإعلام بدنوّ الحمام؛ لم تخل من إعلان التوحيد وشواهده، ومحاربة الشرك ومظاهره. ويكاد ينحصر غرض البعثة أولاً في ذلك؛ فلا ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - التنديد بالأصنام وهو وحيد، ولا ذهل عنه وهو محصور بالشعب ثلاث سنوات شديدات، ولا نسيه وهو مختفٍ في هجرته والعدو مشتد في طلبه، ولا قطع الحديث عنه وهو ظاهر بمدينته بين أنصاره، ولا غلق باب الخوض فيه بعد فتح مكة، ولا شغل عنه وهو يجاهد وينتصر ويكر ويفر، ولا اكتفى بطلب البيعة على القتال عن تكرير عرض البيعة على التوحيد ونبذ الشرك. وهذه سيرته المدونة وأحاديثه المصححة فتتبعها تجد تصديق ما ادعينا وتفصيل ما أجملنا. (¬1) - وقال: وإن لم يكن بعقلك بأس، فستسلم معي شدة عناية بعثة خاتم النبيين ببيان الشرك وعدم الاكتفاء بشرح التوحيد، وستعجب معي من قلة اهتمام علمائنا بذلك، كأن لا حاجة بالمسلمين إليه! تجد في كلامهم على الفروع عناية بتفصيل أحكام مسائل نادرة أو لا توجد عادة، ولا تجدهم يعنون تلك العناية بالأصول؛ فيحددون الشرك ويفصلون أنواعه، ويعددون مظاهره، حتى يرسخ في نفوس العامة الحذر منه، والابتعاد من وسائله، ولا يفقد المتأخر نص من قبله في جزئية من ذلك. (¬2) - وقال: آثار الشرك في المجتمع: إن كنت باحثاً في علل انحطاط الأمم، فلن تجد كالشرك أدل على ¬

(¬1) رسالة الشرك ومظاهره (ص.19). (¬2) رسالة الشرك ومظاهره (ص.20).

ظلمة القلوب وسفه الأحلام وفساد الأخلاق، ولن تجد كهذه النقائص أضر بالاتحاد، وأدر للفوضى، وأذل للشعوب. وإن كنت باحثاً عن أسباب الرقي، فلن تجد كالتوحيد أطهر للقلوب وأرشد للعقول، وأقوم للأخلاق، ولن تجد كهذه الأسوس أحفظ للحياة وأضمن للسيادة، وأقوى على حمل منار المدنية الطاهرة، وإن نظرة في حياة العرب قبل البعثة، لتؤيد ما أضفناه إلى الشرك من علل ونتائج، وإن وقفة على حياتهم بعد البعثة لتبعث على التصديق بما أنطناه بالتوحيد من أسباب وثمرات، وإن تلك النظرة وهاته الوقفة لمفتاحان لسر حياة المسلمين بعد عصر النبوة. وكل من قارن بين حياتنا اليوم وحياة جيراننا من غير ملتنا، استيقن أن وسائل الشرك قد وجدت في المسلمين منذ أمد، وأن نتائجه قد ظهرت عليهم، فلا تخفى على أحد. (¬1) - وقال رحمه الله: الحكاية العاشورية: ففي سنة سبع وأربعين، قتل شيخنا محمد الميلي رحمه الله، فأتيت من الأغواط. وجاء للتعزية الشيخ عاشور صاحب 'منار الأشراف' وملقب نفسه "كليب الهامل"، والهامل قرية بالحضنة قرب أبي سعادة بها زاوية كانت تمده بالمال. فحضرت مجلسه ولم أشعره بحضوري إذ كان قد اجتمع عليه العمى والصمم. وذلك لئلا يحترز في حديثه أو نقع في حديث غير مناسب للمقام. سمعت في ذلك المجلس بأُذنيَّ "كليب الهامل" يحكي مناقضاً لدعوة الإصلاح التي اشتهرت يومئذ، أن شيخاً من شيوخ الطرق الصوفية كان مع ¬

(¬1) رسالة الشرك ومظاهره (ص.49).

مريديه في سفينة فهاج بهم البحر وعلت أمواجه، فلجؤوا جميعاً إلى الله يسألون الفرج والسلامة. وكان الشيخ منفرداً في غرفة يدعو فلم تنفرج الأزمة، وعادته أن لا يبطأ عليه بالإجابة، فوقع في روعه أنه أتي من قبل أتباعه. لا لنقص فيه يوجب هذا الإعراض عنه، فخرج على أتباعه مغضباً يقول: ماذا صنعتم في هذه الشدة؟ فقالوا: دعونا الله مخلصين له الدين بلسان المضطرين -إشارة إلى لقوله تعالى: {أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السوء .. } (¬1) - فنكر عليهم اللجوء إلى الله مباشرة، ووبخهم عليه، وعرفهم أن ذلك هو الحائل دون استجابة دعائه، وأنذرهم عاقبة استمرارهم على التوجه إلى ربهم، وأنه الغرق، وعلمهم أن واجبهم هو التوجه إليه وسؤاله، ثم هو وحده يتوجه إلى الله، فتابوا من دعاء الموحدين، وامتثلوا تعليم الشيخ المخالف لتعليم رب العالمين. وعاد الشيخ إلى غرفته يدعو متوسطاً بين الله ومريديه، فانكشفت الغمة، وسملت السفينة، وحمد الشيخ ثقته بنفسه وفقهه سر البطء عن استجابة دعائه، وتفقيهه لأتباعه سر النجاة وصرفهم إلى الثقة به عن الثقة بالله. هذا معنى ما سمعته من "كليب الهامل"، ولم أقيد الحكاية حين السماع حتى أؤديها بلفظها وأصورها بنصها، ولم يسعني وأنا في مقام التحذير من الشرك اجتناب إدراج ما ينافي غرض الحاكي في الحكاية حتى تتم ثم أعلق عليها، لئلا يعلق بذهن القارئ شيء من الشرك، ولو إلى حين، ولم أميز ¬

(¬1) النمل الآية (62).

موقفه من الرافضة:

المدرج في الحكاية، لأنه لا يخفى على العارف بحال المعارضين لدعاة الإصلاح الديني. يستدل الشيخ عاشور وأشباهه بأمثال هذه الحكاية على لزوم التعلق بشيوخ الزوايا وتوسيطهم بين العباد وربهم، ناسخين بها نصوص الشريعة الكثيرة المحكمة، وتتلقفها منهم العامة بقلوبها، وتتمسك بها في الاحتجاج لإيثار دعاء غير الله، وتعتقد أن ذلك أليق بحالها من أن تخاطب بنفسها أرحم الراحمين، سنة المشركين من قديم كما تقدم عن الكلدانيين. (¬1) موقفه من الرافضة: - قال رحمه الله: وقد كان ضلال الرافضة مكشوفاً للعامة والخاصة من الفرق الإسلامية؛ فكانوا ممقوتين في المجتمعات، لا تروج لهم بضاعة في جميع الطبقات إلا أن يجدوا غرة في بعض الجهات التي لا تعرف من الدين أكثر من التلفظ بالشهادتين أو صور العبادة المتكررة الفاشية. (¬2) موقفه من الصوفية: لقد أولى رحمه الله في كتابه قضية التصوف اهتماماً كبيراً، باعتبار الصوفية أمراً دخيلاً على الإسلام وأهله، ومنبعاً لتصدير الشرك والبدع والخرافات، مبيناً رحمه الله علاقة التصوف بالتشيع، ومدى الصلة الوثيقة التي تربطهما كأنهما أخوان شقيقان. - قال رحمه الله: أما ثمرة هذا الاتحاد؛ فهو توصل الرافضة إلى تحقيق ما ¬

(¬1) رسالة الشرك ومظاهره (ص.182 - 183). (¬2) رسالة الشرك ومظاهره (ص.263 - 264).

عجزت عنه من تشويه محاسن الإسلام وقلب تعاليمه. وإن تعجب لسلامة الصوفية من سوء سمعة الرافضة مع اتحاد الفريقين، فأعجب من ذلك أن تعلو كلمة هؤلاء الصوفية كلمة العلماء، ويخصّوا بالفضل دونهم؛ والكتاب والسنة إنما جاءا بفضل العلم وأهله. وترى من هنا؛ أن هذا التصوف سيف ماضي الحدين مؤثر بالجهتين: فجهة النقص فيه: وهي اتحاده بالباطنية أثر فيها بالتغطية والتعمية حتى لم تشعر بها العامة، وتطاول الأمد فخفيت على كثير من الخاصة. وجهة الكمال في غيره: وهي جهة العلم قلبها رأساً على عقب؛ فاستأثر بما للعلم من شرف، وجعل أهله محل ريبة لا يوثق بدينهم إلا بتوثيق شيوخ التصوف، وهم لا يوثقون من العلماء إلا من سدل الستار عما في طرقهم من بدع ومنكرات. فأصبح يخطب وُدّهم كل عالم طماع، وكل محتال خداع، وانضافت إليهم هذه الجنود المرتزقة فكان جيشا يهدد كل مرشد نصوح، ومصلح إلى المعالي طموح. (¬1) - وقال رحمه الله مبيناً مساوئ التصوف في مسائل منها: الخامسة: الاعتماد في دينهم على الخرافات والمنامات، وما يربي هيبتهم في قلوب مريديهم من حكايات، ولا يتصلون بالعلماء إلا بمن أعانهم على استعباد الدهماء، والرد على المرشدين النصحاء، بتأويل ما هو حجة عليهم، وتصحيح الحديث الموضوع إذا كان فيه حجة لهم. قال أبو بكر بن العربي في 'العواصم': إن غلاة الصوفية ودعاة الباطنية ¬

(¬1) رسالة الشرك ومظاهره (ص.267 - 268).

محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ (1367 هـ)

يتشبهون بالمبتدعة في تعلقهم بمشتبهات الآيات والآثار على محكماتها، فيخترعون أحاديث أو تخترع لهم على قالب أغراضهم ينسبونها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتعلقون بها علينا) (1/ 9).اهـ (¬1) محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ (¬2) (1367 هـ) محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. ولد في مدينة الرياض سنة ثلاث وسبعين ومائتين وألف للهجرة، ونشأ بها. قرأ على أخيه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف والشيخ محمد ابن محمود والشيخ حمد بن عتيق والشيخ حسن بن حسين آل الشيخ والشيخ أبو بكر خوقير وغيرهم. عينه الملك عبد العزيز قاضيا في القويعية ثم في الوشم، ثم قاضيا للرياض. كان رحمه الله جوادا كريما، متواضعا، حسن الخلق. أخذ عنه الشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم والشيخ صالح بن سحمان والشيخ عبد الله الدوسري وغيرهم. رحل إلى عمان وقطر ثم إلى اليمن. له رسائل وأجوبة في الدعوة إلى التوحيد وهدم الشرك. توفي رحمه الله في جمادى الثانية سنة سبع وستين وثلاثمائة وألف. موقفه من المبتدعة: له رسائل وأجوبة خاصة في التوحيد تدل على سعة علمه واطلاعه وحبه لنشر العقيدة السلفية، فجزاه الله خيرا. ¬

(¬1) رسالة الشرك ومظاهره (ص.280). (¬2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (6/ 134 - 139) والأعلام (6/ 218) ومعجم المؤلفين (10/ 193).

- نصائحه رحمه للأمة: وأكبر نعمة نذكركم بها هي ما من به مولاكم، وما خصكم به من المنحة وأولاكم من هذه الدعوة النجدية، وتجديد الملة الحنيفية، بعد أفول شموسها، ومحو آياتها ودروسها، واعتكار ليل الإشراك، وتلاطم الضلال والهلاك، حتى عبدت في نجد كغيرها الطواغيت والأوثان من الأشجار والقبور والغيران، وكان المطاع والمتبع هو الشيطان بدلا عن مضمون كلمة الإسلام والإيمان، شهادة أن لا إله إلا الله الملك الديان، وشهادة أن محمدا عبده ورسوله سيد ولد عدنان، وأصبح الحق مهجورا، والباطل مؤيدا منصورا، ونشأت بدع الرفض والتجهم والاعتزال، وبدعة الاتحاد التي هي أكبر بدع الضلال، وغير ذلك من ظهور السحر والكهانة والتنجيم، وسفك الدماء ونهب الأموال، واستحلال المحرمات، مما هو حقيقة الجاهلية الجهلى، والضلالة العمياء، إلى أن ابلولج صبح الحق واتضح، وتجهم وجه الباطل وافتضح بما مَنًّ به الكريم من الدعوة والتجديد، على يد من منحهم الله التوفيق والتسديد وهم الإمام الأوحد الفريد الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأنصار أئمة التوحيد آل سعود ومن سبقت لهم سابقة السعادة والسيادة، ولم تأخذهم في الله لومة لائم، ولم يثنهم عن هذا الفخر الأفخم مقاومة مقاوم، فانجلت بحمد الله من نجد وما حولها وجنات الإشراك، وظهرت بذلك فضيحة كل مبتدع أفاك، واستضاءت بنور المحمدية المحضة ارجاء تلك الأقطار، وعاد عود الإسلام غصنا أخضر بعد الالتواء والاصفرار، واستقرت الشريعة في نصابها، ورجعت الفريضة إلى بابها، ونشرت أعلام الجهاد،

وقامت حجة الله على العباد. (¬1) - وقال: فأول بدعة حدثت بدعة الخوارج وهم قوم من أصحاب علي ابن أبي طالب ممن أخذ العلم عن الصحابة فكفروا عليا رضي الله عنه وأصحابه، وكفروا أهل الكبائر من هذه الأمة، وحكموا على من ارتكب كبيرة بالخلود في النار والكفر، ثم خرجت المعتزلة وحكموا على الفاسق بالخلود في النار فوافقوا الخوارج في الحكم وخالفوهم بالاسم، فالخوارج يقولون: أهل الكبار كفار مخلدون في النار، والمعتزلة يقولون فاسقا ويخلدون في النار، وكلا الطائفتين خارجة عن الصراط المستقيم، وما عليه السلف الصالح من أهل الملة والدين، ثم تتابعت البدع وكثرت كبدعة القدرية، والمرجئة، والجهمية، وغير ذلك من البدع، التي حقيقتها مخالفة الكتاب والسنة. إذا علمت ذلك فاعلم أن الله تبارك وتعالى مَنَّ في آخر هذا الزمان في القرن الثاني عشر بظهور من دعا إلى ما دعت إليه الرسل وهو شيخ الإسلام وعلم الهداة الاعلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب أسكنه الله الجنة بمنه وكرمه، لأنه خرج في زمن فترة من أهل العلم تشبه الفترة التي بين الرسل، فدعا إلى الله وبصر الخلق بحقيقة ما خلقوا له من اخلاص العبادة لله، وترك عبادة ما سواه الذي هو أول مدلول شهادة أن لا إله إلا الله، فجد واجتهد وأعلن بالدعوة، فعارضه من عارضه ممن استهوتهم الشياطين واجتالتهم عن فطرهم التي فطروا عليها، فقام في رد ما جاء به علماء السوء بشبهات وضلالات ¬

(¬1) الدرر السنية (11/ 134).

ابن المؤقت (1368 هـ)

أوهن من بيت العنكبوت، واستعانوا بملاءهم من الرؤساء والأمراء، فجدوا في إطفاء نور الله، فأبى الله إلا أن يتم نوره، ويعلي كلمته. (¬1) ابن المؤقت (¬2) (1368 هـ) محمد بن محمد بن عبد الله المؤقت المسفيوي أصلا المراكشي ولادة ونشأة، كان صوفيا أول أمره وألف في ذلك كتبا ثم رجع عن ذلك، وقد ثارت الطرق الصوفية ضده لما كتب كتاب 'الرحلة المراكشية' ويسمى أيضا 'السيف المسلول على المعرض عن سنة الرسول' وشكوه إلى باشا المدينة ثم إلى الملك محمد الخامس، ورد عليه مقدم الطائفة التيجانية القاضي أحمد السكيرج بكتاب سماه 'الحجارة المقتية لكسر مرآة المساوئ الوقتية' ثم رد عليه ابن المؤقت بكتاب بين فيه افتراءاته، إلا أن الكتاب صودر من السوق وأحرق مما يدل على أن المعركة بين الشيخ وخصومه بلغت ذروتها. بلغت مؤلفاته أربعة وثمانين مؤلفا، طبع منها إحدى وأربعون، وأربعة ما تزال مخطوطة، وباقي هذه المؤلفات مفقود. منها 'الرحلة المراكشية' و'الرحلة الأخروية' و'أصحاب السفينة' و'الجيوش الجرارة' و'الكشف والتبيان عن حال أهل الزمان' و'الحجة القوية على الطائفة اليهودية' و'مجموعة اليواقيت العصرية لتاريخ المشرق والمغرب' في ستة أجزاء و'السعادة الأبدية' و'لبانة القارئ من صحيح الإمام البخاري' ¬

(¬1) الدرر السنية (11/ 122). (¬2) مقدمة الرحلة المراكشية و'سل النصال' لعبد السلام بن سودة (ص.139).

موقفه من المشركين:

و'بغية كل مسلم من صحيح مسلم' و'سبيل التحقيق في كشف الغطا عن مساوي كل طريق' و'سبيل السعادة في أحكام العبادة'. كان مؤقتا بالمسجد الجامع ابن يوسف، وله في التوقيت وعلم الفلك عدة مؤلفات. توفي بمراكش سنة ثمان وستين وثلاثمائة وألف هجرية وقيل سنة تسع وتسعين. هذا ولا يخلو كتابه الرحلة من أخطاء مثل انتصاره لإرسال اليدين في الصلاة وغير ذلك، وهذا من آثار التقليد المذموم، وكذا في كتبه الأخرى أخطاء وسقطات لعلها أيام تصوفه. موقفه من المشركين: - ذكر رحمه الله تفشي الذبح للقبور والأضرحة في زمانه ثم قال: وإن لم يكن هذا كفرا فجهل عظيم، وغباوة جسيمة، وفي صحيح الإمام مسلم عن علي رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لعن الله من ذبح لغير الله» (¬1). قال بعض العلماء: كالذبح على أضرحة الأولياء، وهذه الذبيحة لا تؤكل لأنها مما أهل به لغير الله، ويتناول صاحبها اللعن. (¬2) - وقال: وقد قلت في شدة لرجل يوما يستغيث ببعض الأموات وينادي يا فلان أغثني: قل يا الله. فقد قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (1/ 108) ومسلم (3/ 1567/1978) والنسائي (7/ 266/4434) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (¬2) الرحلة المراكشية (ص.183).

عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (¬1) فغضب، وبلغني أنه قال: إن فلانا منكر على الأولياء، وسمعت من بعضهم أنه قال: الولي أسرع إجابة من الله عز وجل، وهذا من الكفر بمكان. نسأل الله أن يعصمنا من الزيغ والطغيان. (¬2) - وقال: وقد صح أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» (¬3) إلخ، ولم يرد عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم وهم أحرص الخلق على كل خير أنه طلب من ميت شيئا، بل قد صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول إذا دخل الحجرة النبوية زائرا: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبت ثم ينصرف ولا يطلب من سيد العالمين عليه الصلاة والسلام ولا من ضجيعيه المكرمين رضي الله عنهما شيئا، وهم أكرم من ضمته البسيطة، وأرفع قدرا من سائر من أحاطت به الأفلاك المحيطة. (¬4) - وقال: ومن بدعهم الحلف بغير الله مع ورود النهي عن ذلك، فمنهم من يحلف بمن اشتهر في الوقت بالصلاح. ومنهم من يحلف بالأخوة والأبوة والطعام والمحبة، وأمثال هذا الخور الذي لا يخرج إلا من لسان أحمق أخرق لا يميز بين السماء والأرض. ¬

(¬1) البقرة الآية (186). (¬2) الرحلة المراكشية (ص.216 - 217). (¬3) أخرجه: مسلم (2/ 669/974) وأبو داود (3/ 558 - 559/ 3237) وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬4) الرحلة المراكشية (ص.218).

وكل هذا ورد النهي عنه، وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» (¬1). فانظر إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» تعرف أن الحلف بغير الله، ولو مما عظم الله كالكعبة والأولياء منهي عنه شرعا. (¬2) - وقال: أما من حيث النذور في بلادنا اليوم، فلهم فيها ابتداعات قضت على أمر الدين، وتمكن إبليس اللعين من إدخال الفساد على الإسلام وأهله من هذا الباب حتى لا ترى مسلما اليوم إلا وهو بالوثني أشبه إلا ما قل. جاء الإسلام بعقيدة التوحيد ليرفع نفوس المسلمين ويغرس في قلوبهم الشرف والعزة والأنفة والحمية، وليعتق رقابهم من رق العبودية لغير الله، فلا يذل صغيرهم لكبيرهم، ولا يهاب ضعيفهم قويهم، ولا يكون لذي سلطان بينهم سلطان إلا بالحق والعدل. وقد ترك الإسلام بفضل عقيدة التوحيد ذلك الأثر الصالح في نفوس المسلمين في العصور الأولى فكانوا ذوي أنفة وعزة وإباء وغيرة يضربون على يد الظالم إذا ظلم، ويقولون للسلطان إذا جاوز حده في سلطانه قف ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (2/ 7) والبخاري (11/ 649/6646) ومسلم (3/ 1267/1646 [3 - 4]) والترمذي (4/ 93/1534) وقال: "حسن صحيح". النسائي (7/ 7/3773) من طرق عن ابن عمر رضي الله عنهما. (¬2) الرحلة (ص.299).

مكانك، ولا تغل في تقدير مقدار نفسك، فإنما أنت عبد مخلوق، لا رب معبود واعلم أنه لا إله إلا الله. هذه صورة من صور نفوس المسلمين في عصر التوحيد. أما اليوم وقد داخل عقيدتهم ما داخلها من الشرك الباطن تارة والظاهر أخرى. فقد ذلت رقابهم، وخفقت رؤوسهم، وصرعت نفوسهم، وفترت حميتهم، فرضوا بخطة الخسف واستناموا إلى المنزلة الدنيا، فوجد أعداؤهم السبيل إليهم فغلبوهم على أمرهم، وملكوا نفوسهم وأموالهم ومواطنهم وديارهم، فأصبحوا من الخاسرين. والله لن يسترجع المسلمون سالف مجدهم، ولن يبلغوا ما يريدون لأنفسهم من سعادة الحياة وهنائها إلا إذا استرجعوا قبل ذلك ما أضاعوه من عقيدة التوحيد، وإن طلوع الشمس من مغربها وانصباب ماء النهر في منبعه أقرب من رجوع الإسلام إلى سالف مجده ما دام المسلمون يقفون بين يدي السبتي والجزولي والغزواني والتباع والسهيلي واليحصبي وأمثالهم في سائر الأقطار كما يقفون بين يدي الله. يا قادة الأمة ورؤساءها، عذرنا العامة في إشراكها وفساد عقائدها. وقلنا أن العامي أقصر نظرا وأضعف بصيرة من أن يتصور الألوهية إلا إذا رآها ماثلة في النصب والتماثيل والأضرحة والقبور، فما عذركم أنتم وأنتم تتلون كتاب الله وتقرؤون صفاته ونعوته، وتفهمون معنى قوله تعالى: {إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ} (¬1) وقوله مخاطبا لنبيه مولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ¬

(¬1) يونس الآية (20).

موقفه من الصوفية:

نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} (¬1) وقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (¬2). فهل تعلمون أن السلف الصالح كانوا يجصصون قبرا، أو يتوسلون بضريح، وهل تعلمون أن واحدا منهم وقف عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قبر أحد من أصحابه وآل بيته يسأله قضاء حاجة، أو تفريج كربة وهل تعلمون أن السبتي والجيلاني والدسوقي وأمثالهم أكرم عند الله وأعظم وسيلة إليه من الأنبياء والمرسلين والصحابة والتابعين. وهل تعلمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما نهى عن إقامة الصور والتماثيل، نهى عنها عبثا ولعبا، أم مخافة أن تعيد للمسلمين جاهليتهم الأولى. وأي فرق بين الصور والتماثيل وبين الأضرحة والقبور ما دام كل منهما يجر إلى الشرك ويفسد عقيدة التوحيد. (¬3) موقفه من الصوفية: - قال تحت عنوان "بيان ما عليه المدعون للصلاح وانتسابهم لطريق الصوفية": وما هذه الطوائف الوقتية إلا تلوينات عوجاء، بل أفاعي رقطاء، ابتكرتها مخيلة شيطانية، ومهما أردت التفاهم من أحد منهم والتعرف إلى شخصيته وما تنطوي عليه ضلوعه من الأماني والرغبات، وقمت تبحث عنه في ميادين جهاده، وساحات حروبه ونضاله، وقعت على أعمال تأباها ¬

(¬1) الأعراف الآية (188). (¬2) الأنفال الآية (17). (¬3) الرحلة (ص.320 - 321).

شريعة خير المرسلين. (¬1) - ثم قال: إنهم يلعبون بالشرع الشريف ويطبقون الدين على أهوائهم، ويفسرون القرآن بغير معناه، ويجعلون ذلك مصيدة للمال، ولا جدال في أن كثيرين من هذه الطوائف جناة على الأمة الإسلامية إما بجهلهم وجمودهم، وإما بتلاعبهم بالشرع، ومحاولتهم اصطياد الدنيا بشبكة الدين، وإذا قرعهم إنسان بما جاء من الكتاب أو السنة أطلقوا فيه ألسنتهم بالسب، بل ربما كفروه أو فسقوه أو رموه بكل شنيعة. وبالجملة، فإن الجهل الذي عليه طوائف هذا الزمان جهل هائل لا دواء له إلا التعليم والإرشاد، ولو أن هذه الطوائف توقفت إلى أن تتربى تربية الكتاب والسنة، وتتأدب بآدابهما لاستراحت مما هي فيه من إثم وفساد ومما تعانيه من شرور وموبقات، ولكن: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} (¬2).اهـ (¬3) - ثم قال: وأما إصلاح دينك فبمتابعة الكتاب والسنة المحمدية لا غير. وأما التصوف في عصرنا اليوم؛ فقد أصبح زيه حبالة للدنيا وشباكه يصطاد بها قلوب من لا يعرفون من الدين إلا اسمه، وما هو إلا اغترارات بأباطيل يختلقها الجاهل، وتمسكات بخزعبلات يفتريها المدعون بهذه الدعوة الفادحة. وقديما كشف علماء الشريعة الغطاء عن أمر هؤلاء المتصوفة، وبينوا ¬

(¬1) الرحلة (ص.158 - 159). (¬2) الحج الآية (46). (¬3) الرحلة (ص.159).

مثالبهم ومخالفتهم للشرع القويم من كل وجهة، وأنهم أضل الناس من كل جهة، وليعلم كل واحد أن ليس المراد بقول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} (¬1) طريقة من هذه الطرق التي تمسك بها هؤلاء، وحملهم على التمسك بها متفقهة أهلها بالإتيان ببعض الأدلة من الكتاب والسنة في غير محلها، واستعمالهم التقية في دعاويهم المشقية. (¬2) - ثم أورد في ذم التصوف نقولات عن ابن الجوزي من 'تلبيس إبليس' وابن قيم الجوزية من 'إغاثة اللهفان' وغيرهما. وأنكر ما عليه الصوفية من أعمال بدعية شنيعة مثل الرقص حالة الذكر (¬3)، والسماع (¬4). - ثم قال: وبالجملة فقد تأخر الأمر ودان جل الطوائف التي أصيب بها الإسلام بهمجيات خارجة عن الدين وانتصروا لأنفسهم وشياطينهم وحاربوا لأهوائهم أهل التقوى، ورأوا التمسك بالفساد أقوى. (¬5) وبعد سرد جملة كبيرة من أسماء الطرق الصوفية بالمغرب قال: وهذه الطوائف كلها لو أردنا أن نأتي على جميع البدع والمفاسد التي تشبث بها عدد منهم، وما تولد منها لاحتاجت لمجلدات. وبكثرة هذه الطوائف وتباينها، انحط المغرب في أيامنا هذه وفيما قبلها بكثير، وسجل له على صفحات أيامه ¬

(¬1) آل عمران الآية (103). (¬2) الرحلة (ص.160). (¬3) انظر الرحلة المراكشية (ص.171) و (ص.195). (¬4) انظر الرحلة المراكشية (ص.168 - 169) و (ص.175). (¬5) الرحلة (ص.189).

خرق وحمق ما بعده من خرق وحمق. وقد عانى علماء الدين الدافعون لهذه الداهية الدهماء مشاق جسيمة عرفها من عرفها، وأنكرها من لم يقف عليها، ولكن تغلبات الأحوال اقتضت فساد الأعمال. وإذا أمعنت النظر في تعدد طرق القوم، واختلاف أحوالهم، وتباين بعضهم بعضا، علمت أن سبب هذا الاختلاف، وكثرة المناكر، وتطرق البدع، إنما هو من جهة قوم تأخرت أزمنتهم عن عهد ذلك السلف الصالح وادعوا الدخول فيها من غير سلوك شرعي، ولا فهم لمقاصد أهلها وتقولوا عليهم ما لم يقولوا به، حتى صارت كل طريقة في هذه الأزمنة الأخيرة كأنها شريعة أخرى غير ما أتى به مولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -. وأعظم من ذلك أن كل طريقة من هذه الطرق تتساهل في اتباع السنة وترى اختراع العبادات طريقا للتعبد صحيحا. (¬1) - وقال أيضا: وتعدد هذه الطوائف أقبح شئ في العصر، وكأن الدين ليس واحدا، وكأن ربه لم يكن واحدا، وكأن مبلغه عن ربه لم يكن واحدا. وهذا التعدد يدعو إلى الشك، والشك يدعو إلى الإهمال، والإهمال يورث البغض، وعاقبة ذلك الهلاك في دار التحصيل، وفي دار الجزاء. ومن حق علماء الدين أن يدفعوا هذا الباطل بقدر طاقتهم وقوتهم، لأن الباطل يفسد الحياة، ولأن انتشاره يورث الهلكة. (¬2) ¬

(¬1) الرحلة (ص.195). (¬2) الرحلة (ص.213).

موسى جار الله (1369 هـ)

موسى جار الله (¬1) (1369 هـ) موسى بن جار الله التركستاني، القازاني، التاتاري، الروسي. تعلم في المدارس الإسلامية بمدينة قازان، ثم في بخارى، وتولى إمامة الجامع الكبير في بتروغراد، وحج وجاور بمكة ثلاث سنين، وعاد إلى بلاده، ثم قبض عليه وسجن، ثم اضطر إلى الهجرة، ومرض في مصر، وتوفي بها سنة تسع وستين وثلاثمائة وألف. موقفه من الرافضة: له: 'الوشيعة في نقض عقائد الشيعة' وهو مطبوع متداول. إبراهيم بن عبد العزيز السويح (¬2) (1369 هـ) الشيخ إبراهيم بن عبد العزيز بن إبراهيم السويح. ولد في بلدة روضة سدير سنة اثنتين وثلاثمائة وألف، ورحل إلى كثير من البلدان لطلب العلم، فقرأ في مدينة المجمعة، على الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى والشيخ عبد الله العنقري وغيرهما، وجاور في مكة وقرأ على علمائها، منهم الشيخ عبد العزيز ابن مانع ومحمد عبد الرزاق حمزة. عين قاضيا في بلدة العلا ثم في بلدة تبوك. وكان فقيها نبيلا أديبا ماهرا، له أخلاق فاضلة، ذكيا، قوي الحافظة، ذا سكينة ووقار. توفي رحمه الله في آخر رمضان سنة تسع وستين وثلاثمائة وألف. ¬

(¬1) الأعلام (7/ 320 - 321) ومعجم المؤلفين (13/ 36 - 37). (¬2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (1/ 334 - 336).

موقفه من المشركين:

موقفه من المشركين: له كتاب 'بيان الهدى من الضلال في الرد على صاحب الأغلال' رد فيه على كتاب 'هذه هي الأغلال' لعبد الله بن علي القصيمي، وقد وسم فيه الشرائع بأنها أغلال تحول دون التقدم الحضاري، وما تقدمت الدول الأوربية إلا حين تخلت عن دينها المسيحي. (¬1) محمد بن المهابة (¬2) (1370 هـ) العلامة اللغوي محمد المهابة بن سيدي محمد بن الطالب إميجن الجملي، ولد في ضواحي مدينة مقطع الحجار بولاية ألاك البراكنة عام ست وثلاثمائة وألف للهجرة، وحفظ القرآن في صغره، ثم تابع دراسته على علماء المنطقة، ومن أبرزهم الفاروق بن زياد الديماني والأمين بن الشيخ محمد الحجاجي ومحمد سالم بن حد. وبرع في الفقه واللغة وعلومها والحديث ومصطلحه، وكان شديد الذكاء متفوقا على أقرانه في الحفظ والفهم. ولازم الشيخ باب وتأثر به في عقيدته ومنهجه. حج والتقى ببعض العلماء السلفيين منهم محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي. تولى التدريس والقضاء والفتيا في دائرة البراكنة. تتلمذ عليه محمد عمر بن محمد بلال الجملي، ومحمد بن تكدي اللمتوني، ومحمد الشيباني النجمري وغيرهم. ومن مؤلفاته: 'مذهب السلف في التفويض في آيات الصفات وأحاديثها'، وفتاوى مدونة في ¬

(¬1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (1/ 335). (¬2) السلفية وأعلامها بموريتانيا (300 وما بعدها).

موقفه من الصوفية:

مجلد، وغيرهما. توفي رحمه الله في أوائل ذي الحجة من عام سبعين وثلاثمائة وألف للهجرة في مدينة أندر بالسنغال. موقفه من الصوفية: جاء في السلفية وأعلامها في موريتانيا: كما ركز على نقد المتصوفة، فوصفهم بالغلو والبعد عن الحق، واستعباد أتباعهم وساق أبياتا في هذا المعنى. (¬1) موقفه من الجهمية: قال رحمه الله: ... إن السلف الصالح من الصحابة، والتابعين، وأتباعهم من الفقهاء، والمحدثين، مجمعون على إبقاء نصوص الكتاب والسنة على ظواهرها .. والسكوت عليها من غير تعطيل، ولا تشبيه، ولا تكييف، ولا تأويل، بل يعتقدونها حقا بلا تكييف، مع اعتقادهم أن الله تعالى ليس كمثله شيء. وأضاف -رحمه الله- قائلا: إن هذا المذهب هو الذي كان عليه مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك -رحمهم الله- فقد روي عنهم كلهم أنهم أثبتوا الصفات التي وردت في الكتاب والسنة، وقالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف، وهو قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة .. وأما الجهمية فأنكروا ذلك، وتأولوا آيات الصفات وأحاديثها، ¬

(¬1) السلفية وأعلامها في موريتانيا (310).

محمد عبد الله المدني (1371 هـ)

وفسروها على غير ما فسر أهل العلم. (¬1) ثم قال ما نصه: إن أصل ما ذكروه قياس الغائب على الشاهد، وهو أصل كل خطأ، والصواب الإمساك عن أمثال هذه المباحث، والتفويض إلى الله في جميعها .. (¬2) محمد عبد الله المدني (1371 هـ) موقفه من المبتدعة: ذكر الشيخ حماد الأنصاري رحمه الله تعالى في ترجمته لهذا الشيخ، أنه كانت له اليد البيضاء في نشر العقيدة السلفية (بمالي - تنبكتو)، وأن الشيخ حماد ما عرف العقيدة إلا على طريقه، ووصفه بأنه مجاهد كبير وذكر له في مسودته قصائد في الدفاع عن العقيدة السلفية، التي رد بها على المبتدعة في تلك البلاد، فجزاه الله أحسن الجزاء. فوزان السابق (¬3) (1373 هـ) فوزان بن سابق بن فوزان آل عثمان البريدي القصيمي الدوسري النجدي. ولد في بريدة سنة خمس وسبعين ومائتين وألف، ونشأ بها وتعلم على يد مجموعة من الشيوخ منهم الشيخ سليمان بن مقبل والشيخ محمد بن ¬

(¬1) السلفية وأعلامها في موريتانيا (306). (¬2) السلفية وأعلامها في موريتانيا (309). (¬3) علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/ 378 - 383) والأعلام (5/ 162) ومعجم المؤلفين (8/ 81 - 82).

موقفه من المبتدعة:

عمر آل سليم والشيخ محمد بن عبد الله ابن سليم والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ وغيرهم. قال عنه صاحب الأعلام: كان من التقى والصدق والدعة وحسن التبصر في الأمور والتفهم لها على جانب عظيم. وكان رحمه الله من العلماء الأفاضل، وكان مع طلبه للعلم يشتغل بتجارة الخيل والمواشي حتى اختاره الملك عبد العزيز ليكون سفيرا له بدمشق، ثم نقله إلى القاهرة، حيث بدأ دعوته إلى الله علما وعملا معرفا أهل مصر بمعتقد أهل السنة والجماعة ورادا على الطاعنين فيه، إلى أن توفي رحمه الله سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وألف. موقفه من المبتدعة: له: 'البيان والإشهار لكشف زيغ الملحد الحاج مختار'. والكتاب مطبوع متداول يدل على قدرة المؤلف العلمية وتمسكه بالعقيدة السلفية. - قال في مقدمته: أما بعد: فإني لما كنت في دمشق الشام، وذلك في سنة تسع وعشرين وثلاثمائة وألف من هجرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، جمعتني فيها مجالس مع أناس ممن يدعون العلم، وآخرين ممن ينتسبون إليهم. فكانوا لا يتورعون عن الاعتراض على أهل نجد والطعن عليهم في عقيدتهم، وتسميتهم بالوهابية، وأنهم أهل مذهب خامس، والغلاة من هؤلاء يكفرونهم. ولما كان هؤلاء الغلاة الجامدون على التقليد الأعمى: معرضين عن استقراء الحقائق في مسائل الدين من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان من أئمة الهدى والدين في هذه الأمة، وخصوصا الأئمة الأربعة، الذين يزعم هؤلاء الجاهلون تقليدهم، ويغالون

فيه، ويقولون: إن من خرج عن تقليد أحد الأئمة الأربعة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه. ومع ذلك تراهم يخالفون الأئمة الأربعة فيما أجمعوا عليه من أصول الدين، وذلك في توحيد عبادة الله تعالى، وسد الذرائع الموصلة إلى الشرك في عبادته تعالى والإقرار بعلو الله تعالى على خلقه، وإثبات صفاته التي وصف بها نفسه ووصفه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتلقاها عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان من علماء الأمة وأئمتها بالقبول والتسليم، إثباتا من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل. فقد أعرض هؤلاء المبتدعة عن اتباع الكتاب والسنة والسلف الصالح من هذه الأمة، ولم يقلدوا أحد الأئمة الأربعة، بل فتحوا باب الشرك في عبادة الله تعالى، ومثلوا صفاته تعالى بصفات خلقه، فقادهم ذلك إلى الجحود والتأويل الباطل. (¬1) - وقال: فأما قول هذا الملحد -يعني الحاج المختار- في مخاطبته لهؤلاء العلماء "إني أراكم تدعون الناس لبدعة الاجتهاد في الدين وغيرها من البدع" مقدما لها، ومنوها بها على غيرها. فما ذاك إلا لأنها في مذهبه الباطل: أكبر بدعة في الدين، بل هي عنده: أكبر من جميع ما أسنده إليهم من أعمال المنافقين، وأعمال أهل الكتاب الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، يقولون هذا من عند الله وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون. فإن كل من خالف هؤلاء الضالين في مذهبهم الباطل المخالف لكتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -: يسمونه مجتهدا خارجا عن مذاهب الأئمة الأربعة، ¬

(¬1) البيان والإشهار (3 - 4).

كما أنهم يسمون إجماعهم على ضلالهم ومن تبعهم من العوام "إجماع الأئمة" ومن خالفهم فقد خرق إجماع الأمة. فهذه براهينهم مبنية على الكذب والمغالطات، غير ملتفتين إلى ما أجمع عليه الأئمة الأربعة في أصول الدين، فضلا عن فروعه. وهذا الملحد جاهل أعمى متبع لهواه. لذلك يسمي الاجتهاد بدعة في الدين، ولم يدر هذا الجاهل الأحمق أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جوز اجتهاد الصحابة، واجتهد الصحابة من بعده، واتفق العلماء من كل مذهب: على أن الاجتهاد فرض من فروض الكفايات، لا يجوز خلو عصر منه. (¬1) ثم ساق قطوفا من كلام العلماء في ذلك. - وقال: وأما قول الملحد: "ولا ريب أن دعواكم الرجوع لما كان عليه السلف الصالح" إلى آخر كلامه. فجوابنا عنه: أننا بحمد الله لم نخرج عما كان عليه السلف الصالح حتى ندعي الرجوع إليه. هذا جوابنا إن كان يريد ذلك. وأما إن كان قصده: أننا ندعي اتباع السلف الصالح والرجوع إليهم، واتباع سبيلهم قولا وعملا: فهذا ما ندين الله تعالى به وندعو إليه، بل نقر إقرارا أصوليا لا إلزاميا: بأن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم من أئمة الهدى والدين -كالأئمة الأربعة وأمثالهم ومن سلك سبيلهم إلى يوم القيامة- كانوا على الكتاب والسنة، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، وبهم قامت السنة، وبها قاموا. فهم أعلام الهدى، ومصابيح الدجى، وقد جاهدوا في دين الله حق جهاده والذب عنه، حتى لقوا ربهم، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. ¬

(¬1) البيان والإشهار (10 - 11).

فأما الذين يدعون أنهم على مذهب السلف وأنهم مقلدون للأئمة الأربعة، وهم مخالفون لهم في الأصول، فضلا عن الفروع. فليسوا على مذهب السلف، ولا ممن قلدوا الأئمة الأربعة، وليسوا على كتاب ولا سنة -أمثال هذا الملحد، ومن قلدهم- وكيف يكون على مذهب السلف أو مقلدا للأئمة الأربعة: من لا يجيز التعبد والتعامل ولا الفتوى بما في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما من كتب الحديث التي صحت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باتفاق الأمة؟ لا يخرج عن هذا الاتفاق إلا مبطل معاند. (¬1) - وقال -رادا على الملحد مختار في طعنه على أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب-: فنحن الوهابيون بحمد الله: أن هدانا إلى الحق، فأصل مذهبنا وقواعده كلها: في القرآن، ومنه أخذناها، وبه تلقينا سنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بالقبول، وحكمناها على كل قول سواها. فأطعناه واتبعنا أمره، تصديقا وانقيادا لقوله تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬2) وقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (¬3) وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)} (¬4) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ¬

(¬1) البيان والإشهار (17). (¬2) الحشر الآية (7). (¬3) النساء الآية (80). (¬4) المائدة الآية (92).

إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (¬1) وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (¬2) وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)} (¬3) وقوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (¬4) وقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)} (¬5) وقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)} (¬6) وقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} (¬7) وقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} (¬8) وقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ ¬

(¬1) الأنفال الآية (24). (¬2) الأنفال الآية (46). (¬3) آل عمران الآية (132). (¬4) النور الآية (54). (¬5) الفتح الآية (17). (¬6) محمد الآية (33) .. (¬7) الأحزاب الآية (71). (¬8) النور الآية (63).

فَأُولَئِكَ هُمُ الفائزون (52)} (¬1) وقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} (¬2) وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12)} (¬3) إلى غير ذلك من الآيات في القرآن كثير، يأمر جل ثناؤه فيها بطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - واتباعه، أمرا مطلقا لم يقيده بشيء، كما أمر باتباع كتابه العزيز، الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} (¬4) فمن لم يعمل بما صح من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، ويتلقاها بالقبول التام، لاستقلالها بتشريع الأحكام، وأنها كالقرآن في تحليل الحلال، وتحريم الحرام: فقد كذب القرآن ولم يؤمن بأن الله أرسل محمدا وأنزل عليه القرآن ليبلغه ويبينه للناس، وبهذا يتبين فساد ما افتراه هذا الملحد على الوهابيين في هذا البهت الشنيع. (¬5) - وقال: وأما قوله: "زعموا أن القيام في المولد الشريف بدعة". فالجواب: أن القيام والقعود وإقامة الموالد كلها بدعة، إذا لم يقترن بها ما هو واقع فيها اليوم من المفاسد، وأنواع الفسوق. فإذا انضمت إليها هذه ¬

(¬1) النور الآية (52). (¬2) النساء الآية (69). (¬3) التغابن الآية (12). (¬4) فصلت الآية (42). (¬5) البيان والإشهار (99 - 100).

المنكرات التي يجب أن يصان عنها جناب المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ويطهر ذكره عن أوساخها، فلا يشك عاقل -فضلا عن عالم- في أنها من البدع المحرمة التي لم تكن على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا عهد أصحابه ولا القرون المفضلة من بعدهم. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (¬1) وفي رواية: «من صنع أمرا على غير أمرنا فهو رد» (¬2). فهل لهذا الملحد أن يأتينا بدليل عن الله تعالى، أو عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - في إقامة هذه الموالد، أو عن أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنه، أو أحد من التابعين، أو أحد من الأئمة الأربعة؟ وإذا كان هذا ليس معروفا من أقوال وأفعال من ذكرناهم، فلا شك ولا ريب في أنه مردود على قائله، مأزور فاعله بنص حديث عائشة رضي الله عنها الذي قدمناه آنفا. (¬3) وقال: فأما قول الملحد: "فأسألكم من هم السلف؟ إلى آخره". فنقول له، وبالله التوفيق: سلفنا من أخرجنا الله به من الظلمات إلى النور، وافترض الله علينا طاعته وتعظيمه وتوقيره، وسدَّ إليه جميع الطرق، فلم يفتح لأحد إلا من طريقه. من عَلّم الله به من الجهالة، وبصّر به من العمى، وأرشد به من الغي وفتح به أعيناً عميا وآذاناً صما، وقلوبا غلفاً: سيد الأولين والآخرين، من جاءنا بها بيضاء نقية، القائل: «تركتكم على المحجة ¬

(¬1) تقدم تخريجه في مواقف ابن رجب سنة (795هـ). (¬2) أخرجه أبو داود (5/ 12 - 13/ 4606) وأخرجه الإمام أحمد (6/ 73) بلفظ: «من صنع أمرا من غير أمرنا فهو مردود». (¬3) البيان والإشهار (ص.299).

البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك» (¬1) وروى الإمام مالك رحمه الله تعالى في الموطأ (¬2) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله» وقال - صلى الله عليه وسلم - في خطبته في حجة الوداع: «وقد تركت فيكم ما لم تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله تعالى» (¬3) وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم. ثم أقبل علينا بوجهه، فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب. فقال رجل: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع فأوصنا. فقال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن كان عبداً حبشياً. فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، ولك بدع ضلالة» (¬4) وعن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أكرموا أصحابي، فإنهم خياركم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يظهر الكذب» -الحديث بطوله رواه النسائي وإسناده صحيح (¬5)، ورجاله رجال الصحيح، إلا إبراهيم الخثعمي، فإنه لم يخرج له الشيخان. وهو ثقة ثبت، ذكره الجزري. كذا في المرقاة واللمعات. قاله في الدين الخالص. ¬

(¬1) سيأتي تخريجه في مواقف حافظ الحكمي سنة (1377هـ). (¬2) بلاغاً (2/ 899). (¬3) تقدم تخريجه في مواقف أبي الزناد سنة (130هـ). (¬4) تقدم تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ). (¬5) السنن الكبرى (5/ 388/9223). وقد توبع عنده، انظر الأحاديث (9219 - 9226) ..

موقفه من المشركين:

فليس لنا سلف سوى المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وما جاءنا به من كتاب ربه وسنته المطهرة، وما أرشدنا إليه من سنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، وأصحابه خيار هذه الأمة، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، نعرف لهم فضلهم وأمانتهم، ونشهد بصدقهم وإمامتهم، لإرشاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمره لنا باتباعهم، واقتفاء أثرهم. فنحن مع نصوص الكتاب والسنة دائرون، ولمن قال بهما متبعون. لا تأخذنا فيهما لومة لائم. ولا يثنينا عنهما إرجاف منحرف في ضلالته هائم. فإن خفي علينا حكم، أو أشكل علينا فهم معنى، رجعنا فيه إلى من أرشدنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى اتباعهم، فيسعنا ما وسعهم؛ فقد أكمل الله لنا الدين وأتم علينا النعمة، فله الحمد والمنة، لا نحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه. (¬1) موقفه من المشركين: - قال في كتاب 'البيان والإشهار لكشف زيغ الملحد الحاج مختار': وأما مسألة (اطلاع الرسول - صلى الله عليه وسلم - على علم الغيب) فإن هذا الملحد ومن اتبعه من المارقين من الدين، يزعمون أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلم الغيب استقلالا، كما يعلمه الله تبارك وتعالى {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)} (¬2) وهذا الزعم ينكره كل مؤمن بالله وبكتابه وبرسوله - صلى الله عليه وسلم -. وكل مؤمن يؤمن بأن الله تعالى يطلع من يشاء من أنبيائه ورسله على بعض ¬

(¬1) البيان والإشهار (ص.19 - 20). (¬2) الكهف الآية (5).

المغيبات. وهذه مسألة لا تحتاج إلى جدل، كيف ونصوص الكتاب الكريم ناطقة بذلك؟! يقول تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)} (¬1). ويقول تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)} (¬2) ويقول تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)} (¬3) وقال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (¬4) -الآية، وقال تعالى: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} (¬5) فمن لم يقف مع هذه النصوص، ويعطي كل ذي حق حقه. فقد جعل مع الله إلها غيره. - قال الملحد: "البحث الثاني: في الزيارة، اعلم يا أخي -شرح الله ¬

(¬1) النمل الآية (65). (¬2) الأعراف الآية (188). (¬3) الأحقاف الآية (9). (¬4) الجن الآيتان (26و27). (¬5) هود الآية (31).

قلبي وقلبك بنور الإخلاص- أن لنا معشر المؤمنين وجدانا في حب نبينا عليه الصلاة والسلام يكفينا عن الاستدلال والاستشهاد على ما نحن في صدده. فمن شاء فليتبعنا فيتذوق بما ذقنا، ولا تنازع في الأذواق". أقول: في كلام هذا الجاهل من الركاكة وسوء التعبير: ما هو اللائق بجهله وغروره في نفسه. إذ أنه لم يكن من الذين شرح الله صدورهم للإسلام، ونور قلوبهم بنور الإيمان المتلقى من مشكاة النبوة، وإنما هو من الجامدين على العادات الجاهلية، والتقاليد الوثنية، التي نشأوا عليها، وحكموها في وجدانهم الضال. فجعلوها دينا يقدمونها على كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فلم يكن مصدر وجدانهم عن علم ولا هدى ولا نور، وإنما هي عن بلادة وتقليد أعمى، وغرور بما ورثوا من الجهالات والضلالات البعيدة كل البعد عن خالص الإيمان بالله وبرسوله، وما جاء به من عند الله تعالى من تعزيره وتوقيره، واتباع النور الذي أنزل معه. فمواجيدهم صادرة عن هوى نفوسهم الأمارة بالسوء، وعن وسوسة الشيطان الذي أضلهم عن سلوك سبيل المؤمنين. لذلك يقول الأحمق: "إنه يكتفي بوجدانه فيما يزعمه من حب نبينا عليه الصلاة والسلام عن الاستدلال والاستشهاد لما هو في صدده" ويعني به: ما سيذكره من الغلو الذي آل بهم إلى الكفر الشنيع، ومن ثم حذر ونهى الله عنه ورسوله في حقه عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وفي حق كل مخلوق، وذلك فيما يموه به عباد القبور من اسم الزيارة عامة، وزيارة قبره الشريف خاصة، فإن حقيقة هذه الزيارة عندهم هي: دعاء الأموات، وصرف خالص العبادة لهم من دون الله فاطر الأرض والسموات.

وأما محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم -: فإنها تبع لمحبة الله تعالى. وقد ادعى قوم محبة الله تعالى، فقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (¬1) وكل من ادعى ما ليس فيه، طولب بالدليل {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)} (¬2) وكيف يدعي محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من هو خصم لدعوته ودعوة إخوانه من الرسل، وهي توحيد الله تعالى؟ قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} (¬3) وهذا الملحد وإخوانه من عباد القبور يصرفون العبادة للموتى الذين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ويسمونها زيارة القبور، ويقول هذا الأحمق بكل وقاحة: "فمن شاء فليتبعنا فيتذوق بما ذقنا، ولا تنازع في الأذواق". فنقول له: ومن أنت أيها الجهول الظلوم الكفار، حتى تكون متبوعا؟! ألست من حثالة الجهلة المقلدين، الدعاة إلى غير سبيل المؤمنين؟ فبعدا وسحقا للقوم الظالمين. ثم يقال لهذا الإمعة: إن التنازع كل التنازع في الأذواق التي جعلتها أساس دينك؛ فبطل وانهار فوق رأسك {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ ¬

(¬1) آل عمران الآية (31). (¬2) النمل الآية (64) .. (¬3) الأنبياء الآية (25).

حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} (¬1) ولولا التنازع في الأذواق، ما كان في الدنيا راد ولا مردود عليه، ولا كان شيطان أبى واستكبر وكان من الكافرين. ولا كنت وسلفك من أولياء الشيطان الرجيم. ثم إن هذا الأحمق قام يتهوس بكلام كله نفاق ورياء لا يهمنا. وليس هو من موضوعنا في شيء، إلا أنه زعم فيه "أن من لم يرقص ويتمرغ في الرمل في عرفات" وما ذكر معه من هراء القول والسخرية حيث قال: "فإنه لا يشعر بشيء، ولايدرك شيئا، ولا يجد لذة باغتنام أجر، ولا رغبة في زيادة فضل -إلى أن قال- بل قف في الحرم المكي، واصرف نظرك إلى الناس إذا قال المؤذن يا أرحم الراحمين ارحمنا. ترى من خر مصروعا. ومن علا نحيبه وبكاؤه، وشخص ببصره إلى السماء مندهشا" إلى آخر ما هذى به من هذه الخرافات والنفاق الخالص الذي ينضح بخبيث الشرك والكفر والفسوق عن أمر الله وهدى رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فإن هذا هو شأن هؤلاء المنافقين الدجالين الذين يتصنعون في هذه المجتمعات الشريفة أنواع الحيل لبلوغ مأرب في نفوسهم مكرا وخداعا، فليس هؤلاء السفلة -إخوان الحاج مختار- أفضل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أتقى لله، ولا أعرف به منهم، فإنهم لم يعملوا هذه الأعمال. فلم يرقصوا ولم يتمرغوا في الرمل، ولم يصرعوا متخبطين، كما يصرع حزب الشيطان من مس وليهم الشيطان الرجيم، وإنما كانوا كما ¬

(¬1) فاطر الآية (8).

وصفهم الله، وأثنى عليهم بقوله: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} (¬1). ثم قال الأحمق: "أما الأحاديث الواردة بفضل زيارة الرسول عليه الصلاة والسلام، والأنبياء والأولياء والصالحين، وما يحصل منها من البركات والخيرات: فهي أكثر من أن تجمع في مختصر مثل هذا" إلى آخر ما هذى به. فالجواب: أن الزيارة الشرعية لقبور موتى المؤمنين، من الأنبياء والأولياء والصالحين وكافة قبور المسلمين: سنة متفق عليها، لا خلاف فيها عند كافة المسلمين. وأما القبور الوثنية التي بنيت عليها القباب، وأقيمت عليها الأستار والأنصاب، وبنيت عليها المساجد، فكل ذلك مما لعن رسول الله فاعله. وكذلك الزيارة البدعية الشركية المخالفة لهدي الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وما كان عليه أصحابه رضي الله عنهم، ومن تبعهم من القرون المفضلة، وما يحدث بسببها من الغلو بأصحاب القبور وما يصرف لهم من أنواع العبادات من الدعاء والخوف والرجاء ونذر النذور لهم، وغيرها مما لا يجوز صرفه لغير الله تعالى؛ فإن هذه هي الزيارة المحرمة وصاحبها ملعون على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذه هي الزيارة التي ننكرها وينكرها كل من نور الله بصيرته بهدى الإسلام، ورزقه فهما صالحا يميز به بين الحق والباطل. وأما من أغواهم الشيطان: فإنهم يجعلون مع الله تعالى آلهة أخرى، يصرفون لهم ما لله من العبادة من الدعاء والخوف والرجاء، وغير ذلك مما ¬

(¬1) الرعد الآية (28).

عليه عباد القبور من الغلو بأصحابها. وهذا أمر واقع لا ينكره إلا مكابر معاند، أمثال الحاج مختار ومن قلدهم. وأما قوله: "إن الشيطان أغوانا، وإننا نزعم أن زيارة قبور الرسل والأنبياء والتوسل بجاههم: شرك بالله تعالى". فهذا كذب. والذي ننكره من ذلك: هو ما صح الخبر عن رسول الله بالنهي عنه، وكل ما فيه صرف حق الله تعالى لغيره كما تقدم ذكره آنفا. وأما قوله: "إننا نتزلف للأمراء، وأن هذا التزلف منا أقبح من عبادة الأوثان والأصنام". فهذا القول من هذا الملحد من هذر المجانين، ونزغات الشياطين، التي تحلى بها وبأمثالها من الأقوال الباطلة هذا الأحمق. (¬1) - وقال رحمه الله: إن هذا الملحد ومن قلده من دعاة الشرك في عبادة الله تعالى -أمثال دحلان والنبهاني- ممن جعلوا الأموات وسائط بين الله وبين عباده، وصرفوا لهم خالص العبادة من دون الله تعالى. هؤلاء هم الذين أضلوا كثيرا من جهلة المسلمين، وفتحوا لهم أبواب الشرك في عبادة الله تعالى. وسموها زيارة القبور، وطلب الشفاعة من أهلها، وأن الأموات هم وسيلة الأحياء إلى الله تعالى، لأنهم أقرب منهم إلى الله تعالى، وسواء سموا هؤلاء المدعوين أنبياء أو أولياء، فإنهم عباد الله تعالى. يقول الله تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ¬

(¬1) البيان والإشهار (295 - 299).

(2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)} (¬1) ويقول تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)} (¬2) إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الصحيحة، نصوص بهذا المعنى لا تقبل تحريفا ولا تأويلا، قد صد عنها هؤلاء الوثنيون الذين تجب محاربتهم وإشهار ضلالهم، وتحذير جهلة المسلمين من سلوك سبيلهم، عملا بهذه الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) - وقال: يزعم هذا الملحد المارق بأننا أعداء لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -. وما ذنبنا عنده إلا اتباعنا لكتاب الله تعالى وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وهو أننا لا نغلو بالقبور وأصحابها، ولا نصرف للمقبورين حقا من حقوق الله تعالى، ولا نتخذها مساجد، ممتثلين أمر نبينا - صلى الله عليه وسلم - فيما جاءتنا به الأحاديث الصحيحة الصريحة، التي خرجها البخاري ومسلم وأهل السنن والإمام مالك رحمهم الله تعالى. فمنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على ¬

(¬1) الزمر الآيتان (2و3). (¬2) الزمر الآيتان (43و44). (¬3) البيان والإشهار (308 - 309).

قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (¬1) وحديث ابن مسعود رضي الله عنه: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد» (¬2) وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قاتل الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (¬3) وحديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس يقول: «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل. فإن الله قد اتخذني خليلا، كما اتخذ إبراهيم خليلا. ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا. ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد. ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك» (¬4) وحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح خميصة له على وجهه، إذا اغتم بها كشفها، فقال وهو كذلك: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». قالت عائشة رضي الله عنها: يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن خشي أن يتخذ مسجدا (¬5). وفي رواية مسلم "وصالحيهم" ومع هذه النصوص التي لا تقبل المغالطة. فقد بلغ الغلو بهذا الملحد مبلغا من الشرك لم يصل إليه إلا عبدة الأصنام. يقول عنا: "إننا لو جئنا إلى المدينة المنورة في ¬

(¬1) تقدم تخريجه ضمن مواقف ابن حجر الهيثمي سنة (973هـ). (¬2) تقدم تخريجه ضمن مواقف ابن عبد الهادي سنة (744هـ). (¬3) أحمد (2/ 284) والبخاري (1/ 700/437) ومسلم (1/ 376/530) وأبو داود (3/ 553/3227) والنسائي (4/ 401/2046) وفي الكبرى (4/ 257/7092) من طرق عن أبي هريرة. (¬4) مسلم (1/ 377/532). (¬5) أحمد (6/ 34) والبخاري (1/ 700/435 و436) ومسلم (1/ 377/531) والنسائي (2/ 370 - 371/ 702) من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهم.

شهر محرم حينما يأتي الزوار القافلون من الحج، ورأينا ما يفعله مئات ألوف الحجاج من مسلمي كافة الأقطار حول حجرة الرسول الطاهرة من الطواف والتوسل واللياذ بحماه. ونسمع عجيجهم وثجيجهم، وبكاءهم ونحيبهم، لعميت عيوننا وانفطرت قلوبنا، وانشقت أفئدتنا -إلى آخر ما ذكره". ونحن نجيب هذا المارق: بأنه قد يصيبنا أكثر مما ذكره إذا رأينا وسمعنا ما يقوله عنهم مما يغضب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. وذلك أسفا منا على المسلمين الذين بدلوا الهدى ضلالا، والتوحيد شركا، وطاعة الرسول محادة ومشاقة. وكيف لا ينفطر قلب كل مسلم يرى تغيير معالم الدين، ويسمع الشرك برب العالمين في مهبط وحيه، وفي حرم نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وفي جوار قبره الشريف؟! فهل فرض الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - الطواف بغير الكعبة؟! وهل فعل ذلك الصحابة رضي الله عنهم أو التابعون لهم بإحسان من القرون المفضلة؟! وهل كان العجيج والثجيج والبكاء والنحيب إلا لله وحده لا شريك له في مناجاته في الخلوات، وفي بيته الحرام، ومشاعر الحج التي جعلها الله قياما للناس وأمنا يؤدون فيها مناسكهم بين العجيج والثجيج والبكاء والنحيب، لا يذكرون غير الله تعالى، ولا يتوسلون إليه إلا بالأعمال الصالحة عائذين بجلاله تعالى، لائذين بحماه الذي لا يرام {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} (¬1) {أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ ¬

(¬1) البقرة الآية (186).

الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)} (¬1) هذا هو خالص العبادة لله تعالى، بل مخها، صرفه عباد القبور لولائجهم الموتى من دون الله تعالى {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (¬2) ... {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} (¬3) وما سبب ذلك إلا الغلو بالصالحين، ومجاوزة الحد الذي شرعه الله تعالى من حقوق أنبيائه وأوليائه. قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} (¬4) -الآية، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)} (¬5) وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)} (¬6): (هذه أسماء رجال صالحين في قوم نوح. فلما ماتوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا لهم أنصابا، ¬

(¬1) النمل الآية (62). (¬2) البينة الآية (5). (¬3) البقرة الآية (59). (¬4) النساء الآية (171). (¬5) المائدة الآية (77). (¬6) نوح الآية (23).

عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (1373 هـ)

وصوروا تماثيلهم. فلما مات أولئك ونسي العلم عبدت)، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم. إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله» (¬1) وقال - صلى الله عليه وسلم - لمن قال له: ما شاء الله وما شئت: «أجعلتني لله ندا؟ قل ما شاء الله وحده» (¬2).اهـ (¬3) عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (¬4) (1373 هـ) الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل بن تركي بن عبد الله بن محمد ابن سعود، من آل مقرن. ولد في الرياض (بنجد) سنة ثلاث وتسعين ومائتين وألف. وخاض حروبا كثيرة من أجل توحيد البلاد، وكان شجاعا بطلا لا يخاف في الله لومة لائم، انتهى به عهد الفروسية في شبه الجزيرة العربية. وكان كريما لا يجارى، خطيبا، لا يبرم أمرا قبل إعمال الروية فيه، يستشير ويناقش، ويكره الملق والرياء. توفي بالطائف ودفن في الرياض سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وألف رحمه الله تعالى. كان هذا الملك على نهج سلفه في تبني العقيدة السلفية والدفاع عنها، وحمايتها وتأييدها بالمال والرجال والنفس، وكانت المملكة في عهده مأوى ¬

(¬1) أحمد (1/ 47) والبخاري (12/ 174/6830) مطولا. وأخرجه بدون محل الشاهد: مسلم (3/ 1317/1691) وأبو داود (4/ 572 - 573/ 4418) والترمذي (4/ 30/1432) وابن ماجه (2/ 853/2553). (¬2) سيأتي تخريجه ضمن مواقف الشيخ الألباني سنة (1420هـ). (¬3) البيان والإشهار لكشف زيغ الملحد الحاج المختار (316 - 318). (¬4) الأعلام (4/ 19 - 20).

موقفه من المبتدعة:

لكل سلفي. وكان رحمه الله يستطلع جميع البلاد الإسلامية، فكل من بلغه عنه أنه على هذه العقيدة المباركة، كاتبه، وإن أمكن أحضره إليه وقربه. وأما علماء بلده وخصوصا سلالة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فلا تسأل عن الحفاوة والاستشارة وتعميدهم للفتوى، والفصل بين الناس. وكاتب رحمه الله الكثير من خارج قطره يدعوهم إلى عقيدة السلف ويشرحها لهم، ويبين لهم بطلان مزاعم الحاقدين على الدعوة السلفية، وأنما هو شيء اخترعه الحاسدون والحاقدون. وقد أمر رضي الله عنه بطبع كثير من كتب السلف وتوزيعها بالمجان على طلبة العلم، وله في ذلك سنن وأيادي بيضاء، فجزاه الله خيرا وأسكنه جنة الفردوس. موقفه من المبتدعة: نموذج من رسائله السلفية: جاء في الدرر السنية: من عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل إلى جناب الأخوين المكرمين الشيخ الفاضل أبو اليسار الدمشقي وناصر الدين الحجازي سلمهما الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد: فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو على نعمه التي من أجلها نعمة الإسلام، ونشكره سبحانه إذ جعلنا من أهلها وأنصارها والذابين عنها، ونسأله أن يصلي على عبده ورسوله وحبيبه وخيرته من خلقه محمد وآله وصحبه وحزبه. ورد علينا ردكم على عبد القادر الاسكندراني، فرأيناه ردا سديدا، وجوابا صائبا مفيدا، وافيا بالمقصود، فحمدنا الله على ما مَنَّ به عليكم من

معرفة الحق والبصيرة فيه، وعرضناه على مشايخ المسلمين فاستحسنوه وأجازوه، فالحمد لله الذي جعل لأهل الحق بقية وعصابة تذب عن دين المرسلين، وتحمي حماه عن زيغ الزائغين وشبه المارقين والملحدين، فلربنا الحمد لا نحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه وفوق ما يُثني به عليه خلقه، وهذه منة عظيمة ومنحة جليلة جسيمة حيث جعلكم الله في هذه الأزمان التي غلب على أكثر أهلها الجهل والهوى، والإعراض عن النور والهدى، واستحسنوا عبادة الأصنام والأوثان، وصرفوا لها خالص حق الملك الديان، ورأوا أن ذلك قربة ودين يدينون به، ولم يوجد من أزمان متطاولة من ينهى عن ذلك أو يغيره. فعند ذلك اشتدت غربة الإسلام واستحكم الشر والبلاء، وطمست أعلام الهدى، وصار من ينكر ذلك ويحذر عنه خارجيا قد أتى بمذهب لا يعرف، لأنهم لا يعرفون إلا ما ألفته طباعهم وسكنت إليه قلوبهم، وما وجدوا عليه أسلافهم وآباءهم من الكفر والشرك والبدع والمنكرات الفظيعة، فالعالم بالحق والعارف له والمنكر للباطل والمغير له يعد بينهم وحيدا غريبا. فاغتنموا رحمكم الله الدعوة إلى الله وإلى دينه وشرعه، ودحض حجج من خالف ما جاءت به رسله ونزلت به كتبه من البينات والهدى، وأن تكون الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، بالحجة والبيان، حتى يمن الله الكريم عليكم بمن يساعدكم على هذا، فإن القيام في ذلك من أوجب الواجبات، وأهم المهمات، وأفضل الأعمال الصالحات لا سيما في هذا الزمان، الذي قل خيره وكثر شره، قال - صلى الله عليه وسلم -: «من دعا إلى هدى كان له من

عبد الله بن عبد العزيز العنقري (1373 هـ)

الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء» (¬1). وقال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم» (¬2). ونحن إن شاء الله من أنصاركم وأعوانكم. ومن حسن توفيق الله لكم أن أقامكم في آخر هذا الزمان دعاة إلى الحق وحجة على الخلق، فاشكروه على ذلك، واعلموا أن من أقامه الله هذا المقام لا بد أن يتسلط عليه الأعداء بالأذى والامتحان، فليقتد بمن سلف من الأنبياء والمرسلين ومن على طريقهم من الأئمة المهديين، ولا يثنيه ذلك عن الدعوة إلى الله. فإن الحق منصور وممتحن، والعاقبة للمتقين في كل زمان ومكان. وهذه هدية نهديها إليكم من كلام علماء المسلمين، وبيان ما نحن ومشائخنا عليه من الطريقة المحمدية والعقيدة السلفية، ليتبين لكم حقيقة ما نحن عليه وما ندعو إليه، نحن وسلفنا الماضون. نسأل الله لنا ولكم التوفيق والهداية لأقوم منهج وطريق والسلام. (¬3) عبد الله بن عبد العزيز العنقري (¬4) (1373 هـ) عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الرحمن العنقري من آل عبد الرحمن. ولد في بلدة ثرمداء سنة تسعين ومائتين وألف، وقتل والده وله من العمر سنتان، ثم كف بصره في السابعة من عمره، فتوجه إلى طلب العلم الشرعي، فقرأ على ¬

(¬1) تقدم تخريجه في مواقف أسد السنة سنة (212هـ). (¬2) تقدم تخريجه في مواقف أسد السنة سنة (212هـ). (¬3) الدرر السنية (1/ 303 - 305). (¬4) علماء نجد خلال ثمانية قرون (4/ 265 - 279) والأعلام (4/ 99) والمستدرك على معجم المؤلفين (423 - 424).

موقفه من المبتدعة:

الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف والشيخ إسحاق بن عبد الرحمن والشيخ محمد ابن محمود والشيخ حمد بن فارس وغيرهم. ولي القضاء بسدير، وانتدب من طرف الملك عبد العزيز لمجموعة من المساعي الإصلاحية بين أطراف متعددة. قال عنه الشيخ محمد بن مانع: كانت له عناية شديدة بالفقه الحنبلي، فصار له آثار حميدة في التحقيق والتدقيق، فقام بالتدريس والتأليف وكتابة الفتاوى المحررة التي سلك فيها مسلك التحقيق من ذكر الدليل والتعليل، والترجيح لما رجحه الدليل من أقوال المجتهدين. وقال عنه تلميذه سليمان بن حمدان: كان فيما بلغني يلقب بالحافظ، لما رزقه الله من سرعة الحفظ وقوة الإدراك، وكان مشايخه الذين أخذ عنهم يجلونه ويحترمونه، هذا مع ما هو عليه من الوقار والتعفف، والتواضع واطراح التكلف، وعدم مزاحمة أرباب المناصب عليها. ولم يزل رحمه الله معتنيا بنشر العلم والتدريس والتأليف إلى أن توفي رحمه الله في اليوم السادس من صفر سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وألف في بلدة المجمعة. موقفه من المبتدعة: له: 'تعليقات على نونية ابن القيم' لا تزال مخطوطة. فيصل بن عبد العزيز آل فيصل آل مبارك (¬1) (1373 هـ) فيصل بن عبد العزيز بن فيصل بن محمد بن مبارك بن راشد آل حمد آل ¬

(¬1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/ 392 - 402) والأعلام (5/ 168).

موقفه من المبتدعة:

الحسيني العنزي ثم الوائلي. ولد في بلد عشيرته (حريملاء) سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة وألف من الهجرة، ثم انتقلت أسرته إلى الرياض، وتوفي والده في المعركة التي دارت بين الملك عبد العزيز وبين الأمير عبد العزيز بن رشيد سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة. تلقى العلوم الشرعية على شيوخ زمانه كالشيخ ناصر بن محمد بن ناصر والشيخ محمد بن فيصل ابن مبارك والشيخ عبد الله بن عبد اللطيف والشيخ سعد بن عتيق والشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع والشيخ محمد بن إبراهيم وغيرهم. بعثه الملك عبد العزيز واعظا ومرشدا إلى بلدان الحجاز وتهامة، وتولى القضاء في عدة بلدان. وكان رحمه الله مولعا بكتب ومؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكان يدرسها لطلبة العلم. وأوقاته كلها معمورة بالتدريس والإفادة، أخذ عنه الشيخ عبد الله بن عبد الوهاب والشيخ عبد العزيز العقل والشيخ حمود ابن متروك البليهد وغيرهم. توفي رحمه الله في ذي القعدة سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وألف في مدينة سكاكة بالجوف. موقفه من المبتدعة: له من الآثار السلفية: 'مقام الرشاد بين التقليد والاجتهاد'. (¬1) ¬

(¬1) علماء نجد (5/ 397).

سيد المختار بن عبد الملك (1375 هـ)

سيد المختار بن عبد الملك (¬1) (1375 هـ) سيد المختار بن عبد المالك الجكني. عالم جليل له اليد الطولى في القرآن الكريم وعلومه والفقه المالكي، وكان شيخ محضرة يدرس فيها العقيدة السلفية من الكتاب والسنة، والقرآن الكريم وعلومه، والفقه وأصوله، واللغة العربية وعلومها، مع قيامه بالفتيا والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. اشتهر بالزهد والورع وقد عاش في الفترة ما بين ست عشرة وثلاثمائة وألف وخمس وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة كما قال تلميذه التلميدي بن محمود. وكان رحمه الله سلفي العقيدة متمسكا بالكتاب والسنة، واقفا عندهما، متبعا للإمام مالك وابن أبي زيد القيرواني. درَّس أبناءه العقيدة السلفية. وكان رحمه الله يذم أهل الكلام وينتقد مناهجهم وينكر على المتصوفة. موقفه من الجهمية: قال تلميذه وابن عمه التلميدي بن محمود وهو يحدثنا عن منهجه في العقيدة فيقول: كان شيخنا سيد المختار بن عبد المالك -رحمه الله- سلفي العقيدة، متمسكا بالكتاب والسنة، واقفا عندهما، مثبتا للصفات الإلهية على الوجه اللائق بالله عز وجل، من غير تشبيه، ولا تكييف، ولا تعطيل، ولا تأويل، وكما هو معروف -يقول الشيخ التلميدي- فإن مسألة الاستواء من أولى المسائل التي احتدم فيها النزاع، واشتهر بين أهل السنة والجماعة من جهة، وبين الجهمية وغيرهم من طوائف المتكلمين من جهة أخرى. وقد كان ¬

(¬1) السلفية وأعلامها في موريتانيا (334 - 337 مع الهامش).

عبد الرحمن بن ناصر السعدي (1376 هـ)

الشيخ سيد المختار يقول فيها بما قاله الإمام مالك وغيره من السلف: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وما قاله ابن أبي زيد القيرواني: من أنه تعالى فوق عرشه المجيد بذاته. وقد منع الشيخ سيد المختار أولاده من دراسة العقيدة الأشعرية، وعلمهم العقيدة السلفية، من الكتاب، والسنة، وألزمهم بحفظ مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني. وكان إذا طلب منه أحد تلاميذه أن يدرس له بعض المتون في العقيدة الأشعرية واضطر لذلك، لا يتجاوز ما يوافق مذهب السلف من تلك المتون، ويترك مما وراء ذلك من مذاهب المتكلمين، قائلا لمن يدرسه: هذا مذهب كلامي لا حاجة لك به فارم به عرض الحائط. وكان رحمه الله يذم أهل الكلام من أي مذهب كانوا، وينتقد مناهجهم وينكر على المتصوفة، ولا يقبل شهادتهم، ولا يصلي خلفهم. (¬1) عبد الرحمن بن ناصر السعدي (¬2) (1376 هـ) العلامة عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن ناصر بن حمد، أبو عبد الله السعدي. ولد في بلدة عنيزة في اثني عشر للمحرم عام سبع وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية، وكان والده واعظا وإماما في مسجد المسوكف. اشتغل بالعلم منذ صغره، ففاق الأقران، وكانت له عناية كبيرة بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وكتب أخرى في التفسير والحديث والتوحيد ¬

(¬1) السلفية وأعلامها في موريتانيا (336 - 337). (¬2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/ 218 - 272) والأعلام (3/ 340) وإتحاف النبلاء بسير العلماء للزهراني (1/ 43 - 75).

والفقه والأصول وغيرها. من شيوخه: الشيخ إبراهيم بن محمد بن محمد بن جاسر والشيخ محمد بن عبد الكريم بن إبراهيم بن صالح الشبل والشيخ محمد الأمين الشنقيطي والشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع وغيرهم. من تلاميذه: الشيخ محمد بن صالح العثيمين والشيخ عبد الله بن عبد العزيز العقيل والشيخ عبد الله بن الرحمن السعدي (ابن الشيخ) والشيخ عبد العزيز بن محمد السلمان وغيرهم. أثنى عليه مجموعة من علماء عصره، منهم الشيخ محمد حامد الفقي حيث قال فيه: لقد عرفت الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي من أكثر من عشرين سنة فعرفت فيه العالم السلفي المحقق، الذي يبحث عن الدليل الصادق، وينقب عن البرهان الوثيق، فيمشي وراءه لا يلوي على شيء. وقال فيه الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: كان قليل الكلام إلا فيما يترتب عليه فائدة، جالسته غير مرة في مكة والرياض وكان كلامه قليلا إلا في مسائل العلم، وكان متواضعا حسن الخلق، ومن قرأ كتبه عرف فضله وعلمه وعنايته بالدليل فرحمه الله رحمة واسعة. وللشيخ من التراث السلفي: 1 - 'الحق الواضح المبين في توحيد الأنبياء والمرسلين'، وهو مطبوع متداول. 2 - 'توضيح الكافية الشافية لابن القيم'، وهو مطبوع كذلك. 3 - 'التفسير' الذي أبدى فيه عقيدته السلفية. وقد ذكرته وبينت ما فيه من دفاع عن العقيدة السلفية في كتابي: 'المفسرون بين التأويل والإثبات

موقفه من المبتدعة:

في آيات الصفات' (¬1). 4 - 'الدرة المختصرة في محاسن الإسلام'. 5 - 'القواعد الحسان في تفسير القرآن'. 6 - 'تنزيه الدين وحملته ورجاله مما افتراه القصيمي في أغلاله'. 7 - 'وجوب التعاون بين المسلمين وموضوع الجهاد الديني'. 8 - 'الدرة البهية - شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية'. 9 - 'الأدلة القواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين'. المصدر: ذكره أبو كمال عبد الغني عبد الخالق في مقدمته على الدرة البهية. 10 - 'التنبيهات اللطيفة على ما احتوت عليه العقيدة الواسطية من المباحث المنيفة'. وهذه الكتب بحمد الله مطبوعة ومتداولة. توفي رحمه الله على إثر مرض أصابه في جمادى الآخرة سنة ست وسبعين وثلاثمائة وألف. موقفه من المبتدعة: كانت لهذا الإمام صولة وجولة في الدعوة إلى العقيدة السلفية، وانتفع به أهل القصيم خاصة والمسلمون عامة. له تراث سلفي جيد. ومن حسن الحظ أن طالبا في الدراسات العليا سجل رسالة علمية -الماجستير- في دراسة آثار الشيخ عبد الرحمن السلفية، وهو ابن الشيخ الفاضل الوقور المحترم عبد المحسن بن حمد العباد أطال الله في عمره ونفع المسلمين بعلمه والابن هو ¬

(¬1) (2/ 694 - 700).

عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد. - من أقواله المباركة: قال رحمه الله في تفسير الفاتحة وهو يتحدث عما تضمنته من الفوائد: ... بل تضمنت الرد على جميع أهل البدع والضلال في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} لأنه معرفة الحق والعمل به. وكل مبتدع وضال فهو مخالف لذلك. وتضمنت إخلاص الدين لله تعالى، عبادة، واستعانة في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)}. فالحمد لله رب العالمين. (¬1) - وقال: فالمتقون يؤمنون بجميع ما جاء به الرسول، ولا يفرقون بين بعض ما أنزل إليه، فيؤمنون ببعضه، ولا يؤمنون ببعضه، إما بجحده أو تأويله، على غير مراد الله ورسوله، كما يفعل ذلك من يفعله من المبتدعة، الذين يؤولون النصوص الدالة على خلاف قولهم، بما حاصله عدم التصديق بمعناها، وإن صدقوا بلفظها، فلم يؤمنوا بها إيمانا حقيقيا. (¬2) - وقال عقب قول الله تعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (¬3): ولهذا كان الكتاب والسنة، كافيين كل الكفاية، في أحكام الدين، وأصوله وفروعه. فكل متكلف يزعم، أنه لا بد للناس في معرفة عقائدهم وأحكامهم، ¬

(¬1) تفسير السعدي (1/ 38). (¬2) تفسير السعدي (1/ 43). (¬3) المائدة الآية (3).

إلى علوم غير علم الكتاب والسنة من علم الكلام وغيره، فهو جاهل، مبطل في دعواه، قد زعم أن الدين لا يكمل إلا بما قاله ودعا إليه. وهذا من أعظم الظلم والتجهيل لله ولرسوله. (¬1) - وقال في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)} (¬2). أي: ومن الناس طائفة وفرقة، سلكوا طريق الضلال، وجعلوا يجادلون بالباطل الحق، يريدون إحقاق الباطل وإبطال الحق. والحال، أنهم في غاية الجهل ماعندهم من العلم شيء. وغاية ما عندهم، تقليد أئمة الضلال، من كل شيطان مريد، متمرد على الله وعلى رسله، معاند لهم، قد شاق الله ورسوله، وصار من الأئمة الذين يدعون إلى النار. {كُتِبَ عَلَيْهِ} أي: قدر على هذا الشيطان المريد {أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ} أي: اتبعه {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} عن الحق، ويجنبه الصراط المستقيم {وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)}. وهذا نائب إبليس حقا، فإن الله قال عنه: {إنما يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} (¬3). فهذا الذي يجادل في الله، قد جمع بين ضلاله بنفسه، وتصديه إلى ¬

(¬1) تفسير السعدي (2/ 242 - 243). (¬2) الحج الآيتان (3و4). (¬3) فاطر الآية (6).

إضلال الناس. وهو متبع ومقلد لكل شيطان مريد، ظلمات بعضها فوق بعض. ويدخل في هذا جمهور أهل الكفر والبدع، فإن أكثرهم مقلدة يجادلون بغير علم. (¬1) - وقال في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9)} (¬2): المجادلة المتقدمة للمقلد، وهذه المجادلة للشيطان المريد، الداعي إلى البدع. فأخبر أنه {يُجَادِلُ فِي اللَّهِ} أي: يجادل رسل الله وأتباعهم بالباطل ليدحض به الحق، {بِغَيْرِ عِلْمٍ} صحيح {وَلَا هُدًى} أي: غير متبع في جداله هذا من يهديه، لا عقل مرشد، ولا متبوع مهتد. {وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8)} أي: واضح بين، فلا له حجة عقلية ولا نقلية. إن هي إلا شبهات، يوحيها إليه الشيطان {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أوليائهم لِيُجَادِلُوكُمْ} (¬3). مع هذا {ثَانِيَ عِطْفِهِ} أي: لاوي جانبه وعنقه، وهذا كناية عن كبره عن الحق، واحتقاره للخلق. فقد فرح بما معه ¬

(¬1) تفسير السعدي (5/ 273). (¬2) الحج الآيتان (8و9). (¬3) الأنعام الآية (121).

من العلم الغير النافع. واحتقر أهل الحق، وما معهم من الحق. {ليضل} الناس أي: ليكون من دعاة الضلال. ويدخل تحت هذا جميع أئمة الكفر والضلال. ثم ذكر عقوبتهم الدنيوية والأخروية فقال: {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} (¬1) أي: يفتضح هذا في الدنيا قبل الآخرة. وهذا من آيات الله العجيبة، فإنك لا تجد داعيا من دعاة الكفر والضلال، إلا وله من المقت بين العالمين، واللعنة، والبغض، والذم، ما هو حقيق به، وكل بحسب حاله. {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9)} أي نذيقه حرها الشديد، وسعيرها البليغ، وذلك بما قدمت يداه. (¬2) - وقال: كما أن في اتباع أمر الله وشرعه من المصالح ما لا يدخل تحت الحصر. ولذلك أمر الله بالقاعدة الكلية والأصل العام فقال: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬3) وهذا شامل لأصول الدين وفروعه، وظاهره وباطنه، وأن ما جاء به الرسول يتعين على العباد الأخذ به واتباعه، ولا تحل مخالفته. وأن نص الرسول على حكم الشيء، كنص الله تعالى، لا رخصة لأحد ولا عذر له في تركه، ولا يجوز تقديم قول أحد على قوله. (¬4) - وجاء في الفتاوى السعدية عنه قال: البدعة: هي الابتداع في الدين، ¬

(¬1) الحج الآية (9). (¬2) تفسير السعدي (5/ 277 - 278). (¬3) الحشر الآية (7). (¬4) تفسير السعدي (7/ 332 - 333).

فإن الدين: هو ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكتاب والسنة. وما دلت عليه أدلة الكتاب والسنة: فهو من الدين. وما خالف ذلك: فهو البدعة. هذا هو الضابط الجامع. وتنقسم البدعة بحسب حالها إلى قسمين: بدع اعتقاد، ويقال لها: البدع القولية، وميزانها قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي في السنن: «وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة: كلها في النار، إلا واحدة» قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: «من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» (¬1). فأهل السنة المحضة: السالمون من البدع، الذين تمسكوا بما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في الأصول كلها، أصول التوحيد والرسالة والقدر، ومسائل الإيمان وغيرها. وغيرهم من خوارج ومعتزلة وجهمية وقدرية ورافضة ومرجئة، ومن تفرع عنهم: كلهم من أهل البدع الاعتقادية، وأحكامهم متفاوتة بحسب بعدهم عن أصول الدين وقربهم، وبحسب عقائدهم أو تأويلهم، وبحسب سلامة أهل السنة من شرهم في الأقوال والأفعال وعدمه. وتفصيل هذه الجملة يطول جدا. والنوع الثاني: بدع عملية، وهو أن يشرع في الدين عبادة لم يشرعها الله ولا رسوله. وكل عبادة لم يأمر بها الشارع أمر إيجاب، أو استحباب، فإنها من البدع العملية، وهي داخلة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملا ليس عليه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في مواقف الآجري سنة (360هـ).

أمرنا، فهو رد» (¬1). ولهذا كان من أصول الأئمة، الإمام أحمد وغيره: أن الأصل في العبادات: الحظر والمنع، فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله ورسوله. والأصل في المعاملات والعادات: الإباحة، فلا يحرم منها إلا ما حرمه الله ورسوله. ولهذا نقول: من قصور العلم جعل بعض العادات التي ليست عبادات بدعا؛ لا تجوز؛ مع أن الأمر بالعكس، فإن الذي يحكم بالمنع منها وتحريمها هو المبتدع. فلا يحرم من العادات إلا ما حرمه الله ورسوله. بل العادات تنقسم إلى أقسام: ما أعان منها على الخير والطاعة، فهو من القرب. وما أعان على الإثم والعدوان، فهو من المحرمات. وما ليس فيه هذا ولا هذا، فهو من المباحات. والله أعلم. (¬2) - وفيها: ولولا الجهل بما جاء به الرسول، والتعصبات الشديدة، وإقامة الحواجز المتعددة، والمقاومات العنيفة لمنع الجماهير والدهماء من رؤية الحق الصريح، والدين الصحيح، لم يبق دين على وجه الأرض سوى دين محمد - صلى الله عليه وسلم -، لدعوته وإرشاده إلى كل صلاح وإصلاح، وخير ورشد وسعادة. ولكن مقاومات الأعداء، ونصر القوة للباطل بالتمويهات والتزويرات، وتقاعد أهل الدين الحق عن نصرته، هي الأسباب الوحيدة التي منعت أكثر الخلق من ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (6/ 180) ومسلم (3/ 1343 - 1344/ 1718 [18]). (¬2) الفتاوى السعدية (ص.51 - 52).

موقفه من المشركين:

الوقوف على حقيقته. (¬1) موقفه من المشركين: - من كلامه رحمه الله: فتمام التوحيد بتمام الإخلاص لله في الاعتقاد والقول والعمل، وبتمام معرفته لله تعالى إجمالا وتفصيلا، وتأصيلا وتفريعا ... وكلما ضعفت منه هذه الأمور، ضعف توحيده. ولهذا كان الشرك في الربوبية، والشرك في الإلهية، والشرك في العبودية، والشرك في أسماء الله وصفاته وأفعاله، منافيا كل المنافاة للعبودية التي هي غاية الحب، مع غاية الذل، لأن من زعم أن لله شريكا في ربوبيته وتدبيره، أو أن له سميا أو مثيلا في صفات كماله، فقد أشرك بربوبية الله، وساوى غير الله بالله، بل ساوى المخلوق بالخالق، والمعبد المدبر بالرب المدبر. ونفى خصائص ألوهية الله تعالى التي حقيقتها تفرده بجميع الكمال. ومن أشرك في عبوديته وإخلاصه، بأن صرف نوعا من عبوديته لغير الله تعالى، فقد نقص توحيده، وأفسد دينه الذي هو الإخلاص المحض، {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (¬2). فأي حب وأي ذل يشتبه بهذا أو يقاربه، إلا حب وذل هو عبودية لغير الله، وشرك به؟ وهي المحبة الشركية الصادرة من المشركين التي مضمونها تسوية آلهتهم برب العالمين، في الذل والتعظيم والحب، ولهذا يقولون في وسط جهنم، معترفين بشركهم، نادمين أشد الندم، شاهدين بغاية ضلالهم: {قَالُوا ¬

(¬1) الفتاوى السعدية (ص.34). (¬2) الزمر الآية (3).

موقفه من الجهمية:

وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97)} (¬1). ومع أن هذا شرك في توحيدهم، فإنهم لا يساوون المؤمنين في حبهم وتعظيمهم، قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} (¬2).اهـ (¬3) - وقال رحمه الله في حديثه عن أنواع التوسل: النوع الثاني: التوسل إلى الله بذوات المخلوقين وجاههم. فهذا: الصواب أنه لا يحل، لأنه لا يتقرب إلى الله إلا بما شرع، وهذا ليس بمشروع. وأيضا فذوات المخلوقين، وإن كان لهم عند الله مقام وقدر وجاه، فهذا ليس لغيرهم، وليس التوسل بهم سببا لشفاعتهم للمتوسل عند الله. ولم يجعله الله من الأمور المقربة إليه، وليس ذلك إلا توسلا بما من الله به على المتوسل، فتعين أنه لا يجوز. النوع الثالث: ما يسميه المشركون توسلا، وهو التقرب إلى المخلوقين بالدعاء والخوف والرجاء والطمع، ونحو ذلك. فهذا وإن سموه توسلا، فهو توسل إلى الشيطان لا إلى الرحمن، وهو الشرك الأكبر الذي لا يغفر لصاحبه إن لم يتب. والله أعلم. (¬4) موقفه من الجهمية: قال رحمه الله: وقعت مناظرة بيني وبين رجل من الفضلاء، ولكنه ¬

(¬1) الشعراء الآيتان (96و97). (¬2) البقرة الآية (165). (¬3) الفتاوى السعدية (20 - 21). (¬4) الفتاوى السعدية (24).

يميل إلى مذهب المتكلمين المنحرفين الذين يقولون بأن العقل يقدم على النصوص الشرعية إذا تعارضت، وأنه يجب تأويل النصوص حتى تتفق مع العقل في مسألة الاستواء والنزول الإلهي ونحوها تبعا لأسلافه، فقلت له: -حين أوَّل، بل حَرَّفَ نصوص الشرع من جنس التحريفات التي يقولها المتكلمون من الجهمية، ومن وافقهم من الأشعرية ولو في بعض الصفات- الموجه إليه الخطاب في هذا المقام أحد رجلين: إما رجل لا يعترف بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وصدقه؛ فهذا يتكلم معه في الأصل في إثبات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وبيان براهينها القوية الظاهرة الكثيرة، فأعيذك بالله أن تكون هذا الرجل، بل أعرف أنك من أعظم من يكفره ولا يعتقد إسلامه. والرجل الثاني: من يعلم أن محمدا رسول الله حقا، وأنه صادق وما جاء به ثابت لا ريب فيه، وأنه إذا أخبرنا بشيء نجزم بثبوت ما أخبرنا به، وأنت لا شك تقول بهذا؛ ومن قال بهذا، فإنه يمتنع عنده أن يجعل العقل مقدما على خبر الرسول الصحيح الثابت، فإيمانك بالرسول وتصديقك له في كل ما أخبر به يوجب عليك أن تقدم قوله وخبره على كل شيء، عقل أو غير عقل. ثم اعلم يا أخي مع ذلك أنه لا يمكن أن يوجد معقول صحيح مسلم فيه عند عقلاء الناس يعارض ما جاء به الرسول، فمدلول كلام الرسول صدق في أخباره، عدل في أوامره ونواهيه، وإذا أصررت أن العقل الذي تدعيه يناقض هذه النصوص، فهذه دعوى يتمكن كل مبطل من قولها، ولا

تغني شيئا باتفاق الناس، فإن عقول أهل الحق المثبتين ما أثبته الله ورسوله كلها متفقة على معنى ما قاله الله ورسوله خاضعة لذلك، مهتدية به، قد ازدادت عقولهم قوة وهداية حين استنارت بالوحي، فلا يرضى عاقل أن يقدم عليها آراء المتكلمين المتهافتة المتناقضة المبنية على الخيالات والتوهمات. فقال: ليس عندي شك في صدق الرسول وثبوت خبره، ولكني لا أفهم من الاستواء إلا من جنس استواء الملوك على عروشهم، ولا من النزول إلا نزول المخلوقين من أعلى إلى أسفل، والله تعالى منزه عن مشابهة المخلوقين. فقلت له: إننا لم نثبت استواء مثل استواء المخلوق، ولا نزولا كنزوله، وإنما نثبت ما أثبته الله منها ومن غيرها على وجه يليق بعظمة الله ويناسب كماله، مع اعتقادنا أن الله ليس كمثله شيء، وأنه منزه عن النقائص وعن مماثلة المخلوقين، فعلينا أن ننتهي إلى الكتاب والسنة، ولا نتجاوز ذلك، فالاستواء معلوم والكيف مجهول، والنزول معلوم والكيف مجهول. فسكت هذا المتأول، وسكوته يدل على أحد أمرين: إما رجوع إلى الصواب، وإما عجز عن نصر باطله، ولكنه تعصب ورضي بالبقاء عليه، وهو الظاهر، إذ لو رجع لصرح لمناظره بذلك. واعلم أن التأويل الذي قبله أهل العلم هو الذي يقصد به بيان مراد المتكلم، فإن لم يكن كذلك، كان من باب التحريف لا من باب التفسير، وتأويلات أهل البدع لبدعهم هي من هذا الباب. (¬1) ¬

(¬1) مجموع الفوائد (116 - 118).

موقفه من المرجئة:

موقفه من المرجئة: - قال رحمه الله: الدين والإيمان يشمل القيام بأصول الإيمان الستة، وشرائع الإسلام الخمس، وحقائق الإحسان التي هي أعمال القلوب التي أصلها الإحسان: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك"، كما هو مذكور في حديث جبريل (¬1). ويترتب على هذا أن المؤمنين ثلاثة أقسام: سابقون بالخيرات، وهم الذين حققوا هذه الأمور ظاهرا وباطنا، وقاموا بواجبها ومستحبها. ومقتصدون، وهم الذين اقتصروا على فعل الواجبات وترك المحرمات. وظالمون لأنفسهم، وهم الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا. ويترتب على هذا أن الإيمان يزيد بزيادة هذه الأمور كثرة وجودة، وينقص بنقص شيء منها، ويترتب على هذا أيضا أن العبد يكون فيه خير وشر وأسباب ثواب وأسباب عقاب، وخصال كفر ونفاق وخصال إيمان. ويتفرع على هذا أنه يستحق من المدح والذم، ومن الثواب والعقاب، بمقدار ما قام به من هذه الأمور المقتضية لآثارها من ثواب وعقاب، ومدح وقدح، وهذا مقتضى حكمة الله وعدله وفضله. (¬2) - وقال رحمه الله: في (الصحيحين) عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها أو أفضلها قول: لا إله إلا ¬

(¬1) تقدم خريجه ضمن مواقف محمد بن أسلم الطوسي سنة (242هـ). (¬2) مجموع الفوائد (16 - 17).

الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» (¬1). هذا الحديث من أعظم أدلة السلف على أن الإيمان يشمل عقائد القلوب وأعمالها وأعمال الجوارح، وأنه درجات متفاوتة، أعلاها وأفضلها على الإطلاق شهادة التوحيد، فإنها الأساس الأعظم لجميع أمور الإيمان، وأدناها أقل إحسان يتصور: "إماطة الأذى عن الطريق"، وخص الحياء بالذكر، لأنه يدعو إلى كل خلق جميل وعمل صالح، وينهى عن ضده. وقد صنف العلماء رحمهم الله في تعداد شعب الإيمان، وتحقيقها: كل عقيدة صحيحة، وإرادة محمودة، وخلق جميل، وعمل صالح، والتفاصيل الواردة في الكتاب والسنة ترجع إلى ذلك: * فمنها: الأصول الستة: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره؛ والشرائع الخمس: الشهادتان، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، فرض ذلك ونفله. * ومنها: أعمال القلوب؛ كمحبة الله، وخوفه، ورجائه وحده، والإخلاص له في كل شيء، والتوكل عليه، والحياء، والصبر، والإنابة، والتقوى، والورع. * ومنها: النصيحة لله ولكتابه ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم. * ومنها: بر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجيران والأصحاب والمعاملين. * ومنها: التواضع للحق والخلق. ¬

(¬1) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي إسحاق الفزاري سنة (186هـ).

* ومنها: ذكر الله على اختلاف أنواعه، وتعلم العلوم النافعة وتعليمها، وكمال المتابعة للرسول، والاستقامة على دينه وهديه وسنته. * ومنها: القيام بحقوق الأهل والمماليك من الآدميين والبهائم ... إلى غير ذلك مما حث عليه الكتاب والسنة. والله أعلم. (¬1) - وقال رحمه الله: وذلك أن أهل السنة والجماعة، يعتقدون ما جاء به الكتاب والسنة، من أن الإيمان: تصديق القلب المتضمن لأعمال الجوارح، فيقولون: الإيمان اعتقادات القلوب وأعمالها، وأعمال الجوارح، وأقوال اللسان، وأنها كلها من الإيمان ... وأن من أكملها ظاهرا وباطنا، فقد أكمل الإيمان، ومن انتقص شيئا منها، فقد نقص إيمانه. وهذه الأمور بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: "لا إله إلا الله" وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان. ويرتبون على هذا الأصل: أن الناس في الإيمان درجات: مقربون، وأصحاب يمين، وظالمون لأنفسهم، لأنهم بحسب مقاماتهم في الدين والإيمان، وأنه يزيد وينقص. فمن فعل محرما، أو ترك واجبا، نقص إيمانه الواجب، ما لم يتب إلى الله. ويرتبون على هذا الأصل: أن الناس ثلاثة أقسام: منهم من قام بهذه وبحقوق الإيمان كلها، فهو المؤمن حقا، ومنهم من تركها كلها، فهذا كافر بالله. ومنهم من فيه إيمان وكفر، وإيمان ونفاق، وخير وشر، ففيه من ولاية الله، واستحقاقه لكرامته، بحسب ما معه من الإيمان، وفيه من عداوة الله ¬

(¬1) مجموع الفوائد (85 - 87).

موقفه من القدرية:

واستحقاقه لعقوبة الله، بحسب ما ضيعه من الإيمان. ويرتبون على هذا الأصل: أن كبائر الذنوب وصغارها، لا تصل بصاحبها إلى الكفر، ولكنها تنقص الإيمان، من غير أن تخرجه من دائرة الإسلام، ولا يخلد صاحبها في النار، ولا يطلقون عليه اسم الكفر، كما تقوله الخوارج، أو ينفون عنه الإيمان، كما تقوله المعتزلة، بل يقولون: هو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته. فمعه مطلق الإيمان. أما الإيمان المطلق فينفى عنه. وهذه الأصول إذا عرفت وجهها، يحصل بها الإيمان بجميع نصوص الكتاب والسنة. (¬1) موقفه من القدرية: - جاء في الفتاوى السعدية: المسألة السابعة والعشرون «اعملوا فكل ميسر لما خلق له»: لما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن قضاء الله وقدره سابق للأعمال والحوادث، وقال بعض الصحابة: ففيم العمل يا رسول الله؟ أجابه بكلمة جامعة مزيلة للإشكال، موضحة لحكمة الله في قضائه وقدره، فقال: «اعملوا، فكل ميسر لما خلق له» (¬2). وذلك شامل لأعمال الخير والشر، وللآجال والأعمار والأرزاق وغيرها. فإن الله بحكمته قد جعل مطالب ومقاصد، وجعل لها طرقا وأسبابا، فمن سلك طرقها وأسبابها التامة يسر لها، ومن ترك السبب، أو فعله على ¬

(¬1) الفتاوى السعدية (14 - 15). (¬2) أخرجه من حديث علي: أحمد (1/ 82،129) والبخاري (8/ 919/4949) ومسلم (4/ 2039 - 2040/ 2647) وأبو داود (5/ 68 - 69/ 4694) والترمذي (4/ 388/2136) وابن ماجه (1/ 30 - 31/ 78).

وجه ناقص لا يوصل إلى مسببه، لم يحصل له، ويسر لضده. فكما أن الأرزاق ونحوها منوطة بقضاء الله وقدره، ومع ذلك إذا ترك العبد السبب الموصل إلى الرزق، أو فعله على وجه ناقص، لم يتم له ما أراد، وإذا يسر له سبب الرزق من أي نوع كان، يتيسر له بحسبه. كذلك الأعمال الموصلة إلى الجنة: من يسر إلى سلوكها تامة لا نقص في شيء من مكملاتها، ولا وجود لمانع من موانعها، فقد علم أنه مخلوق للسعادة، وضد ذلك بضده. فالقضاء والقدر موافق للأسباب، لا مناف لها، شرعا وعقلا وحسا، فإنه قدر الأمور بأسبابها وطرقها، وهو أعلم بها ومن يسلكها، ومن لا يسلكها. فسبق علمه وتقديره لها، لا يوجب ترك العمل، وإنما يوجب السعي التام لمن أحاط علمه بذلك، وعرفه حق المعرفة. فكما أن من ترك النكاح، وقال: إن قدر لي ولد، جاءني ولولم أتزوج ... ومن ترك الغرس والحرث، وقال: إن قدر لي زرع وثمرة، حصلا ولو لم أزرع ... ومن ترك الحركة في طلب الرزق، وقال: إن قدر لي رزق، أتاني من دون سعي وحركة ... من فعل ذلك، عد أحمق جاهلا ضالا. فكذلك من قال: سأترك الإيمان، والعمل الصالح، والله إن كان قدر سعادتي حصلت، فهو أعظم جهلا وضلالا وحمقا من ذلك. وهذا واضح، ولله الحمد. (¬1) - وفيها: المسألة الثامنة والعشرون: الاحتجاج بالقدر. الاحتجاج بالقدر على الشرك والكفر وأنواع المعاصي احتجاج باطل، ¬

(¬1) الفتاوى السعدية (62 - 63).

لأنه يدفع أمر الله ورسوله، ويعتذر به عن معاصيه لله، وذلك من أكبر الظلم والجهل، والضلال. وكذلك احتجاج العبد بعد وقوع ما يكره بأن يقول: لو أني فعلت كذا، كان كذا وكذا، فإنه تقول على الله، وتكذيب لقدره الواقع لا محالة. وأما الاحتجاج بالقدر على وجه الإيمان به، والتوحيد لله، والتوكل عليه، والنظر إلى سبق قضائه وقدره، فهو محمود مأمور به، وكذلك الاحتجاج به على نعم الله الدينية والدنيوية، فإنه يوجب للعبد شهود منة الله عليه، بسبق قدره وإحسانه. وكذلك إذا فعل العبد ما يقدر عليه من الأسباب النافعة في دينه ودنياه، ثم لم يحصل له مراده بعد اجتهاده، فإنه إذا اطمأن في هذه الحال إلى قضاء الله وقدره، كان محمودا نافعا للعبد، مريحا لقلبه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «وإذا غلبك أمر فقل: قدر الله، وما شاء فعل» (¬1). وكذلك إذا احتج به، بعد التوبة من الذنب، ومغفرة الله له، على وجه الإيمان به، كان حسنا، كما حج آدم موسى عليهما الصلاة والسلام. وكذلك ينفع النظر إلى القضاء والقدر، ليبعث العبد على الجد والاجتهاد في الأعمال النافعة الدينية والدنيوية. فإنه إذا علم أن الله قدر الوصول إلى المطالب والمقاصد بالأسباب المأمور بها، جد واجتهد، عكس ما ¬

(¬1) أخرجه بهذا اللفظ من حديث أبي هريرة: أحمد (2/ 366،370) والنسائي في الكبرى (6/ 159/10457) وابن ماجه (2/ 1395/4168). وأصله عند مسلم (4/ 2052/2664) بلفظ: «وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله ... ». وابن ماجه (1/ 31/78).

يظنه كثير من الغالطين أن إثبات القدر يثبط، بل ينشط العاملين أبلغ مما لو كان الأمر لم يقدر له غاية. وكذلك ينفع النظر إلى القدر عند وجود المخاوف المزعجة، فإنه من علم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، اطمأن قلبه، وسكنت نفسه، ولم ينزعج للأسباب المخوفة، بل يتلقاها بسكينة وطمأنينة، ويقوم بما أمر بالقيام به عندها. وكذلك نفعه في المصائب وحلول المحن عظيم، فإنه من يؤمن بالله يهد قلبه. فإذا أصيب بمصيبة يعلم أنها من عند الله رضي وسلم لأمر الله وحكمه، واحتسب أجره لله وثوابه. فهذا التفصيل في مسألة النظر إلى القضاء والقدر، والاحتجاج به، يأتي على جميع الأحوال، ويتبين أن منه ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم. والله أعلم. (¬1) - وفيها: المسألة السادسة: الإيمان بالقدر: يتفق مع الأسباب. مباشرة الأسباب، والاجتهاد في الأعمال النافعة، تحقق للعبد تمام الإيمان بالقضاء والقدر. فإن الله قدر المقادير بأسبابها وطرقها، وتلك الأسباب والطرق هي محل حكمة الله، فإن الحكمة: وضع الأشياء مواضعها، وتنزيل الأمور منازلها اللائقة بها ... فقضاء الله وقدره وحكمته، متفقات، كل واحد منها يمد الآخر ولا يناقضه. وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سئل وقيل له: يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقيها، وأدوية نتداوى بها، وتقاة نتقيها، هل ترد من ¬

(¬1) الفتاوى السعدية (64 - 65).

قضاء الله وقدره؟ فقال: «هي من قضائه وقدره» (¬1). فهذه الأسباب حسية ومعنوية روحانية، وحمية عما يضر، وهي في مقدمة الأسباب، وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أنها من قضاء الله وقدره. فمن زعم أنه مؤمن بالقدر وقد ترك الأسباب النافعة الدينية والدنيوية التي عليها نظام القدر، فهو غالط. فإن المؤمن بالقدر، يجري على أحكامه، ويعمل على سنته ونظامه، ويتبع النافع في إحكامه وإبرامه، والله المعين الموفق. وتوضيح ذلك أن أقدار الله كلها تابعة لحكمه وحكمته، فكما أن أفعاله تعالى كلها محكمة في غاية الإحكام والانتظام، ما ترى في خلق الرحمن من خلل ولا نقص ولا فطور ولا اختلال، ولا في شرعه من عبث وسفه ومنافاة للحكمة والمصلحة والإحسان، فكذلك أفعال المكلفين دينيها ودنيويها، ظاهرها وباطنها، كلها تجري على وفق الحكمة والغايات الحميدة، وأنه كلما عظم المقصود، وكثرت منافعه ومصالحه لم يمكن إدراكه إلا بسلوك الطرق المفضية إليه. فأعظم المقاصد على الإطلاق نيل رضا الله، والفوز بثوابه، والسلامة من عقابه. وقد جعل الله له الإيمان وشعبه الظاهرة والباطنة، والقيام بعبودية الله، وإخلاص الدين له، ولزوم الاستقامة والتقوى جعلها الله طرقا وأسبابا توصل إليه. ¬

(¬1) أخرجه من حديث أبي خزامة عن أبيه: أحمد (3/ 421) والترمذي (4/ 349/2065) وابن ماجه (2/ 1137/3437) والحاكم (4/ 199). وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله بشواهده (انظر تخريج أحاديث مشكلة الفقر رقم 11).

فما لم يسلك العبد هذا السبيل، فمحال أن يصل إلى رضوان ربه وثوابه، فاتكال الأحمق على القدر بدون جد واجتهاد، قدح في القدر والشرع جميعا. وكذلك المطالب الأخر، كنيل العلم، وإدراكه: هل يمكن بغير جد واجتهاد ومواصلة الأوقات في طلبه، وسلوك الطرق المسهلة له؟ فمن قال: إن قدر لي، أدركت العلم، اجتهدت أم لا، فهو أحمق. كما قال بعضهم: تمنيت أن تمسي فقيها مناظرا ... بغير عناء، والجنون فنون وليس اكتساب المال دون مشقة ... تلقيتها فالعلم كيف يكون وهكذا: من ترك الزواج، وقال: إن قدر لي أولاد حصلوا، تزوجت أو تركت. ومن رجا حصول ثمر أو زرع، بغير حرث وسقي وعمل، متكلا على القدر، فهو أحمق مجنون. وهكذا سائر الأشياء دقيقها وجليلها. فعلم أن القيام بالأسباب النافعة، واعتقاد نفعها، داخل بقضاء الله وقدره، دون الإخلاد إلى الكسل، والسكون مع القدرة على الحركة، هو الجنون. وإن قول من قال: جرى قلم القضاء بما يكون ... فسيان التحرك والسكون جنون منك أن تسعى لرزق ... ويرزق في غشاوته الجنين هو الغلط الفاحش. وإن هذا القياس الذي قاسه -قاس القادر على الحركة المأمور بها، على العاجز إذا خلا عن الحركة- قياس عجيب غريب، ولو أن هذا الشاعر قاس من تعذرت عليه الحركة والأسباب من كل وجه،

على هذا، لكان حسنا مطابقا. فإن قيل: قد توضح لنا أن السعي في الأسباب الموصلة إلى مسبباتها، مطابق للقضاء والقدر، مؤيد له، وأنه يتعذر الإيمان الصحيح بالقدر بدون فعل الأسباب، فما أحسن طريق يسلكه العبد؟ فالجواب: أحسن طريق يسلكه العبد في أموره الدينية؛ الاجتهاد في تفهم كتاب الله وسنة رسوله، وتحقيق الإخلاص للمعبود في كل عمل وقول، وعقيدة وطريقة، وتحقيق متابعة الرسول، واجتناب البدع الاعتقادية، والبدع العملية. فهذه الطريقة الدينية فيها الخير والبركة، والقليل منها أعظم ثوابا، وأبلغ نجاحا، من الكثير من غيرها. وأما الأمور الدنيوية: فالعبد مفتقر إلى الكسب لنفسه، ولمن عليه مؤونته، فعليه بسبب يناسب حاله، ويتفق مع وقته من المكاسب المباحة، وخصوصا: المكاسب التي لا تشغل العبد عن أمور دينه، ولا تدخله في محظور. وليثابر على ذلك السبب، ويكون اعتماده على مسبب الأسباب، وليكثر من سؤال ربه لييسر أموره، وأن يختار له أحسن الأحوال. وليكن قنوعا برزق الله، راضيا بما قسم الله، لا يحزن على مفقود، ولا يتشوش من مناقضة الأسباب لمراده، فبذلك يحصل رضا ربه، وراحة قلبه ... ويبارك له في القليل. وما توفيقي إلا بالله العلي العظيم. (¬1) ¬

(¬1) الفتاوى السعدية (24 - 26).

عبد الرحمن بن يوسف الإفريقي (1377 هـ)

عبد الرحمن بن يوسف الإفريقي (1377 هـ) عبد الرحمن بن يوسف الإفريقي مدير دار الحديث بالمدينة النبوية سابقا، ومؤلف كتاب 'الأنوار الرحمانية لهداية الفرقة التجانية'. موقفه من المبتدعة: - قال رحمه الله في كتابه 'الأنوار الرحمانية': اعلموا أن الله تعالى قرر القواعد لكل مسلم وقال: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)} (¬1)، وقال: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} (¬2)، وقال: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)} (¬3)، وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} (¬4)، وقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (¬5)، ولذا قال رسول الله ¬

(¬1) الحشر الآية (7). (¬2) النساء الآية (14). (¬3) الجن الآية (23). (¬4) النور الآية (63). (¬5) النساء الآية (65).

- صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به» (¬1) رواه البغوي في شرح السنة والنووي في الأربعين بسند صحيح. ثم قال رحمه الله: عُلم بتلك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية: أن المسلم لا يكون مسلمًا ولا مؤمنًا إلا إذا اعتصم بالكتاب والسنة، في العقائد والفرائض والسنن والأقوال والأعمال والأفعال والأذكار، على وجه التسليم والرضا والإخلاص، ظاهرًا وباطنًا، خاصة عند المعارضة والمقابلة يقدم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - على أقوال جميع أهل الأرض كائنًا من كان، وأذكاره - صلى الله عليه وسلم - على جميع الأذكار الواردة عن المشايخ أهل الطرق وغيرهم، ويعرض تلك الأوراد على الكتاب والسنة؛ فإن وافقتهما عمل بها، وإلا فلا. ويقف على الأذكار الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فحينئذ يكون المسلم مسلمًا حقيقيًّا طائعًا لله ورسوله. قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (¬2)، وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)} (¬3). - قال رحمه الله تحت عنوان (تعريف السنة والبدعة): من ضروريات الدين: أن يعلم المسلم صفة السنة والبدعة والفرق بينهما. فليعلم الأخ الكريم ¬

(¬1) ابن بطة في الإبانة (1/ 387 - 388/ 279). الهروي في ذم الكلام (2/ 167 - 168/ 313). الخطيب في التاريخ (4/ 369). البغوي في شرح السنة (1/ 212 - 213/ 104) كلهم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص والحديث قد ضعفه ابن رجب الحنبلي رحمه الله في شرح الأربعين (2/ 394 - 395) وساق له عللا ثلاثة فأجاد وأفاد. (¬2) الأعراف الآية (3). (¬3) آل عمران الآية (101).

أن السنة لغة: الطريق، وشرعًا: هي ما بيّن وفسّر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - كتاب الله تعالى قولاً وفعلاً وتقريرًا وما سوى ذلك بدعة. والسنة هي الطريق المتبع، وهي دين الإسلام، التي لا يزيغ عنها إلا جاهل هالك مبتدع. والبدعة: أصل مادتها الاختراع على غير مثال سابق، ومنه قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬1)، أي مخترعهما من غير مثال سابق. وهذا لا يليق في الدين إلا من الله تعالى؛ لأنه فعّال لما يريد، وهو الذي شرع لنا الدين، قال تعالى: {* شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} (¬2). وأما البدعة شرعًا: فهي الحدث في الدين بعد الإكمال، أي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين، وقد جعلها أهل البدع دينًا قويمًا، لا يجوز خلافها، كما في زعم التيجانيين وغيرهم. - وقال: والبدعة: هي السبب في إلقاء العداوة والبغضاء بين الناس، لأن كل فريق يرى أن طريقته خير من طريقة صاحبه، ويبغض بعضهم بعضًا حتى قال التيجانيون: لا يجوز زيارة من ليس على طريقتهم. - وقال: فعليكم باتباع نبيكم، وترك كل ما أحدثه المحدثون؛ لأن الإيمان لا يكمل إلا بالقول، ولا قول إلا بالعمل، ولا عمل إلا بالنية، فلا إيمان ولا قول ولا عمل ولا نية إلا بموافقة السنة النبوية، كما قال ابن أبي ¬

(¬1) البقرة الآية (117). (¬2) الشورى الآية (13).

موقفه من الصوفية:

زيد القيرواني في رسالته. فسبحان الله العظيم، تقرءون في الرسالة ليلاً ونهارًا ولا تفهمون معناها! بماذا تفسرون قوله: "وترك كل ما أحدثه المحدثون" وبماذا تفسرون قوله: "إلا بموافقة السنة"؟ موقفه من الصوفية: له كتاب: 'الأنوار الرحمانية لهداية الفرقة التجانية' وهو مطبوع متداول. قال فيه تحت عنوان (الشروع في تفصيل ما ينكره أهل السنة على التيجانية): سأذكر لكم يا إخواني بعض ما أنكرناه في هذه الطريقة التيجانية مع بيان مأخذ كل مقال، والإشارة إلى رقم الصحيفة من كتب التيجانية، ليتبين لكل مسلم غيور على دينه كفريات التيجانية، وبدعهم وضلالاهم. وجميع ما أنقله من كتبهم؛ إما كفر أو كذب على الله وعلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والعياذ بالله من الخذلان وعمى البصيرة. - ثم عدد عشر عقائد من عقائد التيجانية الباطلة (¬1) نذكر منها: العقيدة الأولى: قال في جواهر المعاني: (إن هذا الورد ادخره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لي ولم يُعَلِّمْهُ لأحد من أصحابه) -إلى أن قال-: (لعلمه - صلى الله عليه وسلم - بتأخير وقته، وعدم وجود من يظهره الله على يديه). وكذا في الجيش (ص.91). ففي قوله: ادخره لي ولم يعلمه لأحد من أصحابه ردّ على قوله تعالى: {* يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (¬2). ومعلوم أن ¬

(¬1) انظرها مشكورا غير مأمور، بمزيد بيان وتفصيل ضمن ضلالات التجاني سنة (1230هـ). (¬2) المائدة الآية (67).

الكتمان محال على الأنبياء والرسل، لأنه خيانة للأمانة. وقال ابن عاشر المالكي في توحيده: يجب للرسل الكرام الصدق ... محال الكذب والمنهي ... أمانة تبليغهم يحق ... كعدم التبليغ يا ذكي ولا شك أن نسبة الكتمان إليه - صلى الله عليه وسلم - كفر بإجماع العلماء. وفي قوله: (عدم وجود من يظهره الله على يديه) تفضيل لنفسه على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حيث لا يقدر أن يحمل هذا الورد. وهذا كلام في غاية الفساد، بل في غاية الوقاحة. العقيدة الثانية: قال في جواهر المعاني: (إن المرة الواحدة من صلاة الفاتح تعدل كل تسبيح وقع في الكون، وكل ذكر، وكل دعاء كبير أو صغير، وتعدل تلاوة القرآن ستة آلاف مرة) (ص.96) طبع مطبعة التقدم العلمية الطبعة الأولى. وهذا كفر وردّة، وخروج عن الملّة الإسلامية؛ وهل يبقى في الدنيا مسلم لا يكفر قائل هذا القول؟ بل من لم ينكر عليه ورضي به فهو كافر في نفسه، يستتاب؛ فإن تاب وإلا قتل. أليس قد جعل الله لكم عقولاً تعقلون بها؟ أفلا تتفكرون؟ وأي شيء يكون أفضل من القرآن؟ وهل ينزل الله على رجل شيئًا بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فضلاً أن يكون خيرًا من القرآن؟ إن هذا لشيء عجاب. وأظن قائل هذا القول ما درى بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وما درى بما جاء به محمد. ولم يدر لِمَ بُعِثَ محمد - صلى الله عليه وسلم -!!.

فداك أبي وأمي يا رسول الله. لقد أديت الأمانة، وبلغت الرسالة، وجاهدت في الله حتى أتاك اليقين، جزاك الله عنا أفضل ما جزى نبيًّا عن أمته. أشهد أنك خاتم الأنبياء، وشريعتك ناسخة لكل شريعة ولن تُنْسَخَ إلى يوم القيامة، ولم يأت بعدك أحد قط بمثل ما جئتَ به، وأشهد أن من ادعى أن هناك وحيًا ينزل، أو يوحى إليه فقد أعظم الفرية على الله {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)} (¬1). أفلا تعظمون كتاب ربكم؟! أيها الناس! اتركوا هذه الطريقة الكفرية التي هي أفضل من القرآن في زعم قائلها، فنعوذ بالله من كل شيطان مارد، آمِرٍ بمثل هذا. وهل أنتم تعبدون الله بشيء أفضل من القرآن، إذن والله فقد فضلتم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، لأنهم ما عبدوا الله بشيء أفضل من القرآن، ولقد كان - صلى الله عليه وسلم - يجعل لنفسه وردًا كل ليلة من القرآن، وهكذا أصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله» (¬2) الحديث إلخ. وقد ثبت أنه قال: «فضل كلام الله على كلام الخلق كفضل الله على خلقه» رواه الترمذي وغيره (¬3). ¬

(¬1) النحل الآيتان (116و117). (¬2) سبق تخريجه ضمن مواقف السلطان عبد الحفيظ سنة (1356هـ). (¬3) الترمذي (5/ 169/2926) وقال: "حسن غريب". وفي إسناده محمد بن الحسن الهمداني متهم، وعطية العوفي ضعيف. ولمزيد الفائدة انظر الضعيفة (1335).

أحمد شاكر (1377 هـ)

أليس هذا صدًّا للجهال العوام عن القرآن؟ وهل يتمسك بهذه الطريقة بعد ما سمع أنها أفضل من القرآن إلا جاهل بكتاب الله وسنة رسوله؟ وهل يستقر في عقل صحيح كون مرة واحدة من صلاة الفاتح أفضل من ذكرٍ واحدٍ وَرَدَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فضلاً عن جميع الأذكار التي وقعت في الكون؟ أفلا تعقلون؟؟ تالله لقد جمعت هذه الطريقة كل جهول غبي بعيد عن الدين. أيها الناس! أما كان آدم ونوح وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام أجمعين يذكرون الله؟ وهل يكون مبتدعُ هذه الطريقة أفضل من هؤلاء الأنبياء؟ كلا وحاشا، فإنا لله وإنا إليه راجعون. أحمد شاكر (¬1) (1377 هـ) الشيخ المحدث أحمد بن محمد شاكر بن أحمد بن عبد القادر، من آل أبي علياء، أبو الأشبال المصري. ولد بالقاهرة سنة تسع وثلاثمائة وألف. نشأ في طلب العلم على يد والده الشيخ الإمام محمد شاكر، وتحت توجيهه، فأخذ عن الشيخ عبد الله بن إدريس السنوسي المغربي والشيخ محمد بن الأمين الشنقيطي والشيخ أحمد بن الشمس الشنقيطي. وتفقه على مذهب أبي حنيفة، ونال شهادة العالمية من الأزهر سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة وألف من الهجرة، ثم ولي القضاء إلى سنة سبعين وثلاثمائة وألف للهجرة. ¬

(¬1) الأعلام (1/ 253) مقدمة الرسالة للشافعي (8) ومعجم المؤلفين (13/ 368) ومجلة التوحيد (العدد الرابع ربيع الآخر 1417هـ/ص.48 - 51).

موقفه من المبتدعة:

قال عنه الأستاذ عبد السلام محمد هارون: إمام يعسر التعريف بفضله كل العسر، ويقصر الصنع عن الوفاء له كل الوفاء. وقال عنه الشيخ محمود محمد شاكر: هو أحد الأفذاذ القلائل الذين درسوا الحديث النبوي في زماننا دراسة وافية، قائمة على الأصول التي اشتهر بها أئمة هذا العلم في القرون الأولى. وقال عن نفسه: ولكني بجوار هذا -أي بجوار القضاء- بدأت دراسة السنة النبوية أثناء طلب العلم، من نحو ثلاثين سنة، فسمعت كثيرا وقرأت كثيرا، ودرست أخبار العلماء والأئمة، ونظرت في أقوالهم وأدلتهم، لم أتعصب لواحد منهم، ولم أحد عن سنن الحق فيما بدا لي. ومؤلفاته تدل على ذلك منها 'تحقيق المسند للإمام أحمد' و'الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث لابن كثير' و'تحقيق الرسالة للشافعي' وغيرها كثير. توفي سنة سبع وسبعين وثلاثمائة وألف رحمه الله. موقفه من المبتدعة: - قال: وعلى النهج القويم سار عليه أئمتها من أهل الحديث سِرت، فيما عرضت له من مسائل الخلاف: لا حجة إلا فيما قال الله أو قال رسوله، وكل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (¬1). {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا ¬

(¬1) الأحزاب الآية (36).

يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (¬1). لا نقلّد ديننا الرجال، ولا نفرّق بين ما جمعه رسول الله، ولا نجمع ما فرّق بينه، ولا نقول: ما فرّق بين كذا وكذا؟ لأن قول (ما فرّق بين كذا وكذا؟) فيما فرّق بينه رسول الله- لا يعدو أن يكون جهلاً ممّن قاله، أو ارتياباً شرّاً من الجهل، وليس فيه إلا طاعة الله باتّباعه. فقد أمرنا الله باتباع نبيه، وجعل طاعته والرضا بحكمه شرطاً في صحة الإيمان به، فما جاء من سنّته فيما فيه نصّ كتاب فهو بيان للكتاب، بيان لعامّه وخاصّه، وناسخه ومنسوخه، ونحو ذلك. وما سنّ رسول الله فيما ليس لله فيه حكم فبحكم الله سنّه. وكذلك أخبرنا الله في قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ} (¬2) وقد سنّ رسول الله مع كتاب الله، وسنّ فيما ليس فيه بعينه نصّ كتاب. وكل ما سنّ فقد ألزمنا الله اتباعه، وجعل في اتباعه طاعته، وفي العُنود عن اتباعها معصيتَه التي لم يَعذِر بها خلقاً، ولم يجعل له من اتباع سنن رسول الله مخرجاً، لما وصفت، وما قال رسول الله. أخبرنا سفيان عن سالم أبو النضر مولى عمر بن عبيد الله سمع عبيد الله بن أبي رافع يحدّث عن أبيه أن رسول الله قال: «لا أُلفينّ أحدَكم متّكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري، مما أمرتُ به أو نهيتُ عنه فيقول: ¬

(¬1) النساء الآية (65). (¬2) الشورى الآيتان (52و53).

لا أردي، ما وجدنا في كتاب الله اتّبعناه» (¬1). وقال الشافعي أيضاً: (فيما وصفتُ من فرض الله على الناس اتّباع أمر رسول الله دليل على أن سنة رسول الله إنما قُبِلت عن الله، فمن اتّبعها فبكتاب الله تبعها، ولا نجد خبراً ألزمه الله خلقه نصّاً بيّناً إلا كتابه ثم سنة نبيه، فإذا كانت السنة كما وصفتُ، لا شبه لها من قول خلقٍ من خلق الله، لم يجز أن ينسخها إلا مثلُها، ولا مثل لها غير سنة رسول الله، لأن الله لم يجعل لآدميّ بعده ما جعل له، بل فرض على خلقه اتباعه، فألزمهم أمره، فالخلق كلهم له تَبَع، ولا يكون للتابع أن يخالف ما فُرض عليه اتّباعُه، ومن وجب عليه اتباع سنة رسول الله لم يكن له خلافُها، ولم يقم مقام أن ينسخ شيئاً منها). فلا عذر لأحد يعلم حديثاً صحيحاً أن يُخالفه، لا تقليداً ولا اجتهاداً، ولا استحساناً ولا استنباطاً، كما قال الشافعيّ -وهو ناصر الحديث حقّاً-: (لا يجوز لأحد علمه من المسلمين -عندي- أن يتركه إلا ناسياً أو ساهياً). وكما قال أيضاً: (وأما أن نخالف حديثاً عن رسول الله ثابتاً عنه-: فأرجو أن لا يؤخذ ذلك علينا إن شاء الله. وليس ذلك لأحد، ولكن قد يجهل الرجل السنة فيكون له قولٌ يخالفها، لا أنه عَمَد خلافَها، وقد يغفل المرء ويخطئ في التأويل. (¬2) - قال: ولقد عُنيتُ بهذا الأمر كما عُني -يعني بعلوم الحديث-، ¬

(¬1) تقدم تخريجه ضمن مواقف القاضي عياض سنة (544هـ). (¬2) شرح سنن الترمذي (1/ 67 - 70).

ورأيتُ أن أجلّ خدمة لهذا الكتاب التوسعُ في تحقيق دقائق التعليل، تقريباً لها في أذهان القارئين، وإرشاداً للمستفيدين، وتسهيلاً للباحثين، وليكون ذلك حافزاً لطلاّب الحديث على أن يغوصوا في أعماق فنونه، ويستخرجوا منها الدرر الغالية، التي بها يفقهون كتاب الله حقّ فقهه، ويؤدّون أمانة الله حقّ أدائها، حتى يَسْمُوا بذلك إلى الذّروة العليا في العلم والعمل، في الدين والدنيا، فإن من أدرك علم أحكام الله في كتابه نصّاً واستدلالاً، ووفّقه الله للقول والعمل بما علم منه، فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الرِّيَب، ونوّرت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة. وليعلم من يريد أن يعلم: من رجل أسلس للعصبية المذهبية قياده، حتى ملكت عليه رأيه، وغلبته على أمره، فحادت به عن طريق الهدى؛ أو من رجل قرأ شيئاً من العلم فداخله الغرور، إذ أعجتبه نفسه، فتجاوز بها حدّها، وظنّ أن عقله هو العقل الكامل، وأنه (الحكم التُّرضى حكومته) فذهب يلعب بأحاديث النبيّ، يصحح منها ما وافق هواه وإن كان مكذوباً موضوعاً، ويُكذّب ما لم يعجبه وإن كان الثابت الصحيح؛ أو من رجل استولى المبشّرون على عقله وقلبه، فلا يرى إلا بأعينهم، ولا يسمع إلا بآذانهم، ولا يهتدي إلا بهديهم، ولا ينظر إلا على ضوء نارهم يحسبها نوراً، ثم هو قد سمّاه أبواه باسم إسلاميّ، وقد عُدّ من المسلمين -أو عليهم- في دفاتر المواليد وفي سجلاّت الإحصاء، فيأبى إلا أن يدافع عن هذا الإسلام الذي أُلبسه جنسيّةٌ ولم يعتقده ديناً، فتراه يتأوّل القرآن ليخضعه لما تعلّم من أستاذيه، ولا يرضى من الأحاديث حديثاً يخالف آراءهم وقواعدهم، يخشى

أن تكون حجتُهم على الإسلام قائمة!! إذ هو لا يفقه منه شيئاً؛ أو من رجل مثل سابقه، إلا أنه أراح نفسه، فاعتنق ما نفثوه في روحه من دين وعقيدة، ثم هو يأبى أن يعرف الإسلام ديناً أو يعترف به، إلا في بعض شأنه، في التسمي بأسماء المسلمين، وفي شيء من الأنكحة والمواريث ودفن الموتى: أو من رجل مسلم علِّم في مدارس منسوبة للمسلمين، فعرف من أنواع العلوم كثيراً، ولكنه لم يعرف من دينه إلا نزراً أو قشوراً، ثم خدعته مدنية الإفرنج وعلومهم عن نفسه، فظنهم بلغوا في المدنية الكمال والفضل، وفي نظريات العلوم اليقين والبداهة، ثم استخفّه الغرور، فزعم لنفسه أنه أعرف بهذا الدين وأعلم من علمائه وحفظته وخلصائه، فذهب يضرب في الدين يميناً وشمالاً، يرجو أن ينقذه من جمود رجال الدين!! وأن يُصفِّيه من أوهام رجال الدين!!؛ أو من رجل كشف عن دخيلة نفسه، وأعلن إلحاده في هذا الدين وعداوته، ممن قال فيهم القائل: (كفروا بالله تقليداً)؛ أو من رجل ممن ابتُليت بهم الأمة المصرية في هذا العصر، ممن يسمّيهم أخونا النابغة الأديب الكبير كامل كيلاني (المجدّدينات) (¬1) ... أو من رجل ... أو من رجل ... ليعلموا هؤلاء كلهم، وليعلم من شاء من غيرهم: أن المحدِّثين كانوا محدَّثين ملهمين، تحقيقاً لمعجزة سيد المرسلين، حين استنبطوا هذه القواعد المحكمة لنقد رواية الحديث، ومعرفة الصحاح من الزّياف، وأنهم ما كانوا هازلين ولا مخدوعين، وأنهم كانوا جادّين على هدى وعلى صراط مستقيم، ¬

(¬1) قال بهامشه: هكذا والله سمّاهم هذا الاسم العجيب، وحين سأله سائل عن معنى هذه التسمية، أجاب بجواب أعجب وأبدع: هذا جمع مخنث سالم!! فأقسم له سائله أن العربية في أشدّ الحاجة إلى هذا الجمع في هذا الزمان!.

فكانت تلك القواعد التي ارتضوها للتوثّق من صحة الأخبار أحكم القواعد وأدقّها، ولو ذهب الباحث المتثبت يُطبّقها في كل مسألة لا إثبات لها إلا صحة النقل فقط: لآتته ثمرتها الناضجة، ووضعت يده على الخبر اليقين. وعلى ضوء هذه القواعد سار علماؤنا المتقدمون في إثبات مفردات اللغة وشواهدها، وفي تحقيق الوقائع التاريخية الخطيرة، ولن تجد من ذلك شيئاً ضعيفاً أو باطلاً إلا ما أبطلته قواعد المحدِّثين، وإلا فيما لم ينل العناية بتطبيقها عليه. (¬1) - قال في كتابه 'الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين': إن الله أرسل محمداً هادياً وبشيراً ونذيراً، وحاكماً بين الناس بما أنزله عليه. أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ودعا الناس إلى طاعته في جميع أمورهم، في دينهم ودنياهم، عباداتهم ومعاملتهم. وأنزل عليه شريعة كاملة، لم تَسْمُ إليها شريعة من الشرائع قبلها، ولن يأتي أحد من بعده بخير منها ولا بمثلها. ذلك بأن الله خلق الخلق وهو أعلم بهم، وذلك بأن محمداً خاتم النبيين. شرع الله هذه الشريعة الكاملة للناس كافة، وفي كل زمان ومكان، بعموم بعثة الرسول الأمين، وبختم النبوة والرسالة به. فكانت الباقية على الدهر، ونسخت جميع الشرائع. ولم تكن خاصة بأمة دون أمة، ولا بعصر دون عصر. ولذلك كانت العبادات مفصّلة بجزئيّاتها، لأن العبادة لا تتغير باختلاف الدهور والعصور. وكان ما سواها من شؤون الفرد والمجتمع، في ¬

(¬1) شرح سنن الترمذي (1/ 70 - 73).

المعاملات المدنية، والمسائل السياسية، ونظام الحكومات، والقواعد القضائية، والعقوبات، وما إلى ذلك، قواعدَ كليّة سامية، لم يُنصّ على تفاصيل الفروع فيها، إلا على القليل النادر، في الأمر الخطير، مما لا يتأثر باختلاف الزمان والمكان. فقام سلفنا الصالح، المسلمون الأولون، بإبلاغ هذه الشريعة والعمل بها، في أنفسهم وفيما دخل من البلدان في سلطانهم، فنفّذوا أحكامها على الناس كافة، وفي جميع الأحوال، واجتهدوا في تطبيق قواعدها على الوقائع والحوادث، واستنبطوا منها الفروع الدقيقة، والقواعد الأصولية والفقهية، بما آتاهم الله من بسطة في العلم، وإخلاص في الدين، حتى تركوا لنا ثروة تشريعية، لا نجد لها مثيلاً في شرائع الأمم، وحتى كان من بعدهم عالة عليهم. (¬1) - وقال أيضاً: أيها الناس! إننا جميعاً مسلمون، نحرص على ديننا، ونزعم أننا لا نبغي به بدلاً، ولكننا نخطئ فهم الدين، ونظن أنه لا يتجاوز ما يُقام فينا من شعائر العبادة، وما يهتف به الوعّاظ والخطباء من الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة، ويخيّل إلى كثير منا أنه لا شأن للدين بالمعاملات المدنية، والحقوق الاجتماعية، والعقوبات والتعزير، ولا صلة له بشؤون الحرب، ولا بالسياسة الداخلية والخارجية. كلا، إن الإسلام ليس على ما يظنون. الإسلام دين وسياسة، وتشريع وحكم وسلطان. وهو لا يرضى من مُتّبعيه إلا أن يأخذوه كله، ويخضعوا لجميع أحكامه، فمن أبى من الرضا ببعض أحكامه ¬

(¬1) الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين (ص.9 - 10).

فقد أباه كلّه. اسمعوا كلام الله ثم اختاروا لأنفسكم ما تريدون. {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} (¬1). {وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)} (¬2). {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ ¬

(¬1) الأحزاب الآية (36). (¬2) النور الآيات (47 - 51).

أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (¬1). أيها السادة! هذه آيات الله وأوامره، قد سمعتموها كثيراً، وقرأتموها كثيراً. ولست الآن بصدد تفسيرها أو شرحها، فهي آيات محكمة صريحة بيّنة، فيها عبرة لكم وعظة لو تأملتموها، وفكرتم في حالكم من طاعتها أو عصيانها، وفيما يجب عليكم حيالها، وأنتم تحكمون بقوانين لا تمتّ إلى ¬

(¬1) النساء الآيات (59 - 65).

الإسلام بصلة، بل هي تنافيه في كثير من أحكامها وتناقضه، بل لا أكون مغالياً إذا صرّحت أنها إلى النصرانية الحاضرة أقرب منها إلى الإسلام، ذلك أنها ترجمت ونقلت كما هي عن قوانين وثنية، عُدّلت ثم وُضعت لأمم تنتسب إلى المسيحية، فكانت، وإن لم توضع عندهم وضعاً دينياً، أقرب إلى عقائدهم وعاداتهم وعرفهم، وأبعد عنّا في كل هذا. وقد ضُربت علينا هذه القوانين في عصر كان كله ظلمات، وكانت الأمة لا تملك لنفسها شيئاً، وكان علماؤها مستضعفين جامدين. هذه القوانين كادت تصبغ النفوس كلها بصبغة غير إسلامية، وقد دخلت قواعدها على النفوس فأُشربتها، حتى كادت تفتنها عن دينها، وصارت القواعد الإسلامية في كثير من الأمور منكرة مستنكرة، وحتى صار الداعي إلى وضع التشريع على الأساس الإسلاميّ يجبن ويضعف، أو يخجل فينكمش، مما يُلاقي من هزء وسخرية!! ذلك أنه يدعوهم -في نظرهم- إلى الرجوع القهقرى ثلاثة عشر قرناً، إلى تشريع يزعمون أنه وُضع لأمة بادية جاهلة!! لا تظنوا -أيها السادة- أني أذهب فيما أصف مذهب الغلوّ أو الإسراف في القول، فإني جعلتُ هذه الدعوة هجّيراي وديدني، وجادلت وحاججت، ورأيت وسمعت، ولو شئت أن أُسمّي لسمّيت لكم أسماء ممن نُجلّ ونحترم، ونعرف لهم فضلاً وذكاءً وعلماً. (¬1) - وقال: إني أرى أن هذه القوانين الأجنبية إليها يرجع أكثر ما نشكو ¬

(¬1) الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين (ص.13 - 17).

من علل، في أخلاقنا، في معاملتنا، في ديننا، في ثقافتنا، في رجولتنا، إلى غير ذلك. وسأقص عليكم بعض المثل من آثارها مما رأى: كان لها أثر بيّن بارز في التعليم، فقسمت المتعلمين المثقفين منا قسمين، أو جعلتهم معسكرين: فالذين علّموا تعليماً مدنياً، وربّوا تربية أجنبية، يعظمون هذه القوانين وينتصرون لها ولما وضعت من نظم ومبادئ وقواعد، ويرون أنهم أهل العلم والمعرفة والتقدم. وكثير منهم يسرف في العصبية لها، والإنكار لما خالفها من شريعته الإسلامية، حتى ما كان منصوصاً محكماً قطعياً في القرآن، وحتى بديهيات الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة، ويزدري الفريق الآخر ويستضعفهم، واخترعوا له اسماً اقتبسوه مما رأوا أو سمعوا في أوربة المسيحية، فسمّوهم (رجال الدين) وليس في الإسلام شيء يسمّى (رجال الدين) بل كل مسلم يجب عليه أن يكون رجل الدين والدنيا. ثم عزلوهم عن كل أعمال الحياة وأعمال الدولة، واحتكروا لأنفسهم مناصبها، زعماً منهم أن (رجال الدين) لا يصلحون لشيء من أعمال الدنيا، أيّاً كان مبلغهم من العلم والثقافة والمعرفة، وحصروا الألوف من العلماء المثقفين فيما سمّوه المناصب الدينية، حتى لا مُتنفّس لهم، فإن ضجوا أو تذمروا حجّوهم بأنهم رجال الدين، زعموهم رهباناً، ولا رهبانية في الإسلام. (¬1) إلى أن قال: إن قَسْمَ المتعلمين في الأمة إلى فريقين أو معسكرين مكّن لأقواهما من أن يستأثر بالتشريع والإفتاء، فيحدوَ بالأمة ويعدل بها عن سواء الصراط. ذلك أنهم أُفهموا وعُلّموا أن مسائل التشريع ليست من الدين، ¬

(¬1) الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين (ص.17 - 18).

وظنوا أن الدين الإسلامي كغيره من الأديان، وأنّ تعرّض العلماء والفقهاء لهذه المسائل تعرّض لما لا يعنيهم، وعصبية للاحتفاظ بسلطانهم، شبّهوهم بالقسس في أوربة، وغلبت عليهم مبادئ الثورة الفرنسية في محاربة الكنيسة، فاندفعوا في عصبيتهم ضدّ شريعتهم ودينهم، وأبوا أن يسمعوا قولاً لقائل، أو نصحاً لناصح. وذهبوا يضعون القوانين للمسلمين، على غرار القوانين التي وضعت لغيرهم، بأنها توافق مبادئ التشريع الحديث!! وابتُلي فريق منا بهذا التشريع الحديث، فذهبوا يلعبون بدينهم، فيما عرفوا وما لم يعرفوا، فأحلّوا وحرّموا، وأنكروا وأقرّوا، واضطربوا وترددوا، وكثير منهم يؤمن بالإسلام، ويحرص على التمسك به، ولكنه أخطأ الطريق، بما أُشرب في قلبه من مبادئ التشريع الحديث. واندفع العامة والدهماء وراءهم، يقلدون سادتهم وكبراءهم، ويتّبعون خطواتهم. ومرج أمر الناس واضطربوا، حتى إنهم ليحاولون علاج أمراضهم النفسية والاجتماعية بمبادئ التشريع الحديث. وبين أيديهم كتاب الله {مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)} (¬1) و {هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} (¬2) ولكن قومنا اكتفوا من القرآن بالتغني به في المآتم والمواسم، وتركوا ¬

(¬1) يونس الآية (57). (¬2) فصلت الآية (44).

موقفه من المشركين:

تدبّر معانيه واتباع هديه، واتخذوا هذا القرآن مهجوراً!. (¬1) موقفه من المشركين: - التحذير من المستشرقين: قال رحمه الله بعد إشادته بطبعات المستشرقين للكتب وأنهم اهتموا بوصف الأصول واختلاف النسخ: وعن ذلك كانت طبعات المستشرقين نفائسَ تُقتنى وأعلاقاً تُدّخر، وتغالى الناس وتغالينا في اقتنائها، على علوّ ثمنها، وتعسّر وجود كثير منها على راغبيه. ثم غلا قومُنا غلوّاً غير مُستساغ في تمجيد المستشرقين، والإشادة بذكرهم، والاستخذاء لهم، والاحتجاج بكل ما يصدر عنهم من رأي: خطإ أو صواب، يتقلدونه ويدافعون عنه، ويجعلون قولهم فوق كلّ قول، وكلمتهم عالية على كلّ كلمة، إذ رأوهم أتقنوا صناعة من الصناعات: صناعةَ تصحيح الكتب، فظنوا أنهم بلغوا فيما اشتغلوا به من علوم الإسلام والعربية الغاية، وأنهم اهتدوا إلى ما لم يهتد إليه أحد من أساطين الإسلام وباحثيه، حتى في الدين: التفسير والحديث والفقه. وجهلوا أو نسوا، أو علموا وتناسوا أن المستشرقين طلائع المبشّرين، وأن جلّ أبحاثهم في الإسلام وما إليه إنما تصدر عن هوىً وقصد دفين، وأنهم كسابقيهم {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} وإنما يفضلونهم بأنهم يحافظون على النصوص، ثم هم يحرفونها بالتأويل والاستنباط. ¬

(¬1) الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين (ص.21 - 23).

نعم: إن منهم رجالاً أحرار الفكر، لا يقصدون إلى التعصب، ولا يميلون مع الهوى، ولكنهم أخذوا العلم عن غير أهله، وأخذوه من الكتب، وهم يبحثون في لغة غير لغتهم، وفي علوم لم تمتزج بأرواحهم، وعلى أسس غير ثابتة وضعها متقدموهم، ثم لا يزال ما نشؤوا عليه واعتقدوا يغلبهم، ثم ينحرف بهم عن الجادّة، فإذا هم قد ساروا في طريق آخر، غير ما يؤدي إليه حرية الفكر والنظر السليم. ومعاذ الله أن أبخس أحداً حقّه، أو أنكر ما للمستشرقين من جهد مشكور في إحياء آثارنا الخالدة، ونشر مفاخر أئمتنا العظماء، ولكني رجل أريد أن أضع الأمور مواضعها، وأن أقرّ الحق في نصابه، وأريد أن أعرف الفضل لصحابه، في حدود ما أسدى إلينا من فضل، ثم لا أجاوز به حدّه، ولا أعلو به عن مستواه. ولكني رجل أتعصب لديني ولغتي أشدّ العصبية، وأعرف معنى العصبية، وحدّها، وأن ليس معناها العدوان، وأن ليس في الخروج عنها إلا الذلّ والاستسلام، وإنما معناها الاحتفاظ بمآثرنا ومفاخرنا، وحَوطها والذود عنها، وإنما معناها أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأعرف أنه (ما غُزي قومٌ قطّ في عقر دارهم إلا ذلّوا) وقد -والله- غُزينا في عقر دارنا، وفي نفوسنا، وفي عقائدنا، وفي كل ما يقدّسه الإسلام ويفخر به المسلمون. وكان قومنا ضعافاً، والضعيف مُغرىً أبداً بتقليد القوي وتمجيده، فرأوا من أعمال الأجانب ما بهر أبصارهم، فقلدوهم في كل شيء، وعظّموهم في

كل شيء، وكادت أن تعصفَ بهم العواصف، لولا فضل الله ورحمته. (¬1) - قال في رسالته 'الشرع واللغة' (¬2) التي خصّها للرّدّ على عبد العزيز فهمي باشا وعدائه للعربية -بعد نقله لكلام هذا المفتون-: وقد بدأ معالي الباشا استدلاله -يعني نقضه ردّ الشيخ محبّ الدين الخطيب عليه- بكلمة منكرة (أن الدين لله، وأما سياسة الإنسان فللإنسان) وما هذه الكلمة إلا تحريف أو تحوير لكلمة ليست إسلامية، وليست عربية، كلمة فيها خنوع وخور واستسلام لاستبداد القياصرة، لا يرضاها مسلم، ولا يرضاها عربيّ. نعم: إن الدين كله لله، وإن الأمر كله لله. ولكن هذا الرجل والذين يظاهرونه يريدون أن يفهموا الدين على غير ما يعرف المسلمون، وعلى غير ما أنزل الله في القرآن وعلى لسان الرسول. يريدون أن ينفثوا في روع الأغرار والجاهلين أن الدين هو العقائد والعبادات فقط، وأن ما سواهما من التشريع ليس من أمر الدين، عدواً منهم وبغياً، واستكباراً وعتوّاً على المسلمين، بل جهلاً وعجزاً، ثم استكانة وذلاًّ، للسادة الأوربيين (ذوي العقول الجبارة). ثم لا يستحيي أحدهم أن يدعي أنه يفهم الدين، وأن يزعم أنه مكتفٍ بما يسّر الله له من دينه، وأنه موقن بأن لا مزيد عليه عند كائن من كان من المسلمين!! والأدلة في القرآن وبديهيات الإسلام على وجوب اتباع ما أنزل الله في كتابه وعلى لسان رسوله، في العقائد والعبادات، وأحكام المعاملات ¬

(¬1) شرح سنن الترمذي (1/ 19 - 20). (¬2) طبعت مع محاضرته الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدراً للقوانين.

والعقوبات وغيرها، متوافرة متواترة، لا ينكرها مسلم ولا يستطيع. وأظن أن معالي الباشا سمع مرة أو مرات قول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} (¬1). وقوله سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)} (¬2). أيجرؤ معاليه أن يتأول هذه الآيات ونحوها على أنها في العقائد والعبادات؟ وإن جرؤ على ذلك، فماذا هو قائل في قول الله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} (¬3). وقوله: {وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي ¬

(¬1) المائدة الآية (44). (¬2) المائدة الآية (49). (¬3) الأحزاب الآية (36).

قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)} (¬1). أفيجرؤ أن يتأولها أيضاً على العقائد والعبادة؟ أم هو يلعب بالألفاظ والألباب؟!. (¬2) - وقال: ولطالما سمعنا اعتذار المسرفين على أنفسهم، من يأبون العود بالأمة إلى تشريعها الإسلاميّ، ولطالما جادلناهم، فما رأينا أحداً منهم أجرأ على الله وعلى الدين من هذا الباحث العلامة! ما زعم لنا واحد منهم قطّ (أن الدين لله، وأما سياسة الإنسان فللإنسان) وأن (الحاكم في الإسلام عليه أن يسوس الناس على ما يحقق مصالحهم، مؤسساً عمله على الحق والعدل، على أن لا يمسّ العقائد وفرائض العبادات). لأن معنى هذا الكلام الخروج بالإسلام عن حقيقته، وجعله دين عبادة فقط، وإنكار ما في القرآن والسنة الصحيحة من الأحكام في كل شؤون الإنسان. والقرآن مملوء بأحكام وقواعد جليلة، في المسائل المدنية والتجارية، وأحكام الحرب والسلم، وأحكام القتال والغنائم والأسرى، وبنصوص صريحة في الحدود والقصاص. ¬

(¬1) النور الآيات (47 - 51). (¬2) الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين (ص.88 - 90).

فمن زعم أنه دين عبادة فقط فقد أنكر كل هذا، وأعظم على الله الفرية. وظن أن لشخص كائناً من كان، أو لهيئة كائنة من كانت، أن تنسخ ما أوجب الله من طاعته والعمل بأحكامه. وما قال هذا مسلم قط ولا يقوله، ومن قاله فقد خرج عن الإسلام جملة، ورفضه كلّه. وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم. إنهم كانوا يدورون حول هذا المعنى ويجمجمون ولا يصرّحون، حتى كشف هذا الرجل عن ذات نفسه، وأخشى أن يكون قد كشف عما كانوا يضمرون. ولكني لا أحب أن أجزم في شأنهم، فلسنا نأخذ الناس بالظنة، وحسابهم بين يدي الله يوم القيامة. (¬1) - قال -بعد ذكره نماذج لما في القوانين الإفرنجية والنظم الأوربية مما يخالف عقائد المسلمين، وتعطيل لكثير من فروض الدين-: ولسنا ننعى على هذه القوانين كلّ جزئية فيها، بالضرورة، ففيها فروع في مسائل مفصلة، تدخل تحت القواعد العامة في الكتاب والسنة، ولكنا ننكر المصدر الذي أخذت منه، وهو مصدر لا يجوز لمسلم أن يجعله إمامه في التشريع، وقد أُمر أن يتحاكم إلى الله ورسوله. فالكتاب والسنة وحدهما هما الإمام، نستنبط منهما وفي حدودهما ما يوافق كلّ عصر وكلّ مكان، مسترشدين بالعقل وقواعد العدل. ولكنا نسخط على الروح الذي يملي هذه القوانين ويوحي بها، روح الإلحاد والتمرد على الإسلام، في كثير من المسائل الخطيرة، والقواعد الأساسية، فلا يبالي واضعوها أن يخرجوا على القرآن، وعلى ¬

(¬1) الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين (ص.93 - 94).

موقفه من الجهمية:

البديهيّ من قواعد الإسلام، وأن يصبغوها صبغة أوربية، مسيحية أو وثنية، إذا ما أَرضوا عنهم أعداءهم، ونالوا ثناءهم، ولم يخرجوا على مبادئ التشريع الحديث!! وهم -في نظر الشرع- مخطئون إذا ما أصابوا، مجرمون إذا ما أخطؤوا. أصابوا عن غير طرق الصواب، إذ لم يضعوا الكتاب والسنة نصب أعينهم، بل أعرضوا عنهما ابتغاء مرضاة غير الله، جهلوهما جهلاً عجيباً. وأخطؤوا عامدين أن يخالفوا ما أمرهم به ربّهم، ساخطين إذا ما دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم. والحجة عليهم قول كبيرهم: (إن جهات التشريع عندنا تشتغل في دائرة غير دائرة الدين)!! وإصراره على أنه لو كان قوياً في صحته فلن يجيب إلى (الرجوع لسلفنا الصالح في أمر القوانين). (¬1) موقفه من الجهمية: كان هذا الرجل متشبعا بالعقيدة السلفية زيادة على تضلعه في علم الحديث ويظهر ذلك من تعاليقه وتحريراته، وله مقال جيد نأخذه على سبيل المثال للدلالة على دفاعه عن العقيدة السلفية: جاء في دائرة المعارف الإسلامية في التعليق على مادة: "تأويل": قال: أصل مادة (تأويل) من المعنى اللغوي: آل يؤول أولا، أي: رجع إلى أصله. ثم استعمل في كلام العرب وفي القرآن خاصة بمعنى التفسير أو بشيء قريب من معناه. فالتفسير والتأويل: كشف المراد عن الشيء المشكل. وفرق بعض العلماء بينهما، فكثر استعمال التفسير: فيما يتعلق بشرح المفردات والألفاظ، والتأويل: فيما يتعلق بالمعاني ¬

(¬1) الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين (ص.97 - 98).

والجمل. واصطلح الفقهاء وغيرهم على معنى آخر للتأويل هو: تفسير الآية أو الحديث بمعنى غير ما يفهم من ظاهر اللفظ. ولذلك يقول العلماء كثيرا في عباراتهم مثلا: إن هذا الحديث أو هذه الآية من الصريح الذي لا يحتمل التأويل، أي: لا يحتمل معنى آخر يخرجه عن المراد الظاهر من لفظه، فالمعنى الظاهر لا يخرج عن المفسر والمؤول إلا بدليل أو قرينة، لأنه يكون شبيها بالمعنى المجازي. وقد ورد لفظ التأويل في آيات من القرآن على المعنى اللغوي الأصلي، ولكن بعض العلماء والمفسرين ظنها مما يدخل في التأويل الاصطلاحي، فنشأ عن ذلك اختلاف واضطراب في آرائهم، والحق أن ذلك على المعنى اللغوي الواضح. ففي لسان العرب: "وأما قول الله عز وجل: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} (¬1) فقال أبو إسحاق: معناه، هل ينظرون إلا ما يؤول إليه أمرهم من البعث. قال: وهذا التأويل هو قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} (¬2) أي: لا يعلم متى يكون أمر البعث وما يؤول إليه الأمر عند قيام الساعة إلا الله، والراسخون في العلم يقولون: آمنا به أي: آمنا بالبعث. والله أعلم، قال ابن منظور: وهذا حسن (¬3). وأقول: بل هو الصواب الذي لا يفهم من القرآن غيره، ثم دخل على المسلمين ناس اتبعوا المتشابه في مثل هذا، وأكثروا من القول في القرآن بغير علم، حتى ادعوا أن له ظاهرا وباطنا، وأن الباطن لا يعلمه هؤلاء إلا بشيء يزعمونه نحو: ¬

(¬1) الأعراف الآية (53). (¬2) آل عمران الآية (7). (¬3) لسان العرب (13/ 25) ..

"الإلهام". وهم لم يفقهوا ظاهر القرآن، ولم يعرفوا شيئا من السنة، أو عرفوا وأعرضوا عنه لما وقر في نفوسهم من حب الإغراب أو من آراء تنافي الإسلام، فأرادوا أن يلصقوها به، وعن ذلك نشأت تأويلات الصوفية وغيرهم ممن أشار إليهم كاتب المادة. وهذه التأويلات لا تمت إلى الإسلام بصلة وإن كان قائلوها يسمون بأسماء إسلامية ويذكرون في تاريخ الإسلام، وتذكر أقوالهم وآراؤهم مع آراء علماء الإسلام. والإسلام دين واضح سهل لا رموز فيه ولا ألغاز. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ترك المسلمين على المحجة الواضحة ليلها كنهارها. فكل من حاد عن هذه السبيل فإنما أعرض عن الصراط المستقيم وتفرقت به السبل، حتى خرج بعضهم عن كل طريق من طرق الإسلام، أو من الطرق التي تشبه أن تتصل بالإسلام، ممن وصفهم كاتب المادة بقوله: "بل صارت أحكام القرآن في رأي أصحابها غير واجبة الإتباع". ومن ذهب هذا المذهب أو قريبا منه فلا يمكن أن يعد من المسلمين ولا أن ينسب قوله إلى أقوال أهل الإسلام. (¬1) التعليق: الله أعلم بالضرر البالغ الذي ألحقه طاغوت التأويل بالمسلمين الذي اخترعه أعداء العقيدة السلفية. وقد تصدى لرده وبيان الباطل والحق منه: العلامة ابن القيم في كتابه 'الصواعق المرسلة' بما لا مزيد عليه، فجزاه الله خيرا. ¬

(¬1) دائرة المعارف الإسلامية (9/ 162 - 163).

حافظ بن أحمد الحكمي (1377 هـ)

حافظ بن أحمد الحَكَمِي (¬1) (1377 هـ) الشيخ حافظ بن أحمد بن علي الحكمي، نسبة إلى الحكم بن سعد العشيرة بطن من (مذحج). ولد في شهر رمضان عام اثنين وأربعين وثلاثمائة وألف بقرية السلام في منطقة جيزان. نشأ في بيئة صالحة طيبة ساعدته على تحصيل العلوم الشرعية منذ الصغر، فحفظ القرآن الكريم ثم توجه إلى الاشتغال بكتب الفقه والحديث والتفسير والتوحيد وغيرها. وأخذ عن الشيخ عبد الله القرعاوي الذي كان قد قدم من "نجد"، ولازمه حتى نضج علمه ورسخت قدمه. وكان رحمه الله شديد التمسك بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، على جانب كبير من الورع والكرم والعفة. عين مديرا لمدرسة سامطة سنة ثلاث وستين وثلاثمائة وألف للهجرة، ثم مديرا للمعهد العلمي فيها سنة أربع وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة، واستمر فيه إلى أن توفي يوم السبت الثامن عشر من شهر ذي الحجة سنة سبع وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة بمكة المكرمة ودفن بها. أقول: كان هذا الرجل أعجوبة زمانه -كما يحكي تلامذته الذين درسوا عليه- في الحفظ والاستحضار، وظهر أثر ذلك في كتبه التي ألفها على صغر سنه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. آثاره السلفية: 1 - 'سلم الوصول إلى علم الأصول في توحيد الله'. 2 - 'معارج القبول في شرح سلم الوصول'. ¬

(¬1) الأعلام (2/ 159) ومقدمة معارج القبول، بقلم ابن الشيخ. والمستدرك على معجم المؤلفين (183 - 184).

موقفه من المبتدعة:

3 - 'أعلام السنة المنشورة لاعتقاد الطائفة الناجية المنصورة'. والكل مطبوع متداول. موقفه من المبتدعة: - جاء في أعلام السنة: س: ما هو الصراط المستقيم الذي أمرنا الله تعالى بسلوكه ونهانا عن اتباع غيره؟ ج: هو دين الاسلام الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه، ولم يقبل من أحد سواه، ولا ينجو إلا من سلكه، ومن سلك غيره تشعبت عليه الطرق وتفرقت به السبل قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬1) وخط النبي - صلى الله عليه وسلم - خطا ثم قال: «هذا سبيل الله مستقيما» وخط خطوطا عن يمينه وشماله، ثم قال: «هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه» ثم قرأ {وَأَنْ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬2) وقال: «ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعن جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط المستقيم جميعا ولا تفرقوا، ¬

(¬1) الأنعام الآية (153). (¬2) تقدم تخريجه في مواقف الإمام مالك سنة (179هـ).

وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط: كتاب الله، والداعي فوق الصراط: واعظ الله في قلب كل مسلم» (¬1). س: بماذا يتأتى سلوكه والسلامة من الانحراف عنه؟ ج: لا يحصل ذلك إلا بالتمسك بالكتاب والسنة، والسير بسيرهما، والوقوف عند حدودهما، وبذلك يحصل تجريد التوحيد لله وتجريد المتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم - {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} (¬2) وهؤلاء المنعم عليهم المذكورون ههنا تفصيل: هم الذين أضاف الصراط إليهم في فاتحة الكتاب بقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} (¬3) ولا أعظم ¬

(¬1) الترمذي (5/ 133/2859) والنسائي في الكبرى (6/ 361/11233) من طريق بقية بن الوليد عن بجير بن سعيد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان الكلابي مرفوعا وفيه بقية بن الوليد يدلس تدليس التسوية. ولهذا قال الترمذي: "هذا حديث غريب. إلا أنه لم ينفرد به. فقد رواه أحمد (4/ 182 - 183) من طريق الليث بن سعد والحاكم (1/ 73) من طريق ابن وهب كلاهما عن معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن النواس بن سمعان به". قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم ولا أعرف له علة" ووافقه الذهبي. (¬2) النساء الآية (69). (¬3) الفاتحة الآيتان (6و7).

نعمة على العبد من هدايته إلى هذا الصراط المستقيم، وتجنيبه السبل المخلة، وقد ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته على ذلك كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك» (¬1). س: ما ضد السنة؟ ج: ضدها البدعة المحدثة: وهي شرع ما لم يأذن به الله، وهي التي عناها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (¬2) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة ضلالة» (¬3) وأشار - صلى الله عليه وسلم - إلى وقوعها بقوله: «وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» وعينها بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «هم من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي» (¬4). وقد برأه الله تعالى من أهل البدع بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} (¬5) الآية. (¬6) - وقال في معارج القبول: وقد حصل مصداق ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (4/ 126)) وابن ماجه (1/ 16/43) وأصله عند أبي داود (5/ 13/4607) والترمذي (5/ 43/2676) وقال: "حديث حسن صحيح". وابن حبان (1/ 178/5) والحاكم (1/ 95) وقال: "صحيح ليس له علة" ووافقه الذهبي من حديث العرباض بن سارية. (¬2) تقدم تخريجه في مواقف ابن رجب سنة (795هـ). (¬3) تقدم تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ). (¬4) تقدم تخريجه في مواقف الآجري سنة (360هـ). (¬5) الأنعام الآية (159). (¬6) أعلام السنة المنشورة (216 - 219).

وهو الصادق المصدوق من الافتراق، وتفاقم الأمر وعظم الشقاق فاشتد الاختلاف ونجمت البدع والنفاق، فافترقوا في أسماء الله تعالى وصفاته إلى نفاة معطلة، وغلاة ممثلة، وفي باب الإيمان والوعد والوعيد إلى: مرجئة ووعيدية من خوارج ومعتزلة، وفي باب أفعال الله وأقداره إلى: جبرية غلاة وقدرية نفاة، وفي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته إلى رافضة غلاة وناصبة جفاة، إلى غير ذلك من فرق الضلال، وطوائف البدع والانتحال، وكل طائفة من هذه الطوائف قد تحزبت فرقا وتشعبت طرقا، وكل فرقة تكفر صاحبتها وتزعم أنها هي الفرقة الناجية المنصورة. (¬1) - وقال: ثم اعلم أن البدع كلها مردودة ليس منها شيء مقبولا، وكلها قبيحة ليس فيها حسن، وكلها ضلال ليس فيها هدى، وكلها أوزار ليس فيها أجر، وكلها باطل ليس فيها حق. ومعنى البدعة هو شرع ما لم يأذن الله به ولم يكن عليه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه، ولهذا فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - البدعة بقوله: «كل عمل ليس عليه أمرنا» (¬2) ووصف الطائفة الناجية من الثلاث والسبعين فرقة بقوله: «هم الجماعة». وفي رواية: «هم من كان مثل ما أنا عليه وأصحابي» (¬3).اهـ (¬4) - وفيه: وهذا الذي قاله -أي الإمام الشافعي- من تحكيم نصوص الكتاب والسنة، وطرح ما خالفهما هو الذي نطقا به وصرحت به ¬

(¬1) معارج القبول بشرح سلم الوصول (1/ 18). (¬2) تقدم قريبا. (¬3) تقدم قريبا. (¬4) معارج القبول (2/ 616).

نصوصهما وأجمع عليه الصحابة والتابعون فمن بعدهم كما حكى إجماعهم هو وغيره، وكما هو المشهور من سيرتهم في الأقوال والأفعال. ونصوصهم في هذا الباب ملء الدنيا، وتصانيفهم في ذلك قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها، ولو رأوا ما عليه مقلدوهم في هذا الوقت لتبرأوا منهم ومقتوهم أشد المقت، فإنهم ليسوا على ما كانوا عليه، ولا اهتدوا إلى ما أرشدوهم إليه، بل اختلفوا اختلافا شديدا وافترقوا افتراقا بعيدا، وكل منهم يحصر الحق في إمامه ويرى ما خالفه باطلا، ويرى سائر أهل العلم مفضولين وإمامه فاضلا، وإذا خالف مذهبه نصا ضرب له الأمثال، وتكلف له التأويل المحال، ويقابله الآخر بمثل ذلك، فهم بين راد ومردود وحاسد ومحسود، وكان فيهم شبه من الذين قال الله تعالى فيهم {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)} (¬1)، ولم يعلم هؤلاء المساكين أن سلفهم الصالح الذين يزعمون الاقتداء بهم كانوا أبعد من هذه الصفة بعد ما بين المشارق والمغارب، بل كانوا رضي الله عنهم وأرضاهم أجل شأنا وأكمل إيمانا من أن يقدموا بين يدي الله ورسوله، بل هم تبع له في أوامره ونواهيه، ولنصوص الشرع أعظم عندهم من أن يقدموا عليها آراء الرجال، وهي أجل قدرا في صدورهم من أن تضرب لها الأمثال، وأعلى منزلة من أن تدفع بالأقيسة والتأويل المحال، وإنما المقتدي بهم على الحقيقة من اقتفى أثرهم واتبع سيرهم وحفظ وصيتهم وأحيا سنتهم في طلب الحق وأخذه أين وجده، ¬

(¬1) الروم الآية (32) ..

والوقوف عند كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما بلغته، فكما كان اجتهاد السلف رحمهم الله في جمع الأدلة واستنباط الأحكام منها فالواجب عند الخلاف تتبع تلك الأدلة والاستنباطات والأخذ بالأصح منها مع من كان وبيد من وجد، فإن الحق واحد لا يجزئه الاختلاف، وكل واحد من أولئك الأئمة يدأب في طلبه جادا مجتهدا إن أصابه فله أجران وإن أخطأه فله أجر والخطأ مغفور، وهذه أقوالهم مدونة في كتبهم، كلها تذم الرأي في الدين، وتحث من بعدهم على اقتفاء أثرهم في طلب الحق أين ما كان، ولم يدع أحد منهم إلى تقليده، ولم يكن أحد منهم معصوما ولا ادعى ذلك ولا قال: إن الحق معي لا يفارقني فتمسكوا بما أقول وأفعل، ولا كان لأحد منهم التزام قول أحد من آحاد الأمة لا ممن هو مثلهم ولا من هو أفضل منهم فضلا عمن هو دونهم، ولم يكن لهم أن يلتزموه فيما خالف النص الذي لم يبلغه أو لم يستحضره، ولو كان ذلك خيرا لسبقونا إليه، بل كان إمام الجميع محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي بين للناس ما نزل إليهم، ويتبعون آثاره من الأفعال والأقوال والتقريرات، يتلقنونها من حفاظها من كانوا وأين كانوا وبيد من وجدوها، وقفوا عندها ولم يعدوها إلى غيرها. وكانت طريقتهم في تلقي النصوص أنهم يردون المتشابه إلى المحكم، ويأخذون ما يفسر لهم المتشابه ويُبينه لهم، فتتفق دلالته مع دلالة المحكم وتوافق النصوص بعضها بعضا، ويصدق بعضها بعضا، فإنها كلها من عند الله وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه ولا تناقض، وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره،

موقفه من الرافضة:

قال الله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} (¬1).اهـ (¬2) موقفه من الرافضة: - جاء في معارج القبول: فصل من هو أفضل الأمة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر الصحابة بمحاسنهم، والكف عن مساويهم وما شجر بينهم رضي الله عنهم. أهم ما في هذا الفصل خمس مسائل: الأولى: مسألة الخلافة. والثانية: فضل الصحابة وتفاضلهم بينهم. والثالثة: تولي أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته سلام الله ورحمته وبركته عليهم، ومحبة الجميع والذب عنهم. الرابعة: ذكرهم بمحاسنهم والكف عن مساويهم. والخامسة: السكوت عما شجر بينهم، وأن الجميع مجتهد: فمصيبهم له أجران أجر على اجتهاده وأجر على إصابته، ومخطؤهم له أجر الاجتهاد وخطؤه مغفور. وبعده الخليفة الشفيق ... نعم نقيب الأمة الصديق ذلك رفيق المصطفى في الغار ... شيخ المهاجرين والأنصار وهو الذي بنفسه تولى ... جهاد من عن الهدى تولى ¬

(¬1) النساء الآية (82). (¬2) معارج القبول (628 - 630).

(وبعده): أي بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (الخليفة): له في أمته. الشفيق: بهم وعليهم. (نعم): فعل مدح. (نقيب): فاعل نعم، والنقيب عريف القوم وأفضلهم. (الصديق): هو المخصوص بالمدح وهو النقابة منه لجميع الأمة، وهو أبو بكر عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن مرة التيمي، أول الرجال إسلاما، وأفضل الأمة على الإطلاق رضي الله عنه ... (¬1) - وفيه: ثانيه في الفضل بلا ارتياب ... الصادع الناطق بالصواب أعني به الشهم أبا حفص عمر ... من ظاهر الدين القويم ونصر الصارم المنكي على الكفار ... وموسع الفتوح في الأمصار (ثانيه): أي ثاني أبي بكر. (في الفضل): على الناس بعده فلا أفضل منه، وكذا هو ثانيه في الخلافة بالإجماع. (بلا ارتياب): أي بلا شك. (الصادع): بالحق المجاهر به الذي لا يخاف في الله لومة لائم، ومنه قول الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (¬2) فكان عمر رضي الله عنه كذلك، وبه سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - فاروقا. (الناطق بالصواب): والذي وافق الوحي في أشياء قبل نزوله كما سيأتي. (أعني به): أي بهذا النعت. (الشهم): الذكي المتوقد، السيد المطاع الحكم القوى في أمر الله الشديد في دين الله. (أبا حفص عمر): ابن الخطاب ابن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح ¬

(¬1) معارج القبول (2/ 522 - 523). (¬2) الحجر الآية (94).

ابن عدي بن كعب العدوى ثاني الخلفاء وإمام الحنفاء بعد أبي بكر رضي الله عنهما، وأول من تسمى أمير المؤمنين. (الصارم): السيف المسلول. (المنكي): من النكاية. (على الكفار): لشدته عليهم وإثخانه إياهم، حتى إن كان شيطانه ليخافه أن يأمره بمعصية كما قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (وموسع): من الاتساع. (الفتوح): فتوح الإسلام. (في الأمصار): فكمل فتوح بلاد الروم بعد اليرموك ثم بلاد فارس حتى مزق الله به ملكهم كل ممزق، ثم أوغل في بلاد الترك كما هو مبسوط في كتب السير وغيرها. (¬1) - وفيه: ثالثهم عثمان ذو النورين ... ذو الحلم والحيا بغير مين بحر العلوم جامع القرآن ... منه استحت ملائك الرحمن بايع عنه سيد الأكوان ... بكفه في بيعة الرضوان (ثالثهم): في الخلافة والفضل. (عثمان): بن عفان بن أبي العاص بن أمية ابن عبد شمس بن عبد مناف، من السابقين الأولين إلى الإسلام بدعوة الصديق إياه، وزوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقية ابنته رضي الله عنها، وهاجر الهجرتين وهي معه، وتخلف عن بدر لمرضها، وضرب له النبي - صلى الله عليه وسلم - بسهمه وأجره. وبعد وفاتها زوجه النبي - صلى الله عليه وسلم - أم كلثوم بمثل صداق رقية على مثل صحبتها وبذلك تسمى. (ذو النورين): لأنه تزوج ابنتي نبي واحدة بعد واحدة ولم يتفق ذلك لغيره رضي الله عنه. ذو الحلم: التام الذي لم يدركه ¬

(¬1) معارج القبول (2/ 546 - 547).

غيره. (والحياء): الإيماني الذي يقول فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الحياء شعبة من الإيمان» (¬1) وقال: «أشدكم حياء عثمان» (¬2). (بحر العلوم): الفهم التام في كتاب الله تعالى حتى إن كان ليقوم به في ركعة واحدة فلا يركع إلا في خاتمتها إلا ما كان من سجود القرآن. (جامع القرآن): لما خشى الاختلاف في القرآن والخصام فيه في أثناء خلافته رضي الله عنه، فجمع الناس على قراءة واحدة، وكتب المصحف على القراءة الأخيرة التي درسها جبريل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سني حياته ... (¬3) - وفيه: والرابع ابن عم خير الرسل ... أعني الإمام الحق ذا القدر العلي مبيد كل خارجي مارق ... وكل خب رافضي فاسق من كان للرسول في مكان ... هارون من موسى بلا نكران ولا في نبوة فقد قدمت ما ... يكفي لمن من سوء ظن سلما (والرابع): في الفضل والخلافة. (ابن عم): محمد - صلى الله عليه وسلم -. (خير الرسل): أكرمهم على الله عز وجل. (أعني): بذلك. (الإمام الحق): بالإجماع بلا مدافعة ولا ممانعة. (ذا): صاحب. (القدر العلي): الرفيع، وهو أمير المؤمنين أبو السبطين علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم رضي الله عنه ¬

(¬1) أحمد (2/ 414) والبخاري (1/ 71/9) ومسلم (1/ 63/35) وأبو داود (5/ 56/4614) والنسائي (8/ 484/5020) وابن ماجه (1/ 22/57). (¬2) تقدم تخريجه في مواقف شيخ المالكية سعيد بن محمد بن الحداد المغربي سنة (302هـ). (¬3) معارج القبول (2/ 555 - 556).

وأرضاه ... (ومبيد كل خب رافضي فاسق): الخب الخداع الخائن، والرافضي نسبة إلى الرفض، وهو الترك بازدراء واستهانة، سموا بذلك لرفضهم الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وزعموا أنهما ظلما عليا واغتصبوه الخلافة ومنعوا فاطمة رضي الله عنها فدك، وبذلك يحطون عليهما ثم على عائشة ثم على غيرها من الصحابة. وهم أقسام كثيرة لا كثرهم الله تعالى، أعظمهم غلوا وأسوأهم قولا وأخبثهم اعتقادا بل وأخبث من اليهود والنصارى هم السبئية أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي قبحه الله، كانوا يعتقدون في علي رضي الله عنه الإلهية كما يعتقد النصارى في عيسى عليه السلام، وهم الذين أحرقهم علي رضي الله عنه بالنار، وأنكر ذلك عليه ابن عباس كما في صحيح البخاري والمسند وأبي داود والترمذي والنسائي عن عكرمة رضي الله عنه قال: أتي علي رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تعذبوا بعذاب الله» ولقتلتهم لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من بدل دينه فاقتلوه» (¬1). حكى عن أبي المظفر الاسفراييني في الملل والنحل: أن الذين أحرقهم علي رضي الله عنه طائفة من الروافض ادعوا فيه الإلهية وهم السبئية، وكان كبيرهم عبد الله بن سبأ يهوديا ثم أظهر الإسلام وابتدع هذه المقالة. وتفصيل ذلك ما ذكره في الفتح من طريق عبد الله بن شريك العامري عن أبيه قال: ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (1/ 217) والبخاري (6/ 184/3017) وأبوداود (4/ 520/4351) والترمذي (4/ 48/1458) والنسائي (7/ 120/4071) وابن ماجه (2/ 848/2535).

قيل لعلي رضي الله عنه: إن هنا قوما على باب المسجد يزعمون أنك ربهم، فدعاهم فقال لهم: ويلكم ما تقولون؟ قالوا أنت ربنا وخالقنا ورازقنا. قال: ويلكم إنما أنا عبد مثلكم آكل الطعام كما تأكلون، وأشرب كما تشربون، إن أطعت الله أثابني إن شاء وإن عصيته خشيت أن يعذبني. فاتقوا الله وارجعوا، فأبوا. فلما كان الغد غدوا عليه فجاء قنبر فقال: قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام، فقال أدخلهم فقالوا كذلك، فلما كان الثالث قال لئن قلتم ذلك لأقتلنكم بأخبث قتلة، فأبوا إلا ذلك، فأمر علي رضي الله عنه أن يخد لهم أخدود بين المسجد والقصر، وأمر بالحطب أن يطرح في الأخدود ويضرم بالنار ثم قال لهم: إني طارحكم فيها أو ترجعوا. فأبوا أن يرجعوا، فقذف بهم حتى إذا احترقوا قال: إني إذا رأيت أمر منكرا ... أوقدت ناري ودعوت قنبرا قال ابن حجر: "إسناده صحيح" (¬1).اهـ (¬2) - وفيه: وأكثر ما يكذب على علي رضي الله عنه الرافضة الذين يدعون مشايعته ونشر فضائله ومثالب غيره من الصحابة، فيسندون ذلك إليه رضي الله عنه وهو بريء منهم، وهم أعدى عدو له. وفي الصحيحين من طرق عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تكذبوا علي فإنه من ¬

(¬1) تقدم ضمن مواقف علي رضي الله عنه سنة (40هـ). (¬2) معارج القبول (2/ 565 - 574).

كذب علي فليلج النار» (¬1). وفي فضائله رضي الله عنه من الأحاديث الصحاح والحسان ما يغني عن أكاذيب الرافضة، وهم يجهلون غالب ما له من الفضائل فيها، وفي صحيح مسلم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا فقال: ما منعك أن تسب أبا تراب؟ فقال: أما ما ذكرت فثلاث قالهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول له وقد خلفه في مغازيه فقال له علي رضي الله عنه: يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي؟» وسمعته يقول يوم خيبر: «لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله»، قال فتطاولنا لها قال: «ادعوا لي عليا»، فأتي به أرمد، فبصق في عينيه ودفع إليه الراية ليلة فتح الله عليه. ولما نزلت هذه الآية: {تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} (¬2) دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال: «اللهم هؤلاء أهلي» (¬3).اهـ (¬4) ¬

(¬1) أحمد (1/ 83،123،150) والبخاري (1/ 266/106) ومسلم في مقدمته (1/ 9/1) والترمذي (5/ 34/2660) والنسائي في الكبرى (3/ 457/5811) وابن ماجه (1/ 13/31). (¬2) آل عمران الآية (61). (¬3) أحمد (1/ 185) ومسلم (4/ 1871/2404 [32]) والترمذي (5/ 596/3724) والنسائي في الكبرى (6/ 122/8439) من طريق بكير بن مسمار المدني عن عامر بن سعد عن أبيه. (¬4) معارج القبول (2/ 579 - 580).

موقفه من الصوفية:

- وفيه: ثم السكوت واجب عما جرى ... بينهم من فعل ما قد قدرا فكلهم مجتهد مثاب ... وخطؤهم يغفره الوهاب أجمع أهل السنة والجماعة الذين هم أهل الحل والعقد الذين يعتد بإجماعهم على وجوب السكوت عن الخوض في الفتن التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم بعد قتل عثمان رضي الله عنه، والاسترجاع على تلك المصائب التي أصيبت بها هذه الأمة، والاستغفار للقتلى من الطرفين والترحم عليهم، وحفظ فضائل الصحابة والاعتراف لهم بسوابقهم ونشر مناقبهم، عملا بقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} (¬1) الآية. واعتقاد أن الكل منهم مجتهد: إن أصاب فله أجران أجر على اجتهاده وأجر على إصابته، وإن أخطأ فله أجر الاجتهاد والخطأ مغفور، ولا نقول إنهم معصومون بل مجتهدون إما مصيبون وإما مخطئون لم يتعمدوا الخطأ في ذلك. وما روي من الأحاديث في مساويهم الكثير منه مكذوب، ومنه ما قد زيد فيه أو نقص منه وغير عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون. (¬2) موقفه من الصوفية: سئل رحمه الله: إلى كم قسم تنقسم البدع في العبادات: ¬

(¬1) الحشر الآية (10). (¬2) معارج القبول (2/ 599 - 600)

موقفه من الجهمية:

فأجاب: إلى قسمين: الأول: التعبد بما لم يأذن الله أن يعبد به ألبتة، كتعبد جهلة المتصوفة بآلات اللهو والرقص والصفق والغناء وأنواع المعازف وغيرهما، مما هم فيه مضاهئون فعل الذين قال الله تعالى فيهم: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} (¬1). والثاني: التعبد بما أصله مشروع، ولكن وضع في غير موضعه، ككشف الرأس مثلا هو في الإحرام عبادة مشروعة، فإذا فعله غير المحرم في الصوم أو في الصلاة أو غيرها بنية التعبد كان بدعة محرمة، وكذلك فعل سائر العبادات المشروعة في غير ما تشرع فيه، كالصلوات النفل في أوقات النهي، وكصيام يوم الشك وصيام العيدين، ونحو ذلك. (¬2) موقفه من الجهمية: - قال في معرض ذكره للإلحاد في أسماء الله: وهو ثلاثة أقسام: الأول: إلحاد المشركين، وهو ما ذكره ابن عباس وابن جريج ومجاهد من عدولهم بأسماء الله تعالى عما هي عليه، وتسميتهم أوثانهم بها مضاهاة لله عز وجل ومشاقة له وللرسول - صلى الله عليه وسلم -. الثاني: إلحاد المشبهة الذين يكيفون صفات الله عز وجل ويشبهونها بصفات خلقه مضادة له تعالى وردا لقوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ ¬

(¬1) الأنفال الآية (35). (¬2) أعلام السنة المنشورة (ص.220).

شَيْءٌ} (¬1)، {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} (¬2) وهو مقابل لإلحاد المشركين؛ فأولئك جعلوا المخلوق بمنزلة الخالق وسووه به، وهؤلاء جعلوا الخالق بمنزلة الأجسام المخلوقة وشبهوه بها، تعالى وتقدس عن إفكهم. الثالث: إلحاد النفاة، وهم قسمان: قسم أثبتوا ألفاظ أسمائه تعالى دون ما تضمنته من صفات الكمال، فقالوا: رحمن رحيم بلا رحمة، عليم بلا علم، حكيم بلا حكمة، قدير بلا قدرة، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر. واطردوا بقية الأسماء الحسنى هكذا وعطلوها عن معانيها وما تقتضيه وتتضمنه من صفات الكمال لله تعالى، وهم في الحقيقة كمن بعدهم، وإنما أثبتوا الألفاظ دون المعاني تسترا وهو لا ينفعهم. وقسم لم يتستروا بما تستر به إخوانهم بل صرحوا بنفي الأسماء وما تدل عليه من المعاني واستراحوا من تكلف أولئك، وصفوا الله تعالى بالعدم المحض الذي لا اسم له ولا صفة؛ وهم في الحقيقة جاحدون لوجود ذاته تعالى، مكذبون بالكتاب وبما أرسل الله به رسله. وكل هذه الأربعة الأقسام كل فريق منهم يكفر مقابله، وهم كما قالوا كلهم كفار بشهادة الله وملائكته وكتبه ورسله والناس أجمعين من أهل الإيمان والإثبات الواقفين مع كلام الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وآله وصحبه أجمعين. (¬3) ¬

(¬1) الشورى الآية (11). (¬2) طه الآية (110). (¬3) معارج القبول (1/ 88 - 89).

- وقال في 'أعلام السنة المنشورة' مبينا معتقده في القرآن: القرآن كلام الله عز وجل حقيقة حروفه ومعانيه، ليس كلامه الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف، تكلم الله به قولا، وأنزله على نبيه وحيا، وآمن به المؤمنون حقا، فهو وإن خط بالبنان وتلي باللسان، وحفظ بالجنان وسمع بالآذان وأبصرته العينان، لا يخرجه ذلك عن كونه كلام الرحمن، فالأنامل والمداد والأقلام والأوراق مخلوقة، والمكتوب بها غير مخلوق، والألسن والأصوات مخلوقة والمتلو بها على اختلافها غير مخلوق، والصدور مخلوقة، والمحفوظ فيها غير مخلوق، والأسماع مخلوقة، والمسموع غير مخلوق، قال الله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78)} (¬1)، وقال تعالى: {بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)} (¬2)، وقال تعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} (¬3)، وقال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (¬4)، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "أديموا النظر في المصحف" والنصوص في ذلك لا تحصى، ومن قال: القرآن أو شيء من القرآن مخلوق فهو كافر كفرا أكبر ¬

(¬1) الواقعة الآيتان (77و78). (¬2) العنكبوت الآية (49). (¬3) الكهف الآية (27). (¬4) التوبة الآية (6).

موقفه من الخوارج:

يخرجه من الإسلام بالكلية، لأن القرآن كلام الله تعالى منه بدأ وإليه يعود وكلامه وصفته، ومن قال: شيء من صفات الله مخلوق فهو كافر مرتد، يعرض عليه الرجوع إلى الإسلام فإن رجع وإلا قتل كفرا ليس له شيء من أحكام المسلمين. (¬1) موقفه من الخوارج: بين رحمه الله الواجب لولاة الأمور طبقا لما قرره أهل السنة فقال: الواجب لهم النصيحة بموالاتهم على الحق وطاعتهم فيه، وأمرهم به وتذكيرهم برفق، والصلاة خلفهم، والجهاد معهم، وأداء الصدقات إليهم، والصبر عليهم وإن جاروا، وترك الخروج بالسيف عليهم ما لم يظهروا كفرا بواحا، وألا يغروا بالثناء الكاذب عليهم، وأن يدعى لهم بالصلاح والتوفيق. (¬2) موقفه من المرجئة: - قال رحمه الله في سلم الوصول: اعلم بأن الدين قول وعمل ... فاحفظه وافهم ما عليه ذا اشتمل - وقال أيضا فيه: إيماننا يزيد بالطاعات ... ونقصه يكون بالزلات وأهله فيه على تفاضل ... هل أنت كالأملاك أو كالرسل والفاسق الملي ذو العصيان ... لم ينف عنه مطلق الإيمان لكن بقدر الفسق والمعاصي ... إيمانه مازال في انتقاص ¬

(¬1) أعلام السنة (93 - 95). (¬2) أعلام السنة (245).

موقفه من القدرية:

وقد شرح رحمه الله هذه الأبيات في معارج القبول شرحا وافيا فلتنظر هناك. (¬1) موقفه من القدرية: عقد فصلا في كتابه الجليل 'معارج القبول' في رؤوس الطوائف الضالة وذكر من بينهم القدرية فقال: الطائفة الرابعة: نفاة القدر، وهم فرقتان: فرقة نفت تقدير الخير والشر بالكلية وجعلت العباد هم الخالقين لأفعالهم خيرها وشرها، ولازم هذا القول أنهم هم الخالقون لأنفسهم، لأن في قولهم نفي تصرف الله في عباده، وإخراج أفعالهم عن خلقه وتقديره، فيكون تكونهم من التراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة إلى آخر أطوار التخليق هم بأنفسهم تطوروا، وبطبيعتهم تخلقوا، وهذا راجع إلى مذهب الطبائعية الدهرية الذين لم يثبتوا خالقا أصلا كما قدمنا مناظرة أبي حنيفة لبعضهم فأسلموا على يديه. وفرقة نفت تقدير الشر دون الخير، فجعلوا الخير من الله وجعلوا الشر من العبد، ثم منهم من ينفي تقدير الشر من أعمال العباد دون تقديره في المصائب، ومنهم من غلا فنفى تقدير الشر من المصائب والمعايب. وعلى كل حال فقد أثبتوا مع الله تعالى خالقا، بل جعلوا العباد معه خالقين كلهم، ونفوا أن يكون الله هو المتفرد بالتصرف في ملكوته، وهذا راجع إلى مذهب المجوس الثنوية الذين أثبتوا خالقين خالقا للخير وخالقا للشر قبحهم الله ¬

(¬1) انظر (2/ 17 - 23) و (2/ 405 - 421) وغيرها من المواطن.

شيخ أنصار السنة بمصر حامد الفقي (1378 هـ)

تعالى. (¬1) - وعقد بابا في القضاء والقدر فيه من نظم سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد قال: والسادس الإيمان بالأقدار ... فأيقن بها ولا تمار فكل شيء بقضاء وقدر ... والكل في أم الكتاب مستطر (¬2) ثم بسط شرح ذلك مطولا. شيخ أنصار السنة بمصر حامد الفقي (¬3) (1378 هـ) الشيخ العلامة محمد حامد الفقي مؤسس جماعة أنصار السنة المحمدية، ولد في قرية جزيرة نكلا العنب في سنة عشر وثلاثمائة وألف للهجرة. حفظ القرآن الكريم وأتم حفظه في شهر رمضان سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة. بدأ دراسته بالأزهر في شهر شوال سنة اثنين وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة. ودراسته للحديث والتفسير بعد مضي ست سنين. نال شهادة العالمية في الأزهر الشريف سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة وألف وعمره آنذاك خمس وعشرون سنة. وانقطع بعدها إلى خدمة كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أنشأ جماعة أنصار السنة المحمدية سنة خمس وأربعين وثلاثمائة وألف، ¬

(¬1) معارج القبول (1/ 336 - 337). (¬2) معارج القبول (2/ 326). (¬3) مجلة التوحيد بتصرف (العدد الثالث ربيع الأول 1416هـ).

موقفه من المبتدعة:

واتخذ لها دارا بعابدين. وبعدها أسس مجلة الهدي النبوي فنفع الله بها النفع العظيم. قال الشيخ عبد الرحمن الوكيل: لقد ظل إمام التوحيد (في العالم الإسلامي) والدنا الشيخ محمد حامد الفقي -رحمه الله- أكثر من أربعين عاما يجاهد في سبيل الله، ظل يجالد قوى الشر الباغية في صبر، مارس الغلب على الخطوب، واعتاد النصر على الأحداث، وإرادته تزلزل الدنيا حولها، وترجف الأرض من تحتها، فلا تميل عن قصد، ولا تجبن عن غاية، لم يكن يعرف في دعوته هذه الخوف من الناس، أو يلوذ له، إذ كان الخوف من الله آخذا بمجامع قلبه، كان يسمي كل شيء باسمه الذي هو له، فلا يدهن في القول ولا يداجي، ولا يبالي ولا يعرف المجاملة أبدا في الحق أو الجهر به، إذ كان يسمي المجاملة نفاقا ومداهنة، ويسمي السكوت عن قول الحق ذلا وجبنا. توفي رحمه الله فجر الجمعة سابع رجب سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة على إثر عملية جراحية أجراها بمستشفى العجوزة. موقفه من المبتدعة: كان هذا الإمام شوكة في حلق المبتدعة في زمنه. ونفع الله به نفعا عظيما. وأخرج كثيرا من كتب السلف وزينها بتعاليقه الجيدة. وهي وإن كانت مختصرة، لكنها مفيدة. منها ما جاء في هامش 'اقتضاء الصراط المستقيم': - قال: وكذلك المقلدون على عمى: قد أطاعوا من قلدوهم في أخطائهم، وردوا بها صريح نصوص الكتاب والسنة، زاعمين أنها لم يأخذ بها

معظمهم. (¬1) - وقال: الجاهلية: هي الحالة الناشئة عن الجهل والإعراض عن أسباب العلم التي أقامها الله في آياته الكونية في الأنفس والآفاق وفي النعم المتتالية؛ فهذه الحالة الجاهلية ملازمة للإعراض عن الفهم والتفقه لما أنزل الله في كتبه وأرسل به رسله، وللإعراض عن التدبر والتأمل لسنن الله الكونية، وآياته العلمية. وهذه حال يعمد الشيطان إلى إركاس الناس فيها بصرفهم عن الحق والهدي الذي جاءهم به رسل الله. وقد أركس الشيطان الناس اليوم فيها بالتقليد الأعمى وتعطيل عقولهم وأفهامهم، وحرمانهم من تدبر سنن الله وآياته، ومن الفقه في كتاب الله وسنة رسوله، فغلب عليهم العقائد الزائغة، والأخلاق الفاسدة، وانعكست بهم الأحوال، فغلبت النساء بسفههن الرجال، ونفقت سوق الشرك والبدع والخرافات، والفسوق والعصيان، وتحاكموا إلى الطواغيت، وتقطعت الصلات، وتباغضت القلوب، وتعاونوا على الإثم والعدوان، وأصبحوا شيعا وأحزابا كل حزب بما لديهم فرحون، وضل سعيهم في كل شئون الحياة الدنيا. وعلى الجملة: أصبحوا في حياة لا ينبغي أن تنسب إلا إلى الجهل والسفه والغي، والإسلام دين الحكمة والرشد والفطرة السليمة، ودين العزة والقوة: برئ منها كل البراءة. (¬2) - وقال: لا يمكن أن تكون بدعة إلا ولها سلف وقدوة خبيثة من دين ¬

(¬1) هامش اقتضاء الصراط المستقيم (9). (¬2) هامش اقتضاء الصراط (79).

الكافرين وخبث أعمالهم التي أوحاها إليهم شياطين الإنس والجن. (¬1) - وقال: والذي أعتقده -والله الموفق- هو أن شرع الإسلام بعقائده وعباداته وشرائعه شرع تام بما أتمه الله غير محتاج إلى غيره {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬2) بل جعله الله مهيمنا على غيره. بحيث يجب على المؤمن أن لا يرجع إلى غيره، ولو أنه عرض له في حياته أمر أي أمر -فيجب أن يرده إلى الله ورسوله. فهو الشريعة التي حفظ الله أصولها ونصوصها، بحيث لا يتطرق شك ولا ريبة إلى أي أصل من أصولها، ولا نص من نصوصها، وهي الشريعة التي ارتضاها الله ربنا سبحانه -وهو العليم الحكيم الرحيم- لعباده من كل بني آدم من وقت نزولها إلى آخر الدهر، واختزن ربنا في طوايا نصوصها ما فيه الهدى والرحمة، والرشد والحكمة، والشفاء لما في صدور جميع الناس من كل داء ومرض من أمراض الشبهات والشهوات في الفرد والأسرة والحكومة والمجتمع. (¬3) - قال الشيخ رحمه الله عقب كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في الاقتضاء: "وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام، وإما محبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيما له، والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع: من اتخاذ مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - عيدا". قلت: كيف يكون لهم ثواب على هذا وهم مخالفون لهدي رسول الله ¬

(¬1) هامش اقتضاء الصراط (116). (¬2) المائدة الآية (3). (¬3) هامش اقتضاء الصراط (170).

- صلى الله عليه وسلم - ولهدي أصحابه؟! فإن قيل: لأنهم اجتهدوا فأخطأوا، فنقول: أي اجتهاد في هذا؟ وهل تركت نصوص العبادات مجالا للاجتهاد؟! والأمر فيه واضح كل الوضوح. وما هو إلا غلبة الجاهلية وتحكم الأهواء، حملت الناس على الإعراض عن هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى دين اليهود والنصارى والوثنيين. فعليهم ما يستحقونه من لعنة الله وغضبه، وهل تكون محبة وتعظيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالإعراض عن هديه وكرهه وكراهية ما جاء به من الحق لصلاح الناس من عند ربه، والمسارعة إلى الوثنية واليهودية والنصرانية؟ ومن هم أولئك الذين أحيوا تلك الأعياد الوثنية؟ هل هم مالك أو الشافعي أو أحمد أو أبو حنيفة أو السفيانان أو غيرهم من أئمة الهدى رضي الله عنهم؟ حتى يعتذر لهم ولأخطائهم، كلا، بل ما أحدث هذه الأعياد الشركية إلا العبيديون الذين أجمعت الأمة على زندقتهم، وأنهم كانوا أكفر من اليهود والنصارى، وأنهم كانوا وبالا على المسلمين، وعلى أيديهم وبدسائسهم وما نفثوا في الأمة من سموم الصوفية الخبيثة انحرف المسلمون عن الصراط المستقيم، حتى كانوا مع المغضوب عليهم والضالين؟ وكلام شيخ الإسلام نفسه يدل على خلاف ما يقول من إثابتهم، لأن حب الرسول وتعظيمه الواجب على كل مسلم: إنما هو باتباع ما جاء به من عند الله. كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)} (¬1) وقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا ¬

(¬1) آل عمران الآية (31) ..

أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (¬1)، وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ ¬

(¬1) النساء الآيات (60 - 65) ..

يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)} (¬1).اهـ (¬2) وله كلام جيد على بدعة قراءة القرآن على الموتى: جاء في اقتضاء الصراط المستقيم: "والوقوف التي وقفها الناس على القراءة عند قبورهم فيها من الفائدة: أنها تعين على حفظ القرآن، وأنها رزق لحفاظ القرآن، وباعثة لهم على حفظه ودرسه وملازمته، وإن قدر أن القارئ لا يثاب على قراءته، فهو مما يحفظ به الدين، كما يحفظ بقراءة الكافر وجهاد الفاجر. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» (¬3) ". - قال حامد الفقي عقب هذا القول: لقد كان هذا من أقوى أسباب إماتة القرآن فقها وعلما وعملا وإن حفظوه حروفا وألفاظا، لأنهم يحترفون قراءته للموتى، على مثال كهنة قدماء المصريين الوثنيين، وبذلك هان القرآن ونزل من نفوس القادة والرؤساء، بل والعامة، حتى أصبح أقل منزلة في نفوسهم من قول الشيوخ وآرائهم، وعادات الآباء وتقاليدهم، وحتى أصبح في زمننا هذا أقل من قوانين الفرنجة وضلالهم. ولم يبق له في العقائد والعبادات والأخلاق والأدب والأحكام والدولة والأسرة أي أثر ولا قيمة، ¬

(¬1) النور الآيات (47 - 52). (¬2) هامش اقتضاء الصراط (294 - 295 دار الكتب العلمية). (¬3) أحمد (2/ 309) والبخاري (6/ 220 - 221/ 3062) ومسلم (1/ 105 - 106/ 111).

موقفه من المشركين:

كل ذلك من آثار امتهانه للموتى والمقابر وللحجب والتمائم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وهل كان السلف يستعينون على حفظ القرآن بهذا؟ أو هل أثر عن أحد من الخلفاء الراشدين قراءة القرآن على المقابر؟ ولكن هي السنن، حين تتحكم الأهواء، فيلتمس الناس لجعلها دينا أي دليل، ولو كان أوهى من بيت العنكبوت. (¬1) موقفه من المشركين: له هوامش على 'فتح المجيد': - قال رحمه الله عقب قول الشارح: " .. فإنهم أحبوهم مع الله وإن كانوا يحبون الله تعالى": هم في الواقع ما أحبوا الله حقيقة، لأن حب الله لا يكون إلا عن معرفة بالله، بأسمائه وصفاته. ومن أحب الله على الحقيقة لا يمكن أن يتخذ من دونه ندا. وليس معنى (كحب الله) أي كحبهم لله. ولكن معناها والله أعلم: يحبونهم حبا من جنس الحب الذي لا يكون إلا لله. وهو حب العبادة: غاية الحب في غاية الذل والتعظيم. فهذا هو الحب الذي ينشأ عنه الدعاء واللجأ والضراعة وطلب تفريج الكروب ونحوها مما يجرده المؤمنون لله وحده وهم أشد حبا لله. والمشركون يجردونه لأوليائهم أو يشركونهم مع الله، ولا يرجون لله وقارا. (¬2) - وقال: الظاهر أن المعنى: أنهم يحبون أندادهم من جنس حب الله الذي هو حب التعظيم والذل والخضوع. لأنه ليس كل حب يكون عبادة ¬

(¬1) هامش اقتضاء الصراط (380 - 381 دار الكتب العلمية). (¬2) فتح المجيد (ص.123).

حتى يكون فيه تعظيم وخضوع. ولذلك قال: (كحب الله) ولم يقل: كحبهم لله. فهم في الوقت الذي يحبونهم أعظم الحب، يخافونهم أشد الخوف، معتقدين أنهم يخلفون عليهم خيرا مما ينذرونه لهم، ويذبحونه لهم من طيب مالهم، ويرجون منهم المساعدة والمعونة على كشف الضر ودفع البأساء، ويحذرون انتقامهم بحرق زرعهم وإهلاك أولادهم وأنفسهم، ويروون عن سدنتهم روايات مكذوبة في تأييد دعاويهم تهويلا عليهم وتمكينا للضلال والشرك من أنفسهم. فهم لا يرجون لله وقارا كما يرجون لهم، ولا يخشون الله كما يخشونهم. فتجود أنفسهم بسخاء في سبيل التقرب إلى أولئك الموتى من أوليائهم بما لا تجود بعشره في سبيل الله برا للوالدين أو صلة للأرحام، أو إطعاما لجار بائس، أو مسكين من أهل قريته؛ هذا شأن عباد القبور والموتى اليوم. دقق في أحوالهم وطبقها على آيات المشركين في القرآن تجدهم زادوا على مشركي الجاهلية الأولى. والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. إن من تحقق محبة مشركي زماننا لآلهتهم التي يسمونها بالأولياء يعلم يقينا أنهم يحبونها أكثر من محبتهم لله، ويتصدقون لوجوهها بما لا يقدرون أن يتصدقوا بعشره لوجه الله. (¬1) - وقال: في التِّوَلَة: وإن زعم الذين يصنعونها للنساء أنهم مسلمون ومتدينون، وأن ما يكتبونه من القرآن وأسماء الله، فإنهم يفعلون ذلك تضليلا بالقرآن وإلحادا فيه. لأنهم يكتبونه على طريقة اليهود حروفا مقطعة وبمداد خاص، ويمزجونه بأدعية جاهلية وبخطوط يزعمونها على صورة خاتم سليمان ¬

(¬1) فتح المجيد (ص.137).

الذي كان فيه سر ملكه، كما يزعم اليهود الذين يعتقدون كفر سليمان، وأنه كان يسخر الجن بالسحر لا بمعجزة من الله. وعلى هذه العقيدة اليهودية الدجالون الذين يكتبون التمائم والتولات، ويزعمون أن للحروف والأسماء خداما يقومون بما يطلب منهم من الأعمال السحرية، ويتخذون أنواعا من البخور والأدوات المخصوصة التي يوحي بها شياطينهم. وكل ذلك من الكفر العظيم. (¬1) - وقال: في قوله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} (¬2): الظن هنا: ظن المشركين بأوليائهم أنها تسمع الدعاء وتجيب، فإنهم ليس لهم علم بذلك لا من طريق حواسهم، ولا من خبر صادق، وإنما هو مما يشيعه السدنة ترويجا لتجارتهم الخاسرة. ويزيد الجاهلين تعلقا بأوليائهم من دون الله ما تهوى أنفسهم من قضاء حاجاتهم بغير الأسباب الكونية فهم يعظمون أولئك الموتى لهوى أنفسهم وقضاء وطرهم لا حبا في الإيمان والمؤمنين. ولذلك تراهم يتنقلون من ميت إلى آخر إذا لم يجدوا مسألتهم قضيت عند الأول. وهكذا ترى السدنة إذا انتقلوا من وظيفة عند هذا الولي الذي كان في نظرهم كبيرا أصبح الولي الذي انتقلوا عند قبره أعظم بركة وأكثر كرامات. والله يقول: إن هؤلاء جميعا لا يتبعون إلا هوى أنفسهم وهم كاذبون أعظم الكذب في دعواهم حب الأولياء والصالحين. (¬3) ¬

(¬1) فتح المجيد (ص.154). (¬2) النجم الآية (23). (¬3) فتح المجيد (ص.162 - 163).

عبد الرحمن الكمالي (1379 هـ)

عبد الرحمن الكمالي (1379 هـ) عبد الرحمن بن أحمد بن يحيى الكمالي الأنصاري، ولد سنة تسع وتسعين ومائتين وألف لسبع خلون من محرم الحرام. وتعلم ببلاده بجزيرة القسم "الجَسَم" بقرية كاروان بجنوب فارس، ثم رحل إلى "لنجة" فدرس على الشيخ عبد الرحمن بن يوسف، ثم رحل إلى مكة ومكث بها عشر سنين؛ فدرس هناك على الشيخ أبي شعيب الدكالي المغربي علوم الحديث والتفسير والتوحيد، ولازمه مدة طويلة. وكان الشيخ أبو شعيب هو السبب في تحول الشيخ عبد الرحمن الكمالي إلى المنهج السلفي، لذا قال فيه (¬1): وفي الغرب من أتباع مالك الإمام ... قوم لهم ذخر حديث محمد هنالك شيخي المغربي شعيب الـ ... ـذي كابن عبد البر في نصر مسند ودرس أيضا على مشايخ الحرم علوم العربية والفقه وغير ذلك. رجع إلى بلده ودرس فيها العقيدة السلفية في المدرسة الكمالية المشهورة بالعلم، وقضى عمره في مواجهة المناوئين فكانت له معارك كلامية معهم يذب فيها عن منهج السلف في العقيدة، وابتلي جَرَّاء ذلك أثابه الله وأحسن إليه. له منظومة 'شهود الحق' أبرز فيها المنهج السلفي في العقيدة، شرحها محمد رشاد محمد صالح (إسماعيل زادة) وقام بطبعها، وقدم لها الشيخ أحمد بن حجر رئيس قضاة المحكمة الشرعية بقطر، فأثنى عليها وعلى صاحبها، ¬

(¬1) منظومة 'شهود الحق' (ص.278).

موقفه من المشركين:

وللمترجم قصائد أخرى في نصرة العقيدة السلفية منها: قصيدة في أسماء الله وشروطها وغيرها. توفي رحمه الله يوم الجمعة السادس والعشرين من ذي الحجة سنة تسع وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة في مسجد كاروان في جزيرة "الجسم" ببلده. موقفه من المشركين: - قال في منظومته 'شهود الحق': ولا تعتد لا تدع معه خليقة ... ولو ملكا ذا قرب أو بشيرا هدي طغى بعض أصحاب النجوم بدعوة الـ ... ـكواكب والخدام بعدا لمعتد فإن الدعاء والقرابين والسجو ... د والصوم والتسبيح لله فاعبد قريب لمن يدنو إليه بلطفه ... مجيب لمن يدعو فلا تتبعد - وقال في قصيدة 'أسماء الله الحسنى وشروطها' (¬1): ولا تعبدن الخلق بل كن موحدا ... لمن كان قبل الخلق ربا وسيدا - وقال أيضا (¬2): بإخلاصك التوحيد نل قصرك المشيد ... في جنة سقف لها العرش فافرش موقفه من الرافضة: - قال رحمه الله (¬3): وآل رسول الله بالصدق وَالِهم ... على السنة البيضا لجدهم اهتد ¬

(¬1) (ص.296). (¬2) (ص.297). (¬3) منظومة 'شهود الحق' (ص.276 - 277).

موقفه من الجهمية:

ولا تك خبا رافضيا بزعمه ... محبتهم في سب صحب محمدي وقذف الطهور أم من آمنوا رضا ... وتخوين جبريل الأمين الممجد وتنزيهما في بضع عشرة آية ... أمانتهم جاءت بآيات اشهد فذو الرفض كالجهمي يخفي شواهد الـ ... ـعلو وفي الوحيين ألف لمهتد قم اتبع وحب الصحب فالتابعون في ... رضا الله موصولون معهم إلى غد هم أولياء الله مع تابعيهم ... طريق الهدى معهم شريعة أحمد موقفه من الجهمية: قال الشيخ أحمد بن حجر في مقدمته لمنظومة 'شهود الحق' (¬1): ولم يكتف الشيخ عبد الرحمن بكونه أصبح سلفيا متقيدا بعقيدته في الكتاب والسنة وفي أعماله، بل أصبح مناظرا ومجاهدا وسيفا مسلولا على المؤولة. - قال رحمه الله (¬2): سألنا علي الذات والوصف جمعنا ... بمجمع أسعاد بأرفع مسعد ودفعا لأشرار الفلاسفة البغاة ... في طغيهم عما أتى من محمد ورفعا لوسواس لهم قد أتوا به ... إلينا بأوهام الكلام المبعد ومنعا لطرق الشك في قلب واحد ... من الجمع، جمع الشمل شمل التسعد ورجعا لمن في مهمه الوهم تاه من ... تسفسط قول الفلسفي المعربد إله الورى لا داخل العالمين بل ... ولا خارجا عنها فما الفوق فاجحد نصوصا أتت فيه وإن جلت إذ قضت ... لحشوية أرذال أمة أحمد ¬

(¬1) (ص.7 - 8). (¬2) منظومة 'شهود الحق' (ص.106 - 112).

يقولون مولانا عن الخلق بائن ... بفوقية جاءت نصوص فنقتدي وإن أمكن التأويل أول وقل لهم ... بفوقية القدر اصرفنها وقيد كقولك إن السيف فوق الجريد أو ... كما قيل الياقوت فوق الزبرجد ولا تطلقن اسم العلي ودافعن ... نصوصا وأخرى اطعن وأول وبعد وإن كثرت منها السهام ولم تجد ... مجالا لتأويل فلا تتشرد وقل عقلنا قد عارض النقل فلنقد ... م العقل إذ منه إلى النقل نهتدي فذلك أصل وهو أولى تقدما ... عن الفرع واستمسك بذا وتجلد أقول إذا فليصنعوا ما بدا لهم ... فبالوحي ما استهدوا ولا بمحمد وكم لهم من حيلة حولوا بها ... قلوبا عن استقبال سنة أحمد إن العقل بالإيمان بالوحي مجدوا ... ولم يمرقوا فالوحي أصل الممجد ولكن عقل المثبتين هو الذي ... يوافقه لا عقل أهل التجحد يقولون ما لا في كتاب وسنة ... بلى سنة اليونان أكيد حسد - وقال أيضا (¬1): أيا حيلة اليونان في درك سمك المد ... سم قد ألهمت إلهام من هدي ويا حيلة اليونان في رد كيدك الموكـ ... ـد قد برهنت برهان مهتد ويا حيلة اليونان ربي ناصري ... عليك فإني من جيوش محمد ويا حيلة اليونان حولي فدرعي القر ... آن وسيفي سيف جدي أحمد معوذتاه حلتا عقدا عقد ... ت من سحر تخييل بغير توجد ¬

(¬1) منظومة 'شهود الحق' (ص.124 - 127).

فكم صدت أقواما بسحر خيالك المحا ... ل بدعوى نفي تشبيه ابتدي يخيل للأقوام أنك تجحدين ... تشبيهه حتى ظفرت بمقصد وما تم ذاك النفي إلا بنفيه ... تعالى، فهذا منتهى قصدك الردي بقصدك رأسا بان أنك تعلمـ ... ـين حربا ويكفي الرأس عن رجل أو يد بلغت مناك من أناس كثيرة ... فلا تقريبنا يا بغي بل ابعدي تريدين قطعا للطريق إصالة ... لأنك قطعا من أصول التمرد وأبلس إبليس اللعين برأيه ... كمثلك قطعا بعد طول التعبد - وقال أيضا (¬1): كفانا بحمد الله ليس كمثله ... بذات وأوصاف ولم نتجحد كما أنه بالذات ليس كمثله ... كذا في صفات الذات لم نتردد وبالحي والقيوم نعلم أنه ... بأحمد أوصاف الكمال وأمجد فكيف وقد جاءت بقرآن ربنا ... وسنة هادينا، أبالجحد نرتدي؟ وأسماءه الحسنى قبلنا جميعها ... بمدلولها عكس الجحود المبعد تفرقتم عن جمع جمع صفاته ... مع الذات واستجمعتم آراء مفسد فناف لذات الله ناف صفاته ... لزوما ولم يهدأ بروغ ويهتد - وقال (¬2): وما يهتدى إلا بهدي محمد ... وما مدعي هدي عداه بمرشد أكنت بمعراج النبي إلى العلي ... الأعلى على أعلى العلا في تردد ¬

(¬1) منظومة 'شهود الحق' (ص.134 - 136). (¬2) منظومة 'شهود الحق' (ص.153 - 154).

عروجا حقيقيا بغير تأول ... أم أول جهمي به كنت تقتدي كذلك الأملاك إليه عروجهم ... يخافونه من فوقهم مع تعبد وتنفيه عن فوق فليس بسافل ... فلم تتشهد مع يقين وتعبد وعما وراكون فليس بداخل العـ ... ـتخشى الذات يا ذا التردد لعلك في وهم بأن العظيم في ... قلبيك ذاتا كالحلولي يا ردي أو الذات في الأكوان مزجا ... أو احتشت ولم تمتزج حشوي أهون معتد أو الرب والمربوب لم يتباينا ... هما واحد كالاتحادي نعتدي فلم تخل من بعض أو أنت معطل ... جحود كلا أدرية بالتأكيد جزاك عمود النار فوق الجحود، ذق ... جزاء وفاقا للعزيز الممجد فكم فرق في تيه لا الله داخلا ... ولا خارجا أبدت فنون التردد كما مر ذكر البعض والنهر إن يسد ... مجراه يهدم حوله من مشيد فنون أهالي التيه صارت جنون من ... يتيه بدعوى كل فن مفند وأما قلوب الناس في حال فطرة ... الإله عليها قبل نحو التهود فنحو العلا مجبولة في رجوعها ... إلى الله هذي فطرة اله فاشهد وعامة إسلام تقر بفوقه ... بحمد الله كالحديث المؤيد فسله السواد الأعظم اليوم أو غدا ... تجد جود مولانا على الناس فاحمد - وقال (¬1): أيا مسلما سلم لوصف علوه ... تسلم تسليما به المرء يهتدي ¬

(¬1) منظومة 'شهود الحق' (ص.269 - 270).

محمد سلطان المعصومي (1380 هـ)

ويا مؤمنا أيقن بنعت علوه ... هديت إذ الإيقان ضد التردد وأدرى عباد الله بالله عبده ... الرسول وبالوحي بغير تردد تواترت عنه في العلو دلائل ... بقول وفعل أعجزت ذا التجحد وكان رسول الله يدعوه بالعلي ... الأعلى إذا ما اهتم بالقصد الأوكد كذاك إذا ما اهتم يدعوه رافعا ... يديه فتبدو الإبط للشاهد الهدي وجد برفع الوجه والعين واليد ... فزال الردا عن قده بالتجهد ببدر بدا كالبدر بل هو أبين ... كذا الرفع في الحج وبعد الوضو أشهد فقال لنا الجهمي ذا الرفع للسماء ... لا للعلي الواحد المتفرد فهل لك يا جهمي نص بصرف ذا ... عن الله هل بالصرف للخلق تهتدي - وقال (¬1): هم سلفيَّ إياك إياك أن ترى ... تخالفهم، خف من شقاء مؤبد هم الأهل، لا أصحاب شر زمخشر ... وأضرابه من حائر متردد ترددهم في ذات ربي ووصفه ... وأسمائه من اعتزال مبعد محمد سلطان المعصومي (¬2) (1380 هـ) أبو عبد الكريم محمد سلطان بن أبي عبد الله محمد أورون المعصومي الخجندي، نسبة إلى جده الأعلى محمد المعصوم. ولد في بلدة خجندة من بلاد ما وراء النهر سنة سبع وتسعين ومائتين وألف. سافر إلى الحجاز ثم إلى ¬

(¬1) منظومة 'شهود الحق' (ص.227 - 228). (¬2) مقدمة هدية السلطان (4 - 12).

موقفه من المبتدعة:

الشام ثم إلى مصر، آخذا عن علمائها ومشايخها، ثم رجع إلى موطنه، فاشتغل بالتدريس في المدرسة التي أنشأها والده. وفي سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة خرج الشيخ من الصين متوجها إلى مكة المكرمة بسبب محن وقعت له، فاستوطنها، وبقي فيها يدرس ويعلم إلى أن توفاه الله سنة ثمانين وثلاثمائة وألف رحمه الله. موقفه من المبتدعة: كان هذا الرجل من المجاهدين في سبيل عقيدتهم، وكاد أن يكون ضحية الزحف الأحمر الملعون في روسيا ولكن الله نجاه رغم العواصف التي مرت به ترك لنا تراثا سلفيا جيدا من ذلك: 'هدية السلطان إلى مسلمي بلاد اليابان' وهي رسالة جيدة جوابا على سؤال: هل المسلم ملزم باتباع مذهب معين من المذاهب الأربعة؟ نجتزئ منها بعض أقواله: - قال: أساس دين الإسلام إنما هو العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، هذا هو دين الإسلام الحق، وأصله وأساسه الكتاب والسنة، فهما المرجع في كل ما تنازع فيه المسلمون. ومن رد التنازع إلى غيرهما فهو غير مؤمن، كما قال الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (¬1). ولم يقل أحد من الأئمة اتبعوني فيما ذهب إليه، بل قالوا خذوا من حيث أخذنا، ¬

(¬1) النساء الآية (65).

على أن هذه المذاهب أضيف إليها كثير من أفهام القرون المتأخرة، وفيها كثير من الغلط، والمسائل الافتراضية التي لو رآها أحد من الأئمة الذين نسبت إلى مذاهبهم لتبرؤوا منها وممن قالها. وكل واحد ممن يحفظ عنه العلم والدين من أئمة السلف قد تمسك بظاهر الكتاب والسنة، ورغب الناس في التمسك والعمل بهما، كما ثبت عن الإمام أبي حنيفة، وكذا مالك، والشافعي، وأحمد، والسفيانين (¬1): الثوري وابن عيينة، والحسن البصري، وأبي (¬2) يوسف يعقوب القاضي، ومحمد بن الحسن الشيباني، وعبد الرحمن الأوزاعي، وعبد الله بن المبارك، والإمام البخاري، ومسلم، وغيرهم رحمهم الله تعالى، وكل واحد منهم يحذر من البدعة في الدين، ومن التقليد لغير المعصوم؛ والمعصوم إنما هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأما غيره فأياً كان فغير معصوم، فيقبل من قوله ما وافق الكتاب والسنة، وينبذ ما خالفهما أيا كان، كما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: "كل الناس يؤخذ منه ويؤخذ عليه إلا صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". وعلى هذا سلك المحققون من الأئمة الأربعة وغيرهم، وكل واحد منهم يحذر من التقليد الجامد، لأن الله تعالى قد ذم في غير موضع من كتابه المقلدين الجامدين، وما كفر غالب من كفر من الأولين والآخرين إلا بالتقليد للأحبار والرهبان، والمشايخ والآباء. وقد ثبت عن الإمام أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم رحمهم الله تعالى أنهم قالوا: "لا يحل لأحد أن يفتي بكلامنا، أو يأخذ بقولنا ما لم يعرف من أين ¬

(¬1) في الأصل: السفيانان. (¬2) في الأصل: وأبو.

أخذناه" وصرح كل واحد منهم أنه: "إذا صح الحديث فهو مذهبي" وقالوا أيضا: "إذا قلت قولا فاعرضوه على كتاب الله وسنة رسوله، فإن وافقهما فاقبلوه، وما خالفهما فردوه، واضربوا بقولي عرض الحائط" وهذا قول هؤلاء الأئمة الأعلام، أدخلهم الله تعالى دار السلام. ولكن الأسف ألف أسف من المقلدين المتأخرين، والمؤلفين الذين سودوا الدفاتر، وقد ظنهم الناس أنهم علماء مجتهدون معصومون، فهم قد ألزموا الناس تقليد واحد من الأئمة الأربعة ومذاهبهم المعروفة، فبعد الالتزام حظروا الأخذ والعمل بقول غيره كأنهم جعلوه نبيا مطاعا، يا ليتهم يعملون بقول الأئمة أنفسهم، ولكن لا يعرف أكثرهم من قول الإمام المتبوع إلا الاسم، وقد اخترع بعض المتأخرين مسائل، وابتدع مذاهب، ونسبها إلى الإمام، فيظن من يأتي بعده أنها قول الإمام أو مدعيه، والحال أنه مخالف لما قاله الإمام وقرره، وهو بريء مما نسب إليه، كقول كثير من متأخري الحنفية بحرمة الإشارة بالسبابة في تشهد الصلاة، أو أن المراد من يد الله قدرته، أو أنه تعالى في كل مكان بذاته وليس على العرش استوى. وبهذا وأمثاله قد انشقت عصا المسلمين، وتفرقت جماعتهم وجمعيتهم فاتسع الخرق على الراقع، وامتلأت الآفاق بالنفاق والشقاق. فبدع بعضهم بعضا، وضللت كل جماعة من يخالفها في أدنى شيء، وحتى كفر بعضهم بعضا، وضرب بعضهم رقاب بعض، وصاروا مثلا لما أخبر به الرسول الصادق الأمين سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -: «ستفترق أمتي ثلاثا وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة»، قيل من هم يا رسول الله؟ قال:

«الذين على ما أنا عليه وأصحابي» (¬1). المتأخرون غيروا وبدلوا حتى الزموا تقليد واحد فتفرقوا. والله العظيم، إن المسلمين حينما كانوا مسلمين كاملين، وصادقين في إسلامهم، كانوا منصورين وفاتحين البلاد، ورافعين أعلامهم الدين (¬2)، كالخلفاء الراشدين والتابعين لهم بإحسان رضي الله عنهم، ولكن لما غير المسلمون أوامر رب العالمين، جازاهم الله تعالى بتغيير النعمة عليهم، وسلب عنهم الدولة وأزال عنهم الخلافة، كما تشهد به آيات كثيرة. فمن جملة ما غيروا: التمذهب بالمذاهب الخاصة، والتعصب لها ولو بالباطل، وهذه المذاهب أمور مبتدعة حدثت بعد القرون الثلاثة، وهذا لا شك فيه ولا شبهة، وكل بدعة تعتقد دينا وثوابا فهي ضلالة، والسلف الصالحون كانوا يتمسكون بالكتاب والسنة وما دلاّ عليه، وما أجمعت عليه الأمة، وكانوا مسلمين رحمهم الله تعالى، ورضي عنهم وأرضاهم وجعلنا منهم، وحشرنا معهم في زمرتهم؛ ولكن لما شاعت بدعة المذاهب نشأ عنها افتراق الكلمة، وتضليل البعض البعض، حتى أفتوا بعدم جواز اقتداء الحنفي وراء الإمام الشافعي مثلا، وإن تقولوا بأن أهل المذاهب الأربعة هم أهل السنة، ولكن أعمالهم تكذبهم وتعارض قولهم وتبطله، فحدثت من هذه البدع هذه المقامات الأربعة في المسجد الحرام، فتعددت الجماعة، وانتظر كل متمذهب جماعة مذهبه، فبأمثال هذه البدع حصّل إبليس مقصدا من مقاصده، ألا وهو ¬

(¬1) تقدم تخريجه في مواقف الآجري سنة (360هـ). (¬2) كذا بالأصل، ولعل الصواب (رافعين أعلام الدين).

تفريق المسلمين وتشتيت شملهم، فنعوذ بالله من ذلك. (¬1) - وقال: والعجب من هؤلاء المقلدين لهذه المذاهب المبتدعة الشائعة والمتعصبين لها، فإن أحدهم يتبع ما نسب إلى مذهبه مع بعده عن الدليل، ويعتقده كأنه نبي مرسل، وهذا نأي عن الحق وبعد عن الصواب، وقد شاهدنا وجربنا أن هؤلاء المقلدين يعتقدون أن إمامهم يمتنع على مثله الخطأ، وأن ما قاله هو الصواب البتة، وأضمر في قلبه أنه لا يترك تقليده وإن ظهر الدليل على خلافه، وهذا هو طبق ما رواه الترمذي وغيره عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (¬2) فقلت: يا رسول الله إنهم ما كانوا يعبدونهم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «إنهم إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه، فذلك عبادتهم» (¬3).اهـ (¬4) - وقال: اعلم أن معظم الناس خاسرون وأقلهم رابحون، فمن أراد أن ينظر في ربحه وخسره؛ فلينظر وليعرض نفسه على الكتاب والسنة، فإذا وافقهما فهو الرابح، وأما إذا خالفهما فهو الخاسر، فيا حسرة عليه، وقد أخبر الله تعالى بخسارة الخاسرين وربح الرابحين، فأقسم بالعصر إن الإنسان ¬

(¬1) هدية السلطان (40 - 48). (¬2) التوبة الآية (31). (¬3) الترمذي (5/ 259 - 260/ 3095) وقال: "هذا حديث غريب". وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله في غاية المرام (برقم 6). (¬4) هدية السلطان (52 - 53).

لفي خسر إلا من جمع أربعة أوصاف، وإذا رأيت إنسانا يطير في الهواء، أو يمشي على الماء، أو يخبر عن المغيبات، ولكن يخالف الشرع بارتكاب المحرمات بغير سبب محلل، ويترك الواجبات بغير سبب مجوز، فاعلم أنه شيطان نصبه الله تعالى فتنة للجهلة، وليس ذلك بعيدا من الأسباب التي وضعها الله تعالى للضلال، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإن الدجال يحيي ويميت ويمطر السماء فتنة لأهل الضلال، وكذلك من يأكل الحيات ويدخل النيران. (¬1) - وقال: يقال للمقلد على أي شيء كان الناس قبل أن يوجد فلان وفلان الذين قلدتموهم، وجعلتم أقوالهم بمنزلة نصوص الشارع، وليتكم اقتصرتم على ذلك، بل جعلتموها أولى بالاتباع من نصوص الشارع، أفكان الناس قبل وجود هؤلاء على هدى أو ضلالة؟ فلا بد من أن يقروا بأنهم كانوا على هدى، فيقال لهم: فما الذي كانوا عليه غير اتباع القرآن والسنة والآثار، وتقديم قول الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وآثار الصحابة رضي الله عنهم على ما يخالفها، والتحاكم إليها دون قول فلان وفلان ورأيه؟ وإذا كان هذا هو الهدى فماذا بعد الحق إلا الضلال، فأنى يؤفكون؟ فتدبر. (¬2) - وله كتاب 'تمييز المحظوظين عن المحرومين في تجريد الدين وتوحيد المرسلين'. قال فيه: واحترز أيها المؤمن عن الصيغ المحدثة المبتدعة، والأحزاب المؤقتة التي فيها المنكرات بل الأكاذيب والكفريات كـ 'دلائل الخيرات' ¬

(¬1) هدية السلطان (77). (¬2) هدية السلطان (79).

للجزولي، و'صلوات الثناء' للنبهاني؛ فإنها من البدع المنكرة، لا يحل لمن يؤمن بالله وبكتابه ورسالة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يفعل ذلك، أو يعتقد جوازه، فإنه مما لم يأذن به الله ولا رسوله ولا أحد من أئمة المسلمين، فالحذر الحذر. (¬1) - وقال: وقد صدق الله العظيم؛ فإن المسلمين لما كانوا كاملي الإسلام؛ كالخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين لهم بإحسان رضي الله عنهم نصرهم الله تعالى على الأعداء، وفتح على أيديهم البلدان الكثيرة، ودخل الناس في دين الله أفواجا، فجزاهم الله تعالى في الدارين خير الجزاء. وأما الخلف؛ الذين خالفوا الله، وخالفوا أمره، وخالفوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخالفوا سنته، وخالفوا السلف الصالحين، وتركوا العمل بكتاب الله الهادي إلى سعادة الدارين، وجهلوا معانيه، واتخذوا دينهم هزوا ولعبا، واعتمدوا على الخرافات ودجل الدجالين، واعتقدوا أن أرواح الأولياء تعينهم وتمدهم، وأن الأقطاب والأوتاد تتصرف في العالم وتحفظه، فبنوا الأربطة والخانقات، واشتغلوا بالخرافات والخزعبلات، بل الشركيات والبدعيات والضلالات، وساعدهم السلاطين الجهلة، والعلماء الدجاجلة؛ فسلب الله تعالى عنهم الدولة، وسلط عليهم الكفرة الخذلة، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَن اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)} (¬2).اهـ (¬3) ¬

(¬1) تمييز المحظوظين (253). (¬2) الأنفال الآية (53). (¬3) تمييز المحظوظين (261 - 262).

- وقال: الآية الخامسة والثمانون في سورة المجادلة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)} (¬1). قد نادى الله تعالى وخاطب عباده المؤمنين؛ مؤدبا إياهم أن لا يكونوا مثل الكفرة والمنافقين الذين يتناجون بالإثم فيما بينهم، والفسق والعدوان على غيرهم، ومنه معصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومخالفته، ويصرون عليها، ويتواصون بها فيما بينهم؛ كأكثر البخاريين الذين يجاورون الحرمين وهم مصرون على عداوة أهل التوحيد العاملين بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيعادون الوهابيين، ويعادون السلفيين، ويقولون على طريق التشنيع: إنه وهابي، ويتواصون بذلك بعضهم بعضا، ويتواصون بعضهم بعضا أن لا يحضروا ولا يستمعوا دروس التفسير والحديث والتوحيد. وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ} وتساررتم فيما بينكم {فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ} كما يتناجى الجهلة من كفرة أهل الكتاب ومن على شاكلتهم ومالأهم على ضلالهم من المنافقين والمقلدين الجامدين، بل أنتم أيها المؤمنون ¬

(¬1) المجادلة الآيتان (9و10).

{تناجوا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)} فيجازيكم على أعمالكم وأقوالكم وقد أحصاها عليكم. ثم قال تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى}؛ أي: المساررة حيث يتوهم المؤمن بها سوءا من تزيين الشيطان وتسويله؛ {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا}؛ أي: إنما يزين لهم ذلك ليحزن المؤمنين ويسوؤهم، {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}؛ كما يفعل أكثر المبتدعين في حق السلفيين الموحدين، وما هم بضارين شيئا إلا بإذن الله، فنحن نستعيذ منهم بالله، ونتوكل عليه تعالى، فهو حسبنا ونعم الوكيل. فيا أيها المؤمنون اتقوا ربكم؛ فإنه عليم خبير، وعذابه أليم وشديد، ولا تغتروا بوساوس الشيطان من الجن والإنسان. (¬1) - وقال: ثم اعلم أنه كما اختلفت وكفرت طائفة من بني إسرائيل؛ كذلك اختلفت وكفرت طوائف من هذه الأمة، وغلت في نبيها وآله؛ كالرافضة، والشيعة، وغلاة الصوفية، والحنفية الهندية البريلوية، فادعت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم الغيب الآن (¬2)، وأن حاله - صلى الله عليه وسلم - بعد موته كحاله قبل موته، وهو حي في قبره كحياته الدنيوية، ولهذا ينادونه ويستغيثون به، حتى إنهم حينما ¬

(¬1) تمييز المحظوظين (283 - 284). (¬2) النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم الغيب لا الآن ولا قبل، إلا ما أعلمه الله عزوجل في حياته، قال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} النمل الآية (65) وقال: {فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)} الجن الآيتان (26و27).

موقفه من المشركين:

يقرؤون قصة المولد يقومون قياما بغاية التعظيم، ويقولون: مرحبا يا مرحبا يا مرحبا ... مرحبا جد الحسين مرحبا وإنما يقومون لأنهم يعتقدون أن روحه - صلى الله عليه وسلم - قد حضر هناك. وزاد غلو متأخريهم حتى صاروا يعتقدون أن الأولياء كعبد القادر الجيلاني مثلا- يعلمون الغيب، ويتصرفون في الأمور، فلهذا تراهم ينادونهم ويستغيثون بهم وينذرون لهم، فهؤلاء وأمثالهم كفرة مشركون، والعياذ بالله تعالى. (¬1) موقفه من المشركين: له من الآثار السلفية: 1 - 'المشاهد المعصومية عند قبر خير البرية في المدينة الطيبة' وهو عبارة عن رسالة صغيرة ذكر فيها ما يتعلق بالقبة ومتى بنيت، وذكر ما دخل المسجد النبوي من تغييرات مخالفة لهدي الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وأسوق بعض النماذج من كلامه. قال رحمه الله: اعلم أنه إلى عام 678هـ لم تكن قبة على الحجرة النبوية التي فيها قبره - صلى الله عليه وسلم - وإنما عملها وبناها الملك الظاهر المنصور قلاوون الصالحي في تلك السنة 678هـ فعملت تلك القبة. قلت: إنما فعل ذلك لأنه رأى في مصر والشام كنائس النصارى المزخرفة فقلدهم جهلا منه بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته، كما قلدهم الوليد في زخرفة المسجد فتنبه. وقال: غيروا توحيد الله بالشرك باعتقاد أن أرواح الأنبياء والأولياء ¬

(¬1) تمييز المحظوظين (302 - 303).

وخصوصا روح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعلم الغيب وتنفع وتضر. وهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله تعالى ما لم يتب منه؛ وبالركوع والسجود وكمال الخضوع إلى قبره الشريف وجعله قبلة في كل يوم مرات، وغيروا الإسلام باتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، فاستحلوا ما حللوه لهم وإن كان محرما ممنوعا من الله ورسوله كالبناء على القبور وتزيين المساجد وابتداع عبادات وأوراد في أوقات مخصوصة كدلائل الخيرات وقصيدة البردة. وحرموا على أنفسهم ما حلله الله بل فرضه، كتحريمهم العمل بالكتاب والسنة، وتحريمهم الإشارة بالسبابة، وإيجابهم تقليد أحد المذاهب المعينة وإلزامهم أخذ البيعة على يد شيخ من شيوخ الطرق ونحو ذلك من الخرافات والضلالة فتدبر. وقال في موضع آخر: فما في مسجد المدينة من النقوش المتنوعة، وطلي الذهب الكثير جدا، وكتابة الأبيات والأشعار الباطلة محفورة على الأسطوانات، وكتابة أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - على الجدار القبلي، وفيها ما هو من أسماء الله الخاصة له تعالى كالمهيمن والمحيي، وكتابة أبيات قصيدة البردة تماما على سقوف الأروقة والقبب القبلية، وكتابة أحاديث موضوعة محفورة على الحديد المذهب كحديث: «من زار قبري وجبت له شفاعتي» (¬1) ونحوها من النقوش التي هي منكرة؛ وإني لا أشك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو كان ¬

(¬1) أخرجه أبو داود الطيالسي (65)، ومن طريقه البيهقي (5/ 245) من طريق أبي الجراح العبدي قال: حدثني رجل من آل عمر عن عمر رضي الله عنه. وقال: هذا إسناد مجهول. وقال ابن عبد الهادي في الصارم المنكي (ص.89): "هذا الحديث ليس بصحيح لانقطاعه وجهالة إسناده واضطرابه ولأجل اختلاف الرواة في إسناده واضطرابهم فيه" وانظر الإرواء (4/ 333/1127).

موقفه من الصوفية:

حيا لأزالها حالا، ولا يدخل هذا المسجد حتى تزال هذه المنكرات فتنبه. موقفه من الصوفية: قال رحمه الله: لما غلب الجهل على كثير ممن يدعي الإسلام والتصوف؛ حرفوا هذه المراقبة، وبدلوها بمراقبة الشيخ، وسموها رابطة، فصاروا يراقبون صور شيوخهم، وهؤلاء الشيوخ يأمرونهم بذلك، فوضعوا شيوخهم موضع رب العالمين، فصاروا بذلك مشركين بالشرك الأكبر وهم لا يشعرون، وقد دخلوا في دين الوثنية باسم التصوف وهم لا يعلمون، ولهذا صاروا يتوجهون إلى القبور وإلى أصحاب القبور، ويستمدون منهم ويستغيثون بهم، ويبنون على قبور من يزعمونه صالحا قبة وعمارة عالية، ويزخرفونها، ويتوجهون إليها، وينذرون لها؛ كما هو حالهم المشاهد في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وقد صاروا عباد الأصنام والأوثان وهم لا يفهمون: ولهذا أذلهم الله تعالى في هذه الحياة الدنيا تحت أرجل الكفرة من الإنكليز والطليان والفرنسيين والروس والبلاشفة والأمريكان، {وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)} (¬1). فيا أيها المسلمون توبوا إلى الله، وارجعوا إلى دراسة كتاب الله وأحاديث رسول الله، واجتهدوا في فهم أوامر الله وخطاباته لكم؛ كي يعفو الله عنكم ويغفر ذنوبكم، فيدفع عنكم البلاء. (¬2) ¬

(¬1) طه الآية (127). (¬2) تمييز المحظوظين عن المحرومين (ص.243 - 244).

محمد بن علي بن محمد بن تركي (1380 هـ)

محمد بن علي بن محمد بن تركي (¬1) (1380 هـ) الشيخ محمد بن علي بن محمد بن منصور بن تركي، ولد في بلدة عنيزة عام ألف وثلاثمائة وواحد للهجرة. سافر إلى مكة والهند والعراق ومصر وفلسطين وسوريا ولبنان وغيرها. استفاد كثيرا من الشيخ عبد الرحمن آل سعدي، ومن الشيخ شعيب الدكالي المغربي، والشيخ عبد الرحمن الدهان، وغيرهم. أخذ عنه كثيرون منهم عبد الله بن مطلق الفهيد وعبد العزيز الصالح البسام وغيرهما. ولي قضاء المدينة النبوية، ثم مساعدا لرئيس القضاة في مكة، ثم أعفي منها، كما عين مدرسا في مدرسة العلوم الشرعية في المدينة. توفي رحمه الله على إثر مرض أصابه وذلك سنة ثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة في المدينة. موقفه من المشركين: له رد على عبد القادر الإسكندراني، اشترك فيه هو والشيخ بهجة البيطار. (¬2) وقد أثنى على ردهما الملك عبد العزيز آل فيصل في رسالة وجهها إليهما، مما جاء فيها: "وعرضناه على مشايخ المسلمين، فاستحسنوه وأجازوه، فالحمد لله الذي جعل لأهل الحق بقية، وعصابة تذب عن دين المسلمين، وتحمي حماه عن زيغ الزائفين، وشبه المارقين والملحدين". (¬3) ¬

(¬1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (6/ 333 - 339). (¬2) علماء نجد (6/ 337). (¬3) علماء نجد خلال ثمانية قرون (6/ 337 - 338).

عبد الحفيظ الفاسي (1383 هـ)

عبد الحفيظ الفاسي (¬1) (1383 هـ) عبد الحفيظ بن محمد الطاهر بن عبد الكبير الفهري، أبو الفضل الفاسي. من نسل عالم الأندلس في وقته أبي بكر محمد بن الجد، ويرجع نسبهم إلى بني فهر بن مالك من قريش. أخذ عن والده وعمه أبي جيده بن عبد الكبير وخاله عبد الكبير الكتاني وعبد الله السنوسي وأبي شعيب الدكالي وعبد الرحمن المرادي وعبد الله الأمراني ومحمد بن جعفر الكتاني وغيرهم. وأجازه جماعة منهم أحمد بن سودة وعبد الله السنوسي وماء العين وغيرهم. قضى زهاء عشرة أعوام في القضاء الشرعي في عدة مدن منها الصويرة وسطات، ثم كان من أعضاء المحكمة الجنائية العليا. له من المؤلفات: 1 - 'رياض الجنة في تراجم من لقيت أو كاتبني من الجلة' أو 'المدهش المطرب بأخبار من لقيت أو كاتبني بالمشرق أو المغرب'. 2 - 'الآيات البينات في شرح وتخريج الأحاديث المسلسلات'. 3 - رسالة 'الداء والدواء'. 4 - 'الإسعاد لمراعاة الإسناد'. 5 - 'التاج فيمن اسمه محمد من ملوك الإسلام'. 6 - 'خبايا الزوايا' في أربع مجلدات. ¬

(¬1) الأعلام للزركلي (3/ 279 - 280) وشجرة النور الزكية (1/ 434) والتأليف ونهضته لعبد الله الجراري (ص.331) وسل النصال لعبد القادر بن سودة (ص.190).

موقفه من المبتدعة:

7 - 'الإنصاف في العمل بالتلغراف'. 8 - 'إتقان الصنعة في الرد على مقسمي البدعة'. 9 - وله رسالة في الرد على الطائفة المعروفة بهداوة. 10 - 'أربع رسائل في إبطال المهدوية' وغيرها. قال الزركلي: وانقطع عن العمل يوم استقل المغرب، فعكف على كتبه وأوراقه في منزله بالرباط إلى أن توفي وذلك سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة وألف. قلت: وكان ذلك لأربع وعشرين خلون من رمضان. موقفه من المبتدعة: - قال رحمه الله في يوسف بن إسماعيل النبهاني: المترجم ممن رزق الإعانة على التأليف كما رزق التيسير في طبعها وقبولها فلا ينشر منها كتاب إلا وتهافت الناس على شرائه في مشارق الأرض ومغاربها، وهي وإن كانت له فيها حسنات فهي لا تقابل ما له فيها من السيئات، وذلك لما خلط بها من الخرافات ونسبة المقامات العظيمة لمن لا قدم له فيها من الطغام، وادعاء الكرامات حتى لمن عرفوا بعدم التمسك بالتقوى، ولا مستند له فيها إلا مجرد التقول والدعوى، أو نقل فلان عن علان، ولو كان هيان بن بيان، أو الاغترار بظواهر الأحوال، وعدم البحث عن حقائق الرجال، وبعكس ذلك عمد إلى علماء الإسلام الذين خدموا السنة والدين خدمة لم يشاركهم فيها غيرهم في عصرهم بشهادة الموافق والمخالف لهم كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم فحمل عليهما حملة شعواء في كتابه شواهد الحق في

موقفه من الصوفية:

الاستغاثة بسيد الخلق. (¬1) - وقال عن تآليفه أيضا: فقد ملأها النبهاني بتأييد البدع ورصعها بخرافات وأوهام دنس بها صحيفته ووجه الدين الإسلامي النقي الطاهر، وأبقاها حجة ووسيلة يتذرع ويحتج بها الطاعنون في الإسلام والثالبون لتعاليمه الصحيحة الحقة .. (¬2) موقفه من الصوفية: قال في سياق الترهيب من الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شرحه لحديث: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» (¬3) رادا على الطائفة التجانية: ومن ذلك افتراء بعضهم كون النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله خص أصحابه بمزايا دون سائر الأمة، وجعل لصلواتهم وأورادهم فضائل تقوم مقام العبادات في السنين العديدة، وتكفر ما ضيعوا من الصلوات، وتغفر من غير توبة ما اجترموا من المعاصي والسيئات، وأمثال هذا مما يضللون به الجهال الذين لا يعرفون حقيقة الإسلام وشرائعه تشويقا لهم وترغيبا للدخول في طريقتهم؛ لأن النفوس متشوفة إلى نيل الأجور الكثيرة على الأعمال الصغيرة، وميالة إلى ترك الشاق من الطاعات والتهاون بالمحرمات والعياذ بالله. ولا شك أن مدعي هذا داخل في الوعيد المذكور في حديثنا المتكلم عليه لما في تلك البشائر والخصائص من الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) رياض الجنة (2/ 162 - 163). (¬2) رياض الجنة (2/ 164). (¬3) تقدم تخريجه ضمن مواقف ابن قتيبة سنة (276هـ).

موقفه من الجهمية:

وعلى آله بدليل ما فيها من مخالفة قواعد الدين، وتشريع عبادات لم يشرعها، وإبطال فرائض قد أوجبها، مع أن باب التشريع قد انسد لموته - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله. (¬1) موقفه من الجهمية: - قال في شرحه للحديث المسلسل بالأولية: «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» (¬2): وقوله: «يرحمكم من في السماء» نقل في المنح البادية عن الخطيب أبي علي أن المراد به الله تعالى، والمعنى بذلك الإشارة إلى أن الله فوق من طريق الصفات لا من طريق الجهة؛ فإنها مستحيلة على الله تعالى، وقيل معناه من في السماء أمره وملكه، واختصت السماء بالذكر وإن كان أمره وملكه أيضا في الأرض تنبيها على عظمها في النفوس وأن الذي يتصرف فيها أمره وفيها سلطانه هو الذي له الأمر والملك في الأرض حقيقة سبحانه لا إله إلا هو، ويمكن أن يراد بمن في السماء أهل السماء كما جاء كذلك في رواية أخرى انتهى. ومثله قول الشيخ علي الخواص: يعني الملائكة يرحمون من رحم أهل البلايا وتجاوز عنهم في الدنيا باستغفارهم له في السماء وهو قوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} انتهى. قلت: الأول يتمشى على مذهب أهل الحديث والأثر في آيات وأحاديث الصفات؛ فإنهم يتركونها على ظاهرها ويؤمنون بها كما جاءت من غير تأويل مع اعتقاد التنزيه، وما بعده يتمشى على مذهب المؤولة من المتكلمين من سائر الفرق؛ ¬

(¬1) الآيات البينات (ص.273 - 274). (¬2) سيأتي تخريجه في مواقف الشيخ الألباني رحمه الله سنة (1420هـ).

فإنهم يحملونها على ما عرف من المجازات، والمذهب الأول وهو مذهب أهل الحديث هو الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والأئمة المجتهدون بعده ولا يلزم من إثبات صفة العلو والفوقية لله تعالى على مذهب أهل الحديث القول بالجهة المستلزمة للحد والجسمية؛ فإن أهل الحديث يفرون من ذلك وينزهون الباري جل جلاله عن الجهة والجسمية وعن مشابهته تعالى للحوادث، وإن ألزمهم المؤولة ذلك يلزم من قبلهم من باب أولى وأحرى؛ لأن مستند أهل الحديث هو ما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه الذين لم يكن يخطر ببالهم عند ذكر تلك الصفات تشبيه أو تشكيك؛ بل كانوا يعلمون أن الحق سبحانه لم يكن مشابها للمخلوقات كما في القرآن {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (¬1)، فكذلك صفاته لا تماثل ولا تشابه صفات المخلوقات، فكانوا يؤمنون بها كما وردت، لأن الله تعالى وصف بها نفسه وهي لائقة بذاته القديمة الكريمة، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عن أحد من أصحابه أنهم أولوا أو أخرجوا تلك النصوص عن ظواهرها، بل ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للجارية السوداء: «أين الله؟» فأشارت بأصبعها إلى السماء، فقال: «إنها مؤمنة» (¬2). فهل يقدر أحد ينتمي إلى الإسلام أن يقول إنها مجسمة، أو تعتقد الجهة لما يلزم عليه من كون النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرها على معتقدها الباطل؟ ومعاذ الله أن يقع ذلك؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - ما بعث إلا لتقديس الله تعالى وتوحيده، فشيء أقره - ¬

(¬1) الشورى الآية (11). (¬2) أحمد (5/ 447) ومسلم (1/ 381 - 382/ 537) وأبو داود (1/ 570 - 571/ 930) والنسائي (3/ 19 - 22/ 1217) من حديث معاوية بن الحكم.

صلى الله عليه وسلم - وشهد لصاحبه بالإيمان كيف يسوغ لنا أن ننكر على من يقول به؟ ونقول: إنه يعتقد الجهة والجسمية، بل نعتقد أنه هو المذهب الحق، وندين الله به، ولا نتحول عنه. وقد أطلق غير واحد من الأئمة ممن حكى إجماع السلف -منهم الخطابي- أن أحاديث الصفات تجري على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية عليه الرحمة والرضوان في رسالته المدنية ما نصه: مذهب أهل الحديث وهم السلف من القرون الثلاثة ومن سلك سبيلهم من الخلف أن هذه الأحاديث تمر كما جاءت ويؤمن بها وتصدق وتصان عن تأويل يفضي إلى تعطيل، وتكييف يفضي إلى تمثيل انتهى. وقال إمام الحرمين في الرسالة النظامية -وهو مجدد مذهب الأشعرية-: اختلفت مسالك العلماء في هذه الظواهر، فرأى بعضهم تأويلها والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراء الظواهر على مرادها، وتفويض معانيها (¬1) إلى الله، ثم قال: والذي نرتضيه رأيا وندين الله به عقيدة السلف للدليل القاطع على إن إجماع الأمة حجة، فلو كان تأويل هذه الظواهر حتما لأوشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرف عصر الصحابة والتابعين عن الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتبع انتهى. ¬

(¬1) قلت: ليس من مذهب السلف تفويض معاني الصفات؛ فهذا مذهب المفوضة. أما التفويض الذي ذهب إليه السلف فهو تفويض الحقيقة والكيفية لا تفويض المعاني.

فليسعنا ما وسعهم؛ فإنهم هداتنا وقدوتنا، وقد رضيناهم حجة بيننا وبين الله تعالى، وقلدناهم فيما دون هذا وهو الفروع الفقهية العملية فكيف لا نقلدهم في معتقدنا هذا. وقد رأيت للعلامة السفاريني في شرح عقيدته كلاما نفيسا في صفة الفوقية والعلو للعلي الأعلى التي يقول بها أهل الحديث، ومنه يتبين تنزيههم عن القول بالجهة والتجسيم، فلنسقه هنا تتميما للفائدة وشرحا لمعتقدهم الطاهر .. (¬1) - وقال رحمه الله: ذكر أهل التاريخ أن أهل المغرب كانوا في الأصول والمعتقدات بعد أن طهرهم الله تعالى من نزغة الخارجية أولا والرافضية ثانيا على مذهب أهل السنة، مقلدين للصحابة ومن اقتفى أثرهم من السلف الصالح وأهل القرون الثلاثة الفاضلة؛ في الإيمان بالمتشابه وعدم التعرض له بالتأويل، مع اعتقاد التنزيه، كما جرى عليه الإمام ابن أبي زيد القيرواني في عقيدته، واستمر الحال على ذلك إلى أن ظهر محمد بن تومرت الملقب نفسه بالإمام المعصوم أو مهدي الموحدين، وذلك في صدر المائة السادسة، فرحل إلى المشرق، وأخذ عن علمائه مذهب المتأخرين من أصحاب الإمام أبي الحسن الأشعري من الجزم بعقيدة السلف مع تأويل المتشابه من كلام الله تعالى وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتخريجه على ما عرف في كلام العرب من فنون مجازاتها وضروب بلاغتها، ومزج ذلك بما كان ينتحله من عقائد الخوارج والشيعة والفلاسفة، حسبما يعلم ذلك أولا بمعرفة كتب الإمام أبي الحسن ¬

(¬1) الآيات البينات (ص.19 - 22).

الأشعري كالإبانة في أصول الديانة وغيرها التي ينصر فيها مذهب السلف، وبمعرفة كتب الجهابذة من أتباعه الذين اقتدوا به في ذلك كإمام الحرمين، وثانيا بإمعان النظر في أقوال وأفعال وأحوال ابن تومرت وخلفائه من بعده، ثم عاد ابن تومرت إلى المغرب بهذه العقيدة المختلطة المدلسة الفاسدة، وألف فيها التآليف العديدة هو وأتباعه، ودعا الناس إلى سلوكها، وجزم بتضليل من خالفها؛ بل وتكفيره. وسمى أصحابه بالموحدين تعريضا بأن من خالف عقيدته ليس بموحد؛ بل مجسم مشرك، وجعل ذلك ذريعة إلى الانتزاء على ملك المغرب حسبما هو معلوم، فقاتل على عقيدته، واستباح هو وخلفاؤه لأجلها دماء مئات الآلاف من الناس وأموالهم حتى تمكنت من عقول الناس بالسيف، ونبذوا ما كان عليه سلفهم الأول، وأقبلوا كافة على تعاطي هذا المذهب، وقام العلماء بتقريره وتحريره درسا وتأليفا، والناس على دين ملوكهم. (¬1) - وقال معلقا ومستدركا على كلامه السابق: وفاتنا أن نبين هناك أن الإمام أبا عبد الله محمد بن أحمد المسناوي الدلائي ثم الفاسي من علماء القرن الحادي عشر والثاني قام بنصرة مذهب السلف وألف كتابه 'جهد المقل القاصر في نصرة الشيخ عبد القادر' لطعن الناس في عقيدته الحنبلية، وتتبع ما قيل فيه وفي شيخ الإسلام ابن تيمية، ونصرهما بما يعلم بالوقوف على تأليفه المذكور. ولما جلس على عرش مملكة المغرب السلطان المعظم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن إسماعيل العلوي قام في أوائل القرن الثالث ¬

(¬1) الآيات البينات (ص.24 - 25).

عشر بنصرة هذا المذهب، وصرح في أول كتابه 'الفتوحات الكبرى' بكونه مالكي المذهب حنبلي العقيدة، وافتتح كتابه بعقيدة الرسالة لكونها على مذهب السلف، وعقد في آخره بابا بين فيه وجه كونه حنبلي العقيدة ونصره، ولم يزل معلنا بذلك في مؤلفاته ورسائله ومجالسه العلمية. وقد نقل عنه أبو القاسم الزياني أنه كان يطعن في الرحالة ابن بطوطة ويلمزه في عقيدته، ويكذبه فيما ذكر في رحلته من أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان يقرر يوما حديث النزول فنزل عن كرسيه وقال: كنزولي هذا، ويبرئ ابن تيمية من عقيدة التجسيم التي تفيدها هذه القضية، ويقرر أن ابن بطوطة كان يعتقد ذلك، فأراد أن يظهره بنسبته إلى ابن تيمية. ولما أفضت الخلافة إلى ولده أبي الربيع سليمان نهج منهجه في ذلك، واتصلت المكاتبة بينه وبين الأمير سعود ناصر المذهب الوهابي الحنبلي حين افتتح الحجاز وطهره مما كان فيه من البدع، وأرسل وفدا مؤلفا من أولاده وبعض علماء حضرته، ووجه له قصيدة من إنشاء شاعرحضرته العلامة المحدث الصوفي الأديب أبي الفيض حمدون بن الحاج مجيبا له عن كتابه ومادحا له ولمذهبهم السني السلفي. (¬1) ¬

(¬1) الآيات البينات (ص.301). وراجع مواضع أخرى في الرد على الجهمية وأذنابهم من الكتاب نفسه (ص.68 - 74) و (ص.173 - 175) و (ص.183 - 184).

محمد بن العربي العلوي (1384 هـ)

محمد بن العربي العلوي (¬1) (1384 هـ) محمد بن العربي بن محمد بن محمد العلوي المدغري الحسني، ولد بالقصر الجديد بمدغرة بتافيلالت سنة إحدى وثلاثمائة وألف للهجرة، وقيل سنة خمس. حفظ القرآن بالمكتب على والده العربي العلوي وابن عمه الطيب ابن علي العلوي. والتحق بمعهد القرويين سنة ثمان عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة. تتلمذ على عبد السلام بن محمد بناني، ومحمد بن محمد بن عبد السلام كنون، وأحمد بن الخياط، والفاطمي الشرادي، وأحمد بن المامون البلغيني، والتهامي كنون، والمهدي الوزاني، وأبي شعيب الدكالي وغيرهم. تخرج على يده تلاميذ كثر، منهم: علال الفاسي ومحمد بن الحسن الوزاني ومحمد المختار السوسي. درّس بالقرويين، كما عين قاضيا بفاس، ثم رئيسا لمجلس الاستئناف الشرعي الأعلى بالرباط، ثم وزيرا للعدل. وكان لا يفتي إلا بالاجتهاد دون التقليد. نفاه المستعمر مرتين بسببها، وسبب دروسه المحرضة ضد المستعمر في القرويين. وعين وزيرا عضوا في مجلس التاج سنة ست وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة بعد الاستقلال، وقاضيا شرعيا بالقصر الملكي. ¬

(¬1) 'إتحاف ذوي العلم والرسوخ بتراجم من أخذت عنه من الشيوخ' تأليف محمد بن الفاطمي بن الحاج السلمي. و'سل النصال للنضال' تأليف عبد السلام بن عبد القادر بن سودة.

موقفه من المبتدعة:

سمعت شيخنا محمد الأمين الشنقيطي (صاحب الأضواء) يثني عليه ويصفه بقوة الذكاء. توفي رحمه الله يوم الخميس الثاني والعشرين من محرم سنة أربع وثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة. موقفه من المبتدعة: قال تلميذه عبد السلام عبد القادر بن سودة في 'سل النصال للنضال' (¬1): العلامة السلفي، المطلع المشارك النقاد، المدرس النفاعة الوطني، المخلص المكافح بكل ماله وقوته وأفكاره وآرائه الصائبة عن الإسلام وعن وطنه بإخلاص وحسن نيته. كان في أول أمره يومن بالطرق وأهلها ويدافع عنها، بل كان تجاني الطريقة، ولما رجع الشيخ أبو شعيب الدكالي من المشرق بعد ما طلب العلم هناك حاملا الأفكار السلفية الداعية إلى الرجوع للإسلام على حقيقته، اتصل به اتصالا مكينا، وأخذ عنه؛ فأنار فكره، وقوّى عزيمته، وأخرجه من ربقة التقليد الأعمى، فكان صاحب الترجمة أول من أظهره الله للوجود من العلماء السلفيين، وأول من صدع بالحق بعد الشيخ أبي شعيب، فدخل إلى القرويين وصار ينير مشكلها، ويضيء جوانبها بقبس من النور، فما لبث أن التف حوله نخبة من الشباب لا يستهان بهم، وانتشر مذهبه في الأوساط العلمية الراقية، وصار الناس ما بين مؤيد ومخالف، وسرعان ما انتصر الحق على الباطل ¬

(¬1) سل النصال للنضال (ص.195).

{إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)} (¬1). فكانت جل دروسه حاملة سيف الانتصار ضد أهل الطرق الموجودة بالمغرب وأهل الزوايا والمشعوذين الملبسين الحق بالباطل، وحمل ضد زيارة القبور، والتملق إليها، وطلب النفع منها، والالتجاء إليها، كل هذا كان لا يخلو من نقد وشتم ولعن من أصحاب الطرق، فكم نصبوا له من أفخاخ، وكم بارزوه بمكايد حتى إن بعض العلماء أفتوا بكفره وخروجه من ربقة الإسلام، كل هذا لم يؤثر في عزمه؛ لأنه يعرف نفسه أنه على الحق. قال محمد زنيبر: وكان يتناول تفسير القرآن بلهجة لا تخلو من صراحة وحرية فكر، وكل همه أن يحارب الخرافات والشعوذة وكل مظاهر الجمود التي رانت على الفكر المغربي منذ أجيال. (¬2) قال تلميذه محمد بن الفاطمي السلمي في كتابه 'إتحاف ذوي العلم والرسوخ بتراجم من أخذت عنهم من الشيوخ': .. يتابع دروسه التفسيرية بالقرويين وكانت عبارة عن وعظ وإرشاد وتوجيه إلى السلفية والإصلاح الديني بتحرير الأفكار والعقول من الأوهام والأباطيل والخرافات وباطل الاعتقادات وهو متأثر بشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية في أفكارهما النيرة الإصلاحية. (¬3) ¬

(¬1) الإسراء الآية (81). (¬2) 'السلفي المناضل' لمحمد الوديع الآسفي (ص.169). (¬3) (ص.213 - 214).

موقفه من المشركين:

موقفه من المشركين: - قال عبد السلام بن سودة (¬1): ومن المآثر التي تحفظ له ولا تنكر قطع شجرة السدرة الكبرى التي كانت قبالة باب ضريح الشيخ أبي غالب الكائن بحومة صريرة داخل باب الفتوح؛ فإن هذه الشجرة كادت أن تعبد من دون الله، فقد كبرت واتسعت وطال عليها الأمد، وكانت النساء والصبيان وحتى بعض الرجال يقصدونها، ويلتمسون بركاتها، وتعلق فيها بعض الخرق المعقودة، ولا يمكن حلها إلا بعد قضاء الحاجة المتطلبة، وكان ربما أعماهم الشيطان فيصادفون بعض الإجابة؛ فإذا رأيت منظرها اندهشت من كثرة ما يعلق بها من الخرق والتمائم، وأوراق الكتابة والحروز وغير ذلك من الأمور، التي يستغرب منها كشعر النساء، وكان من العادة الجارية أن كل من زارها وعلق بها مطلبه لا بد له من أن يدخل الضريح ويجعل فيه شيئا من المال؛ لأجل أن تقضى حاجته، ومن لا يفعل ذلك لا تقضى له حاجة، فكان ولاة الضريح وهم الشرفاء الطالبيون يعظمونها مع الناس؛ لأجل المادة التي تحصل لهم. وكان يوم قطعها يوما مشهودا بين مستحسن ومخالف، وقال رئيس الفئة المتطرفة وزعيمهم الأكبر: إن ابن العربي صاحب الترجمة سيصاب بشلل من أجل قطع الشجرة التي يتبرك بها الناس، وبعد مدة سلط الله عليه ذلك وبقي ابن ¬

(¬1) سل النصال للنضال (ص.195 - 196).

موقفه من الصوفية:

العربي سالما إلى الآن والحمد لله؛ لأنه يدافع عن الحق. (¬1) موقفه من الصوفية: يتجلى ذلك في المناظرة حول التيجانية بينه وبين الشيخ محمد تقي الدين الهلالي وهذه حكايتها. - قال محمد تقي الدين الهلالي (¬2) بعد مقدمة بين فيها كرم ضيافة الشيخ محمد بن العربي العلوي له، وأنه لما سمعه وجلساءه يطعنون في الطرق الصوفية غضب وهمَّ بالخروج: ولم تخف حالي على الشيخ فقال لي: أراك منقبضا فما سبب انقباضك؟ فقلت: سببه أنكم انتقلتم من الطعن في الطريقة الكتانية إلى الطعن في الطريقة التجانية، وأنا تجاني لا يجوز لي أن أجلس في مجلس أسمع فيه الطعن في شيخي وطريقته. فقال لي: لا بأس عليك أنا أيضا كنت تجانيا؛ فخرجت من الطريقة التجانية لما ظهر لي بطلانها (¬3)، فإن كنت تريد أن تتمسك بهذه الطريقة على جهل وتقليد فلك علي ألا تسمع بعد الآن في مجلسي انتقادا لها أو طعنا فيها، وإن كنت تريد أن تسلك مسلك أهل العلم فهلم إلى المناظرة؛ فإن ظهرت علي رجعت إلى الطريقة، وإن ظهرت عليك خرجت منها، كما فعلت أنا، فأخذتني النخوة، ولم أرض أن أعترف أني أتمسك بها على جهل، فقلت: ¬

(¬1) ذكر ذلك أيضا أحمد بناني في مقال له بمجلة الإيمان العدد 10 سنة 1964م (ص.11) بعنوان: (جوانب من شخصية شيخنا ابن العربي العلوي)، ونقله عنه أحمد أزمي في مجلة دعوة الحق العدد 5 سنة 2001م. (¬2) الهدية الهادية إلى الفرقة التجانية (ص.17 - 20). (¬3) كان ذلك حين مناظرة الشيخ أبي شعيب الدكالي له بمثل ما ناظر به هو محمد تقي الدين الهلالي في هذه المناظرة، ثم قراءته لكتاب شيخ الإسلام ابن تيمية 'الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان'.

قبلت المناظرة. قال الشيخ: أريد أن أناظرك في مسألة واحدة إن ثبتت ثبتت الطريقة كلها، وإن بطلت بطلت الطريقة كلها، قلت: ما هي؟ قال: ادعاء التجاني أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يقظة لا مناما وأعطاه هذه الطريقة بما فيها من الفضائل، فإن ثبتت رؤيته للنبي - صلى الله عليه وسلم - يقظة وأخذه منه فأنت على حق وأنا على باطل، والرجوع إلى الحق حق، وإن بطل ادعاؤه ذلك فأنا على حق وأنت على باطل، فيجب عليك أن تترك الباطل وتتمسك بالحق. ثم قال: تبدأ أنت أو أبدأ أنا؟ فقلت: ابدأ أنت. فقال: عندي أدلة كل واحد منها كاف في إبطال دعوى التجاني. قلت: هات ما عندك وعلي الجواب. فقال: الأول: أن أول خلاف وقع بين الصحابة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بسبب الخلافة، قالت الأنصار للمهاجرين: منا أمير ومنكم أمير. وقال المهاجرون: إن العرب لا تذعن إلا لهذا الحي من قريش (¬1) ووقع نزاع شديد بين الفريقين حتى شغلهم عن دفن النبي - صلى الله عليه وسلم - فبقي ثلاثة أيام بلا دفن صلاة الله وسلامه عليه. فكيف لم يظهر لأصحابه ويفصل النزاع بينهم ويقول: الخليفة فلان، فينتهي النزاع؟ كيف يترك هذا الأمر العظيم؟ لو كان يكلم أحدا يقظة بعد موته لكلم أصحابه وأصلح بينهم وذلك أهم من ظهوره للشيخ التجاني بعد مضي ألف ومائتي سنة، ولماذا ظهر؟ ليقول له: أنت من الآمنين ومن أحبك من الآمنين ومن أخذ وردك يدخل الجنة بلا حساب ولا عقاب هو ¬

(¬1) أحمد (1/ 55 - 56) والبخاري (12/ 174 - 176/ 6830) ومسلم (3/ 1317/1691) وأبو داود (4/ 582 - 583/ 4418) والنسائي في الكبرى (4/ 273/7156) وابن ماجه (2/ 853/2553) عن ابن عباس

والده وأولاده وأزواجه لا الحفدة. فكيف يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهور يقظة والكلام لأفضل الناس بعده في أهم الأمور، ويظهر لرجل لا يساويهم في الفضل ولا يقاربهم لأمر غير مهم. فقلت له: إن الشيخ رضي الله عنه قد أجاب عن هذا الاعتراض في حياته، فقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يلقي الخاص للخاص والعام للعام في حياته، أما بعد وفاته فقد انقطع إلقاء العام للعام وبقي إلقاء الخاص للخاص لم ينقطع بوفاته، وهذا الذي ألقاه إلى شيخنا من إعطاء الورد والفضائل هو من الخاص للخاص. فقال: أنا لا أسلم أن في الشريعة خاصا وعاما، لأن أحكام الشرع خمسة، وهذا الورد وفضائله إن كان من الدين فلا بد أن يدخل في الأحكام الخمسة لأنه عمل أعد الله لعامله ثوابا، فهو إما واجب أو مستحب، ولم ينتقل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى حتى بين لأمته جميع الواجبات والمستحبات، وفي صحيح البخاري عن علي بن أبي طالب أنه قيل له: هل خصكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معشر أهل البيت بشيء؟ فقال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما خصنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء إلا فهما يعطاه الرجل في كتاب الله وإلا ما في هذه الصحيفة، ففتحوها فإذا فيها العقل وفكاك الأسير وألا يقتل مسلم بكافر (¬1). فكيف لا يخص النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل بيته وخلفاءه بشيء ثم يخص رجلا في آخر الزمان بما يتنافى مع أحكام الكتاب والسنة. فقلت: إن الشيخ عالم بالكتاب والسنة وفي جوابه مقنع لمن أراد أن ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (1/ 79) والبخاري (12/ 303/6903) والترمذي (4/ 17/1412) والنسائي (8/ 392/4758) وابن ماجه (2/ 887/2658).

يقنع. قال: احفظ هذا. الأمر الثاني: اختلاف أبي بكر مع فاطمة رضي الله عنهما على الميراث، فلا يخفى أن فاطمة طلبت من أبي بكر الصديق رضي الله عنه حقها من ميراث أبيها، واحتجت عليه بأنه إذا مات هو يرثه أبناؤه، فلماذا يمنعها من ميراث أبيها؟ فأجابها أبو بكر الصديق بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث. ما تركنا صدقة» (¬1). وقد حضر ذلك جماعة من الصحابة فبقيت فاطمة الزهراء مغاضبة لأبي بكر حتى ماتت بعد ستة أشهر بعد وفاة أبيها - صلى الله عليه وسلم -. فهذان حبيبان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه قال: «فاطمة بضعة مني يسوؤني ما ساءها» (¬2) أو كما قال عليه الصلاة والسلام وصرح بأن أبا بكر الصديق أحب الناس إليه، وقال: «ما أحد أمن علي في نفس ولا مال من أبي بكر الصديق» (¬3) رواه البخاري. وهذه المغاضبة التي وقعت بين أبي بكر وفاطمة، تسوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلو كان يظهر لأحد بعد وفاته لغرض من الأغراض لظهر لأبي بكر الصديق وقال له: إني رجعت عن عما قلته في حياتي فأعطها حقها من الميراث، أو لظهر لفاطمة وقال لها: يا ابنتي لا تغضبي على أبي بكر، فإنه لم يفعل إلا ما أمرته به. ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (1/ 7 - 8) والبخاري (6/ 242/3092 - 3093) ومسلم (3/ 1381 - 1382/ 1759 [54]) وأبو داود (3/ 376 - 377/ 2969) عن أبي بكر. (¬2) أحمد (4/ 326) والبخاري (7/ 106 - 107/ 3729) ومسلم (4/ 1902/2449) وأبو داود (2/ 556 - 557/ 2069) وابن ماجه (1/ 644/1999) عن المسور بن مخرمة. (¬3) أحمد (3/ 18) والبخاري (1/ 734/466) ومسلم (4/ 1854 - 1855/ 2382) والترمذي (5/ 568/3660) والنسائي في الكبرى (5/ 35/8103) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

فقلت له: ليس عندي من الجواب إلا ما سمعت. قال: احفظ هذا. الأمر الثالث: الذي وقع بين طلحة والزبير وعائشة من جهة، وعلي بن أبي طالب من جهة أخرى، واشتد النزاع حتى وقعت حرب الجمل في البصرة، فقتل فيها خلق كثير من الصحابة والتابعين وعقر جمل عائشة، فكيف يهون على النبي - صلى الله عليه وسلم - سفك هذه الدماء ووقوع هذا الشر بين المسلمين بل بين أخص الناس به، وهو يستطيع أن يحقن هذه الدماء بكلمة واحدة، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى في آخر سورة التوبة برأفته ورحمته بالمؤمنين وأنه يشق عليه كل ما يصيبهم من العنت وذلك قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} (¬1). فقلت له: ليس عندي من الجواب إلا ما سمعت، وظهوره وكلامه للشيخ التجاني فضل من الله، والله يؤتي فضله من يشاء. قال: احفظ هذا وفكر فيه. الأمر الرابع: خلاف علي مع الخوارج، وقد سفكت فيه دماء كثيرة، ولو ظهر النبي - صلى الله عليه وسلم - لرئيس الخوارج وأمره بطاعة إمامه لحقنت تلك الدماء. فقلت: الجواب هو ما سمعت. فقال لي: احفظ هذا وفكر فيه، فإني أرجو أنك بعد التفكير ترجع إلى الحق ... والأمر الخامس: النزاع الذي وقع بين علي ومعاوية، وقد قتل في ¬

(¬1) التوبة الآية (128)

الحرب التي وقعت بينهما خلق كثير، منهم عمار بن ياسر، فكيف يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهور لأفضل الناس بعده، وفي ظهوره هذه المصالح المهمة من جمع كلمة المسلمين وإصلاح ذات بينهم وحقن دمائهم، وهو خير المصلحين العاملين بقوله تعالى: {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} (¬1) وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)} (¬2) ثم يظهر للشيخ التجاني في آخر الزمان لغرض غير مهم وهو في نفسه غير معقول، لأنه مضاد لنصوص الكتاب والسنة. فلم يجد عندي جوابا غير ما تقدم ولكني لم أسلم له. فقال لي: فكر في هذه الأدلة وسنتباحث في المجلس الآخر، فعقدنا بعد هذا المجلس سبعة مجالس، كل منها كان يستمر من بعد صلاة المغرب إلى ما بعد العشاء بكثير، وحينئذ أيقنت أنني كنت على ضلال. - قال عبد السلام بن سودة (¬3): ومن أفعاله المذكورة صرخته الكبرى في وجه الطوائف الضالة مثل الطائفة المنسوبة للشيخ مَحمد -فتحا- بن عيسى والطائفة المنسوبة للشيخ علي بن حمدوش، وغيرهما من الطوائف الذين كانوا يفعلون أفعالا لا يقبلها الشرع؛ مثل الشطح في الأسواق والأزقة على نغمات المزامير والطبول، وأكل اللحم النيئ، وضرب الرؤوس بشواقر، وجعل النار في أفواههم، إلى غير ذلك من الموبقات. فقد سعى بكل جهوده لقطع دابر ¬

(¬1) الأنفال الآية (1). (¬2) الحجرات الآية (10). (¬3) سل النصال (ص.196).

عبد الرحمن النتيفي (1385 هـ)

ذلك من المغرب، ولم يهمل السعي وراءه حتى صدر الأمر بمنعه من جلالة الملك محمد الخامس، عام أربعة وخمسين وثلاثمائة وألف، وأراح الله من ذلك البلاد والعباد. ومناقبه في هذا الباب لا تعد. وإن شئت قلت بلا مداهنة ولا محاباة إنه هو الرجل الأول الذي غرس البذرة الأولى للسلفية في الشعب. وقال الحسن العرائشي: إن حلقات هذا الشيخ كانت تهدف أساسا لمواجهة أدعياء المشيخة وتطهير الدين من الخرافات والخزعبلات التي ألصقها به هؤلاء المشعوذون الذين ربطوا مصيرهم بمصير الاستعمار. (¬1) ومنع الفرقة العيساوية بفاس من التوجه إلى ضريح شيخهم بمكناس لإقامة الرقص والشطح الصوفي. (¬2) عبد الرحمن النتيفي (¬3) (1385 هـ) الشيخ الإمام عبد الرحمن بن محمد بن إبراهيم النتيفي الجعفري، ينتهي نسبه إلى محمد الجواد بن علي الزينبي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وعلي الزينبي هو ابن زينب بنت فاطمة الزهراء بنت نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -. ولد الشيخ عام ثلاث وثلاثمائة وألف للهجرة بقرية المقاديد بقبيلة هنتيفة، وحفظ القرآن في صغره. وفي عام أربع عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة بدأ بقراءة العلم على جمع من الشيوخ منهم: بوشعيب البهلولي. وسافر إلى فاس عام ثلاث وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة وأخذ عن عدة مشايخ كالفاطمي الشرايبي ومحمد التهامي كنون ومحمد بن جعفر الكتاني وغيرهم. وفارق فاس عام خمس وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة وقصد مراكش معرجا على الدار البيضاء فحضر موقعة تدارت التي تم على إثرها احتلال المدينة. وبعد الوقعة قصد الشيخ خنيفرة عاصمة قبائل زايان بالأطلس المتوسط فأقام بها وأنشأ مدرسة للعلم تخرج على يده جماعات كثيرة من أهل العلم كأخيه قاضي مراكش جعفر محمد النتيفي والفقيه عباس المعداني وغيرهما. حج البيت الحرام عام تسع وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة وعاد من رحلته الحجازية عام ثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة. ورجع إلى خنيفرة فمكث فيها لنشر العلم وإحياء الإسلام والسنة في تلك القبائل البربرية الذين كانوا أبعد عن الإسلام بجفاء طبعهم فنفع الله به العباد والبلاد. خرج من خنيفرة بعد احتلال الفرنسيين الكفرة لها وقصد قبائل أيت عمو ودخل فاس عام ¬

(¬1) مجلة دعوة الحق العدد 5 سنة 2001م مقال لأحمد أزمي. (¬2) المصدر السابق. (¬3) مختصر ترجمة شيخ الإسلام رحمه الله أبي زيد الحاج عبد الرحمن النتيفي الجعفري لابنه الفقيه حسن بن عبد الرحمن النتيفي الجعفري.

ست وثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة فمكث فيها سنتين يدرس بالقرويين إلى عام سبع وثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة وفي آخر تسع وثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة فارق فاس. ودخل المدينة القديمة البيضاء عام إحدى وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة واتخذ بها مدرسة. وقصدته أفواج من أنحاء المغرب للقراءة عليه، والإقامة بمنزله وتحت نفقته. وأنشأ بالمدينة الجديدة من البيضاء مدرسة سماها (السنة) لتمييز منهاج دروسها وتعليمها. للشيخ رحمه الله باع طويل في العلم، أصيب بفقد البصر وكان قوي الذاكرة، ولم يكن متقيدا بمذهب معين بل يدور مع الدليل أين ما دار.

موقفه من المبتدعة:

توفي رحمه الله عام خمسة وثمانين وثلاثمائة وألف من الهجرة. موقفه من المبتدعة: 1 - ' حل إبرام النقض في الرد على من طعن بالمحلول أو سنة القبض'. رد فيه على محمد الخضر الذي ألف كتابا في نصر السدل. 2 - 'القول الفائز في عدم التهليل وراء الجنائز'. 3 - 'السيف المسلول في الرد على من حكم بتضليل من ترك السيادة في صلاة الرسول'. 4 - 'الأبحاث البيضاء مع الشيخين عبده ورشيد رضا'. وهو رد على بعض آرائهما. 5 - 'كشف النقاب في الرد على من خصص أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بآية الحجاب'. موقفه من المشركين: 1 - ' حكم السنة والكتاب في وجوب هدم الزوايا والقباب'. 2 - 'إرشاد الحيارى في تحريم زي النصارى'. 3 - 'رد طعن الطاعنين في سحر اليهود لسيد المرسلين'. موقفه من الصوفية: له من الآثار السلفية: 1 - 'تنبيه الرجال في نفي القطب والغوث والأبدال'. وهو رد على المتصوفة الذين ينتحلون أسماء لشيوخهم كالقطب والغوث. 2 - 'القول الجلي في الرد على من قال بتطور الولي'. رد فيه على

المتصوفة الذين قرروا أن من كرامات الأولياء التطور في أشكال شتى. 3 - 'الذكر الملحوظ في نفي رؤية اللوح المحفوظ'. (¬1) 4 - 'الاستفاضة في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرى بعد وفاته يقظة'. رد فيه على السيوطي الذي زعم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرى بعد وفاته يقظة. 5 - 'تنبيه الرجال في نفي القطب والغوث والأبدال'. وهو رد على الصوفية الذين أضفوا هذه الألقاب على مشايخهم. 6 - 'الذكر الملحوظ في نفي رؤية اللوح المحفوظ'. وهو رد على من زعم أن شيخه كان يرى اللوح المحفوظ. 7 - 'القول الجلي في الرد على من قال بتطور الولي'. وقد رد فيه على بعض الفقهاء المتصوفة الذين قرروا بأن من كرامات الأولياء التطور في أشكال شتى. 8 - 'الميزان العزيز في البحث مع أهل الديوان المذكور في كتاب الإبريز للشيخ الدباغ عبد العزيز'. رد فيه على الدباغ عبد العزيز في كتابه 'الإبريز' الذي أثبت التصرف للأولياء، وأن لهم ديوانا يجتمعون فيه. 9 - 'تحفة الأماني في الرد على أصحاب التجاني'. وقد ضاعت للمؤلف بالأطلس المتوسط. 10 - 'كشف الهمم في أن عهود المشايخ لا تلزم'. 11 - 'البراهين العلمية في ما في الصلاة المشيشية'. 12 - 'كتاب الزهرة في الرد على غلو البردة'. 13 - 'الحجج العلمية في رد غلو الهمزية'. 14 - 'أحسن ما تنظر إليه الأبصار وتصغى إليه الأسماع في نقد ما اشتمل عليه ممتع الأسماع في الجزولي وأصحابه والتباع'. 15 - 'الدلائل البينات في البحث في الدلائل الخيرات وشرحه مطالع المسرات'. وغيرها كثير بحمد الله، وهذه التي ذكرت إنما هي غيض من فيض. ¬

(¬1) المصدر: مختصر ترجمة شيخ الإسلام أبي زيد عبد الرحمن النتيفي لابنه الحسن بن عبد الرحمن (ص.25و29).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: له: 'الإرشاد والتبيين في البحث مع شراح المرشد المعين'. رد فيه على شراح المرشد المعين في التوحيد وما قرروه من أن كلام الله ليس بحرف ولا صوت تبعا لمذهب المعتزلة. وله كتاب: 'نظر الأكياس في الرد على جهمية البيضاء وفاس'. - قال في مطلعه: الحمد لله الذي استوى على عرشه بلا كيف، واتصف بصفات الكمال، وانفرد بها دون سائر خلقه؛ نحمده تعالى ونشكره، ونستعينه سبحانه وتعالى ونستغفره استغفار خائف من قهره. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ذاته ولا في فعله ووصفه، ونشهد أن نبينا (¬1) محمدا عبده ورسوله، وخاتم أنبيائه ورسله صلى الله تعالى عليه وسلم، وعلى آله وكرام صحبه. أما بعد: فإن مما أبرزته الأقدار ونفست به الأيام والأعصار ما دهمنا من الوقائع في هذه الديار من كيد جماعة من الأشرار، ليسوا من الأقوياء الفجار ولا من الأتقياء الأبرار، التي هي واقعة رجب سنة ثلاثة وستين وثلاثمائة وألف هجرة، فقد قام بها بعض من أولئك المشار إليهم هنالك بعد أن أجمعوا أمرهم وأتوا صفا، وقاموا قومة رجل واحد، واختنقوا غيظا وحيفا، وانكشفت صدورهم عما فيها من الضغائن والحقود؛ وحشروا لكيدهم كل مبتدع وحسود، واستغاثوا لنصرتهم بكل معاد للسنة وكائد، دفعا لها، وتصمما عن سمعها، وتسلحوا لذلك بكل دافع ومعاند؛ ¬

(¬1) في (ت) سيدنا.

وكانوا مهما سمعوا للسنة أثرا، ومر على آذانهم ذكر من يؤيد لها خبرا، تحلفوا لذلك واجتمعوا وتحيلوا في كيدها وناصرها، وحفظوا في ذلك ووعوا ثم لم يزالوا في هذا الحال، والحال ما حال يتربصون الفرص، ويتجرعون الغصص إلى أن بدت لهم فرصة غصوا بريقهم فيها أزالوا غصتهم فيها بالدعاوى والصياح، والفتنة واللعن والشتم، وغير المباح، وأفعال لو كانت من الصبيان والمجانين لحق لها أن [لا] (¬1) توضع في مجالس العلم وبيوت أذن الله أن ترفع. وذلك أننا ذكرنا مذاهب الناس في استواء الله على عرشه، وأيدنا منه ما أيده الله في كتابه ورسوله في حديثه، وسلف أمته ومحققوا خلفها / بصريح نصه؛ قامت قيامة قيامتهم تلك، وانتظموا لنصر خلاف ما لله ولرسوله وسلف أمته في صف وسلك، ولعنوا وشنعوا وطيروا الخبر إلى كل من بادية المغرب ومدنه. وشكوا إلى أمراء الوقت وقضاته وسلطانه. وآل الأمر بيننا وبينهم إلى إيقاف دروسنا ودروس قبيح جاهل منهم وهو الذي تولى كبر هذه الفتنة نحو أربعين يوما على يد قاضي الوقت. وعقد مجلس للمناظرة على يده أخرص الله فيها ألسنة القوم، وعجزوا عن تأييد مذهبهم إلا بأفكارهم التي ينبذونها عند الدليل ويرجعون إليها ولا بد للتعصب والميل، وكان في خلال هذه الأيام أن رجلا من هؤلاء فاسيا تذكر ذاخرة تركها له أبوه، فيالها من ذخيرة وياله من أب لله دره، وهي ما حدثني بعض الفضلاء عنه أن السلطان أبا علي المولى الحسن العلوي ¬

(¬1) في (ب).

نور الله ضريحه وأسكنه من روض الجنان فسيحه بينما صحيح البخاري يقرأ بين يديه على العادة بفاس إذ وقع في مجلسه خلاف في استواء الله على عرشه بين علماء فاس وعالم من أهل طنجة؛ فاستدعاه السلطان للحضور معهم، وهو: الشيخ عبد الله السنوسي. فأمهلهم الإمام إلى أن يأتوا غدا بأدلتهم. فجاءوا غدا بأوراق في أيديهم؛ فلما صفحت ورقات أبيه أعجبت السلطان وأمر بسردها وأن ينتهى إلى معناها وقولها بعد أن عجز خصمه عن رد ما فيها إلى آخر ما قال .. ودفع السلطان ذلك العالم عن مجلسه، فبقيت من هذه الرسالة بيد ولد صاحبها المذكور. فأسرع بها إلى أبي المكارم السلطان المولى محمد بن الإمام المولى يوسف إمام وقتنا أعلا الله علاه وأعز كلمته، ورفع شأنه. وزعم أنه أخذها منه ثمانية أيام وينسخها -أو يطالعها- فردها بعد الأجل؛ وقصد الرجل بذلك أن يغيضنا به ويغير قلب الملك ويدخل في علمه أن لأسلافه الفاسيين حجة علمية، ومستندا للانتقام منا، ولا علم لنا بذلك؛ ولكن أبى الملك الكبير واللطيف الخبير إلا أن يحق الحق ويبطل الباطل، فأيد سلطاننا ونور/ ذهنه وفكره حتى ميز بين الحق فأيده وأحبه، وبين الباطل فأدمغه وأرداه، فكان جزاء أعمال أولئك المبطلين من مالك العوالم ثم من مالك المغرب الحرمان، وانعكست عليهم القضية، فكانت مقاصدهم السيئات في جانبنا حسنات حيث تسببوا لنا بذلك في قرب من السلطان وصِلاته وسماع الدروس منا المرة بعد المرة، وإعجابه بذلك، وذكره للخاصة والعامة؛ وطرد الذي تولى كبر الفتنة من المسجد الأعظم، فخمدت بذلك نار فتنته واضت

تضطرم في أحشائه، ثم بعد هذا جاءنا الفاضل الذي حدثنا عن الفاسي وشأن رسالته بها فقرأناها وتأملنا ما فيها؛ فإذا هي من باب تكلموا تُعرَفوا، قد أعربت عن مدارك أصحابها. وقدمنا رِجْلاً وأخرنا أخرى في الكتب علينا برهة من الدهر حتى ألح عليها بعض الفضلاء في رقم كلمات عليها. فأجبناه لذلك، وسألنا الله العون عليه. (¬1) - وقال فيه أيضا: وقول الإمام مالك: والسؤال عن هذا بدعة؛ صحيح، لأن السلف كانوا يعتقدون أن تلك الصفات المنصوص عليها في الكتاب والسنة صفات لله وإن تشاركت مع صفة المخلوق من حيث الأسماء، ويحكمون بمباينة المسميات بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (¬2). لأن ذات الله وصفاته وأفعاله لا تقاس بذات المخلوقات ولا بصفاته وأفعاله. وهذا معلوم عندهم لا يسأل عنه إلا حديث عهد بالإسلام أو مبتدع. ولما كثر السؤال عنه من مبتدعة الجهمية في زمان الإمام مالك، إذ جهم (¬3) والجعد ابن درهم الذي قتله خالد بن عبد الله القسري، شاعت دعوتهم في زمان بني أمية ثم ازدادت شيوعا في دولة بني العباس. فقد قال أهل التاريخ: ظهر الخوارج والروافض والشيعة والمرجئة، فلم يتجاسروا على رد نصوص الشريعة بالعقل، وصاح بهم الصحابة من كل صوب وبدّعوهم، وتركوا السلام عليهم، ونسبوهم إلى العظائم، ثم ظهر الجهمية ¬

(¬1) نظر الأكياس: (14 - 16) مخطوط. (¬2) الشورى الآية (11). (¬3) في ت وب: (وهو) وهي زيادة خاطئة من الناسخ إلا أن يقع سقط تقدير: وهو تلميذ.

في آخر عصر التابعين، فعارضوا الوحي بالعقل، وقالوا كل شريعة لا تقبلها عقولنا رددناها بالتأويل إليها، ثم ذلك منهم في آخر زمان بني أمية، فخمدت نار فتنتهم فقتل خالدُ ابن عبد الله الجعدَ ابن درهم ثاني رؤسائهم، ثم اشتعلت نار فتنتهم في زمان المأمون فأوقع / المحنة بالعلماء حيث أعجبه مذهب هؤلاء المبتدعة، فقتل من قتل من العلماء، ونجا منهم بإظهار مذهبهم اتقاء شرهم أو بالصبر على الحبس والعذاب، وعلى هذه البدعة حَبَسَ المعتصمُ الإمام أحمدَ وضربه، ثم أطفأ الله نار هذه البدعة وأظهر السنة على لسان خلقه، وخطب بها على المنابر زمانا حتى ظهرت جنود إبليس القرامطة والباطنية والملاحدة، ودعوا الناس إلى العقل المجرد، وأن أمور الرسل تعارض المعقول. وفي زمنهم غلب الكفار على كثير من بلاد المسلمين، وهم الذين كسروا عسكر الخليفة العباسي، وقلعوا الحجر الأسود (¬1)، وقتلوا الحجاج. ثم خمدت دعوتهم في المشرق وظهرت في المغرب قليلا قليلا. ثم أخذوا يطؤون البلاد حتى وصلوا إلى بلاد مصر فملكوها وبنوا بها القاهرة، وأقاموا على هذه الدعوة مصرحين بها هم وولاتهم وقضاتهم، وفي زمنهم صرح ابن أبي زيد بأن الله مستو على عرشه بذاته، ردا لمذهبهم من غير أن تأخذه في الله لومة لائم، واتخذ الكلاب ليحرسوا من صائلهم ومعتدهم. وفي أيامهم ألفت الإشارات وكتب ابن سينا، قال: كان أبي من أهل الدعوة الحاكمين. وأهل السنة فيهم كأهل الذمة بين المسلمين، بل كان لأهل الذمة من الأمان ¬

(¬1) في (ت): الحجر الأسعد.

والجاه والعز عندهم ما ليس لأهل السنة. فكم أغمد من سيوفهم في أعناق العلماء، وكم مات في سجونهم من ورثة الأنبياء، حتى استنقذ الله الإسلام والمسلمين من أيديهم على يد نور الدين محمود بن زنكي والسلطان الأعظم صلاح الدين ابن أيوب رحمه الله، قابل الإسلام من علته وانتعش بعد طول الحمرة حتى استبشر أهل الأرض والسناء، واستنقذ الله بعبده صلاح الدين وجنوده بيت المقدس من أيدي عبدة الصليب، فعاش الناس/ في ذلك النور مدة حتى استولت الظلمة وقدم الناس العقول على النقول، والأذواق على الشريعة الربانية، وكان رئيسهم هذا الطوسي وأضرابه، هذا في المشرق. وأما في المغرب فمنذ فتح الإسلام إلا وهو على عقيدة السلف إلا ما كان من فتنة العبيدين وبدعتهم، ثم انجلت ظلمتها واستضاء المسلمون بنور السنة ومذهب السلف حتى ظهر فيهم في أوائل القرن السادس محمد بن تومرت المهدي تلميذ أبي حامد الغزالي، فملأ أرضهم بمعارضة العقل للوحي، واشتهر مذهب شيخه الغزالي في هذه البقاع، وسمى من خالفه من علماء المغرب وملوكهم وجمهورهم مجسمة، وقاتلهم على ذلك، وسمى أتباعه الموحدين؛ وفي ذلك يقول الحفيد ابن رشد: ولما ظهر أبو حامد طم الوادي على القرى ثم لم يزل أهل المغرب في دولة الموحدين وبني مرين بعدهم وغيرهم آخذين بمذهبه. وآخذ بمذهب السلف وهم القليل، حتى كانت دولة سيدي محمد بن عبد الله العلوي، فعانق مذهب السلف هو وخواصه، وأظهره للجمهور، وهكذا ابنه أبو الربيع المولى سليمان كما تقدم.

وأما أهل المشرق فبعث الله عليهم في خلال هذه الدعوة عبادا له أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار، وهم التتار، ثم تيمور ثم نيضت نابغة أيضا تدعوا إلى معارضة النقل بالعقل فقيض الله لهم شيخ الإسلام الحراني وأصحابه، فكانوا يناضلون بسيف الحجة عن مذهب أهل السنة، ثم اختلط الأمر بعد ذلك ومرج؛ فمن آخذ بمذهب هؤلاء، ومن آخذ بمذهب هؤلاء. وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خافهم حتى يأتي أمر الله» (¬1). ولذلك تفرس في السائل الإمام (¬2) أنه من أهل هذه الدعوة لدليل ما قال: "وأظنك رجل سوء، أخرجوه". ولولا ما ظنه الإمام فيه لما ساغ له أن يواجهه بهذا الكلام، / ولا أن يقول: "أخرجوه"، إذ السائل لا ينهر؛ بل يلان له القول ويكرم. ولا يشك في أن الإمام مالكا من أكابر أهل السنة لا شَكَّاكٌ، ولو كان قصد مالك بقوله: "معلوم" ما نسبتم له من التأويل لكان قوله: والكيف مجهول، ضائعا، ومنافيا لاعتقاده. إذ لا يقال الكيف مجهول إلا إذا كان الاستواء على معناه الحقيقي، بل لا يحكم على شيء أنه مجهول إلا إذا كان موجودا، وإلا كان اسم المعدوم أحق به. (¬3) ¬

(¬1) تقدم ضمن مواقف ابن المبارك سنة (181هـ). (¬2) يعني الإمام مالك رحمه الله. (¬3) نظر الأكياس (67 - 70) مخطوط.

محمد بن عبد العزيز بن مانع (1385 هـ)

محمد بن عبد العزيز بن مانع (¬1) (1385 هـ) الشيخ الإمام محمد بن عبد العزيز بن محمد بن مانع بن شبرمة الوهيبي التميمي. ولد بعنيزة سنة ثلاثمائة وألف للهجرة، ورحل في طلب العلم إلى بريدة، فالبصرة، فبغداد، ثم استقر في الأزهر بمصر. كان فقيها مطلعا على خلاف العلماء، حافظا للسنة، وآية في العلوم العربية لا سيما النحو، حتى قيل إن الشيخ عبد الرحمن بن سعدي كان يفضله فيها على الشيخ الشنقيطي. وأما حفظ المتون واستحضار مسائلها وأقوال شراحها فأمر عجيب. أخذ عن مجموعة من الشيوخ منهم السيد محمود شكري الآلوسي والشيخ محمد الذهبي والشيخ جمال الدين القاسمي والشيخ عبد الرزاق الأعظمي وغيرهم. وأخذ عنه الشيخ عبد الرحمن السعدي والشيخ عبد العزيز ابن محمد بن مانع (ابنه) والشيخ عثمان بن صالح القاضي وغيرهم. رجع إلى بلدته "عنيزة" سنة تسع وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة، ثم دعي للتدريس في البحرين سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة وألف من الهجرة، ثم استدعاه أمير قطر فولاه الإفتاء والوعظ والقضاء، ثم دعاه الملك عبد العزيز آل سعود سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة فدرس في الحرم المكي، ثم طلب حاكم قطر من السعودية انتدابه للعمل فيها سنة أربع وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة فأقام فيها إلى أن توفي رحمه الله سنة خمس وثمانين وثلاثمائة وألف. ¬

(¬1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (6/ 100 - 113) والأعلام (6/ 209) والمستدرك على معجم المؤلفين (682).

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: له من الآثار السلفية: 1 - 'القول السديد فيما يجب لله على العبيد'. 2 - 'مختصر شرح عقيدة السفاريني'. 3 - 'تحقيق النظر في أخبار المهدي المنتظر'. 4 - 'حاشية على العقيدة الطحاوية'. وكذا على العقيدة الواسطية وغيرها. موقفه من الخوارج: - قال رحمه الله: اعلم وفقنا الله وإياك أن أول اختلاف وقع في هذه الأمة: هو خلاف (الخوارج) حيث أخرجوا عصاة الموحدين من الإسلام بالكلية، وأدخلوهم في دائرة الكفر، وعاملوهم معاملة الكفار، واستحلوا بذلك دماء المسلمين وأموالهم. ثم حدث بعدهم خلاف (المعتزلة) وقوله: "إن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر"، ويثبتون (المنزلة بين المنزلتين). ثم حدث خلاف (المرجئة)، وقولهم: "إن الفاسق مؤمن كامل الإيمان". وقد صنف العلماء قديما وحديثا في هذه المسائل تصانيف متعددة، وبينوا ما هو الحق فيها، وصرحوا: أن الفاسق الملي، مرتكب الكبيرة، فاسق بكبيرته، مؤمن بإيمانه، وهو تحت مشيئة الله تعالى. (¬1) - وقال: فالمؤمن لا يخرج من الإيمان بملابسة كبائر الذنوب والعصيان. ¬

(¬1) شرح العقيدة السفارينية (ص.173 - 174).

محمد البشير الإبراهيمي (1385 هـ)

كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬1). وفي الحديث القدسي، الذي رواه الترمذي عن أنس مرفوعا: «يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة» (¬2). فدلت الآية وحديث أنس على أن من جاء مع التوحيد بملء الأرض خطايا، لقيه الله بملئها مغفرة، مع مشيئة الله تعالى، فإن شاء غفر له، وإن شاء عذبه وأخذه بذنبه، ثم كان عاقبته أن لا يخلد في النار، بل يخرج منها ثم يدخل الجنة. (¬3) - وقال في حاشيته على الطحاوية (¬4) عند قوله: "ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب، ما لم يستحله": ومراد الشيخ رحمه الله بهذا الكلام: الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب. محمد البشير الإبراهيمي (1385 هـ) ولد في الثالث عشر من شوال سنة ست وثلاثمائة وألف للهجرة بقرية أولاد إبراهيم قرب سطيف؛ من أسرة ترجع أصولها إلى الأدارسة الذين حكموا المغرب. حفظ القرآن وهو ابن تسع سنين، وحفظ المتون على يد والده وعمه محمد المكي الإبراهيمي، كما تفقه في قواعد النحو والفقه ¬

(¬1) النساء الآية (48) والآية (116). (¬2) الترمذي (5/ 512/3540) وقال: "حديث حسن". وقال ابن رجب في جامعه: "إسناده لا بأس به". (¬3) المصدر السابق (ص.175 - 176). (¬4) (ص.53).

والبلاغة. وكان من أعلم أهل بلده في وقته، خلف عمه في التدريس لما مات وهو ابن الرابعة عشر. وخلال رحلته إلى المدينة لطلب العلم؛ حط الرحال بالقاهرة ثلاثة أشهر يتردد فيها على الأزهر. وفي الحرم النبوي الشريف درس الموطأ على عبد العزيز الوزير التونسي، وصحيح مسلم على حسين أحمد الفيض أبادي الهندي وغيرهما من المشايخ، ولما اشتد عوده درّس به أيضاً. ورحل إلى دمشق سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة فاشتغل مدرساً للعربية بالمدرسة السلطانية الأولى، وكان يلقي الدروس في الجامع الأموي، وشارك في تأسيس المجمع العلمي للتعريب بدمشق. وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى عاد للجزائر فاشتغل بنشر العلم. كان خطيباً مفوهاً، وشاعراً فصيحاً، أديباً بليغاً، شارك شكيب أرسلان في إمارة 'البيان العربي'، واختير لعضوية مجمع اللغة العربية بمصر سنة ثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة. التقى أول مرة بعبد الحميد بن باديس بالمدينة النبوية فاستمرت لقاءاتهما كل ليلة على مدى ثلاثة أشهر يدرسان فيها سبل النهوض والإصلاح الديني في الجزائر، ثم عادا إلى بلدهما فأسسا جمعية العلماء. وقد نفاه المحتل الفرنسي، إلى صحراء وهران؛ ولما توفي ابن باديس اختاره العلماء لرئاسة الجمعية وهو في منفاه إذ لبث فيه ثلاث سنوات يدير الجمعية بالمراسلة. واستمر في استكمال ما قام به سلفه من إنشاء المدارس وبناء المساجد، وتعليم الطلاب، وأنشأ معهداً ثانوياً وسماه بـ (معهد عبد الحميد بن باديس).

موقفه من المبتدعة:

كانت له علاقة وطيدة بمفتي الديار السعودية في وقته الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، والشيخ عمر بن حسن آل الشيخ رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وافته المنية في الثامن عشر من غرة محرم عام خمس وثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة. من آثاره: 1 - 'بقايا فصيح العربية في اللهجة العامية بالجزائر'. 2 - 'النقايات والنفايات في لغة العرب'. 3 - 'حكمة مشروعية الزكاة في الإسلام'. 4 - 'شعب الإيمان'. 5 - 'قصيدة شعرية رجزية في ست وثلاثين ألف بيت نظمها في منفاه بالصحراء، وصف فيها الفرق المعاصرة وأولياء الشيطان، ومكايد الاستعمار وهي أيضاً حول تاريخ الإسلام والمجتمع الجزائري'. 6 - 'عيون البصائر'. 7 - 'رسالة الطب'. 8 - 'نظام العربية في موازين كلماتها'. 9 - 'محاضرات وأبحاث وفتاوى' جمعها أحد تلاميذه. وقد طبعت مجموعة تحت عنوان: 'آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي' في خمس مجلدات. موقفه من المبتدعة: - قال رحمه الله: إنهم موتورون لهذه الوهابية التي هدمت أنصابهم ومحت بدعهم فيما وقع تحت سلطانهم من أرض الله، وقد ضج مبتدعة

موقفه من المشركين:

الحجاز فضج هؤلاء لضجيجهم، والبدعة رحم ماسة، فليس ما نسمعه هنا من ترديد كلمة (وهابي) تُقذف في وجه كل داعٍ إلى الحق إلا نواحاً مُردَّداً على البدع التي ذهبت صرعى لهذه الوهابية. (¬1) - وقال عن التعصب المذهبي: هذه العصبية العمياء التي حدثت بعدهم -أي الفقهاء والأئمة الأربعة على وجه الخصوص- للمذاهب والتي نعتقد أنهم لو بعثوا من جديد لأنكروها على أتباعهم ... وقد طغت شرور العصبية للمذاهب الفقهية في جميع الأقطار الإسلامية، وكان لها أسوأ الأثر في تفريق كلمة المسلمين، وأن في وجه التاريخ الإسلامي منها لندوباً. (¬2) موقفه من المشركين: - قال في خطبة ألقاها بإذاعة صوت العرب سنة ست وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة -حول موالاة الكفار المستعمرين-: بسم الله الرحمن الرحيم، إذا قلنا: (إن موالاة المستعمر خروج عن الإسلام)؛ فهذا حكم مجمل، تفصيله: إن الموالاة مفاعلة، أصلها الولاء أو الولاية، وتمسها في معناها مادة التّولّي، والألفاظ الثلاثة واردة على لسان الشرع، منوط بها الحكم الذي حكمنا به؛ وهو الخروج عن الإسلام، وهي في الاستعمال الشرعي جارية على استعمالها اللغوي، وهو في جملته ضد العداوة؛ لأن العرب تقول: وَالَيتُ أو عاديتُ، وفلان وليّ أو عدوّ، وبنو فلان أولياء أو أعداء، وعلى هذا المعنى تدور تصرفات الكلمة في الاستعمالين الشرعي واللغوي. وماذا بين ¬

(¬1) مجلة الأصالة الأردنية العدد 1، (ص.36). (¬2) الأصالة العدد 2، (ص.44).

الاستعمار والإسلام من جوامع أو فوارق حتى يكون ذلك الحكم الذي قلناه صحيحاً أو فاسداً؟ إن الإسلام والاستعمار ضدان لا يلتقيان في مبدإ ولا في غاية، فالإسلام دين الحرية والتحرير، والاستعمار دين العبودية والاستعباد، والإسلام شرع الرحمة والرفق وأمر بالعدل والإحسان، والاستعمار قوامُه على الشدة والقسوة والطغيان، والإسلام يدعو إلى السلام والاستقرار، والاستعمار يدعو إلى الحرب والتقتيل والتدمير والاضطراب، والإسلام يُثبت الأديان السماوية ويحميها، ويقرّ ما فيها من خير ويحترم أنبياءها وكتبها، بل يجعل الإيمان بتلك الكتب وأولئك الرسل قاعدة من قواعده وأصلاً من أصوله، والاستعمار يكفر بكل ذلك ويعمل على هدمه، خصوصاً الإسلام ونبيه وقرآنه ومعتنقيه. نستنتج من كل ذلك أن الاستعمار عدو لدود للإسلام وأهله، فوجب في حكم الإسلام اعتبار الاستعمار أعدى أعدائه، ووجب على المسلمين أن يطبِّقوا هذا الحكم وهو معاداة الاستعمار لا موالاته. الاستعمار الغربي -وكل استعمار في الوجود غربي- يزيد على مقاصده الجوهرية وهي الاستئثار والاستعلاء والاستغلال مقصداً آخر أصيلاً وهو محو الإسلام من الكرة الأرضية خوفاً من قوته الكامنة، وخشيةً منه أن يعيد سيرته الأولى كرةً أخرى. وجميع أعمال الاستعمار ترمي إلى تحقيق هذا المقصد؛ فاحتضانه للحركات التبشيرية وحمايته لها وسيلة من وسائل حربه للإسلام، وتشجيعه للضالين المضلين من المسلمين غايته تجريد الإسلام من روحانيته وسلطانه على النفوس، ثم محوه بالتدريج، ونشره للإلحاد بين

المسلمين وسيلة من وسائل محو الإسلام، وحمايته للآفات الاجتماعية التي يحرّمها الإسلام ويحاربها كالخمر والبغاء والقمار ترمي إلى تلك الغاية، ففي الجزائر -مثلاً- يبيح الاستعمار الفرنسي فتح المقامر لتبديد أموال المسلمين، وفتح المخامر لإفساد عقولهم وأبدانهم، وفتح المواخير لإفساد مجتمعهم، ولا يبيح فتح مدرسة عربية تحيي لغتهم، أو فتح مدرسة دينية تحفظ عليهم دينهم. ويأتي في آخر قائمة الأسلحة التي يستعملها الاستعمار الغربي لحرب الإسلام اتفاقه بالإجماع على خلق دولة إسرائيل في صميم الوطن العربي، وانتزاع قطعة مقدسة من وطن الإسلام وإعطائها لليهود الذين يدينون بكذب المسيح وصلبه، وبالطعن في أمه الطاهرة. فالواجب على المسلمين أن يفهموا هذا، وأن يعلموا أن من كان عدوّاً لهم فأقل درجات الإنصاف أن يكونوا أعداءً له، وأنّ موالاته بأي نوع من أنواع الولاية هي خروج عن أحكام الإسلام؛ لأن معنى الموالاة له أن تنصره على نفسك وعلى دينك وعلى قومك وعلى وطنك. والمعاذير التي يعتذر بها الموالون للاستعمار كالمداراة وطلب المصلحة يجب أن تدخل في الموازين الإسلامية، والموازين الإسلامية دقيقة تزن كل شيء من ذلك بقدره وبقدر الضرورة الداعية إليه، وأظهر ما تكون تلك الضرورات في الأفراد لا في الجماعات ولا في الحكومات. وموالاة المستعمر أقبح وأشنع ما تكون من الحكومات، وأقبح أنواعها أن يحالَف حيث يجب أن يُخالَف، وأن يعاهَد حيث يجب أن يجاهَد ...

موقفه من الصوفية:

أيها المسلمون أفراداً وهيئات وحكومات: لا توالوا الاستعمار؛ فإن موالاته عداوة لله وخروج عن دينه. ولا تتولّوه في سلم ولا حرب؛ فإن مصلحته في السلم قبل مصالحكم، وغنيمته في الحرب هي أوطانكم. ولا تعاهدوه؛ فإنه لا عهد له. ولا تأمنوه؛ فإنه لا أمانَ له ولا إيمان. إن الاستعمار يلفظ أنفاسه الأخيرة فلا يكتب عليكم التاريخ أنكم زدتم في عمره يوماً بموالاتكم له. ولا تحالفوه؛ فإن من طبعه الحيواني أن يأكل حليفه قبل عدوه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (¬1) - وقال: ولو أن المسلمين فقهوا توحيد الله من بيان القرآن وآيات الأكوان لما ضلوا هذا الضلال البعيد في فهم المعاملات الفرعية مع الله -وهي العبادات- وتوحيد الله هو نقطة البدء في طريق الاتصال به ومنه تبدأ الاستقامة أو الانحراف. (¬2) موقفه من الصوفية: - قال رحمه الله: إننا علمنا حق العلم بعد التروي والتثبت، ودراسة أحوال الأمة ومناشئ أمراضها؛ أن هذه الطرق المبتدعة في الإسلام هي سبب تفرق المسلمين، ونعلم أننا حين نقاومها نقاوم كل شر. إن هذه الطرق لم تسلم منها بقعة من بقاع الإسلام، وأنها تختلف في التعاليم والرسوم والمظاهر ¬

(¬1) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (5/ 68 - 70). (¬2) الأصالة العدد 5، (ص.57).

موقفه من الجهمية:

كثيراً، ولا تختلف في الآثار النفسية إلا قليلاً، وتجتمع كلها في نقطة واحدة: وهي التخدير والإلهاء عن الدين والدنيا. (¬1) - وقال: أما والله ما بلغ الوضاعون للحديث، ولا بلغت الجمعيات السرية ولا العلنية الكائدة للإسلام من هذا الدين عشر معشار ما بلغته من هذه الطرق المشؤومة ... إن هذه الهوة العميقة التي أصبحت حاجزة بين الأمة وقرآنها هي من صنع أيدي الطرقيين. (¬2) - وقال أيضاً: فكل راقص صوفي، وكل ضارب بالطبل صوفي، وكل عابث بأحكام الله صوفي، وكل ماجن خليع صوفي، وكل مسلوب العقل صوفي، وكل آكل للدنيا بالدين صوفي، وكل ملحد بآيات الله صوفي، وهلم سحباً، أفيجمل بجنود الإصلاح أن يدعو هذه القلعة تحمي الضلال وتؤويه؟! أم يجب عليهم أن يحملوا عليها حملة صادقة شعارهم (لا صوفية في الإسلام) حتى يدكّوها دكّاً، وينسفوها نسفاً، ويذروها خاوية على عروشها. (¬3) موقفه من الجهمية: يقول عن علم الكلام: هو مبدأ التفرق الحقيقي في الدين؛ لأن المتكلمين يزعمون أن علومهم هي أساس الإسلام. (¬4) ¬

(¬1) مجلة الأصالة العدد 1، (ص.34 - 35). (¬2) مجلة الأصالة العدد 1، (ص.34 - 35). (¬3) مجلة الأصالة العدد 1، (ص.34 - 35). (¬4) مجلة الأصالة العدد 2، (ص.45).

عبد الرحمن المعلمي اليمني (1386 هـ)

عبد الرحمن المُعَلِّمِي اليمني (¬1) (1386 هـ) العلامة عبد الرحمن بن يحيى بن علي بن محمد المعلمي العتمي اليماني. ولد بالعتمة سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة ونشأ بها. سافر إلى جيزان سنة تسع وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة، وعين في رئاسة القضاء، ثم سافر إلى الهند وعمل في دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد، ثم عاد إلى مكة سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة، فعين أمينا لمكتبة الحرم المكي سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة، وبقي فيها إلى أن توفي رحمه الله سنة ست وثمانين وثلاثمائة وألف، ودفن بمكة. موقفه من المبتدعة: كان من خيار العلماء رحمه الله، بذل مجهودا كبيرا في التراث الإسلامي وفي خدمة طلاب العلم، تصدى للشيخ النجدي (¬2) وبين ضلاله وتلبيساته على المسلمين، وطعنه على السلف، وفي مقدمتهم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكتابه 'التنكيل' يشهد له بسعة الاطلاع، وغزارة العلم، والمعرفة الواسعة في علم الرجال. وقد خصص جزءا كبيرا من 'التنكيل' بين فيه العقيدة السلفية، ودافع عنها أحسن دفاع، فجزاه الله خيرا وأسكنه جنات الفردوس وإخوانه السلفيين. - فمن كلامه في التنكيل: والمقصود هنا أن أصحاب الرأي لهم عادة ودربة في دفع الروايات الصحيحة، ومحاولة القدح في بعض الرواة حتى لم ¬

(¬1) الأعلام (3/ 342) ومقدمة التنكيل (3 - 8) والمستدرك على معجم المؤلفين (366). (¬2) هو محمد زاهد الكوثري.

يسلم منهم الصحابة رضي الله عنهم، على أن الأستاذ (¬1) لم يقتصر على كلام أسلافه وما يقر منه، بل أربى عليهم جميعا كما تراه في الطليعة، ويأتي بقيته في التراجم إن شاء الله تعالى. وأما غلاة المقلدين فأمرهم ظاهر، وذلك أن المتبوع قد لا تبلغه السنة وقد يغفل السنة، وقد يغفل عن الدليل أو الدلالة، وقد يسهو أو يخطئ أو يزل، فيقع في قول تجيء الأحاديث بخلافه، فيحتاج مقلدوه إلى دفعها والتمحل في ردها، ولو اقتصر الأستاذ على نحو ما عرف عنهم لهان الخطب، ولكنه يعد غلوهم تقصيرا. (¬2) - وقال في فصل: (فيما جاء في ذم التفرق وأنه لا تزال طائفة قائمة على الحق، وما يجب على أهل العلم في هذا العصر). قال الله تبارك وتعالى: {* شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} (¬3) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) ¬

(¬1) الكوثري. (¬2) التنكيل (1/ 26). (¬3) الشورى الآيتان (13و14).

وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} إلى أن قال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)} (¬1). وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} (¬2) وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (¬3). وقال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ ¬

(¬1) آل عمران الآيات (100 - 105). (¬2) الأنعام الآية (153). (¬3) الأنعام الآية (159).

حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)} (¬1). وقال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)} (¬2) إن قيل: التفرق والاختلاف يصدق بما إذا ثبت بعضهم على الحق وخرج بعضهم عنه، والآيات تقتضي ذم الفريقين. قلت: كلا، فإن الآيات نفسها تحض على إقامة الدين، والثبات عليه، والاعتصام به، واتباع الصراط، بل هذا هو المقصود منها، فالثابت على السراط لم يحدث شيئا، ولم يقع بفعله تفرق ولا اختلاف، وإنما يحدث ذلك بخروج من يخرج عن السراط، وهو منهي عن ذلك، فعليه التبعة. فإن قيل: المكلف مأمور (¬3) بالاستقامة على الصراط، ولا يمكنه الاستقامة عليه حتى يعرفه، وإنما يعرفه بالبحث والنظر والتدبر، وحجج الحق -كما سلف في المقدمة- غير مكشوفة، فالباحث معرض للخطأ، بل من تدبر الحجج علم أنه يستحيل في العادة أن لا يختلف الناظرون فيها، فما الجامع بين الأمر باتباع الحجج وهو يؤدي إلى الاختلاف، وبين الزجر عن الاختلاف، وقد قال الله تبارك وتعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬4) وقال سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا ¬

(¬1) الروم الآيات (30 - 32). (¬2) هود الآيتان (118و119). (¬3) في الأصل: بأمور. (¬4) البقرة الآية (286) ..

اسْتَطَعْتُمْ} (¬1). أقول -وأسأل الله تبارك وتعالى التوفيق-: قولي: إن حجج الحق غير مكشوفة، إنما معناه كما سلف أنها بحيث يحتاج في إدراكها إلى عناء ومشقة، ويمكن من له هوى في خلافها أن يغالط نفسه وغيره بحيث يتيسر له زعم أنه إن لم يكن هو المحق فهو معذور، واتباع الحجج لا يؤدي إلى اختلاف، وإنما يؤدي إليه اتباع الشبهات، وإنما الشأن في أمرين: الأول: تمييز الحجج من الشبهات. الثاني: معرفة الاختلاف المنهي عنه. وجماع هذا في أمر واحد هو معرفة الصراط المستقيم، وقد بينه الله تعالى بقوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)} (¬2). وقد علمنا أن المنعم عليهم قطعا من هذه الأمة هم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وقد قال الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (¬3). وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} (¬4). فالصراط المستقيم: هو ما كان ¬

(¬1) التغابن الآية (16). (¬2) الفاتحة الآية (7). (¬3) يوسف الآية (108). (¬4) النساء الآية (115).

عليه محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وقد تقدم بيان جوامعه في الباب الأول، وأول الباب الرابع. فما اتضح من المأخذين السلفيين بحسب النظر الذي كان متيسرا للصحابة وخيار التابعين، فهو من الصراط المستقيم، وما خفي أو تردد فيه النظر فالصراط المستقيم، هو السكوت عنه، قال الله تعالى لرسوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (¬1). وقال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)} (¬2). وفي الصحيحين من حديث جندب ابن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه» (¬3). فإن كان من الأحكام العملية -والقضية واقعة- ساغ الاجتهاد فيه على الطريق التي كان يجري عليها في أمثال ذلك الصحابة وأئمة التابعين. فمن لزم هذه السبيل فهو الثابت على سبيل الحق والصراط المستقيم، ومن لزم ذلك في المقاصد، وخاض في النظر والرأي المتعمق فيه، لتأييد الحق وكشف الشبهات، وقد تحققت الحاجة إلى ذلك، فلا يقضى عليه بالخروج عن الصراط ما لم يتبين خروجه عنه في المقاصد فتلحقه تبعة ذلك بحسب مقدار خروجه. هذا، والاختلاف المنهي عنه من لازمه -كما بينته الآيات- التحزب وأن يكونوا شيعا، وسبيل الحق بينة، والدين محفوظ قد تكفل الله تعالى ¬

(¬1) الإسراء الآية (36). (¬2) ص الآية (86). (¬3) أحمد (4/ 313) والبخاري (9/ 124/5060 - 5061) ومسلم (4/ 2053/2667).

بحفظه، وبأن لا تزال طائفة من الأمة قائمة عليه، فإن أخطأ عالم لم يلبث أن يجد من ينبهه على أخطائه، فإن لم يتفق له ذلك، فالذي يوافقه أو يتابعه لا بد أن يجد من ينبهه، فلا يمكن أن يستولي الخطأ على فرقة من الناس يثبتون عليه ويتوارثونه إلا باتباعهم الهوى، ولهذا نجد علماء كل مذهب يرمون علماء المذاهب الأخرى بالتعصب واتباع الهوى، وأكثرهم صادقون في الجملة، ولكن الرامي يغفل عن نفسه، وكما جاء في الأثر «يرى القذاة في عين أخيه، وينسى الجذع في عينه» (¬1). وعلى كل حال، فإن الأمة قد اتبعت سنن من قبلها كما تواترت بذلك الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن ذلك بل من أعظمه أنها فرقت دينها وكانت شيعا، وقد تواترت الأخبار بأنه لا تزال طائفة قائمة على الحق، فعلى أهل العلم أن يبدأ كل منهم بنفسه فيسعى في تثبيتها على الصراط، وإفرادها عن اتباع الهوى، ثم يبحث عن إخوانه، ويتعاون معهم على الرجوع بالمسلمين إلى سبيل الله، ونبذ الأهواء التي فرقوا لأجلها دينهم وكانوا شيعا؛ ويتلخص العمل في ثلاثة مطالب: الأول: العقائد، وقد علمت أن هناك معدنا لحجج الحق وهو المأخذان السلفيان، ومعدنا للشبه، وهو المأخذان الخلفيان، فطريق الحق في ذلك واضح. المطلب الثاني: البدع العملية، والأمر في هذا قريب لولا غلبة الهوى، ¬

(¬1) أخرجه ابن حبان (13/ 73 - 74/ 5761) والقضاعي في مسند الشهاب (1/ 356/610) وأبو نعيم في الحلية (4/ 99) من حديث أبي هريرة مرفوعا: «يبصر أحدكم القذاة ... » الحديث.

فإن عامة تلك البدع لا يقول أحد من أهل العلم والمعرفة أنها من أركان الإسلام ولا من واجباته ولا من مندوباته، بل غالبهم يجزمون بأنها بدع وضلالات، وصرح قوم منهم بأن منها ما هو شرك وعبادة لغير الله عز وجل، وقد شرحت ذلك في كتاب (العبادة)، وبحسبك هنا أن تستحضر أن من يزعم من المنتسبين إلى العلم أنه لا يرى ببعضها (¬1) بأسا، أو زاد على ذلك أنه يرجى منها النفع، فإنه مع مخالفته لمن هو أعلم منه يعترف بأن في الأعمال المشروعة اتفاقا ما هو أعظم أجرا وأكبر فضلا بدرجات لا تحصى، وقد قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬2)، وفي (الصحيحين) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه» (¬3) وفي حديث آخر: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (¬4). وفي حديث آخر: «إنه لا يبلغ العبد أن ¬

(¬1) في الأصل: بعضها. (¬2) التغابن الآية (16). (¬3) أحمد (4/ 270) والبخاري (1/ 168/52) ومسلم (3/ 1219 - 1220/ 1599) وأبو داود (3/ 624/3330) والترمذي (3/ 511/1205) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (7/ 277 - 279/ 4465) وابن ماجه (2/ 1318 - 1319/ 3984). (¬4) أحمد (1/ 200) والترمذي (4/ 576 - 577/ 2518) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (8/ 732/5727) وابن حبان (2/ 498/722 الإحسان) والحاكم (2/ 13) وصححه ووافقه الذهبي.

يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به بأس» (¬1). والنظر الواضح يكشف هذا، فإنك لو كنت مريضا، فاتفق الأطباء على أشياء أنها نافعة لك، واختلفوا في شيء، فقال بعضهم: إنه سم قاتل، وقال بعضهم: لا نراه سما ولكنه ضار، وقال بعضهم: لا يتبين لنا أنه ضار، وقال بعض هؤلاء: بل لعله لا يخلو من نفع. أفلا يقضي عليك العقل إن كنت عاقلا بأن تجتنب ذاك الشيء؟! أو ليس من يأمرك ويلح عليك أن تصرف وقتك في تناول ذاك الشيء تاركا ما اتفقوا على نفعه بحقيق أن تعده ألد أعدائك؟! وتدبر في نفسك، أيصح من عاقل محب للإيمان خائف من الشرك أن يستحضر هذا المعنى ثم يصر على تلك البدع التي يخاف أن تكون شركا؟! أو ليس من يصر إنما يشهد على نفسه بأنه لا يبالي إذا وافق هواه أن يكون شركا؟ المطلب الثالث: الفقهيات، والاختلاف فيها إذا كان سببه غير الهوى أمره قريب، لأنه -كما مرت الإشارة إليه- لا يؤدي إلى أن يصير المسلمون فرقا متنازعة وشيعا متنابذة، ولا إلى إيثار الهوى على الهدى، وتقديم أقوال الأشياخ على حجج الله عز وجل، والالتجاء إلى تحريف معاني النصوص، وإذ كان المسلمون قد وقعوا في ذلك فإنما أوقعهم الهوى، فلا مخلص لهم منه إلا أن يستيقظ أهل العلم لأنفسهم فيناقشوها الحساب، ويكبحوها عن الغي، ¬

(¬1) الترمذي (4/ 547/2451) وقال: "هذا حديث حسن غريب". وابن ماجه (2/ 1409/4215) والحاكم (4/ 319) وقال: "صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي .. وضعفه الشيخ الألباني رحمه الله في غاية المرام (برقم 178) وقال: "وهذا عجب منه خاصة، فإن عبد الله بن يزيد وهو الدمشقي لم يوثقه أحد، بل قال الجوزجاني: "روى عن ابن عقيل أحاديث منكرة" ... وأورده الذهبي نفسه في الضعفاء وذكر قول الجوزجاني هذا. وقال الحافظ في التقريب: ضعيف".

ويتناسوا ما استقر في أذهانهم من اختلاف المذاهب، وليحسبوها مذهبا واحدا اختلف علماؤه، وأن على العالم في زماننا النظر في تلك الأقوال وحججها وبيناتها، واختيار الأرجح منها. وقد نص جماعة من علماء المذاهب أن العالم المقلد إذا ظهر له رجحان الدليل المخالف لإمامه لم يجز له تقليد إمامه في تلك القضية، بل يأخذ بالحق لأنه إنما رخص له في التقليد عند ظن الرجحان، إذ الفرض على كل أحد طاعة الله وطاعة رسوله، ولا حاجة في هذا إلى اجتماع شروط الاجتهاد، فإنه لا يتحقق رجحان خلاف قول إمامك إلا في حكم مختلف فيه، فيترجح عندك قول مجتهد آخر، وحينئذ تأخذ بقول هذا الآخر متبعا للدليل الراجح من جهة، ومقلدا في تلك القضية لذاك المجتهد الآخر من جهة؛ والفقهاء يجيزون تقليد المقلد غير إمامه في بعض الفروع لمجرد احتياجه، فكيف لا يجوز بل يجب أن يقلده فيما ظهر أن قوله أولى بأن يكون هو الحق في دين الله؟! وقضية التلفيق إنما شددوا فيها إذا كانت لمجرد التشهي وتتبع الرخص، فأما إذا اتفقت لمن يتحرى الحق وإن خالف هواه فأمرها هين، فقد كان العامة في عهد السلف تعرض لأحدهم المسألة في الوضوء فيسأل عنها عالما فيفتيه فيأخذ بفتواه، ثم تعرض له مسألة أخرى في الوضوء أيضا أو الصلاة فيسأل عالما آخر فيفيته فيأخذ بفتواه، وهكذا، ومن تدبر علم أن هذا تعرض للتلفيق، ومع ذلك لم ينكره أحد من السلف، فذاك إجماع منهم على أن مثل ذلك لا محذور فيه، إذ كان غير مقصود، ولم ينشأ عن التشهي وتتبع الرخص. فالعالم الذي يستطيع أن يروض نفسه على هذا هو الذي يستحق أن يهديه الله عز وجل، ويسوغ له

أن يثق بما تبين له، ويسوغ للعامة أن يثقوا بفتواه؛ نعم قد غلب اتباع الهوى وضعف الإيمان في هذا الزمان، فإذا احتيط لذلك بأن يرتب جماعة من أعيان العلماء للنظر في القضايا والفتاوى فينظروا فيها مجتمعين، ثم يفتوا بما يتفقون عليه أو أكثرهم لكان في هذا خير كثير وصلاح كبير إن شاء الله تعالى. فتلخص مما تقدم أن من اعتمد في العقائد المأخذين السلفيين ووقف معهما، واتقى البدع، وجرى في اختلاف الفقهاء على أنها مذهب واحد اختلف علماؤه فتحرى الأرجح، وكان مع ذلك محافظا على الفرائض، مجتنبا للكبائر، فإن عثر استقال ربه وتاب وأناب، فهو من الطائفة التي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها لا تزال قائمة على الحق، فليتعرف إخوانه، وليتعاضد معهم على الدعوة إلى الحق، والرجوع بالمسلمين إلى سواء الصراط. فأما من أبى إلا الجمود على أقوال آبائه وأشياخه والانتصار لها، فيوشك أن يدخل في قول الله تبارك وتعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (¬1) وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} (¬2). اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، {ربنا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا ¬

(¬1) التوبة الآية (31). (¬2) الجاثية الآية (23).

موقفه من الصوفية:

إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)} (¬1).اهـ (¬2) موقفه من الصوفية: قال في كتابه التنكيل: مآخذ العقائد الإسلامية أربعة: سلفيان وهما الفطرة والشرع. وخلفيان وهما النظر العقلي المتعمق فيه، والكشف التصوفي. ثم شرع رحمه الله في تفصيل المقال في هذه المآخذ إلى أن قال: وأما المأخذ الخلفي الثاني وهو الكشف التصوفي، فقد مضى القرن الأول ولا يعرف المسلمون للتصوف اسما ولا رسما، خلا أنه كان منهم أفراد صادقوا الحب لله تعالى، والخشية له يحافظون على التقوى والورع على حسب ما ثبت في الكتاب والسنة، فقد يبلغ أحدهم أن تظهر مزيته في استجابة الله عز وجل بعض دعائه أو عنايته بل على ما يقل في العادة، ويلقى الحكمة في الوعظ والنصيحة والترغيب في الخير، وإذا كان من أهل العلم، ظهرت مزيته في فهم الكتاب والسنة، فقد يفهم من الآية أو الحديث معنى صحيحا إذا سمعه العلماء وتدبروا وجدوه حقا، ولكنهم كانوا غافلين عنه حتى نبههم ذلك العبد الصالح. ثم جاء القرن الثاني فتوغل أفراد في العبادة والعزلة وكثرة الصوم والسهر وقلة الأكل لعزة الحلال في نظرهم، فجاوزوا ما كان عليه ¬

(¬1) البقرة الآية (286). (¬2) التنكيل (2/ 401 - 407).

الحال في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فوقعوا في طرف من الرياضة ... فلما وقعوا في ذلك وجد الشيطان مسلكا للسلطان على بعض أولئك الأفراد بمقدار مخالفتهم للسنة، فمنهم من كان عنده من العلم ما دافع به عن دينه كما نقل عن أبي سليمان الداراني أنه قال: "ربما تقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياما فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين -الكتاب والسنة-" ذكرها ونحوها من كلامهم أبو إسحاق الشاطبي في الاعتصام (106 - 121). ومنهم من سلم له أصل الإيمان لكن وقع في البدع العملية، ومنهم من كان سلطان الشيطان عليه أشد فأوقعه في أشد من ذلك كما ترى الإشارة إلى بعضه في ترجمة رياح بن عمرو القيسي من (لسان الميزان). ثم صار كثير من الناس يتحرون العزلة والجوع والسهر لتحصيل تلك الآثار، فقوي سلطان الشيطان عليهم، ثم نقلت مقالات الأمم الأخرى ومنها الرياضة وشرح ما تثمره من قوة الإدراك والتأثير، فضمها هواتها إلى ما سبق، ملصقين لها بالعبادات الشرعية، وكثر تعاطيها من الخائضين في الكلام والفلسفة، فمنهم من تعاطاها ليروج مقالاته المنكرة بنسبتها إلى الكشف والإلهام والوحي، ويتدرع عن الإنكار عليه بزعم أنه من أولياء الله تعالى، ومنهم من تعاطاها على أمل أن يجد فيها حلا للشكوك والشبهات التي أوقعه فيها التعمق في الكلام والفلسفة. ومن أول من مزج التصوف بالكلام الحارث المحاسبي، ثم اشتد الأمر في الذين أخذوا عنه فمن بعدهم، وكان من نتائج ذلك قضية الحلاج، ولعله كان في أقران الحلاج من هو موافق له في الجملة، بل لعل فيهم من هو أغلا

منه إلا أنهم كانوا يتكتمون، ودعا الحلاج إلى إظهار ما أظهره حب الرياسة. وكذلك مزج الفلسفة بالتصوف كان معروفا عن بعض الفلاسفة الأقدمين، وتجد في كلام الفارابي وابن سينا نتفا من ذلك. وكذلك في كلام متفلسفي المغاربة كابن باجة وغيره؛ وهكذا الباطنية كانوا ينتحلون التصوف، فلما جاء الغزالي نصب التصوف منصب الكلام والفلسفة الباطنية، وزعم أن الحق لا يعدو هذه الأربع المقالات، وقضى ظاهرا للتصوف مع ذكره كغيره أن طائفة من المتصوفة ذهبوا إلى الإباحة المحضة، وفي ذلك نبذ الشرائع البتة، ثم لم يزل الأمر يشتد حتى جاء ابن عربي وابن سبعين والتلمساني، ومقالاتهم معروفة. ومن تتبع ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة وأئمة التابعين، وما يصرح به الكتاب والسنة وآثار السلف، وأنعم النظر في ذلك، ثم قارن ذلك بمقالات هؤلاء القوم علم يقينا أنه لا يمكنه إن لم يغالط نفسه أن يصدق الشرع ويصدقهم معا، وإن غالط نفسه وغالطته، فالتكذيب ثابت في قرارها ولا بد. هذا والشرع يقضي بأن الكشف ليس مما يصلح الاستناد إليه في الدين، ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لم يبق من النبوة إلا المبشرات»، قالوا: وما المبشرات؟ قال: «الرؤيا الصالحة» (¬1). وورد نحوه من حديث جماعة من الصحابة ذكر في (فتح الباري) منها ¬

(¬1) رواه أحمد (2/ 233) والبخاري (12/ 464/6990) ومسلم (4/ 1774/2263 (8)) والترمذي (4/ 461/2270) وابن ماجه (2/ 1282/3894) وأبو داود (5/ 282 - 283/ 5019) بنحوه.

حديث ابن عباس (¬1) عند مسلم وغيره، وحديث أم كرز (¬2) عند أحمد وابن خزيمة وابن حبان، وحديث حذيفة ابن أسيد (¬3) عند أحمد والطبراني، وحديث عائشة (¬4) عند أحمد، وحديث أنس (¬5) عند أبي يعلى. وفيه حجة على أنه لم يبق مما يناسب الوحي إلا الرؤيا، اللهم إلا أن يكون بقي ما هو دون الرؤيا فلم يعتد به، فدل ذلك أن التحديث والإلهام والفراسة والكهانة والكشف كلها دون الرؤيا ... فالكشف إذن تتبع للهوى؛ فغايته أن يؤيد الهوى ويرسخه في النفس، ويحول بين صاحبه وبين الاعتبار والاستبصار، فكأن الساعي في أن يحصل له الكشف، إنما يسعى في أن يضله الله عز وجل، ولا ريب أن من التمس الهدى من غير الصراط المستقيم مستحق أن يضله الله عز وجل؛ وما يزعمه بعض غلاتهم من أن لهم علامات يميزون بها بين ما هو حق من الكشف وما هو باطل، دعوى فارغة، إلا ما تقدم عن أبي سليمان الداراني، وهو أن الحق ما شهد له الكتاب والسنة، لكن المقصود الشهادة الصريحة التي يفهمها أهل ¬

(¬1) رواه أحمد (1/ 219) ومسلم (1/ 348/479) وأبو داود (1/ 545 - 546/ 876) والنسائي (2/ 534/1044) وابن ماجه (2/ 1283/3899). (¬2) رواه أحمد (6/ 381) وابن ماجه (2/ 1283/3896) وصححه ابن حبان (13/ 411/6047) (¬3) رواه الطبراني في الكبير (3/ 200/3051) والبزار (3/ 11/2121 كشف الأستار) وقال الهيثمي في المجمع (7/ 173): "ورجال الطبراني ثقات". (¬4) رواه أحمد (6/ 129) والبزار (3/ 10/2118 كشف الأستار) قال الهيثمي (7/ 172): "ورجال أحمد رجال الصحيح". (¬5) رواه أحمد (3/ 106) والبخاري (12/ 473/6994) ومسلم (4/ 1774) تحت حديث عبادة (2264) ولم يرقم. وابن ماجه (2/ 1282/3893) وأبو يعلى (6/ 41/3285)، وفي الباب عن عبادة وابن عمر.

العلم من الكتاب والسنة بالطريق التي كان يفهمها بها السلف الصالح. فأما ما عرف عن المتصوفة من تحريف النصوص بما هو أشنع وأفظع من تحريف الباطنية فهذا لا يشهد لكشفهم، بل يشهد عليه أوضح شهادة بأنه من أبطل الباطل. أولا: لأن النصوص بدلالتها المعروفة حجة فإذا شهدت ببطلان قولهم علم أنه باطل. ثانيا: لأنهم يعترفون أن الكشف محتاج إلى شهادة الشرع، فإن قبلوا من الكشف تأويل الشرع، فالكشف شهد لنفسه فمن يشهد له على تأويله؟. وأما التحديث والإلهام ففي (صحيح البخاري) وغيره من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر» (¬1). وأخرجه مسلم من حديث أبي سلمة عن عائشة، وفيه: «فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم» (¬2) وجاء في عدة روايات تفسير التحديث بالإلهام. وهذه سيرة عمر بين أيدينا لم يعرف عنه ولا عن أحد من أئمة الصحابة وعلمائهم استدلال بالتحديث والإلهام في القضايا الدينية، بل كان يخفى عليهم الحكم فيسألون عنه، فيخبرهم إنسان بخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصيرون ¬

(¬1) أحمد (2/ 339) والبخاري (7/ 52/3689) والنسائي في الكبرى (5/ 40/8120) من حديث أبي هريرة. وفي الباب من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬2) أحمد (6/ 55) ومسلم (4/ 1864/2398) والترمذي (5/ 581/3693) والنسائي في الكبرى (5/ 39 - 40/ 8119).

موقفه من المرجئة:

إليه، وكانوا يقولون القول، فيخبرهم إنسان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلافه فيرجعون إليه. وأما الفراسة، فإن المتفرس يمكنه أن يشرح لغيره تلك الدلائل التي تنبه لها، فإذا شرحها عرفت، فإن كانت مما يعتد به عملت بها لا بالفراسة. (¬1) موقفه من المرجئة: قال رحمه الله في بيان عقيدة السلف التي ختم بها كتاب التنكيل: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص: اشتهر عن أبي حنيفة أنه كان يقول: ليس العمل من الإيمان، والإيمان لا يزيد ولا ينقص. وروى الخطيب عن جماعة من أهل السنة إنكارهم ذلك على أبي حنيفة، ونسبته إلى الإرجاء، فتكلم الكوثري في تلك الروايات، وحاول التشنيع على أولئك الأئمة، وأسرف وغالط على عادته، فاضطررت إلى مناقشته دفعاً لتهجمه بالباطل على أئمة السنة ... (¬2) ونقل كلامه ثم قال: اختلفت الأمة فيمن كان مؤمناً ثم ارتكب كبيرة، فقالت الخوارج: يكفر، وقالت المعتزلة: لا يكفر ولكن يزول إيمانه، وإذا مات عن غير توبة دخل النار وخلد فيها مع الكفار، وقالت المرجئة: لا يكفر ولا يزول إيمانه ولا يدخل النار، لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وقال أهل السنة: لا يكفر، ولا يزول إيمانه البتة بمجرد ارتكابه الكبيرة ولكنه يكون ناقصاً، وقال بعض الأئمة: إلا ترك الصلاة المكتوبة ¬

(¬1) التنكيل لما ورد في تأنيب الكوثري من الأباطيل (2/ 255 - 260). (¬2) التنكيل للمعلمي اليماني (2/ 383).

عمداً فإنه كفر، وحقق بعض أتباعهم أن الترك نفسه ليس كفراً، ولكن الشرع قضى أنه لا يكون إلا من كافر. يستدل المرجئة والمعتزلة والخوارج بنصوص ظاهرها أن المؤمنين لا يعذبون، ويستدل المعتزلة والخوارج بنصوص ظاهرها أن مرتكب الكبيرة لا يبقى مؤمناً، ويستدل الخوارج بنصوص ظاهرها أن ارتكاب بعض الكبائر كفر. وأهل السنة يجيبون عن الأولين، بأن المراد الإيمان الكامل، وعن الثالث: بأنه كفر دون كفر، فهو كفر يقتضي نقص الإيمان لا زواله، ويدفع المرجئة الجواب المذكور بقولهم: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، والأعمال ليست من الإيمان. وهذا القول قد كان أبو حنيفة يقوله، لكن يقول الكوثري أنه مع ذلك مخالف للمرجئة في أصل قولهم، وهو أنه لا يضر مع الإيمان عمل، ولا غرض في النظر في هذا وتتبع الروايات. بل أقول: تلك الموافقة التي يعترف بها تكفي لتبرير إنكار الأئمة، أما من لم يعرف منهم أن أبا حنيفة وإن وافق المرجئة في ذاك القول فهو مخالف لهم في أصل قولهم، فعذره في إنكاره واضح، وأما من عرف فيكفي لإنكار القول فهو مخالف للأدلة كما يأتي، وأنه قد يسمعه من يقتدي بأبي حنيفة، ولا يعلم قوله أن أهل المعاصي يعذبون فيغتر بذلك، وقد يبلغ بعضهم قولاه معاً فلا يلتفتون إلى الثاني بل يقولون: رأس الأمر الإيمان، فإذا كان إيمان الفجار مساوياً لإيمان الأنبياء والملائكة ففيم العذاب، وقد دلت النصوص على أن المؤمنين لا يعذبون؟! ويحملهم ذلك على التهاون بالعمل، يقول

أحدهم لم أتعب نفسي في الدنيا بما لا يزيد في إيماني شيئاً، حسبي أن إيماني مساوٍ لإيمان جبريل ومحمد عليهما السلام! ويحملهم ذلك على احتقار الملائكة والأنبياء والصديقين قائلين: أعظم ما عندهم الإيمان، وأفجر الفجار مساوٍ لهم فيه! وإذا كان أبو حنيفة كما يقول الكوثري يرى أن الإيمان هو الاعتقاد القلبي الجازم، وأنه لا يزيد ولا ينقص، فقد يبلغ هذا بعض الناس فيقول: إذا كنت لا أصير مؤمناً إلا بأن يكون يقيني مساوياً ليقين جبريل ومحمد عليهما السلام فهذا ما لا يكون، ففيم إذاً أعذب نفسي بالأعمال فأجمع عليها عذاب الدنيا وعذاب الآخرة؟! وبعد فيكفي مبرراً لإنكار ذاك القول مخالفته للنصوص الشرعية، أما النصوص على أن الأعمال من الإيمان، وأنه يزيد وينقص بحسبها فمعروفة، حتى اضطر الكوثري إلى المواربة، فزعم أن أبا حنيفة إنما كان يدفع أن يكون العمل ركناً أصلياً لا أنه من الإيمان في الجملة، كاليدين والرجلين وغيرها من الأعضاء بالنسبة إلى الجسد هي منه وينقص بفقدها مع بقاء أصله، وإن كان في بعض عبارات الكوثري ما يخالف هذه الدعوى. وأما النصوص على أن الإيمان القلبي يزيد وينقص، فمنها الأحاديث الصحيحة في أنه يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال شعيرة من إيمان، ثم من قالها وفي قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، ثم من قالها وفي قلبه أدنى أدنى من مثقال حبة خردل من إيمان. (¬1) ¬

(¬1) تقدم تخريجه ضمن مواقف عبد الله بن أحمد المقدسي سنة (620هـ).

فأما قول الله عز وجل: {* قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (¬1) فليس فيها ما ينافي أن تكون الأعمال من الإيمان، وإنما غاية ما فيها أن الاعتقاد القلبي ركن ضروري للإيمان، فلا يكون الإنسان مؤمناً حقاً بدونه، فإن قوله: {لَمْ تُؤْمِنُوا} نفي لإيمانهم، ويكفي في نفيه انتفاء ركن ضروري عنه كما لا يخفى، وقوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} لا يقتضي أن الإيمان كله هو الذي يكون في القلب، ألا ترى أنه يصح أن يقال: لم يدخل الإسلام في قلب فلان ... أو: لم يدخل الدين في قلب فلان. مع الاتفاق أن الإسلام والدين لا يختص بما في القلب. وأما ما في حديث جبريل: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر .. » (¬2) فقد أجاب عنه البخاري في كتاب الإيمان من "صحيحه" قال: باب سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة، وبيان النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: «جاء جبريل عليه السلام يعلمكم دينكم»، فجعل ذلك كله ديناً، وما بين النبي - صلى الله عليه وسلم - لوفد عبد القيس من الإيمان، وقوله تعالى: {ومن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (¬3). ¬

(¬1) الحجرات الآية (14). (¬2) تقدم تخريجه ضمن مواقف محمد بن أسلم الطوسي سنة (242هـ). (¬3) آل عمران الآية (85).

وقصة وفد عبد القيس التي أشار إليها هي في "الصحيحين" أيضاً وقد أوردها فيما بعد فأخرج من طريق ابن عباس في قصة محاورة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم: .. فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع، أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: «أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة .. » (¬1) فقد يقال: الإيمان في حديث جبريل منحوّ به المعنى اللغوي لا المعنى الشرعي، ويؤيد ذلك أن السائل في حديث جبريل كان في الظاهر -كما يعلم من الروايات- أعرابياً لم يجتمع قبل ذلك بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما ابتدأ فقال: ما الإيمان؟ كان الظاهر أنه إنما يريد بالإيمان ما يعرفه في اللغة، فإذا كان معناه في اللغة التصديق القلبي، فظاهر السؤال: ما الذي يطلب في الدين التصديق القلبي به؟ .. وأما في قصة عبد القيس، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي ابتدأ فأمرهم بالإيمان ثم فسره لهم، فكان المعنى الشرعي للإيمان هو ما جاء في قصة عبد القيس. فإن قيل: فإنه لم يستوعب الأعمال. قلت: هذا السؤال مشترك، ولا قائل إن ما ذكر فيه من الأعمال هي من الإيمان دون غيرها، ومثل هذا في النصوص كثير من الاقتصار على الأهم، إما لعلم المخاطب بغيره، وإما اتكالاً على أنه سيعلمه عند الحاجة، وإما لأن في الإجمال ما يدل عليه، وكثيراً ما يقع الاختصار من بعض الرواة. (¬2) ¬

(¬1) تقدم تخريجه ضمن مواقف ابن الصلاح سنة (643هـ). (¬2) التنكيل للمعلمي اليماني (2/ 385 - 388).

محمد بن إسماعيل بن محمد بن إبراهيم (1387 هـ)

محمد بن إسماعيل بن محمد بن إبراهيم (1387 هـ) موقفه من المبتدعة: ذكر عبد الرحمن بن عبد الجبار أن هذا الشيخ كانت له نهضة سلفية في باكستان والهند، وذكر أنه كان أعجوبة العصر في الوقوف أمام المبتدعة. جاء في مسودة عبد الرحمن بن عبد الجبار: أحد نوابغ عصره ومن العلماء المفلقين في علوم الكتاب والسنة، وكان مولعا بنشر السنة والسلفية، قضى حياته في الدرس والإفادة والتأليف والوعظ والإرشاد، تخرج على المحدث الوزير أبادي، كان له مساهمة كبيرة في الحركات بباكستان التي كان أمينها العام، وله بحوث ومقالات علمية قيمة في الدفاع عن السنة والسلفية، وله ردود علمية على منكري السنة والمقلدة الجامدين. ومن مؤلفاته: 1 - 'تحقيق مسألة حياة الأنبياء'. 2 - 'النهضة السلفية في الهند والباكستان'. محمد بن إبراهيم آل الشيخ (¬1) (1389 هـ) الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب. ولد في مدينة الرياض سنة إحدى عشرة وثلاثمائة وألف من الهجرة النبوية. حفظ القرآن في سن الحادية عشرة، ثم شرع في طلب العلم، فقرأ على والده مختصرات من علم التوحيد وأصول ¬

(¬1) الأعلام (5/ 306 - 307) وعلماء نجد (1/ 88) والإتحاف (1/ 105) والمستدرك على معجم المؤلفين (582).

موقفه من المبتدعة:

العقيدة والحديث وغيره. وفي سن الرابعة عشر من عمره فقد بصره، فصبر واحتسب واستمر في طلبه. تلقى الشيخ العلم على أيدي مجموعة من الشيوخ، فبالإضافة إلى أبيه وعمه، هناك الشيخ سعد بن حمد بن عتيق والشيخ حمد بن فارس والشيخ عبد الله بن راشد بن جلعود وغيرهم. ومن تلاميذه: الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ عبد الله بن محمد بن حميد وعبد الرحمن بن قاسم، وغيرهم كثير. قال عنه الشيخ ابن باز: كان من أعلم الناس في زمانه ومن أحسنهم تعليما وتفقيها وعناية بالطالب وإيقاع الأسئلة. وقال الأمين الشنقيطي: عرفنا فيه وفور العلم ورجاحة العقل وتمام الحكمة والصبر المنقطع النظير وهو -رحمه الله- فيما أعتقد وأجزم به وإن كنت لا أزكي على الله أحدا فهو من نوادر الرجال الذين عرفناهم علما وعقلا وحكمة فنرجو الله أن يتقبل منه صالح عمله وأن يجزيه كل خير ويعلي درجته في الآخرة كما أعلاها في الدنيا، وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا. توفي رحمه الله تعالى سنة تسع وثمانين وثلاثمائة وألف وله من العمر ثمان وسبعون سنة. موقفه من المبتدعة: قال رحمه الله: كل بدعة ضلالة (¬1): فيه أن البدعة ليس فيها حسن، ففيه الرد على من يقول أن هذه بدعة حسنة والرسول يقول ضلالة. ¬

(¬1) أخرجه أحمد (3/ 310 - 311و319و371) ومسلم (2/ 592/867) والنسائي (3/ 209 - 210/ 1577) وابن ماجه (1/ 17/45) من حديث جابر رضي الله عنه.

موقفه من المشركين:

وأما قول عمر: نعمت البدعة. المراد من جهة اللغة وإلا فأصلها مشروع فإنه من المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم ليال فلم يخرج خشية فرضها عليهم فأصلها معروف زمن النبي (¬1). أما تقسيم بعضهم البدعة إلى خمسة أقسام: فهذا غير مسلم. بل البدعة التي لا يسوغها الشرع بدعة ضلالة. وما كان لها ما يخولها من الدين ويدل عليها فليست بدعة ضلالة بل بدعة لفظية. (¬2) موقفه من المشركين: - قال رحمه الله: وأما الطواف بالقبر، وطلب البركة منه، فهو لا يشك عاقل في تحريمه وأنه من الشرك، فإن الطواف من أنواع العبادات فصرفه لغير الله شرك، وكذلك البركة لا تطلب إلا من الله، وطلبها من غير الله شرك كما تقدم في حديث أبي واقد الليثي (¬3). وأما النذر للقبر فلا يجوز، فإن النذر عبادة، وصرفه لغير الله شرك أكبر، كما قال الله سبحانه: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} (¬4). وكما في الصحيح من حديث عائشة: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» (¬5).اهـ (¬6) ¬

(¬1) تقدم تخريجه ضمن مواقف ابن رجب سنة (795هـ). (¬2) فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن ابراهيم (1/ 257 - 258) (¬3) تقدم تخريجه ضمن مواقف الشيخ محمد بن عبد الوهاب سنة (1206هـ). (¬4) الإنسان الآية (7). (¬5) أحمد (6/ 36) والبخاري (11/ 712/6696) وأبو داود (3/ 593/3289) والترمذي (4/ 88/1526) والنسائي (7/ 23/3815) وابن ماجه (1/ 687/2126). (¬6) فتاوى ورسائل محمد بن ابراهيم (1/ 122).

موقفه من الرافضة:

- وقال أيضا: إن الغلو في قبور الأنبياء والصالحين واتخاذها مساجد وتشييد القباب والأبنية وإقامة الأضرحة وتعليق الستور المزركشة عليها وإسراجها بالشموع والأضواء كل ذلك من مظاهر الشرك وآثار الجاهلية التي لا يقرها الإسلام ولا تتفق مع أحكام شريعته المطهرة، ولذلك بالغ رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه في إنكار ذلك والتحذير منه أشد المبالغة، لئلا يفضي الأمر بهذه الأمة إلى اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين أوثانا تعبد من دون الله. (¬1) موقفه من الرافضة: قال رحمه الله: من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم علي بن محمد المطوع المحترم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فقد وصل إلينا كتابك المؤرخ، الذي ذكرت فيه ما أجراه بعض الروافض عندكم أنهم صوروا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه صورة مجسمة تجسيما كاملا، وزينوه بلباس فاخر بلحيته وعمامته، وجعلوا له ذيلا يستهزءون به في مجالسهم، ويرقصون حواليه، ويلعنونه، ثم أتوا بولد أبو عشرين سنة وأتوا بمطوعهم ليعقدوا للولد على عمر، ويجعلونه مثل الذين تعرفون، ثم عثرت عليهم الشرطة، فمسكتهم وأودعوا السجن، وتسأل عما يجب في حقهم شرعا؟. والجواب: عن ما ذكرتم من هذا الأمر العظيم من فعل هؤلاء الروافض ¬

(¬1) فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم (1/ 141 - 142).

وتهجمهم على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الذين اختارهم الله لصحبة رسوله، فقاموا معه خير قيام، وآمنوا به، وهاجروا وجاهدوا معه، ونصروه، وبذلوا في سبيل ذلك مهجهم وأولادهم وأوطانهم وأموالهم، وفدوه - صلى الله عليه وسلم - بجميع ذلك. قال أبو زرعة العراقي: إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من الصحابة فاعلم أنه زنديق، وذلك أن القرآن حق، والرسول حق، وما جاء به حق، وما أدى إلينا ذلك كله إلا الصحابة، فمن جرحهم فقد أراد إبطال الكتاب والسنة. فإذا كان هذا في حق سائر الصحابة، فما بالك بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي هو أفضل الصحابة وأجلهم بعد الصديق بإجماع الأمة والبراهين القاطعة، والذي وردت في فضله الأحاديث الكثيرة والأخبار الشهيرة، ففي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك» (¬1) وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لقد كان فيمن كان قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فهو عمر» (¬2) أي ملهمون. وروى الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه» (¬3) وأخرج الترمذي أيضا عن عقبة بن عامر ¬

(¬1) تقدم تخريجه ضمن مواقف خالد بن يوسف النابلسي سنة (663هـ). (¬2) تقدم تخريجه انظر (المهدي بن تومرت محمد بن عبد الله وبدعه في بلاد المغرب سنة (524هـ). (¬3) أحمد (2/ 95) والترمذي (5/ 576 - 577/ 3682) وقال: "حسن غريب من هذا الوجه" وابن حبان (الإحسان 15/ 318/6895) وفي الباب عن أبي ذر وأبي هريرة رضي الله عنهما.

مرفوعا: «لو كان بعدي نبي لكان عمر» (¬1) والأحاديث والآثار في هذا كثيرة معروفة. وهؤلاء الروافض قد ارتكبوا بهذا الصنيع عدة جرائم شنيعة: منها الاستهزاء بأفاضل الصحابة رضوان الله عليهم وسبهم ولعنهم. ومنها التصوير، والتصوير من كبائر الذنوب الملعون فاعلها، مع أنهم لم يصوروه على خلقته رضي الله عنه بل صوروه صورة بهيمة، وجعلوا له ذيلا لتمام السخرية والاستهزاء قبحهم الله. وما أعظمها وأقبحها وأفضحها وأفحشها، ومنها تهجمهم عليه ووقاحتهم حتى أتوا برجل يعقدون له النكاح عليه قبحهم الله وأخزاهم، وهذا يدل على خبثهم وشدة عداوتهم للإسلام والمسلمين، فيجب على المسلمين أن يغاروا لأفاضل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن يقوموا على هؤلاء الروافض قيام صدق لله تعالى، ويحاكموهم محاكمة قوية دقيقة، ويوقعوا عليهم الجزاء الصارم البليغ، سواء كان القتل أو غيره حسب ما يراه الحاكم بنظره المصلحي الشرعي، والمأمول من ولاة الأمور عندكم وفقهم الله وهداهم القيام حول ما ذكر بما يلزم شرعا بالضرب على هؤلاء بيد من حديد، غيرة لديننا وخيار سلفنا وزجرا لمن تسول له نفسه مثل صنعهم. ونسأل الله أن ينصر دينه ويعلي كلمته، ويذل أعداءه، ويوفق ولاة الأمر لما فيه عز الإسلام والمسلمين. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. (¬2) ¬

(¬1) أحمد (4/ 154). الترمذي (5/ 578/3686) وقال: "حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث مشرح بن هاعان". الحاكم (3/ 85/4495) وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. ومشرح هذا قال فيه الحافظ في التقريب: "مقبول". قال الشيخ الألباني في الصحيحة (1/ 646): "وهذا سند حسن رجاله كلهم ثقات، وفي مشرح كلام لا ينزل عن رتبة الحسن، وقد وثقه ابن معين". (¬2) فتاوى ورسائل محمد بن ابراهيم (1/ 248 - 250).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: - قال رحمه الله: وقد اشتهر في النفي مذاهب أربعة: المعتزلة، والأشاعرة، والجهمية، والماتريدية، والماتريدية قريبة من الأشعرية إلا أن بينهما فروقا مذكورة في مواضعها. الجهمية ينفون جميع الأسماء والصفات ولا يثبتون شيئا أو يثبتون "القادر" لأن مذهب جهم الجبر. وهم زعموا التنزيه فلجأوا إلى التشبيه، فلما تصوروا ذلك واعتقدوه كذبوا الرسول ولجئوا إلى التعطيل، فوقعوا في تشبيه أكثر من الأول. والأشاعرة أثبتوا سبعا، وقالوا في البقية أنها أخبار آحاد ونحو ذلك. ثم الأشاعرة في مسلكهم الردي في النصوص يقال لهم: يلزمكم فيما صرتم إليه، فإن قالوا: إرادة مثل إرادة المخلوق. قيل: شبهتم، وإن قالوا: إرادة تليق بجلال الله. قيل لهم: وكذلك قولوا في الرحمة وأثبتوا نصوص الكتاب والسنة. وكذلك يقال في سائر الصفات. والحق ما عليه أهل السنة وهو إثبات الصفات حقيقة مع قطعهم أن الجميع لا يماثل صفات المخلوقين. (¬1) - وقال: وفي قوله: {منزل مِنْ رَبِّكَ} (¬2) دلالة على أمور: منها بطلان قول من يقول إنه كلام مخلوق خلقه في جسم من الأجسام المخلوقة، كما هو قول "الجهمية" الذين يقولون بخلق القرآن من المعتزلة والنجارية والضرارية ¬

(¬1) فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم (1/ 201 - 202). (¬2) الأنعام الآية (114).

وغيرهم، فإن السلف كانوا يسمون كل من نفى الصفات وقال إن القرآن مخلوق وإن الله لا يرى في الآخرة جهميا. فإن جهما أول من ظهرت عنه بدعة نفي الأسماء والصفات وبالغ في نفي ذلك، فله في هذه البدعة مزيد المبالغة في النفي والابتداء لكثرة إظهار ذلك والدعوة إليه. وإن كان الجعد بن درهم قد سبقه إلى بعض ذلك، فإن الجعد أول من أحدث ذلك في الإسلام فضحى به خالد بن عبد الله القسري بواسط يوم النحر. وقال: يا أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم بأن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا. ثم نزل فذبحه. ولكن المعتزلة وإن وافقوا جهما في بعض ذلك فهم يخالفونه في مسائل غير ذلك كمسائل الإيمان والقدر وبعض مسائل الصفات أيضا، ولا يبالغون في النفي مبالغته، وجهم يقول إن الله لا يتكلم أو يقول إنه متكلم بطريق المجاز، وأما المعتزلة فيقولون إنه تكلم حقيقة. لكن قولهم في المعنى هو قول جهم، وجهم ينفي الأسماء أيضا كما نفتها الباطنية ومن وافقهم من الفلاسفة، وأما جمهور المعتزلة فلا تنفي الأسماء. فالمقصود أن قوله: {منزل مِنْ رَبِّكَ} (¬1) فيه بيان أنه منزل من الله لا من مخلوق من المخلوقات. ولهذا قال السلف: منه بدأ. أي هو الذي تكلم به لم يبتدأ من غيره كما قالت الخلقية. (¬2) ¬

(¬1) الأنعام الآية (114). (¬2) فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم (1/ 219 - 220).

محب الدين الخطيب (1389 هـ)

محب الدين الخطيب (¬1) (1389 هـ) الشيخ محب الدين بن أبي الفتح محمد بن عبد القادر بن صالح الخطيب. ولد بدمشق سنة ثلاث وثلاثمائة وألف من الهجرة، وتعلم بها، ثم رحل إلى صنعاء ثم إلى مصر (القاهرة) شاغلا مناصب مختلفة، آخرها محررا في جريدة الأهرام، وأصدر مجلته "الزهراء" و"الفتح"، وتولى تحرير "مجلة الأزهر" وأنشأ المطبعة السلفية ومكتبتها، فنشر عددا كبيرا من كتب التراث الإسلامي. توفي رحمه الله سنة تسع وثمانين وثلاثمائة وألف. موقفه من المبتدعة: كانت له أيادي بيضاء في نشر العقيدة السلفية والدفاع عنها، يظهر ذلك في تعاليقه الجيدة على المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي. ومن آثاره السلفية: 1 - 'الغارة على العالم الإسلامي'. 2 - وله تعاليق غنية بالفوائد والدرر. - قال في مقدمته على 'العواصم' لابن العربي: والتاريخ الصادق لا يريد من أحد أن يرفع لأحد لواء الثناء والتقدير، لكنه يريد من كل من يتحدث عن رجاله أن يذكر لهم حسناتهم على قدرها، وأن يتقى الله في ذكر سيئاتهم فلا يبالغ فيها ولا ينخدع بما افتراه المغرضون من أكاذيبها. نحن المسلمين لا نعتقد العصمة لأحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكل من ¬

(¬1) الأعلام (5/ 282) والمستدرك على معجم المؤلفين (576 - 577).

ادعى العصمة لأحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو كاذب. فالإنسان إنسان، يصدر عنه ما يصدر عن الإنسان، فيكون منه الحق والخير، ويكون منه الباطل والشر. وقد يكون الحق والخير في إنسان بنطاق واسع فيعد من أهل الحق والخير، ولا يمنع هذا من أن تكون له هفوات. وقد يكون الباطل والشر في إنسان آخر بنطاق واسع، فيعد من أهل الباطل والشر، ولا يمنع هذا من أن تبدر منه بوادر صالحات في بعض الأوقات. يجب على من يتحدث عن أهل الحق والخير إذا علم لهم هفوات، أن لا ينسى ما غلب عليهم من الحق والخير، فلا يكفر ذلك كله من أجل تلك الهفوات. ويجب على من يتحدث عن أهل الباطل والشر إذا علم لهم بوادر صالحات، أن لا يوهم الناس أنها من الصالحات من أجل تلك الشوارد الشاذة من أعمالهم الصالحات. (¬1) - قال في مقدمته على كتاب 'مختصر التحفة الاثني عشرية': والمسلمون الأولون -الذين تولى الهادي الأعظم - صلى الله عليه وسلم - تربيتهم وتوجيههم وإعدادهم للاضطلاع بمهمة الإسلام العظمى- كانوا المثل الكامل للعمل بالإسلام: في إيمانهم، وطاعتهم لله، وأخلاقهم الكريمة، وسياستهم الحكيمة، وفتوحهم الرحيمة، وتكوينهم المجتمع الإسلامي الصالح، والدولة الإنسانية المثالية. وقد كافأهم الله على ذلك بانتشار رسالته على أيديهم، وذيوع دعوته بين الأمم اقتداء بهم، واتباعا لهم. ولما تخطت رسالة الإسلام حدود الجزيرة العربية المباركة -فدخلت العراق وإيران شرقا، والشام شمالا، ومصر وإفريقية غربا- ¬

(¬1) مقدمة العواصم (46 - 47).

كان ذلك سعادة للأخيار من أهل البلاد المفتوحة، وغذاء لعقولهم، وبهجة وحبورا تطمئن بهما قلوبهم. وشجى للأشرار منهم، وغصة في حلوقهم، ومبعث إحنة وغل تسممت بهما دماؤهم وأرواحهم. إن الأخيار من طبقات سالم مولى أبي حذيفة، وعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، فالحسن البصري، وعبد الله بن المبارك، فمحمد بن إسماعيل البخاري، وأبي حاتم الرازي، وابنه عبد الرحمن، وأندادهم وتلاميذهم، استقبلوا هداية الإسلام السليمة الأصيلة بأرواحهم وعقولهم، وفتحوا لها أبوابهم وصدورهم، وأحلوا لغتها محل لغاتهم، وعملوا بسننها بدلا من سننهم، ونسخوا بإيمانها كل ما كانوا -أو كان آباؤهم- عليه من قبل. فساهموا في حفظ كتاب الله وسنة رسوله الأعظم، وحرصوا على فهمهما كما كان يفهمهما أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعائشة وعبد الله بن عمر وعبد الله ابن مسعود ومعاذ بن جبل ومن ائتم بهم وسار على منهاجهم، حتى صاروا بنعمة الله إخوانا للمسلمين كصالحي المسلمين، وأئمة للمسلمين كسائر أئمة المسلمين. (¬1) - وقال في مقدمة تحقيقه على كتاب 'المنتقى من منهاج الاعتدال' للذهبي رحمهما الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)} (¬2). ¬

(¬1) مقدمة مختصر التحفة الاثني عشرية. (¬2) المائدة الآية (8).

إن ظهور هذا الدين الإسلامي -على فترة من تاريخ الإنسانية- كان حادثا من أعظم أحداثها، بل هو أعظم أحداثها، فقد جاء لإقامة الحق: ما كان منه وما سيكون، فكل حق يواجهه البشر في ائتلافهم واختلافهم، وفي معاملاتهم وأقضيتهم وأحكامهم، وفي تفكيرهم وبحوثهم ودراساتهم وأنظمتهم، وفي تعاونهم على ما فيه خيرهم ومصالحهم: فهو من الإسلام. وحسب الإسلام مكانة في تاريخ التشريع أن يسميه الله "دين الحق" {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} (¬1)، وكل ما وافق العدل والقسط فالإسلام يدعو أهله إلى أن يقوموا به، وأن يشهد كل واحد منهم بما يعلمه منه، وأن يعملوا جميعا على بسط سلطان العدل ونشر لوائه في دار الإسلام وفي سائر آفاق الأرض كاملا وافيا بأقصى ما يستطيعونه، ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم، فالحق والعدل وإقامتهما والشهادة بهما عنصر الإسلام الأول، وخلقه المقدم، والسمة التي يجب أن يتميز بها أهله في طيبة قلب وصفاء فطرة وطهارة نفس وإيثار لما فيه مرضاة الخالق وطمأنينة الخلق. والعدل في نظام الإسلام من التقوى، والتقوى ميزان التفاضل بين المسلمين، والله خبير بأهلها وبمن ينحرف عنها، لا تخفى عليه منهم خافية. وهذه الصورة المشرقة لهذا الإسلام الجميل هي التي تولى خاتم رسل الله تربية أصحابه عليها، وإعدادهم ليخلفوه في دعوة الإنسانية إليها، ولم يودع - صلى الله عليه وسلم - هذه الدنيا ويغمض بصره وراء سجف بيت عائشة أم المؤمنين المطل على مسجده الشريف ليلتحق ¬

(¬1) التوبة الآية (33).

بالرفيق الأعلى؛ إلا بعد أن أقر الله عينيه الكريمتين باجتماع الصفوة المختارة منهم صفوفا كالبنيان المرصوص، مسلمين أنفسهم وقلوبهم لله عز وجل في عبادته وطاعته، خلف خليفته فيهم أبي بكر الصديق رضي الله عنه، الذي قال فيه وفي صنوه عمر بن الخطاب أخوهما علي بن أبي طالب وهو يخطب على منبر الكوفة: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر. وفي مثل لمح البصر -بعد فاجعة الإسلام والمسلمين بفراق أكرم خلق الله على الله- لم هؤلاء البررة الأخيار شعثهم في جزيرتهم المباركة، ووحدوا صفوفهم العامة للجهاد، كما وحدوا في أيام احتضار الرسول - صلى الله عليه وسلم - صفوفهم للصلاة، فسارت رايات أبي بكر متوجهة إلى العراق والشام حاملة أمانات الرسالة المحمدية إلى أمم الأرض أدناها فأدناها، وسرعان ما كافأهم الله على جهادهم الصادق بالنصر الموعود، فترددت أصداء دعوة "حي على الفلاح" في الآفاق التي خفقت فيها رايات قواد الخليفة الأول: أبي عبيدة، وخالد، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، وكان هؤلاء للشعوب التي اتصلوا بها معلمين ودعاة وأصحاب رسالة من الله ورسوله إلى البلاد التي عرفت أقدارهم؛ وفتحت أبوابها وقلوب أهلها لتعليمهم وتوجيههم. وبعد أن قرت عينا أبي بكر بنصر الله في بلاد الرافدين وربوع الشام اختاره الله لمجاورة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الأخرى، كما اختاره لصحبته في الدنيا، فأخذ دفة القيادة في سفينة الإسلام خليفته أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وهو خير هذه الأمة بعد أبي بكر بشهادة أخيهما أبي الحسن رضي الله عنهم جميعا. ومضت قافلة الإسلام في طريقها ترعاها عين الله التي لا تنام، فواصلت كتائب الدعوة المحمدية

سيرها إلى وادي النيل، ومنها إلى شمال إفريقية، كما توغلت أخواتها في مملكة كسرى إلى أقصى آفاقها، حتى إذا تآمرت على الدم العمري الشريف مكايد اليهودية والمجوسية، واختار الله إليه مثال العدالة في الأرض: يسر له مجاورة صاحبيه، فارتضى المسلمون للخلافة المحمدية عليهم أطيبهم نفسا وأرحمهم قلبا وأنداهم يدا وأحفظهم للقرآن وأصبرهم على بلاء الزمان: صهر نبيهم على كريمتيه، ولو كان له - صلى الله عليه وسلم - ابنة ثالثة لآثره بها، فكان عثمان لهؤلاء الصفوة البررة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخا مخلصا، ولأبنائهم أبا مشفقا، وكانت الأمة مدة خلافته في أرخى عيش وأسعد مجتمع، كما شهد بذلك عالمان من كبار التابعين: الحسن البصري وصنوه ابن سيرين، بينما كانت رايات ذي النورين بأيدي المجاهدين الأبطال من رجاله تخفق في آفاق قفقاسيا وما وراء الباب مما كان قواد الأكاسرة وأبطالهم لا يطمعون في الوصول إليه. وهكذا عرفت أمم المشرق وأمم المغرب هذا الإسلام من سيرة الصحابة وعدلهم، ورفقهم وحزمهم واستقامتهم على طريق الحق الذي قامت به السماوات والأرض، وبذلك تحقق فيهم قول صاحب الرسالة العظمى - صلى الله عليه وسلم -: «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (¬1) ... وهذا الحديث الشريف من أعلام نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الإسلام لم ير زمان سعادة وعزة واستقامة على الحق والخير كالذي رآه في زمان الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، ¬

(¬1) أخرجه بهذا اللفظ أبو نعيم في الحلية (4/ 172) عن عمر بن الخطاب واستغربه. وقد صح الحديث بلفظ «خير الناس قرني ... » من حديث ابن مسعود أخرجه: أحمد (1/ 334) والبخاري (5/ 324/2652) ومسلم (4/ 1963/2533 [212]) والترمذي (5/ 652/3859) والنسائي في الكبرى (3/ 494 - 495/ 6031) وابن ماجه (2/ 791/2362).

وتحديد ذلك إلى نهاية الدولة الأموية، وقد يلتحق به زمن الخلفاء الأولين من بني العباس الذين تربوا في البيئة الأموية. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (ج7صلى الله عليه وسلم4): اتفقوا -أي اتفق أئمة الإسلام- أن آخر من كان من أتباع التابعين ممن يقبل قوله من عاش إلى حدود سنة 220هـ، ثم ظهرت البدع، وتغيرت الأحوال تغيرا شديدا. هذه المدة التي تنبأ عنها خاتم رسل الله - صلى الله عليه وسلم - ونعتها بأنها "خير القرون" وكان ذلك من أعلام نبوته، هي عصور الإسلام الذهبية التي لم ير الإسلام أعظم منها بركة، ولا أعز منها لأهله رفعة وسلطانا، ولا أصدق من جهاد قادتها جهادا، ولا أوسع من دعوتها إلى الله في أوسع الآفاق من أرض الله، وفيها انتشر حفظة القرآن في أنحاء المعمورة ورحل شباب التابعين إلى كل بقعة فيها صحابي يحفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا من سنته السنية ليتلقوها عنه قبل أن تموت بموته، ثم رحل تابعوهم إلى كل بقعة فيها أحد من كبار التابعين يحفظ شيئا عن الصحابة ليحملوا عنه ما حمله عن شيوخه من الصحابة، وهكذا وصلت أمانة السنة إلى رجال التدوين -من أمثال مالك وأحمد وشيوخهم ومعاصريهم وتلاميذهم- غضة يفوح منها عبق النبوة، هدية من الأمناء الحافظين إلى الأمناء الحافظين، فكان من ذلك أثمن تراث للمسلمين بعد كتاب الله عز وجل، فبهمة هؤلاء حفظ الله لنا هذه الكنوز، وبسيوفهم فتح الله للإسلام هذه الممالك، وبدعوتهم المباركة نشر الله دعوة الإسلام، فكان لنا اليوم هذا العالم الإسلامي بأوطانه وشعوبه وما فيه من علوم وعلماء كانوا في عصور الإسلام الأولى ملح الأرض وزينة الدنيا،

وبصلاحهم وعودتهم إلى الله في أيامنا والأيام الآتية سيعود إن شاء الله لهذا الإسلام مجده وسلطانه، وستحيا بنهضتهم أنظمته وسننه، وما ذلك على الله بعزيز. وكما أن أبناء السراة وأهل السعة يرثون عن آبائهم أملاكهم وأموالهم فتكون لهم بذلك العزة والمكانة في الدنيا، إلا أن يخدعهم عنها قرناء السوء فيوهموهم أن سعادتهم ومتعتهم في تبديدها والتفريط بها. كذلك هذا المجد الإسلامي الذي ورثناه عن الصحابة والتابعين لا نعلم لأمة من أمم الأرض مجدا يضارعه في مواريث الإنسانية، وأثمن هذا الميراث وأعظمه قدسية وبركة اهتمام أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم بجمع القرآن، وتوحيد تلاوته، وحفظه في المصاحف، ولو أن كل مسلم على وجه الأرض دعا لهم بالرحمة والرضا وعظيم المثوبة آناء الليل وأطراف النهار على ما أحسنوا به إلى المسلمين من هذا العمل العظيم لما وفيناهم ما في أعناقنا من منة لهم، سيتولى الله عنا حسن مكافأتهم عليها، ثم من أعظم كنوز هذا الميراث العظيم عناية كل صحابي بصيانة ما حفظه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحاديثه وخطبه وسيرته وتصرفاته وتشريعه في أمره ونهيه وإقراره، فأدوا -رحمهم الله ورضي عنهم- هذه الأمانة إلى إخوانهم وأبنائهم والتابعين لهم بإحسان بما لم يعهد مثله عن أصحاب نبي غيره من الأنبياء السابقين، فكان ذلك من أعظم مواريث الإنسانية كلها في الأخلاق والتشريع وتكوين الأمم الاجتماعي والتقريب بين البشر في طبقاتهم وأجناسهم وأوطانهم وألوانهم، ولا يغمط جيل الصحابة فيما قاموا به للإنسانية من ذلك إلا ظالم يغالط في الحق إن كان غير مسلم،

أو زنديق يبطن للإسلام غير الذي يظهره لأهله إن كان من المنتسبين إليه. وميراثنا الثالث من المواريث التي صارت إلينا عن الصحابة حسن عرضهم هذا الإسلام على الأمم ممثلا بأخلاقهم الإسلامية السليمة وأعمالهم الجليلة الرحيمة، فحببوه بذلك إلى الناس، وعرفوهم به من طريق القدوة والأسوة، فكان ذلك سبب دخول الأمم في الإسلام إلى أقصى آفاق المعمورة المعروفة في أزمنتهم. وهذه الفضيلة قد شارك عمال الخلفاء الراشدين فيها من جاهد بعدهم من الصحابة والتابعين تحت رايات الخلفاء من قريش الذين كان من أعلام نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا التنويه بهم في حديث جابر بن سمرة في الصحيحين (¬1)، ورؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - في قباء عن جهاد معاوية رضي الله عنه في البحر، ورؤياه الثانية يومئذ عن حملة ابنه في حصار القسطنطينية (¬2)، وهؤلاء الخلفاء من قريش الذين ورد النص عنهم في الصحيحين من حديث جابر بن سمرة هم الذين جاهدوا وجاهد رجالهم تحت كل كوكب، وطووا آفاق الأرض يحملون هذه الدعوة إلى أقاصي المعمور من بلاد آسيا وإفريقية ¬

(¬1) وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة». ثم قال كلمة لم أفهمها. فقلت لأبي: ما قاله؟ فقال: «كلهم من قريش». أخرجه: أحمد (5/ 86،87،88،90) والبخاري (13/ 261/7222، 7223) ومسلم (3/ 1452 - 1453/ 1821 [7]) واللفظ له. وأبو داود (4/ 471 - 472/ 4279،4280) والترمذي (4/ 434/2223) من طرق عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكره. (¬2) البخاري (6/ 127/2924) عن خالد بن معدان أن عمير بن الأسود العنسي حدثه أنه أتى عبادة بن الصامت وهو نازل في ساحة حمص وهو في بناء له ومعه أم حرام، قال عمير: فحدثتنا أم حرام أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا. قالت أم حرام: قلت يا رسول الله: أنا فيهم؟ قال: أنت فيهم، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم. فقلت: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: لا». قال المهلب: في هذا الحديث منقبة لمعاوية لأنه أول من غزا في البحر، ومنقبة لولده يزيد لأنه أول من غزا مدينة قيصر. وقد حدث أنس بن مالك عن أم حرام هذا الحديث أتم من هذا السياق ..

موقفه من الرافضة:

وأوربا، ومهما تنبض قلوبنا بشكرهم والوفاء لهم والثناء على ما نشروا في الدنيا من ألوية جهادهم لن نوفيهم عشر معشار ما كان ينبغي لنا أن نفعله، وإلا فأين هي الدراسات العلمية الصحيحة التي قمنا بها لتدوين أمجادهم العظمى وبطولتهم الكبرى، وأين هي المؤلفات العصرية التي كان ينبغي أن تكون في أيدي الشباب في جميع أقطار الإسلام، والتي تجعل القارئ منا كأنه معاصر لتلك الأحداث، مرافق لكتائبها وأعلامها، مشارك بمشاعره ومداركه وخفقات قلبه في كل نصر أحرزه الإسلام في الدنيا على أيدي الصحابة والتابعين وأتباعهم. (¬1) موقفه من الرافضة: من آثاره السلفية: 1 - 'الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الشيعة الإمامية الاثني عشرية'. 2 - تعليق على مختصر التحفة الاثني عشرية وقد ذيله بخاتمة عنوانها: "حملة رسالة الإسلام الأولون وما كانوا عليه من المحبة والتعاون على الحق والخير وكيف شوه المغرضون جمال سيرتهم". 3 - تعليق على العواصم والقواصم لابن العربي. وله تعليقات أخرى نافعة. ¬

(¬1) مقدمة المنتقى من منهاج الاعتدال (3 - 8).

عبد الله بن علي بن محمد من آل يابس (1389 هـ)

عبد الله بن علي بن محمد من آل يابس (¬1) (1389 هـ) الشيخ عبد الله بن علي بن محمد من آل يابس، ولد في القويعية سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة، ونشأ بها، رحل إلى الرياض فأخذ عن الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف والشيخ سعد بن عتيق والشيخ عبد الله بن محمود وغيرهم، ثم رحل هو وزميلاه الشيخ عبد العزيز بن راشد وعبد الله ابن علي القصيمي إلى الأحساء ثم إلى بغداد، فأخذوا عن الشيخ شكري الآلوسي، ثم توجهوا إلى مصر. أقام المترجم في مصر نحوا من أربعين عاما، وهو يدافع عن عقيدة السلف، ويرد على المخالف، وله في ذلك المؤلفات القيمة. رحل في أواخر حياته إلى نجد، فأدركه المرض، فتوفي في الرياض وذلك سنة تسع وثمانين وثلاثمائة وألف. موقفه من المبتدعة: له: 'إعلام الأنام في الرد على محمود شلتوت'. (¬2) جاء في 'علماء نجد خلال ثمانية قرون' (¬3): وقد اجتمع كل من المترجَم له -يعني أبا يابس، والشيخ عبد العزيز بن راشد، وعبد الله بن علي القصيمي، وعقدوا العزم على السفر إلى الهند لأخذ الحديث وعلومه عن علمائه، فمروا بالأحساء، فأقاموا فيه للقراءة على قاضيه الشيخ عبد العزيز بن بشر. ¬

(¬1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (4/ 335 - 337) والأعلام (4/ 108). (¬2) علماء نجد (4/ 337) والأعلام (4/ 108). (¬3) (4/ 336 - 337).

وبعد فترة غير قليلة توجهوا إلى بغداد في طريقهم إلى الهند، فأقاموا فيه للأخذ عن علمائه، وأشهرهم السيد شكري الآلوسي. ولأمور سياسية عدلوا عن الهند، وتوجهوا ثلاثتهم إلى مصر، فالتحق الثلاثة بالأزهر، فأخذوا عن علمائه واستفادوا منهم فائدة كبرى، فكان الثلاثة من كبار العلماء، ولم تتأثر عقيدتهم السلفية بشيء، بل ظلوا على تمسكهم بعقيدة السلف الصالح، يوالونها ويدعون إليها ويدافعون عنها، وهذا لم يردهم من الاستفادة مما عند الأزهريين من علم التفسير والحديث وأصولهما، ومن توسع في علوم اللغة العربية، وكان من أشدهم مدافعة ومهاجمة، وردوداً على المنحرفين والمبتدعين، ولا سيما الشيعة، هو عبد الله ابن علي القصيمي صاحب القلم السيال، والحجة القوية، واللسان الذرب، فكبتهم بكتاباته العظيمة وبرسائله "البروق النجدية" وغيرها، إلا أنه انحرف -والعياذ بالله- بعد ذلك، وصار من أكبر الملاحدة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. والقصد أن المترجَم استقر في مصر، وكانت إقامته في الإسكندرية، وكان هو أيضاً يدافع عن عقيدة السلف، فقد ردَّ على الشيخ محمود شلتوت. ولما انحرف زميله القصيمي وصنف كتابه 'هذي هي الأغلال' ردّ عليه المترجَم بكتاب سماه 'الرد القويم على ملحد القصيم'. وله غير ذلك من الكتب المفيدة النافعة.

عبد الرحمن الوكيل (1390 هـ)

والحقيقة أن الله تعالى نفع به وبزميله عبد العزيز بن راشد في الإسكندرية في بث عقيدة السلف. موقفه المشركين: له: 'الرد القويم على ملحد القصيم'، رد فيه على كتاب 'هذي هي الأغلال' لعبد الله القصيمي. (¬1) عبد الرحمن الوكيل (¬2) (1390 هـ) الشيخ عبد الرحمن عبد الوهاب الوكيل، ولد في قرية زاوية البقلى سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة، وحفظ القرآن ثم التحق بالمعهد الديني في طنطا، ومكث فيه تسع سنوات. وحصل على الإجازة العالية وعلى درجة العالمية وإجازة التدريس ثم عين في المعهد العلمي بالرياض سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة وألف من الهجرة. وفي سنة ثمانين وثلاثمائة وألف انتخب رئيسا لجماعة أنصار السنة المحمدية بعد الشيخ عبد الرزاق عفيفي. قال فيه الشيخ محمد عبد الرحيم: لقد كان الشيخ عبد الرحمن الوكيل موفور الحظ من اللغة وجمال البلاغة ووضوح المعنى وسعة الاطلاع وشرف الغاية، كما جمع علما مصفى من شوائب البدع والخرافات الصوفية. وقال الدكتور سيد رزق الطويل: لقد كان في أخلاقه نسيج وحده، سموا في الخلق وعفة في اللسان، طلق المحيا منبسط الأسارير، واسع الثقافة متنوع المعرفة أديبا ¬

(¬1) علماء نجد (4/ 337) والأعلام (4/ 108). (¬2) مجلة التوحيد (العدد الخامس جمادى الأولى 1416هـ/ص.34 - 37).

موقفه من المبتدعة:

شاعرا. كان الشيخ رحمه الله يعرف بهادم الطواغيت أي الصوفية وله في ذلك مؤلفات جليلة تدل على سعة علمه واطلاعه. توفي رحمه الله في جمادى الأولى سنة تسعين وثلاثمائة وألف من الهجرة، ودفن بـ"الحجون". موقفه من المبتدعة: قال في كتابه 'الصفات الإلهية': أمة القرآن: ولقد آتى هذا الإيمان العظيم أكله، فجعل من أصحابه خير أمة أخرجت للناس، وأعظم جماعة تسامت بكرامة الإنسانية وبدد بنوره الذي أشرق في قلوب هؤلاء، وأشرقوا به على الناس، بغي الصليبية، وكيد الصهيونية ودنس المجوسية، ومكن لهم بنصر الله في الأرض، فأشرق في أرجائها جلال التوحيد، وروحانية الإيمان، وصفاء الخير، ونقاء الحب، ووداعة السلام، وتلاقت الأرحام على أقدس أخوة عرفها تاريخ بني الإنسان. فأروني الأمة التي أخرجها علم الكلام، ودعاته ألوف ألوف، وقد خيم على العقول القرون الطوال؟ إننا لا نجد أمته إلا أمة ضلالة ذاهلة وحيرة شاردة، وإن التاريخ لم يسجل لأمة غير هذا الذي نقول؟ وسجل له أنه كان من الظلمات التي حاولت أن تغتال النور في قلوب هذه الأمة وتاريخها المجيد. كيد دنيء: هكذا فعل الإيمان العظيم الذي تحدثنا عنه بهذه الأمة. ولكن أبى المسعرون بالأحقاد أن تظل هذه القوة العظيمة المنتصرة تبطش بالجور والسفه والضلالة والكفر، وتشيد في كل لحظة مجدا لقوة الحق، وجلالة

موقفه من الصوفية:

الإيمان، وإيثار الأخوة السمحاء، وللوحدة القوية التي تجعل من البشرية أسرة واحدة. كما أبوا أن يستكينوا إلى ذل الهزيمة، فأوغلوا في الكيد وظلوا بالمسلمين يمارسون -في دهاء- فتنتهم، حتى استطاعوا الظفر بمن يهجر القرآن، ويتنكر للسنة، ويمجد البدعة، ويسجد للخرافة "وإذا ظهرت البدع التي تخالف دين الرسل -كما يقول ابن تيمية- انتقم الله ممن خالف الرسل، فإنه لما ظهر في الشام ومصر والجزيرة الإلحاد والبدع سلط الله عليهم الكفار. ولما أقاموا ما أقاموه من الإسلام، وقهر الملحدين والمبتدعين نصرهم الله على الكفار" وقول الإمام ابن تيمية حق هدى إليه القرآن، وامتلأ بآياته التاريخ. (¬1) موقفه من الصوفية: له من الآثار السلفية: 1 - صوفيات أو 'هذه هي الصوفية'. وهو مطبوع ومتداول. - ومما قال فيه رحمه الله: للصوفية مدد من كل نحلة ودين إلا دين الإسلام، اللهم إلا حين نظن أن للباطل اللئيم مددا من الحق الكريم، وأن للكفر الدنس روحا من الإيمان الطهور. والصوفية نفسها تبرأ إلا من دين طواغيتها مؤمنة بأنه هو الحق الخالص. يقول التلمساني -وهو من كهان الصوفية- "القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا" وابن عربي يزعم أن رسول الله أعطاه كتاب فصوص الحكم -وهو دين زندقة- وقال له: "أخرج به إلى الناس ينتفعون به- ويقول: فحققت الأمنية كما حده لي رسول الله ¬

(¬1) الصفات الإلهية (10 - 12).

بلا زيادة ولا نقصان" ثم يقول: فمن الله، فاسمعوا ... وإلى الله فارجعوا على حين يذكر الحق وتاريخه الصادق أن الصوفية تنتسب إلى كل نحلة مارقة، وتنتهب منها أخبث ما تدين به، ثم تفتريه لنفسها، مؤمنة به، وتحمل على الإيمان به كل فراشة تطيف بجحيمه، وإلا فهل من الإسلام أسطورة وحدة الوجود، وخرافة وحدة الأديان؟ فتلك تزعم أن الله سبحانه عين خلقه، عينهم في الذات والصفات والأسماء والأفعال، تزعم أن واهب الحياة، وخالق الوجود عين الصخر الأصم، والرمة العفنة، ووحدة الأديان تزعم أن كفر الكافر، وخطيئة الفاجر عين إيمان المؤمن، وصالحة الناسك، وتزعم أن دين الخليل هو دين أبيه آزر، وأن إيمان موسى عين كفر فرعون، وأن وثنية أبي جهل عين توحيد محمد، فكل رب الدين ورسوله، كل تعين للذات الإلهية، غير أنها سميت في تعين بمحمد، وفي آخر بأبي جهل، وهي هي في مظهريها، أو اسميها، تزعم أن دين إبليس وإيمانه عين دين أمين الوحي، وروح إيمانه، بل زادت الخطيئة فجورا، فزعمت أن إبليس أعظم معرفة بآداب الحضرة الإلهية من أمين الوحي، وأسمى مقاما. أفمن دين الإسلام هذه الخطايا الكافرة؟. (¬1) - وقال رحمه الله: كانت الجاهلية في إسفافها الوثني أقل حماقة من الصوفية، وتدبر ما قصه الله عن الجاهلية وشركها، تجدهم كانوا يوحدون الله ¬

(¬1) هذه هي الصوفية (ص.19 - 20).

في ربوبيته توحيدا حرمت حتى من مثله قلوب الصوفية، إن كانت لهم قلوب، يقول تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)} (¬1). هذا دين الجاهلية ولكن الله لعنهم لعنا كبيرا بشركهم، لأنهم أشركوا بالله في إلهيته، فتضرعوا إلى غيره بالدعاء. أما الصوفية فتدين بالقتلة والمجرمين، وأوغاد الفاحشة أقطابا يتصرفون في الوجود، ويسيطرون بقهرهم على سنن الله الكونية ونواميس الوجود التي فطرها الله وحده، وهو الذي يصرفها وحده، ويتحكمون في أقدار الله، فلا ينفذ منها إلا ما يشتهون، فأي الشركين أطغى بغيا، وأخبث رجسا؟ لقد وحدت الجاهلية الله في ربوبيته، وأشركت به في ألوهيته، أما الصوفية فنفتهما عنه، وأثبتتهما للمفاليك الصعاليك، بل انحدرت حتى نفت وجود الله الحق، ونعتته بالعدم الصرف، أفيمكن أن يقاس إلحاد الصوفية، بشرك الجاهلية؟ أم ترى هذا ليلا غاسقا، وترى الإلحاد الصوفي دياجير تطغى، وتتراكم، وتطول، حتى لا يعرف الأبد فيها بدايته، أو منتهاه؟ أجيبوا يا كهنة الصوفية ¬

(¬1) المؤمنون الآيات (84 - 89).

ولكن، لا: فحسبي أن الجواب مسفر الصبح، وضيء البيان، قوي الدلائل. (¬1) وله تقديم وتعليق على كتاب 'تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي' وكتاب 'تحذير العباد ببدعة الاتحاد' وكلاهما للبقاعي، تحت عنوان 'مصرع التصوف'. - قال رحمه الله في مقدمة الكتاب: إن التصوف أدنأ وألأم كيد ابتدعه الشيطان ليسخر معه عباد الله في حربه لله ورسوله. إنه قناع المجوسي يتراءى بأنه رباني، بل قناع كل عدو صوفي العداوة للدين الحق. فتش فيه تجد برهمية، وبوذية، وزرادشتية، ومانوية، وديصانية. تجد أفلوطينية، وغنوصية. تجد فيه يهودية، ونصرانية، ووثنية جاهلية. تجد فيه كل ما ابتدعه الشيطان من كفر، منذ وقف في جرأة صوفية يتحدى الله، ويقسم بعزته أنه الذي سيضل غير المخلصين من عباده. تجد فيه كل هذا الكفر الشيطاني، وقد جعل منه الشيطان كفرا جديدا مكحول الإثم متبرج الغواية، متقتل الفتون، ثم سماه للمسلمين: (تصوف) وزعم لهم -وأيده في زعمه القدامى والمحدثون من الأحبار والرهبان- أنه يمثل أقدس المظاهر الروحية العليا في الإسلام، أقولها عن بينة من كتاب الله، وسنة خير المرسلين، صلوات الله وسلامه عليه، وبعون من الله سأظل أقولها، لعلي أعين الفريسة التعسة على أن تنجو من أنياب هذا الوحش الملثم بوشاح الدعة الحانية العطوف، ولكن سلوا الصوفية سودا وبيضا، خضرا وحمرا، سلوهم: ما ردكم على هذا الصوت الهادر من أعماق الحق؟ سيقولون ما قالت وثنية عاد: إن نراك إلا اعتراك بعض آلهتنا ¬

(¬1) هذه هي الصوفية (ص.135).

بسوء، وآلهتهم هي قباب أضرحة الموتى وأعتابها. (¬1) - وقال رحمه الله متعقبا ابن خلدون في تقسيمه طريق المتصوفة إلى طريقة السنة وطريقة هي مشوبة بالبدع: ما كان من الصحابة ولا من التابعين صوفي، ولم يسم واحد منهم بهذا الاسم المرادف للزنديق، والصوفية منذ نشأوا وحيث كانوا عصابة تنابذ الكتاب والسنة، لا يفترق في هذا سلفهم عن خلفهم في هذا، غير أن بعضهم كان أشد جرأة من بعض في البيان عن زندقته، ودليلنا ما سجله التاريخ الحق، وما خلفوه هم في كتبهم من تراث وثني طافح بالمجوسية الغادرة، فتقسيم ابن خلدون هذا مجاف للصواب، ولكنه خدع كغيره فيما يشقشق به الصوفية من زور النفاق، إذ يزعمون كاذبين أن طريقهم طريق الكتاب والسنة، وابن خلدون نفسه يقر بأنه بدعة، إذ يقول في مقدمته عن التصوف: "هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة" ثم هل في الكتاب والسنة أن قبر الكرخي يقسم به على الله فيستجيب، ويستشفى به فيهفو الشفاء، وأن الصوفية هم غياث الخلق؟ كما زعم القشيري في رسالته، وهو من سلف الصوفية المتقدمين، وأقلهم شناعة في إفك المتصوف. أجاء في السنة أن العزوبية تباح لهذه الأمة بعد المائتين من الهجرة، وأن تربية الجرو أفضل من تربية الولد كما زعم أبو طالب المكي في قوته، ونسب فريته المانوية إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟ أفيها أن الدين شريعة وحقيقة، وأن هذه أفضل من تلك؟ أفيها أن المريد لابد له من شيخ، وأن من لا شيخ له فشيخه الشيطان؟ أفيها أن قلب المريد بيد شيخه يصرفه بهواه؟ أفيها أن ¬

(¬1) مصرع التصوف (ص.10).

غضب الشيخ من غضب الله؟ أفيها أن المريد يجب أن يكون بين يدي شيخه كجثة الميت بين يدي الغاسل؟ أفيها أن الولي أفضل من النبي؟ أفيها أن العارف يسمع كلام الله كما سمعه موسى؟ أفيها أن الذريات تسبح بحمد الأولياء، وأن هؤلاء يفقهون تسبيحها؟ كما زعم الغزالي؟ تلك بعض مفتريات سلف الصوفية الأقدمين، بهتوا بها الحق والهدى منذ سمي أول رجل منهم بالصوفي في منتصف القرن الثاني للهجرة وبعده، وتلك بعض ضلالات أولئك الأول الذين يزعم لهم ابن خلدون -وغيره- أن طريقهم مؤيد بالكتاب والسنة، أفتنسم على روحك مما نقلته عنهم نسمات حق، أو عبير هدى؟ كلا بل إنه يحموم كفر ومجوسية، ألا فلنقل الحق: ما من صوفي إلا وهو يسلك طريق الشيطان وحده من سلف ومن خلف. (¬1) - وقال رحمه الله: الخبير بحال الصوفية -سلفهم وخلفهم- والمتأمل في كتبهم يوقن أن الصوفية منذ نشأت، وهي حرب دنيئة -خفية أو مستعلنة- على الإسلام، هذا القشيري الصوفي القديم (ولد سنة 376هـ وتوفي سنة 465هـ) هذا هو يقول في رسالته عنهم: (ارتحل عن القلوب حرمة الشريعة، فعدوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة، ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام، ودانوا بترك الاحترام وطرح الاحتشام واستخفوا بأداء العبادات، واستهانوا بالصوم والصلاة، وركنوا إلى اتباع الشهوات. وادعوا أنهم تحرروا عن رق الأغلال، وتحققوا بحقائق الوصال، وأنهم كوشفوا بأسرار الأحدية واختطفوا عنهم بالكلية، وزالت عنهم أحكام البشرية، وبقوا بعد ¬

(¬1) هامش (ص.150 - 151) من الكتاب نفسه.

فنائهم عنهم بأنوار الصمدانية) (ص.2 - 3) الرسالة للقشيري. هذه شهادة عليهم في القرن الرابع الهجري من رجل يعدونه المثل الأعلى للصوفية العملية المعتدلة، وإنها لتدل على أن الصوفية من قديم تواصوا بالكيد للإسلام، وإنا لا تخدعنا هذه الشفوف من النفاق الصوفي، إذ هم السم الناقع يتراآ شهدا مذابا. فالقائلون بما هلل له البقاعي هم عين القائلين بما يخنقك منه يحموم الزندقة، فالقشيري نفسه يقول في مقدمة رسالته عن أهل الطريقة: (جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه وفضلهم على الكافة من عباده بعد رسله وأنبيائه) يفضل الصوفية على السابقين من المهاجرين والأنصار، ثم يقول: (جعل قلوبهم معادن أسراره، واختصهم من بين الأمة بطوالع أنواره، فهم الغياث للخلق) وماذا بقي لله إذا كان هؤلاء غياثا للخلق؟ وماذا للصحابة من طوالع الأنوار ومعادن الأسرار إذا كان هؤلاء وحدهم كذلك؟ ثم يقول: (ورقاهم إلى محال المشاهدات بما تجلى لهم من حقائق الأحدية وأشهدهم مجاري أحكام الربوبية) إذا فهم عند القشيري أعظم مقاما من خليل الله إبراهيم، ومن محمد عليه الصلاة والسلام؟ فتأمل في الأستاذ القشيري، وفي قوله، وفيما خلفه في رسالته، ثم اسمع إليه ينقل في رسالته: (لا تصلح المحبة بين اثنين حتى يقول الواحد للآخر: يا أنا، المحبة سكر لا يصحو صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه) (انظر مقدمة الرسالة وص.164 منها) وهذه زمزمة قديمة بزندقة الاتحاد ووحدة الشهود. (¬1) ¬

(¬1) هامش (ص.232).

• موقفه من الجهمية:

• موقفه من الجهمية: له من الآثار السلفية: - 'الصفات الإلهية' وهي من خيرة ما ألف في هذا الباب، فقد أبلغ في النصيحة لأهل الكلام قاطبة. - قال رحمه الله: ولقد رأيت من البر بالحقيقة، ومن الإحسان في الدعوة إلى الله أن أنشر هذه النصوص الوفيرة لأئمة الأشاعرة، بل لأعظم أئمتها، وهم: "أبو الحسن الأشعري، إمام الأشاعرة الأول، والباقلاني، والجُوَيْني، وابن فُورك، والرازي، والغزالي" وسيرى أولئك الذين أضَلتهم فتنةُ الخلفية أن أئمة الأشاعرة قد اعترفوا اعترافاً صريحاً كاملاً بأن طريقة السلف هي الأسلم، وبأنها هي الأعلم، وبأنها هي الأحكم. وبأن طريقة الخلف حيرة وشك وضلالة أوهام. وإني لأرجو أن يحمل هذا بعضَ الذين يحسنون الظن "بالخلفية" على الرجوع إلى الإيمان الصحيح، وعلى أن يكسروا من حدة غلوائهم في اتهامنا بالتمثيل، وبالتجسيم، وعلى أن يؤمنوا أن خلف الأشاعرة لا تصلهم رحمٌ ما بسلف الأشاعرة، فقد عاش أبو الحسن -بعد توبته- يؤكد في كل كتاب له: أنه على عقيدة سلف هذه الأمة. أما متأخرو الأشاعرة، فقد لُقِّبوا بأنهم "مخانيث الجهمية والمعتزلة" لأنهم أَوْغَلوا في التأويل إيغالاً أدى بهم إلى التعطيل. فليتدبر الذين يزعمون أنهم أشاعرة أو خلف، فلعل إشراقة من نور الحق تبدد ما غام على نفوسهم من غَيِّ الخلفية وفتنتها.

نصيحة من القلب: وليتدبر أولئك الإخوان الذين نشهد لكثير منهم بحسن القصد والسعي في سبيل الخير والحق، فَثَمَّت فيهم من يدين بالخلفية الجهمية، ويفتي بها غير مقتصد، ولا مُسْتَدِل بكتاب، أو سنة. وينكر أن الله استوى على عرشه، وأن له يدين، وأن له وجهاً، ويقترف تفسيراً كله زيغ وضلالة وإفك قديم لكل آية أخبر الله فيها عن استوائه ويديه ووجهه سبحانه. فهل هذه الخلفية هي "السنة" التي يزعم هؤلاء المفتون أنهم يؤمنون بها، ويعملون بها، ويجاهدون في سبيل أن يجعلها المسلمون لهم منهاجاً وسبيلاً إلى الله؟ لا أظن أنهم يجرءون على اقتراف هذا الزعم، فما نجمت الخلفية إلا بعد قرون، ولا أظن أنهم يجرءون على اتهام الصحابة والتابعين بأنهم لم يكونوا على بينة من دينهم، وبأن "الرازي وأضرابه" كانوا أبر بكتاب الله من أبي بكر وعمر؛ أو كانوا أسلم وأحكم وأعلم، وأعظم فهماً للكتاب من صفوة هذه الأمة؟ إن من يؤكد للناس أنه "عامل بالكتاب والسنة" يجب عليه أن يكون هو القدوة الحسنة في ذلك، فيعتقد في الله سبحانه ما كان يعتقده خير العاملين بالكتاب والسنة، رسول الكتاب والسنة، أما أن يعتقد فيه ما كان يعتقده "الرازي" مثلاً، فهو بهذا يناقض ما يدعيه، ويثبت أنه عامل "بالرازي" لا بالكتاب والسنة. ترى هل ظلت الأمة كلها أربعة قرون جاهلة بمراد الله، ضالة عن

معرفته حتى ظهر أمثال "الرازي" فدل هذه الأمة على دينها؟. (¬1) - وقال بعد ذكره النصوص الواضحات من كتب أبي الحسن الأشعري التي تدل على اعتناقه مذهب السلف: كل هذا، بل بعضه يدمغ بالجور أولئك الأشاعرة الذين يمقتون أن يُنْسب إلى الأشعري أنه كان يمجد عقيدة السلف. وذلك حين يتراءون بالارتياب في صحة نسب كتابه 'الإبانة' إلى الأشعري، أو حين يزعمون أنه رجع عما فيه، فألف الكتب التي تنقض ما أثبته فيه، والإبانة في الحقيقة هو آخر كتاب ألفه. ولا أظن في أشعري مسلم، أنه يرتضي أن يُتهم إمامُه بالردة عن دين الحق، أو بأنه كان نَهْبَ الحيرة والاضطراب في عقيدته، أو بأنه كان ذا وجهين، وجه ينافق به المعتزلة والمعطلة، فيكتب في تأويل الصفات أو نفيها، ووجه آخر ينافق به السلفيين، فيكتب في إثبات الصفات. ولا أظن في إنسان يحترم الحقيقة أنه يجنح إلى الريبة في صحة نسب الكتاب إلى الأشعري من غير دليل إلا إن كنا نعتبر نزغ الهوى دليلاً، كما لا أظن أنه يرتاب في أن الأشعري ظل يؤمن بكل كلمة قالها فيه، ولم يؤلف كتاباً آخر ينقض به ما أثبته في الإبانة. والذين يجلون الأشعري، ويفخرون بالانتساب إليه، لا أظن أيضاً أنهم يجرؤون على إنكار هذه الحقيقة التي أذكرهم بها مرة أخرى: تلك هي أن ما انتهى إليه مذهب الأشعري على يد بعض أتباعه يخالف ما كان عليه الأشعري نفسه، ويناهضه وأن ما كتبه الرازي، أو الجويني وغيرهما من ¬

(¬1) الصفات الإلهية (ص.32 - 34).

محمد بن اليمني الناصري (1391 هـ)

تأويلات يناقض عقيدة الأشعري كل المناقضة، وينتسب برحمٍ ماسَّةٍ إلى المعتزلة والجهمية الذين كفَّرهم أبو الحسن الأشعري، فهل بعد هذا أستطيع أن أُقْدِم على الظن بأن أشاعرة اليوم لن يُقْدِموا على تحطيم إمامهم الكبير؛ ليبنوا على أنقاضه بعض الذين أبوا إلا أن يجحدوا بدين إمامهم الكبير، وإلا أن يعينوا عليه عدوَّه من الجهمية والمعتزلة، وإلا أن يَسُبُّوا كبار أئمتهم كالأشعري، ليسبوا -بَغْياً- أنصار السنة؟. (¬1) محمد بن اليمني الناصري (¬2) (1391 هـ) محمد بن اليمني بن سعيد الناصري، ولد بمدينة الرباط بالمغرب الأقصى يوم الخميس تاسع رجب سنة ثمان وثلاثمائة وألف، رحل لطلب العلم إلى المدينة النبوية سنة ثلاثين وثلاثمائة وألف. وهو شقيق محمد المكي الناصري المشهور. شيوخه كثيرون، من أشهرهم: أبو شعيب الدكالي. له كتاب: 'الأعلاق الغالية في الأخلاق الغالية'، و'ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار' في الرد على الصوفية، و'ديوان شعري'. توفي بالمدينة النبوية يوم الجمعة العاشر من صفر سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة. ¬

(¬1) الصفات الإلهية (ص.52 - 53). (¬2) صل النصال للنضال لعبد القادر بن سودة.

• موقفه من المبتدعة:

• موقفه من المبتدعة: - قال في رده على صاحب 'غاية الانكسار': إنك وأمثالك في واد والدين الطاهر النقي في واد آخر، لخروجك عن سننه وانتصارك للمبطلين البطالين بالباطل المحض. لعلك التبس عليك الأمر فنسبت ذلك إليه، والحال أن الأمة الإسلامية هي الذابلة السقيمة الضعيفة لخروجها عن سننه، وهجرها لفروضه وسننه، بتدجيل الدجالين أمثالك، المحتالين على سلب ضعاف العقول عقولهم وأموالهم، وتركهم تحت نير الاستسلام للمتجرين باسم الدين، والانقياد لعمائمهم وسبحهم وتلوناتهم، ولباسهم لكل من حال من الأحوال الشيطانية لبوسها، وضربهم بالأسداد على عقولهم حتى لا ينفذ إليها ما ينور أفكارهم وينبههم إلى مواقع سقطاتهم من تعاليم ديننا الصحيحة، ونصوصه البينة الواضحة الصريحة؛ حتى إن من أولئك الدجالين من يحرم نشر العلم وتدريسه في المجالس العامة بدعوى أن العلماء إنما يقصدون بتعليمه الرياء والسمعة حسبما نص عليه حافظ المغرب في عصره العلامة ابن عبد السلام الناصري في رحلته الحجازية العلمية، فانظره إن شئت. ومنهم من يمنعهم من التوغل في الفقه؛ بدعوى أنه يقسي القلوب؛ ويحرمها من التعلق بعلام الغيوب. ومنهم من يمنعهم كبعض فقهائنا المبتلين بداء الجمود والخمود من النظر في الحديث بدعوى أنهم مقلدون، وأن النظر في علم الحديث رواية ودراية إنما

هو من وظيف المجتهد المطلق، مع أن الحديث هو المبين لمعاني كلام الله تعالى ومقاصده العالية. (¬1) - وقال تحت فصل: (ما القصد من زيارة الأموات مطلقا؟): أما زيارة الأموات أنبياء كانوا أو أولياء أو غيرهم؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفانا مئونة استفتاء صاحب 'نهاية الانكسار' فيها -على أنه ليس أهلا للاستفتاء- إذ بين لنا - صلى الله عليه وسلم - بكلام عربي مبين؛ أن القصد منها هو تذكر الآخرة بقوله: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور أما الآن فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة» (¬2). بين لنا - صلى الله عليه وسلم - أن القصد منها هو تذكر الآخرة لا الاستمداد ولا اعتقاد التأثير كما تدل عليه بعض عباراتك ... ضمنا وتصريحا، مما يدل على أن حب الموت والموتى برح بك تبريحا. والذي نفسي بيده لو أتى الملايين من العلماء الأعلام، ومعهم الملايير من أصحاب الطبول والأبواق والأعلام، كيفما كانت مراكزهم وهزاهزهم، وهزاتهم، وأرادوا تحويلنا عن هذا الاعتقاد الصحيح في نظر الشرع وأمام العقل الراجح؛ ما تحولنا ولا حلنا ولا زلنا لوضوح معنى الحديث، وظهور مدلوله في القديم والحديث. (¬3) - وقال تحت فصل: (هل يجوز البناء على القبور؟): البناء على القبور ممنوع شرعا وطبعا. ¬

(¬1) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.29 - 30). (¬2) أحمد (5/ 305) ومسلم (2/ 672/977) والنسائي (7/ 269/4441 - 4442) من حديث أبي بريدة الأسلمي رضي الله عنه. (¬3) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.60 - 61).

أما الشرع فلقوله - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» قالت عائشة رضي الله عنها: يحذر ما صنعوا كما في الصحيح (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم - لزينب وأم حبيبة لما قدمتا من الحبشة ووصفتا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما شهدتاه على قبور صلحاء الحبشة من المساجد والقباب: «أولئك قوم إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة» أو كما قال وهو في الصحيح أيضا (¬2). وفي سنن الترمذي وأبي داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج (¬3). إننا لسنا بصدد التوسع في الاستدلال على منع البناء على القبور، وإنما حدا بنا إلى هذا تأويل البيضاوي لحديث عائشة رضي الله عنها بحمله على اتخاذ قبور الأنبياء قبلة والصلاة إليها؛ فإنه غير واقع موقعه، ولا حال موضعه؛ لما يرده من صريح السنة كحديث زينب وأم حبيبة، وحديث أبي داود والترمذي المتقدمين وغيرهما من الأدلة الصحيحة، ولو عاش البيضاوي إلى زماننا على فرض صحة تأويله ورأى توسع الأمة الإسلامية في زخرفة أضرحة أوليائها وصلحائها، وتشييد القباب عليهم على هيئة تستلفت أنظار الغافلين وتؤثر على نفوسهم، وشاهد ما يجري حولها -مما صار معلوما عند ¬

(¬1) تقدم تخريجه ضمن مواقف فوزان السابق سنة (1373هـ). (¬2) أحمد (6/ 51) والبخاري (1/ 699/434) ومسلم (1/ 375/528) والنسائي (2/ 371/703). (¬3) أخرجه أحمد (1/ 229) وأبو داود (3/ 558/3236) والترمذي (2/ 136/320) والنسائي (4/ 400/2042) وابن ماجه (1/ 502/1575) وقال الترمذي: "حديث حسن". وصححه ابن حبان (7/ 452 - 453/ 3179).

الخاص والعام- لرجع عن فكره؛ على أن تأويله ليس بلازم لنا ما دام بين ظهرانينا من يحسن النظر في كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وأما طبعا؛ فلأن الطباع السليمة التي تعلم أن القبر مظهر من مظاهر الحزن والأسى والأسف، وموطن من مواطن الفناء والبلى والعظام النخرة والظلمة والانحلال والدود والحشرات، لا تروق في أنظارها تلك البناءات الضخمة، والقباب الفخمة، التي تمثل زهرة الحياة الدنيا وترغب في العيش بهذه الدار الفانية؛ دار الأنكاد والأحقاد والفساد والإفساد، وتقضي على زائرها بتوسيع الأمل، وتحمل البله والمغفلين والجهلاء على اعتقاد التأثير لأربابها بما تبقيه فخامتها وضخامتها من الأثر في نفوسهم. والله لو أبصرت عيناك ما صنعت ... يد الزمان بهم والدود يفترس لما انتفعت بعيش بعدهم أبدا ... أما هم من جنى الدنيا فقد يئسوا حسب الإنسان العاقل من الوقوف على القبر أن يتذكر مآل نفسه، ويتعظ ويعتبر ويتهيأ للحلول في رمسه، ويقول: يا بني الدنيا استريحوا ... سَيْرنا عنكم إلى الله نحن قوم أين سرنا ... ونهجنا حسبنا الله (¬1) - وقال تحت فصل: (من هي الفرقة الناجية؟): إن من له أدنى مسكة من العلم يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقسم بالله أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين ¬

(¬1) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.61 - 63).

فرقة كلها في النار إلا واحدة (¬1)، وهي التي تستقيم على ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام. فبالله عليك يا صاحب 'نهاية الانكسار' من هي الفرقة الناجية من هذه الفرق الموجودة الآن التي قمت تدافع عنها بكل قواك وما أحسنت الدفاع؟ ومن هي هذه الفرقة الملازمة لما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، المحافظة على آداب دينها الطاهر، المنابذة لما يمس بسمعته الحسنة ومبادئه القويمة المستحسنة؟ لعلك من المائلين إلى القول بأن المراد بالفرق في الحديث الشريف: الفرق الضالة كالمعتزلة ونحوهم ممن اندرست آثارهم، ولم تصلنا إلا أخبارهم. إن كنت قائلا بهذا، والظن أنك قائل به؛ فإننا نقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد فصل بيننا وبينك في هذا الحديث نفسه بأن الفرقة الناجية هي المعتنقة لما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه؛ على أن تلك الفرق الضالة قد ذهب جلها إن لم نقل كلها بما له وما عليه، ولم تكن في نظري ونظر ذوي النظر الصائب ممن مارس التاريخ وزاوله إلا أتقى وأنقى بكثير وأبعد نظرا وأبهى مخبرا ومنظرا من بعض الفرق الموجودة الآن؛ إذ ليس منهم من كان يفضل كلام المخلوق العاجز الضعيف الحادث على كلام الخالق القادر القوي القديم سبحانه، ولا من يتخذ ضرائح الأولياء والصلحاء ملجأ وكعبة وقبلة يتوجهون إليها كما يتوجهون إلى الله تعالى، ويتطوفون بها ويتمسحون بجدرانها، ويقبلون درابيزها وكساها كما يقبلون الحجر الأسود، ويركعون أمامها بجوارحهم وجوانحهم، ويسجدون لها بكيفية أرقى من السجود لله، معفرين خدودهم على ترابها؛ ¬

(¬1) تقدم تخريجه ضمن مواقف يوسف بن أسباط سنة (195هـ).

بل لم يكن فيهم من يتلبس بالمنكرات وهو يعتقد أنها عبادة تقربه من الله زلفى، ولا من يبيع دينه بدنيا غيره مؤخرا الصلاة عن وقتها لخدمة شيخ من المشايخ أو حضور حضرته، ولا من يتخذ طبلا ولا مزمارا ولا آلة لهو وطرب في المعابد التي أمر الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ولا ... ولا ... من المنكرات التي يتلبس بها كثير من هذه الفرق المسماة بالطوائف؛ التي في تسميتها بالطوائف لو كانت متبصرة، ولآداب دينها حافظة مستحضرة نهاية الاعتبار وغاية الحجة، كيف لا والله سبحانه علمنا في فاتحة كتابه التي أوجب علينا قراءتها وتدبرها في كل ركعة من الركعات أن نسأله الهداية إلى صراط واحد هو الصراط المستقيم الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حتى لا نميل عنه يمنة أو يسرة بقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)}. ولو كان المجال واسعا للمقايسة بين أعمال المعتزلة ومن في معناهم وأعمال هذه الفرق، والمقابلة بينها لشفينا الغليل، ولأبرأنا بحول الله وقوته كل عليل، ولأبنّا لكل متعصب البون الشاسع والفرق الواضح كالفرق بين هذه الفرق وتلك، حتى تتجلى لكل منصف على منصة البيان حقائق تجعل كثيرا من فرقنا اليوم أضل سبيلا، وأكذب قيلا. بالله عليك! أتقدر بعد هذا أن تقر ما أنكره صاحب الإظهار من أعمال العيساويين والحمدوشيين، ومن في معناهم من الشاطحين الناطحين، الرقاصين القصاصين، القناصين الخراصين، وتأتي ولو بدليل واحد من ظاهر

• موقفه من المشركين:

كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جواز أعمالهم وإباحتها وموافقتها لروح ديننا الطاهر. (¬1) • موقفه من المشركين: - قال عن الصحابة: .. ما صح عنهم قط أنهم زاروا نبيا ولا وليا ولا صحابيا من أكابر الصحابة -الذين أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من بعدهم ولو بلغ ما بلغ في الفضل وعلو المنزلة ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه (¬2) - على هذه الكيفية التي يرتكبها عامتنا، وكثير من خاصتنا اليوم؛ والحال أنهم أهدى منا بشهادة الله ورسوله. ولا ثبت في تاريخ حياتهم أنهم أقاموا لنبي ولا لولي ولا لصحابي موسما، ولا بنوا عليه قبة ولا معبدا، ولا سجدوا لقبر من قبورهم، ولا مرغوا خدودهم عليه ولا عفروها بترابه، ولا جعلوا عليه دربوزا ولا كسوة، ولا ولا، مما لا يساعد عليه دينك يا الله. وقد حكم عليه الصلاة والسلام بأن هذه القرون -قرون الصحابة وكبار آل البيت والتابعين- التي كانت تمثل الإسلام أجمل تمثيل، وبلغ فيها الإسلام ما لم يبلغه غيره من الأديان، وأدرك أهله من العز والسؤدد ما لم تحلم به دول القياصرة والأكاسرة في عنفوان مجدها، هي خير القرون بقوله عليه الصلاة والسلام: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» (¬3). ¬

(¬1) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.65 - 68). (¬2) تقدم تخريجه ضمن مواقف الآجري سنة (360هـ). (¬3) تقدم تخريجه ضمن مواقف السلطان المولى سلميان سنة (1238هـ).

ولكن هذه الأمة التي شرفتها بالإسلام وأخرجتها بنوره من حالك الظلام أبت إلا التغابي والتغاضي والتغافل؛ بل المحافظة على عوائد ما أنزلت -يا مولانا- بها من سلطان، ولا يرتكبها إلا من يريد القضاء على دينك من زنديق أو منافق أو شيطان، فأنقذ اللهم هذه الأمة المحمدية مما وقعت فيه من المهلكات، ونجها من كل ما يوقعها فيما ينصب لها من الشبكات. (¬1) - وقال تحت فصل: (من هو الولي؟): فالمومنون إيمانا كاملا -ولا يكون الإيمان كاملا إلا باتباعه - صلى الله عليه وسلم - فيما سنه، وعدم ابتداع أي شيء بعده- المتقون ظاهرا وباطنا، الذين لا يخرجون عن الشريعة قيد أنملة؛ هم الأولياء حقيقة الذين يجب أن نغسل عن أقدامهم، ونتتبع خطواتهم في كل ما وافق الشريعة. ومع ذلك فلا يجب علينا أن نقدسهم إلى درجة أننا نبني عليهم القباب، ونسألهم كما نسأل رب الأرباب، ونتوسل إليهم بالله في تيسير الأسباب، غافلين عن الإتيان لقضاء أغراضنا من الباب؛ لأن الولاية الحقيقية هي غاية الخضوع لله والإغراق في العبودية، والتحقق بوصف العجز والضعف والذل أمام الربوبية. فماذا يعطي ويمنع من هذا شأنه؟ وماذا يدفع عنك أو يجلب لك من تلك حاله، وإلى الله مآله؟ وماذا يفيدك إذا قمت تناضل عن بدعة ابتدعها أصحابه بعده بباطل، إنك لا تزداد بذلك من الله ورسوله ثم من ذلك الولي إلا بعدا وطردا، فليتنبه الغافل المسكين، قبل أن يذبح بغير سكين؛ فإن هذا الموطن من مزالِّ الأقدام ومزالقها، نسأل الله الثبات، فإنه يكسر صولة الوَثَبات. (¬2) ¬

(¬1) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.3 - 4). (¬2) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.58 - 59).

• موقفه من الصوفية:

- وقال بعد بيان المقصود من الزيارة الشرعية للقبور: .. لا بأن نقصد الاستمداد منهم والاستغاثة بهم، أو نعتقد أن لهم في الكون تصرفا مطلقا بحيث يقدمون هذا ويؤخرون ذاك، ويعطون زيدا ويمنعون عمراً، ويُولّون خالدا ويعزلون بكراً؛ كما يعتقد بعض المغاربة أن القط لا يتسلط على الفأر إلا بإذن مولانا إدريس رضي الله عنه، وأن أبا العباس السبتي رضي الله عنه لا يقضي الحاجات إلا إذا قدمت له جعلاً أو نذرت له نذرا ولو نزراً، وأنت تعلم أن النذر لا يكون إلا لله؛ فهو كتسلط القط على الفأر من خواص الربوبية؛ إذ القواعد القواطع تقتضي أن النفع والضر، وبسط الرزق وقبضه، وكل حادث يحدث في الوجود -قل أو كثر، صغر أو كبر- بيد الله وحده لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله؛ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. الرب رب والعبد عبد {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)} (¬1). وما يستوي وحي من الله منزل ... وقافية في الغابرين شرود (¬2) • موقفه من الصوفية: له كتاب: 'ضرب نطاق الحصار' رد فيه على الشرقي صاحب 'غاية الانتصار ونهاية الانكسار' الذي انتقد فيه شقيقه محمد المكي الناصري في كتابه: 'إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة'. ¬

(¬1) مريم الآية (93). (¬2) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.109).

- قال فيه: وصل اللهم على من أرسلته بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، الذي أنزلت عليه في محكم كتابك: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (¬1) الذي جعلت طاعته طاعتك، ومعصيته معصيتك، وحكمه حكمك، الذي لم يبح لأمته من اللهو إلا الرماية والسباحة وركوب الخيل، ونحوها مما فيه منفعة ظاهرة أو فائدة جليلة، الذي ما ثبت عنه -وحاشا المعصوم الأكبر من أفعال المجانين- أنه طبّل أو زمّر، أو رقص أو شطح، أو صعق أو مزق ثوبا لسماع صوت، أو أكل لحما نيئا، أو شدخ رأسا بآلة محددة أو غيرها، أو أكل نارا موقدة، أو استعمل آلة لهو وطرب داخل مسجده النبوي أو خارجه، أو حضرها على أنها عبادة، أو أقر من استعملها، أو أذن فيما يسمى بين بعض المتصوفة والمفقرة بالحضرة، أو فعله أو ركض برجله، أو ضرب بعصاه الحجر تعبدا. فصل اللهم عليه صلاة توفقنا وسائر المسلمين بها إلى اتباع سنته والوقوف عند شريعته وعلى آله الطيبين الأكرمين المحترمين المكرمين؛ الذين ما ثبت عنهم أنهم استعملوا من ذلك شيئا على أنه عبادة في خير القرون، ولا ساعدوا عليه، ولا رأوا في الشريعة الإسلامية ما يسوغه ولو على سبيل الاستيناس. (¬2) ¬

(¬1) آل عمران الآية (31). (¬2) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.2 - 3).

- وقال أيضا: حضرت مجلس بعض متصوفة العصر، فسمعته يقول من غير أدنى مناسبة للموضوع الذي التزم الكلام فيه: لنا ولله الحمد على جعل السبحة في الأعناق أدلة واضحة من الكتاب والسنة، فاستغربت ذلك غاية الاستغراب وصارت منافذ جسمي كلها مسامع لتلقي هذا البهتان العظيم، فسمعته يقول: أما الدليل من الكتاب: فقول الله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} (¬1). وأما الدليل من السنة: فما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حمله السيف في عنقه حين ركب على الفرس العري لأبي طلحة (¬2). قال: ولا شك أن السيف هو آلة الجهاد الأصغر، والسبحة آلة الجهاد الأكبر، فاقشعر جلدي واصطكت مسامعي لذلك، وقمت مسرعا خوف أن يخسف بأهل ذلك المجلس، ولكن الله سبحانه أبقى عليهم استدراجا لهم، ومن هذا القبيل كل ما يستدل به هذا البعض على جواز ما يرتكبه أكَلة اللحوم النيئة والنار، وشادخوا الرؤوس من المضحكات المبكيات. (¬3) - وقال أيضا: إننا اجتمعنا بكثير من متصوفة العصر، وداخلناهم وخالطناهم مخالطة مستطلع باحث عن أسرارهم وخصائصهم ومميزاتهم، فوجدناهم يقدس بعضهم بعضا، ويركع بعضهم أمام بعض متجاوزين في ¬

(¬1) الإسراء الآية (13). (¬2) أحمد (3/ 147و163و171و185و202) والبخاري (6/ 43/2820) ومسلم (4/ 1802 - 1803/ 2307) وأبو داود (5/ 263/4988) والترمذي (4/ 171 - 172/ 1675 - 1678) والنسائي في الكبرى (5/ 257/8829) وابن ماجه (2/ 926/2272) من حديث أنس رضي الله عنه. (¬3) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.28).

ذلك الحد الذي يجب الوقوف عنده، قاصدين بذلك نشر دعاويهم الكاذبة، وتأييدها لإغراق الدهماء في أوهام وأضاليل أبعد عمقا من الداماء، حتى لا يفتضح أمرهم، ولا يخمد جمرهم، ولا يترك شطحهم وزمرهم ... فما هم إلا كالشعراء المبتلين بداء الانحطاط النفسي، المتجاوزين قدر الممدوح فوق ما يستحقه، حتى أفضى ذلك بكثير منهم إلى الكفر والزندقة، والاقتصار على البرقشة والشقشقة، والداعي الوحيد الذي دعاهم إلى ذلك هو خوف الافتضاح، والوقوف على ما هم عليه من الخوض في ظلمات التضليل، ونصب حبائل الشيطنة والتدجيل لإيقاع الجهلة فيها. ففضحهم حملة السنة وخدمتها، وأوسعوهم تقريعا وتسفيها، ولم يبق ينفعهم ما اصطلحوا عليه من المصطلحات التي تقضي ببقاء أمرهم مستورا في غياهب البطون، ودياجر الكتمان؛ من بناء طريقهم على الصفح والتجاوز وعدم إقامة الميزان، حتى أفضى بهم توقع ذلك إلى نهي أتباعهم عن مطالعة مثل 'المدخل' لابن الحاج وفتاوي ابن تيمية، وتآليف تلميذه ابن القيم، وكتب الحافظ ابن حجر، وكتب أبي إسحاق الشاطبي، وكتب أبي بكر بن العربي، و'تلبيس إبليس' للحافظ أبي الفرج بن الجوزي، وأمثالهم من أكابر علماء الإسلام، وأعاظم المصلحين والمجددين، وحتى سمعنا بعضهم يقول لأتباعه: إذا قال لك المعارض قال صاحب 'المدخل'. فقل له: قال صاحب المخرج. ويدعم ذلك بحكاية عن بعضهم، وإذا قال لك: قال ابن حجر فقل له: قال ابن حرير، وهكذا؛ بل اضطرهم الحال إلى الحكم عليهم بالمنع من تعاطي العلوم النافعة التي تؤدي إلى إلغاء ترهاتهم ودحض شبهاتهم، كالفقه وأصوله

والحديث والتفسير، وسموا أمثال هذه العلوم التي بها حياة الدين وقوام الإسلام، بالعلوم الميتة، وسموا شطحاتهم وفلسفتهم وحقائقهم علوما حية؛ بدعوى أنهم لا يأخذونها إلا عن الحي الذي لا يموت. وهكذا تمشت حيلهم، وتمكنت من الذين لا علم يرشدهم، ولا فكر يهديهم في الغالب، فأعظموا أمرهم، وتلقوا منهم تعاليمهم المنافية غالبا للدين بالسمع والطاعة العمياء. (¬1) - وقال مخاطبا عامة الناس وناصحا لهم: وكل منكم يعلم: أن الشطح والرقص، واستعمال الطبول والمزامير ونحوها، في حلقاتكم المعروفة عندكم بالحضرة؛ ليس من الدين في شيء، وإنما هو لعب في لعب، والله سبحانه لا يعبد باللعب. وإن كان أمركم بعض مشايخ العصر بالمحافظة عليها بقوله لبعض مقَدميكم: (زد في الحضرة ولا عليك في الهذرة). يعني بالهذرة: ما تسمعونه من أقوال الله والرسول التي تتلقونها في بعض مجالس التفسير والحديث الشريف، والتي تقضي بطرح تلك التقاليد القبيحة في نظر الشرع الإسلامي، والعقل السليم السامي. (¬2) - قال: أليس من المتقرر لديكم يا إخواننا أن مقتداكم النبي المكرم - صلى الله عليه وسلم -، الذي تفدونه بأرواحكم وأموالكم، وآبائكم وأبنائكم، وتودون إرضاءه بكل ما وسعكم، وتخلصون له محبتكم، لم يكن يفعل شيئا من ذلك؛ فأحرى شدخ الرؤوس بالقلال والآلات المحددة كالفؤوس، وأكل اللحوم النيئة والزجاج والسموم ونحوها، وشرب الدم المسفوح، والطواف بالأسواق ¬

(¬1) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.83 - 84). (¬2) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.94 - 95).

بالأعلام والطبول والأبواق على تلك الكيفية البشيعة، التي لا ترضاها البهائم لنفسها، فضلا عن العقلاء الذين يدعون أن لهم عقلا مميزا، فضلا عن مسلم مثلكم متأدب بآداب الإسلام، المنفرة من هذه الموبقات التي لا يرتكبها إلا سفهاء الأحلام. على أن كلاًّ منكم يعلم أنه لا يرتكب أحد منكم ذلك إلا بداعي التوحش، ودعوى خدمة الشيخ، والله سبحانه هو أولى بالاتباع من الشيخ، وما أمر سبحانه أحدا منكم بذلك؛ بل قد نهى جل جلاله عن كل ما ينافي الإنسانية بمعناها التام. فالشيخ إذا كان من أولياء الله تعالى، وكان محقا؛ فإنه يتبرأ ولا شك من أمثال هذه المخزيات المحزنات، الموقعة في سخط الله وغضبه؛ اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، ولا سخط ولا عقوبة أفظع من ارتكاب أفعال لا يفعلها إلا جهال المجانين. (¬1) - وقال أيضا: ليعلم كل واحد أولا: أنه ليس المراد بحبل الله المتين طريقة من هذه الطرق التي تمسكتم بها، وحملكم على التمسك بها تستر متفقهة أهلها بالإتيان ببعض الأدلة من الكتاب والسنة في غير محلها، واستعمالهم التقية في دعاويهم المشقية، مما لا يخفى على مسلم متبصر في دينه، يميز شماله من يمينه، ويفرق بين شكه ويقينه؛ بل المراد بحبل الله الذي يجب التمسك به دون سواه، ولا يمكن للمسلم أن يعميه ويصمه مع تمسكه به هواه؛ هو كتاب الله الحكيم، وسنة نبيه عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم فقد نص أبو بكر بن الجصاص الحنفي في 'أحكام القرآن' على أن المراد به ¬

(¬1) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.95 - 96).

كتاب الله. وكذلك القاضي أبو بكر بن العربي في أحكامه بعد ما ذكر اختلاف العلماء في المراد بالحبل: هل المراد به عهد الله أو كتابه أو دينه؟ فإنه استظهر أنه كتاب الله؛ لأنه يتضمن عهده ودينه ... إن أمعنتم النظر استنتجتم أنه لا فتنة أضر عليكم في دينكم من فتن الطرق؛ فإنها حولتكم عن الوجهة التي وجه الشارع إليها وجوهكم، ونبهكم إلى طلب الهداية إليها بقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} (¬1)، وبقوله: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)} (¬2). وهو أدرى بمصالحكم منكم، وإن كان هناك فتن أخرى، فإنها في نظر ذي الفهم الصحيح أدون وأهون من تلك الفتنة التي تسلب الإنسان المسلم من أعز عزيز لديه وهو إخلاص التوحيد لله، وتخصيصه بالإعطاء والمنع، والضر والنفع، ونذر النذور واليمين، والسجود ونحوها من خواص الربوبية، وتبثّ في نفسه الخضوع والاستكانة والتذلل والاستحذاء لمخلوق ضعيف مثله ... فهل كتاب 'الإبريز' وكتاب 'جواهر المعاني' أو كتاب 'المقصد الأحمد'، وما في معناها من كتب المناقب التي ترجعون إليها وتتشبعون بما فيها، تقوم مقام كتاب الله سبحانه؟ وهل بقي لقائل أن يقول: إن هذه الطرق ليست بفتن، وهي تصرفنا عن الاشتغال بكتاب الله ودراسته وتدبره؛ بمناقب وأذكار وأوراد ملفقة لم تأت عن الشارع، ذات خواص ومزايا وفتوحات وبركات ¬

(¬1) الفاتحة الآية (6). (¬2) آل عمران الآية (101).

وشفاعات، وتتركنا نتخبط في ليل أليل من الجهل بما أنزله الله وأمرنا بالاعتصام به؟ ... أنبتغي الهدى في كتاب من كتب مناقب الطرقيين المحشوة بالخرافات والأكاذيب وغيرها من نتائج الأغراض والحال؟ (¬1) - وقال: أخرج أبو عبيد عن أنس مرفوعا: «القرآن شافع مشفع، وماحل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار» (¬2) فكيف يجعل هؤلاء القرآن خلفهم، ويسعون في تنقية زواياهم منه، واستبداله بالشطح والرقص على القبور والصلاة عليها، والاجتماع على أذكار مستحدثة وأمداح بالشرك ملوثة مما يضاد القرآن ويقضي بمعارضته في كل آن، ويدعون أنهم من أهل الفضل والدين، وينسبون لأنفسهم المقامات العالية، وهم بمقتضى هذا الحديث وغيره في الدرك الأسفل، ولا سيما إذا قامت على ذلك قرينة على استغنائهم ببعض أذكارهم الملفقة عن القرآن الكريم؛ لاعتقادهم أن منها ما هو أفضل من القرآن بدرجات ومراحل؟ أخرج الشيخان من حديث عثمان: «خيركم -وفي لفظ: إن أفضلكم- من تعلم القرآن وعلمه» (¬3) زاد البيهقي في الأسماء: «وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على سائر خلقه» (¬4) فمن هذا الذي يجرأ بعد هذا على اعتقاد أن بعض الصلوات أو الأذكار التي تلقاها من شيخه، والتي هي من ¬

(¬1) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.99 - 101). (¬2) ابن حبان (1/ 331 - 332/ 124). (¬3) أخرجه: أحمد (1/ 58) والبخاري (9/ 91/5027) وأبو داود (2/ 147/1452) والترمذي (5/ 159/2907) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي في الكبرى (5/ 19/8037) وابن ماجه (1/ 76 - 77/ 211). (¬4) (2/ 578/504).

عبد الرحمن العاصمي (1392 هـ)

مبتكرات شيخه أفضل من القرآن، أو إذا قرأها مرة تعدل بكذا وكذا ختمة؟ هذا ما لا يقدر مطلق مومن أن يخطره بباله فضلا عن أن يعتقده ضرورة؛ أن الكلام صفة للمتكلم، وأن الصفة تابعة لموصوفها في العظم والخسة والله تعالى ليس كمثله شيء فكلامه ليس كمثله كلام. (¬1) - وقال: إن ترتيب الثواب والعقاب على الأقوال والأعمال؛ إنما هو من وظيف الشارع وحده، لا من شأن الشيخ فلان، ولا الغوث فلان، ولا القطب فلان، ولا الختم الكتم فلان، حتى تطمئن نفوسنا، إليه ويقوى رجاؤنا في تحقيق حصوله وبلوغه إلى معتقديه ووصوله. فلتنتبهوا ولتكونوا على حذر، ولا يغرنكم دخول بعض من ينتسب للعلم وهو منه براء في زمرتهم؛ فإن كتاب الله وسنة رسوله بين ظهرانيكم؛ وهما المحكمان فيكم، وباتباعهما وامتثال أوامرهما واجتناب نواهيهما تكونوا أفضل الأمم، وتنجلي عنكم الغمم، ولتعتقدوا اعتقادا جازما أن حبل الله المتين الذي يجب الاعتصام به هو كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) عبد الرحمن العاصمي (¬3) (1392 هـ) الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم من آل عاصم، أبو عبد الله القحطاني صاحب الدرر السنية وغيرها. ولد بقرية "البير" قرية من قرى ¬

(¬1) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.104 - 105). (¬2) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.107). (¬3) علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/ 202 - 208) والأعلام للزركلي (3/ 336) والمستدرك على معجم المؤلفين (364) وإتحاف النبلاء (1/ 109 - 114).

• موقفه من المبتدعة:

المحمل قرب الرياض سنة تسع عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة، وقيل اثني عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة، فنشأ بها، واعتنى عناية كبيرة بالعلوم الشرعية. وأخذ عن مجموعة من الشيوخ أشهرهم العلامة عبد الله بن عبد اللطيف والشيخ عبد العزيز العنقري والشيخ محمد بن محمود والشيخ سعد بن عتيق والشيخ سليمان السحمان وغيرهم. قال عنه صاحب علماء نجد: كان على جانب كبير من الأخلاق، حلو الشمائل مستقيما في دينه وخلقه، وكان عنده غيرة على حرمات الله، ويكره جدا مساكنة الكفار وجوارهم. قام رحمه الله بجمع فتاوى ورسائل علماء نجد المتفرقة، وكذلك فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، فقام بطبعها ونشرها داخل البلاد وخارجها. توفي رحمه الله سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة متأثرا من حادثة سير وقعت له سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وألف من الهجرة. • موقفه من المبتدعة: له: 1 - 'شرح عقيدة السفاريني'. 2 - 'السيف المسلول على عابد الرسول'. 3 - تراجم علماء الدعوة السلفية النجدية وهو المسمى بـ 'الدرر السنية'. 4 - حاشية على كتاب التوحيد. 5 - حاشية على الأصول الثلاثة. 6 - جمعه الفريد وترتيبه النضيد لفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية في سبعة وثلاثين مجلدا. (¬1) ¬

(¬1) علماء نجد (2/ 414 - 415).

فالح بن مهدي آل مهدي الدوسري (1392 هـ)

فالح بن مهدي آل مهدي الدوسري (¬1) (1392 هـ) الشيخ فالح بن مهدي بن سعد بن مبارك آل مهدي، من قبيلة الدواسر، جنوب المملكة العربية السعودية. ولد في مدينة "ليلى" عام اثنتين وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة، ونشأ فيها وفقد بصره وهو في سن العاشرة فأكمل حفظ القرآن، فسافر إلى الرياض، فقرأ على الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم والشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ سعود بن رشود والشيخ إبراهيم بن سلمان. عين للتدريس في المعهد العلمي بالرياض ثم في كلية الشريعة. قال عنه عبد الله البسام: وما زال مجدا في العلم بحثا وتعلما وتعليما في كلية الشريعة وفي منزله وفي المسجد حتى عد من كبار العلماء. توفي رحمه الله عام اثنين وتسعين وثلاثمائة وألف. موقفه من المبتدعة: له من الآثار السلفية: 1 - 'السلف بين القديم والجديد' وهو مطبوع. 2 - 'التحفة المهدية شرح الرسالة التدمرية' وهو مطبوع متداول. وله فيها كلام جيد: - قال: فإن البدعة لا تكون حقا محضا موافقا للسنة إذ لو كانت كذلك لم تكن باطلا، ولا تكون باطلا محضا لا حق فيه، إذ لو كانت كذلك لم تخف على الناس، ولكن تشتمل على حق وباطل، فيكون صاحبها قد لبس الحق بالباطل، إما مخطئا غالطا وإما ¬

(¬1) الأعلام (5/ 133) وعلماء نجد خلال ثمانية قرون (5/ 370 - 372) والمستدرك على معجم المؤلفين (542).

متعمدا لنفاق فيه وإلحاد، كما قال تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} (¬1) فأخبر أن المنافقين لو خرجوا في جيش المسلمين ما زادوهم إلا خبالا، ولكانوا يسعون بينهم مسرعين يطلبون لهم الفتنة. ومن المؤمنين من يقبل منهم ويستجيب لهم، إما لظن مخطئ أو لنوع من الهوى أو لمجموعهما، فإن المؤمن إنما يدخل عليه الشيطان بنوع من الظن واتباع هواه. (¬2) - وقال: وعلى هذا النهج المستقيم درج الصحابة رضي الله عنهم أجمعين يستضيئون بمشكاة القرآن فيهديهم أقوم الطريق ويتحاكمون إليه وإلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولقد مدحهم سبحانه وأثنى عليهم حيث قبلوا عن رسوله ما بلغه إليهم وهم المهاجرون والأنصار الذين ضرب بهم المثل في التوراة والإنجيل والقرآن فقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (¬3) الآية، وقال: {* لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (¬4) الآية، فهم حجة الله على خلقه بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤدون عن رسوله ما أدى إليهم لأنه بذلك أمرهم فقال: «ليبلغ الشاهد منكم الغائب» (¬5) ولقد مدحهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث الذي رواه مسلم ¬

(¬1) التوبة الآية (47). (¬2) التحفة المهدية (165 - 166). (¬3) الفتح الآية (29). (¬4) الفتح الآية (18). (¬5) أحمد (5/ 37) والبخاري (1/ 265/105) ومسلم (3/ 1305 - 1306/ 1679) وابن ماجه (1/ 85/233) عن أبي بكرة.

عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» -قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا- «ثم إن بعدكم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن» (¬1) وروى مسلم أيضا بسنده عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته» (¬2)، ومعنى الخيرية في الأحاديث راجعة لفضيلة أهل ذلك القرن في العلم والإيمان والأعمال الصالحة التي يتنافس فيها المتنافسون ويتفاضل فيها العاملون، فقد غلب الخير وكثر أهله واعتز فيها الإسلام والإيمان وكثر فيها العلم والعلماء ثم الذين يلونهم فضلوا على من بعدهم لظهور الإسلام فيهم وكثرة الداعي إليه والراغب فيه والقائم به، وما ظهر فيه من البدع أنكر واستعظم وأزيل كبدعة الخوارج والقدرية والرافضة، فهذه البدع وإن كانت قد ظهرت فأهلها في غاية الذل والمقت والهوان ويكثر القتل فيمن عاند منهم ولم يتب، والمشهور في الروايات أن القرون المفضلة ثلاثة الثالث دون الأولين في الفضل لكثرة البدع فيه، لكن العلماء متوافرون والإسلام فيه ظاهر والجهاد فيه قائم. وإذا فالشاهد من آية براءة وحديث عمران بن حصين هو مدح أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لله والثناء عليهم، لاستقامتهم على أمر الله وتمسكهم بهدي رسول الله. وقوله -أي: شيخ الإسلام ابن تيمية-: "فرضي عن السابقين ¬

(¬1) تقدم تخريجه ضمن مواقف محمد السهسواني سنة (1326هـ). (¬2) تقدم تخريجه ضمن مواقف محب الدين الخطيب سنة (1389هـ) ..

رضا مطلقا ورضي عن التابعين لهم بإحسان" معناه أن الله أوجب لجميع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الجنة والرضوان وشرط على التابعين شرطا لم يشرطه فيهم وهو اتباعهم إياهم بإحسان، فالصحابة حصل لهم بصحبتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - إيمان ويقين لم يشركهم فيه من بعدهم، ومعنى: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} (¬1) الذين اتبعوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وهم المتأخرون عنهم من الصحابة فمن بعدهم إلى يوم القيامة وليس المراد بهم التابعين اصطلاحا، وهم كل من أدرك الصحابة ولم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل هم من جملة من يدخل تحت الآية فتكون "من" في قوله: "من المهاجرين" على هذا للتبعيض وقيل إنها للبيان فيتناول المدح جميع الصحابة ويكون المراد بالتابعين من بعدهم من الأمة. والمهاجرون: جمع مهاجر وأصل المهاجرة عند العرب: أن ينتقل الإنسان من البادية إلى المدن والقرى، والمراد به في الشريعة: من فارق أهله ووطنه وجاء إلى بلد الإسلام وقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - رغبة فيه وإيثارا، ثم هي عموما الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام. وأثر ابن مسعود في وصف الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين- رواه رزين بن معاوية العبدري، ومثله ما جاء عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة أنه قال: "عليك بلزوم السنة فإنها لك بإذن الله عصمة فإن السنة إنما جعلت ليستن بها ويقتصر عليها، وإنما سنها من قد علم ما في خلافها من الزلل والخطأ والحمق والتعمق، فارض لنفسك بما رضوا به لأنفسهم فإنهم ¬

(¬1) التوبة الآية (100).

موقفه من المرجئة:

عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، ولهم كانوا على كشفها أقوى وبالفضل لو كان فيها أحرى، وإنهم لهم السابقون، وقد بلغهم عن نبيهم ما يجري من الاختلاف بعد القرون الثلاثة فلئن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم حدث بعدهم فما أحدثه إلا من ابتغى غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم واختار ما نحته فكره على ما تلقوه عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وتلقاه عنهم من تبعهم بإحسان، ولقد وصفوا منه ما يكفي، وتكلموا منه بما يشفي، فمن دونهم مقصر ومن فوقهم مفرط، لقد قصر دونهم أناس فجفوا وطمح آخرون فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم". وأثر حذيفة رواه البخاري، ومعشر القراء: المراد بهم علماء القرآن والسنة وقوله: "فقد سبقتم" قيل: الرواية الصحيحة بفتح السن والباء والمشهور ضم السين وكسر الباء، والمعنى على الأول اسلكوا طريق الاستقامة لأنكم أدركتم أوائل الإسلام فاستمسكوا بالكتاب والسنة لتسبقوا إلى خير، إذ من جاء بعدكم وإن عمل بعملكم لا يصل إلى سبقكم إلى الإسلام، وعلى الثانية سبقكم المتصفون بتلك الاستقامة إلى الله فكيف ترضون لنفوسكم هذا التخلف المؤدي إلى انحراف عن سنن الاستقامة يمينا وشمالا الموجب للهلاك الأبدي ... (¬1) موقفه من المرجئة: - قال في 'التحفة المهدية': والكرامية لهم في مسألة الإيمان قول شنيع لم يسبقهم إليه أحد من الطوائف، وهو قولهم إن الإيمان يكفي فيه مجرد النطق باللسان وإن كان القلب غير مصدق، وعلى هذا فالمنافق عندهم مؤمن، ¬

(¬1) التحفة المهدية (448 - 451).

لكنهم يحكمون عليه بالخلود في النار، فهو عندهم مؤمن في الاسم لا في الحكم، أما رأي الكرامية في مسائل الصفات، والقدر، والوعيد، فهو شبيه برأي كثير من طوائف المتكلمين الذين يوجد في آرائهم شيء من الصواب وشيء من مخالفة الشرع. (¬1) - وقال مبينا مذهب أهل السنة في الإيمان: والحق، أن الإيمان قول وعمل، قول باللسان وإقرار واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح مع الإخلاص بالنية الصادقة، وكل ما يطاع الله عز وجل به من فريضة ونافلة فهو من الإيمان، يزيد بالطاعة وينقص بالمعاصي. وأهل الذنوب مؤمنون غير مستكملي الإيمان من أجل ذنوبهم، وإنما صاروا ناقصي الإيمان بارتكابهم الكبائر. والخوارج والمعتزلة يقولون: إن الدين والإيمان قول وعمل واعتقاد ولكن لا يزيد ولا ينقص، ومن أتى كبيرة كفر عند الحرورية، وصار فاسقا عند المعتزلة في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر، وأما الحكم فالمعتزلة وافقوا الخوارج على حكمهم في الآخرة: فعندهم أن من أتى كبيرة فهو خالد مخلد في النار، لا يخرج منها لا بشفاعة، ولا بغير شفاعة، أما في الدنيا فالخوارج حكموا بكفر العاصي واستحلوا دمه وماله، وأما المعتزلة فحكموا بخروجه من الإيمان ولم يدخلوه في الكفر، ولم يستحلوا منه ما استحله الخوارج، وقابلتهم المرجئة والجهمية ومن اتبعهم، فقالوا: ليس من الإيمان فعل الأعمال الواجبة، ولا ترك المحظورات البدنية. فإن الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان، بل هو شيء واحد. (¬2) ¬

(¬1) (ص.374). (¬2) التحفة المهدية (ص.376).

محمد الأمين الشنقيطي (1393 هـ)

محمد الأمين الشنقيطي (¬1) (1393 هـ) الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي، ولقبه آبّا بتشديد الباء من الإباء. ولد عام خمس وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة بشنقيط، من أعمال دولة موريتانيا، وتعلم بها على يد مشايخ عصره منهم: الشيخ أحمد بن محمد المختار والعلامة أحمد بن عمر والفقيه محمد بن زيدان والعلامة الكبير أحمد فال. حج سنة سبع وستين وثلاثمائة وألف للهجرة، واستقر مدرسا في كلية الشريعة واللغة العربية في الرياض، وأخيرا في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية. كان رحمه الله يتمتع بأخلاق ومزايا فاضلة أكسبته الثقة والاحترام في أوساط أولي الأمر وكبار أهل العلم، وكان أديبا ضليعا. تلقى العلم على يديه أفواج لا يحصون من طلاب العلم ومن أبرزهم: الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ عبد المحسن العباد والشيخ محمد بن صالح العثيمين والشيخ صالح الفوزان والشيخ محمد عطية سالم والشيخ محمد أمان الجامي وغيرهم كثير. قال عنه الشيخ محمد عطية سالم بأنه صاحب أخلاق عالية من المروءة والإيثار والزهد في الدنيا وملاذها، والرغبة في الآخرة وما يقرب إليها. له مؤلفات نفيسة تدل على سعة علمه واطلاعه، من أشهرها: 'أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن' و'آداب البحث والمناظرة' و'دفع إيهام ¬

(¬1) الأعلام (6/ 45) وعلماء نجد خلال ثمانية قرون (6/ 371 - 378) وإتحاف النبلاء بسير العلماء (1/ 117 - 147) والمستدرك على معجم المؤلفين (607) وجهود الشيخ الشنقيطي في تقرير عقيدة السلف للدكتور عبد العزيز الطويان (1/ 29 - 87).

• موقفه من المبتدعة:

الاضطراب عن آي الكتاب'. توفي رحمه الله في مكة المكرمة ضحوة يوم الخميس في اليوم السابع عشر من شهر ذي الحجة من عام ثلاثة وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة، ودفن بها. ورثاه تلميذه الشيخ أحمد بن أحمد الجكني بقوله: موت الإمام الحبر من جاكاني ... رزء ألم بأمة العدناني يا للمصيبة للبرية إنها ... فقدت عظيم مناهل العرفان شيخا أضاء من العقيدة نيرا ... أرساه فوق دعائم البرهان أعشى سناه كل جهم ملحد ... نبذ الكتاب لمنطق اليونان ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... حاو لكل تراجم القرآن • موقفه من المبتدعة: هذا الرجل كان أعجوبة في حفظه واستحضاره، حضرناه ولقيناه واجتمعنا به غير ما مرة، وليس هذا هو الغريب فيه، بل قد يشترك معه في هذه الصفة كثير من الناس، ولكن قبوله للحق، واعتناقه له، والدفاع عنه بكل شجاعة وإخلاص، وهذا يندر وجوده في أبناء جنسه من أهل تلك البلاد. فالشيخ جزاه الله خيرا شرفه اللباس السلفي الذي ارتداه وزينه خير تزيين، وأصبحت كتبه تضيء بذلك النور وتفوح بذلك المسك. فهذا: 'أضواء البيان' الذي نفع الله به أهل المشرق والمغرب، ووجد القبول عند الجميع، قلما تمر فيه مناسبة للعقيدة السلفية، إلا وتجد الشيخ كأنه مطر نافع مغيث تستطيبه النفوس، وتتمنى المزيد منه والاستمرار، ويأتي على ذلك الغثاء ويلقيه في مكان سحيق، حتى لا يتأذى المسلمون بشره بعد بيان أن هذا

الضرر يجب إبعاده، ولا يجوز الاقتراب منه. وناهيك بالبحث العظيم الذي سطره في سورة الأعراف عند قوله تعالى: {إِن رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (¬1) وقد بينت في كتابي: 'المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات' (¬2) ما لهذا الكتاب من قيمة. وسأقتصر هنا على ذكر بعض النماذج لدفاع الشيخ عن العقيدة السلفية، جاء في: 'أضواء البيان'. قال: تنبيه مهم: يجب على كل مسلم يخاف العرض على ربه يوم القيامة، أن يتأمل فيه ليرى لنفسه المخرج من هذه الورطة العظمى، والطامة الكبرى، التي عمت جل بلاد المسلمين من المعمورة؛ وهي ادعاء الاستغناء عن كتاب الله وسنة رسوله استغناء تاما في جميع الأحكام، من عبادات ومعاملات وحدود وغير ذلك، بالمذاهب المدونة، وبناء هذا على مقدمتين: إحداهما: أن العمل بالكتاب والسنة لا يجوز إلا للمجتهدين. والثانية: أن المجتهدين معدومون عدما كليا لا وجود لأحد منهم في الدنيا، وأنه بناء على هاتين المقدمتين، يمنع العمل بكتاب الله وسنة رسوله منعا باتا على جميع أهل الأرض، ويستغنى عنهما بالمذاهب المدونة. ¬

(¬1) الأعراف الآية (54). (¬2) (2/ 701 - 705).

وزاد كثير منهم على هذا، منع تقليد غير المذاهب الأربعة وأن ذلك يلزم استمراره إلى آخر الزمان. فتأمل يا أخي رحمك الله! كيف يسوغ لمسلم أن يقول بمنع الاهتداء بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعدم وجوب تعلمهما والعمل بهما، استغناء عنهما بكلام رجال غير معصومين، ولا خلاف في أنهم يخطئون؛ فإن كان قصدهم أن الكتاب والسنة لا حاجة إلى تعلمهما، وأنهما يغني غيرهما، فهذا بهتان عظيم ومنكر من القول وزور. وإن كان قصدهم أن تعلمهما صعب لا يقدر عليه، فهو أيضا زعم باطل، لأن تعلم الكتاب والسنة أيسر من تعلم مسائل الآراء والاجتهاد المنتشرة، مع كونها في غاية التعقيد والكثرة، والله جل وعلا يقول في سورة القمر مرات متعددة: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)} ويقول تعالى في الدخان (¬1): {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58)} ويقول في مريم (¬2): {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)}. فهو كتاب ميسر بتيسير الله لمن وفقه الله للعمل به. والله جل وعلا يقول: {بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} (¬3) ويقول: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ ¬

(¬1) الدخان الآية (58). (¬2) مريم الآية (97). (¬3) العنكبوت الآية (49).

يُؤْمِنُونَ (52)} (¬1). فلا شك أن الذي يتباعد عن هداه يحاول التباعد عن هدى الله ورحمته. ولا شك أن هذا القرآن العظيم هو النور الذي أنزله الله إلى أرضه ليستضاء به، فيعلم في ضوئه الحق من الباطل، والحسن من القبيح، والنافع من الضار، والرشد من الغي. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)} (¬2). وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} (¬3). وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (¬4) وقال تعالى: {فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي ¬

(¬1) الأعراف الآية (52). (¬2) النساء الآية (174). (¬3) المائدة الآيتان (15و16). (¬4) الشورى الآية (52).

أَنْزَلْنَا} (¬1)، وقال تعالى: {فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)} (¬2). فإذا علمت أيها المسلم أن هذا القرآن العظيم هو النور الذي أنزله الله ليستضاء به، ويُهتدَى بهداه في أرضه، فكيف ترضى لبصيرتك أن تعمى عن النور؟ فلا تكن خفاشي البصيرة، واحذر أن تكون ممن قيل فيهم: خفافيش أعماها النهار بضوئه ... ووافقها قطع من الليل مظلم مثل النهار يزيد أبصار الورى ... نورا ويُعمي أعين الخفاش {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} (¬3). {* أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)} (¬4). ولا شك أن من عميت بصيرته عن النور تخبط في الظلام، ومن لم يجعل الله له نورا، فما له من نور. وبهذا تعلم أيها المسلم المنصف، أنه يجب عليك الجد والاجتهاد في تعلم كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وبالوسائل النافعة المنتجة، والعمل بكل ما علمك الله منهما علما صحيحا. ¬

(¬1) التغابن الآية (8). (¬2) الأعراف الآية (157). (¬3) البقرة الآية (20). (¬4) الرعد الآية (19).

ولتعلم أن تعلم كتاب الله وسنة رسوله في هذا الزمان، أيسر منه بكثير في القرون الأولى، لسهولة معرفة جميع ما يتعلق بذلك، من ناسخ ومنسوخ، وعام وخاص، ومطلق ومقيد، ومجمل ومبين، وأحوال الرجال، من رواة الحديث، والتمييز بين الصحيح والضعيف، لأن الجميع ضبط وأتقن ودُوِّنَ، فالجميع سهل التناول اليوم. فكل آية من كتاب الله قد علم ما جاء فيها من النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم من الصحابة والتابعين وكبار المفسرين. وجميع الأحاديث الواردة عنه - صلى الله عليه وسلم - حفظت ودونت، وعلمت أحوال متونها وأسانيدها وما يتطرق إليها من العلل والضعف. فجميع الشروط التي اشترطوها في الاجتهاد يسهل تحصيلها جدا على كل من رزقه الله فهما وعلما. والناسخ والمنسوخ، والخاص والعام، والمطلق والمقيد، ونحو ذلك تسهل معرفته اليوم على كل ناظر في الكتاب والسنة ممن رزقه الله فهما ووفقه لتعلم كتاب الله وسنة رسوله. واعلم أيها المسلم المنصف، أن من أشنع الباطل وأعظم القول بغير الحق على الله وكتابه، وعلى النبي وسنته المطهرة، ما قاله الشيخ أحمد الصاوي في حاشيته على الجلالين في سورة الكهف وآل عمران، واغتر بقوله في ذلك خلق لا يحصى من المتسمين باسم طلبة العلم، لكونهم لا يميزون بين حق وباطل. فقد قال الصاوي أحمد المذكور في الكلام على قوله تعالى: {وَلَا

تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23)} الآية (¬1). بعد أن ذكر الأقوال في انفصال الاستثناء عن المستثنى منه بزمان، ما نصه: وعامة المذاهب الأربعة على خلاف ذلك كله، فإن شرط حل الأيمان بالمشيئة أن تتصل وأن يقصد بها حل اليمين، ولا يضر الفصل بتنفس أو سعال أو عطاس، ولا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة، ولو وافق قول الصحابة والحديث الصحيح والآية. فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل، وربما أداه ذلك للكفر، لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر. اهـ منه بلفظه. فانظر يا أخي رحمك الله، ما أشنع هذا الكلام وما أبطله، وما أجرأ قائله على الله وكتابه وعلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته وأصحابه، سبحانك هذا بهتان عظيم. أما قوله بأنه لا يجوز الخروج عن المذاهب الأربعة، ولو كانت أقوالهم مخالفة للكتاب والسنة وأقوال الصحابة، فهو قول باطل بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضي الله عنهم، وإجماع الأئمة الأربعة أنفسهم، كما سنرى إيضاحه إن شاء الله بما لا مزيد عليه في المسائل الآتية بعد هذه المسألة. فالذي ينصره هو الضال المضل. وأما قوله: إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر، فهذا أيضا من أشنع الباطل وأعظمه، وقائله من أعظم الناس انتهاكا لحرمة كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. سبحانك هذا بهتان عظيم. ¬

(¬1) الكهف الآية (23).

والتحقيق الذي لا شك فيه، وهو الذي كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعامة علماء المسلمين، أنه لا يجوز العدول عن ظاهر كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حال من الأحوال بوجه من الوجوه حتى يقوم دليل صحيح شرعي صارف عن الظاهر إلى المحتمل المرجوح. والقول بأن العمل بظاهر الكتاب والسنة من أصول الكفر، لا يصدر البتة عن عالم بكتاب الله وسنة رسوله، وإنما يصدر عمن لا علم له بالكتاب والسنة أصلا، لأنه لجهله بهما يعتقد ظاهرهما كفرا، والواقع في نفس الأمر أن ظاهرهما بعيد مما ظنه أشد من بعد الشمس من اللمس. ومما يوضح لك ذلك أن آية الكهف هذه، التي ظن الصاوي أن ظاهرها حل الأيمان بالتعليق بالمشيئة المتأخر وزمنها عن اليمين وأن ذلك مخالف للمذاهب الأربعة: وبنى على ذلك أن العمل بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر، كله باطل لا أساس له. وظاهر الآية بعيد مما ظن بل الظن الذي ظنه والزعم الذي زعمه لا تشير الآية إليه أصلا، ولا تدل عليه لا بدلالة المطابقة، ولا التضمن ولا الالتزام. فضلا على أن تكون ظاهرة فيه. وسبب نزولها يزيد ذلك إيضاحاً، لأن سبب نزول الآية أن الكفار سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين فقال لهم سأخبركم غداً، ولم يقل إن شاء الله فعاتبه ربه بعدم تفويض الأمر إليه، وعدم تعليقه بمشيئته جل وعلا، فتأخر عنه الوحي.

ثم علمه الله في الآية الأدب معه في قوله: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (¬1). ثم قال لنبيه: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} يعني إن قلت سأفعل كذا غداً، ثم نسيت أن تقول إن شاء الله، ثم تذكرت بعد ذلك، فاذكر ربك، أي قل إن شاء الله، أي لتتدارك بذلك الأدب مع الله الذي فاتك عند وقته، بسبب النسيان، وتخرج من عهدة النهي في قوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}. والتعليق بهذه المشيئة المتأخرة لأجل المعنى المذكور، الذي هو ظاهر الآية الصحيح لا يخالف مذهباً من المذاهب الأربعة ولا غيرهم، وهو التحقيق في مراد ابن عباس بما ينقل عنه من جواز تأخير الاستثناء كما أوضحه كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله. وقد قدمنا إيضاحه في الكلام على آية الكهف هذه. فيا أتباع الصاوي المقلدين له تقليداً أعمى على جهالة عمياء، أين دل ظاهر آية الكهف هذه، على اليمين بالله، أو بالطلاق أو بالعتق أو بغير ذلك من الأيمان؟ هل النبي - صلى الله عليه وسلم - حلف لما قال للكفار: سأخبركم غداً؟ وهل قال الله: ولا تقولن لشيء إني حالف سأفعل ذلك غداً؟ ومن أين جئتم باليمين، حتى قلتم إن ظاهر القرآن، هو حل الأيمان ¬

(¬1) الكهف الآيتان (23و24).

بالمشيئة المتأخرة عنها، وبنيتم على ذلك أن ظاهر الآية مخالف لمذاهب الأئمة الأربعة، وأن العمل بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر؟ ومما يزيد ما ذكرنا إيضاحاً ما قاله الصاوي أيضاً في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (¬1) فإنه قال على كلام الجلال ما نصه: زيغ أي ميل عن الحق للباطل، قوله: بوقوعهم في الشبهات واللبس، أي كنصارى نجران، ومن حذا حذوهم ممن أخذ بظاهر القرآن، فإن العلماء ذكروا أن من أصول الكفر الأخذ بظواهر الكتاب والسنة. اهـ. فانظر رحمك الله، ما أشنع هذا الكلام وما أبطله وما أجرأ قائله على انتهاك حرمات الله، وكتابه ونبيه وسنته - صلى الله عليه وسلم -، وما أدله على أن صاحبه لا يدري ما يتكلم به. فإنه جعل ما قاله نصارى نجران، هو ظاهر كتاب الله، ولذا جعل مثلهم من حذا حذوهم فأخذ بظاهر القرآن. وذكر أن العلماء قالوا إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر، مع أنه لا يدري وجه ادعاء نصارى نجران على ظاهر القرآن أنه كفر، مع أنه مسلم أن ادعاءهم على ظاهر القرآن أنه كفرهم ومن حذا حذوهم ادعاء صحيح، إلا أن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر. وقد قال قبل هذا: قيل سبب نزولها أن وفد نجران قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ألست ¬

(¬1) آل عمران الآية (7).

تقول: إن عيسى روح الله وكلمته؟ فقال: «نعم»، فقالوا حسبنا، أي كفانا ذلك في كونه ابن الله. فنزلت الآية. فاتضح أن الصاوي يعتقد أن ادعاء نصارى نجران أن ظاهر قوله تعالى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} (¬1) هو أن عيسى ابن الله ادعاء صحيح، وبنى على ذلك أن العلماء قالوا إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر. وهذا كله من أشنع الباطل وأعظمه، فالآية لا يفهم من ظاهرها البتة، بوجه من الوجوه، ولا بدلالة من الدلالات، أن عيسى ابن الله، وادعاء نصارى نجران ذلك كذب بحت. فقول الصاوي كنصارى نجران، ومن حذا حذوهم ممن أخذ بظواهر القرآن صريح في أنه يعتقد أن ما ادعاه وفد نجران من كون عيسى ابن الله هو ظاهر القرآن اعتقاد باطل باطل باطل، حاشا القرآن العظيم من أن يكون هذا الكفر البواح ظاهره، بل هو لا يدل عليه البتة فضلا عن أن يكون ظاهره، وقوله: {وَرُوحٌ مِنْهُ} كقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} (¬2) أي كل ذلك من عيسى ومن تسخير السموات والأرض مبدؤه ومنشؤه منه جل وعلا. فلفظة "من" في الآيتين لابتداء الغاية، وذلك هو ظاهر القرآن وهو ¬

(¬1) النساء الآية (171). (¬2) الجاثية الآية (13).

الحق، خلافاً لما زعمه الصاوي وحكاه عن نصارى نجران. وقد اتضح بما ذكرنا أن الذين يقولون: إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر لا يعلمون ما هي الظواهر وأنهم يعتقدون شيئاً ظاهر النص. والواقع أن النص لا يدل عليه بحال من الأحوال فضلا عن أن يكون ظاهره. فبنوا باطلا على باطل، ولا شك أن الباطل لا يبنى عليه إلا الباطل. ولو تصوروا معاني ظواهر الكتاب والسنة على حقيقتها، لمنعهم ذلك من أن يقولوا ما قالوا. فتصور الصاوي، أن ظاهر آية الكهف المتقدمة، وهو حل الأيمان، بالتعليق بالمشيئة المتأخر زمنها عن اليمين، وبناؤه على ذلك مخالفة ظاهر الآية لمذاهب الأئمة الأربعة، وأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر، مع أن الآية لا تشير أصلا إلى ما اعتقد أنه ظاهرها. وكذلك اعتقاده أن ظاهر آية آل عمران المذكورة هو ما زعمه نصارى نجران، من أن عيسى ابن الله؛ فإنه كله باطل وليس شيء مما زعم ظاهر القرآن مطلقاً، كما لا يخفى على عاقل. وقول الصاوي في كلامه المذكور في سورة آل عمران: إن العلماء قالوا: إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر. قول باطل لا يشك في بطلانه من عنده أدنى معرفة. ومن هم العلماء الذين قالوا إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر؟

سموهم لنا، وبينوا لنا من هم؟ والحق الذي لا يشك فيه أن هذا القول لا يقوله عالم، ولا متعلم، لأن ظواهر الكتاب والسنة هي نور الله الذي أنزله على رسوله ليستضاء به في أرضه وتقام به حدوده، وتنفذ به أوامره، وينصف به بين عباده في أرضه. والنصوص القطعية التي لا احتمال فيها قليلة جداً لا يكاد يوجد منها إلا أمثلة قليلة جداً كقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (¬1). والغالب الذي هو الأكثر، هو كون نصوص الكتاب والسنة ظواهر. وقد أجمع جميع المسلمين على أن العمل بالظاهر واجب حتى يرد دليل شرعي صارف عنه، إلى المحتمل المرجوح، وعلى هذا كل من تكلم في الأصول. فتنفير الناس وإبعادها عن كتاب الله، وسنة رسوله، بدعوى أن الأخذ بظواهرهما من أصول الكفر، هو من أشنع الباطل وأعظمه كما ترى. وأصول الكفر يجب على كل مسلم أن يحذر منها كل الحذر، ويتباعد منها كل التباعد، ويتجنب أسبابها كل الاجتناب، فيلزم على هذا القول المنكر الشنيع وجوب التباعد من الأخذ بظواهر الوحي. وهذا كما ترى، وبما ذكرنا يتبين أن من أعظم أسباب الضلال، ادعاء أن ظواهر الكتاب والسنة دالة على معان قبيحة، ليست بلائقة. ¬

(¬1) البقرة الآية (196).

• موقفه من المشركين:

والواقع في نفس الأمر بعدها وبراءتها من ذلك. وسبب تلك الدعوى الشنيعة على ظواهر كتاب الله، وسنة رسوله، هو عدم معرفة مدعيها. (¬1) • موقفه من المشركين: - قال رحمه الله تعالى: اعلم أن ما يفسر به هذه الآية الكريمة -يعني قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} (¬2) - بعض الزنادقة الكفرة المدعين للتصوف من أن معنى اليقين المعرفة بالله جل وعلا، وأن الآية تدل على أن العبد إذا وصل من المعرفة بالله إلى تلك الدرجة المعبر عنها باليقين أنه تسقط عنه العبادات والتكاليف؛ لأن ذلك اليقين هو غاية الأمر بالعبادة. إن تفسير الآية بهذا كفر بالله وزندقة، وخروج عن ملة الإسلام بإجماع المسلمين. وهذا النوع لا يسمى في الاصطلاح تأويلا، بل يسمى لعبا كما قدمنا في آل عمران. ومعلوم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم هم وأصحابهم هم أعلم الناس بالله، وأعرفهم بحقوقه وصفاته وما يستحق من التعظيم، وكانوا مع ذلك أكثر الناس عبادة لله جل وعلا، وأشدهم خوفا منه وطمعا في رحمته؛ وقد قال جل وعلا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ¬

(¬1) أضواء البيان (7/ 435 - 443). (¬2) الحجر الآية (99).

الْعُلَمَاءُ} (¬1) والعلم عند الله تعالى. (¬2) - وقال عند قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)} (¬3). لا يخفى على الناظر في هذه الآية الكريمة: أن الله ذم الكفار وعاتبهم بأنهم في وقت الشدائد والأهوال خاصة يخلصون العبادة له وحده، ولا يعرفون شيئا من حقه لمخلوق. وفي وقت الأمن والعافية يشركون به غيره في حقوقه الواجبة له وحده، التي هي عبادته وحده في جميع أنواع العبادة، ويعلم من ذلك أن بعض جهلة المتسمين باسم الإسلام أسوأ حالا من عبدة الأوثان، فإنهم إذا دهمتهم الشدائد وغشيتهم الأهوال والكروب، التجأوا إلى غير الله ممن يعتقدون فيه الصلاح، في الوقت الذي يخلص فيه الكفار العبادة لله. مع أن الله جل وعلا أوضح في غير موضع أن إجابة المضطر، وإنجاءه من الكرب من حقوقه التي لا يشاركه فيها غيره. (¬4) - قال رحمه الله: واعلم أنه لا خلاف بين العلماء -كما ذكرنا آنفا- في منع النداء برابطة غير الإسلام، كالقوميات والعصبيات النسبية، ولا سيما إذا كان النداء بالقومية يقصد من ورائه القضاء على رابطة الإسلام وإزالتها بالكلية، فإن النداء بها حينئذ معناه الحقيقي: أنه نداء إلى التخلي عن دين ¬

(¬1) فاطر الآية (28). (¬2) الأضواء (3/ 207). (¬3) الإسراء الآية (67). (¬4) أضواء البيان (3/ 614).

• موقفه من الصوفية:

الإسلام، ورفض الرابطة السماوية رفضا باتا، على أن يعتاض من ذلك روابط عصبية قومية، مدارها على أن هذا من العرب، وهذا منهم أيضا مثلا، فالعروبة لا يمكن أن تكون خلفا من الإسلام، واستبدالها به صفقة خاسرة، فهي كما قال الراجز: بدلت بالجمة رأسا أزعرا ... وبالثنايا الواضحات الدردرا كما اشترى المسلم إذ تنصرا (¬1) • موقفه من الصوفية: قال رحمه الله: وبالجملة، فلا يخفى على من له إلمام بمعرفة دين الإسلام أنه لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه، وما يتقرب إليه به من فعل وترك إلا عن طريق الوحي. فمن ادعى أنه غني في الوصول إلى ما يرضي ربه عن الرسل وما جاءوا به، ولو في مسألة واحدة فلا شك في زندقته. والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا تحصى، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} (¬2) ولم يقل حتى نلقي في القلوب إلهاما. وقال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (¬3)، وقال: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ ¬

(¬1) أضواء البيان (3/ 445). (¬2) الإسراء الآية (15). (¬3) النساء الآية (165).

• موقفه من الجهمية:

آَيَاتِكَ} (¬1) الآية. والآيات والأحاديث بمثل هذا كثيرة جدا. وقد بينا طرفا من ذلك في سورة (بني إسرائيل) في الكلام على قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} (¬2). وبذلك تعلم أن ما يدعيه كثير من الجهلة المدعين التصوف، من أن لهم ولأشياخهم طريقا باطنة توافق الحق عند الله ولو كانت مخالفة لظاهر الشرع -كمخالفة ما فعله الخضر لظاهر العلم الذي عند موسى - زندقة، وذريعة إلى الانحلال بالكلية من دين الإسلام، بدعوى أن الحق في أمور باطنة تخالف ظاهره. (¬3) • موقفه من الجهمية: - قال رحمه الله: والجاهل المفتري الذي يزعم أن ظاهر آيات الصفات، لا يليق بالله، لأنه كفر وتشبيه، إنما جر إليه ذلك تنجيس قلبه، بقذر التشبيه بين الخالق والمخلوق، فأداه شؤم التشبيه إلى نفي صفات الله جل وعلا، وعدم الإيمان بها، مع أنه جل وعلا، هو الذي وصف بها نفسه، فكان هذا الجاهل مشبها أولا، ومعطلا ثانيا. فارتكب مالا يليق بالله ابتداء وانتهاء، ولو كان قلبه عارفا بالله كما ينبغي، معظما لله كما ينبغي، طاهرا من أقذار التشبيه. لكان المتبادر عنده السابق إلى فهمه: أن وصف الله جل وعلا، بالغ من الكمال والجلال ما يقطع أوهام علائق المشابهة بينه وبين ¬

(¬1) طه الآية (134). (¬2) الإسراء الآية (15). (¬3) أضواء البيان (4/ 159 - 160).

صفات المخلوقين، فيكون قلبه مستعدا للإيمان بصفات الكمال والجلال الثابتة لله في القرآن والسنة الصحيحة، مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق على نحو قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (¬1)، فلو قال متنطع: بينوا لنا كيفية الاتصاف بصفة الاستواء واليد، ونحو ذلك لنعقلها؟ قلنا: أعرفت كيفية الذات المقدسة المتصفة بتلك الصفات؟ فلا بد أن يقول: لا. فنقول: معرفة كيفية الاتصاف بالصفات متوقفة على معرفة كيفية الذات، فسبحان من لا يستطيع غيره أن يحصي الثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} (¬2)، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (¬3)، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4)}، {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} (¬4).اهـ (¬5) - وقال رحمه الله: والنداء المذكور في جميع الآيات المذكورة نداء الله له، فهو كلام الله أسمعه نبيه موسى. ولا يعقل أنه كلام مخلوق، ولا كلام خلقه الله في مخلوق، كما يزعم ذلك بعض الجهلة الملاحدة، إذ لا يمكن أن ¬

(¬1) الشورى الآية (11). (¬2) طه الآية (110). (¬3) الشورى الآية (11). (¬4) النحل الآية (74). (¬5) أضواء البيان (2/ 320 - 321).

يقول غير الله: {إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)} (¬1)، ولا أن يقول: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} (¬2). ولو فرض أن الكلام المذكور قاله مخلوق افتراء على الله، كقول فرعون {أنا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)} على سبيل فرض المحال، فلا يمكن أن يذكره الله في معرض أنه حق وصواب. فقوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} (¬3)، وقوله: {إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)} (¬4) صريح في أن الله هو المتكلم بذلك صراحة لا تحتمل غير ذلك، كما هو معلوم عند من له أدنى معرفة بدين الإسلام. (¬5) - وقال رحمه الله تحت قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} (¬6): واعلم أن ما يزعمه الجهمية من أن الله تعالى في كل مكان، مستدلين بهذه الآية على أنه في الأرض، ضلال مبين، وجهل بالله تعالى، لأن جميع الأمكنة الموجودة أحقر وأصغر من أن يحل في شيء منها رب السموات والأرض، الذي هو أعظم من كل شيء، وأعلى من كل شيء، محيط بكل شيء ولا يحيط به شيء، فالسماوات والأرض في يده جل وعلا أصغر من ¬

(¬1) النمل الآية (9). (¬2) طه الآية (14). (¬3) طه الآية (14). (¬4) النمل الآية (9). (¬5) أضواء البيان (4/ 293 - 294). (¬6) الأنعام الآية (3).

حبة خردل في يد أحدنا، وله المثل الأعلى، فلو كانت حبة خردل في يد رجل فهل يمكن أن يقال: إنه حال فيها، أو في كل جزء من أجزائها، لا وكلا، هي أصغر وأحقر من ذلك، فإذا علمت ذلك، فاعلم أن رب السموات والأرض أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، محيط بكل شيء، ولا يحيط به شيء، ولا يكون فوقه شيء {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3)} (¬1)، سبحانه وتعالى علوا كبيرا لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} (¬2).اهـ (¬3) - ثم قال الشيخ رحمه الله بعد كلام طويل: ... ولأجل هذه البلية العظمى والطامة الكبرى، زعم كثير من النظار الذين عندهم فهم، أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها غير لائقة بالله لأن ظواهرها المتبادرة منها هو تشبيه صفات الله بصفات خلقه، وعقد ذلك المقري في إضاءته في قوله: والنص إن أوهم غير اللائق ... بالله كالتشبيه بالخلائق فاصرفه عن ظاهره إجماعا ... واقطع عن الممتنع الأطماعا وهذه الدعوى الباطلة من أعظم الافتراء على آيات الله تعالى وأحاديث ¬

(¬1) سبأ الآية (3). (¬2) طه الآية (110). (¬3) أضواء البيان (2/ 182 - 183).

رسوله - صلى الله عليه وسلم -. والواقع في نفس الأمر أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها المتبادرة منها لكل مسلم راجع عقله، هي مخالفة صفات الله لصفات خلقه. ولا بد أن نتساءل هنا فنقول: أليس الظاهر المتبادر مخالفة الخالق للمخلوق في الذات والصفات والأفعال؟ والجواب الذي لا جواب غيره: بلى. وهل تشابهت صفات الله مع صفات خلقه حتى يقال إن اللفظ الدال على صفته تعالى ظاهره المتبادر منه تشبيهه بصفة الخالق؟ والجواب الذي لا جواب غيره: لا. فبأي وجه يتصور عاقل أن لفظا أنزله الله في كتابه مثلا دالا على صفة من صفات الله أثنى بها تعالى على نفسه، يكون ظاهره المتبادر منه مشابهته لصفة الخلق؟ سبحانك هذا بهتان عظيم. فالخالق والمخلوق متخالفان كل التخالف، وصفاتهما متخالفة كل التخالف. فبأي وجه يعقل دخول صفة المخلوق في اللفظ الدال على صفة الخالق؟ أو دخول صفة الخالق في اللفظ الدال على صفة المخلوق مع كمال المنافاة بين الخالق والمخلوق؟ فكل لفظ دل على صفة الخالق ظاهره المتبادر منه أن يكون لائقا بالخالق منزها عن مشابهة صفات المخلوق. وكذلك اللفظ الدال على صفة المخلوق لا يعقل أن تدخل فيه صفة الخالق. فالظاهر المتبادر من لفظ اليد بالنسبة للمخلوق، هو كونها جارحة، هي عظم ولحم ودم، وهذا هو الذي

يتبادر إلى الذهن في نحو قوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬1). والظاهر المتبادر من اليد بالنسبة للخالق في نحو قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (¬2) أنها صفة كمال وجلال لائقة بالله جل وعلا، ثابتة له على الوجه اللائق بكماله وجلاله. وقد بين جل وعلا عظم هذه الصفة وما هي عليه من الكمال والجلال، وبين أنها من صفات التأثير كالقدرة، قال تعالى في تعظيم شأنها: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} (¬3). وبين أنها صفة تأثير كالقدرة في قوله تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (¬4). فتصريحه تعالى بأنه خلق نبيه آدم بهذه الصفة العظيمة التي هي من صفات كماله وجلاله، يدل على أنها من صفات التأثير كما ترى. ولا يصح هنا تأويل اليد بالقدرة البتة، لإجماع أهل الحق والباطل كلهم على أنه لا يجوز تثنية القدرة. ولا يخطر في ذهن المسلم المراجع عقله دخول الجارحة التي هي عظم ولحم ودم في معنى هذا اللفظ الدال على هذه الصفة ¬

(¬1) المائدة الآية (38). (¬2) ص الآية (75). (¬3) الزمر الآية (67). (¬4) ص الآية (75).

العظيمة من صفات خالق السموات والأرض. فاعلم أيها المدعي أن ظاهر لفظ اليد في الآية المذكورة وأمثالها لا يليق بالله، لأن ظاهرها التشبيه بجارحة الإنسان، وأنها يجب صرفها عن هذا الظاهر الخبيث، ولم تكتف بهذا حتى ادعيت الإجماع على صرفها عن ظاهرها، إن قولك هذا كله افتراء عظيم على الله تعالى وعلى كتابه العظيم، وأنك بسببه كنت أعظم المشبهين والمجسمين، وقد جرك شؤم التشبيه إلى ورطة التعطيل، فنفيت الوصف الذي أثبته الله في كتابه لنفسه بدعوى أنه لا يليق به، وأولته بمعنى آخر من تلقاء نفسك بلا مستند من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قول أحد من السلف. وماذا عليك لو صدقت الله وآمنت بما مدح به نفسه على الوجه اللائق بكماله وجلاله من غير كيف ولا تشبيه ولا تعطيل؟ وبأي موجب سوغت لذهنك أن يخطر فيه صفة المخلوق عند ذكر صفة الخالق؟ هل تلتبس صفة الخالق بصفة المخلوق عن أحد حتى يفهم صفة المخلوق من اللفظ الدال على صفة الخالق؟ فاخش الله يا إنسان، واحذر من التقول على الله بلا علم، وآمن بما جاء في كتاب الله مع تنزيه الله عن مشابهة خلقه. واعلم أن الله الذي أحاط علمه بكل شيء لا يخفى عليه الفرق بين الوصف اللائق به، والوصف غير اللائق به، حتى يأتي إنسان فيتحكم في ذلك فيقول: هذا الذي وصفت به نفسك غير لائق بك، وأنا أنفيه عنك بلا مستند منك ولا من رسولك، وآتيك بدله بالوصف اللائق بك. فاليد مثلا، التي وصفت بها نفسك لا تليق بك، لدلالتها على التشبيه

• موقفه من الخوارج:

بالجارحة، وأنا أنفيها عنك نفيا باتا، وأبدلها لك بوصف لائق بك، وهو النعمة أو القدرة مثلا، أو الجود. سبحانك هذا بهتان عظيم". (¬1) ثم ذكر الشيخ الرد على الأشاعرة في تقسيم الصفات والإيمان بالبعض دون البعض. وهو بحث نفيس ينبغي الرجوع إليه وقراءته. • موقفه من الخوارج: قال رحمه الله: إذا طرأ على الإمام الأعظم فسق أو دعوة إلى بدعة. هل يكون ذلك سببا لعزله والقيام عليه أولا؟ قال بعض العلماء: إذا صار فاسقا أو داعيا إلى بدعة جاز القيام عليه لخلعه. والتحقيق الذي لا شك فيه أنه لا يجوز القيام عليه لخلعه، إلا إذا ارتكب كفرا بواحا عليه من الله برهان. فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله. قال: «إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان» (¬2). وفي صحيح مسلم من حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «خيار أئمتكم الذين يحبونكم وتحبونهم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، ¬

(¬1) أضواء البيان (7/ 443 - 446). (¬2) أحمد (3/ 441) والبخاري (13/ 6/7055و7056) ومسلم (3/ 1470/1709) والنسائي (7/ 157/4164) وابن ماجه (2/ 957/2866).

وتلعنونهم ويلعنونكم، قال: قلنا يا رسول الله: أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله تعالى، ولا ينزعن يدا من طاعة» (¬1). وفي صحيح مسلم أيضا: من حديث أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع». قالوا: يا رسول الله أفلا نقاتلهم؟ قال: «لا، ما صلوا» (¬2). وأخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من رأى من أميره شيئا فكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت، إلا مات ميتة جاهلية» (¬3). وأخرج مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية» (¬4). والأحاديث في هذا كثيرة. فهذه النصوص تدل على منع القيام عليه، ولو كان مرتكبا لما لا يجوز، إلا إذا ارتكب الكفر الصريح، الذي قام البرهان الشرعي من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أنه كفر بواح، أي: ظاهر باد لا لبس فيه. ¬

(¬1) أحمد (6/ 24) ومسلم (3/ 1481/1855). (¬2) أحمد (6/ 295) ومسلم (3/ 1480/1854) وأبو داود (5/ 119/4760) والترمذي (4/ 458/2265). (¬3) أحمد (1/ 275) والبخاري (13/ 6/7054) ومسلم (3/ 1477/1849). (¬4) أحمد (2/ 70) ومسلم (3/ 1478/1851).

• موقفه من المرجئة:

وقد دعا المأمون والمعتصم والواثق إلى بدعة القول بخلق القرآن، وعاقبوا العلماء من أجلها بالقتل والضرب والحبس وأنواع الإهانة، ولم يقل أحد بوجوب الخروج عليهم بسبب ذلك. ودام الأمر بضع عشرة سنة حتى ولي المتوكل الخلافة، فأبطل المحنة، وأمر بإظهار السنة. واعلم أنه أجمع جميع المسلمين على أنه لا طاعة لإمام ولا غيره في معصية الله تعالى. وقد جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا لبس فيها ولا مطعن. كحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» أخرجه الشيخان وأبو داود (¬1). وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في السرية الذين أمرهم أميرهم أن يدخلوا في النار: «لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا، إنما الطاعة في المعروف» (¬2). وفي الكتاب العزيز: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} (¬3).اهـ (¬4) • موقفه من المرجئة: - قال: ومعلوم أن الحق الذي لا شك فيه، الذي هو مذهب أهل ¬

(¬1) أحمد (2/ 17) والبخاري (13/ 152/7144) ومسلم (3/ 1469/1839) وأبو داود (3/ 93 - 94/ 2626) والترمذي (4/ 182/1707) والنسائي (7/ 179 - 180/ 4217) وابن ماجه (2/ 956/2864). (¬2) أحمد (1/ 81) والبخاري (8/ 72 - 73/ 4340) ومسلم (3/ 1469/1840 (40)) وأبو داود (3/ 92 - 93/ 2625) والنسائي (7/ 179/4216). (¬3) الممتحنة الآية (12). (¬4) أضواء البيان (1/ 67 - 69).

السنة والجماعة: أن الإيمان شامل للقول والعمل مع الاعتقاد. وذلك ثابت في أحاديث صحيحة كثيرة. (¬1) - وقال رحمه الله: قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)} (¬2). ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه يقص عليه نبأ أصحاب الكهف بالحق. ثم أخبره مؤكدا له أنهم فتية آمنوا بربهم، وأن الله جل وعلا زادهم هدى. ويفهم من هذه الآية الكريمة أن من آمن بربه وأطاعه زاده ربه هدى، لأن الطاعة سبب للمزيد من الهدى والإيمان. وهذا المفهوم من هذه الآية الكريمة جاء مبينا في مواضع أخر، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)} (¬3)، وقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} الآية (¬4)، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} الآية (¬5)، وقوله: {فَأَمَّا ¬

(¬1) أضواء البيان (7/ 201). (¬2) الكهف الآية (13). (¬3) محمد الآية (17). (¬4) العنكبوت الآية (69). (¬5) الأنفال الآية (29).

• موقفه من القدرية:

الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)} (¬1)، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} الآية (¬2)، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} (¬3)، إلى غير ذلك من الآيات. وهذه الآيات المذكورة نصوص صريحة في أن الإيمان يزيد، مفهوم منها أنه ينقص أيضا، كما استدل بها البخاري رحمه الله على ذلك، وهي تدل عليه دلالة صريحة لا شك فيها، لا وجه معها للاختلاف في زيادة الإيمان ونقصه كما ترى، والعلم عند الله تعالى. (¬4) • موقفه من القدرية: - قال رحمه الله: قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} (¬5) يدل على أن الله هو الذي يجعل الفجور والتقوى في القلب، وقد جاءت آيات تدل على أن فجور العبد وتقواه باختياره ومشيئته كقوله تعالى: {فَاسْتَحَبُّوا ¬

(¬1) التوبة الآية (124). (¬2) الفتح الآية (4). (¬3) الحديد الآية (28). (¬4) أضواء البيان (4/ 28 - 29). (¬5) الشمس الآية (8).

الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} (¬1). وقوله تعالى: {اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} (¬2) ونحو ذلك، وهذه المسألة هي التي ضل فيها القدرية والجبرية. أما القدرية: فضلوا بالتفريط، حيث زعموا أن العبد يخلق عمل نفسه استقلالا من غير تأثير لقدرة الله فيه. وأما الجبرية فضلوا بالإفراط، حيث زعموا أن العبد لا عمل له أصلا حتى يؤاخذ به. وأما أهل السنة والجماعة فلم يفرطوا ولم يفرطوا، فأثبتوا للعبد أفعالا اختيارية، ومن الضروري عند جميع العقلاء أن الحركة الارتعاشية ليست كالحركة الاختيارية، وأثبتوا أن الله خالق كل شيء، فهو خالق العبد وخالق قدرته وإرادته، وتأثير قدرة العبد لا يكون إلا بمشيئة الله تعالى. فالعبد وجميع أفعاله بمشيئة الله تعالى، مع أن العبد يفعل اختيارا بالقدرة والإرادة اللتين خلقهما الله فيه فعلا اختياريا يثاب عليه ويعاقب. ولو فرضنا أن جبريا ناظر سنيا، فقال الجبري: حجتي لربي أن أقول إني لست مستقلا بعمل، وأني لابد أن تنفذ في مشيئته وإرادته على وفق العلم الأزلي، فأنا مجبور. فكيف يعاقبني على أمر لا قدرة لي أن أحيد عنه؟ فإن السني يقول له: كل الأسباب التي أعطاها للمهتدين أعطاها لك، جعل لك سمعا تسمع به، وبصرا تبصر به، وعقلا تعقل به، وأرسل لك رسولا، وجعل لك اختيارا وقدرة، ولم يبق بعد ذلك إلا التوفيق، وهو ملكه المحض، إن ¬

(¬1) فصلت الآية (17). (¬2) البقرة الآية (16).

أعطاه ففضل، وإن منعه فعدل. كما أشار له تعالى بقوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} (¬1) يعني أن ملكه للتوفيق حجة بالغة على الخلق، فمن أعطيه ففضل، ومن منعه فعدل. ولما تناظر أبو إسحق الاسفرائيني مع عبد الجبار المعتزلي. قال عبد الجبار: سبحان من تنزه عن الفحشاء، وقصده أن المعاصي كالسرقة والزنى بمشيئة العبد دون مشيئة الله، لأن الله أعلى وأجل من أن يشاء القبائح في زعمهم. فقال أبو إسحاق: كلمة حق أريد بها باطل، ثم قال: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء. فقال عبد الجبار: أتراه يخلقه ويعاقبني عليه؟ فقال أبو إسحاق: أتراك تفعله جبرا عليه؟ أأنت الرب وهو العبد؟ فقال عبد الجبار: أرأيت إن دعاني إلى الهدى، وقضى علي بالردى؟ أتراه أحسن إلي أم أساء؟ فقال أبو إسحاق: إن كان الذي منعك منه ملكا لك فقد أساء، وإن كان له، فإن أعطاك ففضل، وإن منعك فعدل، فبهت عبد الجبار. وقال الحاضرون: والله ما لهذا جواب. وجاء أعرابي إلى عمرو بن عبيد وقال له: ادع الله لي أن يرد علي حمارة سرقت مني، فقال: اللهم إن حمارته سرقت، ولم ترد سرقتها فارددها ¬

(¬1) الأنعام الآية (149).

عليه. فقال له الأعرابي: يا هذا كف عني دعاءك الخبيث. إن كانت سرقت ولم يرد سرقتها، فقد يريد ردها ولا ترد. وقد رفع الله إشكال هذه المسألة بقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (¬1) فأثبت للعبد مشيئة، وصرح بأنه لا مشيئة للعبد إلا بمشيئة الله جل وعلا. فكل شيء صادر عن قدرته ومشيئته جل وعلا. وقوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} (¬2) وأما على قول من فسر الآية الكريمة بأن معنى {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} (¬3) أنه بين لها طريق الخير وطريق الشر، فلا إشكال في الآية. وبهذا المعنى فسرها جماعة من العلماء. والعلم عند الله تعالى. (¬4) - وقال رحمه الله: ومن أعظم الأدلة القطعية الدالة على بطلان مذهب القدرية، وأن العبد لا يستقل بأفعاله دون قدرة الله ومشيئته، أنه لا يمكن أحدا أن ينكر علم الله بكل شيء قبل وقوعه، والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا ينكرها إلا مكابر. وسبق علم الله بما يقع من العبد قبل وقوعه، برهان قاطع على بطلان تلك الدعوى. ¬

(¬1) الإنسان الآية (30). (¬2) الأنعام الآية (149). (¬3) الشمس الآية (8). (¬4) دفع إيهام الاضطراب الملحق بأضواء البيان (9/ 330 - 332).

وإيضاح ذلك أنك لو قلت للقدري: إذا كان علم الله في سابق أزله تعلق بأنك تقع منك السرقة أو الزنا في محل كذا في وقت كذا، وأردت أنت بإرادتك المستقلة في زعمك دون إرادة الله ألا تفعل تلك السرقة أو الزنا الذي سبق بعلم الله وقوعه، فهل يمكنك أن تستقل بذلك؟ وتصير علم الله جهلا، بحيث لا يقع ماسبق في علمه وقوعه في وقته المحدد له؟ والجواب بلاشك: هو أن ذلك لا يمكن بحال كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (¬1)، وقال الله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} (¬2). ولا إشكال ألبتة في أن الله يخلق للعبد قدرة وإرادة يقدر بها على الفعل والترك، ثم يصرف الله بقدرته وإرادته قدرة العبد وإرادته إلى ما سبق به علمه، فيأتيه العبد طائعا مختارا غير مقهور ولايجور، وغير مستقل به دون قدرة الله وإرادته كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (¬3).اهـ (¬4) - وقال رحمه الله: أما قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)} (¬5) على القول بأن إن شرطية لا تمكن صحة الربط بين ¬

(¬1) الإنسان الآية (30). (¬2) الأنعام الآية (149). (¬3) الإنسان الآية (30). (¬4) أضواء البيان (7/ 224 - 225). (¬5) الزخرف الآية (81).

شرطها وجزائها ألبتة، لأن الربط بين المعبود وبين كونه والدا أو ولدا لا يصح بحال. ولذا جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا أشك ولا أسأل أهل الكتاب» (¬1) فنفى الطرفين مع أن الربط صحيح، ولا يمكن أن ينفي - صلى الله عليه وسلم - هو ولا غيره الطرفين في الآية الأخرى، فلا يقول هو ولا غيره: ليس له ولد ولا أعبده. وعلى كل حال، فالربط بين الشك وسؤال الشاك للعالم أمر صحيح، بخلاف الربط بين العبادة وكون المعبود والدا أو ولدا فلا يصح. فاتضح الفرق بين الآيتين وحديث: «لا أشك ولا أسأل أهل الكتاب» رواه قتادة بن دعامة مرسلا. وبنحوه قال بعض الصحابة، فمن بعدهم، ومعناه صحيح بلا شك. وما قاله الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة يستغربه كل من رآه لقبحه وشناعته، ولم أعلم أحدا من الكفار فيما قَصَّ الله في كتابه عنهم يتجرأ على مثله أو قريب منه. وهذا مع عدم فهمه لما يقول وتناقض كلامه. وسنذكر هنا كلامه القبيح للتنبيه على شناعة غلطه، الديني واللغوي. قال في الكشاف ما نصه: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} (¬2) وصح ذلك ¬

(¬1) أخرجه عبد الرزاق (6/ 125 - 126/ 10211) وابن جرير (7/ 168) عن قتادة. قال الزيلعي في تخريج الكشاف (2/ 140): "هو معضل". وأخرجه ابن أبي حاتم (6/ 1986/10583) بسنده إلى ابن عباس. وفيه هشيم وهو مدلس كثير الإرسال وقد عنعن. (¬2) الزخرف الآية (81).

وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها، فأنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له، كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه. وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض، وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه، وألا يترك للناطق به شبهة إلا مضمحلة، مع الترجمة عن نفسه بإثبات القدم في باب التوحيد، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد وهي محال في نفسها، فكان المعلق بها محالا مثلها، فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة وفي معنى نفيهما على أبلغ الوجوه وأقواها. ونظيره أن يقول العدلي للمجبر، إن كان الله تعالى خالقا للكفر في القلوب ومعذبا عليه عذابا سرمدا فأنا أول من يقول: هو شيطان وليس بإله. فمعنى هذا الكلام وما وضع له أسلوبه ونظمه نفى أن يكون الله تعالى خالقا للكفر. وتنزيهه عن ذلك وتقديسه ولكن على طريق المبالغة فيه من الوجه الذي ذكرنا، مع الدلالة على سماجة المذهب، وضلالة الذاهب إليه، والشهادة القاطعة بإحالته والإفصاح عن نفسه بالبراءة منه وغاية النفار والاشمئزاز من ارتكابه. ونحو هذه الطريقة قول سعيد بن جبير رحمه الله للحجاج حين قال له (أما والله لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى): (لو عرفت أن ذلك إليك ما عبدت إلها غيرك). وقد تمحل الناس بما أخرجوه به من هذا الأسلوب الشريف الملئ بالنكت والفوائد المستقل بإثبات التوحيد على أبلغ وجوهه، فقيل: إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول العابدين الموحدين لله المكذبين قولكم

لإضافة الولد إليه اهـ. الغرض من كلام الزمخشري. وفي كلامه هذا من الجهل بالله وشدة الجراءة عليه، والتخبط والتناقض في المعاني اللغوية ما الله عالم به. ولا أظن أن ذلك يخفى على عاقل تأمله. وسنبين لك ما يتضح به ذلك فإنه أولا قال: إن كان للرحمن ولد وصح ذلك ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها فأنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته، والانقياد له كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه. فكلامه هذا لا يخفى بطلانه على عاقل، لأنه على فرض صحة نسبة الولد إليه، وقيام البرهان الصحيح والحجة الواضحة على أنه له ولد، فلا شك أن ذلك يقتضي، أن ذلك الولد لا يستحق العبادة بحال، ولو كان في ذلك تعظيم لأبيه، لأن أباه مثله في عدم استحقاق العبادة، والكفر بعبادة كل والد وكل مولود شرط في إيمان كل موحد، فمن أي وجه يكون هذا الكلام صحيحا. أما في اللغة العربية فلا يكون صحيحا ألبتة. وما أظنه يصح في لغة من لغات العجم فالربط بين هذا الشرط وهذا الجزاء لا يصح بوجه. فمعنى الآية عليه لا يصح بوجه، لأن المعلق على المحال لا بد أن يكون محالا مثله. والزمخشري في كلامه كلما أراد أن يأتي بمثال في الآية خارج عنها اضطر إلى أن لا يعلق على المحال في زعمه إلا محالا. فضربه للآية المثل بقصة ابن جبير مع الحجاج، دليل واضح على ما

ذكرنا وعلى تناقضه وتخبطه. فإنه قال فيها إن الحجاج قال لسعيد بن جبير: لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى. قال سعيد للحجاج: لو علمت أن ذلك إليك ما عبدت إلها غيرك. فهو يدل على أنه علق المحال على المحال، ولو كان غير متناقض للمعنى الذي مثل له به الزمخشري لقال: لو علمت أن ذلك إليك لكنت أول العابدين لله. فقوله: لو علمت أن ذلك إليك في معنى {إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} (¬1)، فنسبة الولد والشريك إليه معناهما في الاستحالة وادعاء النقص واحد. فلو كان سعيد يفهم الآية كفهمك الباطل لقال: لو علمت أن ذلك إليك لكنت أول العابدين لله. ولكنه لم يقل هذا، لأنه ليس له معنى صحيح يجوز المصير إليه. وكذلك تمثيل الزمخشري للآية الكريمة في كلامه القبيح البشع الشنيع الذي يتقاصر عن التلفظ به كل كافر. فقد اضطر فيه أيضا إلى أن لا يعلق على المحال في زعمه إلا محالا شنيعا فإنه قال فيه: ونظيره أن يقول العدلي للمجبر: إن كان الله تعالى خالقا للكفر في القلوب ومعذبا عليه عذابا سرمدا فأنا أول من يقول هو شيطان وليس بإله. فانظر قول هذا الضال في ضربه المثل في معنى هذه الآية الكريمة بقول الضال الذي يسميه العدلي: إن كان الله خالقا للكفر في القلوب إلخ. ¬

(¬1) الزخرف الآية (81).

فخلق الله للكفر في القلوب وتعذيبه الكفار على كفرهم، مستحيل عنده كاستحالة نسبة الولد لله، وهذا المستحيل في زعمه الباطل، إنما علق عليه أفظع أنواع المستحيل وهو زعمه الخبيث أن الله إن كان خالقا للكفر في القلوب، ومعذبا عليه فهو شيطان لا إله، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، فانظر رحمك الله فظاعة جهل هذا الإنسان بالله، وشدة تناقضه في المعنى العربي للآية. لأنه جعل قوله: إن كان الله خالقا للكفر ومعذبا عليه بمعنى {إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} (¬1) في أن الشرط فيهما مستحيل، وجعل قوله في الله إنه شيطان لا إله، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنا أول العابدين. فاللازم لكلامه أن يقول: لو كان خالقا للكفر فأنا أول العابدين له، ولا يخفى أن الادعاء على الله أنه شيطان مناقض لقوله: فأنا أول العابدين. وقد أعرضت عن الإطالة في بيان بطلان كلامه، وشدة ضلاله، وتناقضه لشناعته ووضوح بطلانه، فهي عبارات مزخرفة، وشقشقة لا طائل تحتها، وهي تحمل في طياتها الكفر والجهل بالمعنى العربي للآية. والتناقض الواضح وكم من كلام ملئ بزخرف القول، وهو عقيم لا فائدة فيه، ولا طائل تحته كما قيل: وإني وإني ثم إني وإنني ... إذا انقطعت نعلي جعلت لها شسعا فظل يعمل أياما رويته ... وشبه الماء بعد الجهد بالماء ¬

(¬1) الزخرف الآية (81).

محمد الجزولي (1393 هـ)

واعلم أن الكلام على القدر، وخلق أفعال العباد: قدمنا منه جملا كافية في هذه السورة الكريمة، في الكلام على قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} (¬1)، ولا يخفى تصريح القرآن بأن الله خالق كل شيء، كما قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (¬2) الآية، وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)} (¬3). وقال: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} (¬4)، وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} (¬5). فالإيمان بالقدر خيره وشره الذي هو من عقائد المسلمين جعله الزمخشري يقتضي أن الله شيطان، سبحان الله وتعالى عما يقوله الزمخشري علوا كبيرا. وجزى الزمخشري بما هو أهله. (¬6) محمد الجزولي (1393 هـ) من أهل المغرب الأقصى، ولد بالرباط سنة ست وثلاثمائة وألف للهجرة. اشتغل بالقضاء، وله ديوان شعري باسم: 'ذكريات من ربيع الحياة' طبع سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة. ¬

(¬1) الزخرف الآية (20). (¬2) الزمر الآية (62). (¬3) الفرقان الآية (2). (¬4) فاطر الآية (3). (¬5) القمر الآية (49). (¬6) أضواء البيان (7/ 299 - 304).

• موقفه من الصوفية:

قال عنه محمد بن اليمني الناصري شقيق محمد المكي الناصري المعروف: "صاحبنا كاتب الحقيقة وشاعر العاطفة؛ أخونا المطلع الخبير والداهية الكبير". (¬1) توفي سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة. • موقفه من الصوفية: كتب رسالة لشيخ الطائفة التجانية بالرباط سماها: 'لا طرق في الإسلام' بعد مذاكرات بينهما جرت حول الطرق الصوفية، هذه الرسالة كلها ذم وتقريع وكشف لحقيقة الطرقية المقيتة، وقد ضمنها نحو عشرين سؤالا ملزما مفحما قاضيا بضلال هذا المسلك -جزاه الله خيرا- وقد انتشرت وذاعت في وقتها؛ إلا أنها أثارت ثائرة الطرقيين فضجوا من أجلها حسب ما ذكره محمد بن اليمني الناصري في كتابه: 'ضرب نطاق الحصار'. وقد نقل هذه الرسالة كاملة وهي جواب عن سؤال شيخ التجانية: "ما هي هذه الطرق؟ لأن الحكم عن الشيء فرع عن تصوره". فأجاب رحمه الله: الطرق هي ما دعي فيه إلى أعمال وأقوال زائدة غير صالحة في نفسها ولا مصلحة لغيرها، مستمدة من عالم الأذواق والإلهام! لم يدع إليها محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من أصحابه نصا، لم تسد من الدين ثغرة، ولم تزده في عالم الإصلاح شهرة؛ بل شوهته بما استحالت إليه من محاكاة القردة والحيوانات المفترسة والمتوحشين في مجاهل الأرض. ¬

(¬1) 'ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار' لمحمد الناصري (ص.156).

ادعاها أشخاص من طلاب الشهرة الدينية أو الدنيوية. فيهم صالح النية وخبيثها. ومن العسير معرفة صالحهم من طالحهم؛ إذ لا مميز قطعيا هناك؛ مما يوجب طرح دعاويهم جميعا وإلقاء ما أتوا به جملة وتفصيلا؛ استغناء بكتاب الله وسنة رسوله. أما بعد: فطالما تنكبت -منذ عرفت طويتك، وخبرت هويتك- الطرق المؤدية للاجتماع بك، لا لقلي لك أو بغض فيك؛ إذ لست هناك، ولكن لما بين الفكرين من التضارب، وبين الرأيين من التباين؛ فبينما أراني متطلعا في سماء الحرية الصافية الأديم، الرائقة النسيم، متغلغلا ببصر البصيرة في سعة أجوائها، وترامي أرجائها، متنسما عطر أريحها، متشحا برد نسيجها؛ إذ بك ترسف في أغلال التقليد وسلاسل الجمود، معتقداً سلاسلها مخانق من لؤلؤ، وقيودها خلاخل من ذهب، ومع إبهاظ تلك لعاتقك، ونخر هذه لسوقك تضن بهما ضن البخيل بماله، والغيور بعياله، فأنى يطيب لنا اجتماع أو يحصل بيننا اتفاق؛ اللهم إلا إذا اجتمع الضدان، وائتلف النقيضان، وتساوى الطائر المحلِّق -حيث لا يخشى الطلب- بالمحبوس أسيرا -وإن في قفص من ذهب-، لهذا وذاك، كنت دائما أتحرى عدم لقياك، استغناء عن نفعك واتقاء لأذاك، حتى سقطت علينا بالأمس سقوط الجراد في ليلة أَحَلْت بياض أنسها إلى سواد، عند ذلك السميدع الأصيل إذ انجر بنا الحديث -والحديث شجون- إلى ذكر الطرق المحدثة في الإسلام، وما انبثق منها فيه من الأضاليل والأوهام. والانشقاق والاختلاف، والتزحلق عن مهيع الحق والانحراف، حتى تمزقت أوصاله وتلونت أحواله، وصارت أممه في فرقها شيعا، واتخذ كل منهم

حسب هواه طريقا ومهيعا، تلك الوصمة التي وسم بها الدين، وأحدث بها التفريق بين جماعة المومنين، وتفوهت -تأثرا بما أثاره ذلك الحديث- بتلك الجملة التي أنزلتها منزلة كلمة التثليث وهي: "إن الإسلام بدون هذه الطرق خير منه بها"؛ فقمت وقد انتفخت أوداجك. وتصلبت أمشاجك. وقلت: إن ذلك القول ضلال، واعتقاده كفر، وتخيّله زندقة، والعمل به مخرقة. وشددت اللوم على من يحوم في حمى القوم، وطالبتني بالدليل على صحة جملتي، والحجة التي تثبت بها دعوتي، فاستدللت ولم أبعد، ورغما على إبراقك فلم أرعد؛ بأن الإسلام قبل تفريخ جراثيم هذه الطرق في جسمه، كانت أعظم دول الأرض ترتعد لذكر اسمه، وأنه بعد تسميمها لدمه، وسريان ذلك الدم المسموم في جميع أممه، تفرقت أجزاؤه، وسادته أعداؤه، وانفصمت عراه، وانحط من علاه، وتمزق أيدي سبا، وتمسك بالقشور وأعرض عن اللبا، وألفح روضاته الغناء إعصار فيه نار المحرقين فاحترقت، وطما على سدوده المتينة سيل الجهل فانخرقت، وإن لم تكن كل مصائبه من تلك الطرق؛ فإنها إحدى مصائبه الكبر، وفي تمسك دعاة العلم بأهدابها أفدح المصائب وأعظم العبر، وهذه طبيعة العمران؛ فإن الأمم إذا هرمت انحلت قواها العاقلة، وتسفلت فيها المدارك والعقول، وانحطت من أوج التمحيص والانتقاد إلى هاوية التقليد والخمول، حيث تستعبدها الأوهام والخرافات، باعتقاد سيدات وسادات، لهم التصرف في الكون قبضا وبسطا، ومنعا وإعطا، اعتقادا يتساوى فيه العالم والجاهل، والعالي والنازل، عاملين على استبدال الأعمال الصالحة بمضغ الألفاظ، مع بعدها عن مركز الانفعال بعد الإعقاب عن

الألحاظ، وأعماهم التعصب والتقليد عن رؤية الحق مع أن الحق نور، ولكنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا. وحيث كنت تكابر في هذا القدر، وتحتج بحجج لا تعلم محط مغزاها، ولا هدف مرماها، وإنما ترددها ترديد الصدى، جريا على ما جبلت عليه من التقليد حتى في الضلال والهدى. اقترحت أن أخط لكم ما تفوهت به في كتاب، وأضيف إليها ما يعن لي في هذا الباب، وأنتم تجيبون على ذلك بما يزيل اللبس، ويبين أن أفكاركم مبنية على أمتن أس؛ وإلا فأنت في ميدان المناضلة محجوج. وجبين دعواك بعصا العجز مشجوج. هذا وإني لأشفق عليك مما يلم بك من الألم، عند مطالعة ما يخطه القلم؛ لأن الحقيقة مرة في أفواه العائشين بالآمال والأوهام، واليقظة ضربة قاضية على المثرين في الأحلام، ولكنها الحقيقة. والحقيقة بنت البحث البحت، والمرمر لا تنجلي مرآته بغير الصقل والنحت. وإليكها جملا مرصوصة البنا، ظاهرة الغنا، طيبة الجنا، وليست إلا أنموذجا لأمثالها، وشكلا يدل على تعدد أشكالها. وهي بين ادعاء محض يفتقر إلى إثبات أو نقض، أو استفهام يتطلب الجواب بالنفي أو الإيجاب. بيد أنه لا يقبل من الحجج النقلية إلا ما كان صريحا في الموضوع من كتاب أو سنة أو كان من الحجج العقلية المحسوسة فقط، وكل كلام تسوقه للغير أياً كان فهو لغو، والعبرة بما يقال، لا بمن قال. ثم إني لا إخالك تجد ولا جوابا واحدا يوافق ما به تحتج. إلا إذا استقام الظل والشاخص أعوج، وقد صدرت تلك الجمل بالجملة التي كانت

السبب في تسطير هذا الرق، وذيّلتُها بأسئلة تقوم في وجه الباطل بسيف الحق. وهي: 1 - الإسلام بدون هذه الطرق خير منه بها؟ 2 - هل هذه الطرق ضرورية الوجود للدين؟ 3 - إذا كانت غير ضرورية للدين وهو تام بدونها فما المحوج لها إذاً؟ 4 - هل كانت الديانة الإسلامية ناقصة قبل وجود هذه الطرق؟ 5 - هل المتمسكون بهذه الطرق أهدى ممن كان قبلهم من المسلمين ومن معاصريهم المسلمين الغير المتمسكين بها؟ 6 - هل المؤمن بكتاب الله وبما صح وروده عن النبي عليه السلام؛ العامل بمقتضى الشريعة يعد ضالا إذا قال: إن الإسلام غني بنفسه عن الطرق واعتقد ذلك ودعا إليه؟ 7 - أي فائدة استفادها الإسلام من هذه الطرق بعد فشوها فيه حتى امتاز عصره بها بالعز والجاه والفضل والاستقامة عن غيره من أعصره الخالية منها؟ 8 - لو لم توجد في الإسلام هذه الطرق التي فرقته شيعا وجعلته طرائق قددا وبقي على ما كان عليه أيام النبي عليه السلام والأعصر الثلاثة بعده أيكون غير صالح لهداية البشر وأتعس حالا مما هو عليه الآن؟ 9 - أعَثرنا بهذه الطرق على إكسير الأخلاق الذي صير الأمة في أخلاقها وأطوارها خيرا مما كانت عليه من قبل؟

10 - إذا تمسك المسلمون بالكتاب والسنة واتحدوا عليهما ونبذوا هذه الطرق المبثوثة الأطراف أيَصيرون غير مسلمين ويعودون بذلك من الضالين؟ 11 - هل جاءت هذه الطرق بشيء زائد على ما في الكتاب والسنة يحتاج إليه الإسلام والمسلمون؟ 12 - إذا كانت لم تأت بشيء زائد على ما فيهما فما الفائدة من إحداث طرق منشقة في الإسلام ترى لنفسها فضلا وشفوفا على غيرها اغترارا بقول داع مجترئ؟ 13 - هل المؤمن المصلي على نبيه، الذاكر لربه، ائتمارا بأمر الله في كتابه العزيز، وبالصيغ الواردة عن محمد - صلى الله عليه وسلم - يكون أحط رتبة، وأخس مثوبة، وأقل أجرا من المصلي أو الذاكر وفاقا لقانون الشيخ فلان، وبالصيغ الموحاة إليه من حظيرة الأوهام؟ 14 - ما قولك فيمن يبتدع صيغا من الأدعية والصلوات، غريبة الألفاظ، ركيكة التركيب، ليست على نهج القرآن ولا على أسلوب الحديث يتلقفها من عالم الغيب في زعمه، ويمليها ألفاظا غير أليفة ولا مألوفة، مدعيا لها من الأجر والثواب والفضل الذي لا يحصره حساب الحاصل لتاليها مرة واحدة ما لا يحصل لمن ختم القرآن كذا وكذا ألف مرة؟ 15 - وما قولك فيمن يدعي ما لم يدعه محمد ولا عظماء صحابته من التصرف في الجنة والنار يدخلهما من يشاء ويخرج منهما من يشاء؛ كأن مفاتحهما في جيبه أو عقد اتفاقا مع خزنتهما أوجب تخصيصه بذلك أو شارك رب العزة في ملكوته، يغر بذلك السذج ويجرئهم على معاصي الله؟

16 - هل قام الإسلام وانتشر في العالم بالقعود على الطنافس، ولَوْك الألفاظ وتحريك السبح وضرب الرؤوس، ونهش اللحوم والرقص على التمويل و ... إلخ، أم بجلائل الأعمال وبذل النفس والنزوح عن الأوطان في سبيل الدعوة إلى الأقطار النائية الشاسعة مع بعد الشقة وعظم المشقة؟ 17 - ماذا ترى فيمن تَعْرِض له صيغة تصلية أو ذكر مما لفّقه شيخه فينزهها عن ذكره لها لكونه على غير وضوء؛ حتى إذا عرض له ذكر القرآن وهو في مجلسه ذلك وبحالته تلك اندفع في تلاوته اندفاع السيل من الجبل، أتلك الصيغة الواردة عن شيخه أجل قدرا وأعظم خطرا من القرآن المنزل من رب العزة بواسطة جبريل الأمين على قلب محمد بن عبد الله؟ 18 - لا شك أن جل مبتدعي هذه الطرق كان قصدهم حسناً فيما ابتدعوه، ولكن يعرض لتلك البدع ما يخرجها عن مقصدها الحسن، ويجعلها وبالاً على الإسلام المسلمين كما هو مشاهد. 19 - إذا قسنا الطرق الصالحة -إن كانت هناك طرق صالحة وليست هي إلا طريقتك في نظرك- على الكثير الفاسد، ورفضنا الكل سداً للذريعة، ودفعا للأذى فهل يضرنا ذلك الرفض في ديننا؟ 20 - إن كان رفض تلك الطرق يضرنا في ديننا فما وجه ضرره؟ هذا قل من كثر، وبعض من كل، وإن شئتم زدنا، وإن عدتم عدنا، والحمد لله أولا وآخرا. (¬1) ¬

(¬1) ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار (ص.157 - 164).

محمد خليل هراس (1395 هـ)

محمد خليل هراس (¬1) (1395 هـ) الإمام السلفي محمد خليل هراس. ولد بطنطا عام خمس وثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة، وتخرج من الأزهر من كلية أصول الدين وحاز على شهادة "الدكتوراه" في التوحيد وموضوع الرسالة 'ابن تيمية السلفي ورده على مذاهب المتكلمين'. شغل عدة مناصب آخرها نائب الرئيس العام لجماعة أنصار السنة النبوية، ثم الرئيس العام لها بالقاهرة. كان الشيخ محمد على قدر كبير من التمييز في دراسة العقيدة الصحيحة، ومتفردا في معرفة العقائد والفرق الكلامية والفلسفات القديمة والحديثة. وكان رحمه الله سلفي المعتقد، حاملا لواء السنة، نابذا لواء البدعة، منكبا على نشر السنة، لا تأخذه في الله لومة لائم، وله في ذلك مؤلفات. توفي رحمه الله سنة خمس وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة. • موقفه من المبتدعة: آثاره السلفية: 1 - 'شرح العقيدة الواسطية'. 2 - 'شرح النونية'. 3 - 'دعوة التوحيد'. وكلها مطبوعة. ¬

(¬1) مقدمة كتابه 'شرح العقيدة الواسطية' بقلم علوي السقاف (ص.41 - 42) ومجلة التوحيد (العدد الأول محرم 1417هـ/ص.57 - 59)

- قال في شرحه على نونية ابن القيم: وهذه الهجرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يستطيع قطع مسافتها، وبلوغ غايتها إلا من جرد لها ركائب عزمه، وتوجه إليها بكل همه، ولم يلتفت إلى شيء مما يعوقه في سيره من تقليد لمذهب أو تعصب لرأي أو استحسان لبدعة، ولكن مسافتها تطول وتطول جدا على من خصهم الله بالحرمان والخذلان، فصرف قلوبهم عنها، وكره انبعاثهم إليها، فثبطهم وقال اقعدوا مع القاعدين، فهي هجرة لا ينالها أبدا كسلان، ولا يقوى عليها كل رعديد الفؤاد جبان، وهي هجرة لا تحتاج أن تعد لها زادا وراحلة، وتضرب في بيد الأرض وقفارها، بل قد يقوم بها العبد وهو نائم على فراشه، ويسبق في مضمارها الساعين إلى منازل الرحمة والرضوان، الذين يغذون السير جاهدين، تخب بهم مطاياهم، وأما هو فيسير سيرا لينا رفيقا، ولكنك تراه مع ذلك قد سبق الركب، وسار أمامهم كأنه الجبل العظيم، يراه من في القاع تحته، وإنما هيأ له السبق في المضمار أنه نشرت له أعلام النصوص، وفي رؤوسها أوقدت نيران، هي النور المبين لهداية السالك الحيران، ولكن لا يراها إلا من كانت له عينان بمراود الوحي مكتحلتان، لا بمراود أهل الفشر والهذيان، فلما رآها هرع نحوها وجرد السعي إليها، فلم يلتفت عنها يمينا ولا شمالا حتى بلغها وأدرك عندها بغيته وحقق أمله. (¬1) - وقال: وردت أحاديث كثيرة على ما أعد الله سبحانه من أجر عظيم للمتمسكين بسنة نبيه المختار - صلى الله عليه وسلم - عند فساد الزمان وانحلال عرى ¬

(¬1) شرح النونية (2/ 282).

الدين. فروى أبو داود رحمه الله في سننه، وروى أحمد بن حنبل الشيباني رضي الله عنه في مسنده أثرا تضمن أن للعامل من هذه الأمة عند فساد الزمان أجر خمسين رجلا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولفظ الحديث عند أبي داود، وعن أبي أمية الشعباني قال: "سألت أبا ثعلبة الخشني فقلت: يا أبا ثعلبة كيف تقول في هذه الآية: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} (¬1)؟ قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك -يعني بنفسك- ودع عنك العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر فيها مثل قبض على الجمر، للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله»، وزاد في غيره، قالوا: يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: «أجر خمسين منكم» (¬2)، وله شاهد يقويه فيما رواه مسلم رحمه الله من أن العبادة في وقت الهرج -أي القتل والفتن- تعدل هجرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). هذا ولأهل السنة هجرات كثيرة لا بالأماني والأحلام ولكن بالتحقيق والتثبيت، فلهم هجرة إلى الله عز وجل بالإخلاص والتوحيد، ولهم هجرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء والاتباع، ولهم هجرة من البدع إلى السنن، ومن المعاصي إلى الطاعات، ومن الأقوال والآراء إلى ما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما جاء في القرآن؛ وله شاهد أيضا فيما ¬

(¬1) المائدة الآية (105). (¬2) تقدم تخريجه ضمن مواقف علي بن المديني سنة (234هـ). (¬3) تقدم تخريجه ضمن مواقف أبي ذر سنة (32هـ).

رواه الترمذي من أن الذي يحيى سنة من سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماتت يكون رفيقه في الجنة (¬1).اهـ (¬2) - وقال في شرحه على العقيدة الواسطية: هذا بيان المنهج لأهل السنة والجماعة في استنباط الأحكام الدينية كلها، أصولها وفروعها، بعد طريقتهم في مسائل الأصول، وهذا المنهج يقوم على أصول ثلاثة: أولها كتاب الله عز وجل، الذي هو خير الكلام وأصدقه، فهم لا يقدمون على كلام الله كلام أحد من الناس. وثانيها: سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما أثر عنه من هدي وطريقة، لا يقدمون على ذلك هدي أحد من الناس. وثالثها: ما وقع عليه إجماع الصدر الأول من هذه الأمة قبل التفرق والانتشار وظهور البدعة والمقالات، وما جاءهم بعد ذلك مما قاله الناس وذهبوا إليه من المقالات وزنوها بهذه الأصول الثلاثة التي هي الكتاب، والسنة، والإجماع، فإن وافقها قبلوه، وإن خالفها ردوه؛ أيا كان قائله. وهذا هو المنهج الوسط، والصراط المستقيم، الذي لا يضل سالكه، ولا يشقى من اتبعه، وسط بين من يتلاعب بالنصوص، فيتأول الكتاب، وينكر الأحاديث الصحيحة، ولا يعبأ بإجماع السلف، وبين من يخبط خبط عشواء، فيتقبل كل رأي، ويأخذ بكل قول، لا يفرق في ذلك بين غث وسمين، وصحيح وسقيم. (¬3) ¬

(¬1) أخرجه: الترمذي (5/ 44 - 45/ 2678) عن أنس بن مالك بلفظ: « ... ومن أحيا سنتي فقد أحبني ومن أحبني كان معي في الجنة» وقال: "حديث حسن غريب". قال الشيخ الألباني في المشكاة (1/ 62/175): "فيه علي بن زيد وهو ابن جدعان، وهو ضعيف". انظر الضعيفة (4548). (¬2) شرح النونية (2/ 321). (¬3) شرح الواسطية (256 - 257).

• موقفه من الخوارج:

• موقفه من الخوارج: - قال في شرحه على الواسطية: قوله: (وفي باب أسماء الإيمان ... ) إلخ. كانت مسألة الأسماء والأحكام من أول ما وقع فيه النزاع في الإسلام بين الطوائف المختلفة، وكان للأحداث السياسية والحروب التي جرت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما في ذلك الحين، وما ترتب عليها من ظهور الخوارج والرافضة والقدرية أثر كبير في ذلك النزاع. والمراد بالأسماء هنا أسماء الدين؛ مثل: مؤمن، ومسلم، وكافر، وفاسق ... إلخ. والمراد بالأحكام أحكام أصحابها في الدنيا والآخرة. فالخوارج الحرورية والمعتزلة ذهبوا إلى أنه لا يستحق اسم الإيمان إلا من صدق بجنانه، وأقر بلسانه، وقام بجميع الواجبات، واجتنب جميع الكبائر. فمرتكب الكبيرة عندهم لا يسمى مؤمنا باتفاق بين الفريقين. ولكنهم اختلفوا: هل يسمى كافرا أو لا؟ فالخوارج يسمونه كافرا، ويستحلون دمه وماله، ولهذا كفروا عليا ومعاوية وأصحابهما، واستحلوا منهم ما يستحلون من الكفار. وأما المعتزلة؛ فقالوا: إن مرتكب الكبيرة خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر؛ فهو بمنزلة بين المنزلتين، وهذا أحد الأصول التي قام عليها مذهب الاعتزال. واتفق الفريقان أيضا على أن من مات على كبيرة ولم يتب منها؛ فهو مخلد في النار.

فوقع الاتفاق بينهما في أمرين: 1 - نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة. 2 - خلوده في النار مع الكفار. ووقع الخلاف أيضا في موضعين: أحدهما: تسميته كافرا. والثاني: استحلال دمه وماله، وهو الحكم الدنيوي. (¬1) - وفيه أيضا: والشفاعة من الأمور التي ثبتت بالكتاب والسنة، وأحاديثها متواترة؛ قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (¬2) فنفي الشفاعة بلا إذن إثبات للشفاعة من بعد الإذن. قال تعالى عن الملائكة: {* وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)} (¬3). فبين الله الشفاعة الصحيحة، وهي التي تكون بإذنه، ولمن يرتضي قوله وعمله. وأما ما يتمسك به الخوارج والمعتزلة في نفي الشفاعة من مثل قوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)} (¬4) {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ ¬

(¬1) (ص.190 - 191). (¬2) البقرة الآية (255). (¬3) النجم الآية (26). (¬4) المدثر الآية (48).

• موقفه من المرجئة:

وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} (¬1) {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100)} (¬2) ... إلخ، فإن الشفاعة المنفية هنا هي الشفاعة في أهل الشرك، وكذلك الشفاعة الشركية التي يثبتها المشركون لأصنامهم، ويثبتها النصارى للمسيح والرهبان، وهي التي تكون بغير إذن الله ورضاه. (¬3) - وفيه أيضا: وأما قوله: (وأما الشفاعة الثالثة؛ فيشفع فيمن استحق النار ... ) إلخ. وهذه هي الشفاعة التي ينكرها الخوارج والمعتزلة؛ فإن مذهبهم أن من استحق النار لابد أن يدخلها؛ ومن دخلها لا يخرج منها لا بشفاعة ولا بغيرها. والأحاديث المستفيضة المتواترة ترد على زعمهم وتبطله. (¬4) • موقفه من المرجئة: - قال رحمه الله: أهل السنة والجماعة وسط في باب الوعيد بين المفرطين من المرجئة الذين قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا تنفع مع الكفر طاعة. وزعموا أن الإيمان مجرد التصديق بالقلب، وإن لم ينطق به، وسُمّوا بذلك نسبة إلى الإرجاء، أي: التأخير؛ لأنهم أخروا الأعمال عن الإيمان. ولا شك أن الإرجاء بهذا المعنى كفرٌ يخرج صاحبه عن الملة؛ فإنه لا بد في الإيمان من قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، فإذا اختل ¬

(¬1) البقرة الآية (123). (¬2) الشعراء الآية (100). (¬3) (ص.215 - 216). (¬4) (ص.218).

واحد منها لم يكن الرجل مؤمناً. وأما الإرجاء الذي نُسب إلى بعض الأئمة من أهل الكوفة؛ كأبي حنيفة وغيره، وهو قولهم: إن الأعمال ليست من الإيمان، ولكنهم مع ذلك يوافقون أهل السنة على أن الله يعذب مَن يعذب من أهل الكبائر بالنار، ثم يخرجهم منها بالشفاعة وغيرها، وعلى أنه لا بد في الإيمان من نطق باللسان، وعلى أن الأعمال المفروضة واجبة يستحق تاركها الذمّ والعقاب؛ فهذا النوع من الإرجاء ليس كفراً، وإن كان قولاً باطلاً مبتدَعاً؛ لإخراجهم الأعمال عن الإيمان. (¬1) - وقال أيضاً: أهل السنة والجماعة يعتقدون أن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان، وأن هذه الثلاثة داخلة في مسمى الإيمان المطلق. فالإيمان المطلق يدخل فيه جميع الدين: ظاهرُه وباطنُه، أصولُه وفروعه، فلا يستحق اسم الإيمان المطلق إلا من جمع ذلك كله ولم ينقص منه شيئاً. ولما كانت الأعمال والأقوال داخلة في مسمى الإيمان؛ كان الإيمان قابلاً للزيادة والنقص، فهو يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية؛ كما هو صريح الأدلة من الكتاب والسنة، وكما هو ظاهر مشاهد من تفاوت المؤمنين في عقائدهم وأعمال قلوبهم وأعمال جوارحهم. ومن الأدلة على زيادة الإيمان ونقصه أن الله قسم المؤمنين ثلاث طبقات، ¬

(¬1) شرح الواسطية (ص.188 - 189).

فقال سبحانه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} (¬1). فالسابقون بالخيرات هم الذين أدّوا الواجبات والمستحبات وتركوا المحرمات والمكروهات، وهؤلاء هم المقربون. والمقتصدون هم الذين اقتصروا على أداء الواجبات وترك المحرمات. والظالمون لأنفسهم هم الذين اجترؤوا على بعض المحرمات وقصّروا ببعض الواجبات مع بقاء أصل الإيمان معهم. ومن وجوه زيادته ونقصه كذلك أن المؤمنين متفاوتون في علوم الإيمان، فمنهم من وصل إليه من تفاصيله وعقائده خير كثير، فازداد به إيمانه، وتمّ يقينه، ومنهم من هو دون ذلك، حتى يبلغ الحال ببعضهم أن لا يكون معه إلا إيمان إجمالي لم يتيسر له من التفاصيل شيء، وهو مع ذلك مؤمن. وكذلك هم متفاوتون في كثير من أعمال القلوب والجوارح، وكثرة الطاعات وقلتها. وأما من ذهب إلى أن الإيمان مجرد التصديق بالقلب، وأنه غير قابل للزيادة أو النقص؛ كما يُروى عن أبي حنيفة وغيره؛ فهو محجوج بما ذكرنا من الأدلة، قال عليه السلام: (الإيمان بضع وسبعون شعبة؛ أعلاها: قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق) (¬2).اهـ (¬3) ¬

(¬1) فاطر الآية (32). (¬2) تقدم تخريجه في مواقف أبي إسحاق الفزاري سنة (186هـ). (¬3) شرح الواسطية (ص.231 - 233).

محمد بهجة البيطار (1396 هـ)

محمد بهجة البيطار (¬1) (1396 هـ) الشيخ محمد بهجة البيطار، من أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق. ولد في دمشق سنة إحدى عشرة وثلاثمائة وألف. وهو من أصل جزائري، نشأ في حجر والده محمد بهاء الدين، وتلقى على يده مبادئ العلوم الدينية، وعلى يد جده لأمه عبد الرزاق البيطار. واشتغل في عدة مناصب دينية آخرها توليه إدارة دار التوحيد السعودية، وعضوا عاملا في المجمع العلمي بدمشق والقاهرة. له مؤلفات كثيرة منها: 'حياة شيخ الإسلام ابن تيمية' و'رسالة في الرد على من طعن في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب' و'رسالة في الرد على الكوثري'. توفي رحمه الله بدمشق في ثلاثين جمادى الأولى سنة ست وتسعين وثلاثمائة وألف. • موقفه من المبتدعة: دافع عن شيخ الإسلام ابن تيمية وله في ذلك مؤلف قال فيه: لقد صدق كثير من العلماء والأدباء في مختلف العصور هذه الرواية الآتية في رحلة ابن بطوطة الشهير، وجعلوها قضية مسلمة يروونها ويتوارثونها إلى عصرنا هذا، حتى إن دائرة المعارف الإسلامية التي تنقل الآن إلى العربية في مصر، قد ترجمت لابن تيمية ترجمة بقلم الأستاذ محمد بن شنب (ص.109 - 116ج1) ¬

(¬1) المستدرك على معجم المؤلفين (614 - 615) وتاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر الهجري (2/ 918).

فيها أغلاط كثيرة، ونقلت عبارة ابن بطوطة هذه، وهي قوله عن إمام الشام وشيخ الإسلام ابن تيمية، "وكنت إذ ذاك بدمشق، فحضرته يوم الجمعة، وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم، فكان من جملة كلامه أن قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا، ونزل درجة من درج المنبر" فرأيت أن أنشر كلمة في هذا الموضوع تكون الحد الفاصل بين الحق والباطل. 1 - إن ابن بطوطة رحمه الله لم يسمع من ابن تيمية ولم يجتمع به، إذ كان وصوله إلى دمشق يوم الخميس التاسع عشر من شهر رمضان المبارك عام ستة وعشرين وسبعمائة هجرية، وكان سجن شيخ الإسلام في قلعة دمشق أوائل شهر شعبان من ذلك العام، ولبث فيه إلى أن توفاه الله تعالى ليلة الاثنين لعشرين من ذي العقدة عام ثمانية وعشرين وسبعمائة هجرية، فكيف رآه ابن بطوطة يعظ على منبر الجامع وسمعه يقول: ينزل .. الخ. 2 - إن رحلة ابن بطوطة مملوءة بالروايات والحكايات الغريبة، ومنها مالا يصح عقلا ولا نقلا، وهو يلقي ما ينقله على عواهنه، ولا يتعقبه بشيء فمن ذلك قوله (¬1): وفي وسط المسجد (أي الأموي بدمشق) قبر زكريا عليه السلام، والمعروف أنه قبر يحيى عليه السلام، وقوله أيضا: وقرأت في فضائل دمشق عن سفيان الثوري أن الصلاة في مسجد دمشق بثلاثين ألف صلاة، وهذا لا يقال من قبل الرأي، وسفيان أجل من أن يفضله على مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى المسجد الأقصى ثالث الحرمين الشريفين وهما لم يبلغ الثواب فيهما هذه الدرجة، كما هو معلوم للمحدثين وغيرهم، ومن نقوله التي أقرها ¬

(¬1) (1/ 54).

• موقفه من المشركين:

ولم ينكرها (¬1) النذور للقبور المعظمة، والوقوف على أبواب الملوك، ومن ذلك النذر لأبي إسحاق، إذا هاجت الرياح في البحار، واشتدت الأخطار، وهو ما لم يبلغه أهل الجاهلية الذين قال الله تعالى عنهم: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬2). 3 - لم يكن ابن تيمية يعظ الناس على منبر الجامع كما زعم ابن بطوطة (¬3) (فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ على منبر الجامع) بل لم يكن يخطب أو يعظ على منبر الجمعة كما يوهمه قوله: ونزل درجة من درج المنبر. وإنما كان يجلس على كرسي يعظ الناس، ويكون المجلس غاصا بأهله، قال الحافظ الذهبي: وقد اشتهر أمره، وبعد صيته في العالم، وأخذ في تفسير الكتاب العزيز أيام الجمع على كرسي من حفظه، فكان يورد المجلس ولا يتلعثم، وكان يورد الدرس بتؤدة وصوت جهوري فصيح، وقال: وفسر كتاب الله تعالى مدة سنين من صدره أيام الجمع. (¬4) واسترسل الشيخ البيطار في رد هذه الفرية من وجوه فمن شاء وقف عليها في كتابه 'حياة شيخ الإسلام'. • موقفه من المشركين: - قال في كتابه 'شيخ الإسلام ابن تيمية': وأقول -تأييدا لما ذكره ¬

(¬1) (1/ 199 - 133 - 136) (¬2) العنكبوت الآية (65). (¬3) (1/ 57). (¬4) حياة شيخ الإسلام ابن تيمية (36 - 37).

شيخ الإسلام-: إن الصحابة الكرام قد تناظروا بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، في أمر الخلافة، وفي جمع القرآن، وفي المعارك الدامية كوقعة الجمل وصفين والنهروان، وتناظر الشيخان في قتال مانعي الزكاة، وفي إرسال جيش أسامة، ولم يستغيثوا به في هذه الشدائد، ولم يستفتوه في شيء منها، وكل هذا معلوم من الدين والتاريخ بالضرورة، ومن العقل والحس والوجدان بالبداهة، فيجب رد ما يتجدد من الوقائع والحوادث إلى الوحي المنزل، وما عرف من سنن الصدر الأول للإسلام. ولو كان ترك وسائل النصر والظفر، والاستنصار بغيره تعالى مفيدا لنا في شيء، لكنا اليوم أسعد الأمم حالا، وأنعمها بالا، وأوفرها عزة وثروة وقوة، ولكن تلك الخطة المعارضة للشرع والطبع والحس التي سلكها أولئك الناس لم تزد الأمة إلا نكالا ووبالا، {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)} (¬1). ثم إن هذا المؤلف (البكري) قد جرى على عرف بعض العلماء المتأخرين الذين جعلوا الاستغاثة به - صلى الله عليه وسلم - وبغيره في معنى التوسل إلى الله تعالى بجاهه وبحقه، كالسبكي في 'شفاء السقام' والقسطلاني في 'المواهب'، ¬

(¬1) الإسراء الآيتان (56و57).

والسمهودي في 'خلاصة الوفا' وابن حجر المكي في 'الجوهر المنظم' وغيرهم. والمراد أنهم يسألون الله تعالى بحقه وجاهه أن تقضى حوائجهم، وسيأتي بحث ذلك. أما الاستغاثة بأهل القبور أنفسهم بمعنى طلب الغوث منهم أي زوال الشدة، وتفريج الهم والكرب، وقضاء سائر الحوائج، فهذه استغاثة شركية، لا تدخل في دائرة الأسباب والمسببات بحال، بل هي توسل الغلاة والجهال في الحضر والسفر، والبر والبحر، والعسر واليسر، والفرج والشدة، ونحن نجل أهل العلم والعقل والإيمان، عن الوقوع في مثل هذا الطغيان والهذيان. (¬1) - وقال: ومن المؤسف جدا عدم الاهتداء بهدي الأنبياء والصالحين، والاكتفاء بتشييد القبور، وجعلها كالقصور والقلاع، والصلاة عندها، والطواف حولها، ونذر النذور لسدنتها، ويرحم الله حافظا القائل: أحياؤنا لا يرزقون بدرهم ... وبألف ألف ترزق الأموات من لي بحظ النائمين بحفرة ... قامت على أحجارها الصلوات والواجب يتقاضى علماء الدين الخالص، والعاملين للمدنية الصحيحة، أن يتعاونوا على إنشاء معاهد علمية في الأقطار الشرقية والغربية، تدعو إلى الله على بصيرة، وتصحح العقائد والعوائد، وتزيل المهالك والمفاسد، وتعيد عهد الأئمة، وتجدد معالم الأمة. (¬2) ¬

(¬1) حياة شيخ الإسلام (ص.62 - 64). (¬2) حياة شيخ الإسلام (ص.70).

حمد بن مطلق بن إبراهيم الغفيلي (1397 هـ)

حمد بن مطلق بن إبراهيم الغفيلي (¬1) (1397 هـ) الشيخ حمد بن مطلق بن إبراهيم بن راشد المحفوظي العجمي، من آل حصنان. ولد في بلدة الرس سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة وألف، قرأ في بلدته، ثم انتقل إلى عنيزة، فلازم الشيخ عبد الرحمن بن سعدي واستفاد منه، وقرأ عليه أمهات الكتب. عين قاضيا في السوارقية سنة ست وأربعين وثلاثمائة وألف، ثم قاضيا في مدينة صبياء، ثم طريف ثم الفوارة ثم أخيرا قاضيا لمحكمة العظيم بمنطقة حائل. كان رحمه الله حسن الأخلاق، محبا للقرآن وكتب السنة، توفي في ذي القعدة سنة سبع وتسعين وثلاثمائة وألف. • موقفه من الرافضة: له من الآثار السلفية: 1 - 'تنزيه جناب الشريعة عن تمويه مذاهب الشيعة'. وهو مقتبس من منهاج السنة. (¬2) صهيب بن محمد الزمزمي بن الصديق الغماري (بعد 1397 هـ) من عائلة الغماريّين المشتهرة بالانحراف السلوكيّ والعقديّ، منّ الله عليه بالبعد عن مخازيهم ونصرة المذهب الحق. جمعنا وإياه مجلس مع الشيخ الألبانيّ حين جاء إلى المغرب. توفي بعد ¬

(¬1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (2/ 116 - 120). (¬2) علماء نجد (2/ 119).

• موقفه من المبتدعة:

سنة سبع وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة. • موقفه من المبتدعة: له رسالة اسمها: 'جماعة التبليغ أو أصحاب الدعوة الباكستانية خطر على المسلمين'. تحدث فيها عن أخطاء هذه الجماعة الدخيلة، وفنّد حججها الواهية، كما بيّن -رحمه الله- خطرها على الإسلام والمسلمين مستدلاًّ على ذلك بالآيات البيّنات والأحاديث الواضحات. - قال رحمه الله في مقدمتها: وقد رغب إليّ كثير من المسلمين القاطنين ببلجيكا وهولندا، وألحوا علي أن أكتب رسالة أبيّن فيها موقف الإسلام من الخروج مع 'جماعة التبليغ' أو 'أصحاب الدعوة الباكستانية' هذا الخروج الذي يزعمون أنه في سبيل الله، وأنه لا يحل المسلم أن يتخلف عنه، ويثيرون بسببه ضجات وفتناً في المساجد ويدعون أنهم على هدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وأنهم الفرقة الناجية! والطائفة المنصورة. حينئذ أخذت أتتبع نشاط هذه الطائفة وأقتفي أثر أفرادها في مجال الدعوة، بغية الحصول على معلومات تمكنني من تسليط الأضواء على هذه الفرقة، والحكم عليها حكماً لا جور فيه ولا شطط. ومن خلال تحادثي مع بعض الأشخاص المنتمين إليهم، وبعد استماعي إلى أحاديث دعاتهم المسجلة على الأشرطة، تبين لي أن 'جماعة التبليغ' أو 'أصحاب الدعوة الباكستانية' أتباع طريقة صوفية جاءت على نمط جديد. وأن انتشارها يضرّ بسمعة الإسلام، كما أن فيه خطراً على المسلمين، وهذا الخروج الذي يلهج به أتباعها في كلّ مكان، ويدندنون حوله في جميع

أحاديثهم ليس إلا وسيلة لضمّ الناس إليهم، وتكثير السواد بهم. وإذ ذاك، لم أجد بدّاً من كتابة هذه الرسالة التي أسأل الله أن يجعلها خالصة لوجهه، ويقبلها مني نصحاً لدينه وللمسلمين. (¬1) -وقال في رد بدعة التمذهب: كما أنه إذا كان الداعي ملتزما في أمور دينه بمذهب معين لا يخالف ما فيه من أقوال وآراء وإن علم أنها غير متفقة مع ما جاء في القرآن أو في السنة، فهذا أيضا لا يجوز له أن يتصدى للدعوى إلى الله، وذلك لأنه إذا دعا الناس وحاله هذه فإنما سيدعوهم إلى ما هو عليه من اتباع النظريات والأفكار المخالفة للكتاب والسنة، والله سبحانه وتعالى إنما أمر أن تكون الدعوة غليه بالكتاب والسنة فقال جل ذكره: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} (¬2). قال ابن جرير: وهو ما أنزل عليه من الكتاب والسنة. والخلاصة أن الدعوة إلى الله وما يتبعها من الأمر والنهي، لا يمكن ولا أن تتحقق بدون هذه الشروط: 1 - الفقه في الدين، ولو فيما يتعلق بالدعوة. 2 - التمسك بالقرآن والسنة قولا وفعلا. 3 - وأن يكون القرآن والسنة في مجال الدعوة وسيلة وغاية، بحيث ¬

(¬1) رسالة جماعة التبليغ (ص.5 - 6). (¬2) النحل الآية (125).

تكون الدعوة إليهما وبهما: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} (¬1).اهـ (¬2) ثم بيّن رحمه الله خطر هذه الجماعة على المسلمين من سبعة أوجه قويّة فقال: لماذا كانت الطريقة الباكستانية خطراً على المسلمين؟ يتميز أتباع هذه الطريقة بخصال: أولها: مخالفة السنة النبويّة، بل محاربتها، فهم لا يعملون إلا بالسنة المقررة في طريقتهم والتي يعمل بها مشايخهم بالباكستان، وما سوى ذلك فهم لا يقبلونه ولا يرفعون به رأساً. (¬3) وقال رحمه الله مبينا منهجه: هذا ونلفت القراء إلى أن الانتقادات التي نوجهها إلى أتباع الطريقة الباكستانية إنما تأتي على ضوء الكتاب والسنة، لا على أساس مبدإ صوفي، ولا ننتمي إلى مذهب؛ بل مذهبنا في الحياة الإسلام: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬4). وطريقتنا فيه العمل بما قام عليه البرهان، وثبتت حجته عن الله ورسوله. وما كان من اختلاف أو تنازع نبحث عن صوابه، ونطلب حله في القرآن، وفيما صح من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ¬

(¬1) النحل الآية (125). (¬2) جماعة التبليغ (ص.10 - 11). (¬3) جماعة التبليغ (ص.23). (¬4) الأنعام الآية (153).

فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (¬1). فهذا ما ننبه إليه، فمن كان ملتزما بذلك فحسبنا به قارئا والسلام. (¬2) - ثم بيّن رحمه الله خطر هذه الجماعة على المسلمين من سبعة أوجه قويّة نذكر بعضا منها: قال رحمه الله: لماذا كانت الطريقة الباكستانية خطراً على المسلمين؟ يتميز أتباع هذه الطريقة بخصال: أولها: مخالفة السنة النبويّة، بل محاربتها، فهم لا يعملون إلا بالسنة المقررة في طريقتهم والتي يعمل بها مشايخهم بالباكستان، وما سوى ذلك فهم لا يقبلونه ولا يرفعون به رأساً. (¬3) وقال: ثانيها: دعوة الناس إلى أمور يسمونها صفات الصحابة، وهي في الحقيقة مبادئ طريقتهم الباكستانية ويزعمون أنه حين لم يعد المسلمون أهلاً لاتباع السنة النبوية قام العلماء بجمع هذه الصفات الستة من حياة الصحابة ليعمل الناس بها! سبحان الله! ما هي شروط اتباع السنة؟ حبذا لو عرفناها!. (¬4) - وقال: ثالثها: اجتراؤهم على تفسير كلام الله تعالى، وشرح معاني آياته وهم جاهلون! حتى إن الواحد منهم لا يكاد يحسن كتابة اسمه، ورغم ذلك، يجلس في المساجد للوعظ والإرشاد، ويشرح للناس -بكل وقاحة! - ¬

(¬1) النساء الآية (59). (¬2) جماعة التبليغ (ص.7). (¬3) جماعة التبليغ (ص.23). (¬4) جماعة التبليغ (ص.25 - 26).

ما يعرض من آيات قرآنية وأحاديث نبوية. (¬1) - وقال: رابعها: الحديث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأحاديث موضوعة مكذوبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل وبما يعرف الناس أنه ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - كالأمثال السائرة، وأقوال بعض الصوفية، والحكم المشهورة بين العامة. وهذه الخصلة من الموبقات المهلكة، والكبائر العظيمة، التي تقذف صاحبها في النار. (¬2) - وقال: سابعها: أنهم لا يرعوون عن قذف أي عالم من علماء المسلمين ورميه بالكفر والإلحاد، والفسق والفجور إذا هو اعترض أفكارهم وأنكر طريقتهم، شأنهم في ذلك شأن اليهود الذين قال عنهم عبد الله بن سلام رضي الله عنه: (إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامي بهتوني) (¬3). وهكذا أتباع الطريقة الباكستانية، فويل منهم للعالم الذي يحذّر الناس من طريقتهم ويردّ عليهم. أخبرني الأستاذ الصمدي أنهم يكفرون الشيخ أبا الأعلى المودودي الكاتب الإسلامي المشهور! ونحن نعلم -مسبقاً- أن المودودي لا ذنب له عندهم إلا أنه يخالفهم، ولا يتفق معهم! وقديماً بلغنا عنهم أنهم يقولون عن الدكتور الهلالي إنه مسيحيّ! والسبب هو هو، فالدكتور الهلاليّ قد عاش مدّة بالباكستان وعرف عنهم ¬

(¬1) جماعة التبليغ (ص.26). (¬2) جماعة التبليغ (ص.27). (¬3) أخرجه: أحمد (3/ 108) والبخاري (6/ 446 - 447/ 3329) والنسائي في الكبرى (5/ 70 - 71/ 8254).

الكثير، فهو لذلك لا يسميهم إلا 'الإلياسيّين' نسبة إلى شيخهم، ويقول: إنهم أصحاب طريقة عصريّة. وفي شهر رمضان من العام الماضي حضر إلى العاصمة البلجيكية عالم من السعوديّة، وألقى دروساً ببعض المساجد هناك، ولما رأى هؤلاء الباكستانيون إعراضه عنهم، وإنكاره لما هم عليه، أشاعوا عنه إشاعة قبيحة توحي بأنه رجل فاسق! {إِن الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ (19)} (¬1). فبوجود تلك الخصال في أتباع الطريقة الباكستانية كانت هذه الطريقة خطراً على المسلمين، إذ أنها لو ظهرت -والحالة هذه- وانتشرت -لا سمح الله بذلك- بين جميع المسلمين، لأصبحت الأمة الإسلامية أذلّ أمة على وجه الأرض، ضعيفة في دينها وعقيدتها، تحارب السنة، وترغب عنها، وتنصر البدعة، يتجاسر الجاهلون منها على تفسير كلام الله تعالى ولا يهابونه، ويكذبون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يبالون، يتنصلون من مسؤولياتهم، ويهربون من واجبات الحياة باسم الدين، ويستحلّون الكذب، ويستبيحون الافتراء على الله والناس. وبذلك، ينزل المسلمون إلى الدرك الأسفل من التخلف والانحطاط، ولا يبقى أي أمل في النهوض بهم بعد أبداً، وذلك بالذات، هو ما يتمناه أعداء الإسلام ويودون وقوعه. (¬2) ¬

(¬1) النور الآية (19). (¬2) جماعة التبليغ (ص.37 - 39).

محمد كنوني المذكوري (1398 هـ)

محمد كنوني المذكوري (1398 هـ) محمد بن محمد بن العربي كنوني المذكوري، الفقيه العلامة. كان رحمه الله عضواً بارزاً في الأمانة العامّة لرابطة علماء المغرب، له مجموعة فتاوى نشرت في جريدة 'الميثاق' لسان رابطة علماء المغرب، ثم طبعت مستقلة. وقد قال الشيخ عبد الله كنون في تقريظه لها: والآن يقوم بهذه المهمة -أي الفتوى- فضيلة الفقيه العلامة الحاج محمد كنوني المذكوري الذي أبدى كفاءة ومقدرة عديمتي النظير في هذا الباب مع غاية التثبت وعدم الاندفاع في هذه الجهة أو تلك بمجرد الرغبة في الخلاف أو إرادة الشهرة؛ كما يقال: خالف تعرف. بل إن دافعه إحقاق الحق وبذل الجهد في إصابة حكم الله في المسألة من غير تعصب ولا تحامل، وفتاواه المنشورة في هذه المجموعة؛ وهي الدفعة الأولى دليل على ذلك، فالله يديم توفيقه وتسديده ويطيل بقاءه في صحة وعافية للنفع وخدمة العلم بهذه الروح العالية والهمة الصادقة، إنه تعالى سميع مجيب. توفي رحمه الله ليلة الجمعة لست وعشرين خلون من شهر محرّم سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة بمدينة الدار البيضاء. • موقفه من المبتدعة: له رسالة الفتاوى أبدى فيها مؤلفها نصاعة المنهاج الذي يجب على المسلمين أن يسيروا عليه، ألا وهو التمسك بالدليل مع الاسترشاد بفهم

السلف رحمهم الله. (¬1) - قال المذكوري في مقدمة فتاواه: وقد سلكت في ذلك سلوك الاستدلال بكتاب الله تعالى، وبحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم بكلام الفقهاء بعد ذلك، بعد مقابلته بالأصول المبني عليها، إذ من المعلوم المقرر من أقواله وأفعاله وتقريراته - صلى الله عليه وسلم - أن ما كان عليه هو وأصحابه رضي الله عنهم، هو هذان الأصلان الأولان للتشريع الإسلامي، فكيف يمكن إذن للمسلم أن يدع هذين الأصلين الصحيحين إلى أقوال البشر المعرضة للخطإ، وكيف يمكن لأهل العلم أن ينفر بعضهم ممن يدعو إلى العمل بكتاب الله الكريم وبالسنة المطهرة ويسلك السبيل الذي أراده بعض الإخوان من الفقهاء حيث انتقدوا هذا السلوك الذي يخالف رغبتهم في التقيّد بالتقليد الأعمى المحرّم كتاباً وسنة، وطالما أقنعناهم بأن يراجعوا الأصول التي بنى عليها الفقهاء الكبار رحمة الله عليهم مذاهبهم، فإن وجدوا الفروع موافقة لأصولها فذاك، وإلا فالرجوع إلى الأصل والصواب أفضل من التمادي على الباطل، ولكنهم لم يقتنعوا بحجة ذلك التقليد، ويزداد العجب عندما نجد أن بعض الإخوان لازالوا يسيرون في نفس هذا الاتجاه ولو كان مخالفاً للمصدرين المذكورين أو لأحدهما حتى صار الناس فرقاً مختلفة متناحرين، مع أن دستورهم الخالد هو كتاب الله القائل: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ¬

(¬1) وزيّنها تقديم الأمين العام لرابطة علماء المغرب عبد الله كنون الذي حثّ الفقهاء في مقدمته على وجوب إرداف الفتوى بدليل من الكتاب والسنة والابتعاد عن التقليد.

وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} (¬1)، والقائل: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)} (¬2)، والقائل: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} (¬3) الآية، كما أن حديث رسولهم - صلى الله عليه وسلم - واحد، وهو المبيّن لكتاب الله كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬4). إلى أن قال: ولذلك فإننا ندعو على سبيل الذكرى التي تنفع المؤمنين جميع إخواننا المسلمين إلى مراجعة ما هم عليه من هذا التقليد بحيث يعرضون أعمالهم وسلوكهم على كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وعلى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وعلى ما استخرجه السادات العلماء رحمهم الله من ذلك. ¬

(¬1) المائدة الآيتان (49و50). (¬2) الجاثية الآية (18). (¬3) القصص الآية (50). (¬4) النحل الآية (44).

ومن أجل هذا وشبهه، اقترح علينا بعض إخواننا من أهل العلم وبعض المنتسبين للسنة المطهرة والعاملين بها من الطلبة وغيرهم، طبع هاته الأجوبة عسى أن يسترشد بها أصحاب العقول النيرة ويهتدي بها من هم في حيرة والتباس فأسعفت طلبهم رجاء ثواب الله تعالى. (¬1) - وقال رحمه الله ناصحاً الدعاة إلى الله: ومما ينبغي له أيضاً، بل يجب، هو اهتمامه بمسألة العقيدة، فهي أهم كل شيء، ولاسيما وقد انهارت من قلوب الكثير من الناس كما وقع لبعض الشباب الصاعد بسبب أنه لم يدرسها أصلاً أو درسها دراسة غير كافية أو منحرفة، أو كما وقع لبعض الشباب البريء، وكثير من الشيوخ والنساء والكهول، حيث يعتقدون اعتقادات ضالة لا يقرها ديننا الحنيف، ومن أجل هذه العقيدة، بعث الله الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، إلى أقوامهم ليعبدوا الله مخلصين له الدين، صارخين فيهم: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وكلنا نعلم ما وصلت إليه عقيدة الشعوب من عبادة القبور والقباب، مما تضيق من ذكره الصدور، ومن أعجب ما يستغرب، أن هذا القرآن الكريم، وإن كان مرّ على نزوله أربعة عشر قرناً، وهو يقرأ في كلّ وقت وحين، مندّداً ببطلان علة عابد الأصنام حيث قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (¬2) قلت: ومع تكرارها بالألسنة، وعلى الآذان والعقول والأفهام، لازال عباد القبور ¬

(¬1) الفتاوى (ص.7 - 9). (¬2) الزمر الآية (3).

والقباب، يتعللون بتلك العلة، فقد امتزجت بقلوبهم وعقولهم، ولذلك فاستئصالها من عقولهم أمر عسير، يحتاج إلى عناء كبير وحكمة وتبصّر، وخبرة باقتلاع جذورها من صدورهم، إذ ليست مرضاً كالأمراض العاديّة التي تعالج بالحبوب أو السوائل أو المسكنات، بل تحتاج إلى عملية جراحية، وأطباء ماهرين في اقتلاع ذلك بحكمة وأناة وصبر، وأنتم أيها العلماء والمرشدون وأمثالكم، هم الصالحون لإزالة ذلك المرض، فهيئوا لذلك نفوسكم، وسووا لها صفوفكم ووحدوا خطتكم ومعكم الله ورسوله والمؤمنون، {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} (¬1)، ومما ينبغي له كذلك، أن يقتصر على موضوع واحد بحيث يستحضر عناصره وأصوله، ويحلله تحليلاً سهلاً مبسطاً مع ضرب الأمثال ما استطاع، بحيث يتحدث إلى القلوب، فتنجذب إليه قبل الآذان، وأن يتجنب الألفاظ القاسية الشديدة التي ينفر منها الطبع ولا يستلذها الإحساس والسمع، فصاحبها كالطبيب اللبيب يستعمل لمريضه الدواء المر واللسان الحلو، ومما ينبغي له الاقتصار على الأحاديث الصحيحة أو الحسنة، وما أكثرهما ولله الحمد، ففيهما كل كفاية، وذلك مخافة أن تحدثهم بالحديث الضعيف، فيسألوا غيرك، وما أكثر هذا الصنف من الناس، فإذا ما أخبرهم بضعفه، فإن هذا الضعف يشملك أنت أيضاً فيصير الكلّ ضعيفاً فترتفع الثقة منك وعدم الاطمئنان إليك، فحذار ¬

(¬1) الصافات الآيات (171 - 173).

حذار. (¬1) وقال رحمه الله بعد ذكر قول الأئمة في نبذ التقليد: فهذه أقوالهم وأفعالهم، وهم قادة الأمة وسادتها، فليتأمل المتأمل المنصف ذلك وليقس عليه أفعال الناس اليوم وأقوالهم من ملازمتهم لهذا التقليد الأعمى حتى ولو خالف الكتاب والسنة، وهذا الشيء عشناه وشاهدناه، ولم نجد أيام دراستنا إلا مثل هذا التقليد، إلى أن قيّض الله تعالى لهذا الشعب المغربيّ النبيل أحد أبنائه البررة الإمام شيخنا وشيخ الإسلام المحدث الحافظ، أبا شعيب الدكالي رحمه الله وجزاه خير ما يجازي به كل مصلح، فقد كانت دروسه برداً وسلاماً على قلوب المنتبهين والحائرين وجحيماً على المقلدين الجامدين، حيث حمل على البدعة والتقليد، وندّد بأصحابهما أيما تنديد، فانبثقت من درسه عدة دروس، اشتاقت لسماعها الكثير من النفوس، وخفقت أعلام السنة في المدن والبوادي وغنّى لها كل من الرائح والغادي، وأدبرت فلول البدعة تتعثر في أثواب الخجل والوجل، وتمت كلمة الله عز وجل، فله على هذا الشعب الفضل العظيم، وسيلقى جزاء ذلك عند الله الغفور الرحيم، فزالت بذلك عن كثير من القلوب الغباوة، وعن أعين الكثير الغشاوة، فالواجب على من بيدهم مقاليد أمور المسلمين أن يسعوا لجمع كل من فيه أهلية المجتهد أو حتى نصف المجتهد على القول به، لينظروا أو يسيروا في هذا الطريق السويّ بدافع الضرورة، أو لما حدث ويحدث في جميع بلاد الإسلام من وقائع ¬

(¬1) الفتاوى (ص.88 - 90).

ومستحدثات. (¬1) وقال في تقريظه لرسالة ابن تاويت التطواني حول البناء على القبور والصلاة إليها: الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه. أما بعد: فقد راجعت ما كتبه وحرره فضيلة الفقيه العلامة أحمد بن محمد بن تاويت التطواني في رسالته المسماة 'إخراج الخبايا في تحريم البناء على القبور والصلاة بالزوايا'؛ رادا فيها على من أجاز ذلك معتمدا على قول الشيخ خليل والمدونة أولا، وسكوت علماء فاس على تنبيه الناس على صحة صلاتهم بضريح المولى إدريس وغيره ثانيا. ولقد أجاد حفظه الله وأتى بالنصوص المستمدة من الينبوع الصافي السلسبيل؛ كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يشفي الغليل ويبرئ العليل. وأسمع لو نادى حيا ... ولكن لا حياة لمن يُنادي {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} (¬2) إذ التقليد الأعمى سرى في أمزجتهم وعقولهم، وامتزج بدمهم ولحمهم، فلا تنفع فيهم أدلة الكتاب الكريم ولا سنة رسوله، ولا أقوال وأفعال الخلفاء الراشدين، ولا العشرة المبشرين بالجنة، ولا سائر الصحابة والتابعين وأتباعهم الذين هم خير القرون بشهادته - صلى الله عليه وسلم -. هذا، وإنني كنت سئلت عن مثل ما جاء في الرسالة المذكورة من بعض ¬

(¬1) الفتاوى (ص.187 - 188). (¬2) الأنفال الآية (23).

النواحي، فأجبت بمثل ما أتى في هاته الرسالة، كما أنني كنت أقرر ذلك غير ما مرة سواء في الدروس أو في المجتمعات. ومع ذلك لا زالوا نائمين وعن التذركة معرضين، ثم إنه كيف يعقل أن يترك كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المعصوم من الخطإ؛ وفعله وتقريره إلى قول فلان وسكوت فلان وفلان؟ وهل يتصور أن يرجح سكوت العلماء، ويرمى بما نطق به هذا الرسول الكريم وطبقه في أقواله وأفعاله، ويضرب بذلك كله عرض الحائط؟ {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} (¬1). ثم هل هذا منهم يعد عنادا وتحديا لكلام الله تعالى في قوله: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬2) وفي قوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ} (¬3) وفي قوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} (¬4) إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث؟ فإن كان الأمر كذلك فإني أخشى عليهم من قول الله تعالى كما في سورة المجادلة: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ ¬

(¬1) آل عمران الآية (8). (¬2) الحشر الآية (7). (¬3) الأحزاب الآية (21). (¬4) النور الآية (63).

وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (¬1) إلخ. وفيها أيضا: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20)} (¬2) إلخ. وقد تكرر نهي الله تعالى في كثير من آيات كتابه عن التقليد. ففي سورة البقرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)} (¬3) وفي سورة المائدة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)} (¬4) وفي سورة لقمان: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)} (¬5) وفي سورة الزخرف: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا ¬

(¬1) المجادلة الآية (5). (¬2) المجادلة الآية (20). (¬3) البقرة الآية (170). (¬4) المائدة الآية (104). (¬5) لقمان الآية (21).

وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)} (¬1) إلى غير ذلك. ونحن من جهتنا لا نحب أن نثير هنا الجدال والإكثار من قيل وقال. فالصبح واضح لكل ذي عينين، وإنما نقول لهم: ارجعوا إلى كتاب ربكم وسنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم -، فهما الأصلان الأولان لهذا التشريع الإسلامي الحكيم؛ الصالح لكل زمان ومكان وشخص. إذ فيهما من الأسرار الإلهية ما هو كفيل بإسعاد البشرية، وفيهما ما بينه رسول الله عليه السلام، امتثالا لقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} (¬2) ومن جملة ما بينه شروط سائر العبادات؛ فمن أداها بشروطها فقد امتثل الأمر، ومن لم يطبقها فلا عبادة له؛ إذ من المعلوم أن الشرط يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته. ففي الصلاة مثلا بينها بأقواله وطبقها بأفعاله وأكد ذلك قائلا: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬3)، ومن جملة أقواله النهي عن الصلاة في المقابر كما وضحه صاحب الرسالة، وفي الصوم قال: «كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش» (¬4)، ¬

(¬1) الزخرف الآيات (22 - 25). (¬2) النحل الآية (44). (¬3) أخرجه أحمد (5/ 53) والبخاري (2/ 142/631) من حديث مالك بن الحويرث. (¬4) رواه ابن ماجة (1/ 539/1690) والنسائي في الكبرى (2/ 239/3249) من حديث أبي هريرة. وصححه الحاكم (1/ 431) على شرط البخاري، ووافقه الذهبي. وابن خزيمة (3/ 242/1997).

وفي الحج: «خذو عني مناسككم» (¬1)، وأكد ذلك بفعله إلخ. والله تعالى لما كرر المحافظة على الصلاة فقال في سورة البقرة: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (¬2) إلخ. وفي الأنعام: {وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)} (¬3) وفي سورة المؤمنون: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)} (¬4) وإني لأتعجب كثيرا لهذا المصلي المسكين الذي يتعب نفسه في استعمال الطهارة، وفي خروجه إلى الصلوات ولكن يوقعها وهو مخالف لأوامر ربه في قوله: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬5) ومخالف لنهي نبيه كما جاء في أحاديث تلك الرسالة. هذه نصيحتنا لإخواننا المسلمين، إذ نحن ملزمون بأدائها عملا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «الدين النصيحة» (¬6) وعملا بقوله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} (¬7) ¬

(¬1) أحمد (3/ 301) ومسلم (2/ 405/1970) والترمذي (3/ 234/886) والنسائي (5/ 298/3062) وابن ماجه (2/ 1006/3023). (¬2) البقرة الآية (238). (¬3) الأنعام الآية (92). (¬4) المؤمنون الآية (9). (¬5) الحشر الآية (7). (¬6) أخرجه من حديث تميم الداري: أحمد (4/ 102) ومسلم (1/ 74/55) وأبو داود (5/ 233 - 234/ 4944) والنسائي (7/ 176 - 177/ 4208و4209). (¬7) سورة العصر.

موقفه من المشركين:

ونحن نرجو الله تعالى أن لا نكون نحن ولا هم من الخاسرين. هذا ما يتعلق بالصلاة على القبور قدمتها لأهميتها. أما البناء على القبور سنقول فيه ما قلنا في شأن الصلاة، إذ كل ذلك مخالف للشرع، كما قاله وبينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكما هو مبين كذلك في الرسالة المشار إليها، فلا داعي للتطويل بجلب الأولى على ذلك، والاستدلال {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} (¬1). كما له فتاوى في بدعية رفع الصوت وراء الجنائز، وبدعية قراءة القرآن جماعة وغيرها. موقفه من المشركين: - له رحمه الله 'التحريف والتدجيل في كتابي التوراة والإنجيل' بيّن فيه ما وقع من التحريف في التوراة والإنجيل وأنهما لم يبقيا على أصلهما الصحيح. وهذا الأمر أوضح من أين يذكر، فإن الله جلّ وعلا قد ذكره في كتابه، ومع ذلك نجد من يشكّ أو يشكّك في ذلك، فيدعو الناس إلى التقارب المزعوم بين الأديان السماوية، وكأنها لا زالت على ما كانت عليه، فلينتبه العاقل لهذا!. موقفه من الصوفية: قال: أما ما ذكره السائل من ذلك الرقص الفظيع والتلفظ بقولهم: "هي الله" فذاك شيء شنيع، فتبّاً له من تعبير، وتعالى الله عن فحش ذلك الضمير، أفلا يخشى الإنسان من هذا، والله تعالى يقول: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا ¬

(¬1) يونس الآية (32).

مبارك بن عبد المحسن بن باز (أواخر القرن الرابع عشر الهجري)

وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)} (¬1)، وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَن مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَن اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)} (¬2) إلخ. فكيف إذاً يحصل الخشوع الذي يظنه السائل، وهم على الحالة الموصوفة، بل ذلك شيء آخر أصون القلم عن تسطيره، وخير لهم كذلك أن يجتمعوا على ذكر الله تعالى، ولاسيما بالأذكار الواردة عن الرسول عليه السلام. (¬3) مبارك بن عبد المحسن بن باز (¬4) (أواخر القرن الرابع عشر الهجري) الشيخ مبارك بن عبد المحسن بن باز. ولد في بلدة الحلوة سنة ثلاث وثلاثمائة وألف، ونشأ فيها. قرأ على الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف والشيخ إسحاق بن عبد الرحمن والشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف والشيخ حسن بن حسين آل الشيخ وغيرهم. كان والده هو قاضي بلدة الحلوة، فلما توفي تولى القضاء بعده، ثم تقلب في قضاء عدة بلدان آخرها قضاء مقاطعة الشعيب. كان رحمه الله أحد العلماء الذين بعثهم الإمام عبد العزيز بن سعود لمناظرة علماء مكة في مسائل ¬

(¬1) الأنعام الآية (65). (¬2) الحج الآية (62). (¬3) الفتاوى (ص.118 - 119). (¬4) علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/ 425 - 426).

موقفه من المشركين:

التوحيد. توفي رحمه الله في بلدة الحلوة في آخر القرن الرابع عشر الهجري. موقفه من المشركين: جاء في علماء نجد: ولما تولى الإمام عبد العزيز بن سعود على الحجاز عينه قاضيا في الطائف، وهو أحد وفد العلماء الذين بعثهم الإمام عبد العزيز ابن سعود ليناظروا علماء مكة في مسائل تتعلق بتحقيق التوحيد، وهذا قبل ولاية الإمام عبد العزيز بن سعود عليها، فاجتمعوا بهم وناظروهم، وظهر الحق بالجانب السعودي النجدي. (¬1) محمد أسلم الباكستاني (حوالي 1400 هـ) الشيخ محمد أسلم عرفته طالبا بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية وكان رحمه الله من الطلبة المحبين لمنهج السلف وتخرج من الجامعة الإسلامية، وذهب داعية إلى كندا، وكان مجتهدا في الدعوة إلى الله، ويعتبر أول من كتب عن جماعة التبليغ، وكان كتابه دراسة على جماعة التبليغ، تقدم به لنيل الإجازة بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية، وهو بعنوان 'جماعة التبليغ عقائدها وأفكارها ومشايخها'. وكان هذا الكتاب أصلا لكل كاتب على هذه الجماعة في بيان ضلالاتها وخرافاتها وعداوتها للمنهاج السلفي. وهو الذي اعتمده شيخنا الهلالي رحمه الله في كتابه السراج المنير في تنبيه جماعة التبليغ على أخطائهم. ¬

(¬1) علماء نجد (5/ 426).

موقفه من المبتدعة:

مات رحمه الله مقتولا في كندا على يد جماعة أثيمة عاملها الله بما تستحق. موقفه من المبتدعة: قال رحمه الله في معرض رده على الديوبندي شيخ طائفة التبليغ: "استدلاله بالآية المحرفة": كل واحد يعرف الشيخ محمود حسن ديوبندي "يسمونه شيخ الهند" الذي كتب كتاب 'إيضاح الأدلة' ردا على عالم سلفي استدل على رد التقليد بآية: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} (¬1). فقام الشيخ محمود حسن فرد على العالم المذكور، واستشهد بنفس الآية على ادعائه، لكن زاد فيها: ((وإلى أولي الأمر منكم)) زاعما أن هذا من الآية، مع أنه ليس من الآية. ثم قال: هذا هو السبب لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ((وإلى أولي الأمر منكم .. )) والظاهر أن (أولي الأمر) في الآية غير الأنبياء، فانظر إلى الآية يتضح بها أن الأنبياء وأولي الأمر كلهم يجب اتباعهم. -ثم بدأ معترضا- أنك قد عرفت: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ}، ولم تعرف إلى الآن أن القرآن الذي وجدت فيه هذه الآية [توجد فيه الآية] المذكورة التي استدللت بها، وليس بعجيب أن ترى التعارض بين الآيتين جهد ¬

(¬1) النساء الآبة (59).

عادتك، فنفتي بأن تكون إحداهما ناسخة والأخرى منسوخة. انتهى ويثار السؤال على هذا الاستدلال بأن الآية الثانية التي زاد فيها الشيخ محمود حسن الديوبندي واستدل بها في أي جزء من القرآن وفي أي مصحف؟! وقد نشر الكتاب باسم الشيخ محمود حسن، والأغلب أنه نشر في قيد حياته وقرأه تلامذته من العلماء والمشايخ، ومن الديوبنديين وجماعة التبليغ، فهل وفق أحدهم أن يصلح هذه الهفوة "التحريف"؟. (¬1) -وقال في ترجمة أحد شيوخ جماعة التبليغ -الشيخ محمد يوسف البنوري الحنفي الديوبندي الجشتي-: إنه من شيوخ جماعة التبليغ، وحكي عنه خرافات كثيرة من مكالمة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ ومن ذلك: أنه يؤيد ابن عربي الحاتمي القائل بوحدة الوجود، كما أنشد في كتاب الفتوحات المكية من شعره، بل من بعره: العبد رب والرب عبد ... إن قلت عبد فذاك حق ... يا ليت شعري من المكلف ... أو قلت رب أنى يكلف وقال فيه الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني في داليته المشهورة التي مدح بها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تعالى: وأكفر أهل الأرض من ظن أنه مسماه كل الكائنات بأسرها ... إله تعالى الله جل عن الند من الكلب والخنزير والفهد والقرد (¬2) ¬

(¬1) السراج المنير لتقي الدين الهلالي (ص.54 - 55). (¬2) السراج المنير (ص.80).

القرن 15

عبد الله بن عبد الرحمن بن جاسر (¬1) (1401 هـ) الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جاسر بن محمد بن جاسر، ولد في شهر محرم سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة وألف في بلد أشيقر، ونشأ بها وطلب العلم، فلازم الشيخ إبراهيم بن صالح بن عيسى ملازمة تامة دامت ست عشرة سنة، وقرأ عليه كتبا كثيرة في التوحيد والنحو والفقه والحديث والتفسير، كما أخذ عن الشيخ العالم محمد الطيب الأنصاري المدني. تولى القضاء بالمستعجلة بمكة سنة خمسين وثلاثمائة وألف للهجرة، ثم بالطائف ثم بالمدينة النبوية، فمكث بها سبع سنين، ثم صار رئيسا لمحكمة التمييز بالمنطقة الغربية وعضوا في مجلس القضاء. توفي رحمه الله سنة إحدى وأربعمائة وألف، وصلي عليه في المسجد الحرام بمكة المكرمة. موقفه من الجهمية: له: 'تنبيه النبيه والغبي فيما التبس على الشيخ المغربي'. رد فيها على شيخ مغربي أنكر تكليم الله لموسى، وزعم أن جبريل عليه الصلاة والسلام إنما أظهر لموسى كلام الله من اللوح المحفوظ. (¬2) ¬

(¬1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (4/ 193 - 199). (¬2) علماء نجد (4/ 196).

عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن حميد (1402 هـ)

عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن حميد (¬1) (1402 هـ) الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حميد، من آل حسين بن عثمان. ولد في ذي الحجة سنة تسع وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة، في بلدة معكال من الرياض، وكف بصره في طفولته، وطلب العلم، فأخذ عن مشايخ كبار أمثال الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ والشيخ سعد بن عتيق والشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ وغيرهم. عين قاضيا في الرياض، ثم نقل إلى قضاء مقاطعة سدير، ثم إلى مقاطعة قصيم، ثم عين رئيسا للرئاسة العامة للإشراف الديني على المسجد الحرام، ثم رئيسا لمجلس القضاء. لازم الشيخ محمد بن إبراهيم ملازمة تامة، فأصبح من كبار علماء الإسلام، وكان ولاة الأمور يجلونه ويعظمونه لسعة علمه، حتى قال في حقه الملك عبد العزيز آل سعود: لو كنت جاعلا القضاء والإمارة جميعا في يد رجل واحد، لكان ذلك هو الشيخ عبد الله بن حميد. قال الشيخ عبد الله البسام: شخصية سماحة الشيخ عبد الله تتميز بعدة صفات يصعب إجمالها، فإذا أردنا أن نعدد صفاته ومميزاته لاحتجنا لعدة مؤلفات فهو كبير في أشياء كثيرة، كبير في شخصيته وعلمه الغزير فهو يتميز عن الآخرين بعدة صفات وسمات تجعله مميزا عن غيره، فهو يتميز بالذكاء والدهاء والعقل الحكيم وقوة الرزانة وغير ذلك من الصفات العديدة التي كنت أدعو الله عز وجل أن أحصل على أية صفة منها. ¬

(¬1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (4/ 431 - 445) وإتحاف النبلاء (1/ 161 - 169).

موقفه من المبتدعة:

كان رحمه الله حاد الذكاء، جيد الفهم، واسع الاطلاع، ما زال خادما للعلم حتى توفي سنة اثنتين وأربعمائة وألف. موقفه من المبتدعة: له من الآثار السلفية: 1 - 'الدعوة إلى الجهاد في الكتاب والسنة'. 2 - 'كمال الشريعة وشمولها لكل ما يحتاجه البشر'. 3 - 'دفاع عن الإسلام'. (¬1) وغيرها. جاء في علماء نجد خلال ثمانية قرون: رزقه الله بصيرة نافذة، يعرف الدعاة الحقيقيين الناصحين المخلصين، بحيث يميزهم من أهل التمويه والخداع، لا يمكن أن يُستغفل، فهو كيّس فطِن، يزوره الكثير من أهل العلم، وممن ينتسبون إلى جمعيات وأحزاب من الشرق والغرب، فيتعرف المصيبَ من غيره. وكان يرى اتحاد المسلمين هو العلاج الوحيد لنصرة المسلمين، وأن الإسلام ليس فيه تحزب ولا تفرق، وهو بهذه النظرة البعيدة نال إعجاب المسلمين عامة، وثقة شعب المملكة خاصة. وكان يحرص على توجيه الشباب ونصحهم بالتعقل والرزانة، فالشباب في الغالب تكون عندهم عجلة، وعدم تفكير في العواقب، مع حبهم للخير، وحرصهم على الدعوة إلى الله، فكان رحمه الله يشجعهم، ولكنه ينصحهم بالتثبت والهدوء، وعدم العجلة، ويحذرهم من التهور، ويحثّهم على الاستقامة، والتأدب بآداب العلماء، وينصحهم بسلوك العلماء، وعلى ألا ¬

(¬1) علماء نجد (4/ 440).

يوسف بن عبد المحسن أبا بطين (1403 هـ)

يأخذوا العلم إلا عن أهله المعروفين، وألا يأخذوه عن الجهال والأدعياء. وكان رحمه الله يكره الفتن، ويكره إثارتها، ويجعل قاعدة: "درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح" نصب عينيه. (¬1) يوسف بن عبد المحسن أبا بطين (¬2) (1403 هـ) الشيخ يوسف بن عبد المحسن بن إبراهيم بن عبد العزيز أبا بطين، ولد في الزبير سنة ستين وثلاثمائة وألف للهجرة، ونشأ بها. أخذ عن والده الشيخ عبد المحسن أبا بطين والشيخ محمد بن سند وغيرهما. له مؤلفات تدل على تمكنه وسعة اطلاعه. توفي رحمه الله في بلده الزبير سنة ثلاث وأربعمائة وألف من الهجرة. موقفه من الخوارج: جاء في كتاب علماء نجد (¬3): ألف كتابا بين فيه مذهب الخوارج، وفساد عقيدتهم ورد عليهم رد العالم المتمكن، وقد طبع الكتاب وحصلت منه الفائدة. أحمد الخريصي (بعد 1403 هـ) تخرج من كلية القرويين قديما، ومن دار الحديث الحسنية بالرباط، وكان أستاذا بالمعهد العلمي بمكناس، وانخرط في سلك العدلية، واشتغل لمدة ¬

(¬1) علماء نجد (4/ 438 - 439). (¬2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (6/ 507 - 508). (¬3) علماء نجد (6/ 507 - 508).

موقفه من المبتدعة:

سنتين مدرسا بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية ابتداء من إحدى وأربعمائة وألف للهجرة. موقفه من المبتدعة: قال رحمه الله متعقبا على ما كتبه أحمد بن المواز في مشروعية الاحتفال بالمولد: (الأعياد الشرعية اثنان لا ثالث لهما. وبالنسبة للنص الثاني: 1 - فقول أحمد بن المواز: "أن أول من احتفل بالمولد في المغرب أبو يعقوب المريني"، يرد بأن قرار أبي يعقوب المريني لا يضفي صفة المشروعية على الاحتفال بالمولد النبوي، إذ الاحتفال ليس بمصلحة دنيوية تدخل في نطاق الدليل المرسل الملائم لتصرفات الشرع، بحيث يصح لولي الأمر البت فيه، وإنما هو عبادة يرجع في شأنها إلى التوقيف فلا عبادة إلا على أساس نص. 2 - وقوله: " .. وإلحاقه بأعياد المسلمين .. " صريح في أن الاحتفال بالمولد النبوي تقرر بصفة رسمية عيدا ثالثا من أعياد المسلمين. وهذا هو المعروف بمغربنا الأقصى إلى -الآن- يحتفلون بثلاثة أعياد: عيد الفطر، وعيد الأضحى، وعيد المولد النبوي يوم 12 من ربيع الأول. وهذا هو المعتقد لدى عامة الناس بما فيهم سلطة حاكمة وعلماء إلا الأقل من القليل يعرفه بدعة، ولكن لايستطيع أن يجهر بالحق لأنه مقيد بدافع من الدوافع مما أشار إليها الشوكاني أعلاه .. إن اعتقاد اليوم الثاني عشر من ربيع الأول كعيد ثالث؛ اعتقاد خاطئ لايستند إلى دليل، بل يعتبر اتخاذا لشرع لم يأذن به الله من تخصيص زمان بما

لم يخصه به الله، الشيء الذي يؤدي إلى وقوع ما وقع فيه أهل الكتاب .. على أن النص على حصر الأعياد الشرعية في عيدين واضح لا يقبل التأويل، فقد ورد عن أنس رضي الله عنه قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ولهم يومان يلعبان فيهما فقال: «أبدلكم الله بهما خيرا منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر». أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح (¬1). إن الأعياد -كما قلنا أعلاه- شريعة من الشرائع يجب فيها الاتباع لا الابتداع، وما أكثر الأحداث، والوقائع والعهود والانتصارات التي مرت بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلال إبلاغه الدعوة إلى الناس، وهي مذكورة في سيره ومغازيه - صلى الله عليه وسلم -. مثل: غزوة بدر، وحنين، والخندق، وبيعة الرضوان، وفتح مكة، ووقت الهجرة ودخول المدينة .. إلى غير ذلك .. ولكنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر باتخاذ أيامها أعيادا، أو ذكريات، ولا فعلها خلفاؤه الراشدون، ولا الدول الإسلامية ذات القرون الثلاثة الأولى المفضلة ... وإنما يفعل مثل هذه الموالد النصارى، الذين يتخذون أيام أحداث عيسى عليه السلام أعيادا .. حتى أصبحت كل الدول الإسلامية وبعض الأفراد من شعوبها في عصرنا الحاضر تقلد أوروبا المسيحية في إقامة الأعياد للموالد والوقائع والأحداث .. وفي هذا المعنى ورد الحديث الشريف الذي رواه البخاري ومسلم: أن ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (3/ 250) وأبو داود (1/ 675/1134) والنسائي (3/ 199/1555) والحاكم (1/ 294) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي".

النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم»، قلنا: يا رسول الله؟ اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟» (¬1). 3 - وقوله: " ... وكان الاهتمام بذلك عند كثير من شيوخ التربية" بمقتضى أن المتصوفة هم الذين قرروا بدعة الاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك لنفوذهم المعنوي على الجمهور .. 4 - وقوله: " .. وكان عدد من الناس يحتفلون له في اليوم السابع من المولد لكونه يوم عقيقة مولانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأهل القصر الكبير ومن وافقهم .. يقتضي أن الاحتفال بيوم 12 من ربيع الأول لم يكن متفقا عليه بالمغرب الأقصى .. فها نحن نرى سكان القصر الكبير الذي كان أحد معاقل المتصوفة، وبقية الجهات التابعة له كانوا يحتفلون باليوم السابع، أي يوم الثامن عشر من ربيع الأول، الأمر الذي يؤكد مدى استيلاء الجهل على الناس، مما جعلهم منقادين لأهوائهم، وإيحاءات شياطينهم .. (¬2) - وقال داحضا شبهة تعلق بها أصحاب الاحتفال بالمولد:" غير أنهم أجابوا: أنهم قصدوا بـ "الاحتفال" التعبير عن محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي هي واجبة على كل مسلم؛ وجوبا مقدما على نفسه وولده ووالده والناس أجمعين .. ¬

(¬1) أخرجه من حديث أبي سعيد: أحمد (3/ 84،89) والبخاري (13/ 371/7320) ومسلم (4/ 2054/2669). (¬2) المتصوفة وبدعة الاحتفال بمولد النبي (ص.120 - 122).

ورد بأن ما قصدوه خطأ، وأن محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هي في الاتباع لا في الابتداع، وأن الاتباع المطلوب شرعا هو اتباع أوامر الله ورسوله، واجتناب نواهي الله ورسوله، وقد قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)} (¬1) وقال عز من قائل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (¬2). إن محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تعبر عنها تلك المظاهر المزرية، التي تتجلى في المهرجانات التي تقام عادة بهذه المناسبة بين ساحات المدن والقرى الغاصة بحلقات أهل الفساد والبدع، والمتمثلة في قرع الطبول، ونفخ المزامير والأبواق، وشدخ الرؤوس، والضرب على الصدور والزعق، وشق الجيوب، والتشبه بالحيوانات الشاردة أو المفترسة من كل ما يفعله الجهلة الهمج. كما لا تعبر عنها تلك الاحتفالات التي تقام في الأضرحة وبعض الأربطة التي أسسها الطرقيون، كمساجد للضرار تضايق المساجد المؤسسة على تقوى من الله، فتتلى فيها المدائح، والتلاوات بأصوات رخيمة عذبة وترنمات يتبارى فيها المنشدون بألبستهم الفضفاضة، ومماويلهم وتقاطيعهم الموسيقية .. كلا .. لا يعبر عن محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا هذا ولا ذاك .. وإنما الذي يقرره ¬

(¬1) النساء الآية (80). (¬2) آل عمران الآية (31).

المسلم الغيور هو القول: بأن تلك المظاهر محادة لله ورسوله، وضرب من الخلف في مقتضيات كتاب الله وما جاء به محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه من محجة بيضاء نقية، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك .. (¬1) - وقال: فنحن المسلمين اليوم أحوج ما كنا إلى إدراك العبرة من مولد الرسول عليه السلام لكن لا في نطاق حب الرسول المزعوم الذي يكتسي مظهرا مزريا يتجلى في تلك المهرجانات التي تقام عادة بهذه المناسبة بين ساحات المدن والقرى الغاصة بحلقات أهل الفساد والبدع والضلالات والتي لو بعث الرسول لتبرأ من إسلامهم المزعوم، ولا في نطاق الاحتفالات التي تقام في الأضرحة وبعض الزوايا فتتلى فيه القصص والمدائح النبوية بأصوات رخيمة عذبة يترنح لها عشاق الطرب والتي لا تعدو في الواقع حد المتعة والسلوى. فهذه لايصح أن تكون تعبيرا عن حب الرسول إذ المسلم الذي لا يعيش الرسول في ضميره لا يغنيه أبدا أن يترنم بعدة قصائد في الأمداح النبوية أو يستمع إليها ليس ذاك هو إكنان حب الرسول الذي ينبغي أن ندرك مغزاه ... ولكن حب الرسول هو أسمى من تلك القشور، وترك اللباب المهجور، فإن حب الرسول في الرجوع إلى اللباب: إلى كتاب الله واتباع سنته والعمل بروح شريعته، إلى سلوك المرء في تقويم نفسه وإصلاح شأنه في عباداته وعاداته إلى جمع كلمة المسلمين من أقصى الشرق إلى المحيط، وإلغاء الحواجز ¬

(¬1) المتصوفة وبدعة الاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - (163 - 164).

موقفه من الصوفية:

المصطنعة بين المسلمين .. المؤمنون إخوة في كل قارة لا جنسية في الإسلام لا أقلية في الإسلام لا جالية في الإسلام المؤمنون كتلة واحدة يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم .. موقفه من الصوفية: ألف رحمه الله كتابه 'المتصوفة وبدعة الاحتفال بمولد النبي' تحدث فيه عن نشأة التصوف وتطورهم عبر التاريخ، وتسارعهم إلى البدع والمبتدعات، وإغراقهم في ذلك. - قال رحمه الله ردّا على المتصوفة اختراعهم للمولد: إن من يفكر في أسباب هذه البدعة أو كيف لصقت بالمسلمين وأعاد بالذاكرة إلى الوراء مستعرضا عصور انحطاط المسلمين سوف لا يجد ذلك إلا من ابتكارات المتصوفة الذين دأبوا على إطلاق العنان لخيالاتهم في اختراع التوسلات والأذكار والتصليات، وإنشاء الأحزاب ودلائل الخيرات .. إلى غير ذلك من كل ما يشغل ويلهي عن كتاب الله تعالى، الأمر الذي يتعين معه القول: بأنه لا بلية أصابت المسلمين في عباداتهم وعقائدهم أخطر من بلية المتصوفة، إذ من بابهم دخلت على المسلمين تصورات ومفاهيم أجنبية غريبة، لا عهد لهم بها في ماضيهم النقي المجيد، ومن بابهم دخلت الوثنية، وبدعة إقامة الموالد ومواسم الأضرحة والمهرجانات على عقائد المسلمين مما سنقف على نماذج منها إن شاء الله تعالى. (¬1) - وقال: وقد يأخذك العجب، وتستغرب أشد الاستغراب، إذا قلت ¬

(¬1) المتصوفة وبدعة الاحتفال بمولد النبي (ص.7).

لك: إن المتصوفة إذا ما أعوزهم الدليل فإنهم لا يتورعون أن يدعموا احتجاجهم على تبني الفكرة ولو بالرواية عن إبليس اللعين. ولكن يزول استغرابك وتواجهك الحقيقة المرة، إذا أوقفتك على النص، خاصة وقد رواه زعيم متصوفة المتأخرين، ألا وهو أبو حامد الغزالي رحمه الله، وسجله في كتابه 'إحياء علوم الدين'. فقد نص في كتاب العلم من إحياء علوم الدين تحت عنوان: (الباب السادس في آفات العلم وبيان علامات علماء الآخرة والعلماء السوء) على ما يلي: "وحكي عن إبليس لعنه الله أنه بث جنوده في وقت الصحابة رضي الله عنهم، فرجعوا إليه محسورين، فقال: ما شأنكم؟ فقالوا: ما رأينا مثل هؤلاء، ما نصيب منهم شيئا، وقد أتعبونا، فقال: إنكم لا تقدرون عليهم، قد صحبوا نبيهم، وشهدوا تنزيل ربهم، ولكن سيأتي بعدهم قوم تنالون منهم حاجتكم، فلما جاء التابعون بث جنوده فرجعوا إليه منكسين، فقالوا: ما رأينا أعجب من هؤلاء نصيب منهم الشيء بعد الشيء من الذنوب، فإذا كان آخر النهار أخذوا في الاستغفار، فيبدل الله سيئاتهم حسنات، فقال: إنكم لن تنالوا من هؤلاء لصحة توحيدهم، واتباعهم لسنة نبيهم، ولكن سيأتي بعد هؤلاء قوم تقر أعينكم بهم تلعبون بهم وتقودونهم بأزمة أهوائهم كيف شئتم، لم يستغفروا فيغفر لهم، ولا يتوبون، فيبدل الله سيئاتهم حسنات، قال: فجاء بعد القرن الأول فبث فيهم الأهواء، وزين لهم البدع، فاستحلوها، واتخذوها دينا لا يستغفرون الله منها، ولا يتوبون عنها، فسلط الله عليهم الأعداء، وقادوهم حيث شاءوا".

إن أبا حامد الغزالي -وكان ذكي الفؤاد- عندما وقع في المصيدة وأصبح مستهدفا للنقد اللاذع الذي استوجبه فقدان السند عن إبليس اللعين حاول التخلص بالجواب الآتي، ولكنه جواب بارد لا تسخنه إلا حرارة النقد كما يقول لدى مناقشته لمذهب الروافض وعقائدهم الباطلة: "في كفر بارد لا تسخنه إلا حرارة السيف" ولنصغي إليه، وهو يتساءل ويجيب في العبارات التالية: "فإن قلت: من أين عرف قائل هذا ما قاله إبليس وهو لم يشاهد إبليس، ولا اجتمع به، ولا حدثه بذلك؟. فاعلم: أن أرباب القلوب يكاشفون بأسرار الملكوت، تارة على سبيل الإلهام: بأن يخطر لهم على سبيل الورود عليهم من حيث لا يعلمون، وتارة على سبيل الرؤيا الصادقة، وتارة في اليقظة، وعلى سبيل كشف المعاني بمشاهدة الأمثلة، كما يكون في المنام، وهذا على درجات، وهي من درجات النبوة العالية، كما أن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة. فإياك أن يكون حظك من هذا العلم إنكار ما جاوز حد قصورك، ففيه هلك المتحذلقون من العلماء الزاعمون أنهم أحاطوا بعلوم العقول فالجهل خير من عقل يدعو إلى إنكار مثل هذه الأمور لأولياء الله تعالى (ومن أنكر ذلك للأولياء لزمه إنكار الأنبياء، وكان خارجا عن الدين بالكلية). (¬1) ثم استرسل الخريصي رحمه الله يرد هذا الهراء. ¬

(¬1) المتصوفة وبدعة الاحتفال بمولد النبي (ص.33 - 36).

أبو عبد الله محمد أعظم بن فضل الدين الجوندلوي (1405 هـ)

أبو عبد الله محمد أعظم بن فضل الدين الجوندلوي (¬1) (1405 هـ) الشيخ العلامة محمد أعظم بن فضل الدين، أبو عبد الله الجوندلوي، ولد في قرية "جوندلانوالا" بباكستان يوم الخميس في رمضان سنة خمس عشرة وثلاثمائة وألف. حفظ القرآن الكريم في صباه، ودرس على عدد من الشيوخ كالشيخ عبد الجبار الغزنوي والشيخ محمد حسين الهزاروي والشيخ عبد المنان ابن شرف الدين الوزير آبادي وغيرهم. اعتنى رحمه الله بصحيح البخاري عناية كبيرة، حيث درسه أكثر من خمسين مرة، وكان شديد التأثر بشيخ الإسلام ابن تيمية. وله تلاميذ كثيرون أخذوا عنه واستفادوا منه كالعلامة عبيد الله المباركفوري والشيخ محمد عطاء الله حنيف والحافظ عبد الله الفيروز فوري والشيخ أبي البركات أحمد المدراسي وغيرهم كثير. وله مؤلفات تدل على علو كعبه في العلوم. توفي رحمه الله في الرابع عشر من رمضان لعام خمسة وأربعمائة وألف للهجرة وله تسعون سنة. موقفه من المبتدعة: هذا الشيخ من القطر الهندي الذي أشرقت فيه شمس السنة يوم أن كان العالم الإسلامي يعيش في ظلام التقليد والجهل، وكان لهذا القطر من رجال حفظ الله بهم السنة النبوية والتراث النبوي، وقد استوفى ذكرهم في مؤلف خاص الشيخ الفاضل عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي، سماه 'جهود أهل ¬

(¬1) انظر كتاب كوكبة من أئمة الهدى للقريوتي (ص.21 - 36).

الحديث في الهند' والكتاب مطبوع، وسأقتصر على نماذج منهم ممن عرفته اهتم كثيرا بالعقيدة السلفية، فهذا المعنون له منهم. قال عبد الرحمن بن عبد الجبار في مسودة له في هذا الشيخ: كان الشيخ سلفي المنهج والاعتقاد، على طريق أهل السنة والحديث، وكان شديد التأثر بشيخ الإسلام ابن تيمية كما يرى من مصنفاته. وقال في موضع آخر: واشتغل في هذه الرحلة بكتب الجهابذة المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الرشيد ابن القيم. ثم ذكر من آثاره العقائدية: 1 - 'رسالة في ختم النبوة' رد فيها على القاديانية. 2 - 'إثبات التوحيد' رد فيه على مؤلف لأحد النصارى اسمه إثبات التثليت. 3 - 'تحفة الإخوان في الكلام والعقائد'. 4 - 'رسالة في رد حسن القصد في عمل المولد للسيوطي'. 5 - 'رسالة في الرد على منكري الحديث'. 6 - 'كتاب في الرد على النصرانية'. 7 - 'الإصلاح في الرد على أهل البدع'. 8 - 'زبدة البيان في تنقيح حقيقة الإيمان وتحقيق زيادته والنقصان'.

تقي الدين الهلالي (1406 هـ)

تقي الدين الهلالي (¬1) (1406 هـ) شيخنا الإمام محمد تقي الدين الهلالي الحسني السجلماسي، الداعية إلى التوحيد، الناشر للسنة، نفع الله بدعوته أهل المشرق والمغرب. ولد سنة إحدى عشر وثلاثمائة وألف بالفيضة القديمة وتسمى "الفرخ" من أرض سجلماسة المعروفة بتافيلالت من بلاد المغرب. قرأ القرآن على جده ووالده، فحفظه وهو ابن اثنتي عشرة سنة. رحل طالبا للعلم إلى كل من القاهرة والهند والعراق ثم إلى المملكة العربية السعودية، حيث عين مراقبا للمدرسين مدة سنتين، ثم مدرسا في المسجد الحرام والمعهد السعودي لمدة سنة. وفي سنة تسع وخمسين وثلاثمائة وألف هجرية حصل على رسالة الدكتوراه في ترجمة 'مقدمة كتاب الجماهير في الجواهر' للبيروني، مع التعليق عليها. وفي سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة توجه الشيخ إلى الحج، فالتقى بالعلامة عبد العزيز بن باز، فعين أستاذا بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، وبقي فيها إلى سنة أربع وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة. كان لدعوته المباركة الأثر الكبير في الهند، وفي العراق، وفي أوربا عموما، وأما المغرب فنور دعوته أشرق في كثير من مدن المغرب وقراه، ونحن -بحمد الله- من ثمرة دعوته. عرفته في صغر سني، وتتلمذت عليه، وقرأت عليه النحو والحديث واللغة والعقيدة والفقه. وكان فحلا لا يجارى، فشعره يحاكي الأقدمين، ولغته كأنه رضع العربية من ثدي أمه. وأما مواقفه الصادقة فتذكرنا بمواقف كبار أئمة السلف، وقد استمر في ¬

(¬1) مقدمة كتابه سبيل الرشاد في هدي خير العباد بقلم عمر بن محمد بن محسن (1/ 13 - 18).

موقفه من المبتدعة:

دعوته التي تتصف بالصدق والأمانة إلى أن لقي ربه سنة ست وأربعمائة وألف للهجرة، عليه رحمة الله. وقد ترك مؤلفات تدل على منهاجه القويم منها: 'سبيل الرشاد' و'حكم تارك الصلاة' و'الصبح السافر في حكم صلاة المسافر' و'الحسام الماحق لكل مشرك ومنافق' وكتاب 'الدعوة إلى الله' و'القاضي العدل في حكم البناء على القبور' نشر في المنار لمحمد رشيد رضا، وغيرها كثير. موقفه من المبتدعة: موقفه من بدعة قراءة القرآن على الأموات: - قال محمد تقي الدين عقب حديث ابن عباس في القبرين اللذين مر عليهما النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبر أنهما يعذبان (¬1): ولو كانت قراءة القرآن للأموات مشروعة ونافعة لقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا من القرآن وجعل ثوابه لهما، ولاقتدى به أصحابه ففعلوا مثل ذلك. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يزور القبور كثيرا ولم يقرأ على أهلها شيئا من القرآن، مع أن قراءته لا حَدَّ لثوابها، بل كان يدعو لهم ويعلم أصحابه إذا رأوا القبور ذلك الدعاء (¬2) كما يعلمهم السورة من القرآن، وقد تقدم لفظه. ومن الأدلة على أن قراءة القرآن وجعل ثوابها غير مشروعة، حديث أبي هريرة المتقدم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث من ¬

(¬1) أخرجه أحمد (1/ 255) والبخاري (1/ 427/218) ومسلم (1/ 240 - 241/ 292) وأبو داود (1/ 25 - 26/ 20) والترمذي (1/ 102/70) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (4/ 412/2068) وابن ماجه (1/ 125/347). (¬2) أحمد (5/ 353،359 - 360) ومسلم (2/ 671/975) والنسائي (4/ 399/2039) وابن ماجه (1/ 494/1547) من حديث بريدة.

ولد صالح يدعو له» الحديث (¬1)، ولم يقل: يقرأ عليه القرآن أو ادعوا المتأكلين بالقرآن ويعطيهم أجرة ليقرؤوا ختمة من القرآن ويجعلوا ثوابها لوالده كما يفعل أهل هذا الزمان الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. (¬2) - وقال: من عجائب ما يقع في المغرب وينسب إلى الإسلام، والإسلام بريء منه، شيء يسمونه الفدية وهو شائع عند الجهلة، يدعو أولياء الميت جماعة من البطالين المحتالين ليعملوا لهم "فدية" للميت تنقذه من العذاب وتجعله من أهل الجنة! فإذا كان قبره حفرة من النار ينقلب في الحين روضة من رياض الجنة، وذلك أن أولئك البطالين يذكرون لا إله إلا الله سبعين ألف مرة، يتقاسمون العدد فيما بينهم، كل واحد بضعة آلاف، فيطعمهم ذلك المسكين، ويعطي كل واحد منهم شيئا من الدراهم يأكلها سحتا، قال الله تعالى في سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)} (¬3).اهـ (¬4) وله قصيدة في خمسة وتسعين بيتا في ذم من عارض القرآن والسنة: ¬

(¬1) أحمد (2/ 372) ومسلم (3/ 1255/1631) وأبو داود (3/ 300/2880) والترمذي (3/ 660/1376) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (6/ 561 - 562/ 3653) وابن ماجه (1/ 88 - 89/ 242) بلفظ آخر أتم. (¬2) سبيل الرشاد (6/ 160 - 161) (¬3) البقرة الآية (254). (¬4) سبيل الرشاد (6/ 161).

منها: ومن يَقْل سنات الرسول فإنه ... يعذب في الدنيا وفي فتنة القبر ويسأله فيه نكير ومنكر ... وما من جواب عنده غير لا أدري وذي سنة الجبار في كل من غدا ... يحارب دين الله في السر والجهر ألم تدر أن الله ناصر دينه ... وموقع أهل البغي في داره الخسر وكم قد سعى ساع لإطفاء نوره ... بكيد فرد الله كيده في النحر وتنصر إشراكا وفسقا وبدعة ... وناصر هذي خاسر أبد الدهر دعا المصطفى قدما عليه بلعنة ... ومن يلعن المختار فهو إلى شر وتلعنه الأملاك من فوق سبعة ... كذلك أهل الأرض في السهل والوعر ومنها: وما نحن إلا خادمون لسنة ... أتت عن نبي الله ذي الفتح والنصر وخادم سنات الرسول حياته ... كخادمها من بعد ما صار في القبر وما غاب إلا شخصه عن عيوننا ... وأنواره تبقى إلى الحشر والنشر فيا مبغضي هدي النبي ألا أبشروا ... بخزي على خزي وقهر على قهر سلكتم سبيلا قد قفاها أمامكم ... أبو جهل المقصوم في ملتقى بدر وعاقبة المتبوع حتم لتابع ... كما لزم الإحراق للقابض الجمر فإن أنتم كذبتم بوعيده ... فكم كذبت من قبلكم أمم الكفر فصب عليهم ربهم سوط نقمة ... فصاروا أحاديث المقيمين والسفر "فيارب هل إلا بك النصر يرتجى ... عليهم" إليك الأمر في العسرواليسر قلوا سنة المختار يبغون محوها ... وكادوا لها فاجعل لهم كيدهم يفرى

هم استضعفونا اليوم من أجل أننا ... قليل وقد يعلو القليل إلى الكثر ولا سيما إن كان لله قائما ... وأعداؤه للبغي من جهلها تجري وإدراك إحدى الحسنيين محقق ... لمن يقتدي بالمصطفى من ذوي الحجر ومن ظن أن الله مخلف وعده ... وخاذل أنصار النبي بذا العصر فذاك غليظ الطبع أرعن جاهل ... عريض القفا بين الورى مظلم الفكر تكفل بالنصر العلي لحزبه ... حياتهم هذي وفي موقف الحشر ففي غافر قد جاء ذلك واضحا ... ولكنه يخفى على الفدم والغمر سلام على أنصار سنة أحمد ... فهم أولياء الله في كل ما دهر إليهم أجوب البر والبحر قاصدا ... فرؤيتهم تشفي السقيم من الضر هم حفظوا الدين الحنيف وناضلوا ... عن الحق بالبرهان والبيض والسمر هم خلفوا المختار في نشرسنة ... بفعل وأقوال تلألأ كالدر هم جردوا التوحيد من كل نزغة ... من الشرك والإلحاد والزيغ والنكر فلا قبة تبنى على قبر ميت ... ولم يعبدوا قبرا بذبح ولا نذر ولا بطواف أو بتقبيل تربة ... فذلك فعل المشركين ذوي الكفر ولا رحلوا يوما لغير ثلاثة ... مساجد خصت بالفضائل والأجر ولم يستغيثوا في الشدائد كلها ... بغير إله الناس ذي الخلق والأمر ومنها: ومن ظن تقليد الأئمة منجيا ... فأفتى بتقليد فيا له من غر كمنتحل عذرا ليغفر ذنبه ... أضاف له جرما تجدد بالعذر ألا إنما التقليد جهل وظلمة ... وطالبه خلو من العلم والخبر

موقفه من الصوفية:

كطالب ورد بعدما شفه الظما ... جرى خلف آل لاح في مهمه قفر فإن قمت بالإفتاء أو كنت قاضيا ... فإياك والتقليد فهو الذي يزري وجرد سيوفا من براهين قد سمت ... عن الحدس والتخمين والسخف والهتر وطرفك سرح في الكتاب فإنه ... رياض حوت ما تشتهيه من الزهر ومن بعده فاعلق بسنة أحمد ... فأنوارها تسمو على الشمس والبدر ولا تحكمن بالرأي إلا ضرورة ... كما حلت الميتات أكلا لمضطر ومهما بدا أن القضاء على خطا ... أقيم فبادر للرجوع على الفور ومن يقض بالتقليد فهو على شفا ... كعشوا غدت في كافر حالك تسري ومن يفت بالتقليد فهو قد افترى ... وفي النحل نص جاء في غاية الزجر لعمرك ما التقليد للجهل شافيا ... وأما نصوص الوحي فهي التي تبري وصل وسلم يا إلهي على النبي ... صلاة تدوم الدهر طيبة النشر فدونكها بكرا عروبا خريدة ... مهفهفة غيدى عروسا من الشعر يضيء ظلام الليل نور جمالها ... وليس لها إلا القراءة من مهري قصدت بها نصرا لسنة أحمد ... وناصرها لا شك يظفر بالنصر وعدتها تسعون من بعد خمسة ... وأختمها بالحمد لله والشكر (¬1) موقفه من الصوفية: له من الآثار السلفية: 'الهدية الهادية إلى الطائفة التيجانية'. قال فيه رحمه الله: اعلم أن التيجانيين رووا عن شيخهم فضائل تحصل ¬

(¬1) سبيل الرشاد (4/ 230 - 232).

للمتعلقين به مصادمة للكتاب والسنة وإجماع الأمة، وزعموا أن الشيخ التجاني كتب تلك الفضائل بيده وسلمها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلب منه أن يقرأها ويضمنها له فقرأها وضمنها له، وقع ذلك يقظة لا مناما انظر صفحة 44 من الجزء الثاني من الرماح، وهذه الفضائل زعموا أن الله يعطيهم إياها بسبب تعلقهم بشيخهم، وسأسرد هنا هذه الفضائل وعددها تسع وثلاثون، أربع عشرة فضيلة تحصل لكل من اعتقد فيه الخير ولم يعترض على طريقه وكان محبا له ولأصحابه ولكل من أطعمه أو سقاه أو قضى له حاجة إذا استمر على محبته حتى الموت وإن لم يأخذ ورده ولم يصر من أصحاب طريقته وسائر الفضائل، وهي خمس وعشرون خاصة بمن أخذ الطريقة والتزم شروطها: الفضيلة الأولى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضمن لهم أن يموتوا على الإيمان والإسلام. الفضيلة الثانية: أن يخفف الله عنهم سكرات الموت. الفضيلة الثالثة: لا يرون في قبورهم إلا ما يسرهم. الفضيلة الرابعة: أن يؤمنهم الله تعالى من جميع أنواع عذابه وتخويفه وجميع الشرور من الموت إلى المستقر في الجنة. الخامسة: أن يغفر الله لهم جميع ذنوبهم ما تقدم منها وما تأخر. السادسة: أن يؤدي الله تعالى عنهم جميع تبعاتهم ومظالمهم من خزائن فضله عز وجل لا من حسناتهم. السابعة: أن لا يحاسبهم الله تعالى ولا يناقشهم ولا يسألهم عن القليل

والكثير يوم القيامة. الثامنة: أن يظلهم الله تعالى في ظل عرشه يوم القيامة. التاسعة: أن يجيزهم الله تعالى على الصراط أسرع من طرفة عين على كواهل الملائكة. العاشرة: أن يسقيهم الله تعالى من حوضه - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة. الحادية عشرة: أن يدخلهم الله تعالى الجنة بغير حساب ولا عقاب في أول الزمرة الأولى. الثانية عشرة: أن يجعلهم الله تعالى مستقرين في الجنة في عليين من جنة الفردوس وجنة عدن. الثالثة عشرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب كل من كان محبا له. الرابعة عشرة: أن محبه لا يموت حتى يكون وليا، قال -أي أحمد التجاني-: قد أخبرني سيد الوجود - صلى الله عليه وسلم - أن كل من أحبني فهو حبيب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يموت حتى يكون وليا قطعا، وقال لي سيد الوجود - صلى الله عليه وسلم -: أنت من الآمنين ومن أحبك من الآمنين، وأنت حبيبي ومن أحبك حبيبي، وكل من أخذ وردك فهو محرر من النار، وقال: أبشروا أن كل من كان في محبتنا إلى أن مات عليها يبعث من الآمنين على أي حالة كان، ما لم يلبس حلة الأمان من مكر الله وقال: وأما من كان محبا ولم يأخذ الورد فلا يخرج من الدنيا حتى يكون من الأولياء. ثم قلت في الرد على هذه الأباطيل في صفحة 86 ما نصه:

قال محمد تقي الدين: لم يستوف صاحب الرماح الفضائل التي وعد بذكرها؛ بل اقتصر على ذكر ثلاث وثلاثين، وفي ما ذكره من الطوام والضلالات ما لا يبقي شكا في أن هذه الطريقة على الحال الراهنة يستحيل أن تجتمع في قلب شخص واحد مع ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدين الحنيف المبني على الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وسنعقب عليها بالنقد والنقض حتى يتضح بطلانها وتنجلي ظلمتها، بحول الله وقوته وحسن توفيقه. اعلم أيها القارىء الموفق لمعرفة الحق واتباعه مع من كان وحيث كان أن ما ذكره صاحب الرماح من الفضائل بزعمه له ولإخوانه في الطريقة ولشيخهم بزعمهم مردود من وجوه بعضها إجمالي وبعضها تفصيلي، ولنبدأ بالإجمالي فنقول: كل ما نسبوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأخبار هو من شر أقسام الموضوع المفترى وقد خاب من افترى، فإن الأمة بعلمائها وأئمتها من أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى أن تقوم الساعة، أجمعت الأمة على أنه لا طريق لتلقي خبر من الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بالسماع والمشاهدة في حياته الدنيوية، أو بواسطة الثقات الأثبات بالسند المتصل، وما ذكروه من الأخبار ليس له سند أصلا وما زعموه من السماع كذب بإجماع الأئمة، ومن خرق إجماعهم ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم، وكان مشاقا للرسول - صلى الله عليه وسلم - ومتبعا غير سبيل المؤمنين، ومن ذلك أن تلك الأخبار مناقضة لكتاب الله وللأخبار الصحيحة المروية بأسانيد كالشمس معلومة التواتر أو الصحة العالية، إذا قرأت ما تقدم من الرد تبين لك من خلاله فساد تلك الأخبار وبطلانها

موقفه من الجهمية:

واضمحلالها. (¬1) موقفه من الجهمية: قال محمد تقي الدين: لقد من الله علي وأعانني على ختم هذا القسم، وأسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وبمحبتنا واتباعنا لحبيبه وخليله محمد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، أن يعينني على القسم الثالث، ويجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، ولما كنت أنقل كلام الأئمة كنت أمر بأشعار في الرد على المقلدين وذم طريقتهم ومدح اتباع الكتاب والسنة، فرأيت أن أؤخرها وأجعلها خاتمة لهذا القسم يستمتع بها من حبب الله له الاتباع وكره إليه التقليد، وهذه هي وأول ما أبدأ به القصيدة المقصورة نظمتها في مصر سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة (¬2): تركت الطريق طريق الجفا ... وأقبلت أتبع المصطفى وسنته وكتاب الإله ... وأصحابه أنجم الاهتدا وأتباعهم أينما وجدوا ... سواء نأى عصرهم أم دنا سواء ذووالشرق أم غربنا ... وأهل الخيام وأهل القرى وليس يجوز بمذهبنا اتـ ... ـباع لغير فدع من هذى ولسنا نؤول لفظ الحديـ ... ـث والذكر إلا بما قد أتى فما هلك الناس إلا بما ... تؤوله زمرة الاعتدا فنحن على مذهب السابقيـ ... ـن من رضي الله عنهم علا ¬

(¬1) الهدية الهادية (ص.81 - 87). (¬2) سبيل الرشاد (4/ 212 - 214).

ومن حاد عن نهجهم قد هوى ... سواء درى ذاك أم ما درى فخير الهدى هدى خير الورى ... وشر الأمور اتباع الهوى فلا تتصوف ولا تتكلف ... ولا تلج إلا لرب العلا ولا تدع من دونه أحدا ... فليس ولي سواه يرى أغير الإله أرى لي وليا ... إذا قد ضللت طريق الهدى أأتخذ الأولياء وربي ... بمحكم ذكره عنهم نهى ولو مرسلين ولو صالحين ... ولو طائرين بأوج السما ولا يعبد الله إلا بما ... أتى في شريعته وارتضى ومن زعم العلم غير الكتاب ... وغير الحديث الصحيح افترى ولا فضل في ديننا لأرسطو ... ولا لابن رشد ومن قد قفا فتوحيد ربي بمنزله ... غني عن المنطق المرتأى فإن أرسطو وأتباعه ... عدو لدين إله الورى وإن هم رأوا حكما أحكموها ... أخذنا بها في أمور الدنى ومهما وجدنا الحديث الصحيح ... عبدنا به من له المنتهى وليس له من وسيلة إلا ... علوم اصطلاح وعلم اللغى فعلم الكلام وبعض الأصول ... ظلام يجران كل العنا ولا نستغيث بغير الإله ... ومن يستغث بالعباد غوى ونعتقد الله سبحانه ... على عرشه ذي التعالي استوى ولسنا نؤول ذاك بقهر ... ولا غيره مثل من قد مضى وأن البخاري في كتبه ... قد أحسن للناس دون امترا

عليها اعتكف ثم منها اقتطف ... تجد كل ما رمته من منى ومسلم لا تنس تأليفه ... فنعم الكتاب الوثيق العرى وإن خضت في غير دينك فاسلك ... بعلم غزير وإلا فلا ولا تعتبر كل كتب عليها ... فقد مزجوها بما يرتمى فجد وخذ زبد ما سطروا ... ودع ما تراه معيبا سدى وما قد يسمونه باطنا ... فباللام يقرأه من درى فإن الشريعة قد أكملت ... وقد بينت مثل شمس الضحى فما مات خير الورى أحمد ... إلى أن جلاها بغير خفا وما أحد من أهيل النفاق ... نجا فاصبر إن نلت منهم أذى ولا تبن في تربة قبة ... ومهما تراها فهدم البنا فقد عبدوها وما فطنوا ... ووافقهم علماء الشقا وقد ألفوا في عبادتها ... بدون احتشام بدون حيا لتدع الإله بما قد روى الثقات ... الهداة عن المجتبى وإن البخاري روى في الصحيح ... دعاء وذكرا به الاكتفا وحاذر من الشرك فهو بذا الز ... مان بكل النواحي فشا ولا قطب نعلمه غير نجم ... يرى في السماء وقطب الرحى ونحوهما لا الذي ذكروا ... يكون مقيما بغار حرا يمد الأنام ويجري الشؤو ... ن في الكون تالك أدهى الفرا فهل من كتاب وهل سنة ... أتت من صحيح الحديث بذا فخذ بالنصوص ولا تبتدع ... وفي عدم النص قس ما جلا

موقفه من أهل الكلام:

وليس لنا مذهب لازم ... سوى مذهب المصطفى المرتضى عليه الصلاة وأزكى السلام ... سلاما يدوم بغير انتها ويشمل آلا وصحبا كراما ... ومن قد قفاهم بنهج الصفا موقفه من أهل الكلام: دع الكلام فما فيه سوى الخطل ... وانبذ مجالسه تحفظ من العلل فهو شر ابتداع جاء بالخلل ... وخل سمعك عن بلوى أخي جدل شغل اللبيب بها ضرب من الهوس الله يعلم كم قد سيق من ضرر ... للناس من أجله في البدو والحضر أقبح بها بدعة تدني إلى الشرر ... ما إن سمت بأبي بكر ولا عمر ولا أتت عن أبي هر ولا أنس وكم دماء غدت في الناس مهرقة ... فهو الكلام بكسر ساء مخرقة فلا ترى فيه شمس الحق مشرقة ... إلا هوى وخصومات ملفقة ليست برطب إذا عدت ولا يبس داء كما جرب في الناس منتشر ... وكتبه بين أهل العلم تستطر ذر بدعة عند أهل الحق تحتقر ... فلا يغرك من أربابها هذر أجدى وجدك منها نغمة الجرس نأوا عن الحق بالأوهام وانطلقوا ... في مهمه بلقع ما فيه مرتفق وجادلوا بأباطيل بها مرقوا ... أعرهم أذنا صما إذا نطقوا وكن إذا سألوا تعزى إلى خرس

وأبعد عن الرأي بعدا يعدك الخطر ... فهو السحاب ولكن ما به مطر الرأي أغصان سدر ما بها ثمر ... ما العلم إلا كتاب الله أو أثر يجلو بنور سناه كل ملتبس (¬1) - قال رحمه الله: وفي الصحيح من حديث قتادة عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه» (¬2) وأخرجه أبو أحمد العسال في كتاب المعرفة بإسناد قوي عن ثابت عن أنس وفيه: «فآتي باب الجنة فيفتح لي، فآتي ربي تبارك وتعالى وهو على كرسيه أو سريره فأخر له ساجدا» وذكر الحديث. قال محمد تقي الدين: وهذا الحديث أيضا صريح في أن الله فوق عرشه، اللهم اشهد علينا بأننا آمنا به، فيا ويل من كذب به وأنكر معناه. (¬3) - وقال: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب -ولا يصعد إلى الله إلا طيب- فإنه يتقبلها بيمينه ويربيها لصاحبها حتى تكون مثل الجبل» (¬4) هذا حديث صحيح أخرجه البخاري. قال محمد تقي الدين: وماذا يقول الجهمي في هذا الحديث الذي ¬

(¬1) سبيل الرشاد (4/ 220 - 221). (¬2) أخرجه من حديث أنس: أحمد (3/ 116) والبخاري (13/ 519 - 520/ 7440) ومسلم (1/ 180 - 181/ 193) وابن ماجه (2/ 1442 - 1443/ 4312). (¬3) سبيل الرشاد (5/ 78). (¬4) رواه أحمد (2/ 418و538) والبخاري (3/ 354/1410) ومسلم (2/ 702/1014) والترمذي (3/ 49/661) والنسائي (5/ 60 - 61/ 2524) وابن ماجه (1/ 590/1842) بلفظ: "ولا يقبل" بدل "ولا يصعد". ورواه البخاري (13/ 511/7430) تعليقا. ووصله أحمد (2/ 331و431) بلفظ الكتاب.

إحسان إلهي ظهير (1407 هـ)

يدل على صعود الصدقة إلى الله تعالى فيأخذها بيمينه أيؤمن به أم يكفر به؟ فإن آمن به فقد فاز وربح وإن كفر به فتعسا له. (¬1) - قال محمد تقي الدين: في هذا الحديث -يعني حديث الجارية (¬2) - السؤال عن الله تعالى بـ (أين) ومنعه الخوارج وسائر الفرق المعطلة كالمعتزلة والمتأخرين من الأشعرية، وزعموا أن من سأل عن الله بأين فهو مجسم واختلفوا في كفره وفسقه ومعصيته، فيلزمهم نسبة ذلك إلى نبي الله الذي جاءنا بالإيمان، فقبح الله علما يفضي إلى مثل هذا، وفيه -إقرار النبي عليه الصلاة والسلام- بأن الله في السماء وأنكرته المعطلة واختلفوا في كفر معتقده، فيا ويلهم ماذا جنوا على أنفسهم بسبب جهلهم وعمى بصائرهم فنعوذ بالله من الخذلان. (¬3) إحسان إلهي ظهير (¬4) (1407 هـ) إحسان إلهي ظهير من كبار علماء باكستان، ولد في "سيالكوت" عام ستين وثلاثمائة بعد الألف للهجرة. حفظ القرآن في التاسعة من عمره وأكمل دراسته في الجامعة السلفية بفيصل آباد، حصل على الليسانس في الشريعة من الجامعة الإسلامية في المدينة وكان ترتيبه الأول على طلبة الجامعة. ثم رجع ¬

(¬1) سبيل الرشاد (5/ 75 - 76). (¬2) تقدم تخريجه. انظر مواقف أبي عمرو السهروردي سنة (458هـ). (¬3) سبيل الرشاد (5/ 70 - 71). (¬4) انظر تتمة الأعلام لمحمد خير رمضان يوسف (1/ 23). والعدد (105) من مجلة الجندي المسلم التي تصدر عن وزارة الدفاع السعودية.

موقفه من المبتدعة:

إلى باكستان، وانتظم في جامعة البنجاب كلية الحقوق والعلوم السياسية، وعين في ذلك الوقت خطيبا في أكبر مساجد أهل الحديث بلاهور، وحصل على ست شهادات ما جستير في الشريعة، واللغة العربية، والفارسية والأردية والسياسة من جامعة البنجاب وكذلك حصل على شهادة الحقوق من كراتشي. وكان رئيسا لمجمع البحوث الإسلامية ورئيسا لتحرير مجلة (ترجمان الحديث) التابعة لجمعية أهل الحديث بلاهور في باكستان، وكذلك مديرا لتحرير مجلة أهل الحديث الأسبوعية. وفي الثالث والعشرين من شهر رجب سنة سبع وأربعمائة وألف كان الشيخ يلقي محاضرة بمقر جمعيته بمناسبة ندوة العلماء وكان أمامه مزهرية وضع بداخلها قنبلة موقوتة انفجرت فأصابت الشيخ بإصابات بليغة وقتلت سبعة من العلماء في الحال ومات اثنان آخران بعد مدة، وبقي الشيخ أربعة أيام في باكستان، ثم نقل إلى الرياض باقتراح من الشيخ ابن باز رحمه الله وأدخل المستشفى العسكري لكن روحه فاضت إلى ربها في الأول من شعبان فنقل إلى المدينة ودفن بالبقيع بالقرب من الصحابة رضي الله عنهم الذين نذر حياته للدفاع عنهم وبيان فضائلهم. فرحمة الله عليه. موقفه من المبتدعة: - قال: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على محمد المصطفى، نبي الهدى والرحمة وعلى آله وأصحابه الطاهرين البررة. وبعد، فإنه أشاع في هذا الزمان كلمة "الاتحاد والوحدة" كثير من دعاة الشقاق والفرقة، وكثر استعمالها حتى كاد ينخدع بها السذج من المسلمين الذين لا يعرفون ما

وراءها من كيد ودس ودهاء. فالقاديانية عميلة الاستعمار الصليبي في القارة الهندية الباكستانية، وسمة العار على جبهة المسلمين المشرقة، تستعمل هذه الكلمة لكي يتسع لها الطريق لنفث السموم في نفوس المسلمين. والبهائية وليدة الروس، والإنكليز، والنزعات الشيعية، تريد بهذه الكلمة نفسها غزو الشيعة في إيرانها وعراقها. والشيعة ربيبة اليهود في بلاد الإسلام، يستعملون هذه الكلمة أيضا عند افتضاح أمرها، واكتشاف حقيقتها، وإماطة اللثام عن وجهها. فليست هذه الكلمة، إلا كلمة حق أريد بها الباطل، كما نقل عن علي -رضي الله عنه- أنه لما سمع قول الخوارج "لا حكم إلا لله" قال: كلمة حق أريد بها الباطل، نعم لا حكم إلا لله". وقال: "سيأتي عليكم بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحق ولا أظهر من الباطل". فهذا هو الزمان الذي أشار إليه علي في قوله، فما أكثر الكذب فيه وما أفظعه. ولقد بدأ الشيعة منذ قريب ينشرون كتبا ملفقة مزورة في بلاد الإسلام، يدعون فيها إلى التقرب إلى أهل السنة، ولكن الصحيح أنهم يريدون بها تقريب أهل السنة إليهم بترك عقائدهم، ومعتقداتهم في الله، وفي رسوله، وأصحابه الذين جاهدوا تحت رايته، وأزواجه الطاهرات اللائي صاحبنه بمعروف، وفي الكتاب الذي أنزله الله عليه من اللوح المحفوظ، نعم يريدون أن يترك المسلمون كل هذا، ويعتقدوا ما نسجته أيدي اليهودية الأثيمة من الخرافات، والترهات في الله، أنه يحصل له "البداء"، وفي كتاب الله أنه محرف ومغير فيه، وأن يعتقدوا في رسول الله أن عليا وأولاده أفضل منه، وفي أصحابه حملة هذا الدين أنهم كانوا خونة مرتدين ومنهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وأن يعتقدوا

في أزواج النبي وأمهات المؤمنين، ومنهن الطيبة، الطاهرة، بشهادة من الله في كتابه، أنهن خن الله ورسوله، وفي أئمة الدين، من مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، والبخاري، أنهم كانوا كفرة ملعونين -رضي الله عنهم ورحمهم أجمعين-. نعم يريدون هذا، وما الله بغافل عما يعملون. فكل من عرف هذا وقام في وجههم، ورد عليهم، صاحوا عليه ونادوا بالوحدة والاتحاد، ورددوا قول الله عز وجل: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (¬1). فبعدا للوحدة التي تقام على حساب الإسلام، وسحقا للاتحاد الذي بني على الطعن في محمد النبي، وأصحابه، وأزواجه -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-، فقد علمنا الله عز وجل في كتابه الذي نعتقد فيه أن حرفا منه لم يتغير ولم يتبدل، وما زيد عليه كلمة، ولا نقص منه حرف، علمنا فيه أن كفار مكة طلبوا أيضا من رسول الله الصادق الأمين، عدم الفرقة والاختلاف حين دعاهم إلى عبادة الله وحده مخلصين له الدين، ونبذ آلهتهم، فأجابهم بأمر من الله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} (¬2) وقال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ¬

(¬1) الأنفال الآية (46). (¬2) الكافرون الآيات (1 - 6).

وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} (¬1). وقال: {وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)} (¬2). وقال: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) ولا الظل وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)} (¬3). نعم يمكن الوحدة إن أرادوها، ويمكن الاتحاد إن طلبوه، بالرجوع إلى الكتاب والسنة، والتمسك بهما، حسب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} (¬4). نعم إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، فتعالوا إلى هذه الكلمة، كلمة الوحدة، والاتحاد، إلى قول الله عز وجل وقول نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -. فلنرفع الخلاف ولنقض على النزاع، فهيا بنا إلى الوحدة أيها القوم. فاتركوا سب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، خيار خلق الله، الذين بشرهم الله بالجنة في كتابه المجيد حيث قال: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ¬

(¬1) يوسف الآية (108). (¬2) البقرة الآية (139). (¬3) فاطر الآيات (19 - 22). (¬4) النساء الآية (59).

وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} (¬1). وقال: {* لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (¬2) وقال رسوله الناطق بالوحي: «لا تمس النار مسلما رآني أو رأى من رآني» (¬3) وقال عليه السلام: «الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا من بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه» (¬4). ويمكن الاتحاد بالاعتراف أن كلام الله المجيد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، وأن من قال فيه بتحريف وتغيير كان ضالا مضلا خارجا عن الإسلام، تعالوا فلنتفق ونتحد على هذا. (¬5) - وقال: وأما المولد فقد صرح العلماء أن أول من أحدث هذه البدعة كان مظفر الدين بن زين الدين صاحب الإربل. كان ملكا مسرفا فأمر ¬

(¬1) التوبة الآية (100). (¬2) الفتح الآية (18). (¬3) الترمذي (5/ 651 - 652/ 3858) وقال: "هذا حديث حسن غريب". وضعفه الشيخ الألباني رحمه الله في ضعيف الجامع برقم (6277). (¬4) أحمد (5/ 54،55) والترمذي (5/ 653/3862) وقال: "هذا حديث غريب". وابن حبان (16/ 244/7256) .. قال المناوي في فيض القدير (2/ 98): "فيه عبد الرحمن بن زياد، قال الذهبي: لا يعرف. وفي الميزان: في الحديث اضطراب". انظر الضعيفة (2901). (¬5) الشيعة والسنة (5 - 9).

علماء زمانه أن يعملوا باستنباطهم واجتهادهم وأن لا يتبعوا لمذهب غيرهم، حتى مالت إليه جماعة من العلماء وطائفة من الفضلاء، وكان يحتفل بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الربيع الأول، وهو أول من أحدث من الملوك هذا العمل. وكان ينفق كل سنة على مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو ثلاثمائة ألف. وكان معينه ومساعده على هذه البدعة أبو الخطاب عمر بن دحية: اشتغل ببلاد المغرب ثم رحل إلى الشام ثم إلى العراق واجتاز بإربل سنة أربع وستمائة ووجد ملكها المعظم مظفر الدين بن زين الدين يعتني بالمولد النبوي، فعمل له كتاب 'التنوير في مولد السراج المنير' وقرأ عليه بنفسه، فأجازه بألف دينار. ونقل الإمام ابن كثير عن السبط في ابن دحية هذا: وقد كان كابن عنين في ثلب المسلمين والوقيعة منهم، ويتزيد في كلامه فترك الناس الرواية عنه وكذبوه، وقد كان الكامل مقبلا عليه، فلما أكشف له حاله أخذ منه دار الحديث وأهانه. وقد كتب عنه الحافظ ابن حجر العسقلاني ما خلاصته: إنه كان كذابا كثير الكذب وضاعا، كثير الوقيعة في الأئمة وفي السلف من العلماء، خبيث اللسان، أحمق، شديد الكبر، قليل النظر في أمور الدين متهاونا -ونقل ذلك عن الحافظ ضياء، ثم كتب-: وحدثني علي بن الحسين أبو العلاء الأصبهاني وناهيك به جلالة ونبلا، قال: لما قدم ابن دحية علينا أصبهان نزل على أبي في الخانكاه، فكان يكرمه ويبجله فدخل على والدي يوما ومعه سجادة فقبلها ووضعها بين يديه وقال: صليت على هذه السجادة كذا وكذا ألف ركعة وختمت القرآن في جوف الكعبة، قال: فأخذها والدي وقبلها ووضعها على رأسه وقبلها منه مبتهجا بها، فلما كان آخر النهار حضر عندنا

رجل من أهل أصبهان، فتحدث عندنا إلى أن اتفق أن قال: كان الفقيه المغربي الذي عندكم اليوم في السوق اشترى سجادة حسنة بكذا وكذا فأمر والدي بإحضار السجادة، فقال الرجل: أي والله هذه، فسكت والدي وسقط ابن دحية من عينيه. فذاك كان الملك وهذا كان مساعده في تأسيس هذه البدعة الشنيعة التي اخترعوها مضاهين النصارى، لأن يكون لهم عيد ميلاد النبي كما يوجد عندهم عيد ميلاد المسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. ثم وعند القوم عادة أنه يقومون عند قراءة المولد وذكره ويقولون: إن الرسول عليه الصلاة والسلام حضر في مجلس ذكر مولده فنستقبله قائما، ثم ينشدون هذا البيت المشهور، نذكره بنصه في اللغة الأردية. دم بدم برهو درود ... حضرت بهي هين يهان موجود صلوا صلوا على النبي ... فإنه حضر هاهنا ويقول أحد علماء القوم: يجب القيام عند ذكر ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويعملون هذه الفعلة على حساب ذلك النبي الهاشمي صلوات الله وسلامه عليه من كان يمنع عن القيام حتى وأيام حياته الميمونة بقوله: «من سره أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار» (¬1). ويروي أنس بن مالك رضي الله عنه، عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته ¬

(¬1) أحمد (4/ 93،100) وأبو داود (5/ 397 - 398/ 5229) والترمذي (5/ 84/2755) وقال: "هذا حديث حسن". والبخاري في الأدب المفرد برقم (977). وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة برقم (357).

لذلك) (¬1).اهـ (¬2) - وقال في حديثه عن البريلوية: وللمحافظة على تجارتهم هذه أعموا أبصارهم وصموا آذانهم وختموا على قلوبهم كي لا تنفلت من أيديهم هذه الأغنام المدرارة الساذجة، فحرموا عليهم الاستماع إلى أحد من الموحدين، المتبعين كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والإصغاء إليهم، والمجالسة معهم، والاختلاط بهم، والحضور في خطباتهم واجتماعاتهم، والنظر في كتبهم، كي لا يعقل المغفل، ويتنور من أحيط بالظلام، ويتعلم من رغب عن الجهل فقال قائلهم: حرام على المسلمين أن يقرؤوا كتب الوهابيين وأن ينظروا فيها. ومن جالس الوهابية أو اختلط بهم لا يجوز مناكحته. وغير ذلك. ولم تكن هذه الاحتياطات كلها إلا للحفاظ على جهالاتهم ومناصبهم النافعة المفيدة في آن واحد، ولكن من أراد الله هدايته والخير به فلم يمنعه هذا الحصار لأن يخرج من الظلمات إلى النور {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)} (¬3). وإليكم النصوص من تعاليم القوم، وأتبعنا كل واحدة منها بالرد عليها من كتب الأحناف، لأن القوم يدعون انتسابهم إلى الحنفية، كي يعرف أن هؤلاء الناس ليس لهم من الأمر شيء، فلا الكتاب يؤيدهم، ولا السنة تناصرهم، ولا الفقه الحنفي يحالفهم، فإنهم ليسوا على دليل ¬

(¬1) أحمد (3/ 132) والترمذي (5/ 84/2754) وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه". والبخاري في الأدب المفرد (946). (¬2) البريلوية (129 - 131). (¬3) النور الآية (40).

وبرهان، بل هم حقيقة أخلافا لأسلاف عرفوا في الجاهلية الأولى بالمشركين والوثنيين، وفي الجاهلية المتأخرة عبدة القبور والخرافيين والبدعيين، لاختلافهم بعض الاختلاف معهم في لون البدعات وصورها حسب الاختلاف الإقليمي والجغرافي، لأن العالمية للسنة، فسنة رسول الله في جميع البلدان والمدن وفي جميع أقطار الأرض وأطرافها سنة واحدة، لأن مصدرها واحد وهو ذات الرسول العظيم صلوات الله وسلامه عليه. وأما البدعة فتختلف وتتنوع باختلاف المكان والزمان، وبحسب القطر والإقليم، وبحسب المقتضيات والمتطلبات، ولأن مصدرها أشخاص متعددون متنوعون حسب الأغراض والأهواء، ومختلفون حسب الذوق والمزاج، فالسنة عليها توثيق: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} (¬1)، والبدعة هي مصداق: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} (¬2).اهـ (¬3) - وقال: فكل شيء أحدث في الإسلام ولا يؤيده آية من كتاب الله أو أمر من رسول الله فهو مردود. «من أحدث في أمرنا هذا فهو رد» (¬4). وقال: «فإن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» (¬5). ¬

(¬1) النجم الآيتان (3و4). (¬2) النساء الآية (82). (¬3) البريلوية (113 - 115). (¬4) تقدم تخريجه ضمن مواقف الخلال سنة (311هـ) وابن رجب سنة (795هـ). (¬5) تقدم تخريجه ضمن مواقف محمد بن ابراهيم آل الشيخ سنة (1389هـ).

موقفه من المشركين:

ولو كان ذلك من الدين أو من المستحسن لما ترك الله بيانه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - تفصيله. فعدم وروده ووجوده في الكتاب والسنة يدل على أنه ليس من الدين. ولو كان من الدين ولم يرد ذكره فيهما لما كان الدين كاملا. (¬1) موقفه من المشركين: - قال في حديثه عن القاديانية: والعجب كل العجب أن الفئة الضالة المضلة التي لم تستطع مع كل إمدادات الاستعمار والحكومة الانكليزية أوان سلطتها أن تضم إليها في القارة الهندية، حيث يقع مركزها إلا أشخاصا معدودين، ممن نشؤوا في أحضان الاستعمار طوال سبعين سنة، ولا يزيد عددهم عن الألوف، ومساجدهم عن العشرات، ومدارسهم عن الأعداد المفردة، وهذا لأن المسلمين قد عرفوا حقيقتهم، واكتشفوا أمرهم، وفي إفريقيا وغيرها دعاة الإسلام غير موفورين، لم؟ هل المسلمون صاروا فقراء إلى هذا الحد حتى لم يستطيعوا إرسال المبلغين إلى تلك البلاد؟ أم ماذا؟ ينبغي أن يتفكر كل منا جواب هذا، وأن يسمح لي فأقول جهرا: إن كل شيء موفور عند المسلمين، أكثر ما كانت قبل، ولكن الفكر للإسلام والتألم له والنهوض به والدفاع عنه والتضحية في سبيله صارت مفقودة فينا، ونحن نرى أنفسنا بكل خير وفي كل خير ما دام لم يصبنا نحن، أولادنا، وأشقائنا، وأسرتنا، وعائلتنا أي أذى، وأما الإسلام فيكون في خطر والمسلمون يكونون في طوفان، طوفان الكفر والارتداد، طوفان الضلالة والإلحاد فلا يهمنا ما دام الطوفان بعيدا عن أبوابنا. فهذا عين الضلالة، وقد وصف الله عز وجل أمة ¬

(¬1) البريلوية (161).

موقفه من الرافضة:

محمد عليه السلام بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (¬1) وقد أهملنا هذه المنزلة وهذه المكرمة وفقدنا ميزة الخيرية. فتيقظوا أيها المسلمون. وتنبهوا، أليس من المبكي أن تغزو هذه الفئة الكثير من بلاد العالم الإسلامي بينما كان المسلمون في يقظة لكل عدو وحربا على كل ضلال وفساد للقضاء عليه في موطنه. فالمسئولية مشتركة كل بقدره. وإن العمل ضد القاديانية لإيقاف خطرها أمر يحتمه ويوجبه كل من الدين، والسياسة، والوطنية. أما الدين: فبتحريفها العقائد، وهدمها لأركان الإسلام. وأما السياسة: فلكونها الجسر الواسع للاستعمار في كل شعب تحل فيه كما أنشأها وعاهدها. وأما الوطنية: فكما بين الكاتب الهندوسي الكبير وكشف شاعر الإسلام الكبير محمد إقبال حينما رد على جواهر لآل نهرو في تدعيمه إياها. (¬2) موقفه من الرافضة: هذا العلَم الذي سخر قلمه ولسانه للذب عن المنهج السلفي، وتقويض أركان أهل الضلال والبدع خاصة الرافضة اللعينة، فقد تصدى لها الشيخ رحمه الله بكل ما أوتي من قوة وجهد، وألف في ذلك المؤلفات العظيمة منها: 1 - 'الشيعة والتشيع'. ¬

(¬1) آل عمران الآية (110). (¬2) القاديانية (15 - 17).

موقفه من الصوفية:

2 - 'الشيعة والقرآن'. 3 - 'الشيعة والسنة'. 4 - 'الشيعة وأهل البيت'. 5 - 'الإسماعيلية'. وكلها مطبوعة ومتداولة ولله الحمد والمنة. موقفه من الصوفية: له من الآثار السلفية: 'التصوف المنشأ والمصادر'. وهو مطبوع. - قال في مقدمته رحمه الله: كنت أظن أول الأمر أن بعض الغلاة هم الذين أساءوا إلى التصوف والصوفية، وأن الغلو والتطرف هو الذي جلب عليهم الطعن وأوقعهم في التشابه مع التشيع والشيعة، ولكنني وجدت كلما تعمقت في الموضوع، وتأملت في القوم ورسائلهم، وتوغلت في جماعاتهم وطرقهم، وحققت في سيرهم وتراجمهم، أنه لا اعتدال عندهم كالشيعة تماما، فإن الاعتدال فيهم كالعنقاء في الطيور، والشيعي لا يعد شيعيا إلا حين ما يكون مغاليا متطرفا، وكذلك الصوفي تماما، فمن لا يعتقد اتصاف الخلق بأوصاف الخالق، لا يمكن أن يعد صوفيا ووليا من أولياء الله. ومن الطرائف أن ظني ذلك كان يجعلني ويحثني على أن أسمي مجموعة الكتابة عن المتصوفة 'التصوف بين الاعتدال والتطرف' ولكنني لما كتبت وجدت أن هذا الاسم لا يمكن أن يناسب تلك المجموعة من الناس لعدم وجود الاعتدال مع محاولتي أن أجده لأدافع عنهم وأجادل، وأبرر بعض مواقفهم، وأجد المعاذير للبعض الأخرى، ولكنني بعد قراءتي الطويلة العميقة

العريضة لكتب الصوفية ومؤلفات التصوف، وجدت نفسي، إما أن أجادل بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، وأتبع كل شيطان مريد -ولا جعلني الله منهم- وإما أن أقول الحق ولا أخاف في الله لومة لائم، وأتقي الله وأكون مع الصادقين- وجعلني الله منهم ورزقني الاستقامة والثبات عليه. (¬1) - وقال: فإن التصوف أمر زائد وطارئ على الزهد، وله كيانه وهيئته، نظامه وأصوله، قواعده وأسسه، كتبه ومؤلفاته، ورسائله ومصنفاته، كما أن له رجالا وسدنة وزعماء وأعيانا. فإن الزهد عبارة عن ترجيح الآخرة على الدنيا، والتصوف اسم لترك الدنيا تماما. والزهد هو تجنب الحرام، والاقتصاد في الحلال، والتمتع بنعم الله بالكفاف، وإشراك الآخرين في آلاء الله ونعمه وخدمة الأهل والإخوان والخلان. والتصوف تحريم الحلال، وترك الطيبات، والتهرب من الزواج ومعاشرة الأهل والإخوان، وتعذيب النفس بالتجوع والتعري والسهر. فالزهد منهج وسلوك مبني على الكتاب والسنة، وليس التصوف كذلك، لذلك احتيج لبيانه إلى 'التعرف لمذهب أهل التصوف' و'قواعد التصوف' و'الرسالة القشيرية' و'اللمع' و'قوت القلوب' و'عوارف المعارف' وغيرها من الكتب. (¬2) ¬

(¬1) التصوف المنشأ والمصادر (ص.6 - 7). (¬2) التصوف المنشأ والمصادر (ص.9 - 10).

- وقال: فخلاصة الكلام أن الجميع متفقون على حداثة هذا الاسم، وعدم وجوده في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والسلف الصالحين. نعم، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أزهد خلق الله في الدنيا وزخارفها، وأصحابه على سيرته وطريقته، يعدون الدنيا وما فيها لهوا ولعبا، زائلة فانية، والأموال والأولاد فتنة ابتلي المؤمنون بها، فلم يكونوا يجعلون أكبر همهم إلا ابتغاء مرضاة الله، يرجون لقاءه وثوابه، ويخافون غضبه وعقابه، آخذين من الدنيا ما أباح الله لهم أخذه، ومجتنبين عنها ما نهى الله عنه، سالكين مسلك الاعتدال، منتهجين منهج المقتصد، غير باغين ولا عادين، ولا مفرطين ولا متطرفين، وعلى رأسهم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخلفاء الراشدون، وبقية العشرة المبشرة، ثم البدريون، ثم أصحاب بيعة الرضوان، ثم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، ثم عامة الأصحاب، على ترتيب الأفضلية كما مر سابقا في الفصل الأول من هذا الباب. وتبعهم في ذلك التابعون لهم بإحسان، وأتباع التابعين، أصحاب خير القرون، المشهود لهم بالخير والفضيلة، ولم يكن لهؤلاء كلهم في غير رسول الله أسوة ولا قدوة، الذي قال فيه جل وعلا: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عائلاً فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا اليتيم فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)} (¬1). والذي إذا وجد طعاما فأكل وشكر، وإذا لم يجد فرضي وصبر، وأحب لبس ¬

(¬1) الضحى من الآية 6 إلى آخر السورة.

الثياب البيض، واكتسب جبة رومية، ونهى عن التصدق بأكثر من ثلث المال، وأمر بحفظ حقوق النفس والأهل والولد، ونهى عن تعذيب النفس وإتعاب الجسد فوق الطاقة، وكما أنه نهى هو نفسه عن قيام الليل كله، لإراحة الجسد والبدن، وحرض متبعيه على طلب الحلال، وطلب الحسنات في الدنيا والآخرة، ومنع الله تعالى من التعنت والتطرف في ترك الدنيا وطيباتها في آيات كثيرة في القرآن الكريم، سنوردها في موضعها من الكلام إن شاء الله. ثم خلف من بعدهم خلف فتطرفوا، وذهبوا بعيدا في نعيم الدنيا وزخارفها، وفتحت عليهم أبواب الترف والرخاء، ودرت عليهم الأرض والسماء، وأقبلت عليهم الدنيا بكنوزها وخزائنها، وفتحت عليهم الآفاق، فانغمسوا في زخارفها وملذاتها، وبخاصة العرب الفاتحون الغزاة، والغالبون الظاهرون، فحصل رد الفعل، وفي نفوس المغلوبين المغزوين والمقهورين، من الموالي والفرس والمفلسين وأصحاب النفوس الضعيفة المتوانية خاصة، فهربوا عن الحياة ومناضلتها، وجدها وكدها، ولجأوا إلى الخانقاوات والتكايا والزوايا والرباطات، فرارا من المبارزة والمناضلة، وصبغوا هذا الفرار والانهزام ورد الفعل صبغة دينية، ولون قداسة وطهارة، وتنزه وقرابة، كما كان هنالك أسباب ودوافع ومؤثرات أخرى، وكذلك أيدى خفية دفعتهم إلى تكوين فلسفة جديدة للحياة، وطراز آخر من المشرب والمسلك، وأسلوب جديد للعيش والمعاش، فظهر التصوف بصورة مذهب مخصوص، وبطائفة مخصوصة، اعتنقه قوم، وسلكه أشخاص ساذجون بدون تفكير كثير، وتدبر عميق كمسلك الزهد، ووسيلة التقرب إلى الله، غير عارفين بالأسس التي قام عليها

هذا المشرب، والقواعد التي أسس عليها هذا المذهب، بسذاجة فطرية، وطيبة طبيعية، كما تستر بقناعه، وتنقب بنقابه بعض آخرون لهدم الإسلام وكيانه، وإدخال اليهودية والمسيحية في الإسلام، وأفكارهما من جانب، والزرادشتية والمجوسية والشعوبية من جانب آخر، وكذلك الهندوكية والبوذية والفلسفة اليونانية الأفلاطونية من ناحية أخرى، وتقويض أركان الإسلام وإلغاء تعاليم سيد الرسل - صلى الله عليه وسلم -، ونسخ الإسلام وإبطال شريعته بنعرة وحدة الوجود، ووحدة الأديان، وإجراء النبوة، وترجيح من يسمى بالولي على أنبياء الله ورسله، ومخالفة العلم، والتفريق بين الشريعة والحقيقة، وترويج الحكايات والأباطيل والأساطير، باسم الكرامات والخوارق وغير ذلك من الخرافات والترهات. (¬1) - وقال: ولقد بوب الصوفية في كتبهم أبوابا مستقلة في مدح العزوبة وذم التزويج، وهذا الأمر لا يحتاج إلى بيان أنه لم يأخذه المتصوفة إلا من رهبان النصارى ونساك المسيحية الذين ألزموا أنفسهم التبتل، خلافا لفطرة الله التي فطر الناس عليها. تقليدا لهم واتباعا لسنتهم، واقتداء لمسالكهم ومشاربهم، مخالفين أوامر الله وأوامر رسوله - صلى الله عليه وسلم - الناسخ لجميع الشرائع والأديان، المبعوث بمكارم الأخلاق وفضائل العادات، فالله يأمر المؤمنين في محكم كتابه بنكاح النساء مثنى وثلاث ورباع وعند الخوف من عدم العدل بواحدة، فيقول جل من قائل: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى ¬

(¬1) التصوف المنشأ والمصادر (ص.43 - 45).

فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)} (¬1). وقال: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وإمائكم إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)} (¬2). وجعل الزواج سببا لحصول السكون والطمأنينة حيث قال عز وجل: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)} (¬3). ورسوله صلوات الله وسلامه عليه يحذر المعرضين عنه في حديث طويل أورده البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه أنه قال: إن نفرا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألوا أزواج النبي عليه السلام عن عمله في السر فأخبرنهم فقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا أنام على فراش. وقال بعضهم: أصوم ولا أفطر، فحمد الله النبي عليه الصلاة والسلام وأثنى عليه، ثم قال: «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنتي فليس مني» (¬4). وقال: «تزوجوا الولود والودود فإني ¬

(¬1) النساء الآية (3). (¬2) النور الآية (32). (¬3) الروم الآية (21). (¬4) تقدم ضمن مواقف إسماعيل بن محمد الأصبهاني سنة (535هـ).

مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» (¬1). وقال عليه الصلاة والسلام: «حبب إلي من الدنيا الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة» (¬2). وعن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «وفي بضع أحدكم صدقة»، قالوا: يأتى أحدنا شهوته ويكون فيها له أجر؟. قال: «أفرأيتم لو وضعه في حرام، هل عليه وزر؟» قالوا نعم. قال: «فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر» (¬3). وما أحسن ما قال إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمة الله عليه: (ليس العزوبة من أمر الإسلام في شيء، النبي عليه الصلاة والسلام تزوج أربع عشرة امرأة ومات عن تسع، ثم قال: لو كان بشر بن الحارث تزوج قد تم أمره كله. لو ترك الناس النكاح لم يغزوا ولم يحجوا ولم يكن كذا، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يصبح وما عنده شيء، وكان يختار النكاح ويحث عليه، وينهى عن التبتل، فمن رغب عن عمل النبي عليه الصلاة والسلام فهو على غير الحق. ويعقوب عليه السلام في حزنه قد تزوج وولد له. والنبي عليه الصلاة والسلام قال: «حبب إلي النساء». فهذه هي تعاليم شريعة الإسلام المستقاة من أصلين أساسيين لشرع الله: الكتاب والسنة. وتلك هي أقوال الصوفية، التي لم يأخذوها من هذا المورد العذب، والمنهل الصافي، بل أخذوها من الكهنة والبوذية كما مر ذلك، ونساك الجينية، ورهبان المسيحية. وأمر أولئك في هذا الباب مشهور ومعروف لا ¬

(¬1) أحمد (3/ 158) وابن حبان (9/ 338/4028 الإحسان) وأورده الهيثمي في المجمع (258) وحسن إسناده. (¬2) أحمد (3/ 128و199و285) والنسائي (7/ 72/3949) والحاكم (2/ 160) وقال: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي والبيهقي (7/ 78) من حديث أنس. (¬3) أحمد (5/ 167و168) ومسلم (2/ 697 - 698/ 1006) وأبو داود (5/ 406 - 407/ 5243).

عبد العزيز بن ناصر بن عبد الله بن رشيد (1408 هـ)

يحتاج إلى كثير من البيان. (¬1) عبد العزيز بن ناصر بن عبد الله بن رشيد (¬2) (1408 هـ) الشيخ عبد العزيز بن ناصر بن عبد الله بن عبد العزيز بن رشيد بن حدجان، من آل حصنان. ولد في بلدة الرس سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة وألف، ونشأ فيها، ثم رحل إلى الرياض، فأخذ عن الشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم والشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ. ثم سافر إلى مكة المكرمة سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة، فصار مدرسا في المسجد الحرام، ثم صار قاضيا في بلجرشي، وفي سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة عين مدرسا في المعهد العلمي بالرياض. وفي سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة وألف عين رئيسا لهيئة التمييز بالرياض. وله مؤلفات تدل على سعة علمه واطلاعه الواسع في العلوم الشرعية. توفي رحمه الله سنة ثمان وأربعمائة وألف. موقفه من الجهمية: له من الآثار السلفية: 1 - 'التنبيهات السنية في شرح العقيدة الواسطية'. 2 - 'القول الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى'. (¬3) ¬

(¬1) التصوف المنشأ والمصادر (ص.61 - 62). (¬2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/ 531 - 534). (¬3) علماء نجد (3/ 534).

أبو يوسف عبد الرحمن عبد الصمد (1408 هـ)

أبو يوسف عبد الرحمن عبد الصمد (¬1) (1408 هـ) الشيخ العلم عبد الرحمن بن يوسف بن محمود بن حسين بن علي بن عبد الصمد، ولد في بلدة عنبتا قضاء طولكرم التابعة لنابلس في فلسطين. نشأ يتيما لا أب ولا أم وهو دون التاسعة من عمره. خرج من فلسطين إلى لبنان فسوريا وبها تصوف على طريقة الرفاعية حتى منَّ الله عليه بمعرفة الحق الواضح الأبلج، فتبرأ من التصوف وأهله وحذر منهم. درس في المعهد العلمي بالرياض الذي افتتح عام إحدى وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة، تعرف على عدة مشايخ على رأسهم الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، وبقي في الرياض تسع سنوات حتى التحق بالجامعة الإسلامية حين افتتاحها سنة ثمانين وثلاثمائة وألف. ثم رجع إلى سوريا فعمل إماما وخطيبا في مناطق مختلفة، ثم رحل إلى الكويت وبقي فيها مدة، إلى أن وجهت له دعوة من الجمعية الإسلامية في ملبورن بأستراليا، فأجاب دعوتهم ورحل إليهم، فتوفي رحمه الله هناك بأستراليا ودفن بها في مساء الخميس سبعة عشر شوال سنة ثمان وأربعمائة وألف للهجرة. موقفه من المبتدعة: له رسالة ماتعة بعنوان: 'أسئلة طال حولها الجدل'. وهي رسالة تشف ¬

(¬1) 'المقتصد من حياة الشيخ أبي يوسف عبد الرحمن عبد الصمد' بقلم إبراهيم الساجر. وتتمة الأعلام (1/ 283 - 284) لمحمد خير رمضان يوسف. وإتمام الأعلام (ص.151) لنزار أباظه ومحمد رياض المالح.

عن منهج صاحبها الرقراق. - قال رحمه الله فيها: مما لا شك فيه عندي في أن جميع البدع الشرعية المنسوبة إلى الدين بشتى ألوانها وصورها كلها ضلالة وفي النار، لأنها تشريع لم يأذن به الله، وحدث في الدين ما أنزل الله به من سلطان، وتحريف للكلم عن مواضعه، وإساءة في فهم قواعد الشرع العامة، وتلاعب في نصوص الدين الإسلامي الحنيف، وتمسك بما تشابه منه ابتغاء الفتنة وضرارا وتفريقا بين المؤمنين، وتمزيقا لشملهم. لكن الله جلت قدرته أبى إلا أن يحفظ دينه ويعلي كلمته، فأرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المبطلون، ويحق الحق بكلماته ويزهق الباطل وأهله. فكان حكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى- على جميعها بأنها ضلالة وفي النار، وكذلك الخلفاء والصحابة والأئمة رضوان الله عليهم أجمعين ورثوا ذلك عنه - صلى الله عليه وسلم - وحذروا أتباعهم من اتخاذ البدع والعمل بها. (¬1) - ثم قال بعد ذكر الأدلة على ذلك وكلام الأئمة المعتبرين: وخلاصة القول: أنه قد ثبت أن جميع بدع العبادات كلها ضلالة وكلها في النار، وأنه لا يوجد في البدع الشرعية ما يمدح، وليس في الإسلام بدعة حسنة، بل كلها سيئة ومذمومة ومن زعم ذلك فينطبق عليه قول الإمام مالك رحمه الله: (من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا خان الرسالة). وتقسيم من قسمها منصب على بدع العادات والبدعة اللغوية لا غير ¬

(¬1) أسئلة طال حولها الجدل (ص.54).

كالمنخل والأشنان ونحو ذلك من بدع العادات، ومعلوم أن الأمة متفقة على أن الخير كله في اتباع من سلف والشر كله في ابتداع من خلف، وأن الابتداع في الدين شر كله وليس فيه ما يمدح، والله تعالى أعلم. (¬1) - وقال رحمه الله في شأن التقليد: مما لا شك فيه أن المتأخرين قد نسبوا إلى الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين (مذاهب) وتعارفوا فيما بينهم على صحة ما نسبوه إليهم من تلك المذاهب وعرفوها بأنها عبارة عن (كتب المذهب) سواء نسبت للإمام نفسه أو إلى أحد تلامذته أو لأحد من مجتهدي المذهب، وسواء أكانت أصولا أو فروعا، متونا أو حواشي أو شروحا، وألزم أولئك المتأخرون أتباعهم بالتقيد التام بالمذهب وبأخذ جميع ما فيه من مسائل وغيرها، وعدوا الخارج عنها ولو بمسألة واحدة خارجا عن المذهب وعدوه ملفقا ومرقعا. لكن الأئمة رضوان الله عليهم أجمعين براء من كل ذلك، وبعيدون كل البعد عن أن يدعوا لأنفسهم مذهبا معينا على النحو المعروف اليوم ويلزموا أتباعهم بأن يلتزموه ويفرضوا عليهم أن يتقيدوا بأقوالهم وأفعالهم واجتهاداتهم وأن يأمروهم بعدم الخروج عنها، حاشاهم من ذلك ونعيذهم بالله أن يقع منهم مثل ذلك. بل الذي حصل منهم على العكس مما يدعيه المتأخرون، إنهم زجروا أتباعهم عن تقليدهم وتقليد غيرهم من الأئمة قال الإمام أحمد رحمه الله: (لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا) من إيقاظ الهمم للفلاني صفحة 113 وأعلام الموقعين ¬

(¬1) أسئلة طال حولها الجدل (ص.59).

(2/ 302) وقال: (رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي وهو عندي سواء وإنما الحجة في الآثار) ذكره ابن عبد البر في الجامع (2/ 149) وللمزيد راجع مقدمة صفة صلاة النبي للألباني. وقال الإمام مالك: (ليس أحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي - صلى الله عليه وسلم -) ابن عبد البر في الجامع (2/ 91). وقال: (إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه) ابن عبد البر (2/ 32). وقال الإمام الشافعي رحمه الله: (أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحل أن يدعها لقول أحد) راجع صفة صلاة النبي للألباني (المقدمة ص 29 - 30). وقال: (إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعوا ما قلت) المرجع السابق. وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: (ويحك يا يعقوب -هو أبو يوسف- لا تكتب كل ما تسمع مني فإني قد أرى الرأي اليوم وأتركه غدا، وأرى الرأي غدا واتركه بعد غد) نفس المرجع. هذا ما قاله هؤلاء الفضلاء ودُوِّنَ عنهم رضوان الله عليهم أجمعين، وبهذا أمروا أتباعهم، لا كما يزعمه المقلدة. صحيح أن كلمة المذهب قد وردت في معرض كلامهم وجرت على بعض ألسنتهم مثل قولهم: (إذا صح الحديث فهو مذهبي) ومعلوم أن كلمة (المذهب) مأخوذة من ذهب يذهب ذهابا ومذهبا فهو ذاهب، ومقصودهم من هذه العبارة أنهم إذا وجدوا حديثا صحيحا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسألة

ما ذهبوا إليه وتمسكوا به وعملوا بما فيه وتركوا آراء الرجال وأقيستهم. وبعد التتبع والاستقراء وجدنا جميع مذاهبهم تقوم على ثلاثة أركان: الأول: صحة الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الثاني: إذا خالفت أقوالهم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - رددنا أقوالهم وأخذنا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثالث: إذا صح الحديث في مسألة ما بخلاف ما قالوا رجعوا عما قالوه في حياتهم وبعد موتهم. (¬1) إلى أن قال: فالذي يُلزم الناس باتباع مذهب معين ويحملهم على التقيد بجميع ما فيه من المسائل وعدم الخروج عنه دون المذاهب الأخرى فإنه غير موفق للصواب ومخالف لجميع مذاهب الأئمة أنفسهم، بل يكون جاهلا أو صاحب هوى متبعا لهواه أعاذنا الله وإياكم من ذلك. وهنا نسأل الذي يلزم الناس باتباع مذهب معين والتقيد به دون المذاهب الأخرى؟ هل يعتقد بعصمة من يدعو الناس لاتباع مذهبه؟ وهل أحاط صاحب ذلك المذهب بجميع تعاليم الإسلام كما أنزلها الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - كاملة وتامة؟. فإن قال بعصمة صاحب المذهب وعدم الخطأ وأنه أحاط بجميع تعاليم الإسلام كاملة غير منقوصة ولم يعزب عنه منها شيء فقد خالف الواقع المحسوس وما اتفقت عليه الأمة. وإن قال بعدم العصمة وبجواز الخطأ عليه ¬

(¬1) أسئلة طال حولها الجدل (ص.132 - 134).

موقفه من الجهمية:

وأنه لم يحط بجميع تعاليم الإسلام، فنقول له: كيف تلزم الناس بأن يتقيدوا بأقوال تحتمل الخطأ والصواب وبإسلام غير متكامل؟؟؟ وفي الحقيقة أن القول بإلزام الناس بمذهب واحد معين لا يعدو عن كونه نظرية من نسج الخيال ولا تمت إلى الحقيقة بصلة، يكذبها الواقع واقع الإسلام وواقع المسلمين في القرون الثلاثة المفضلة وتردها الأصول التي أصّلها أصحاب المذاهب أنفسهم. (¬1) - وله أيضا كتاب 'الرسالة العظمى' لكنه لم يتمه. وله ردود وتعقبات على كثير من الرسائل منها: - 'تبسيط عقائد المسلمين' لحسن أيوب. - 'نحو كلمة سواء وحوار كريم' لعبد الله نجيب. - 'الإمام الشيرازي' لمحمد حسن هيتو. وغيرها. موقفه من الجهمية: له رسالة في التوحيد. قال فيها رحمه الله: أقول: فأي محادة لله وللرسول - صلى الله عليه وسلم - أكبر عند الله من ملحد يسمع قول الله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} (¬2) {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (¬3) ويقول: (لا أقول حي ولا لا حي) ويسمع ¬

(¬1) أسئلة طال حولها الجدل (ص.136 - 137). (¬2) الفرقان الآية (58). (¬3) البقرة الآية (256).

قول الله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} الآية (¬1) وقوله: {إِن اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)} (¬2) ويقول: (لا أقول عالم ولا لا عالم). ولكن الحقيقة كل الحقيقة {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)} (¬3) وحسبهم قول الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20)} (¬4). وهم القائلون: (سميع بلا سمع وبصير بلا بصر وحي بلا حياة ومريد بلا إرادة ومقتدر بلا قدرة ... إلخ). فرارا منهم من تعدد القديم زعموا. ونكتفي بالرد عليهم بما قاله الفاضل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: (ومذهبهم الباطل لا يخفى بطلانه وتناقضه على أدنى عاقل؛ لأن من المعلوم أن الوصف الذي منه الاشتقاق إذا عدم فالاشتقاق منه مستحيل، فإذا عدم السواد عن جرم مثلا استحال أن نقول هو أسود إذ لا يمكن أن يكون أسود ولم يقم به سواد. وكذلك إذا لم يقم العلم والقدرة بذات استحال أن نقول: هي عالمة قادرة لاستحالة اتصافها بذلك ولم يقم بها علم ولا قدرة) [1/ 309 أضواء البيان]. ¬

(¬1) الأنعام الآية (73). (¬2) فاطر الآية (38). (¬3) الحج الآية (46). (¬4) المجادلة الآية (20).

وهنا أسأل أتباع هؤلاء سؤالا على النمط الذي وجه إلى بشر المريسي في فتنة خلق القرآن. فأقول: "قولكم لا نقول عالم ولا لا عالم وحي ولا لا حي وسميع بلا سمع وبصير بلا بصر وحي بلا حياة وقادر بلا قدرة ... إلخ" هل هذا القول من الدين الذي أكمله الله وأتمه ورضيه لنا دينا أم لا؟ فإن قلتم: من الدين، نقول لكم: هل علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - أم جهله؟ فإن قلتم: جهله، نقول لكم إنكم قد نسبتم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الجهل في الدين. شيء من الدين جهله النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلمتموه أنتم، سبحانك هذا بهتان عظيم. وإن قلتم علمه: نقول لكم: هل علّمه أحدا من أصحابه رضوان الله عليهم أم سكت عنه؟ فإن قلتم: علمه، نقول لكم: من روى هذا عنه - صلى الله عليه وسلم -؟ وفي أي الكتب روى؟ ودونكم خرط القتاد أن تثبتوا ذلك وأنى لكم التناوش. وإن قلتم سكت عنه ولم يعلمه أحد من أصحابه، نقول لكم: شيء سكت عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يعلمه أحدا من أصحابه وسكت عنه الخلفاء والصحابة وسكت عنه التابعون وتابعوهم بإحسان إلى يومنا هذا ولم يعلموه أحدا من العالمين ألا يسعكم السكوت عنه؟ لا وسّع الله على من لم يسعه ما وسع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته رضوان الله عليهم. وهذا السؤال يصلح أن يسأل به عن كل قول قاله الزنادقة والباطنية الحاقدة وعلماء الكلام وكذلك أتباع المشبهة والمجسمة والمعطلة والمؤولة

أسامة بن توفيق القصاص (1408 هـ)

والواقفية والمفوضة وغيرهم ولله الحمد والمنة. (¬1) - وقال رحمه الله ردا على المؤولة، ومبينا فساد مذهبهم: أقول في مقالتهم هذه أن ظواهر هذه الصفات والمتبادر للذهب والسابق إلى الفهم من معاني الاستواء والنزول ... هو مشابهة صفات المخلوقين ... إلخ. إساءة الظن بالله جل وعلا واتهام لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكيف يسوغ بمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعتقد أن في كلام الله الذي أنزله في كتابه ووصف به نفسه ما ظاهره التشبيه والكفر، ويتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدم بيان ما ظاهره الكفر والتشبيه للأمة، مع أنه مأمور بتبليغ الرسالة للناس كافة وتبيين لهم ما نزل إليهم، وكيف يخطر ببال مسلم أن استواء الله على عرشه ونزوله إلى سماء الدنيا ومجيئه يوم القيامة ووجهه ويده ورضاه وغضبه ... إلخ يشبه صفات المخلوقين وهو القائل جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (¬2). ولكن أبى الزنادقة والباطنية الحاقدة وأفراخ الفلاسفة الملحدين وتلامذة المتكلمين واليهود المارقين، أبوا إلا الدس في هذا الدين الحنيف وزعزعة عقائد المسلمين، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. (¬3) أسامة بن توفيق القصاص (¬4) (1408 هـ) الشاب الهمام العالم أسامة بن توفيق القصاص الداعية الفريد، وضع ¬

(¬1) المقتصد من حياة الشيخ أبي يوسف (ص.50 - 52). (¬2) الشورى الآية (11). (¬3) المقتصد من حياة الشيخ أبي يوسف (ص.59). (¬4) من مقدمة كتابه 'إثبات علو الله على خلقه والرد على المخالفين' بقلم الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق.

موقفه من المبتدعة:

رحمه الله نفسه في خدمة العلم، ورفع منار التوحيد الخالص، والتعريف بالله الواحد، والتصدي بكل قوة لفرقة ضلت وانحرفت عن فهم صفات ربها وألحدت في أسمائه، وكفرت المسلمين، وسبت وشتمت علماء الإسلام واستحلت دماء الموحدين، وعاثت في الأرض فسادا ... وأن هذا الجهبذ رحمه الله رحمة واسعة كان يعلم أن وراء بيان الحق وإنكار منكر هذه الطائفة الضالة أن يعرض نفسه للقتل. ومع ذلك فإنه لم يأبه لذلك، بل قال في كتابه هذا: (لقد هددوني بالقتل، وأوعزوا إلى أحدهم بالفعل، وهم يجهلون أنني أرضى بأن يطاح برأسي مقابل رأسهم وهم يظنون أن الله غافل عما يفعلون، أو أن المسلمين عنهم لاهون ... ألا إن الصبح قريب، وسبحان ربنا القائل: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} (¬1). قتلته رحمه الله فرقة الأحباش الضالة المنحرفة بطرابلس الشام. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته. من تآليفه 'إشراقة الشرعة في الحكم على تقسيم البدعة' و'إثبات علو الله على خلقه والرد على المخالفين'. موقفه من المبتدعة: قال في كتابه 'إشراقة الشرعة' راد على من قسم البدعة إلى حسنة ¬

(¬1) التوبة الآيتان (51و52).

وسيئة، وأدحض فيه شبههم الواهية: فاعلم أخي أن حثالة من الناس حملت قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقول بعض الصحابة، بل وقول بعض العلماء، على فهمها المعوج، لتضرب بذلك السنة الصريحة الواضحة، بل لتضرب الدين بالدين كفعل الزنادقة الملحدين الذين كان دأبهم أن يشككوا الناس في إسلامهم؛ وهكذا فالفعل شاهد المقصد. وغاية ما في الأمر أن بعض العلماء المتأخرين قال بتقسيم البدعة، وتبعه على ذلك من تبعه، ولكن تذرع من لا فهم عنده بهذا الأمر ليقول: إن بعض الابتداع في الدين يكون حسنا أو واجبا أو ما شابه، رافعا هذا القول لواء، وظانا أن بعض السنة يعاضده ويسانده ففرح المسكين، واستمال بذلك قلوب العامة ... (¬1) - وقال أيضا: عليك أن تعرف أخي أن الابتداع معناه أحد أمرين: إما أن الله تعالى لم يكمل الدين؛ وهذا كفر، إذ يقول الله سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬2). وإما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخفق ولم يبلغ الرسالة حق التبليغ؛ وهذا اتهام له بالخيانة، وهو كفر، فالله تعالى امتدحه وجعله خاتم الرسل، وهو القائل عليه الصلاة والسلام: «إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على ¬

(¬1) إشراقة الشرعة (ص.13). (¬2) المائدة الآية (3).

ما يعلمه خيرا لهم، وينذرهم ما يعلمه شرا لهم» (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما تركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به» (¬2). وقالت عائشة لمسروق رضي الله عنهما: «ومن حدثك أن محمدا كتم شيئا مما نزل عليه فقد كذب» (¬3). وقال مالك رحمه الله في هذا الشأن وهو عالم دار الهجرة: (من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا خان الرسالة؛ لأن الله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬4)، فما لم يكن يومئذ دينا لا يكون اليوم دينا). فمن ابتدع إذا كان هذا معنى فعله، وهو أنه متهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخيانة لدين الله وحاشاه. وكذلك ليس لأحد أن يقول عن شيء هذا أمر صغير أو حسن، لأن الوصف لا وزن له مع قبح الفعل وهو الابتداع؛ لأن البدعة مضاهية للشريعة، والتشريع من حق الشارع. ومن قال عما لم يكن مشروعا: هذا حسن، فكأنما نصب نفسه إلها أو ندا لله تعالى، وكذلك العقل فهو مناط التكليف، ولم يقل أحد هو مناط التشريع، ولو كان ذلك من حقوقه لما كان ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (2/ 161) ومسلم (3/ 1472 - 1473/ 1844) والنسائي (7/ 172 - 173/ 4202) وابن ماجه (2/ 1306 - 1307/ 3956). من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. (¬2) أخرجه: الشافعي في الرسالة: (ص.87) فقرة (289)، وعنه البيهقي (7/ 76) والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 270) مرسلا عن المطلب بن حنطب. قال الشيخ الألباني إسناده مرسل حسن، وذكر للحديث شواهد يتقوى بها (الصحيحة: 4/ 417). (¬3) أحمد (6/ 49،50) والبخاري (8/ 349/4612) ومسلم (1/ 159/177) والترمذي (5/ 3068 - 3069/ 3278). (¬4) المائدة الآية (3).

هناك من دافع إلى إنزال الكتب وإرسال الرسل، إذ كل منا عندئذ يتخذ دينا يتعبد به بمحض اختياره. وهذا كله باطل، فالدين واحد وهو كامل لا يحتاج إلى من يزيد عليه، وليس للبشر ولا للملائكة ولا للجن أن يتصرفوا فيه بالزيادة والنقصان، فإذا كان هذا ليس من حق الرسل، فكيف يكون من حق من هو دونهم؟! قال الله تعالى في رسوله اللأعظم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} (¬1). فهذا الوصف الرباني لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبين لنا أن كلامه لم يكن من عنده، بل هو وحي من الله، ويؤكد وجوب اتباع القرآن والسنة، لكونهما خاليين من هواه - صلى الله عليه وسلم -، ومن هنا كانا دينا يتعبد به ويلتزم. فكيف يتعبد إذاً بقول الرجال وأهواء الجهال؟!! اللهم غفرا. (¬2) - وقال: ومن أشنع وأبشع ما يسمع من الكلام قول بعض الجهال -إذا ما نهيته عن بدعة-: (أهذا الأمر الصغير بدعة؟) فمشكلة هؤلاء أن أحدهم ينظر إلى البدعة في شكلها لا فعلها، ولو فقهوا معناها لأدركوا قيمة هذا النهي ولكن هيهات، فقد غلفت قلوبهم غشاوة الاستحسان، فأصبحوا لا يفرقون بين السنة والبدعة بخلاف السني فإن قلبه مرآة صافية، إذا ما عرضت له نكتة سوداء سارع إلى حكها، لأنها تظهر بوضوح لنصاعة القلب وطهره، وليعلم ¬

(¬1) النجم الآيتان (3و4). (¬2) إشراقة الشرعة (ص.15 - 17).

الجاهل بأن الأمر إن كان تافها في عينه لا يحتاج إلى نهي فإنه لا بد ولا ريب سيترسخ في يوم من الأيام حتى يصبح عند الناس سنة، وهذا خطر جسيم، لأن شرائع أو طبائع البشر تصبح بذلك دينا، والإسلام لا يقبل الزيادة أو النقصان. (¬1) - وقال: فالمبتدع كما ترى سفيه أحمق وعقله مغلق، يظن بفعله أنه يؤجر ويثاب، ولا يدري ما ينتظره من العقاب، وهو يحتج على نهيك بقول ساقط وخيم، وهو أنه يصلي أو يذكر أو يصوم، ويتجاهل أن هذه العبادات لها كيفيات وأوقات، فإن خرجت عنها استحق صاحبها العقوبات وخرجت عن كونها قربات. (¬2) وقال (¬3): عصابة ظهرت في الدين مفتتنة ... قالت وجدنا وجدنا بدعة حسنه وكان تقسيم بعض الناس عمدتَها ... مع أنه لغوي عند من وزنه تعسا لها جهلت أن كل محدثة ... في الشرع مذمومة قد خالفت سننه إذ لم يفرق بقول منه ينصرها ... بل قوله (كل) يعني كلها نتنه وإن من صحبوا المختار سائرهم ... نصوا على قبحها ردا على الخونه حتى الذي صنعوا من قوله حججا ... وحرفوا قصده قد حوربت زَمَنَه لم يعرفوا عمرا يا ويح نظرتهم ... فكيف يهدون إذ أفهامهم زَمِنَه ¬

(¬1) إشراقة الشرعة (ص.86). (¬2) إشراقة الشرعة (ص.94). (¬3) إشراقة الشرعة (ص.99 - 103).

هو المداوي صبيغا من ضلالته ... بضرب عرجونة وهو الذي سجنه قلنا لهم بحديث المصطفى اعتصموا ... فعصمة المرء بالقرآن إن قرنه لكنهم أعرضوا عن قولنا عجبا ... يستحسنون بأهواء لهم عفنه كم من حقائق عن أحوالهم ظهرت ... إن رمت تعرفها سل أنفسا فطنه فقد كشفنا معاني فعلهم ولذا ... تعلق القلب بالمأثور واحتضنه النفس جامحة مثل الحصان فإن ... تتركه يهلك لذا أحكم له رسنه ما الابتداع سوى أهواء صاحبها فكل مبتدع لا بد متبع ... لأنه مظهر ما النفس مختزنه وديننا آية أو سنة أبدا ... لها فما خرجت عن كونها وثنه فذاك موطننا لانرتضي بدلا ... دوما على مثل هذا الروح مئتمنه فيه الأمان فهلا كنت زائره ... وإن رأى غيرنا في غيره وطنه لا تحتقر أهل من دانوا بمنهجنا ... حتى تسائل عما فيه من سكنه في الله حدتهم هذي مزيتهم ... حتى وإن خرجت ألفاظهم خشنه فالحق غايتهم والصدق رايتهم ... عند التعدي أتبقى النفس متزنهه؟ الشرع بالنص لا بالقول تعرفه ... ماذا يروم الفتى بعد الذي أمنه كم باطل فيه ألفاظ منمقة ... فلن يكون لأقوال الرجال زنه وكم طوائف هلكى في ضلالتها ... وكم خبيث يرى في عصبة لسنه فالمحدثات كموج فيه ملتطم ... هذا الزمان عصيب فاجتنب فتنه أمواجه بالهوى لا بالهوا اضطربت ... يا ويل خائضه هلا درى جننه فيها الهلاك بغير المصطفى ونجا ... من كان متخذا آثاره سفنه

موقفه من الجهمية:

أهل الحديث هم الناجون وحدهم ... أثارها فئة للدين ممتهنه يا قبح شانئهم لو فيه من خفر ... فهل سلا غضبة الجبار مبتدع ... وسط الخضم وإن لاقوا به محنه ومستحق لهذا من طغى وبغى ... لكان منه لسان السوء قد دفنه تراه عند لقاء الرعن مبتهجا ... وَيْلُمِّهِ كم رسول الله قد لعنه فلا تجالس عدوا للحديث فكم ... إذ تلك مهنته بالسوء مرتهنه أنقذ بذلك من أمسى ضحيتهم ... وإن يلاقي مداري سنة طعنه وإن أصابك من جراء ذا ضرر ... بسمه محدث من صاحب حقنه من كان متبعا نهج الرسول أخي هيء وليدك وازرع فيه سنته ... وقل ليصرف عن أقوالهم أذنه هذي الرعاية أعلى في جلالتها ... فهب لغيرك نصحا وانتظر ثمنه عود بنيك لزوم الاقتداء به ... إلى النهاية سنيا ترى كفنه يا ويحهم نحن حراس العقيدة كم ... كذا بحب الصحاب امزج له لبنه نحن الهداة علينا واجب ولذا ... من أن تنمي أو ترعى له بدنه يا عزنا عندما نلقى الإله غدا ... حتى يكونوا رجالا بالعلى قمنه فأين هم؟ يا لهم زادوا ببدعتهم ... تخشى العيون لغدر الجهل وطء سنه لاشك أنهم ليسوا بذا معنا ... منا القلوب بهذا الأمر ممتحنه إن قيل ما فعلوا؟ قلنا قد اتخذوا ... وقد أباح لنا من فضله عدنه على البناء الذي لم يفتقد لبنه بل مع زبانية للنار هم خزنه لهم مشائخ كالأحبار والكهنه موقفه من الجهمية: له كتاب: 'إثبات علو الله على خلقه والرد على المخالفين'. أو 'إثبات

علو الرحمن من قول فرعون لهامان' كما سماه في مقدمته، وهو مطبوع متداول في جزءين، طبع دار الهجرة. قرر فيه صفة (العلو) لله عز وجل بالأدلة السمعية: القرآن والسنة والآثار وضمنها نقولا عن الأئمة في الأخذ بهذه الأدلة. وناقش فيه المخالفين بالحجج العقلية، قال رحمه الله في مقدمة الكتاب: أبدأ بعون الله تعالى فأقول: إنه من المصائب الكبرى ما يردده أتباع الجهمية في عصرنا الحاضر، وهو إنكار علو الله تعالى على خلقه، وإنكار استوائه على عرشه، معتمدين بذلك على عقول بعض الجهال، الذين أخذوا دينهم عن المحاولات الفلسفية، والسفسطات الكلامية، وراحوا يردون دين الله بالشبهات، مما أدخل على فطر بعض الناس شوائب كثيرة، حتى اجترؤوا على كلام الله وكلام رسوله، وظنوا أن هذا تنزيها لله سبحانه وتعالى وما هو بتنزيه فقد ظنوا التعطيل تنزيها، فعبدوا العدم، وقالوا أقوالا، لا يجرؤ على ذكرها القلم. لقد أعاد التاريخ نفسه، ولملم معه بعض شتات الانحراف، فرمى على درب الزمان، نسخة ممسوخة، لو قلبتها بين يديك، وأمعنت فيها النظر، لنظرت فيها نماذج، من بعض أنواع البشر. إن كان قد عير التاريخ، بمثل جهم بن صفوان، وبشر المريسي، والجعد ابن درهم، وغيرهم من رموز الضلال. فلايزال العار آخذا بصفحة عنقه، ودامغا على جبهته، ولكن بصور أخرى لتلك الرموز.

ها هم اليوم أفراخ الجهمية يتخذون لأنفسهم رؤوسا، ليسلكوا تلك الطريق، التي عجز عن سلوكها أربابهم، لعلهم ينجحون في المهمة المستحيلة، ويا ليتهم يعودون عن غيهم إلى الرشد، ويدركون تلك الحقيقة .. حقيقة الوعد. نعم، حقيقة الوعد من الله بحفظ هذا الدين، فلينظروا كيف قيض الله عبر العصور، وعلى امتداد الزمان لهذا الدين، من ينافح عنه، ويذب كل دخيل، جاعلا من نفسه سياجا يقي صفاءه من الكدر، ويحمي سماحته من شياطين الجن والبشر، كيلا يحولوا بساطته إلى رمز خفي، تنقطع دون فهمه أعناق المطي. لقد اتخذ بعضهم شيخا لهم الذي قال مدعيا كما قال غيره: اثنان من يعذلني فيهما ... فهو على التحقيق مني بري حب أبي بكر إمام الهدى ... ثم اعتقادي مذهب الأشعري قلت: هذا زعم منك، وإني لأقول لك: بل أنت لا تصدق يا عبدري ... ها جئت بالمذموم والمنكر إن كنت بالتعطيل له تابعا ... قد عاد عن تعطيله الأشعري أو كنت في شك وفي ريبة ... فانظر لهذا "كذب المفتري" قد صور التاريخ عارا، بدى ... في صورة من صور الأعصر مثل المريسي وجهم نرى ... فيك وفي سيدك الكوثري لقد غفل الإمبراطور وعصابته، عن أن صفات الله لا تقاس بصفات المخلوقين، ولم يدركوا ما لعلوه سبحانه فوق خلقه، من آيات العظمة التي لا

تحصى. فكيف يرد الدين لقول الجاحدين والجاهلين؟!! سبحانك ربي! هذا بهتان عظيم. وقد فصل الله آياته وأحكمها، فهي هدى ونور للمتقين، الذين أرادوا الله، إذن كيف يدعونها لقواعد فلسفية بنيت على المقاييس!؟ ففي كتاب الله، فصل المقال، يهرع إليه عند النزاع. فالله تعالى يقول: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)} (¬1) ويقول سبحانه: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} (¬2) فهو في كتابه المفصل والمحكم، وصف نفسه بالعلو، ثم جئتم أنتم تنكرون {آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)} (¬3) {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} (¬4). إنكم تردون الحق بحجج متهافتة وواهية، كلها مبنية على المقاييس، وكل ذلك وحي من الشيطان، كما أوحى إلى مشركي مكة أن يسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشاة، تصبح ميتة: من قتلها؟ فقال: «الله قتلها» (¬5) فأوحى إليهم أن يقولوا له: "ما ذبحتموه بأيديكم حلال، وما ذبحه الله بيده الكريمة حرام، فأنتم إذن ¬

(¬1) هود الآية (1). (¬2) البقرة الآية (140). (¬3) يونس الآية (59). (¬4) الزمر الآية (14). (¬5) أخرجه: أبو داود (3/ 245/2818) والترمذي (5/ 246/3069) وحسنه والنسائي في الكبرى (6/ 342/11171) وابن ماجه (2/ 7059/3173).

أحسن من الله؟ " فأنزل الله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أوليائهم لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)} (¬1). فنحن لا نحب الجدال والمراء، لأن الله ما غضب على قوم إلا أورثهم الجدل، ويعلم الله أنني عندما أسير في الطريق، أتذكر قول الله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)} (¬2). ولكن الحاجة في بعض الأحيان، تستدعي المجابهة والمواجهة، ولاسيما عندما يوجد معهم، بعض المساكين، الذين يلبسون عليهم الحقائق، ويزرعون في أذهانهم الشبهات. وبفضل الله تعالى -وهو ينصر دينه- تسقط حججهم في كل جلسة مناظرة، الواحدة تلو الأخرى، والله يقول: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} (¬3). وقد عرفت بحكم الاحتكاك المتواصل بهم، والممارسات المتلاحقة، أنهم لا يأخذون بظاهر النصوص، فهم يقرون بوجود الآيات والأحاديث، لكن يتأولون ذلك على غير حقيقته، الأمر الذي دفعني إلى أن أرد عليهم ردا ¬

(¬1) الأنعام الآية (121). (¬2) المؤمنون الآيتان (97و98). (¬3) الأنفال الآية (38).

عقليا، يخصهم، لعلهم يرجعون عما هم فيه من التحريف، والله يعلم أنني لم أكن محبا لما خط قلمي، لميلي إلى أسلوب النصوص، ولكن الحاجة ماسة، وتستدعي مثل هذا النوع من الردود، وهو أمر بحسب الضرورة، لا سيما أن المسلم بحكم طبيعته، لا ينبغي -في حيز العلاقات- أن يخلو من رابطتين: رابطة العبادة، وتكون بين العبد والمعبود. ورابطة الدعوة إلى العبادة، وتكون بين العبد والعبد. وليس في التوحيد أنانية، حتى يستأثر العبد به دون سواه، بل عليه أن يوحد الله، وأن يدعو غيره إلى توحيده. هذا، ولما عرفت من أنهم لا ينكرون النصوص، بل يؤولونها، كان الأمر مستدعيا، أن يرد عليهم رد يلزمون به، وإن كان عقليا، والضرورة تعظم عندما يعلم المسلم أن رجوع أحدهم عن غيه، إنما هو رجوع لخلق معه، بل إحالة دون وقوع أناس في هذا الشرك، لأن أحدهم لابد من أن يدعو إلى ضلاله أناسا كثيرين. وقام بتوجيه مثل هذه الردود، علماء عظماء، وعلى رأسهم إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل، ونرى ذلك في رده الذي أقام به الحجة على الجهمية والزنادقة، حيث قال رضي الله تعالى عنه: (إذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أن الله في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان، فقل: أليس الله كان ولا شيء؟ فيقول: نعم. فقل له: حين خلق الخلق خلقه في نفسه أو خارجا من نفسه، فإنه يصير إلى ثلاثة أقوال لابد له من واحد منهما.

إن زعم أن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه كفر، حين زعم أن الجن والإنس والشياطين في نفسه. وإن قال: خلقهم خارجا من نفسه ثم دخل فيهم كان هذا كفرا أيضا حين زعم أنه دخل في مكان وحش قذر رديء. وإن قال: خلقهم خارجا من نفسه ثم لم يدخل فيهم رجع عن قوله أجمع وهو قول أهل السنة). وهذا من نمط الردود العقلية، دعت إليه الحاجة والضرورة .. وقد يكون واجبا في بعض الأحيان كما قرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. وكان العلماء الأوائل قد ردوا على أربابهم بالنصوص، ولما كانت هناك شبهات أخرى حادثة عند هؤلاء الموجودين بين أرجلنا، دعت الحاجة إلى أن يرد عليهم بالنصوص أيضا، مع إسقاط تأويلاتهم وتحريفاتهم، ورد شبهاتهم بالحجج والبراهين، وهذا ما حبذه الكثير من أهل الحق، وهو أن يرد عليهم بالآيات والأحاديث مع رد تأويلاتهم لها، لا الاكتفاء بسردها. وما كان ضلالهم إلا بالظن واتباع الهوى، والله تبارك وتعالى يقول: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)} (¬1). فقد أرادوا تنزيه الله بعقولهم وأهوائهم، ونصبوا أنفسهم حاكما على الله، يثبتون له ما يشاؤون، وينفون عنه ما يختارون، فكان مثلهم كمثل {الَّذِينَ ضَلَّ ¬

(¬1) النجم الآية (23).

سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} (¬1). فهؤلاء هم الأخسرون أعمالا، وهم في الدنيا عمي: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)} (¬2). وهذا ما عزمنا على القيام به، مستعينين بالله تعالى. ولا يمكننا تجاهل ذلك الفرق العظيم بينهم وبين أجدادهم، فهم يقولون (الله ليس في مكان على الإطلاق) فهو عندهم، ليس فوق، ولا تحت، ولا يمين، ولا يسار، ولا خلف، ولا أمام، ولا متصل بالعالم، ولا منفصل عنه. ولا داخل العالم ولا خارجه. وهكذا شبهوا الرب سبحانه بالعدم. فكان هذان الفريقان بين الإفراط والتفريط. أو ليس كان يسعهم أن يكونوا على منهاج أهل السنة والجماعة يثبتون ما أثبت الله لنفسه، وأثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فيقولون: ربنا في السماء، كما أخبر وأنزل، فيرفعون أيديهم إليه، ويسألونه الهدى والتقى، والعفاف والغنى، ولكن ماذا نقول!! فلا اعتراض على قدر الله الذي من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا. وأما الذين يؤمنون بكتاب الله تعالى، أي الذي يتبعون ما فيه فهؤلاء اتبعوا الهدى، إذ يقول المولى: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ ¬

(¬1) الكهف الآية (104). (¬2) الإسراء الآية (72).

هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)} (¬1) وهم يزدادون من هدى الله كلما ازداد اتباعهم له. {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} (¬2)، فهذا الهدى لا يأتي إلا باتباع ما أنزل وبالإيمان به على الحقيقة التي نزل بها، لا تأويل ولا تعطيل، لأن الله أنزل الكتاب ليبين الحق وينير السبيل ... وها قد أضفت إلى صواعق العلماء صاعقة جديدة، فيها من الحقائق والبراهين النقلية عن الله وعن رسوله وعن علماء الأمة، ما يدمر الأكاذيب والأباطيل، لاسيما أن الرسالة الأولى التي ناقشتهم فيها بالعقل، كانت تحتاج إلى الأصل، وهو أن يؤخذ الدين بالنقل لا بالعقل، ولكن سبحان الله! فقد كانت الظروف والدوافع إلى إخراج تلك قبل هذه كثيرة. وفي هذه الرسالة برهان لكبارهم وصغارهم، فمن جحد بعدها، فلا أظن أنه يؤمن بحقيقة آية من آيات الله، وقد اتبعت فيها أسلوبا مجديا، يناسب الشبهات الجديدة التي أوردوها، إذ ذكرت الأدلة من الآيات والسنن ثم جاوبت عن كل عذر اعتذروا به أو تذرعوا، وأبطلت كل مذهب ذهبوا إليه، وكشفت الستار عن شبهات يطرحونها بين الناس ليلبسوا عليهم دينهم، فكبلت أقوالهم بقيود الكتاب والسنة، ومدلول العربية التي خاطب الله بها عباده في قرآنه العزيز. (¬3) ¬

(¬1) البقرة الآيتان (1و2). (¬2) مريم الآية (76). (¬3) إثبات علو الله على خلقه والرد على المخالفين (ص.6 - 23).

محمد جميل غازي (1409 هـ)

محمد جميل غازي (1409 هـ) الشيخ محمد جميل غازي ولد سنة خمس وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة، بقرية كفر الجرايدة بمحافظة كفر الشيخ بمصر، وقد حصل على الشهادة الابتدائية بتفوق في عام ثلاث وسبعين وثلاثمائة وألف من المعهد الأحمدي بطنطا، ثم أكمل دراسته بنفس المعهد وبعد حصوله على العالمية "ليسانس اللغة العربية" في عام ثلاث وثمانين وثلاثمائة وألف عمل الشيخ موظفا بوزارة الثقافة بمحافظة المنصورة، ثم انتقل للعمل بالقاهرة، فاتسع نشاطه وذاع صيته. حصل الشيخ على درجة الماجستير في الآداب، ثم الدكتوراة في عام اثنتين وتسعين وثلاثمائة وألف بامتياز مع مرتبة الشرف، وكان موضوعها: 'تحقيق كتاب: لأبي هلال العسكري'. ترأس الشيخ مجلس إدارة المركز الإسلامي لدعاة التوحيد والسنة بعد أن أسسه. هذا، وقد وصل الشيخ إلى درجة "كبير الباحثين" في المجلس الأعلى للفنون والآداب، كما تم اختياره -قبل وفاته- عضوا بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية. وله مؤلفات عديدة من بينها: 'مفردات القرآن الكريم' و'الطلاق شريعة محكمة لا أهواء متحكمة' و'الصوفية: الوجه الآخر'. وتوفي رحمه الله في الأول من ربيع الأول عام تسع وأربعمائة وألف، وتظل القضية التي شغلت حياته هي: محاربة البدع والخرافات، وكشف أوهام الصوفية، والدعوة إلى التوحيد الخالص، ونشر العلم الصحيح بين الناس.

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: له تقدمة على كتاب 'العواصم من القواصم' لابن العربي، قال فيها: وينبغي لنا، ويجمل بنا، أن نتوقف عند هذه النقطة من هذه المقدمة لنقول: إن ثراء الثقافة الإسلامية .. وإن باب الاجتهاد المفتوح على مصاريعه فيها .. وإن ترحيبها المستمر بكل الأمم والشعوب .. إن كل أولئك كان مدخلا تسللت منه رواسب ثقافات، وبقايا اعتقادات ومزيج من الخرافات التي لا تتفق مع الإسلام في الشكل أو في الموضوع. أرأيت إلى النهر العظيم، وهو يهدر في مجراه .. وينساب قويا عظيما ليروي الظماء من البشر والحيوان والطير والقفار .. أرأيت إلى هذا المنهل العذب وعطائه العظيم .. كذلك .. نهر الثقافة الإسلامية .. ثم .. أرأيت إلى ما يعلق بهذا النهر من غثاء .. ونباتات طفيلية .. وجنادل وصخور ناتئة من شطآنه .. أو ملقاة في سبيل مده الهادر. كذلك .. نهر الثقافة الإسلامية. وإذا كان كل نهر في حاجة إلى من يطهر مجراه .. ويعمقه .. ويزيل ما علق بمجراه، من كل ما يعوق تدفقه واندفاعه فكذلك الإسلام .. وهذا هو دور المجددين الذين قال فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها» (¬1) .. وكلمة (من) لا تعني مجددا واحدا .. بل تعني عشرات، ومئات، وألوف المجددين .. على طول الزمان .. وعرض المكان. والتجديد يكون لأمر الدين لا للدين ¬

(¬1) أبو داود (4/ 480/4291) والحاكم (4/ 522) وقال الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة (559): "سكت عليه الحاكم والذهبي، وأما المناوي فنقل عنه أنه صححه، فلعله سقط ذلك من النسخة المطبوعة من المستدرك، والسند صحيح، رجاله ثقات رجال مسلم".

نفسه. وأمر الدين كله يتسع ليشمل كل المعارف التي فجرها هذا الدين، سواء أكانت في أصول الدين، أم أصول الفقه، أم أصول الدنيا .. إن الأمم الكثيرة والأملاء التي لا تكاد تنتهي حصرا واستقصاء من الداخلين في هذا الدين .. قد جروا معهم عن قصد أو عن غير قصد، بحسن نية أو بسوء نية .. مجموعة من الأفكار، والاتجاهات، والمأثورات الشعبية، والأساطير القومية والاتجاهات السياسية، والانتماءات الحزبية. وكل ذلك -وغيره كثير- شكل ركاما من الدخيل الذي ألصق بالثقافة الإسلامية إلصاقا .. ومثل من نسميه بالخرافات والبدع والأقاصيص. ولقد كان المجال التاريخي -ولا زال، وسيظل- معبرا للتصورات الباهتة، والروايات الموضوعة، التي تؤيد حزبا ضد حزب، وتعين فريقا على فريق، إن "الرواية التاريخية" أصبحت على لسان المحاربين كالسيف الذي في أيديهم يقتلون بها .. ويثيرون القلاقل في صفوف أعدائهم .. وإذا كانت "الحرب الباردة" تعتمد على "الإشاعة" و"الأكاذيب" .. فإن "الإشاعة" و"الأكاذيب" تحولت إلى روايات تاريخية .. بل إلى روايات حديثية .. يضعها الوضاعون، ثم يرفعونها بلا خوف ولا خجل إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو يوقفونها بلا حياء ولا استخزاء عند صحابته رضوان الله عليهم .. وإن الله الذي تعهد بحفظ "ذكره" و"وحيه" قيض لهذه الثقافة من ينفي عنها الخبث والعبث والضلال والتضليل والزيف والدخيل. (¬1) ¬

(¬1) العواصم من القواصم (8 - 9).

عبد الله بن محمد بن أحمد بن الدويش (1409 هـ)

عبد الله بن محمد بن أحمد بن الدويش (¬1) (1409 هـ) الشيخ عبد الله بن محمد بن أحمد بن محمد الدويش، ولد بمدينة الزلفي سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وألف، ونشأ نشأة صالحة، ورحل إلى مدينة بريدة طالبا للعلم، فحصله وأصبح من أعلامه. وكان رحمه الله آية في الحفظ وكان مكبا على كتب السلف الصالح، ولذلك تجده شديد التأثر بهم وبأحوالهم. وكان أشد تأثرا بشيخي الإسلام ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وتلاميذهما من أئمة الدعوة. قال الشيخ عبد الله البسام: وكان واسع الأفق، جيد الفهم والحفظ لما يقرأ ويلقى عليه، وشاهد ذلك بروزه في وقت قصير، فقد قيل إنه يحفظ الأمهات الست وغيرها من كتب الحديث، وكان عنده من كل فن طرف جيد، لأنه كان مكبا على دراسة هذه الفنون، فكان عالما بالعقيدة والتوحيد والتفسير والفقه والنحو. من شيوخه الشيخ صالح بن أحمد الخريص والشيخ عبد الله بن محمد بن حميد والشيخ عبد الله بن عبد العزيز التويجري وغيرهم. جلس للتدريس والإفادة، فنفع الله بعلمه، وله مؤلفات مفيدة ونافعة. توفي رحمه الله على إثر مرض أصابه، وذلك سنة تسع وأربعمائة وألف. موقفه من المبتدعة: له من الآثار السلفية: 1 - 'التوضيح المفيد لشرح مسائل كتاب التوحيد'. ¬

(¬1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (4/ 386 - 391).

عبد الله كنون (1409 هـ)

2 - 'دفاع أهل السنة والإيمان عن حديث خلق آدم على صورة الرحمن'. 3 - 'الألفاظ الموضحات لأخطاء دلائل الخيرات'. 4 - 'المورد الزلال في التنبيه على أخطاء الظلال'. 5 - 'الزوائد على مسائل الجاهلية'. (¬1) عبد الله كنون (1409 هـ) رئيس رابطة علماء المغرب وأمينها العام. ولد سنة ست وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة بفاس، حفظ القرآن صغيرا، ثم التحق بالقرويين للدراسة بها، وبعدها رحل مع والده إلى طنجة. من شيوخه الذين تأثر بهم أبو شعيب الدكالي. أسس المعهد الإسلامي بطنجة وكان أستاذا بالمعهد العالي بتطوان، ثم مديرا لمعهد الحسن الثاني، ثم عين وزيرا للعدل، شارك في تأسيس الجمعية الوطنية الأولى بقيادة محمد عبد الكريم الخطابي، عين سنة خمس وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة عضوا في المجمع العلمي العربي بدمشق، وسنة إحدى وثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة عضوا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وسنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة عضوا في مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، واختير أيضا عضوا بالمجمع العلمي العراقي، وشارك في المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، أسندت إليه رئاسة صحيفة الميثاق لسان رابطة العلماء. ¬

(¬1) علماء نجد (4/ 390 - 391).

موقفه من المبتدعة:

توفي في الخامس من شهر ذي الحجة سنة تسع وأربعمائة وألف للهجرة. له نحو خمسين كتابا منها: 1 - 'أدب الفقهاء'. 2 - 'الإسلام أهدى'. 3 - 'إسلام رائد'. 4 - 'ترتيب أحاديث الشهاب لابن الحسن القلعي'. 5 - 'تفسير سور المفصل من القرآن الكريم'. 6 - 'تفسير الفاتحة'. 7 - 'الرد القرآني على كتاب: هل يمكن الاعتقاد بالقرآن'. 8 - 'فضيحة المبشرين في احتجاجهم بالقرآن المبين'. 9 - 'مفاهيم إسلامية'. 10 - 'النبوغ المغربي'. 11 - 'التعاشيب'. وكلها منشور مطبوع. (¬1) موقفه من المبتدعة: - قال في مقدمته لفتاوى محمد كنوني المذكوري: تعتبر مهمة الإفتاء مسؤولية دينية ودنيوية معا، فالمفتي مخبر عن الله كما يقول الفقهاء، أي عن شرعه وأحكام دينه، وهو بمقتضى ذلك يجب أن لا يصدر فتوى إلا بعد التحري والمبالغة في تحرير مناط المسألة والتماس الدليل الشرعي عليها. ¬

(¬1) تتمة الأعلام لمحمد خير رمضان يوسف (2/ 15).

ومن حيث أن الفتوى تتعلق بأحكام المعاملات، كما تتعلق بأحكام العبادات، فتمنع بها حقوق وتستباح حرمات؛ فإن المفتي يتحمل بذلك عبئا ثقيلا من أمر الدين والدنيا. وكانت الفتوى قبل اليوم تدور في فلك المذهب وقواعده، وتعتمد أقوال علمائه وحاملي رايته، لا تكاد تخرج عن ذلك إلا نادرا حينما يكون الدليل الشرعي واضحا وبمتناول الجميع، أما اليوم وبعد أن نشرت كتب السنة وشروحها وكتب الخلاف العالي والمذاهب الفقهية المتعددة، وأصبحت متداولة بين أيدي الناس، واطلع الفقهاء وطلبة العلم على ما بها من أدلة ومدارك تخالف ما كانوا يعهدونه ويتمسكون به في بعض المسائل؛ فإن المفتي الآن صار مطالبا بتخريج المسألة على مقتضى الدليل الشرعي من الكتاب والسنة وما في حكمهما، ومقارنة المذاهب وأقوال الأئمة والترجيح بينها. - وفي معرض كلامه عن دولة المرابطين بالمغرب واهتمامهم بالفقه والفقهاء قال: على أن اهتمام المرابطين بعلوم الدين كان يزينه وصف شريف، وخلق نبيل هو تشبعه بالروح السلفي المتسامح، الخالص من شوائب التنطع والتعمق، وعدم مجاراته للخلافات المذهبية والبدع والأهواء التي كانت حينئذ تنخر جسم الوحدة الإسلامية بالشرق. (¬1) - وقال في معرض تحقيقه لمسألة نسبة الدولة الموحدية لمذهب الظاهرية خلص إلى نفيه عنهم ثم قال: وإنما كان الفقهاء ينسبونهم إليها تشنيعا عليهم ¬

(¬1) النبوغ المغربي (ص.68).

موقفه من الصوفية:

كما يقال اليوم في كل من كان سلفي العقيدة: إنه وهابي تنكيتا عليه وتنفيرا من مذهبه. (¬1) موقفه من الصوفية: - قال: فأما الطرقي فلا كلام لنا عليه، ومهما بلغ ما بلغ من العلم والفقه ودراسة الحديث، لا يمكن أن يعد من أتباع السنة أو الداعين إليها إلا إذا قلبت الحقائق وغيرت المفاهيم خصوصا إذا كان غاليا في الطرقية كما هو شأن الكثير ممن أدركناهم وعرفنا أحوالهم. (¬2) - وقال عن دعوة الشيخ أبي شعيب الدكالي أيضا: وقد تخرج بالشيخ عدد وفير من أهل العلم وامتاز منهم بالخصوص في علم الحديث والدعوة إلى السنة أفراد معدودون ولكن قلّ منهم من سار على نهجه واتبع طريقه، فهذا شيخ متمكن من المادة الحديثية واصطلاح المحدثين ولكنه طرقي لم يرفع رأسا لما كان أستاذه يصوبه من أسهم النقد إلى الطرقيين وبدعهم ودعاويهم ... وعاد كثير من الطرقيين إلى ما كانوا عليه من اعتقادات باطلة وشعارات لا أصل لها من السنة. (¬3) الخميني الرافضي الخبيث (1409 هـ) لقد حمل الخميني لواء الكيد لأهل الإسلام أهل السنة، كلما أتيحت له ¬

(¬1) المصدر السابق (ص.125). (¬2) مجلة دعوة الحق العدد السابع (ص.7) /السنة 1969م. (¬3) المصدر السابق (ص.9).

الفرصة نال منهم ومن أخيارهم، وإن حاول جاهدا كتم ذلك تقية ونفاقا، إلا أن ما سطرته يده من الكتب والرسائل تطفح بالحقد على أهل السنة عامة، والبغض لهم، والتربص بهم الدوائر، ووصفهم بكل ألقاب السوء كالكفر والردة والنفاق وغيرها. وهو على مذهب الروافض الغلاة الاثنى عشرية الجعفرية، كما صرح بذلك حيث يقول في دستوره الذي وضعه لدولته في المادة الثانية عشرة: (الدين الرسمي لإيران هو الإسلام والمذهب الجعفري الاثنى عشري، وهذه المادة غير قابلة للتغيير إلى الأبد) (¬1). وهذه الشهادة منه على نفسه كافية لمعرفة الخميني الاثنى عشري، على وجه الحقيقة، وهذا الاعتراف قد يُلبَّس به على كثير من المغفلين فيقول أحدهم مثلا: إنما يدعو الخميني إلى الإسلام، فأي عيب في ذلك؟ فنقول وبالله التوفيق: أي إسلام تعني أنت؟ هل هو إسلام أبي بكر وعمر وجميع الصحب والآل؟ فبالطبع ستقول: نعم، فأقول: من هنا أُصبتَ. فليس هذا هو إسلام الخميني!! إنما الإسلام المزعوم عنده هو التكذيب أولا بمصادرنا الأصيلة كتابا وسنة جملة وتفصيلا، ثم تكفير خيار هذه الأمة من صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - كأبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحب، وهكذا كل من خالف ما هم عليه إلى قيام الساعة. وإليك أقوال الخميني من كتبه تدل على ما قلنا: ¬

(¬1) الدستور (ص.23).

1 - قوله بتحريف القرآن الذي بين أيدينا، وزعمه بوجود مصحف فاطمة الملهم من عند الله: أصدر الخميني بمشاركة خمسة من علمائهم وآياتهم وثيقة كفرية يكفرون فيها أبا بكر وعمر، ويسمونهما بصنمي قريش؛ يتهمونهما بتحريف الكتاب -وسيأتي ذكر الوثيقة بتمامها- والشاهد منها هنا قولهم فيها: "وعصيا رسولك، وقلبا دينك، وحرفا كتابك". ثم قالوا أيضا: "اللهم العنهم بعدد كل آية حرفوها". فهذا تصريح منه ومن أمثاله يدل دلالة واضحة على أن قرآننا لم يكن من عند الله بكماله وتمامه، وإنما زاد الصحابة فيه ونقصوا وحرفوا. فما جواب أهل الإيمان عن هذه الفرية؟!. وهذا ليس بغريب عن الخميني؛ لأن مصادره التي يأخذ منها علمه مملوءة بهذا الزيف والكذب والافتراء، على رأسها كتاب الكافي للكليني، وكتاب مستدرك الوسائل للطبرسي وهو صاحب كتاب 'فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب' وكذلك يأخذ من الوسائل للحر العاملي، والخميني شديد الترضي على هؤلاء. كما يفخر الخميني بمصحف فاطمة الملفق، ويزعم أن الله ألهمها إياها، فقال في وصيته العالمية (¬1) السياسية: "ونحن نفخر بأن الأدعية وهي القرآن الصاعد وفيها الحياة إنما هي من فيض أئمتنا المعصومين، وعندنا مناجاة الأئمة ¬

(¬1) نشرتها صحيفة 'كيهان الإيرانية' الصادرة باللغة العربية في عددها الصادر في 13 ذي القعدة 1409هـ الموافق لـ 17 حزيران 1989م بعنوان: نص الوصية الإلهية السياسية للإمام القائد قدس الله سره. ونشرتها أيضا مؤسسة الإمام الخميني الثقافية طهران (ص.12) بعنوان: الإمام الخميني، النداء الأخير.

2 - موقفه من السنة وكتبها ورواتها:

الشعبانية ودعاء الحسين بن علي عليهما السلام في عرفات، وعندنا الصحيفة السجادية زبور آل محمد والصحيفة الفاطمية وهي الكتاب الذي ألهمه الله سبحانه وتعالى للزهراء المرضية". وقال: "والحديث الآخر يقول فيه: إن جبرائيل كان يأتي بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بأنباء من الغيب، فيقوم أمير المؤمنين بتدوينها، وهذا هو مصحف فاطمة". (¬1) 2 - موقفه من السنة وكتبها ورواتها: لا يعترف الخميني بكتب السنة المعلومة عندنا كصحيح البخاري وصحيح مسلم والموطإ وغيرها. والسبب في ذلك أن رواتها ونقلتها عنده كلهم كذابون منافقون لا يخافون الله، غيروا وبدلوا تبعا لأهوائهم وأغراضهم. فلذلك فإن الخميني تبعا للشيعة الروافض لهم كتب تخصهم مخالفة لكتب أهل السنة، قال الخميني وهو يقرر الدستور في مادته الثانية أن نظامهم يقوم: "على أساس الكتاب وسنة المعصومين" (¬2). فأين سنة سيد المرسلين؟!. 3 - موقفه من الصحب الأخيار: لقد طعن هذا الخبيث في أفضل الأمة بعد نبيها أبي بكر الصديق وكذا في عمر وعثمان رضي الله عنهم، بل وكفرهم ولعنهم، فما بالك بقوله في غيرهم من أهل الإسلام، فإليك بعض أقواله: - "إننا هنا لا شأن لنا بالشيخين وما قاما به من مخالفات للقرآن، ومن ¬

(¬1) كشف الأسرار (ص.143). (¬2) الدستور (ص.20).

تلاعب بأحكام الإله، وما حللاه وحرماه من عندهما، وما مارساه من ظلم ضد فاطمة ابنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وضد أولاده، ولكننا نشير إلى جهلهما بأحكام الإله والدين. فقد قام أبو بكر بقطع اليد اليسرى لأحد اللصوص، وأحرق شخصا آخر؛ مع أن ذلك كان حراما .. وكان يجهل أحكام القاصرين، والإرث، ولم يطبق أحكام الله في خالد بن الوليد الذي قتل مالك بن نويرة وأخذ زوجته في تلك الليلة نفسها. أما عمر؛ فإن أعماله أكثر من أن تعد وتحصى، فقد أمر برجم امرأة حامل، وأخرى مجنونة، مع أن أمير المؤمنين نهاه عن ذلك، وأخطأ مرة فيما يخص أحكام المهر، فصححت إحدى النسوة - من خلف الحجب - خطأه، فقال عمر في ذلك: جميع الناس يعرفون أحكام الله خيرا مني، حتى النسوة الكائنات خلف الحجب، وخالف تعاليم الله والنبي، فحرم متعة الحج والنساء، وأحرق باب بيت الرسول. أما عثمان ومعاوية ويزيد، فإن الجميع يعرفونهم جيدا". (¬1) - "نورد هنا مخالفات عمر لما ورد في القرآن، لنبين بأن معارضة القرآن لدى هؤلاء كانت أمرا هينا، ونؤكد بأنهم كانوا سيخالفون القرآن أيضا فيما إذا كان قد تحدث بصراحة عن الإمامة". (¬2) - "وأغمض عينيه، وفي أذنيه كلمات ابن الخطاب القائمة على الفرية، ¬

(¬1) كشف الأسرار له (ص.126 - 127). (¬2) كشف الأسرار (ص.135).

والنابعة من أعمال الكفر والزندقة، والمخالفة لآيات ورد ذكرها في القرآن الكريم". (¬1) - "دعاء صنمي قريش: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل على محمد وآل محمد اللهم العن صنمي قريش وجبتيهما وطاغوتيهما وإفكيهما وابنتيهما اللذين خالفا أمرك وأنكرا وحيك وجحدا إنعامك وعصيا رسولك وقلبا دينك وحرفا كتابك وأحبا أعداءك وجحدا آلاءك وعطلا أحكامك وأبطلا فرائضك وألحدا في آياتك وعاديا أولياءك وواليا أعداءك وخربا بلادك وأفسدا عبادك. اللهم العنهما واتباعهما وأولياءهما وأشياعهما ومحبيهما فقد أخربا بيت النبوة وردما بابه ونقضا سقفه وألحقا سماءه بأرضه وعاليه بسافله وظاهره بباطنه واستأصلا أهله وأبادا أنصاره وقتلا أطفاله وأخليا منبره من وصيه، ووارث علمه وجحدا إمامته وأشركا بربهما .. ! فعظم ذنبهما وخلدهما في سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر. اللهم العنهم بعدد كل منكر أتوه وحق أخفوه ومنبر علوه ومؤمن أرجوه ومنافق ولوه وولي آذوه وطريق أووه وصادق طردوه وكافر نصروه وإمام قهروه وفرض غيروه وأثر أنكروه وشر آثروه ودم أراقوه وخير بدلوه وكفر نصبوه وكذب دلسوه وإرث غصبوه وفيء اقتطعوه وسحت أكلوه وخمس استحلوه وباطل أسسوه وجور بسطوه ونفاق أسروه وغدر أضمروه وظلم نشروه ووعد أخلفوه وأمانة خانوه وعهد نقضوه وحلال ¬

(¬1) كشف الأسرار (ص.137 - 138).

حرموه وحرام أحلوه وبطن فتقوه وجنين أسقطوه وضلع دقوه وصك مزقوه وشمل بددوه وعزيز أذلوه وذليل أعزوه وذو حق منعوه وكذب دلسوه وحكم قلبوه وإمام خالفوه! اللهم العنهم بعدد كل آية حرفوها وفريضة تركوها وسنة غيروها وأحكام عطلوها ورسوم قطعوها ووصية بدلوها وأمور ضيعوها وبيعة نكثوها وشهادات كتموها ودعوات أبطلوها وبينة أنكروها وحيلة أحدثوها وخيانة أوردوها وعقبة ارتقوها ودباب دحرجوها وأزيان لزموها اللهم العنهم في مكنون السر وظاهر العلانية لعنا كثيرا أبدا دائما دائبا سرمدا لا انقطاع لعدده ولا نفاد لأمده لعنا يعود أوله ولا ينقطع آخره لهم ولأعوانهم وأنصارهم ومحبيهم ومواليهم والمسلمين لهم والمائلين إليهم والناهقين باحتجاجهم والناهضين بأجنحتهم والمقتدين بكلامهم والمصدقين بأحكامهم .. !. قل أربع مرات: اللهم عذبهم عذابا يستغيث منه أهل النار آمين رب العالمين. ثم تقول أربع مرات: اللهم العنهم جميعا! اللهم صل على محمد وآل محمد فأغنني بحلالك عن حرامك وأعذني من الفقر رب إني أسأت وظلمت نفسي واعترفت بذنبي وها أنا ذا بين يديك فخذ لنفسك رضاها من نفسي لك العتبى لا أعود، فإن عدت فعد علي بالمغفرة والعفو لك بفضلك وجودك بمغفرتك وكرمك يا أرحم الراحمين وصلى الله على سيد المرسلين وخاتم

النبيين وآله الطيبين الطاهرين برحمتك يا أرحم الراحمين". (¬1) - "إننا لا نعبد إلها يقيم بناء شامخا للعبادة والعدالة والتدين، ثم يقوم بهدمه بنفسه ويجلس يزيدا ومعاوية وعثمان وسواهم من العتاة في مواقع الإمارة على الناس، ولا يقوم بتقرير مصير الأمة بعد وفاة نبيه". (¬2) - "وتشير كتب التاريخ أن هذا الكفر صدر عن عمر بن الخطاب، وأن البعض قد أيده في ذلك، ولم يسمحوا للنبي بأن يكتب ما يريد". (¬3) - "مثل هؤلاء (¬4) الأفراد الجهال الحمقى والأفاقون والجائرون غير جديرين بأن يكونوا في موقع الإمامة، وأن يكونوا ضمن أولي الأمر". (¬5) - "ويشهد التاريخ بأنه فيما كان هؤلاء منشغلين بدفن الرسول؛ فإن اجتماع السقيفة اختار أبا بكر للحكم، فتم بذلك وضع الأساس بشكل خاطئ". (¬6) وأما قوله في عثمان ومعاوية وسمرة بن جندب فأكثر من أن يذكر، ولعل العاقل يكفيه المثال والمثالان. 4 - ادعاؤه أن الأولياء في مرتبة تفوق مرتبة الأنبياء بكثير: قال الخميني: وأن من ضرورات مذهبنا أن لأئمتنا مقاما لا يبلغه ملك ¬

(¬1) نص الوثيقة التي أشرنا إليها سابقا، انظر تحفة العوام مقبول (ص.422 - 423) المطبوع في لاهور. (¬2) كشف الأسرار (ص.123 - 124) (¬3) كشف الأسرار (ص.176). (¬4) يعني بذلك الصحابة. (¬5) كشف الأسرار (ص.127). (¬6) كشف الأسرار (ص.128).

مقرب، ولا نبي مرسل، وقد ورد عنهم (ع): أن لنا مع الله حالات لا يسعها ملك مقرب ولا نبي مرسل. (¬1) ويكفينا ردا عليه ما قاله الإمام القاضي عياض رحمه الله في كتابه الشفا: "وكذلك نقطع بتكفير غلاة الروافض في قولهم أن الأئمة أفضل من الأنبياء". (¬2) وقال ابن تيمية رحمه الله: "والرافضة تجعل الأئمة الاثنى عشر أفضل من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وغلاتهم يقولون إنهم أفضل من الأنبياء". (¬3) كما زعم الخميني أن الأئمة عندهم لا يلحقهم السهو والنسيان، فقال: لأن الأئمة الذين لا تتصور فيهم السهو أو الغفلة، ونعتقد فيهم الإحاطة بكل ما فيه مصلحة المسلمين. (¬4) 5 - تعصب الخميني لشعبه، وتفضيل شعبه على العالمين: لقد ضاهى الخميني اليهود في ادعائهم أنهم شعب الله المختار، لايدانيهم أحد في فضلهم ومرتبتهم، فادعى هو كذلك أن شعبه هو الشعب المختار الذي انتهت له السيادة والريادة. فقال في وصيته العالمية السياسية السابقة: إنني أقولها وبجرأة إن شعب إيران بجماهيره المليونية في العصر الحاضر هو أفضل من شعب الحجاز في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشعب الكوفة والعراق ¬

(¬1) الحكومة الإسلامية للخميني (ص.52). (¬2) الشفا (2/ 290). (¬3) منهاج السنة (1/ 177). (¬4) الحكومة الإسلامية (ص.91).

على عهد أمير المؤمنين والحسين بن علي صلوات الله وسلامه عليهما، فأهل الحجاز وكذا المسلمون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكونوا يطيعونه، وبذرائع شتى كانوا يتهربون من القتال، حتى إن الله تعالى أنبههم في آيات من سورة التوبة وأوعدهم بالعذاب، بل وافتروا عليه حتى دعا عليهم كما يروى. (¬1) - وقال أيضا في خطاب له بمناسبة عيد النوروز -من أعياد الفرس- لسنة اثنتين وأربعمائة وألف للهجرة الموافق لاثنتين وثمانين وتسعمائة وألف ميلادية، الذي يحتفل به في الحادي والعشرين من آذار من كل عام: أقول صراحة بأنه لا يوجد شعب كشعب إيران، ولا مجلس كمجلس إيران، ولا شرطة كشرطة إيران، مند صدر تاريخ العالم وحتى يومنا هذا .. من أفضل العهود في الإسلام عهد الرسول الأكرم، ففي عهد الرسول الأكرم عندما كان في مكة لم تكن هناك حكومة، وعندما جاء إلى المدينة وقامت الحكومة تعرفون جميعكم بأن جميع الذين كانوا معه ماذا كانوا يعملون معه؟ لقد كانوا يتذرعون بشتى الذرائع، يعودون (من الجهاد) بذريعة ما. لقد كان النبي في عهده مظلوما أكثر من الآن لم يكن يطيعونه. أقول: ماذا ينتظر العالم الإسلامي من الخميني وهذه تصريحاته وبجرأة وصراحة، والخمينيون الذين هم على منواله كثر -لا كثرهم الله- كلهم يحملون الحقد الدفين للعروبة والإسلام، ويتمنون جميعا مجيء يوم ينقضون فيه على أهل الإسلام قاطبة ليفتكوا بهم، لأنهم في نظرهم أسوأ من اليهود والنصارى، بل ومن الملاحدة والزنادقة. ¬

(¬1) سبق ذكر المرجع.

صالح بن إبراهيم بن محمد البليهي (1410 هـ)

فأي تقارب يكون مع هؤلاء؟! وأي أخوة تكون مع هؤلاء؟! فقد تقدم معنا بحمد الله في هذه المسيرة المباركة موقف علماء السنة من هؤلاء، فما علينا إلا أن نحتذي حذوهم ونقتفي أثرهم، لنرجع العزة إلى أنفسنا، ولنسود العالم بديننا دين الحق والسماحة، ولنهتم بمقدساتنا ونغار عليها، بل ندافع وننافح قدر استطاعتنا، ولله الأمر من قبل ومن بعد. صالح بن إبراهيم بن محمد البليهي (¬1) (1410 هـ) الشيخ صالح بن إبراهيم بن محمد بن مانع البليهي، ولد سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة وألف في قرية الشماسية، ثم انتقل مع أسرته إلى مدينة بريدة عام خمس وثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة، وأخذ على علمائها منهم الشيخ عمر بن محمد بن سليم ولازمه، والشيخ عبد الله بن محمد بن حميد والشيخ عبد العزيز بن إبراهيم العبادي وغيرهم. قرأ القرآن في مدرسة أهلية ثم اشتغل مع والده في التجارة ثم الزراعة وبعد ذلك تفرغ لطلب العلم. عين مدرسا في المعهد العلمي ببريدة عام إحدى وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة، ثم إماما بمسجد الوزان عام أربع وثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة ودرّس فيه العلوم الشرعية، وعندما تأسست كلية الشريعة بالقصيم أصبح محاضرا بها. كان رحمه الله كريم النفس، متواضعا، قائما بأعمال البر والخير، أخذ عنه علماء أجلاء منهم الشيخ صالح الفوزان والشيخ إبراهيم الدباسي وعبد الله المسند ¬

(¬1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (2/ 430 - 434) وإتحاف النبلاء (1/ 173 - 186) ومجلة الفرقان الكويتية (العدد 303).

موقفه من المبتدعة

وعبد السلام بن برجس وغيرهم. قال أحد أبنائه: كان رحمه الله سمح المحيا دمث الأخلاق، عليه سيما الوقار وهيبة العلماء واسع البال طويل المدى، رؤوفا بالكبار لطيفا باشا ذا بسمة عند المقابلة حريصا على الشباب والأخذ بأيديهم إلى ساحل النجاة، وكان كريما شجاعا في ذات الله غيورا على محارمه. توفي رحمه الله في جمادى الأولى سنة عشر وأربعمائة وألف. موقفه من المبتدعة - قال: السلف هم الوسط: السلف: وهم أهل السنة والجماعة أتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، هم الوسط في فرق الأمة، كما أن هذه الأمة هي الوسط في الأمم. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (¬1) أي: عدلاً خياراً. وعقيدة أهل السنة والجماعة: هي العقيدة الصافية، السالمة من الإلحاد والتحريف، والتعطيل والتمثيل، والتكييف. نعم هذه الأمة هي الوسط في فرق الأمة، فلا غلو، ولا جفاء، ولا إفراط، ولا تفريط. فأهل السنة والجماعة وسط بين المعطلة، والمشبهة؛ فالمعطلة جفوا، والمشبهة غلوا؛ المعطلة هم المعتزلة والجهمية، عطلوا الله من صفاته اللائقة به. ¬

(¬1) البقرة الآية (143).

والمشبهة الذين شبهوا الله بخلقه. وهم بعض اليهود، والبعض من الكرامية، وغلاة الشيعة. فقالوا ما معناه: الله له وجه ويد ورجل كواحد من خلقه، وحتى نقل الشهرستاني في كتابه 'الملل والنحل' عن داود الجواربي أنه قال: أعفوني عن الفرج واللحية، واسألوني عما وراء ذلك. وقال: إن معبوده جسم، ولحم، ودم، وله جوارح، وأعضاء من يد ورجل، ورأس، ولسان. تعالى الله عن قول المعطلة والمشبهة علواً كبيراً. أما أهل السنة: فأثبتوا لله الأسماء والصفات، ونفوا عنه مشابهة المخلوقات. وأيضاً؛ أهل السنة والجماعة وسط بين القدرية والجبرية، فالجبرية والقدرية متقابلتان تقابل التضاد؛ الجبرية في طرف، والقدرية في الطرف الآخر. الجبرية غلوا في إثبات القدر، فزعموا أن العبد مجبور على فعله، فلا إرادة له ولا قصد، ولا اختيار. فإذا فعل طاعة أو فعل معصية، فإنما ذلك فعل الله، تعالى الله عن هذا الفجور وهذا الزور علواً كبيراً. أما القدرية: وهم المعتزلة، فغلوا في نفي القدر، فقالوا ما معناه: أفعال العباد من الطاعات والمعاصي، لم تدخل تحت قضاء الله ومشيئته وقدره، إنما العباد هم الذين يفعلونها، بقصد منهم واختيار، فعليه؛ العبد هو الذي يخلق فعل نفسه. فلازم قولهم هو أن الله لا يقدر أن يهدى ضالاً، ولا يضل مهتدياً. وهذا القول، وهذا المذهب من أخبث المذاهب، وأبعدها عن الحق والصواب.

عقيدة السلف: إذا عرف ما تقدم؛ فعقيدة أهل السنة والجماعة هي حق بين باطلين، وهدىً بين ضلالتين، فالله تعالى هو خالق العباد وخالق أفعالهم، ومقدر أرزاقهم وآجالهم، هو خالق العبيد ولا يكون في ملكه ما لا يريد، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} (¬1). وأيضاً: أهل السنة والجماعة وسط بين المرجئة، وبين المعتزلة والخوارج. فالمرجئة جفوا، والمعتزلة والخوارج غلوا، وفي أثناء هذا الجزء يأتي الكلام على هذه الطوائف الضالة، إن شاء الله تعالى. والمرجئة كما يأتي نسبة إلى الإرجاء وهو التأخير. أي: تأخير الأعمال عن الإيمان. فعند المرجئة الخالصة: الإيمان هو مجرد التصديق بالقلب، والناس في الإيمان سواء، فإيمان أفسق الناس كإيمان الأنبياء، والمؤمنين الأتقياء. وبناءً على ذلك؛ فلا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فلازم قول المرجئة هو أن من فعل شيئاً من كبائر الذنوب وترك الواجبات أو شيئاً منها، لا يضر ذلك، وهذا يؤدي إلى الانسلاخ من دين الإسلام. أما المعتزلة والخوارج فقد غلوا، فقالوا ما معناه: من فعل كبيرة من كبائر الذنوب، ومات ولم يتب منها، فهو من المخلدين في نار جهنم، على ¬

(¬1) الأنبياء الآية (23).

خلاف بين الطائفتين؛ فعند الخوارج: هو كافر وحلال الدم والمال. وعند المعتزلة يخرج من الإيمان، ولا يدخل في الكفر، بل هو في منزلة بين منزلتين. وأهل السنة والجماعة وسط بين جفاء المرجئة، وغلو الخوارج والمعتزلة؛ فالإيمان نية وقول وعمل، يزيد بطاعة الله وينقص معصيته. فمن فعل كبيرة، يقال في حقه: هو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، أو يقال: هو مؤمن ناقص الإيمان. وإذا مات ولم يتب، فهو يوم القيامة تحت مشيئة الله، إن شاء الله غفر له، وأدخله الجنة مع السابقين، وإن شاء الله بعدله عذبه في نار جهنم بقدر ذنبه وجريمته، ولا يخلد في النار، لا يخلِّد فيها إلا الكافرين، والمشركين. هذا هو معتقد السلف الصالحين، وأهل السنة والجماعة أجمعين، والحمد لله رب العالمين. الحمد لله على قول الحق، واعتقاده والعمل به، والدعوة إليه. وأيضاً، أهل السنة والجماعة وسط بين غلو الرافضة، وجفاء الخوارج؛ لأن الرافضة والخوارج في أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في طرفي نقيض. فالرافضة: غلوا في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأهل البيت، غلواً جاوز الحد والمشروع. وأما الخوارج: فإنهم كفروا علياً، ومن كان موالياً له. وإذا عرف ذلك، فأهل السنة ولله الحمد والمنة، دائماً وأبداً بين الغلو والجفاء، وبين الإفراط والتفريط، مع العلم أن الرافضة قبحهم الله يسبون أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويلعنونهم ويكفرونهم. وأهل السنة يحبون جميع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ويوالونهم ويدعون الله لهم، ويترحمون الله لهم، ويسألونه لهم المغفرة والرضوان؛ لأنهم رضي الله عنهم؛

هم صفوة هذه الأمة وخيارها، أبرها أقوالاً، وأزكاها أعمالاً، وأقواها إيماناً، قوم لا كان ولا يكون مثلهم، اختارهم الله لصحبة نبيه ولنصر دينه. وبعد ما استنارت قلوبهم بالإيمان، صاروا رضي الله عنهم مضرب المثل في عبادة الله، وفي الزهد والورع، والخشية، والتقوى، والصدق، والأمانة، والشجاعة، فهم الرجال إذا ذكر الرجال. {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)} (¬1)، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} (¬2). وأيضاً هذه الأمة الإسلامية وسط بين غلو النصارى، وجفاء اليهود. فالنصارى غلوا في عيسى، فقالوا: هو الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة. وقالت اليهود: عيسى ولد زنا. فعلى اليهود لعائن الله المتتابعة إلى يوم الدين. والمسلمون يقولون: عيسى هو عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. والحمد لله الذي عافانا من الفلسفة والسفسطة، والشطح، والشقشقة، ومن التعطيل والتمثيل، ومن البدع والأباطيل. ونسأله تعالى الثبات على الحق، والعمل به. (¬3) - وقال أيضا: الاختلاف مصيبة: ¬

(¬1) الأحزاب الآية (23). (¬2) الحشر الآية (10). (¬3) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/ 308 - 313).

الخلاف والاختلاف بين الأفراد والمجتمعات الإسلامية مصيبة. الاختلاف مصيبة كبرى، ومحنة عظمى. [و] الخلاف من حيث هو شر وفتنة وشقاء وبلاء وعناء. الاختلاف نقمة، والاتفاق رحمة، وبالأخص الخلاف في المسائل العقائدية التي هي الأصل في شريعة الإسلام. أما الخلاف في المسائل الفروعية -فالأمر في ذلك أسهل-: فإذا كان على طريق الاجتهاد وتحري الصواب في المسائل الغامضة فلا بأس بذلك. أما إذا كان على طريقة الهوى والتعصب للمذاهب، وأقوال الرجال، فهو مذموم شرعاً وعقلاً وفطرةً. وأما ما يذكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «اختلاف أمتي رحمة» فهذا الحديث ليس له خطام ولا زمام، فلا أصل له (¬1). قال تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (¬2)، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (¬3)، وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (¬4)، وقال تعالى: ¬

(¬1) وكذا قال الشيخ الألباني في الضعيفة (57). (¬2) الأنفال الآية (46). (¬3) الأنعام الآية (159). (¬4) الأنعام الآية (153).

{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (¬1)، وقال تعالى: {* شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (¬2). والآيات في الأمر بالائتلاف والنهي عن الاختلاف كثيرة، وكذا أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الأمر بالوفاق، والنهي عن الشقاق، كثيرة جداً، سواء كان الاختلاف في العقائد وأصل الديانة أو غير ذلك. قال - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ» متفق عليه، من حديث عائشة رضي الله عنها (¬3). وعلى سبيل العموم؛ ليس للمسلمين عز ولا نصر إلا إذا حصل بينهم اتفاق ووفاق، وتكاتف وتساند. فهذا الحديث فيه رد على كل من ابتدع في دين الله ما ليس منه. وفي حديث العرباض بن سارية الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي، يقول - صلى الله عليه وسلم -: «فإنه من يَعِش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عُضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة» (¬4). ¬

(¬1) آل عمران الآية (103). (¬2) الشورى الآية (13). (¬3) تقدم تخريجه ضمن مواقف الخلال سنة (311هـ). (¬4) تقدم تخريجه ضمن مواقف عمر بن الخطاب سنة (23هـ).

موقفه من المشركين:

ومن أعظم الحدث: الحدث في العقائد الإلهية، وكذا الحدث في العبادات والأحكام الشرعية، فلا مسرح للعقول، ولا مجال للفهوم في ذات الله، ولا في أسمائه وصفاته، ولا في دينه وشرعه، إنما الواجب التعلم والفهم ثم العمل بدين الإسلام كله. فلا بد من التمسك والاعتصام بكتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، في كل شيء عقيدة وعبادة، وأحكاماً وأخلاقاً، وهذا هو الذي به عز المسلمين، وسعادتهم في الدنيا والآخرة، والله وليّ التوفيق. وفخر المسلمين وعزهم ونصرهم، على اليهود وغير اليهود من أعداء الإسلام والمسلمين، لا يتحقق إلا إذا عملوا بشريعة الإسلام، قولاً وعملاً واعتقاداً، مع نبذ الأحقاد والضغائن، ويحل محل ذلك الوفاق والمحبة والائتلاف، والتكاتف والتساند، والأخوة الإيمانية والرابطة الإسلامية. حقق الله ذلك بمنه وكرمه وجوده وإحسانه وفضله. اللهم صلّ وسلم وبارك على -من أمر بالائتلاف ونهى عن الاختلاف- نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. (¬1) موقفه من المشركين: - له من الآثار السلفية: 'عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين' وهو مطبوع متداول، نفع الله به نفعا عظيما. ¬

(¬1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/ 343 - 345).

- قال رحمه الله فيه: الإلحاد في لغة العرب: هو الميل، ومنه لحد القبر. وهو أنواع: فمنه إلحاد المشركين وعبدة الأوثان: حيث اشتقوا لمعبوداتهم أسماءً من أسماء الله، كاللات من الإله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان. ومنه: إلحاد الجهمية الذين عطلوا الله من صفاته، ومن معاني أسمائه وحقائقها. فالله تعالى أثبت لنفسه السمع والبصر والوجه واليدين والاستواء على العرش والمجيء والقدرة والمشيئة وغير ذلك من صفات الله، والمعتزلة والجهمية تنكر ذلك. ومنه إلحاد المشبهة الذين شبهوا الله بخلقه. والله تعالى حذر من الإلحاد، وعاب الملحدين في أربع آيات: في سورة النحل آية 103، وفي سورة الأعراف آية 180، وفي سورة فصلت آية 40، وفي سورة الحج آية 25. وبإعانة الله يأتي الكلام على المعطلة والمشبهة في الجزء الثاني. ومن أنواع الإلحاد إلحاد الدهرية الذين أنكروا وجود الله تعالى. ومن أنواع الإلحاد المذموم شرعاً وعقلاً: إلحاد النصارى، حيث قالوا: الله ثالث ثلاثة. ومنه إلحاد اليهود قالوا من كفرهم وتكذيبهم وغرورهم: الله فقير ويده مغلولة. وعلى سبيل العموم: كل من كذب بما جاء عن الله، أو عن رسوله فهو ملحد. وكذا من تأول وحرّف ما جاء عن الله أو جاء عن رسوله فهو ملحد ومجرم أثيم. (¬1) ¬

(¬1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (1/ 89 - 90).

موقفه من الرافضة:

موقفه من الرافضة: - قال: ومعتقد أهل السنة والجماعة: لا يشهد لأحد بجنة، ولا نار، إلا لمن شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كالعشرة، وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وهو سعد بن مالك، وسعيد ابن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، رضي الله عن صحابة الرسول أجمعين. وموالاة أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - واجبة، ومحبتهم دين وإحسان وإيمان، وبغضهم وسبهم كفر ونفاق وطغيان. (¬1) - وقال رحمه الله: الشيعة: أو باسم آخر: الرافضة، وهو ألصق بهم. وأول من ابتدع الرفض عبد الله بن سبأ اليهودي المنافق الزنديق، أظهر الغلو في علي بدعوى الإمامة والنص عليه، ثم انتشر هذا المذهب الخبيث. وقد قال ابن سبأ لعلي رضي الله عنه: أنت الإله حقاً. والشيعة: اسم لكل من فضّل علياً على الخلفاء الراشدين، [ومنهم] الشيعة الإمامية الاثني عشرية. الشيعة هم من طوائف الضلال، الشيعة لهم أقوال شنيعة، واعتقادات باطلة. الشيعة عداوتهم للمسلمين عظيمة، قديماً وحديثاً. وسموا بهذا الاسم -بزعم منهم- أنهم شيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وليسوا كذلك، بل هم أعداء لعلي وأعداء لأهل البيت؛ لأنهم غلوا ¬

(¬1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (1/ 9).

فيهم غلواً جاوز الحد والمشروع، ورفعوهم فوق طبقة البشر. وكما يأتي خلاف أهل السنة مع الرافضة خلاف في أصول الدين، وفروعه، فلا لقاء ولا موافقة، حتى تشيب مفارق الغربان. والرافضة: هم الشيعة أو طائفة منهم، وسموا بهذا الاسم؛ لأنهم بعدما بايعوا زيد بن علي، قالوا له: تبرأ من أبي بكر وعمر. فأبى، وقال: كانا وزيري جدي، بل أتولاّهما وأتبرّأ ممن تبرّأ منهما. فتركوه ورفضوه، وأرفضوا عنه. والنسبة: رافضي، والرافضة شر من وطئ الحصاء، ولا يقر لهم قرار حتى يعيدوها وثنية قرمطية مجوسية. مكر وخداع، والمكر يحيق بأهله. ووقاحة الرافضة ومعائبهم ومخازيهم كثيرة جداً، ولا يصدق بما يعتقدونه ويقولونه إلا من طالع كتبهم. فمن ذلك ما صرح به الشاطبي في كتابه 'الاعتصام' (الجزء الثاني، ص.181)، قال: الفرقة الثانية: الشيعة، وهم اثنتان وعشرون فرقة، يكفر بعضهم بعضاً. اهـ كلامه. وأكثر الشيعة يعتقدون أن الحكام والمحكومين من المسلمين كلهم ضُلاّل وعلى غير هدى. ومن أصول الدين عند الرافضة: تأويل آيات القرآن، وصرف معانيها، إلى غير ما فهمه منها الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإلى غير ما فهمه منها علماء الإسلام والمسلمين. ولا شك بأن هذه جريمة كبرى، وإلحاد في آيات القرآن، حيث أجازت الشيعة لأنفسهم تحريف آيات القرآن، على حسب أهوائهم وأغراضهم الفاسدة ومقاصدهم الباطلة.

ومن معتقدات الشيعة وأعمالهم الخبيثة: التقيّة، فيظهر الموافقة، وهو بخلاف ذلك، وهذه هي أعمال المنافقين. وذلك مكر وخداع، وخيانة، ونفاق. فالتقية دين الشيعة، والنفاق ركن أصيل في عقيدتهم. وحيث أن التقية من أصول دين الرافضة، فقد كذبوا وزوروا على جعفر الصادق رحمه الله أنه قال: التقية ديني ودين آبائي. وبدع الشيعة المنكرة، ومذاهبهم الخبيثة كثيرة وكثيرة، ومن اعتقد أو قال: إن القرآن زيد فيه ونقص منه فلا شك في كفره وإلحاده. ومن مخازي الشيعة ووقاحتهم: هو أنهم يعتقدون ويصرحون بأن القرآن الكريم محرف، وزيد فيه ونقص منه. ففي سنة 1292هـ ألّف الحاج ميرزا حسين النوري الطبرسي كتاباً أسماه: 'فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب' جمع فيه النصوص عن علماء الشيعة في مختلف العصور بأن القرآن قد زيد فيه ونقص منه. وقد طبع الكتاب في إيران سنة 1298هـ. والطبرسي هو من كبار علماء النجف، والطبرسي معظم عند الرافضة. وتوفي 1320هـ. وكثير من علماء الشيعة صرحوا بأن القرآن نقص منه وزيد فيه. ولا شك بأن هذا تكذيب لله تعالى، ومن كذّب الله فهو كافر. يقول جل شأنه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} (¬1). وقد أجمع المسلمون بأن القرآن محفوظ من الزيادة والنقصان، ومن التغيير والتبديل، ¬

(¬1) الحجر الآية (9).

محفوظ من عبث العابثين وكيد الكائدين. والواقع شاهد بذلك، والحمد لله رب العالمين. مضى على القرآن 1402 سنة ولا زيد في القرآن ولا نقص منه ولا حرف واحد، ومن قال أو اعتقد أن القرآن زيد فيه أو نقص منه فهو كافر بإجماع المسلمين. والشيعة قد بلغت الغاية في الوقاحة والخبث، فإنه مما يتدينون به: لعن صحابة الرسول، ولعن أبي بكر وعمر، بل يبغضون ويسبون كل من ليس بشيعي. فيلعن الشيعة أبا بكر وعمر وعثمان، وكل من تولى الحكم في الإسلام غير علي، بل من خبث الشيعة يسمون أبا بكر وعمر: الجبت والطاغوت، وصنمي قريش. ذكر بعض هذه النقاط الشيخ محب الدين الخطيب في رسالة له أسماها: 'الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الشيعة الإمامية الاثني عشرية'. وقال الشيخ ابن تيمية: الرافضة الذين يبخسون الصديق حقه، وهم أعظم المنتسبين إلى القبلة إشراكاً بالبشر. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأول من ابتدع الرفض عبد الله بن سبأ اليهودي، وكان منافقاً زنديقاً، أراد بذلك إفساد دين الإسلام. وقال أيضاً شيخ الإسلام: وليس في فرق الأمة أكثر كذباً واختلافاً من الرافضة من حين نبغوا. (¬1) - وقال: ومن أعظم منكرات الرافضة: هو أن أكثرهم يعتقد أن الحج إلى قبر علي رضي الله عنه في النجف، والحج إلى قبر الحسين في كربلاء ¬

(¬1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/ 349 - 352).

أفضل من الحج إلى مكة، مع العلم أن قبر علي ليس في النجف، بل دفن رضي الله عنه في قصر الكوفة. وكذا قبر الحسين لم يثبت أنه في كربلاء. ومن بدع الرافضة: لا يرون صلاة الجماعة، وفي هذا تكذيب لله ورسوله، ومن كذّب الله أو رسوله فقد كفر. ومن بدع الشيعة وضلالهم: هو أنهم جهميون في الصفات، وقدريون في أفعال العباد. ومن بدع الرافضة: لا يرون غسل القدمين في الوضوء. وفي هذا تكذيب لفعل الرسول وقوله، وقد أجمع المسلمون على وجوب غسل القدمين. ومن بدع الرافضة: أكثرهم لا يقيمون صلاة الجمعة لعدم وجود الإمام العادل، والعادل: هو مهديهم المنتظر في زعمهم. ومن بدع الرافضة لا يرون المسح على الخفين، وما أنكر الشيعة هذه السنة الثابتة عن الرسول إلا من زيغ قلوبهم، وفساد أقيستهم وآرائهم. وقد أجمعت الأمة الإسلامية على جواز المسح على الخفين. ولا عبرة بخلاف الرافضة. قال النووي: أجمع من يعتد به في الإجماع على جواز المسح على الخفين في السفر والحضر لحاجة أو غيرها، حتى يجوز للمرأة الملازمة بيتها، والزَّمِن الذي لا يمشي. وإنما أنكرته الشيعة والخوارج، ولا يُعتدّ بخلافهما. وقد روى سبعون من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يمسح على الخفين. اهـ

وقال الحسن: روى المسح سبعون نفساً فعلاً منه عليه السلام، وقولاً. وقال الإمام أحمد: ليس في قلبي من المسح على الخفين شيء؛ فيه أربعون حديثاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والرافضة كذبت الرسول في المسح على الخفين، وكذبت الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كثير من أحكام شريعة الإسلام. وقد أجمع المسلمون على أن من كذب الرسول فهو كافر بالله، كما أن من عصى الرسول فقد عصى الله، والشيعة كذبت بما ثبت عن الرسول في تحريم المتعة، ومن وقاحة الشيعة: إباحة المتعة متعة النساء. وقد حكى غير واحد من علماء الإسلام الإجماع على تحريمها؛ لأن الرسول عليه السلام حرمها عن أمر من الله جل شأنه، فهي حرام، لما رواه الإمام أحمد، ومسلم، والنسائي، من حديث سبرة الجهني: «أنه كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عام فتح مكة، فقال: يا أيها الناس! إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فيلخلّ سبيلها، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً» (¬1). وعن علي رضي الله عنه: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الإنسية» متفق عليه (¬2). ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (3/ 406) ومسلم (2/ 1025/1406) والنسائي (5/ 437/3368). (¬2) أخرجه: أحمد (1/ 79) والبخاري (9/ 207/5115) ومسلم (2/ 1027/1407) والترمذي (3/ 429/1121) والنسائي (6/ 436/3366) وابن ماجه (1/ 630/1961).

والأحاديث التي هي صحيحة وصريحة في تحريم المتعة بعد إباحتها كثيرة. وعبد الله بن عباس -رضي الله عنه- رجع عنه القول بإباحتها، كما في سنن الترمذي (3/ 430). قال الخطابي: تحريم المتعة كالإجماع إلا عن بعض الشيعة. وقال ابن بطال: وأجمعوا على أنه متى وقع الآن أبطل، سواء كان قبل الدخول أم بعده. وقال القاضي عياض: وقع الإجماع من جميع العلماء على تحريم المتعة إلا الروافض. وقال القرطبي: الروايات كلها متفقة على أن زمن إباحة المتعة لم يطل، وأنه حرم، ثم أجمع السلف والخلف على تحريمها إلا من لا يلتفت إليه من الروافض. اهـ (¬1) - وقال: والشيعة الشنيعة تبغض أبا بكر وتلعنه، فعلى الشيعة ما تستحقه من غضب الله وسخطه ولعنته. وهذه الآية -يعني: قوله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِن اللَّهَ مَعَنَا} (¬2) - فيها دليل على أن الشيعة كذّبوا الله ورسوله، ومن كذّب الله، أو كذّب رسوله فقد كفر بالله. ¬

(¬1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/ 355 - 357). (¬2) التوبة الآية (40).

وقال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)} (¬1) الذي جاء بالصدق هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والذي صدّق به هو أبو بكر رضي الله عنه. قال بهذا القول كثير من علماء التفسير. (¬2) - وقال: ومن معائب الشيعة ومخازيهم: عيبهم وكراهتهم لصحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وأكثر الشيعة لا يؤمنون بالأحاديث المذكورة في الصحيحين والسنن والمسانيد ولا يعملون بها. فمن حماقة الشيعة وضلالهم: لا يقبلون الأحاديث التي رواها الصحابة ولا يعملون بها، والله يقول: {* لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)} (¬3)، وكان الصحابة ألفاً وخمسمائة، ومن بينهم أبو بكر وعمر وعثمان. وكان ذلك عام الحديبية سنة ست من الهجرة. وهذا الرضاء من الله لجميع الذين بايعوا تحت الشجرة بيعة الرضوان. والرافضة لا تؤمن، بل تكذّب بما ذكره الله في هذه الآية الكريمة، ومن كذّب بشيء من القرآن فلا شك في كفره وإلحاده، وليس بغريب من الرافضة؛ لأنهم مجوس، والمجوس أعداء للإسلام والمسلمين دائماً وأبداً. ¬

(¬1) الزمر الآية (33). (¬2) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/ 359). (¬3) الفتح الآية (18).

فصحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قوم لا كان ولا يكون مثلهم، أبرُّ الأمة قلوباً، وأزكاها أعمالاً، وأصدقها لهجةً، وأقواها إيماناً، قوم هم مضرب المثل في العبادة والزهادة، والتقى والخشية لله تعالى، وعلماء وحكماء، رضي الله عنهم وأرضاهم، كانوا رضي الله عنهم رهباناً في ليلهم، أُسوداً في نهارهم في ميادين الحروب جهاداً في سبيل الله. قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه ومؤازرته، ونصر دينه وتبليغ رسالته. قوم مدحهم الله وأثنى عليهم، ونوّه بذكرهم في التوراة والإنجيل والقرآن. فدع الرافضة! دعهم في ضلالهم يعمهون! دعهم للحقد يحرق قلوبهم والغيظ يأكل نفوسهم! قال جل شأنه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)} (¬1) ¬

(¬1) الفتح الآية (29).

والشيعة تنكر ذلك وتكذّبه، ومن كذّب الله أو كذّب رسوله فهو كافر بإجماع المسلمين. (¬1) ويعتقد أهل السنة والجماعة: أن أفضل هذه الأمة بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - هم صحابة الرسول؛ قوم لا كان ولا يكون مثلهم، أبرّ الأمة قلوباً، وأزكاها أعمالاً، وأقواها إيماناً. قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، ومؤازرته، ونصر دينه. وأفضل الصحابة وأحقهم بالخلافة بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عن صحابة الرسول أجمعين. وقد قال عليه السلام: «اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر». رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه، وابن حبان وصححه من حديث حذيفة (¬2). وأفضل الصحابة بعد الخلفاء الأربعة هم بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم الذين بايعوا في الحديبية بيعة الرضوان تحت الشجرة، ثم المهاجرون، ثم الأنصار، رضي الله عن صحابة الرسول وأرضاهم أجمعين. والذين سجلوا أحاديث الرسول كالبخاري ومسلم وأصحاب السنن والمسانيد كل منهم يعقد ترجمة خاصة بالصحابة ثم يسوق بعض الأحاديث الواردة في فضائل القوم. وأهل السنة والجماعة يتولون أمهات المؤمنين، أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويستغفرون لهن، وهن أزواج الرسول في الآخرة. ¬

(¬1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/ 360 - 362). (¬2) تقدم تخريجه ضمن مواقف عمر بن الخطاب سنة (23هـ).

موقفه من الصوفية:

وأفضلهن عائشة وخديجة رضي الله عنهن. ومن سبّ الصحابة أو واحداً منه، أو واحدة من أزواج الرسول، فهو ضالّ مضلّ، أضلّ من حمار أهله. والذين يسبون الصحابة ويشتمونهم هم الشيعة الشنيعة، ويشتمون ويسبون زوجات الرسول وخاصة عائشة وحفصة فعلى الشيعة ما يستحقونه من لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. (¬1) موقفه من الصوفية: - قال رحمه الله: ومما هو معروف وشائع وذائع؛ أن أكثر الصوفية يعبدون ويؤلهون أصحاب القبور، ويعظمونهم أعظم من تعظيمهم لله تعالى فيدعونهم، ويسألونهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات، اعتقادا منهم: بأنهم يسمعون وينفعون ويضرون، ويجيبون دعاء من دعاهم. ومن فعل ذلك أو اعتقد جوازه فهو من المشركين. وأعظم من ذلك: أن أكثر الصوفية من أهل وحدة الوجود، ملاحدة زنادقة، لا يؤمنون بأن الله مستو على عرشه، بائن من خلقه؛ بل يعتقدون بأن هذا الوجود هو الله. وعلماء الإسلام الذين بينوا أباطيل الصوفية وردوا عليهم هم -والحمد لله- خلق كثير وجم غفير، ومنهم عبد الرحمن الوكيل، وكيل جماعة أنصار السنة المحمدية في كتابه 'هذه هي الصوفية'. (¬2) ¬

(¬1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (1/ 9 - 11). (¬2) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/ 500 - 501).

- وقد أورد منه نقولا ثم قال: هذا الكتاب عظيم في تحري الحق والصواب، وعظيم في تحقيقه وتنقيحه، وتنظيمه وإتقانه، وعظيم في أسلوبه الرائع البديع. فمن أراد الاطلاع على ما عند الصوفية من مخالفات لما يعتقده أهل السنة، فليراجع هذا الكتاب، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل؛ مع العلم أننا والحمد لله أعطينا القارئ -وفقنا الله وإياه- فكرة يستفاد منها مخالفة الصوفية لما يعتقده ويعمل به أهل السنة والجماعة. تنبيه: الذي أراه وأعتقده: هو أن الصوفية ليسوا على حد سواء في الاعتقاد والأقوال والأعمال؛ فمنهم زنادقة ملاحدة، قالوا بوحدة الوجود، وآمنوا بها ودعوا إليها. ومنهم من يؤمن بوحدانية الله تعالى، ولكنهم يعظمون ساداتهم وكبراءهم من الأموات، ويعتقدون أنهم ينفعون ويشفعون ويضرون، ولهم قدرة ونفوذ وتصرف في هذا الكون، ولا شك أن هذا كفر بالله وخروج من دين الإسلام. وكثير من الصوفية يتبركون ويتوسلون بأصحاب القبور، وبعض الصوفية يتعبدون لله بألفاظ وأوراد مبتدعة في دين الإسلام، وبعضهم يتعبد بألفاظ مفردة كقولهم: هو هو هو، أو: الله، الله، الله. ويزعم بعض الصوفية أن "لا إله إلا الله" ذكر العامة، و"الله" ذكر الخاصة، و"هو" ذكر خاصة الخاصة.

وبعضهم يتعبدون الله بالرقص والأغاني، والتصفيق والشهيق، والشخير والنخير. وبدع الصوفية وشطحاتهم والمنكرات التي تقولها الصوفية وتفعلها؛ كثيرة وكثيرة. وطوائف الصوفية كثيرة، منهم: الشاذلية، والرفاعية، والنقشبندية، والتيجانية، والجيلانية، والجنيدات. ونعوذ بالله من كل بدعة وضلالة، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة» (¬1). وبعض الصوفية زنادقة وملاحدة، يقولون ولا يستحون -وقديما قيل: «إذا لم تستحي فاصنع ما شئت» (¬2) - يقولون: من بلغ الغاية في الولاية، سقطت التكاليف، وحلت له المحرمات. قال أبو محمد ابن حزم في كتابه في الملل والنحل: ادعت طائفة من الصوفية أن في أولياء الله تعالى من هو أفضل من جميع الأنبياء والرسل. وقال: من بلغ الغاية القصوى من الولاية سقطت عنه الشرائع كلها؛ من الصلاة والصيام والزكاة وغير ذلك، وحلت له المحرمات كلها؛ من الزنا والخمر وغير ذلك. واستباحوا بهذا نساء غيرهم، وقالوا: إننا نرى الله ونكلمه، وكلما قذف في نفوسنا فهو حق. ثم ذكر أبو محمد ابن حزم عن الصوفية أشياء كثيرة من الخرافات والمنكرات. وكتب الصوفية هي الشواهد على ما عندهم من كفر وشرك وإلحاد. (¬3) ¬

(¬1) سبق قريبا. (¬2) أخرجه أحمد (4/ 121) والبخاري (6/ 638/3483 - 3484) وابن ماجة (2/ 1400/4183) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (¬3) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/ 505 - 507).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: - له: 'إثبات علو الله تعالى'. (¬1) - قال: ويؤمن أهل السنة بصفات الله العلية، ومن صفاته تعالى: الكلام، والسمع، والبصر، والوجه، واليدان، والعينان، والمحبة، والرضاء، والغضب، والاستواء على العرش، والنزول، والمجيء، والقدرة، والإرادة، والمشيئة، وغير ذلك من صفات الله تعالى التي تليق بجلال الله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. يؤمن أهل السنة والجماعة بصفات الله جل وعلا على الحقيقة، لا ما تقوله المعتزلة والجهمية بأن ذلك على المجاز. (¬2) - وقال رحمه الله: وأيضاً: أهل السنة والجماعة يصدّقون ويؤمنون بأن الله جل شأنه ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: «من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟» (¬3). ينزل الله تبارك متى شاء كيف شاء، ولا تكييف، ولا تمثيل. والجهمية والمعتزلة والأشاعرة كما كذّبوا برؤية الله تعالى كذّبوا بنزول الله جل شأنه. ورؤية الله ثابتة بكتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فالمؤمنون يرون ربهم عياناً بأبصارهم، وذلك في عرصات القيامة، ويرونه تعالى بعد دخول الجنان، ¬

(¬1) علماء نجد (2/ 433). (¬2) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (1/ 4). (¬3) تقدم ضمن مواقف عبد العزيز بن الماجشون سنة (164هـ).

في جنة النعيم. ورؤية الله تعالى هي أعظم سرور، وأتمّ نعيم لأولياء الله تعالى. (¬1) - وقال: الله جل وعلا -كما هو صريح القرآن وصريح السنة- له أسماء وله صفات، وأسماء الله جل شأنه حسنى، وأسماء الله -كما يأتي- ليست محصورة في تسع وتسعين اسماً. وبتوفيق الله وإعانته نذكر من أسماء الله ثلاثة وثلاثين اسماً في أول الجزء الثاني. والله تعالى -كما هو صريح القرآن وصريح سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - له صفات، صفات لائقة بعظمته، ومجده، وكبريائه. صفات يجب إثباتها لله كما أثبتها الله لنفسه في القرآن، وكما أثبتها الرسول لربه في سنته المطهرة. صفات يجب إثباتها لله على الحقيقة لا على المجاز، خلافاً للمعتزلة، والجهمية، والماتريدية، والأشاعرة، والقدرية. فما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - وجب إثباته إثباتاً من غير تكييف، ولا تمثيل، ومن غير تحريف، ولا تعطيل. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (¬2). ومن صفات الله تعالى: الكلام، والرحمة، والغضب، والرضاء، والسمع، والبصر، والوجه، واليدان، والمجيء، والنزول، والاستواء على العرش، وغير ¬

(¬1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (1/ 8). (¬2) الشورى الآية (11).

موقفه من الخوارج:

ذلك. والله جل شأنه أنزل الكتب وأرسل الرسل بإثبات مفصل ونفي مجمل. (¬1) موقفه من الخوارج: - قال رحمه الله: ومن عقائد أهل السنة: أن من ولاّه الله أمر المسلمين، فطاعته واجبة بشرط أن يكون مسلماً. والخروج عليه، وشقّ عصا المسلمين معصية لله وجريمة كبرى وذنب عظيم إلا إذا أمر ولي الأمر بمعصية، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وأهل السنة والجماعة هم الصحابة والتابعون لهم بإحسان. ومن عقائد أهل السنة والجماعة: أن صاحب الكبيرة إذا مات قبل أن يتوب، ولم يكن مستحلاً لما فعله، فهو يوم القيامة تحت مشيئة الله، إن شاء الله غفر له، وأدخله الجنة مع السابقين، وإن شاء الله عذّبه بعدله، بقدر ذنبه وجريمته، في نار جهنم، ولا يخلد فيها. والمعتزلة والخوارج خالفوا نصوص الكتاب والسنة، فحكموا بأن صاحب الكبيرة من المخلدين في نار جهنم، فلا يخرج منها، لا برحمة أرحم الراحمين، ولا بشفاعة الشافعين، إذا مات قبل أن يتوب من جريمته. موقفه من المرجئة: قال: وصريح القرآن والسنة وهو معتقد أهل السنة والجماعة؛ أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بطاعة الله، وينقص بمعصيته. ¬

(¬1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (1/ 331 - 332).

موقفه من القدرية:

والناس متفاوتون في الإيمان، فليسوا على حد سواء، كما قالت ذلك الطائفة المشهورة بالمرجئة. ويأتي بيان مذهب المرجئة في الجزء الثاني إن شاء الله تعالى. ومجرد الإيمان لا يكفي، فلا بد من العمل؛ وعند المرجئة الأعمال الصالحة ليست من الإيمان. ومذهب المرجئة زور وباطل، تبطله وتردّه نصوص الكتاب والسنة؛ فعند المرجئة إيمان المرسلين والمؤمنين كإيمان المجرمين والفاسقين. نعم لا بد من العمل بدين الإسلام. ففي سبعين آية من آيات القرآن الكريم يقرن الله بين الإيمان والعمل. مثل قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)} (¬1).اهـ (¬2) موقفه من القدرية: - قال: أشكل على كثير من طلبة العلم هل العبد مخير أو مسير؟ والذي يظهر لي أن العبد ليس بمخير ولا مسير؛ لأننا إذا قلنا إن العبد مخير، دخلنا في مذهب القدرية الذين قالوا: العبد يخلق فعل نفسه، وإن قلنا العبد ¬

(¬1) الروم الآيات (14 - 16). (¬2) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (1/ 43).

مسير، دخلنا في مذهب الجبرية. فالذي ينبغي أن يقال: العبد له إرادة ومشيئة، ولكنها تابعة لإرادة الله ومشيئته. الجبرية: والجبر لغة: هو الإلزام. والجبرية هم من طوائف الضلال، وهم من أتباع الجهم بن صفوان. وسموا بهذا الاسم لأنهم قالوا: نحن مجبورون على أفعالنا، وفي قول الجبرية تعطيل لأحكام الإسلام فلازم قولهم: لا يقتل القاتل، ولا تقطع يد السارق، ولا يرجم الزاني، ولا يقام في الإسلام حد، فمن فعل جريمة لا عتب عليه، ولا لوم. ومن هذه الزاوية نعرف أن القدرية والجبرية في طرفي نقيض؛ فالقدرية جفوا، حيث قالوا: إن أفعال العباد من الطاعات والمعاصي لم تكن داخلة تحت قضاء الله وقدره، بل هم الذين شاؤوها وفعلوها، استقلالاً واختياراً منهم لها. فالقدرية جفوا حيث أبطلوها ما قضاه الله وقدره. وتقدمت الأدلة التي فيها الرد على القدرية، ولله الحمد والمنة. أما الجبرية فهم غلوا في إثبات القدر، وأهل السنة والجماعة وسط بين جفاء القدرية، وغلو الجبرية. وهكذا أهل السنة دائماً، والحمد لله، وسط بين الإفراط والتفريط، وبين الغلو والجفاء.

نعم كما تقدم، الجبرية غلوا في إثبات القدر، فاعتقدوا أن العباد، لا مشيئة لهم ولا قصد ولا اختيار، بل إذا فعلوا طاعة أو معصية، فهم مجبورون عليها. فعلى قول الجبرية: الطاعات والمعاصي عين فعل الرب، لا أفعالهم. وهذا القول معرف بطلانه بالضرورة من دين الإسلام. فعند الجبرية حركات العبد وسكناته وأفعاله اضطرارية، كحركة الأشجار وأغصانها وأوراقها بالرياح التي تصفقها يمنةً ويسرةً، فإنها تضطرب وتمايل من غير اختيارها. وكحركة المرتعش الذي أصابه مرض الفالج، فإنه يضطرب ويتحرك من غير اختيار منه ولا قصد. هذا قول الجبرية الخالصة. وهذا القول كذب على الله، وزور وباطل، فالله أعظم وأجل قدراً من أن يجبر أحداً على ذنب ثم يعذبه عليه. وكتاب الله، وسنة رسوله، والعقل الصحيح، والفطرة المستقيمة، كلها حجج وبراهين على بطلان ما تعتقده وتقوله الجبرية الخالصة. (¬1) - وقال أيضا: وكما أشرنا سابقاً: معتقد أهل السنة والجماعة هو أن العبد له إرادة ومشيئة، ولكنها ليست مستقلة، بل هي تابعة لإرادة الله ومشيئته، وكتاب الله، وسنة رسوله، وقول الصحابة والتابعين لهم بإحسان، والعقل، والفطرة، في الجميع ردّ وإبطال لما تعتقده وتقوله الجبرية. ¬

(¬1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/ 303 - 305).

قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} (¬1)، وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} (¬2). فهذه الآية الكريمة صريحة في أن العبد ليس بمجبور على فعل الطاعات والمعاصي. نعم العبد ليس بمجبور، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)} (¬3). والآيات القرآنية التي فيها الرد على الجبرية كثيرة جداً. فبعد تتبع المصحف من سورة الفاتحة إلى (قل أعوذ برب الناس) وجدنا 77 سبعاً وسبعين آية، كلها صريحة في الرد على الجبرية. ولا ريب بأنه يوجد في القرآن الكريم أكثر من هذا العدد؛ وإلى المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، سبع آيات: قال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)} (¬4)، وقال تعالى: ¬

(¬1) التكوير الآيتان (28و29). (¬2) فصلت الآية (46). (¬3) الزمر الآية (41). (¬4) النساء الآية (79).

{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)} (¬1)، وقال جل وعلا: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِن اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)} (¬2)، وقال تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} (¬3) فالعبد له قصد واختيار فليس بمجبور، وقال تعالى: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)} (¬4)، وقال جل شأنه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)} (¬5)، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)} (¬6). ¬

(¬1) الأنعام الآية (120). (¬2) الأعراف الآية (28). (¬3) الإسراء الآية (7). (¬4) الروم الآيتان (44و45). (¬5) يونس الآية (108). (¬6) يونس الآية (44).

علي بن عبد الله بن علي الحواس (1410 هـ)

فهذه الآيات الكريمة صريحة في أن العبد ليس بمجبور، فالعبد يفعل الطاعات والمعاصي بقصده واختياره، ولا يخرج عن قضاء الله وقدره. وأحاديث الرسول التي فيها إبطال لقول الجبرية كثيرة وشهيرة والحمد لله رب العالمين. فالرسول جلد في الخمر، وقطع يد السارق، ورجم في الزنا. (¬1) علي بن عبد الله بن علي الحواس (¬2) (1410 هـ) الشيخ علي بن عبد الله بن علي الحواس العساف، ولد في بريدة سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة، ونشأ بها. أخذ عن الشيخ محمد الصالح المطوع والشيخ عمر بن محمد بن سليم والشيخ عبد العزيز العبادي. عين مدرسا في المعهد العلمي بحائل، ثم مدرسا في الأحساء، ثم عين موجها دينيا في جامعة الإمام محمد بن سعود. كان رحمه الله موصوفا بالتواضع والابتعاد عن الدنيا ومناصبها، حسن الصوت، آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر. له مؤلفات أكثرها ردود. توفي رحمه الله سنة عشر وأربعمائة وألف، وله من العمر ثلاث وسبعون سنة. موقفه من المبتدعة: له من الآثار السلفية: 'بيان أن المثل الأعلى خاص لربنا وحده تبارك وتعالى'. وهو رد على من قال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المثل الأعلى في السيرة ¬

(¬1) عقيدة المسلمين والرد على الملحدين والمبتدعين (2/ 306 - 308). (¬2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (5/ 229 - 235).

موقفه من الجهمية:

والمنهج. (¬1) وهو رد على من قال إن معية الله لخلقه معية ذاتية. موقفه من الجهمية: له من الآثار السلفية: 'النقول الواضحة الجلية عن السلف الصالح في معنى المعية الإلهية الحقيقية'. (¬2) جميل الرحمن (¬3) (1412 هـ) الشيخ محمد حسين بن عبد المنان، المعروف بجميل الرحمن. ولد سنة ستين وثلاثمائة وألف للهجرة. في قرية وادي بيج بولاية كنر. طلب العلم مبكرا، فأخذ عن الشيخ عبد الخالق اللغة الفارسية والأردية وعن الشيخ عبد المنان السلفي الحديث وغيره وعن الشيخ محمد طاهر البنجشيري التوحيد والتفسير. كان له الفضل بعد الله سبحانه وتعالى في نشر الدعوة السلفية في أفغانستان بشكل كبير، ثم ضيق عليه فهاجر إلى باكستان، وبعد تحرير كنر عاد الشيخ، فأعلن فيها الإمارة الإسلامية على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأمر فيها بالصلاة وقضى على مزارع الحشيش وغيره، فدب الأمن والسلام، لكن أعداء التوحيد لم يسرهم هذا الأمر، فقاموا باغتياله على يد رجل يدعى أشرف بن أنور بن محمد النيلي من الحاقدين على الدعوة السلفية وذلك قبل ظهيرة الجمعة، صفر عام اثني عشرة وأربعمائة وألف للهجرة، فرحمه الله ¬

(¬1) علماء نجد (5/ 230). (¬2) علماء نجد (5/ 230). (¬3) مجلة المجاهد (العدد الخامس والثلاثون ص.8 - 11).

موقفه من المبتدعة:

رحمة واسعة. موقفه من المبتدعة: - قال رحمه الله يبين عقيدته ومنهجه: ونرى هجر أهل البدع والمعاصي واجبا لقوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (¬1) ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هجر كعب بن مالك وصاحبيه حين تخلفوا عن غزوة تبوك (¬2) وكذلك النصح لهم وتحذيرهم من البدعة واجب. ونرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير، وتعليم الكتاب والسنة، وتفقيه الناس وتثقيفهم في دينهم. (¬3) - وقال أيضا: ونستدل في المسائل العلمية والعملية بكتاب الله وبسنة رسوله، ثم بالإجماع، ثم بسنة الخلفاء الراشدين المهديين، حسب القواعد والأصول التي سلك عليها السلف الصالح ومجتهدو الأمة، ونرى أن الخروج عن منهجهم في فهم الكتاب والسنة من الابتداع والزندقة. ونرى الرجوع في موارد الاختلاف إلى الكتاب والسنة، وليس الفصل بين الحق والباطل إلا كتاب الله وسنة رسوله، وهذا هو سبيل المؤمنين في القرون الثلاثة المشهود لها بالخير، وسبيل مجتهدي الأمة والأئمة الأربعة رحمهم الله، وكانوا ينفرون عن التقليد وينهون عنه. حيث قال الإمام مالك رحمه الله: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم ¬

(¬1) المجادلة الآية (22). (¬2) تقدم تخريجه ضمن مواقف ابن عبد البر سنة (463هـ). (¬3) جماعة الدعوة إلى القرآن والسنة (20).

يوافق الكتاب والسنة فاتركوه". وقال: "ليس أحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي". وقال الإمام أبو حنيفة: "لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذنا" -وفي رواية: "حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا". وقال الشافعي: "أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله لم يحل له أن يدعها لقول أحد". وقال تلميذه الإمام المزني في أول مختصر كتاب الأم: "اختصرت هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس الشافعي ومن معنى قوله: "لأقربه على من أراده مع إعلامية نهيه عن تقليده وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه وبالله التوفيق". وقال الإمام أحمد رحمه الله: "لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا"، وقال: "من رد حديث رسول الله فهو على شفا هلكة". هذه عقيدتنا ومنهجنا ندعو إليه، ونرى أنه لا صلاح للجهاد إلا به، مع إخلاص التوحيد ومتابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ذلك هو سبيل النصر وسبيل تأليف القلوب وتوحيد الصفوف وسبيل التمكين في الأرض، نسأل الله تعالى لنا ولكافة المسلمين الهداية والرشاد والحمد لله رب العالمين وصل اللهم وسلم على نبينا تسليما كثيرا. (¬1) - ومن الأسئلة التي وجهت إليه ما يلي: السؤال: أنتم متهمون بانتهاج السلفية للوصول إلى مآرب سياسية وهي الوصول إلى الرياسة والزعامة؟ الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد ¬

(¬1) جماعة الدعوة إلى القرآن والسنة (21).

لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. الجواب عن هذا السؤال من أربعة أوجه: الوجه الأول: نعم إن رفع الصوت بالدعوة إلى الحق تارة يكون ناشئا عن داعية حب الرياسة وطلبها في نفس الإنسان، وتارة يكون ناشئا عن داعية إحساس المسئولية أمام الله، وكذلك التهمة التي يرمى بها الدعاة قد تكون ناشئة من الشبهة وعدم الفهم، وقد تكون ناشئة من أغراض سياسية عدوانية مثل صد الدعاة عن الصدع بالحق وصد الناس عن اتباعه ولبس الدين عليهم. فإذا نظرت في تاريخ الإنسانية من بدئه إلى يومنا هذا لا تجد داعيا رفع صوته بالدعوة ولو كان محفوفا بالبينات إلا رمي بالاتهامات والافتراءات. فهؤلاء قوم نوح عليه السلام يقولون عنه: {يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} (¬1) ويقولون له: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60)} (¬2) معنى يتفضل أي: يتقدم ويترأس عليكم. وهؤلاء قوم فرعون قالوا لموسى وهارون عليهما السلام: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} (¬3) ومعنى الكبرياء في الأرض: الرياسة. وهكذا قال كبراء الناس في مكة: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى ¬

(¬1) المؤمنون الآية (24). (¬2) الأعراف الآية (60). (¬3) يونس الآية (78).

آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6)} (¬1)، ومعنى {شيءٌ يُرَادُ} أي أن محمدا أراد بهذه الدعوة أن تكون له الرياسة عليكم، كما في التفسير. فظهر أن اتهام الدعوة بطلب الرياسة هو اتهام قديم من عهد نوح عليه السلام وليس بمحدث، فالدعوة والتهمة سنتان من سنن الله الجارية. فهذه سنة من السنن الشرعية وتلك سنة من السنن الكونية والقدرية، وكلتاهما متآخيتان، كلما وجدت الدعوة رميت بالتهمة، يقول الله تعالى عن سنته الخالدة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} (¬2) وقوله سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} (¬3)، وكل من سلك طريق الأنبياء في الدعوة لابد وأن يلاقي ما لاقوه من التهم. فنقول لإزالتها إن السلف الصالح هم: الصحابة والتابعون رضي الله عنهم الذين هم خير القرون بشهادة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنهجهم في الدين هو المنهج الحق الذي تلقوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وساروا عليه، ولا تصير الأمة المسلمة مستحقة للبشارة التي بشر الله سبحانه وتعالى بها في قوله إلا بحسب الظاهر، قال الله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ ¬

(¬1) ص الآية (6). (¬2) الفرقان الآية (31) .. (¬3) الأنعام الآية (112).

بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)} (¬1) وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة" رواه البخاري (¬2). ونحن نرى أن هذه الاتهامات بطلب الرياسة، قد رمانا بها المخالفون لمآرب سياسية تستهدف صد الدعاة عن الصدع بالحق وصد الناس عن اتباع دعوة الحق بالطعن في نية الدعاة، فليحذر كل مسلم من هذا، ولتكن له معاييره الشرعية في التفريق بين الحق والباطل، ولا يكن إمعة. الوجه الثاني: إن جريرتنا عند المخالفين لنا أننا تكلمنا عندما سكتوا، وواجهنا الناس بالحقيقة عندما داهنوهم، ونصحناهم عندما غشوهم بعدم بذل النصح والإصلاح، حيث إننا نرى أن ما أصابنا وأصاب بلادنا من الغزو الكافر والدمار هو عقوبة من الله سبحانه لنا بسبب تفشي المنكرات فينا مع عدم الإصلاح، فتحققت فينا سنة من سنن الله الخالدة وهي قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)} (¬3) وقوله سبحانه: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ¬

(¬1) التوبة الآية (105). (¬2) (5/ 315/2641). (¬3) هود الآية (117).

ظَالِمُونَ (59)} (¬1)، فإذا عم الظلم وقل المصلحون فقد أذن الله بالهلاك، أما العقاب الذي سلطه الله علينا فهو العدو الروسي الكافر وعملاؤه من الأفغان الملحدين، وتحققت فينا سنة أخرى من سنة الله الخالدة {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)} (¬2) وهو المعنى المذكور في قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في وصيته لجيش سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عند سيره لفتح فارس: "واعلموا أن عليكم في مسيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا إن عدونا شر منا فلن يسلط علينا وإن أسأنا. فرب قوم قد سلط عليهم شر منهم، كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله الكفار والمجوس، {فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)} (¬3)، واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم". وقول عمر رضي الله عنه (فرب قوم قد سلط عليهم شر منهم): قد تكرر وقوعه في الأمة الإسلامية، حيث تسلط الصليبيون على ممالك الأندلس الإسلامية فمحوها من الوجود وصارت اليوم بلادا صليبية كافرة، وتسلط التتار (المغول) الكفار على دولة الخلافة العباسية فدمروا مدينة بغداد وذبحوا الخليفة العباسي، وتسلط الصليبيون مرة أخرى على دولة الخلافة العثمانية حتى محوها ¬

(¬1) القصص الآية (59). (¬2) الأنعام الآية (129). (¬3) الإسراء الآية (5).

وأزالوا الخلافة، وتسلط الروس الشيوعيون على بلاد التركستان وبخارى وسمرقند الإسلامية فحولوها إلى ديار كفر، ولم يقل أحد إن هذه الممالك الإسلامية الهالكة كانت ممالك كافرة أو مشركة، ولكن لما فشت فيها المعاصي والمنكرات سلط الله عليهم من هو شر منهم، وما يحدث اليوم في أفغانستان هو مثل آخر، سلط الله الروس الكافرين على الأفغان بمعاصيهم، فإما أن نستدرك أمرنا اليوم بالتوبة والإخلاص والطاعة، وإما أن ينتهي الأمر بزوال الإسلام وظهور الشيوعية، كما حدث في بخارى وسمرقند، نعوذ بالله من سخطه ونقمته. قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} (¬1) وقال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (¬2) وقال سبحانه: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)} (¬3)، وأي معصية أعظم من مخالفة اعتقاد سلف الأمة ومنهجهم، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ ¬

(¬1) الشورى الآية (30). (¬2) النساء الآية (79). (¬3) النساء الآية (62).

اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} (¬1)، وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} (¬2)، فكيف بمن يردون الأحاديث الصحيحة بأنها تخالف المذهب، فيقدمون آراء الرجال على الكتاب والسنة، ويجعلون آراء الرجال وقياساتهم حاكمة على الكتاب والسنة بالقبول أو الرد، ويتبعون في ذلك قاعدة تقول: (كل آية تخالف ما عليه أصحابنا فهي مؤولة أو منسوخة، وكل حديث كذلك فهو مؤول أو منسوخ). فكيف بمن يجوز الاستغاثة والتبرك بالموتى، وكيف بمن يرون أن الله سبحانه موجود في كل مكان، ويردون النصوص التي تثبت أن الله سبحانه في السماء، وهم يعلمون هذا لأطفالهم جيلا بعد جيل اتباعا لما وجدوا عليه آباءهم. وهذا ليس مقام حصر مخالفاتهم الشرعية بل هي أمثلة منها. وقد قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} (¬3) وقد خالفنا نصوصا كثيرة من الكتاب والسنة فأصابتنا الفتنة والعذاب في الدنيا بحلول العدو ببلادنا، فدمر وشرد وأهلك ما يعجز عنه الوصف، والسعيد من اتعظ بغيره والشقي من اتعظ به غيره. فالواجب علينا أن نعلم أن ما نزل بنا هو مثل ما نزل بكثير من الممالك ¬

(¬1) الأحزاب الآية (36) .. (¬2) النساء الآية (115). (¬3) النور الآية (63).

الإسلامية الهالكة، وأن علينا أن نتدارك أمرنا حتى لا تكون نهايتنا كنهايتهم. قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} (¬1) وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)} (¬2) فنحن الآن في إمهال من الله، إما أن نرجع ونتضرع، وإما أن يحيق بنا ما حاق بالأمم الظالمة. فإذا كان ما سبق هو حقيقة الأمر في أفغانستان، وقمنا بدعوة شرعية إصلاحية لرد الأمة إلى طريقة السلف، طريق النجاة والفلاح، حتى يرفع الله سبحانه نقمته وغضبه عنا وحتى نكون أهلا لرضاه سبحانه، فكيف يظن بأن هذه الدعوة لأغراض سياسية، فحسبنا الله عليه توكلنا وهو رب العرش العظيم. الوجه الثالث: مما سبق يتبين لك ضرورة الدعوة والإصلاح في بلادنا استدراكا للأمر قبل فوات الأوان، ونحن من هذا المفهوم انتصارا لدين الله الحق ولعقيدة التوحيد، قد قمنا بتأليف جماعتنا امتثالا لقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)} (¬3) قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "قال أبو ¬

(¬1) الروم الآية (41). (¬2) الأنعام الآية (42) .. (¬3) آل عمران الآية (104).

جعفر الباقر: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} ثم قال: «الخير اتباع القرآن وسنتي» (¬1) رواه ابن مردويه، والمقصود أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» (¬2) وفي رواية: «وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» (¬3)، فجماعتنا قامت للدعوة وللجهاد وكلاهما مقدم واجب لا يحتمل التأخير. ونحن نطمع في نصر الله سبحانه الذي وعد به من ينصر دينه ويدعو إليه في قوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} (¬4) كذلك فإن جماعتنا قامت بجمع شمل أهل الحديث المستضعفين وقد قال الله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ ¬

(¬1) ذكره السيوطي في الدر ونسبه لابن مردويه. (¬2) أحمد (3/ 10،20،49،50) ومسلم (1/ 69/49) وأبو داود (1/ 677 - 678/ 1140) والترمذي (4/ 407 - 408/ 2172) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (8/ 485 - 486/ 5023) وابن ماجه (1/ 406/1275) من حديث أبي سعيد الخدري وليس من حديث أبي هريرة. (¬3) مسلم (1/ 69 - 70/ 50) من حديث عبد الله بن مسعود. (¬4) الحج الآية (40) ..

نَصِيرًا (75)} (¬1). فإذا كانت حماية المستضعفين أصحاب العقيدة الصادقة موجبة للقتال أفلا تكون موجبة لتكوين جماعة تكفلهم حتى يبلغوا رسالة ربهم؟ وكذلك فإن من أهداف جماعتنا تربية أطفالنا وأطفال الشهداء على منهج السلف الصالح الذي لا ينتهج بفضل الله إلا في مدارسنا، ونحن نقوم بدعوتنا إعذارا إلى الله سبحانه كما قال سبحانه: {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)} (¬2). ونطمع في النجاة من نقمة الله وسخطه في الدنيا والآخرة حسب وعده الصادق {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)} (¬3) ونحن علينا الدعوة والبلاغ أما هداية القلوب فبيد الله وحده لا شريك له {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (¬4) وقال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)} (¬5). ونحن مستمرون بعون الله في دعوتنا غير مبالين بتهم المخالفين وافتراءاتهم الذين يريدون أن يطفئوا نور الله، ويقولون ¬

(¬1) النساء الآية (75). (¬2) الأعراف الآية (164). (¬3) الأعراف الآية (165). (¬4) القصص الآية (56). (¬5) الأنعام الآية (35).

إن دعوتنا هي تنفيذ لمخططات أعداء الإسلام لضرب الجهاد، وأن الجهاد لن يؤتي ثماره إلا بالإصلاح الشرعي الذي ندعو إليه. والحمد لله رب العالمين، ونحن لم نفرق الصفوف، ولم ندع لإلقاء السلاح حتى يتم الإصلاح، فكيف يقال إن الدعوة السلفية وضعها الأعداء لضرب الجهاد. الوجه الرابع: مما سبق تتبين لك الدواعي الشرعية التي دعت إلى إنشاء جماعتنا لا نبالي بعد ذلك تهمة طلب الرياسة التي هي من مواريث أعداء الرسل لصد الناس عن الحق واتباعه، بقي أن تعلم هنا أن الإمارة في هذا الدين ليست مذمومة ألبته وليست منهيا عنها لمن يقوم بحقها بل قد ترتقي أحيانا إلى مرتبة الاستحباب أو الوجوب الشرعي إذا دعت ضرورة صيانة الملة وحماية الأمة إلى ذلك وقال الله تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)} (¬1) ووردت الأحاديث بالبشارة العظيمة للإمام العادل. تم الجواب ولله الحمد والفضل والمنة. (¬2) - السؤال: يقال إن أسلوبكم في الدعوة إلى العقيدة الصحيحة أسلوب فظ منفر؟ الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. نحن نعلم أن من واجبات الدعوة أن يراعي الداعي حال المخاطب، وأن يختار أسلوبا لينا غير فظ ولا منفر، يقول الله تعالى: {فَقُولَا ¬

(¬1) يوسف الآية (55). (¬2) جماعة الدعوة للقرآن والسنة (25 - 31).

لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} (¬1). ويقول الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (¬2). ويقول الله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (¬3). ونحن لا نخرج عن تلك الحدود تعظيما لأمر الله عز وجل، واقتداء بأنبيائه عليهم الصلوات من الله والسلام. فالذين يطعنوننا بالفظاظة والشدة -إن كانوا من أصحاب العقيدة الصحيحة ويعرفون من واجب الدعوة إليها يؤدون حقها ويقفون موقفا صريحا بحيث يعرف الناس من عقيدتهم ودعوتهم ويرون في أسلوبنا من الفظاظة، فعليهم أن يصلحوا ما رأوا ويهدوننا إلى أسلوب مناسب متلطف لأننا لسنا ندعي أن أسلوبنا أسلوب جيد راقي في الدعوة إلى أقصى ما ينبغي أن يكون عليه طريق الدعوة، بل يحسب هذا من شأن الأنبياء عليهم السلام لأنهم معصومون في التبليغ والرسالة بعصمة الله، ومؤيدون بوحي الله، غاية ما ندعي ونتيقن أن عقيدتنا عقيدة صحيحة. وأن الدعوة إليها واجبة ويجب علينا أن نختار من بين أساليب الدعوة التي نعرفها أسلوبا جامعا للجهات المناسبة ومحفوفا بما يتوفر في دواعي الإجابة والقبول، وإن كانوا ممن يخالف في العقيدة والدعوة أو الدعوة وحدها، فهؤلاء لا يريدون من الطعن ¬

(¬1) طه الآية (44). (¬2) آل عمران الآية (159). (¬3) النحل الآية (125).

موقفه من المشركين:

بالفظاظة إلا مخالفة أصل الدعوة ومحاربتها بأسلوب ماكر. فنقول لهؤلاء تعالوا لنبحث أصل القضية وهي قضية العقيدة والدعوة، ثم بعد القضاء والاتفاق نبحث في كيفية أسلوب الدعوة ونختار بالاتفاق من أساليب الدعوة أسلوبا رضيا عندكم، أما إذا كنتم في اختلاف من مبدأ الأمر أو كنتم اخترتم موقف السكوت والمداهنة فلا ينبغي أن تطعنوا في طريق الدعوة الحقة، بل حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا الآخرين. فبعد وضوح ما مر من داعية الطعن نقول: إن أصحاب البدع والأهواء دائما يقابلون أهل السنة بالفظاظة والغلظة، ويكفرون من خالف أهواءهم، ويخرجونهم من الملة ولا يصلون خلفهم بل لا يجوزون ذلك، ويفتون بجواز قتلهم ويحرضون عامة المسلمين على قتلهم وإيذائهم، وهذا واضح لكل من يعرف من أحوال المبتدعين من سالف الزمان. فنقول لهؤلاء الذين ينسبوننا إلى الفظاظة كيف تحاسبوننا بالقض والقضيض وتغمضون عن عدوان أهل الأهواء وفظاظتهم. يقول الله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)} (¬1).اهـ (¬2) موقفه من المشركين: قال رحمه الله مجيبا على سؤال: يشيع عنكم بعض الناس أنكم تكفرون المسلمين والمجاهدين، فما قولكم في هذا؟ ¬

(¬1) المائدة الآية (8). (¬2) جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة (47 - 48).

الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. هذا القول بهتان وافتراء علينا، وهو أحد الأساليب التي تستغل لمحاربة دعوتنا وتنفير العامة عنا وإغراء أهل العلم بنا. والذين يشيعون عنا هذا صنفان من الناس: الصنف الأول: إذا سمعوا منا أن التمائم ودعاء غير الله والاستغاثة بالأولياء والخوف والرجاء من غير الله من أعمال الكفر والشرك، وأن اعتقاد أن غير الله يملك للناس نفعا أو ضرا اعتقاد شرك، وأن إنكار صفة الفوقية والعلو لله سبحانه يستلزم الحلول والاتحاد أو عدم وجود الله، وأن القول بأن ما نقرأ من كلام الله ليس كلام الله حقيقة بل يحسب كلام الله مجازا، من الأقوال الكفرية. وإن وجدت هذه الأشياء فيمن يقر بكلمة الشهادتين ويصوم ويصلي ويلتزم الطاعة فيظن هؤلاء أننا نحكم على مرتكبي تلك الأعمال والعقائد بالكفر، وليس الأمر كما توهموا، فإن الحكم بكون العمل كفرا وشركا لا يستلزم الحكم بكون المرتكبين له كافرين في جميع الأحوال. فإن كلا من أعمال الكفر وعقائد الشرك لا يخرج من يقر بالشهادتين من الملة والإسلام إلا بعد إقامة الحجة عليه، وأن لا يبقى له عذر جهل أو شبهة ومع ذلك يعاند ويستمر في أعمال الكفر وعقائد الشرك. الصنف الثاني: يعلمون أن دعوتنا دعوة حقة وأنا لا نحكم بكفر المسلمين ولا المجاهدين لكنهم أخذتهم العزة والأغراض السياسية والمادية فيبهتون ويفترون ويشيعون عنا، والله يعلم إنهم لكاذبون، وهؤلاء نذكرهم

بالترهيبات التي وردت في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا تجرمنهم الأغراض السياسية والمادية على ألا يعدلوا. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. (¬1) - وجاء في مجلة المجاهد: المجاهد: هل يوجد في كنر أضرحة وقبور ظاهرة، وبعضها يعبد كما هو الحال في أكثر ولايات أفغانستان أم لا؟ الشيخ: إن دعوة التوحيد قامت في كنر من أكثر من خمس وثلاثين سنة فأكثر الناس والحمد لله يعتقدون العقيدة الصحيحة، ويحبون اتباع السنة، وإن كان فيهم من تأثر بالعقيدة الشركية، وقد وجدت القبور والأضرحة قبل دعوة التوحيد وما زال بعضها قائما، إلا أننا بدأنا في إزالته يوما بعد يوم، ولكن بصورة غير منظمة، فحتى الآن لم توظف لجنة تطوف على جميع المناطق لإزالة هذه الأضرحة وتسوية القبور. (¬2) - وفيها أيضا: المجاهد: هل تأمن الإمارة الآن من هجوم الشيوعيين؟ الشيخ: لا شك أننا لم ولن نأمن هجوم الشيوعيين، لأن الحرب قائمة بيننا وبينهم، غاية الأمر أن المحافظة بكاملها قد حررت، والمجاهدون متمركزون على الثغور مرابطون فإن حدث أي هجوم على كنر قام الجميع للدفاع، وإن لم يقم الشيوعيون بالهجوم فنحن نضع الآن الخطط للهجوم عليهم، ليستمر الجهاد ولترفع راية لا إله إلا الله عالية براقة فوق جبال ¬

(¬1) جماعة الدعوة إلى القرآن والسنة (ص.44 - 45). (¬2) مجلة المجاهد (العدد 30/ص.15).

أفغانستان. وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له» (¬1). فإن استمرار القيام بفريضة الجهاد أمر نراه من صلب عقيدتنا؛ فإن الجهاد ماض إلى يوم القيامة. وهناك جهادان: جهاد داخلي: وهو دعوة الناس إلى العقيدة والتوحيد والدعوة إلى الكتاب والسنة بين المجاهدين وغيرهم واستتباب الأمن، وذيوع الروح الإسلامية في جميع الأوساط وفي جميع المجالات. والجهاد الثاني: هو جهاد العدو الخارجي الكافر الشيوعي وغيره، فنحن لم ولن نكتفي -بإذن الله- بتحرير كنر وإقامة شرع الله بها حتى تكون جميع الأرض عامرة بشرع الله عز وجل. (¬2) ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (2/ 50) وابن أبي شيبة (4/ 212/19401) وعبد بن حميد (رقم848) وابن الأعرابي في معجمه (6/ 336/1137) والبيهقي في الشعب (2/ 75/1199) والخطيب في الفقيه والمتفقه (2/ 142/766) والهروي في ذم الكلام (ص.124) كلهم من طريق ابن ثوبان عن حسن بن عطية عن أبي منيب عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره. وذكره الهيثمي في المجمع (5/ 267) وفي (6/ 49) فعزاه مرة إلى الطبراني ومرة إلى أحمد وقال: "وفيه عبد الرحمن بن ثابت، وثقه ابن المديني وأبو حاتم وغيرهما، وضعفه أحمد وغيره وبقية رجاله ثقات". قال الذهبي في السير (15/ 509): "إسناده صالح". وعلقه البخاري في صحيحه (6/ 122) قوله: "ويذكر عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «جعل رزقي تحت ظل رمحي .. » الحديث، وأخرج الطرف الأخير منه «من تشبه بقوم فهو منهم»: أبو داود (4/ 314/4031). وقال العراقي في تخريج الإحياء (2/ 676/797): "وسنده صحيح". وقال ابن تيمية في الاقتضاء (1/ 236): "وهذا إسناد جيد". وللحديث شواهد من حديث أبي هريرة وأنس وحذيفة والأوزاعي مرسلا. (¬2) مجلة المجاهد (العدد30/ص.15 - 16).

محمد نسيب الرفاعي (1413 هـ)

محمد نسيب الرفاعي (¬1) (1413 هـ) محمد نسيب بن عبد الرزاق بن محيي الدين الرفاعي: من علماء حلب، ولد سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة وألف، وتعلم بها وتتلمذ لكبار علمائها وعلماء دمشق. عمل مراقبا ومدرسا في الكلية الإسلامية ودار الأيتام الإسلامية بمسقط رأسه، وشارك في مقاومة الفرنسيين فاعتقل وسجن بقلعة راشيا في البقاع الغربي وفي معتقل الميّة والميّة جنوب صيدا، وتعرف في أثناء ذلك على العلامة مصطفى السباعي والأديب عمر أبي النصر فأثرا فيه إذ ترك التصوف والطريقة الرفاعية التي كان يأخذ بها، وأسس بعد الإفراج عنه جمعية الدعوة السلفية للصراط المستقيم. وغادر إلى لبنان عام إحدى وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة الموافق لاثنتين وسبعين وتسعمائة وألف ميلادي؛ داعيا وأخذ ينشر الكتب بالاشتراك، ثم أقام في الأردن حتى وفاته سنة ثلاثة عشر وأربعمائة وألف. موقفه من المبتدعة: له من الآثار السلفية: 1 - 'التفسير الواضح على نهج السلف الصالح'، وهو مخطوط كما أشار إلى ذلك صاحبا إتمام الأعلام. 2 - 'تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير'، وقد نفع الله به كثيرا، إلا أنه يحتاج إلى زيادة تنقيح لأحاديثه. ¬

(¬1) إتمام الأعلام لنزار أباظه ومحمد رياض المالح (ص.273).

3 - 'التوصل إلى حقيقة التوسل'. - قال رحمه الله تعليقا على قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (¬1): قلت: أي إن عليكم أن تعرضوا الإسلام في عقيدته السمحة الهادية المهدية على الناس. وعلى الناس أن يتدبروها ويطلعوا على أدلتها وحججها وبراهينها التي هي في مستوى مفاهيمهم ولا شك. لأن الله تعالى جعل الإسلام من السهولة والسماحة لدرجة: أن الناس في مقدورهم بما وهبهم الله من عقل وفهم أن يتدبروه على اختلاف درجاتهم في ذلك ... اللهم إلا أن يكون مجنونا أو ما يشبه فلا يكون مكلفا. وما سوى ذلك من الإنس والجن فمكلفون أن يفهموا ويتدبروا كما أراد الله وأمر فإن اتخذوه دينا يسره الله لهم وأعانهم على ذلك. ومن ركب رأسه، وتعصب لباطله رغم فهم الأدلة، وأعرض عن الإسلام فإن الله تعالى جزاء طغيانه: يُعمي قلبه، ويختم على سمعه وبصره جزاء وفاقا وذلك كقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} (¬2).اهـ (¬3) - وقال عقب قول ابن كثير: [أي تفهِمون الناس معانيه وتعلمونهم أحكامه وأوامره ونواهيه، لا أن تحفظوا ألفاظه فحسب ... ] قال: قلت: لقد ¬

(¬1) البقرة الآية (256). (¬2) الليل الآيات (5 - 10). (¬3) هامش تيسير العلي القدير (1/ 220).

موقفه من المشركين:

صار حفظ ألفاظ القرآن فقط في زماننا، صنعة عند الذين اتخذوا قراءة القرآن في الحفلات والمآتم، يتعجلون أجره ولا يتأجلونه! وهو لا يتجاوز حناجرهم. وسموا ظلما بالقراء .. !!! وما القراء في مفهوم الشرع، إلا العلماء والفقهاء، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا إليه راجعون. (¬1) موقفه من المشركين: - قال رحمه الله: هؤلاء الملاحدة هم أهل وحدة الوجود التي هي نهاية حقائق علم التصوف وآخر درجات الحقيقة عندهم وهي مرتبة الوصول بأن يعتقد الواصل إليها أنه بلغ الحقيقة ... !!! وهي الاعتقاد بأن الخالق عين المخلوق مهما تعددت الأشكال والذوات. فالكل واحد وهو الله ... !!! فإذا أصبح العبد ربا فمن يعبد ... ؟ أيعبد نفسه ... ؟ وهنا تسقط التكاليف نعوذ بالله من الكفر والخذلان، وسوء المنقلب، ومن همز الشيطان ونفثه؛ فإن من يشرفه الله بالإسلام ويذوق حلاوته، ثم يختار مرارة هذا المنقلب الشركي المخيف فهو أهل لأحط دركات جهنم، وأعظم عذاب أهل السعير. (¬2) - وقال رحمه الله: قلت: إن فكرة العودة إلى الدنيا مرة ثانية مع أنها عقيدة الكافرين الأول ... ما يزال بين المسلمين من يقول بهذه العودة إلى الدنيا ويجعلون هذا لأوليائهم عندما ينادونهم ويستغيثون بهم لتفريج الكرب!! فيعتقدون أنهم يحضرون حالا لنجدتهم في هيآت مختلفة ويدعون أنهم يرونهم ويكلمونهم، فتأمل يا أخي المسلم كم هو أثر إبليس اللعين في نفوسهم إلى ¬

(¬1) هامش تيسير العلي القدير (1/ 286). (¬2) هامش تيسير العلي القدير (2/ 570).

موقفه من الصوفية:

درجة جعلهم يعتقدون بعقيدة الكفار السابقين وهم يظنون أنهم ما يزالون من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ويقولون: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، يقولونها ترادادا من غير فهم بدليل أنهم ينقضونها وهم لا يشعرون، وذلك بدعائهم واستغاثتهم بغير الله في أمور لا يكشفها عنهم إلا الله تعالى، وإن ما يرونه من الخيالات ما هي إلا الشيطان تمثل لهم بمن ينادون ليزيدهم طغيانا وتثبيتا في الشرك؛ نعوذ بالله من الخذلان وسوء المنقلب. اللهم ثبتنا على: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} (¬1).اهـ (¬2) - وله رد على قصيدة البردة سماه: نقد قصيدة البردة لما في بعض أبياتها من البدعة والكفر والردة. موقفه من الصوفية: كان رحمه الله رفاعي الطريقة كما تقدم معنا، لكنه لما علم الحق وتشبع به، ترك التصوف وراءه ظهريا، وهجره إلى غير رجعة، ويكفي الصوفية عارا وخزيا رجوع أئمتهم وروادهم إلى الحق، فارين منهم، وما رأينا عاقلا عالما فارا إليهم. قال رحمه الله: فما يقول أهل الطرق الذين يضربون أنفسهم بالحديد (الشيش) ويزعمون أنهم يتحسون السم ادعاء منهم أن هذه من (الكرامات .. ؟!!) زعموا .. ألا فليتوبوا إلى الله، وإلا فإن الخاتمة السيئة تنتظرهم، ونار جهنم ترتقبهم. (¬3) ¬

(¬1) الفاتحة الآية (5). (¬2) هامش تيسير العلي القدير (3/ 568). (¬3) هامش تيسير العلي القدير (1/ 379).

موقفه من الجهمية:

موقفه من الجهمية: له كتاب 'الباقيات الصالحات في شرح الأسماء والصفات'. - قال رحمه الله: قلت: فما بال الذين يقولون -والعياذ بالله- (إن الله في كل مكان) ولا يخفى ما في هذا الكلام من معاني الحلول والاتحاد والوحدة تعالى الله عن ذلك، وهناك من يقول: (أن الله ليس فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا خلف وليس هو في داخل الكون ولا في خارجه) وهذا كما لا يخفى، وصف للمعدوم والعياذ بالله، والقولان من دسائس اليهود لعنهم الله. (¬1) - وقال عند قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (¬2): قلت: وهذه الآية من جملة الآيات الدالات على أن ذات الله في السماء؛ ولا يلزم من قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} أن يكون الله داخل السماء، تعالى عن ذلك علوا كبيرا. فالله أكبر مِن السموات ومِن كل شيء. وليس معنى الآية أن السماء تحتويه سبحانه وتعالى لأن (في) ليست الظرفية، إنما هي تفيد العلو. أي بمعنى (على) ومثل هذا وارد في القرآن كقوله تعالى على لسان فرعون: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (¬3) أي في أعالي جذوع النخل لا في داخلها. وعقيدة علو ذات الله، هي عقيدة السلف الصالح بخلاف عقيدة ¬

(¬1) هامش تيسير العلي القدير (1/ 422). (¬2) الملك الآية (16). (¬3) طه الآية (71).

موقفه من القدرية:

الخلف التي تقول أن الله في كل مكان خسيسا كان أم نفيسا، أو أن الله ليس فوقا ولا تحتا، ولا يمينا ولا شمالا ولا أماما ولا خلفا ولا هو داخل العالم ولا خارجه. وهذه صفات المعدوم والعياذ بالله تعالى من الكفر والضلال. فما أهدى عقيدة السلف الصالح! كيف لا والسلف الصالح هم محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام والقرون الخيرة التي شهد لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخيرية. فنحن نؤمن يقينا أن ذات الله في السماء أي فوق السماء، وفوق العرش وفوق الكرسي، بلا تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تأويل ولا تعطيل ولا تجسيم. إنها فوقية حقيقية تليق بجلاله وعظمته. وهو مع خلقه جميعا في صفاته العلى أينما كانوا ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك. (¬1) - وقال عند قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (¬2): ويد الله صفة له، معلومة الحقيقة، مجهولة الكيفية، لا هي نعمته ولا قدرته، إنما هي يده صفة له حقيقة لا كالأيدي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (¬3) يد تليق بجلاله وعظمته تعالى وتقدس. (¬4) موقفه من القدرية: قال رحمه الله: لا شك ولا ريب أنه لا راد لإرادة الله تعالى فالذي لا ¬

(¬1) هامش تيسير العلي القدير (4/ 402). (¬2) الفتح الآية (10). (¬3) الشورى الآية (11). (¬4) هامش تيسير العلي القدير (4/ 197).

يريده لا يمكن أن يكون قطعا. والذي يريده لا بد أنه واقع قطعا. ولا تكون حركة ولا سكنة إلا بإرادته، وإلا فيكون هناك مريد يغالب إرادة الله؛ وتنزه الله سبحانه أن يكون في الكون مريد غيره يغالبه. فالذي آمن ما آمن إلا بإرادة الله، والذي كفر ما كفر إلا بإرادة الله، ولكن يجب أن لا يفهم من هذا أن هذه الإرادة مجبرة على فعل الخير أو الشر، بمعنى أنه ليس للعبد أية إرادة فإن فعل خيرا فهو مجبر عليه أو فعل شرا فهو مجبر عليه .. لا وألف لا .. لأن إرادة الله غير أوامره، فإن الله أراد وما أمر، أراد لأنه لا يمكن أن يكون شيء إلا بإرادته، وما أمر لأنه لا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولما كان الله تعالى أمر بأوامر ونهى عن نواهي من أجل أن يطاع فإن أطيع فللمطيع الجنة، وإن عُصي فللعاصي النار. وجعل للمكلف عقلا مميزا للخير من الشر فإن فعل الخير فلأنه مختار بذلك، ولولا اختياره هذا ما استحق عليه الجنة. وإن فعل الشر فلأنه مختار أيضا، ولولا اختياره هذا ما استحق عليه النار. فإن كان مجبرا على فعله ما استحق جنة ولا نارا. فمن أجل أن يستحق المكلف جزاء عمله جعله الله مخيرا فيما كلفه به، وكل ما فعله، خيرا كان أو شرا، هو بإرادته تعالى لأن الله تعالى يقدر على أن يمنع عبده من فعل الشر، كما أنه يقدر أن يمنع عبده من فعل الخير، ولكن لما سبق الوعد بالجنة إن فعل الخير، والوعيد بالنار إن فعل الشر، كان من حكمته تعالى، أن يكون عبده مخيرا لا مجبرا، لأنه إذا كان مخيرا وفعل الخير فهو يستحق الجنة بفعله وعمله واختياره، وإن فعل الشر فهو يستحق النار بعمله واختياره، وإن كان مجبرا على ذلك فأي نعيم أو عذاب يستحق .. ؟ فلكي لا يكون للناس على

حمود بن عبد الله بن حمود التويجري (1413 هـ)

الله الحجة جعلهم مخيرين في عمل الخير والشر، هذا ضمن دائرة التكليف الذي يحصل بوجود العقل والتمييز، لأن على العقل مدار التكليف أما الأمور التي لا يستطيع العقل أن يبدي فيها أو يعيد وخارجة عن نطاق التكليف فالمخلوق مجبر في هذا المضمار وبالله التوفيق. (¬1) حمود بن عبد الله بن حمود التويجري (¬2) (1413 هـ) الشيخ حمود بن عبد الله بن حمود بن عبد الرحمن التويجري من آل جبارة، ولد في مدينة المجمعة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة وألف. طلب العلم منذ صباه، فقرأ مختصرات في التوحيد والحديث والفقه والنحو. ثم لازم حلقة الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، فاستفاد منه وأجازه إجازة مطولة بالرواية عنه كتب الصحاح والمسانيد والسنن وكتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم. وقرأ على الشيخ قاضي مكة سليمان بن حمدان، ثم عين قاضيا ببلدة رحيمة بالمنطقة الشرقية سنة ثمان وستين وثلاثمائة وألف للهجرة، ثم ببلدة الزلفي. وكان رحمه الله يوصف بالتقى والصلاح وحسن العشرة والتواضع، وكان قويا في الحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، مجانبا لأهل البدع والأهواء، ومنكرا عليهم. وممن أخذ عنه عبد الله الرومي وعبد الله بن محمد بن محمود وناصر الضريري وغيرهم. اعتنى بالبحث والتأليف، وبلغت مؤلفاته أكثر من خمسين مؤلفا. ¬

(¬1) هامش تيسير العلي القدير (2/ 159 - 160). (¬2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (2/ 141 - 145) وإتحاف النبلاء (1/ 189 - 197).

موقفه من الجهمية:

توفي رحمه الله في مدينة الرياض سنة ثلاث عشرة وأربعمائة وألف. موقفه من الجهمية: له من الآثار السلفية: 1 - 'الاحتجاج بالأثر على من أنكر المهدي المنتظر'. 2 - 'إثبات علو الله على خلقه'. (¬1) عبد الله بن محمد بن عبد الله الخليفي (¬2) (1414 هـ) الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن الخليفي، ولد في بلدة البكيرية بمنطقة القصيم سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة وألف، وأخذ العلم عن والده والشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ والشيخ عبد العزيز بن سبيل والشيخ محمد بن مقبل وغيرهم. عندما بلغ الخامسة عشر من عمره، أصبح إماما في مسجد في البكيرية، ثم استدعاه الأمير فيصل بن عبد العزيز ليكون إماما خاصا به في مدينة الطائف، ثم أصبح إماما للمسجد الحرام سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة، فمكث فيه قرابة أربعين سنة. وكان رحمه الله يتميز بحسن الصوت، أحبه العامة والخاصة وله أعمال خيرية كثيرة يعرفها الناس. قال الشيخ صالح بن حميد: كان رحمه الله عالما فذا، طيب المعشر، تقيا ورعا، يعامل الناس بالمعاملة الحسنة، بذل الكثير في سبيل الدعوة الإسلامية ¬

(¬1) علماء نجد (2/ 143). (¬2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (4/ 472 - 479) وإتحاف النبلاء (1/ 201 - 215).

موقفه من المبتدعة:

ونشرها من خلال خطبه في المسجد الحرام، وعمله في المجال التربوي بوزارة المعارف. توفي رحمه الله سنة أربع عشرة وأربعمائة وألف، وقد رثاه مجموعة من العلماء والشعراء. موقفه من المبتدعة: له: 'القول المبين في رد بدع المبتدعين'. (¬1) أحمد بن محمد ابن تاويت (¬2) (1414 هـ) أحمد بن محمد بن عمر ابن تاويت الودراسي النجار التطواني، ولد في شهر ذي الحجة عام إحدى وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة، حفظ القرآن والمتون على أبيه. ومن شيوخه: أبو بكر زنيبر، وأحمد العمراوي، وأحمد الكنسوسي، وغيرهم. كان قاضيا لتطوان وأستاذا بمعهدها الديني، ثم مديرا له، وعين أيضا أستاذا بكلية أصول الدين وعميدا بها، ثم أستاذا بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية مدة سنتين باقتراح من الشيخ عبد الله كنون، وله اشتغال جيد بالفقه وأصوله يميل إلى العمل بالدليل. ¬

(¬1) علماء نجد (4/ 474). (¬2) 'إتحاف الإخوان الراغبين بتراجم ثلة من علماء المغرب المعاصرين' لمحمد بن الفاطمي السلمي ابن الحاج (ص.25).

موقفه من المبتدعة:

توفي رحمه الله في التاسع من ربيع الأول عام أربع عشرة وأربعمائة وألف للهجرة. موقفه من المبتدعة: - قال رحمه الله: قبح الله التقليد الأعمى الذي يؤدي بصاحبه إلى أن يقبل عقله تعارض الآي المحكمة أو السنة الصحيحة وقول مقلَّد، ثم يرجح أخيرا قولا معرضا للخطأ على قول المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى - صلى الله عليه وسلم -، بدعوى أن الإمام ما خالف إلا لدليل قام عنده، فيدعون المحقق الموجود لمشكوك محتمل مفقود، وينسون أو يتناسون قول الله تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬1)، وقوله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (¬2) الآية، وهكذا شأنهم في كل ما يجدونه في المذهب مخالفا للكتاب والسنة، مع أن الأئمة رضي الله عنهم تبرؤوا كلهم من هذا كما تقف على تصريحاتهم بذلك إن شاء الله. وقد نقل الإمام أبو الحسن السندي الحنفي 1138هـ في حواشيه على سنن ابن ماجة قولة عبد الله بن عمر المشهورة: (أرأيت إن كان أبي نهى عنها -المتعة في الحج- وصنعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أمر أبي يتبع أم أمر رسول - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال الرجل: بل أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: لقد صنعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -). وقولة ابنه سالم في مسألة استعمال الطيب قبيل الإحرام وقبل الإفاضة: (سنة ¬

(¬1) الحشر الآية (7). (¬2) الأحزاب الآية (21).

رسول الله أحق أن تتبع) فخالف رضي الله عنه رأي أبيه وجده لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم قال السندي رحمه الله ما نصه: وغالب أهل الزمان على خلافاتهم إذا جاءهم حديث يخالف قول إمامهم يقولون: لعل هذا الحديث، قد بلغ الإمام وخالفه بما هو أقوى عنده منه، وقد روى ابن عمر حديث: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» (¬1) فقال له بعض ولده: نحن اليوم نمنعهن، فسبه سبا ما سمع مثله، وهجره إلى أن مات. انتهى كلام السندي ... ومن الدواهي ما قام به بعض المتفقهة في السنين القريبة من إلقائه خطبة الجمعة ببعض زوايا تطوان مؤيدا جواز الصلاة بالزوايا ذات الأضرحة والقبور ولو جمعة؛ بالقرآن والسنة القولية والفعلية، ثم إجماع الصحابة رضي الله عنهم -هكذا قال-، وزعم أيضا -عفا الله عنا وعنه- أن الأحاديث الواردة بالنهي عن الصلاة على القبور ضعيفة، وعلى فرض صحتها وسلامتها فهي محمولة على خوف عبادة الموتى. إلى آخر ما أتى به من هراء وترهات، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)} (¬2). وايم الله إن ضرر هذا الفريق من المسمين بالفقهاء والعلماء على المسلمين لعظيم، وللبلية بهم شديدة؛ لأن العامة يغترون بهم ويظنون أنهم على ¬

(¬1) تقدم ضمن مواقف عبد الله بن عمر سنة (73هـ). (¬2) الكهف الآية (5).

حق فيما سكتوا عنه من البدع والعصيان، فيعتمدون على ذلك فيضلون، ويوم القيامة يحكم الله بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون. (¬1) - قال في ذم التقليد: ولو اتبعنا سنة رسول الله وهديه الذي أمرنا بالاقتداء به، ووصية إمامنا مالك رضي الله عنه ونصيحته الذهبية .. في قولته المشهورة: "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي؛ فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه". وما قاله الإمام؛ مثله للأئمة الثلاثة. قال الشافعي رحمه الله: "إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعوا ما قلت"، وقال أيضا: "أجمع المسلمون -أي علماؤهم- على أن من استبان له سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحل له أن يدعها لقول أحد". ولذا قال هو وأبو حنيفة رضي الله عنه: "إذا صح الحديث فهو مذهبي". وقال الإمام أحمد رضي الله عنه: "من رد حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو على شفا هلكة" -أي هلك-. فالأئمة -كما ترى- كلهم متفقون على وجوب التمسك بالسنة والرجوع إليها، وترك كل قول يخالفها مهما كان القائل عليما؛ فإن شأنه - صلى الله عليه وسلم - أعظم، وسبيله أقوم. فمخالفة الأئمة رضي الله عنهم في بعض آرائهم وأقوالهم لأجل آية محكمة أو سنة صحيحة لا تعد خروجا عن المذهب؛ بل اتباعا لهم وعملا بما نصحوا ووصوا به أتباعهم من لزوم الرجوع إليها، وبذلك يكونون قد خرجوا من عهدة اتباعهم وتقليدهم على الخطأ؛ فجزاهم ¬

(¬1) 'إخراج الخبايا في تحريم البناء على القبور بالزوايا' نقلا عن كتاب حول شخصية المؤلف نشرها مصطفى شعشوع (ص.40 - 42).

موقفه من المشركين:

الله أفضل الجزاء وأوفره على اجتهادهم الواسع الشامل لمسائل الدين وأحكامه، وخدمتهم الصادقة للإسلام ونصيحتهم الخالصة للمسلمين. وقد أوجب ذلك على المسلمين القرآن وصحيح الأخبار، قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} (¬1) الآيات، وقال عز وجل: {وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ} (¬2) إلى أن قال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)} (¬3) الآية. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجد» (¬4) الحديث. اهـ (¬5) موقفه من المشركين: له: كتاب 'إخراج الخبايا في تحريم البناء على القبور بالزوايا' نشرها مصطفى شعشوع ضمن كتاب حول شخصية المؤلف، وقد قرظها محمد كنوني المذكوري -عضو رابطة علماء المغرب ومفتيها- ومن قوله هناك: "ولقد أجاد حفظه الله وأتى بالنصوص المستمدة من الينبوع الصافي السلسبيل ¬

(¬1) النساء الآية (59). (¬2) النور الآية (47). (¬3) النور الآية (51). (¬4) تقدم تخريجه ضمن مواقف عمر بن الخطاب سنة (32هـ). (¬5) 'إخراج الخبايا في تحريم البناء على القبور بالزوايا' نقلا عن كتاب حول شخصية المؤلف نشرها مصطفى شعشوع (ص.54 - 57).

محمد المكي الناصري (1414 هـ)

كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يشفي الغليل ويبرئ العليل، واسمع لو نادى حيا، ولكن لا حياة لمن تنادي". وقد قرر رحمه الله في كتابه هذا وجوب المبادرة لهدم القباب التي على القبور، لأنها أضر من مساجد الضرار، ووجوب إزالة القناديل والسرج التي على القبور، وعدم النذر والوقف لها. وحشد فيه رحمه الله الأحاديث والآثار وأقوال الفقهاء المبينة لحرمة هذا العمل الشنيع، ومن بين أقواله العظيمة في ذلك؛ قوله: .. فلا مرية أنها بدعة يهودية منهي عنها ومحذر منها بنص الحديث الصحيح الشريف، وأصحابها وأنصارها محادون لله والرسول؛ لا سند لهم إلا فعل الأمراء الجهلاء والفقهاء الجبناء، ويا ما أكثرهم اليوم وقبل اليوم. (¬1) محمد المكي الناصري (1414 هـ) هو أبو عبد الله محمد المكي بن اليمني بن سعيد الناصري ولد بالرباط في الرابع عشر من شوال عام أربع وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة. تتلمذ على شيوخ كثير من أشهرهم: أبو شعيب الدكالي والمدني بن الحسني ومحمد السائح والحجوي الثعالبي وشقيقه محمد الناصري، ومن المشارقة: مصطفى عبد الرزاق ومنصور فهمي ويوسف كرم وعبد الوهاب عزام. ¬

(¬1) 'إخراج الخبايا في تحريم البناء على القبور بالزوايا' نقلا عن كتاب حول شخصية المؤلف نشرها مصطفى شعشوع (ص.53).

كانت له جهود في مقاومة المستعمر الفرنسي والإسباني بالمغرب ونفي بسبب ذلك عدة مرات. من آثاره: 1 - 'إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة' وهو في بيان الخرافات والبدع الطرقية الصوفية (¬1). 2 - 'حرب صليبية في مراكش'. 3 - 'فرنسا وسياستها البربرية في المغرب الأقصى'. 4 - 'الأحباس الإسلامية في المملكة المغربية'. 5 - 'التيسير في أحاديث التفسير'. 6 - 'مكانة الاجتهاد في الإسلام'. 7 - 'كيف نجدد رسالة الإسلام'. 8 - 'تاريخ التشريع الإسلامي'. 9 - 'نظام الفتوى في العالم الإسلامي'. وغيرها كثير. عين رئيسا للمجلس العلمي بالرباط وسلا، ووزيرا للأوقاف والشؤون الإسلامية والثقافة، وأمينا عاما لرابطة علماء المغرب، اشتهر بحلقات التفسير بالإذاعة المغربية. توفي في شهر ذي الحجة سنة أربع عشرة وأربعمائة وألف للهجرة. ¬

(¬1) وهو أول ما ألف وقد اجتمع بعض أشياخ الزوايا فردوا عليه في مسودة باسم أحدهم وهو الشرقي وسموها 'غاية الانتصار ونهاية الانكسار' فانتفض أخوه للحق والدين وهو محمد بن اليمني الناصري فرد عليها برسالة 'ضرب نطاق الحصار على أصحاب نهاية الانكسار'.

موقفه من المبتدعة:

موقفه من المبتدعة: - قال عنه شيخه وشقيقه محمد بن اليمني الناصري: "أول من جاهر بين أقرانه في هذا الوسط المغربي -الذي تعود أهله السكون والسكوت والتسليم للرجال على كل حال- بالدعوة إلى العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتطهير العقائد من الخرافات، وذم البدع ومحاربة أهلها من غير أن يخش في الله لومة لائم، أو عذل عذول بحب البدع هائم". (¬1) - قال في مطلع كتابه 'إظهار الحقيقة': أما بعد: فإنه في هذا العصر الزاهر الذي اهتمت الأمم فيه بإحياء ما كان لها من المفاخر والمآثر، قد اتسعت مدارك شبان المسلمين وتفتحت بينهم أزهار العلوم، وانقشع ما غشى أعينهم من كثيف السحب ومتلبد الغيوم، التي طالما حالت بينهم وبين ولوج أبواب العلوم والعرفان، وأوقعتهم في مهاوي الهلاك والخسران، فكثر التباحث والتفاوض بينهم في أسباب الترقي إلى ذروة الكمال، وإرجاع ما كان لهم من العز والعظمة والجلال، إلى أن وقفوا على الغاية المقصودة، والضالة المنشودة، فعلموا أن السبب الوحيد في ذلك، والوسيلة الموصلة إلى بلوغ ما هنالك، هو اتباع الكتاب العزيز واقتفاء المشرع الأعظم، وعدم العدول عما أتى به - صلى الله عليه وسلم -، فسارعوا إلى القيام بهذا الأمر العظيم، وحملوا الناس على اتباع السنة والخروج عما هم فيه من مورد البدع الوخيم، وغدا كل واحد منهم ينشر دعوته بين مواطنيه، ويفيدهم ما عنده في هذا الموضوع من المعلومات، ويبين لهم أحسن الوسائل لمقاومة البدع وأسهل الطرقات، رغبة ¬

(¬1) ضرب نطاق الحصار (ص 19).

في الترقي إلى ذروة المجد والشرف والعروج في معارج الرقي والمكرمات، حتى لم يبق إشكال لدى جل الوطنيين في أن الحق هو ما هم عليه، والصراط المستقيم هو ما يدعون إليه، فاتفقت آراؤهم على ذلك المبدإ الحميد، وسلكوه غير ملتفتين إلى من خالفهم من كل متعصب جامد وجاهل وبليد؛ فلما رأيت ذلك منهم حملتني الغيرة الدينية على أن انخرط في سلكهم وأعينهم (وإن لم أكن أهلا للإعانة) بتقييد موجز مفيد، فشرعت في ذلك، مستعينا بالله تعالى على سلوك تلك المسالك، ملخصا له من بعض مقالات نصراء الإسلام وحماة الدين -إلى أن قال- اعلم أن ما حدث بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ينقسم إلى قسمين: قسم تقتضيه أصول الدين وتتناوله أدلة الشرع الكريم وهذا من الدين قطعا. وقسم لا تقتضيه أصول الدين ولا تتناوله أدلة الشرع وهذا هو المسمى بالبدعة والضلالة وهو المردود على صاحبه لقيام البرهان على منعه من الكتاب والسنة" -ثم ساق الآيات والأحاديث الواردة في ذلك ثم قال: "إلى غير ما ذكر من الأحاديث الواردة في رد البدع على مبتدعيها وذمهم والحط من مقامهم، والأخبار الطافحة بالحض على التمسك بالكتاب والسنة والإجماع، ونبذ ما خالف هذه الأصول من البدع المحدثة في الدين، المنافية للشريعة الإسلامية؛ إذ الخير كله في الاتباع، والشر كله في الابتداع. وخير أمور الدين ما كان سنة ... وشر الأمور المحدثات البدائع اتبع صراط المصطفى في كل ما ... ياتي وخل وساوس الشيطان واعلم بأن الحق ما كانت عليـ ... ــه صحابة المبعوث من عدنان

من أكمل الدين القويم وبين الـ ... ـحجج التي يهدي بها الثقلان واطلب نجاتك إن نفسك والهوى ... بحران في الدركات يلتقيان نار يراها ذو الجهالة جنة ... ويخوض فيها في حميم ءان ويظل فيها مثل صاحب بدعة ... يتخيل الجنات في النيران لا تبتدع فلسوف تصلى النار مذ ... موما ومأخوذا على العصيان تمسك بحبل الله واتبع الهدى ... ولا تك بدعيا لعلك تفلح ولذ بكتاب الله والسنة التي ... أتت عن رسول الله تنجو وتربح ودع عنك آراء الرجال وقولهم ... فقول رسول الله أزكى وأشرح وإذا اقتديت فبالكتاب وسنة الـ ... ـمبعوث بالدين الحنيف الزاهر ثم الصحابة عند عدمك سنة ... فأولاك أهل نهى وأهل بصائر فتابع الصالح ممن سلفا ... وجانب البدعة ممن خلفا فكل خير في اتباع من سلف ... وكل شر في ابتداع من خلف فبالسنة الغراء كن متمسكا ... هي العروة الوثقى التي ليس تفصم تمسك بها مسك البخيل بماله ... وعض عليها بالنواجذ تسلموإياك مما أحدث الناس بعدها ... فمرتع هاتيك الحوادث أوخم

فالاتباع أصل الفضائل كلها، وأس الكمالات بأسرها. والابتداع رأس الفضائح والمصائب، والسبب في اضمحلال الأمم وانحطاطها، وما يصب من اللعنات عليها ويحل بها كل لحظة من القوارع والنوائب. (¬1) - ذكر في كتابه 'إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة' مقدمة حافلة في الحض على اتباع الوحيين الكتاب والسنة والحذر من البدعة والمبتدعة، فساق آيات كثيرة وأحاديث عديدة -مع ما يشوب بعضها من ضعف- وآثار سلفية وأشعار مرضية، وفي سياق بيان أن سبب تخلف الأمة هو الابتعاد عن الأصلين الشريفين قال: فاتباع الأصول الدينية المبرأة من محدثات البدع، هو السبب في نهوض الأمة وارتقائها، وشفائها من أدوائها. والذي نراه من عارض خللها، وهبوطها عن مكانتها، إنما نشأ عن طرح تلك الأصول ونبذها ظهريا، وحدوث بدع ليست من الدين في شيء؛ أقامها دعاة البدع مقام تلك الأصول الثابتة، وأعرضوا عما يرشد إليه الدين، وعما أتى لأجله وأعدته الحكمة الإلهية له. فاستبدلوا بالشريعة مذاهب وتقاليد هم بها عاملون {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)} (¬2) وغرتهم الحياة الدنيا، فطغوا بالميزان، وغرهم بالله الغرور، فانحرفوا عن صراط القرآن، وطلبوا العزة بالكلم الخبيث، دون العمل الصالح والسعي الحثيث، فكانت عزتهم ذلا، ¬

(¬1) إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة (ص.5 - 12). (¬2) المؤمنون الآية (53).

وكثرتهم قلا، ومكروا السيئات؛ فقادوا العلماء والفقهاء بسلاسل سياسة السلاطين والأمراء، وأوهموا الوازرين والخاطئين، بأن سيحمل أثقالهم عنهم نفر من صلحاء الميتين {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)} (¬1) ففسدت بذلك الأعمال والنيات، واتكل الأحياء على شفاعة الأموات، وتبع ذلك تفرق الكلمة بالباطل، وعدم الاجتماع على نصرة الحق، فخلا الجو للأمراء الظالمين، والرؤساء الغارّين، وفسد بذلك على الأمة أمر الدنيا والدين. طغوا في الكتاب ففضلوا الأعمى على البصير، وطغوا في الميزان فاختاروا الظلمات على النور، وأخرجوا الأمة من الظل إلى الحرور، وفقدوا حياة العمل والتعاون فاستمدوا المعونة من أصحاب القبور. (¬2) - وقال رحمه الله: لا بد أن نقف وقفة ولو قصيرة عند قوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)} (¬3). ذلك أن كثيراً من الناس عندما تسبق إلى نفوسهم فكرة من الأفكار يتعصبون لها، ويجمدون عليها، ويعتقدونها اعتقاداً أعمى، فإذا أُلقي إليهم بفكرة جديدة ¬

(¬1) العنكبوت الآيتان (12و13). (¬2) إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة (ص.15 - 17). (¬3) البقرة الآية (16).

قالوا: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ}. كما أن كثيراً من الناس عندما يتورطون في نوع مرذول من أنواع السلوك، ويألفون جوّه العفن، يصبحون أكثر الناس حذراً ومخافة من كل فكرة صالحة تلقي الأضواء على ما هم عليه من انحراف وشذوذ، باعتبار أن الفكرة الجديدة قد تكشف معايبهم، وتفضح أسرارهم، وتخرجهم عن مألوفاتهم التي أصبحوا أسراء لها، وتجعلهم حقراء مرذولين أمام أنفسهم أولاً، وأمام الناس أخيراً، وهكذا لا يكتفي الفاسقون بإقفال أسماعهم عن سماع أية فكرة صالحة؛ بل يتصدون لها بالمقاومة والمحاربة سراً وعلناً، وبذلك يزدادون فسقاً على فسق، وانحرافاً فوق انحراف، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} فقد أثبتت لهم هذه الآية صفة الفسوق أولاً وسابقاً، وبتأثير هذه الصفة الملازمة لهم والمسيطرة عليهم زادوا عتواً وضلالاً، إذ الجريمة تدفع إلى أختها، والسيئة تعين على مثلها، على حد قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} (¬1) وذلك بعكس (المتّقين) الذين لازمتهم صفة التقوى، فانفعالهم من تلقاء أنفسهم يكون مزيداً من الهداية، ومزيداً من الرشد ... وأما فساد الفاسقين وإفسادهم في الأرض، فيتجلّى في سعيهم إلى تحطيم جميع المقدسات، وفي استهانتهم الظاهرة والباطنة بجميع القيم، وفي ¬

(¬1) البقرة الآية (10).

اعتدائهم المتوالي على حقوق الأفراد والجماعات، وفي إجبارهم للغير على الرضى بالفساد والعيش في ظله، ويتجلّى بالأخص في محاربتهم لأوامر الله وانتهاكهم لحرماته، والعمل بالخصوص على إقصاء تعاليمه وطردها من جميع مجالات العيش ومواكب الحياة. وهذه الصفات الثلاث التي وصف الله بها (الفاسقين)؛ من خيانة للعهد، وقسوة في القلب، وإفساد في الأرض، كانت ولا تزال هي شعار الفاسقين لا تتخلف واحدة منها عن الأخرى في أي عصر ولا في أي جيل. (¬1) - وقال: والحل القرآني والعملي لكل تنازع يطرأ بين المسلمين كما نص عليه كتاب الله؛ هو الرجوع إلى الله ورسوله، والنظر فيما أوجب التنازع بينهم، على ضوء ما في كتاب الله وسنة رسوله، واستخراج الحل الإسلامي الملائم من تعاليمهما وتوجيهاتهما، ومن القياس على نصوص الدين وسوابقه في عهد الرسالة وعهد الخلافة الراشدة، وبذلك يهتدي المسلمون إلى حل واحد يرضاه الجميع، ويلتزم طاعته الجميع، وما دام المرجع فيه هو الله ورسوله فلا غالب ولا مغلوب، ولا منتصر ولا منهزم، وإنما تكون كلمة الله وحدها هي العليا {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (¬2) وهذا هو معنى قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ ¬

(¬1) التيسير في أحاديث التفسير (1/ 31 - 34). (¬2) النساء الآية (65).

موقفه من المشركين

فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} (¬1) على غرار قوله تعالى في آية أخرى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (¬2). ثم جاء التعقيب على هذا الإرشاد الإلهي بأنه هو خير وسيلة وأحسن طريقة لفض النزاع بين المسلمين إذا طرأ عليهم ما يدفع إليه، وأنه أحسن عاقبة ومآلاً، وفي ذلك إيماء إلى أن أيّة وسيلة أخرى قد يقع عليها الاختيار خارج هذا الإطار، لا تكون ناجعة ولا نافعة ولا حاسمة للنزاع، وإلى هذا يشير قوله تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} (¬3).اهـ (¬4) موقفه من المشركين - قال في سياق ذكر بعض البدع الشركية: ذكر شيء مما فشا في الإسلام من البدع وإيضاح بعض ما نشأ عنها: نظرا لغفلة علماء الدين وتهاونهم في الهدى والإرشاد، وميل الجهلة الطغام إلى كل مبتدع غريب؛ ولو أداهم إلى مشاركة المشركين فيه لصعوبة التكاليف الشرعية عليهم، وضعوا أوضاعا تشابه أعمال المشركين في الصورة أو في الحكم، وقاموا بها لسهولتها عليهم حيث لم يدخلوا بسببها تحت أمر غيرهم حتى أوشكت حالتهم أن تصير شبيهة بحالة المشركين، وعاد بينهم ¬

(¬1) النساء الآية (59). (¬2) الشورى الآية (10). (¬3) النساء الآية (59). (¬4) التيسير في أحاديث التفسير (1/ 348 - 349).

الدين غريبا كما بدأ واختلفوا في ذلك اختلافا كثيرا حسب اجتهاد كل واحد منهم، ووفور ذكائه، وقوة فكره، وحدة ذهنه. فمنهم الذين اتخذوا القبور حرمات ومعابد، فبنوا عليها المساجد والمشاهد، وزخرفوها بما يجاوز حد السرف بمراتب، واصطلحوا فيها على بناء النواويس، واتخاذ الدرابيز والكسا المذهبة، وتعليق الستور والأثاث النفيسة، وتزويق الحيطان وتنميقها، وإيقاد السرج فوق تلك القبور ككنائس النصارى، وسوق الذبائح إليها، وإراقة الدماء على جدرانها، والتمسح بها، وحمل ترابها تبركا، والسجود لها، وتقبيلها، واستلام أركانها، والطواف حولها، والنذر لأهلها، وتعليق الآمال بهم، والتوسل إليهم بالله ليقضوا لسائليهم الحوائج -كما يزعمون- فيقولون عند زيارتهم: (قدمت لك وجه الله يا سيدي فلان إلا ما قضيت لي حاجتي) جاعلين الحق سبحانه وتعالى وسيلة تقدم إلى أولئك المقبورين للتوصل إلى نيل أغراضهم؛ مع أن الميت قد انقطع عمله، ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فكيف لمن استغاث به، أو سأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها؛ فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، واستعانة ذلك الميت وسؤاله لم يجعلهما سبحانه سببا لإذنه، وإنما السبب في إذنه كمال التوحيد، فجاء هذا بسبب يمنع الإذن، وهو بمنزلة من استعان في حاجته بما يمنع حصولها، على أن الميت محتاج إلى من يدعو له ويترحم عليه ويستغفر له، كما أوصانا النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم ونسأل لهم العافية والمغفرة، فعكس أولئك القبوريون هذا، وزاروهم زيارة العبادة لقضاء الحوائج والاستعانة بهم، وجعلوا قبورهم قريبة

من أن تصير أوثانا تعبد، وقد شاع هذا بين المسلمين وذاع وعم كل ما يستوطنون به من البقاع. (¬1) - وقال: إن اليهودية والنصرانية التي تنتمي كل واحدة منهما زوراً وبهتاناً إلى إبراهيم الخليل وملته الحنيفية؛ قد انقطعت علاقتهما مع ملة إبراهيم انقطاعاً تاماً منذ دخلهما التحريف والتأويل، والتغيير والتبديل، وإن وثنية الجاهلية التي يدين بها المشركون العرب هي نقيض الحنيفية السمحة، بحيث لا يمكن أن يلتقيا في أي خط من الخطوط، ومهما ادعت اليهودية أو النصرانية أو الوثنية من قرابة مع ملة إبراهيم، ومن اقتباس من عقائدها أو شعائرها؛ فإنما تدعي زوراً وتقول بهتاناً. وعلى فرض أنها لم تزل تتناقل بعض العقائد أو بعض الشعائر عن ملة إبراهيم؛ فإن ذلك لا ينفي أنها قد غيّرت حقيقة الملة الحنيفية، وشوّهت معالمها، وأدخلت عليها من العناصر الغريبة والدخيلة ما جعلها مناقضة للأصل كل المناقضة، جوهراً ومظهراً. (¬2) - وقال عند قوله تعالى: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} (¬3): وفي هذه الخاتمة يستنكر كتاب الله من جديد موقف المشركين الذي يتخذون من عباده أولياء، يوالونهم ويعبدونهم من دون الله، فيجعلونهم محل الخوف والرجاء، ويعتقدون أن بِيَدِهم المنع والعطاء، ناسين أن ¬

(¬1) إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة (ص.19 - 20). (¬2) التيسير في أحاديث التفسير (1/ 83). (¬3) الكهف الآية (102).

موقفه من الصوفية

العابد والمعبود في هذه الحالة سيّان، إذ في العجز والضعف والافتقار إلى الله خالق الخلق ورازقهم، لا يفترق إنسان عن إنسان، وإقبال العاجز الفقير على عبادة عاجز فقير مثله نوع من خَوَر الرأي، وضرب من العبودية والهوان. (¬1) موقفه من الصوفية - قال في عد بعض البدع الفاشية: ومنهم جماعات اتخذوا دين الله لهوا ولعبا، فجعلوا منه القيام والرقص حالة الذكر الجهري، ظانين أن ما يفعلونه من الرقص حالة الذكر عبادة، مع أن من ظن ذلك تجب عليه التوبة؛ فإن ناظر على ذلك وقال إنه عبادة يتقرب بها إلى الله تعالى يخالف الإجماع؛ فيكون عاصيا آثما، إن لم يكن كافرا بناء على القول بتكفير مخالف الإجماع. وكيف يعتقد من أودع الله فيه نور العقل أن الشطح وما شابهه مما يعبد الله به، مع تيقنه أن ذلك مجرد لهو ولعب؟ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍ متى علم الناس في ديننا ... وأن يأكل المر أكل الحما ... وقالوا سكرنا بحب الإلـ ... كذلك البهائم إن أشبعت ... فيا للعقول ويا للنهى ... تهان مساجدنا بالسما ... بأن الغنا سنة تتبع ر ويرقص في الجمع حتى يقع ـه وما أسكر القوم إلا القصع يُرقصها ريها والشبع ألا منكر منكم للبدع ... ع وتكرم عن مثل ذاك البيع ¬

(¬1) التيسير في أحاديث التفسير (4/ 20).

ومما يزيد الطين بلة، والطنبور نغمة، أنهم يخلون ذكر الله وقتئذ بإنشاد مدائح أهون ما فيها الإطراء الذي نهانا عنه سيد المتواضعين حتى لنفسه الشريفة فقال: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى، ولكن قولوا عبد الله ورسوله» (¬1). ولا تسأل عن تغاليهم في الاستغاثة بشيوخهم والاستمداد منهم بصيغ لو سمعها مشركو قريش لنسبوهم إلى الكفر والزندقة والمروق من الدين؛ لأن أبلغ صيغة تلبية كانت لمشركي قريش هي قولهم (لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك). وهي كما ترى أخف شركا من المقامات الشيوخية التي يهدرون بها إنشادا بأصوات عالية مجتمعة وقلوب محترقة خاشعة. ومنهم أقوام كثيرون اصطلحوا على جعل يوم من السنة مخصوصا بفضيلة أكل اللحوم النيئة، والطواف في الأسواق، ودق الطبول والنفخ في الأبواق، وتلطيخ الثياب بالدماء المسفوحة طول يومهم الذي يكونون فيه قرناء الشيطان، مع أكل الزجاج والشوك والحيات والعقارب وشرب القطران. ويزيدهم قبحا وبشاعة وتمكنا في الهمجية ما يتمثلون به من الحيوانات البهيمية، ويتشبهون به من الوحوش الضارية، فيشخصون للإنسان كل ما امتازت به تلك الحيوانات بغاية البراعة والإتقان، ويستميلون نفوس الراءين ويسترعون أسماعهم بما يحسنون به تلك الأدوار من أنواع المهايتات والصياح، ويجوزون الشوارع الواسعة، ذات الأطراف الشاسعة على هذه ¬

(¬1) أحمد (1/ 47و55) والبخاري (6/ 591/3445) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

الحالة البشيعة المنظر، مختلطين بالنساء، حاملين الرايات الشيطانية جاعلين أبناء شيوخهم وسطهم راكبين على عتاق الخيل، لابسين أحسن ما عندهم من الثياب، محفوفين بالعز والتأييد والمهابة والإقبال منظورين بعين التعظيم والإجلال؛ وذلك ليستمطروا بهم سحائب فضلات الجهال، من النساء والرجال، الذين يأتون من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم -حسب زعمهم- في ذلك اليوم المشهود عند الشياطين، المحبوب عند أعداء الأمة والدين، ولينالوا بركة أولئك الأوباش الطغام الذين ينزل عليهم من الإعانات الشيطانية، والإمدادات الجارية طبق الأهواء النفسانية ما لا يحصى بِعَدّ، ولا يقف عند حد. ومثل هؤلاء الرعاع: قوم آخرون؛ أبشع منهم منظرا وأقبح حالة، يطوفون بالأسواق ويضربون الطبول، وينفخون في الأبواق مثل سابقيهم، إلا أن هؤلاء يشدخون رءوسهم أثناء تطوفهم، ويضربونها ويسيلون دماءها بالأسلحة والفئوس والقلال، وغيرها من أنواع الآلات المحددة التي لا أقدر على وصفها مما يتخذونه قصدا للقيام بهذا الأمر الفظيع. ويستعينون على كل ما ذكر بشرب المسكرات، واستعمال المرقدات والمخدرات، وهم سواء مع من ذكرناهم سابقا وقدمنا وصفهم في هذا الفعل القبيح والعمل السمج؛ ولكن مع هذا كله؛ فقد حصلوا على مراكز عظمى في القلوب، واستعمروا متسعات كبيرة كانت فارغة في النفوس؛ لما لهم من القدرة على تملك المشاعر، والسيطرة على الإحساس والوجدان، بأساليب الخداع التي يستعملونها وطرق التدليس التي يسلكونها، حتى إنهم سموا

أفعالهم تلك بالحضرة موهمين بذلك أنهم وقتئذ يكونون في حضرة الله تعالى، وحاشا لله، فماهم إلا في حضرة الشيطان لعنه الله، محى الله مددهم وعددهم. وليس العجب من انتشار ذلك بين العامة الذين هم كالأنعام، في كل الأمم والأقوام، بل العجب دخوله على كثير ممن يدعون أنهم من الخواص والعلماء، وانتصارهم لأهله، كأنه من غريز الكمالات في الدين الإسلامي؛ حتى أصاب جسم الأمة الإسلامية بسبب ذلك أمراض فعالة، وسرت في عروقها سموم قتالة: أولها: احتجاب نور الشريعة عن أنظار العالم الإسلامي وراء ستر تقليد من لا علاقة له بالدين. ثانيها: شيوع البدع والأحداث ونزولها منزلة أمهات المسائل الدينية. ثالثها: استكانة النفوس لتلك البدع والركوع أمامها من العلماء جهلا أو تجاهلا، أو تأولا أو تقولا، ومن العامة تقليدا لهم. رابعها: قعود أهل الإيمان والنظر الصحيح عن بيان حقيقة الدين الإسلامي خوفا من علماء السوء -وهم كثيرون- أن يثيروا العامة عليهم كما اتفق ذلك لكثير من أهل العلم الصحيح المتقدمين، وبعض العلماء الموجودين. خامسها: وقوع المسلمين في الحيرة إذا توجه عليهم اعتراض في أمر وقامت عليهم حجة العقل في قبحه ظنا منهم أن ما هم عليه هو الدين.

وهذه الأمراض والأعراض كافية؛ لأن تفقد الدين حياته الأدبية -لا قدر الله-، ولولا أن أصول الدين محفوظة من التغيير والتبديل لم تصل إليها يد عابث لما بلغنا شيء من حقائق الدين، ولاندثر كما اندثر غيره من الأديان التي نالت أصولها أيد المتلاعبين -والأمر لله ما شاء فعل. (¬1) - وقال عن الآثار السيئة للتصوف المنتشر في بلاد المغرب وشؤمه على البلاد والعباد: ... إن كل ما أصابنا من أنواع الانحطاط والجمود والفشل والافتراق، والتنازع والتباغض، والتحاسد والشقاق؛ إنما هو من نتائج بدع المتصوفة المبطلين التي اتبعناهم فيها، واعتكفنا معهم على إقامتها، وسرت في نفوسنا سريان الدم في العروق، فلا شك أن النفس الحية الثائرة على الأكاذيب والأباطيل تشمئز من ذلك، وتسعى بجد واجتهاد في مقاومته، وتستعمل جميع الوسائل لحسم مادته وإزالته ... (¬2) - وقال رحمه الله في معرض حديثه عن قصة موسى والخضر: ومن المفيد في هذا المقام القضاء على بعض الشبه والأوهام، ذلك أن الاعتراضات التي اعترض بها موسى على تصرفات صاحبه إنما لم يكن لها قبول؛ لأن تصرفات صاحبه صدرت على مقتضى ما أُوحي إليه من عند الله، ولم تصدر منه عن رأيه الخاص ومحض هواه، ولذلك لم يُعدّ عمله خروجاً على شريعة موسى عليه السلام، وأقرّه موسى في النهاية على تأويله وفارقه بسلام، اقتناعاً منه بقوله دفاعاً عن نفسه: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ ¬

(¬1) إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة (ص.22 - 26). (¬2) إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة (ص.41).

تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)} (¬1). لكن في حالة ما إذا أكمل الله دينه، وانقطع الوحي الإلهي بالمرة، وختمت الرسالة إلى الأبد، كما هو الحال بالنسبة للرسالة المحمدية التي هي خاتمة الرسالات، إذ لا نبي بعد نبينا ولا رسول؛ فإنه لا يقبل من أحد من المسلمين مهما كانت درجته في العلم والصلاح والولاية أيّ قول أو فعل مخالف لنصوص الوحي الثابتة في كتاب الله وسنة رسوله، فنصوص الشريعة حاكمة على ما سواها، ومهيمنة على ما عداها، وكل ما يصدر عن الناس من الأقوال والأفعال لا بد أن يوزن بميزانها، فما وافقها كان مقبولاً، وما خالفها كان مرفوضاً، ومن هنا كان كل ما يَخْرِم قاعدة شرعية أو حكماً شرعياً ليس بحق في نفسه؛ بل هو إما خيال أو وهم، وإما من إلقاء الشيطان، حسبما نص عليه الشاطبي في 'الموافقات'، قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (¬2).اهـ (¬3) ¬

(¬1) الكهف الآية (82). (¬2) النساء الآية (65). (¬3) التيسير في أحاديث التفسير (4/ 10 - 11).

عبد الرزاق عفيفي (1415 هـ)

عبد الرزاق عفيفي (¬1) (1415 هـ) الشيخ الإمام عبد الرزاق بن عفيفي بن عطية العفيفي النوبي الأصل. ولد في شهر رجب من عام ثلاث وعشرين وثلاثمائة وألف من الهجرة في مدينة ششور من البلاد المصرية. طلب العلم منذ الصغر فدرس في الأزهر الشريف، ثم تولى رئاسة جماعة أنصار السنة المحمدية بمصر، ثم رئيسا عاما لها. وفي عام ثمان وستين وثلاثمائة وألف للهجرة، سافر الشيخ إلى المملكة العربية السعودية حاجا، فاستقر بها، شاغلا مناصب عدة في التعليم وغيره. تتلمذ عليه الشيخ محمد بن العثيمين والشيخ عبد العزيز آل الشيخ وإبراهيم آل الشيخ والشيخ عبد الله بن جبرين والشيخ صالح البسام وغيرهم. قال فيه الشيخ عبد العزيز ابن عبد الله آل الشيخ: الشيخ أحد الأعلام الفضلاء الذين هيأ الله لهم فرصة تربية الأجيال، وهو أحد العلماء الذين عرفوا بالجد والاجتهاد والإخلاص في أداء الواجب، وهو ذو علم واسع. وقال الشيخ صالح الفوزان: إن شيخنا الشيخ عبد الرزاق عفيفي -يرحمه الله- شخصية علمية فذة، فهو شيخ المدرسين، وقدوة العلماء السلفيين في هذا الوقت، له الفضل -بعد الله- على كل متعلمي هذا الجيل ممن تخرجوا في الدراسات الشرعية في التفسير والحديث والعقيدة والأصول. وقال الشيخ ناصر الدين الألباني: إنه من أفاضل العلماء، ومن القلائل الذين نرى منهم سمت أهل العلم وأدبهم ولطفهم وأناتهم وفقههم. ¬

(¬1) علماء نجد خلال ثمانية قرون (3/ 275) والإتحاف (2/ 11) ومجلة التوحيد (العدد الخامس جمادى الأولى 1415هـ/ص.24 - 46).

موقفه من المبتدعة:

توفي رحمه الله سنة خمس عشرة وأربعمائة وألف، وصلي عليه في جامع الإمام تركي، وكانت جنازته مشهودة، ودفن في مقبرة العود في الرياض. موقفه من المبتدعة: بعد أن تحدث رحمه الله عن أعداء الإسلام والأساليب التي يستعملونها لبث أفكارهم وشبههم -وذكر بعضها-. قال: وغيرها من الشبه التي زانوها واستولوا بها على عقول البسطاء، وأحيانا ينتحلون أحاديث ينسبونها زورا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويلقونها على مسامع الأغرار وأهل الغفلة والجهل بفن الحديث من الذين لا يستطيعون التمييز بين صحيحه ومكذوبه، بل يصغون لكل ما نسب إليه - صلى الله عليه وسلم -؛ لحسن ظنهم بالرواة، وظنهم أنه لا يجرؤ أحد على الكذب على المشرع، ولكن يأبى الله تعالى إلا أن ينصر دينه وينجز وعده، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} (¬1)، ويأبى الحق إلا أن يصرع الباطل على يد النقاد من رجال الحديث وعلماء الرواية؛ بكلاءة هذا الفن وحفظه بتدوينه وتمييز الأصيل من الدخيل، والكشف عن أحوال الرجال جرحا وتعديلا يقظة وغفلة؛ إلا أن بعض رجال العلم من بعد أهملوا هذا الميراث الثمين، ولم يسلكوا سبل سلفهم في رد الفروع إلى الأصول، ولم يسيروا على ضوء مباحث الأولين في رد الشبه والأحاديث المفتراة؛ فغمرهم ظلام الإفك، وطغى عليهم التلبيس فتخبطوا في كثير من مباحثهم، وأكثروا من ¬

(¬1) الحجر الآية (9).

الاحتمالات التي لا داعي لها ولا حاجة إليها، فضعفت كلمتهم أمام المحرفين والمشبهين الملحدين. وإن ما ترزح تحته الأمم الإسلامية اليوم؛ من تفرق في الكلمة، وانحراف في الرأي، وضعف في الدفاع، وتأخر إلى الوراء حين يتقدم غيرهم؛ ليس كل ذلك إلا نتيجة غفلتهم عن تراث السلف الصالح وسلوكهم لغير خطتهم علما وعملا. ولقد راجت شبه الملحدين من جديد رواجا مخيفا جمد إزاءه المسلمون، ولو أنهم رجعوا إلى أقوال سلفهم الصالح وسلكوا طريقهم، لردوا كيد الكائدين إلى نحورهم؛ فإنه ما من شبهة تذاع اليوم إلا وقد سبق إليها شياطين الملحدين السابقين في العصور الأولى، ووقفها وردها وأبطلها أجلة علماء السلف ببراعة فائقة؛ فلا سبيل أرشد من سبيلهم، ولا هدي أقوم مما كانوا عليه؛ فالخير كل الخير في العودة إلى كتاب الله تعالى تلاوة له وتفقها فيه، وإلى أحاديث المصطفى صاحب جوامع الكلم - صلى الله عليه وسلم - دراية ورواية، والفتيا بهذين الأصلين وعرض أعمال الناس عليهما؛ فهذا هو الفلاح والرشاد الذي ليس بعده رشاد. (¬1) - ومن مقالاته رحمه الله: من أسباب الانحراف والصدود عن الحق: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد: فللصدود عن الحق أسباب عديدة وموانع كثيرة؛ منها: الغرور الفكري والتقليد عن غير بينة وبصيرة، وتحكم العادات السيئة في النفوس، والأنفة والاستكبار، ¬

(¬1) إتحاف النبلاء (2/ 198 - 199).

والحسد الممقوت، وطاغوت الافتتان بالمركز والجاه وكثرة المال، وما إلى ذلك، وكلها أمراض أخلاقية وبيلة، وأدواء مستعصية فتاكة، والحديث عنها يطول؛ فليكن حديثي في هذه الحلقة عن الغرور الفكري. الغرور الفكري هو إعجاب الإنسان بعقله، وافتتانه برأيه، وإنزاله فوق منزلته، وإعطاؤه من القداسة ما ليس بأهل له حتى يتدخل فيما لا يعنيه، وما ليس في وسعه وحدود طاقته؛ فيعارض العبد ربه في خلقه وتشريعه، فضلا عن معارضته لنظرائه ومن هو أوسع منه فكرا وأكثر تجربة من العلماء. لقد وجد الشيطان منفذا لوسوسته في اغترار قوم بعقولهم وعلومهم؛ فاستهواهم، وزين لهم أن يخوضوا فيما ليس من شأنهم، وأن يهجموا على بحث ما ليس في وسعهم بحثه. (¬1) - وقال رحمه الله: الحكم فيمن رد السنة جملة -أي كلها- فهو كافر، فمن لم يقبل منها إلا ما كان في القرآن فهو كافر، لأنه معارض للقرآن، مناقض لآيات القرآن: والله تعالى يقول: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} (¬2)، ويقول تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬3) ويقول تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ ¬

(¬1) إتحاف النبلاء (2/ 187 - 188). (¬2) آل عمران الآية (32). (¬3) الحشر الآية (7).

فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)} (¬1). وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} (¬2) ويقول تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (¬3)، فقوله: {فاتبعوني} هذا عام، فحد المفعول طريق من طرق إفادة العموم، {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}، وما من صيغ العموم، وقوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ} أي: تنازع الرعية، وأولو الأمر من العلماء والحكام {فِي شَيْءٍ} فردوه إلى الله والرسول، فلم يجعله إلى الله وحده، بل جعله إلى الله وإلى الرسول، ورده إلى الله رده إلى كتاب الله، ورده إلى الرسول بعد وفاته رده إلى سنته عليه الصلاة والسلام، فدعواه أنه يعمل بالقرآن عقيدة وعملا ويرد السنة جملة -هذه الطائفة التي تسمي نفسها (القرآنية) - دعوة باطلة، وهو مناقض لنفسه لأنه كذب آيات القرآن التي فيها الأمر باتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأخذ ما جاء به، وطاعته فيما جاء به من عند ¬

(¬1) المائدة الآية (92). (¬2) النساء الآية (59). (¬3) آل عمران الآية (31) ..

الله عموما دون أن يخص آيات القرآن، ثم هو في الوقت نفسه كيف يصلي؟ وكيف يحدد أوقات الصلوات؟ وكيف يصوم؟، وعن أي شيء يصوم؟ وتفاصيل الصيام كيف يعرفها؟ وكيف يحج بيت الله الحرام؟ فليس هناك إلا أركان محدودة من الحج في سورة البقرة، وكذلك أين أنصبة الزكاة؟ وكيف يزكي؟ كل هذه التفاصيل موجودة في السنة وليست في القرآن. فمن يدعي أنه يأخذ بالقرآن ولا يأخذ بالسنة فإنه مغالط ومناقض لنفسه، ومناقض للقرآن، لأنه رد آياته الكثيرة التي ورد فيها الأمر بطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام والأخذ بما جاء به، ومناقض لإجماع المسلمين ولإجماع الصحابة رضوان الله عليهم، فإنهم جميعا لم يشذ واحد منهم عن الأخذ بالسنة، فإذا هو كافر بالقرآن وإن ادعى أنه مؤمن به، والكافر بآية منه كالكافر بكل آياته، كافر بالإجماع منكر له أي إجماع الصحابة رضوان الله عليهم، فما فيهم واحد شذ عن السنة وأنكرها جملة، وإذا أنكر أحدهم شيئا فإنما ينكر حديثا من جهة الراوي لا من جهة أنه كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، أي: السنة. وهذا أيضا لا يقوى على أن يقوم بالصلوات الخمس على وجهها المعلوم من الدين بالضرورة، فصلاة العصر أربع ركعات، وصلاة الصبح ركعتان لا يجد هذا في كتاب الله فمن أين جاء هذا؟ ما جاء إلا من تعليم جبريل للرسول عليه الصلاة والسلام، وتعليم الرسول عليه الصلاة والسلام لأصحابه، فمن أين يأتي بهذا؟ فهذا مجمل الرد عليه، وإثبات أنه كافر بالقرآن، كافر بالإجماع اليقيني، كافر بالمعلوم من الدين بالضرورة، من مثل

موقفه من المشركين:

أن ركعات الظهر أربع، والعصر أربع، والعشاء أربع، والمغرب ثلاث، والصبح ركعتان، وكافر أيضا بتفاصيل الصيام لأنها ليست في القرآن، وهي معلومة من الدين بالضرورة، فلذلك كان كافرا. (¬1) - وقال رحمه الله في جماعة التبليغ: الواقع أنهم مبتدعة ومحرفون وأصحاب طرق قادرية وغيرهم، وخروجهم ليس في سبيل الله، ولكنه في سبيل إلياس، هم لا يدعون إلى الكتاب والسنة، ولكن يدعون إلى إلياس شيخهم في بنجلادش، أما الخروج بقصد الدعوة إلى الإسلام فهو جهاد في سبيل الله، وليس هذا هو خروج جماعة التبليغ، وأنا أعرف جماعة التبليغ من زمان قديم، وهم المبتدعة في أي مكان كانوا. هم في مصر، وإسرائيل (¬2)، وأمريكا، والسعودية، كلهم مرتبطون بشيخهم إلياس. (¬3) موقفه من المشركين: - قال رحمه الله: وتطرف البراهمة، فأحالوا أن يصطفي الله نبيا ويبعث من عباده رسولا، وزعموا أن إرسالهم عبث، إما لعدم الحاجة إليهم اعتمادا على العقل في التمييز بين المصالح والمفاسد، واكتفاء بما يدركه مما يحتاج إليه العباد في المعاش والمعاد، وإما لاستغناء الله عن عباده، وعدم حاجته إلى أعمالهم، خيرا كانت أو شرا، إذ هو سبحانه لا ينتفع بطاعتهم، ولا يتضرر بمعصيتهم. ¬

(¬1) فتاوى ورسائل (303 - 305). (¬2) هذه التسمية الأولى أن لا تطلق على دولة يهود فإن في ذلك تزكية لهم وانظر في ذلك معجم المناهي اللفظية للشيخ بكر بن عبد الله أبي زيد (93). (¬3) فتاوى ورسائل (372 - 373)

موقفه من الرافضة:

وقد سبق بيان عدم كفاية العقل في إدراك المصالح والمفاسد، وحاجة العالم إلى رسالة تحقيقا لمصالحهم، مع غنى الله عن الخلق وأعمالهم، فليس إرسالهم عبثا، بل هو مقتضى الحكمة والعدالة. (¬1) موقفه من الرافضة: - قال رحمه الله: يرى أهل السنة أن حب الصحابة دين وإيمان وإحسان لكونه امتثالا للنصوص الواردة في فضلهم، وأن بغضهم نفاق وضلال لكونه معارضا لذلك، ومع ذلك فهم لا يتجاوزون الحد في حبهم أو في حب أحد منهم لقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (¬2) ولا يخطئون أحدا منهم، ولا يتبرءون منه، ولهذا ورد عن جماعة من السلف كأبي سعيد الخدري والحسن البصري وإبراهيم النخعي، أنهم قالوا: الشهادة بدعة، والبراءة بدعة، ومعنى ذلك أن الشهادة على مسلم معين أنه كافر أو من أهل النار، بدون دليل يرشد إلى الحكم عليه بذلك بدعة، وأن البراءة من بعض الصحابة بدعة. (¬3) - وقال رحمه الله: والمراد بالشيعة هنا: كل من شايع علي بن أبي طالب خاصة، وقال بالنص على إمامته، وقصر الإمامة على آل البيت. وقال بعصمة الأئمة من الكبائر، والصغائر، والخطأ، وقال: لا ولاء لعلي إلا بالبراء من غيره من الخلفاء الذين في عصره قولا وفعلا، وعقيدة، إلا في ¬

(¬1) فتاوى ورسائل (180). (¬2) المائدة الآية (77). (¬3) فتاوى ورسائل عبد الرزاق عفيفي (321 - 322).

موقفه من الجهمية:

حال التقية. وقد يثبت بعض الزيدية الولاء دون البراء. فهذه أصول الشيعة التي يشترك فيها جميع فرقهم، وإن اختلفت كل فرقة عن الأخرى في بعض المسائل، فمن قال ممن ينتسب إلى الإسلام بهذه الأصول فهو شيعي. وإن خالفهم فيما سواها ومن قال بشيء منها، ففيه من التشيع بحسبه. (¬1) موقفه من الجهمية: - قال رحمه الله: إرسال الله للرسل مما يدخل في عموم قدرته، وتقتضيه حكمته فضلا من الله ورحمة، والله عليم حكيم، وهذا هو القول الوسط والمذهب الحق. وقد أفرط المعتزلة فقالوا: إن بعثة الرسل واجبة على الله إبانة للحق، وإقامة للعدل ورعاية للأصلح، وهذا مبني على ما ذهبوا إليه من القول بالتحسين والتقبيح العقليين وبناء الأحكام عليهما -ولو لم يرد شرع- وهو أصل فاسد. (¬2) - وقال رحمه الله: ولا يغترن إنسان بما آتاه الله من قوة في العقل وسعة في التفكير، وبسطة في العلم، فيجعل عقله أصلا، ونصوص الكتاب والسنة الثابتة فرعا، فما وافق منهما عقله قبله واتخذه دينا، وما خالفه منهما لوى به لسانه وحرفه عن موضعه، وأوله على غير تأويله إن لم يسعه إنكاره، وإلا رده ما وجد في ظنه إلى ذلك سبيلا -ثقة بعقله- واطمئنانا إلى القواعد التي أصلها بتفكيره، واتهاما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو تحديدا لمهمة رسالته وتضييقا لدائرة ما ¬

(¬1) فتاوى ورسائل عبد الرزاق عفيفي (337). (¬2) فتاوى ورسائل (ص.180).

موقفه من الخوارج:

يجب اتباعه فيه، واتهاما لثقاة الأمة وعدولها، وأئمة العلم، وأهل الأمانة الذين نقلوا إلينا نصوص الشريعة، ووصلت إلينا عن طريقهم قولا وعملا. فإن في ذلك قلبا للحقائق، وإهدارا للإنصاف مع كونه ذريعة إلى تقويض دعائم الشريعة والقضاء على أصولها إذ طبائع الناس مختلفة واستعدادهم الفكري متفاوت وعقولهم متباينة، وقد تتسلط عليهم الأهواء، ويشوب تفكيرهم الأغراض، فلا يكادون يتفقون على شيء، اللهم إلا ما كان من الحسيات أو الضروريات، فأي عقل يجعل أصلا يحكم في نصوص الشريعة فترد أو تنزل على مقتضاه فهما وتأويلا. أعقل الخوارج في الخروج على الولاة، وإشاعة الفوضى وإباحة الدماء؟ أم عقل الجهمية في تأويل نصوص الاستواء والصفات وتحريفها عن موضعها وفي القبول بالجبر؟ أم عقل المعتزلة ومن وافقهم في تأويل نصوص أسماء الله وصفاته ونصوص القضاء والقدر وإنكار رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة؟ أم عقل الغلاة في إثبات الأسماء والصفات، والغلاة في سلب المكلفين المشيئة والقدرة على الأعمال؟ أم عقل من قالوا بوحدة الوجود ... إلخ. (¬1) موقفه من الخوارج: - قال رحمه الله: خرج جماعة من المسلمين على الخليفة الثالث عثمان ابن عفان لأمور نقموها منه، وأحداث أنكروها عليه، ومازال بهم اللجاج في ¬

(¬1) فتاوى ورسائل (ص.313).

الخصومة معه حتى قتلوه. ولما انتهت الخلافة إلى علي بن أبي طالب كان ممن اختلف عليه وقاتله طلحة بن عبيد الله القرشي، والزبير بن العوام، فأما الزبير فقتله ابن جرموز، وأما طلحة فرماه مروان بن الحكم بسهم فقتله، وكانت معهما عائشة -رضي الله عنها- على جمل لها، ولكنها رجعت سالمة مكرمة لم يعترض عليها أحد، وتسمى هذه الموقعة بـ "موقعة الجمل" (¬1). واختلف على علي -أيضا- معاوية ومن تبعه -رضي الله عنهم- ودارت الحرب بين الفريقين حتى كان التحكيم الذي زاد الفتنة اشتعالا ودب الخلاف في جيش علي، وخرج عليه ممن كان من أنصاره فرقة تعرف بالحرورية وبالشراة. واشتهرت باسم الخوارج. وحديث العلماء في الفرق الإسلامية عن الخوارج إنما هو عن هؤلاء الذين خرجوا على علي -رضي الله عنه- من أجل التحكيم. أما طلحة والزبير، ومعاوية، ومن تبعهم، فلم يعرفوا عند علماء المسلمين بهذا الاسم. ثم صارت كلمة الخوارج تطلق على كل من خرج على إمام من أئمة المسلمين اتفقت الجماعة على إمامته في أي عصر من العصور دون أن يأتي ذلك الإمام بكفر ظاهر ليس له عليه حجة وإذن، فأول من أحدث هذه البدعة في هذه الأمة الجماعة التي خرجت على علي بن أبي طالب سنة 39هـ، وأشدهم في التمرد، والخروج عليه، الأشعث بن قيس، ومسعود بن فدكي التميمي، وزيد بن حصين الطائي، والذي دعاهم إلى ذلك مسألة التحكيم المشهورة في التاريخ، ورضا الملومة به مع أنهم الذين أمروه به، ¬

(¬1) وقعت سنة (36هـ).

واضطروه إليه، ثم أنكروه عليه فقالوا: لم حكمت الرجال؟ لا حكم إلا لله. ورؤوسهم ستة: الأزارقة، والنجدات، والصفرية، والعجاردة، والإباضية، والثعالبة، وعنها تتفرع فرقهم. ومن أصولهم التي اشتركت فيها فرقهم، البراءة من علي، وعثمان وطلحة والزبير، وعائشة، وابن عباس -رضي الله عنهم- وتكفيرهم. والقول بأن الخلافة ليست في بني هاشم فقط، كما تقول الشيعة، لا في قريش فقط، كما يقول أهل السنة، بل في الأمة عربها وعجمها، فمن كان أهلا لها علما واستقامة في نفسه، وعدالة في الأمة جاز أن يختار إماما للمسلمين. ومن أصولهم: الخروج على أئمة الجور، وكل من ارتكب منهم كبيرة. ولذلك سموا بالخوارج. والإيمان عندهم: عقيدة، وقول، وعمل. وقد وافقوا في هذا أهل السنة في الجملة، وخالفوا غيرهم من الطوائف. ومن أصولهم -أيضا-: التكفير بالكبائر، فمن ارتكب كبيرة فهو كافر، وتخليد من ارتكب كبيرة في النار إلا النجدات في الأخيرين. ولذا سموا وعيدية. ومن أصولهم -أيضا-: القول بخلق القرآن وإنكار أن يكون الله قادرا على أن يظلم. وتوقف التشريع والتكليف على إرسال الرسل، وتقديم السمع على العقل على تقدير التعارض، فمن وافقهم في هذه الأصول فهو منهم وإن خالفهم في غيرها، ومن وافقهم في بعضها، ففيه منهم بقدر ذلك. وقد اجتمعوا بحروراء برئاسة عبد الله بن الكواء، وعتاب بن الأعور، وعبد الله بن

موقفه من المرجئة:

وهب الراسبي، وعروة بن حدير، ويزيد بن عاصم المحاربي، وحرقوص بن زهير المعروف بذي الثدية. وكانوا في اثني عشر ألف رجل، فقاتلهم علي يوم النهروان، فما نجا منهم إلا أقل من عشرة، فر منهم اثنان إلى عمان، واثنان إلى كرمان، واثنان إلى سجستان، واثنان إلى الجزيرة، وواحد إلى موزان، فظهرت بدع الخوارج في هذه المواضع. وأول من بويع منهم بالخلافة عبد الله بن وهب الراسبي، فتبرأ من الحكمين، وممن رضي بهما، وكفر هو ومن بايعه عليا لتحكيمه الرجال ورضاه بذلك. (¬1) موقفه من المرجئة: سئل الشيخ: الإيمان الركن هل يزيد وينقص كالإيمان الواجب والمستحب؟ فقال الشيخ رحمه الله: نعم بدليل عموم قوله تعالى: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (¬2) وقوله: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا} (¬3) وهذا يعم جميع أقسام الإيمان. (¬4) ¬

(¬1) فتاوى ورسائل (331 - 333). (¬2) التوبة الآية (124). (¬3) الفتح الآية (4). (¬4) فتاوى ورسائل الشيخ عبد الرزاق عفيفي (ص.371).

أبو عبد الله شمس الدين بن محمد الأفعاني (بعد سنة 1415 هـ)

أبو عبد الله شمس الدين بن محمد الأفعاني (¬1) (بعد سنة 1415 هـ) أبو عبد الله شمس الدين بن محمد أشرف بن قيصر، الأفغاني السلطاني المدني السلفي، ولد حوالي سنة اثنين وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة، قرأ في صغره على والده القرآن ومبادئ النحو والصرف وشيئا من الفقه الحنفي ثم توفي والده فصار يتيما. واصل دراسته في أفغانستان وباكستان إلى أن رحل إلى الديار السعودية، فدرس بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية حتى حصل شهادة "ليسانس" وشهادة "ماجستير" ثم الدكتوراه. أسس رحمه الله الجامعة الأثرية ببشاور. موقفه من المبتدعة: له تآليف كثيرة يذب فيها عن منهج أهل الحديث، ويرد فيها على من خالفه من أهل الزيغ والضلال منها: 1 - 'الألفية السلفية المجتناة من القصيدة النونية'. 2 - 'الإرشاد والتسديد في مباحث الاجتهاد والتقليد'. 3 - 'السير الحثيث إلى فضل أهل الحديث'. 4 - 'إطفاء المحن والفتن بإحياء الآثار والسنن'. 5 - 'القواعد واللمع لمعرفة العوائد والبدع'. 6 - 'منهج السلف في الرد على بدع الخلف'. ¬

(¬1) مقتطف من سيرة ذاتية للمؤلف نفسه، انظر 'عداء الماتوريدية للعقيدة السلفية' (1/ 151 - 157).

موقفه من المشركين:

7 - 'عمدة العُدّة لكشف الأستار عن أسرار أبي غدة'. 8 - 'الاجتهاد في الرد على البدع من أفضل الجهاد'. وغيرها من تآليفه التي تصب في هذا المضمار، ولعل مجرد ذكر التآليف السابقة يغني عن تفصيل القول فيها. موقفه من المشركين: له من الآثار: 1 - 'جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية'. في ثلاث مجلدات ضخمة. 2 - 'الفريد الوحيد لقمع الشرك وحماية التوحيد'. 3 - 'إزاحة القناع عن مكر أهل الشرك والابتداع'. قال رحمه الله في خاتمة كتابه 'جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية': لقد وصلت في التفتيش والتنقيب لجمع مادة هذا الكتاب وتصنيفه إلى عدة من النتائج، وفيما يلي ذكر أهمها: 1 - أن القبورية أشد بلاء وأعظم محنة على الإسلام والمسلمين من جميع فرق أهل القبلة. 2 - لأنهم جمعوا بين التعطيل والتشبيه، وناقضوا توحيد الأسماء والصفات وتوحيد الألوهية؛ بل عارضوا توحيد الربوبية أيضا. 3 - أن القبورية أشد شركا من الوثنية الأولى في باب الاستغاثة بغير الله تعالى. 4 - أن القبورية أعظم عبادة وأكثر خشوعا للأموات منهم لخالق البريات.

5 - القبورية والصوفية، والمتكلمون إخوان أشقاء خلطاء في كثير من الشركيات والخرافات. 6 - القبورية جعلوا توحيد الألوهية عينا لتوحيد الربوبية؛ كإخوانهم المتكلمين. 7 - فالغاية العظمى عندهم هي توحيد الربوبية. 8 - القبورية جانبوا الجادة الصحيحة في تفسير المطالب العظيمة من التوحيد، والشرك والعبادة والتوسل والاستغاثة ونحوها؛ حيث حرفوها إلى معان أخرى تدعم وثنيتهم. 9 - أهم عقيدة للقبورية هو الاستغاثة بالأموات لدفع الكربات وجلب الخيرات، أما بقية عقادئهم فهي وسائل إلى تحقيق هذه الغاية. 10 - تبرقعت القبورية لتنفيذ خططهم المدبرة ضلالا وإضلالا بتعظيم الأنبياء والأولياء وحبهم. 11 - فارتكبوا أنواعا من الإشراك تحت ستار الولاية والكرامة والحب والتعظيم. 12 - سمت القبورية عقائدهم الفاسدة بأسماء برّاقة؛ حيث سموا الإشراك بالله بالتعظيم للأولياء وزيارة قبورهم، والاستغاثة بغير الله بالتوسل، وتصرف الأولياء في الكون بالكرامة، وعلم الغيب لهم بالمكاشفة، ونحوها. 13 - القبورية فرقة بعيدة المدى، هي أم كثير من الطوائف الباطلة عبر القرون، فهي بدأت في عهد نوح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتطورت؛ فكانت الأمم الخالية من عاد وثمود ومدين والفلاسفة اليونانية واليهود والنصارى ومشركي

العرب وأمثالهم كلهم قبورية. 14 - ولكن أعني بالقبورية قبورية هذه الأمة، وهي شاملة للروافض والباطنية والمتفلسفة في الإسلام والصوفية الطرقية والشيعة والزيدية، وكثيرا من المنتسبين إلى الأئمة الأربعة. إلى أن قال: 38 - إن القبورية من الفرق الضالة الباطلة، الموجودة في واقعنا الماضي وحياتنا المعاصرة، المنتشرة في العباد والبلاد بالكثرة الكاثرة، وليست من الفرق المنقرضة كما يزعم ذلك بعض الجهلة الضالة المضلة. 39 - القبورية لهم طرق ومكر ودهاء وخطط مدبرة لنشر عقائدهم الباطلة بشتى الطرق، وهم يظهرون بأسماء شتى ودعوات متنوعة، تارة باسم الإصلاح والإرشاد والتبليغ وتهذيب الأخلاق، وتارة في صورة منظمة سياسية أو جهادية، وتارة في لون تأسيس الجامعات لنشر العلم والمعارف؛ فهم طرق وألوان، وأنواع وأفنان ولهم ظلم وعدوان وبغي وبهتان وسلطان، ولهم اهتمام ونشاط لتحقيق ما هم عليه من التفريط والإفراط. 40 - أن كثيرا من القبورية قد تظاهروا بالتوحيد والسنة، وهم في الحقيقة على توحيد الماتريدية الجهمية وعلى سنة الصوفية النقشبندية الخرافية؛ كالديوبندية التبليغية؛ لا ينتبه لهم إلا المتمكن من العقيدة السلفية، الحكيم المجرب العارف بواقع هذه الأمة عامة وحقيقة القبورية خاصة. 41 - لعلماء الحنفية جهود عظيمة بإبطال عقائد القبورية وقطع دابرهم وقلع شبهاتهم وقمع جموعهم وكسر جنودهم، ولهم في ذلك مؤلفات مفيدة

موقفه من الصوفية:

نافعة كثيرة بلغات شتى، ولا سيما العربية والفارسية والأردية والأفغانية، مع ما في غالبها من العقائد الماتريدية والأفكار الصوفية. فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وسامحهم. 42 - وهذا دليل على أن أئمة السنة الذين ينبذهم القبورية بالوهابية ليسوا منفردين بالرد على القبورية، بل شاركهم في ذلك هؤلاء الأعلام من الحنفية. فلست وحيدا يا ابن حمقاء فانتبه ... ورائي جنود كالسيول تدفق والله المستعان وعليه التكلان. (¬1) موقفه من الصوفية: قال: وهذا المثال ينطبق على كتاب 'تبليغى نصاب' الذي هو كالمصحف للتبليغية، ففيه نفع قليل انتفع به كثير من الناس ولكنه مشوب بشر كثير وخرافات قبورية صوفية، وهذا النقد في غاية من الإنصاف وعلى محكم الأساس {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (¬2). وعلى هذا المنوال كتاب 'المثنوى' للرومي الحنفي إمام الطريقة الصوفية المولوية، الذي تهافت عليه كثير من الحنفية الرومية والتركية والإيرانية والأفغانية والهندية، فقد بالغوا في إكبار هذا الكتاب الخرافي إلى حد سموه 'قرآن البهلوي'، ولقد بالغ مؤلفه المولوي الرومي الصوفي الحنفي في إجلال ¬

(¬1) جهود علماء الحنفية (3/ 1667 - 1675). (¬2) البقرة الآية (219).

موقفه من الجهمية:

كتابه المثنوي وإكبار هذا المعدن الخرافي. فقال: "وهو أصول أصول أصول الدين في كشف أسرار الوصول واليقين، وهو فقه الله الأكبر، وشرع الله الأزهر، وبرهان الله الأظهر، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، يشرق إشراقا أنور من الإصباح ... ، يضل به كثيرا، ويهدي به كثيرا، وإنه شفاء الصدور وجلاء الأحزان، وكشاف القرآن ... ، بأيدي سفرة كرام بررة، يمنعون أن لا يمسه إلا المطهرون، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .. ". قلت: هذا كما ترى فيه مضارعة ومضاهئة ومصارعة للقرآن، مع ما فيه من الضلال والإضلال والعدوان والبهتان. أقول: وللحنفية المولوية، الصوفية الرومية التركية، عجائب أخرى في إجلال المثنوى، وغرائب أخرى في إكبار هذا الكتاب الخرافي. (¬1) موقفه من الجهمية: لقد سخر قلمه رحمه الله لدحض شبه الجهمية غابرها وحاضرها، فألف مؤلفات تدل على ذلك منها: 1 - 'تنبيه الساه اللاه على علو الله'. 2 - 'تقويل التأويل'. 3 - 'موقف اللصوص من النصوص'. 4 - 'طبقات الماتريدية وأشقائهم الأشعرية'. 5 - 'الجارية إلى تحقيق حديث الجارية'. 6 - 'الحملات القسورية على ثرثريات الجهمية'. ¬

(¬1) عداء الماتريدية للعقيدة السلفية (1/ 53 - 54).

موقفه من الخوارج:

7 - 'عداء الماتريدية للعقيدة السلفية وموقفهم من الأسماء والصفات اللهية'. في ثلاث مجلدات. 8 - 'الصارم البأسي على الكلام النفسي'. موقفه من الخوارج: له كتاب: 'مصاعد المعارج في عقيدة الخوارج'. محمد أمان الجامي (¬1) (1416 هـ) الشيخ العلامة محمد أمان الجامي بن علي جامي علي، أبو أحمد. ولد سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وألف بقرية طغاطاب في منطقة هرر بالحبشة. نشأ الشيخ نشأة علمية حيث حفظ القرآن الكريم ودرس العربية والفقه على مذهب الإمام الشافعي. ثم رحل إلى مكة وتعرف على سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله ولازمه واستفاد منه، وأخذ عن العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ والشيخ عبد الرحمن الإفريقي والشيخ محمد الأمين الشنقيطي والشيخ حماد الأنصاري والشيخ عبد الرحمن السعدي وغيرهم رحمهم الله. قال الشيخ ابن باز عنه: معروف لدي بالعلم والفضل وحسن العقيدة، والنشاط في الدعوة إلى الله سبحانه، والتحذير من البدع والخرافات. وقال الشيخ محمد عبد الوهاب مرزوق البنا: ولقد كان رحمه الله على خير ما نحب ¬

(¬1) مختصر ترجمة فضيلة الشيخ محمد أمان الجامي لتلميذه مصطفى بن عبد القادر الفلاني.

موقفه من المبتدعة:

من حسن الخلق وسلامة العقيدة وطيب العشرة. وقال الشيخ عمر بن محمد فلاته: كان رحمه الله صادق اللهجة، عظيم الانتماء لمذهب أهل السنة، قوي الإرادة داعيا إلى الله بقوله وعمله ولسانه. وقال الشيخ عبد المحسن العباد: عرفت الشيخ محمد أمان بن علي الجامي طالبا في معهد الرياض العلمي ثم مدرسا بالجامعة الإسلامية بالمدينة في المرحلة الثانوية ثم في المرحلة الجامعية، عرفته حسن العقيدة، سليم الاتجاه، وله عناية في بيان العقيدة على مذهب السلف، والتحذير من البدع وذلك في دروسه ومحاضرات وكتاباته. من تلاميذه الشيخ علي بن ناصر فقيهي والشيخ ربيع المدخلي والشيخ عبد القادر السندي والشيخ صالح السحيمي والشيخ بكر أبو زيد وغيرهم كثير. ومن مؤلفاته رحمه الله كتاب 'الصفات الإلهية' وكتاب 'أضواء على طريق الدعوة إلى الإسلام' ورسالة 'حقيقة الديمقراطية وأنها ليست من الإسلام' وغيرها. توفي رحمه الله يوم الأربعاء السادس والعشرين من شهر شعبان سنة ست عشرة وأربعمائة وألف للهجرة، فصلي عليه بعد الظهر ودفن في بقيع الغرقد بالمدينة النبوية. موقفه من المبتدعة: - قال: حفظ الله للقرآن الكريم يتضمن حفظ السنة لأنها بيان وتفسير له فحفظها من حفظه، وعلى كل حال فإن السنة المطهرة محفوظة ولا شك، وهو أمر يكاد أن يكون ملموسا لمس اليد، إذ قيض الله لها رجالا أمناء ونقادا أذكياء يدركون من العلل الخفية ما يعجز عن إدراكها غيرهم. منهم من

قاموا بدراستها وحفظها سندا ومتنا، وجمعها، ومنهم من عمدوا إلى غربلتها وتصفيتها حتى يتبين المقبول من المردود. ومنهم من دققوا في أحوال الرواة حتى إنهم يدرسون أحوالهم راويا راويا، بل حتى إنهم ليعرفون آباءهم وأجدادهم ومشايخهم، وتلامذتهم الذين حدثوا عنهم، إلى آخر تلك الخدمة الفريدة التي قدمت ولا تزال تقدم للسنة المطهرة، ولله الحمد والمنة. (¬1) - وقال: ويتضح مما تقدم أن مدلول السلفية أصبح اصطلاحا معروفا يطلق على طريقة الرعيل الأول ومن يقتدون بهم في تلقي العلم، وطريقة فهمه وبطبيعة الدعوة إليه. فلم يعد إذا محصورا في دور تاريخي معين. بل يجب أن يفهم على أنه مدلول مستمر استمرار الحياة وضرورة انحصار الفرقة الناجية في علماء الحديث والسنة وهم أصحاب هذا المنهج وهي لا تزال باقية إلى يوم القيامة أخذا من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفة من أمتي منصورين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم» (¬2).اهـ (¬3) - وقال: وما يمتاز به المنهج السلفي، أن الذين ينهجونه لا يختلفون إلا في الأسلوب والتعبير على اختلاف أزمنتهم ومشاكلهم. وذلك راجع لوحدة المصدر لدعوتهم، وهو كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وآثار الصحابة الموضحة لمعاني النصوص، إذ هم الذين حضروا نزول الوحي وفهموا النصوص فور نزولها، قبل أن يطول عليها العهد، ولذلك يحرص اللاحقون من السلف أن ¬

(¬1) الصفات الإلهية (29 - 30). (¬2) تقدم تخريجه ضمن مواقف عبد الله بن المبارك سنة (181هـ). (¬3) الصفات الإلهية (64 - 65).

يقتدوا بالسابقين. (¬1) - قال رحمه الله: بعد أن استعرضنا الأدلة النقلية والعقلية لإثبات حجية القرآن والسنة في باب العقيدة، بل أثبتنا أنه لا فرق بين الأحاديث المتواترة وبين أخبار الآحاد في هذا الباب. نرى أن نتبع ذلك بمناقشة موقف أولئك الذين ضل سعيهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وهم الذين زعموا وجوب الاكتفاء بالقرآن دون السنة، أو جواز ذلك في باب الأسماء والصفات خاصة، وفي إثبات جميع الأحكام عامة، فنقول وبالله التوفيق: إبطال شبه الزاعمين الاكتفاء بالقرآن دون السنة: على الرغم من إجماع الأمة الإسلامية على أن السنة صنو القرآن، وأنها هي الحكمة المذكورة في القرآن في عديد من الآيات، وعلى الرغم مما هو معروف من أن الدين الإسلامي مستمد من الكتاب والسنة معا عقيدة وأحكاما، على الرغم من كل ذلك، لم تسلم السنة من أقلام بعض المتهورين المتطرفين، ولفرط جهلهم أطلقوا على أنفسهم (القرآنيون) أي العاملون بالقرآن -في زعمهم- المكتفون به، المستغنون عن السنة، هذا تفسير كلمة (القرآنيون) بناء على زعمهم. ولكن التفسير المطابق لواقعهم -إذا نظرنا إلى تصرفاتهم- أنهم المخالفون للقرآن، اتباعا للهوى، وتقليدا لبعض الزنادقة التقليد الأعمى. لأنهم في واقعهم قد خرجوا على القرآن بخروجهم على السنة لأنهما كالشيء الواحد من حيث العمل بهما، إذ السنة تفسير القرآن، ولأن ¬

(¬1) الصفات الإلهية (ص.112).

القرآن نفسه يدعو إلى الأخذ بالسنة والعمل بها إيجابا وسلبا. إذ يقول الله عز وجل: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬1). والأمر بأخذ ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشمل كل ما صحت به السنة المطهرة من الأحكام وإثبات صفات الله وإثبات المعاد وغير ذلك، ورد في القرآن أو لم يرد لأن ذلك من مقتضى الإيمان بالرسول ورسالته. ومما لا شك فيه أنه لا يتم الإيمان بالقرآن إلا بالإيمان الصادق بمن أنزل عليه القرآن، والإيمان به - صلى الله عليه وسلم - إنما يعني تصديقه في أخباره واتباع أوامره ونواهيه، وقد أوجب الله طاعته على وجه الاستقلال في قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (¬2). وهو أمر لا يختلف فيه اثنان مسلمان، وأما هؤلاء القرآنيون الجدد فليس لهم سلف فيما ذهبوا إليه إلا غلاة الرافضة والزنادقة الذين في قلوبهم مرض كراهة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورضي الله عن أصحاب رسوله. وهؤلاء الروافض مرضى القلوب زعموا -وبئس ما زعموا- وجوب الاكتفاء بالقرآن والاستغناء عن السنة مطلقا في أصول الدين وفروعه، لأن الأحاديث -في زعمهم- رواية قوم كفار حيث كانوا يعتقدون أن النبوة إنما كانت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأن جبريل أخطأ فنزل بها إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - بدل أن ينزل بها إلى علي رضي الله عنه، وهذا الزعم الفاسد والقولة ¬

(¬1) الحشر الآية (7). (¬2) النساء الآية (59).

الجريئة هي أساس شبهة الروافض في رد الأحاديث النبوية، وهي شبهة مختلقة كما ترى. ومن لوازم رأيهم الفاسد هذا: أن أمر الوحي مضطرب فلا يصدر من لدن عليم حكيم الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، بل يتصرف فيه ملك الوحي كما يشاء ويختار، ينزل بالوحي على من يشاء ويعدل عمن يشاء بالوحي، كما يفهم من قول هؤلاء الروافض أن ملك الوحي نفسه غير معصوم أو غير أمين على الوحي وعلى أداء أمانة الرسالة. إذاً فما مدى إيمان الروافض بالله أولا، ثم بالملائكة والنبيين عامة، وبخاتم النبيين خاصة، وبالكتاب الذي نزل عليه؟ وبعد: فلقد حاول هؤلاء الزنادقة والروافض إزالة السنن من الوجود والقضاء عليها -لو استطاعوا- أو أن يجعلوا وجودها وجودا شكليا فاقدا للقيمة. إلا أنهم لم ينالوا خيرا ولم يستطيعوا أن ينالوا من السنة شيئا، فانقلبوا خاسرين ومهزومين، مثلهم كمثل الذي يحاول قلع جبل (أحد) مثلا فأخذ يحوم حوله وفي سفحه لينقل من أحجاره حجرا حجرا، ظنا منه أنه يمكنه بصنيعه هذا قلع الجبل وإزالته من مكانه، أو كالذي يغترف من البحر اغترافا بيده أو بدلوه محاولا بذلك أن ينفد البحر أو ينقص. وما من شك أن هذا المسكين سوف تنتهي أوقاته ويجيء أجله المحدود والمحتوم، والجبل باق مكانه شامخا ليصعد أصحاب الخبرة ويترددوا بين شعابه ليعثروا على ما قد يخفى على غيرهم، بين تلك الشعاب المتنوعة التي لا يفطن لها غيرهم، إذ لكل ميدان رجال.

كما يبقى البحر ثابتا مكانه ليغوصه الغواصون من رجال هذا الشأن، فيخرجوا للناس اللآلي والدرر من مسائل علم الحديث النافعة، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. هذه نهاية محاولة الروافض ومن يسيرون في ركابهم وقد أرادوا أن يجدوا ما يتعللون به من الأخبار التي تشهد لما ذهبوا إليه من قريب أو من بعيد، فعثروا في أثناء بحثهم على كلام باطل بطلان مذهبهم ونصه هكذا: (ما جاءكم عني فاعرضوه على الكتاب فما وافقه فأنا قلته وما خالفه فإني لم أقله) (¬1) وكل من له نظر في هذا العلم الشريف يدرك أن هذا الكلام ليس من منطق الرسول عليه الصلاة والسلام، إذ لا يظهر عليه نور النبوة -كما ترى- وعلى الرغم من ذلك فإن القوم قد طاروا به فرحا، ظنا منهم أنه نافع لهم، ولكنهم لم يستطيعوا أن ينفلتوا بحديثهم هذا من أيدي حراس السنة الذين لم تنم عيونهم الساهرة حفاظا على السنة، بل عثروا على حديثهم ذلك فأعلنوا عنه أنه من أباطيلهم ودسائسهم، حتى عرفه الناس على حقيقته بعد أن سجلوه في كتبهم، فأجروا له (عمليتهم) الخاصة، وفندوه وجرحوه وعروه أمام القراء حتى انكشف حاله، فلله الحمد والمنة. يقول السيوطي في رسالته الطليقة 'مفتاح الجنة' (ص.214 وما بعدها): قال البيهقي: باب بطلان ما يحتج به بعض من رد السنة من الأخبار التي رواها بعض الضعفاء في عرض السنة على القرآن، قال الشافعي رحمه الله: احتج علي بعض من رد الأخبار بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما جاءكم عني فاعرضوه على الكتاب، فما وافقه فأنا قلته، وما خالفه فأنا لم أقله) ¬

(¬1) سيأتي تخريجه قريبا.

فقلت له: ما روى هذا أحد يثبت حديثه في شيء صغير أو كبير، وإنما هي رواية منقطعة عن رجل مجهول، ونحن لا نقبل مثل هذه الرواية. اهـ كلام الشافعي. قال البيهقي: أشار الإمام الشافعي إلى ما رواه خالد بن أبي كريمة عن أبي جعفر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه دعا اليهود، فسألهم فحدثوه حتى كذبوا على عيسى عليه السلام، فصعد النبي المنبر فخطب الناس فقال بأن الحديث سيفشو عني، فما أتاكم يوافق القرآن فهو عني، وما أتاكم يخالف القرآن فليس عني (¬1) قال البيهقي: خالد مجهول وأبو جعفر ليس صحابيا، فالحديث منقطع. وقال الشافعي ليس يخالف الحديث القرآن ولكن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبين معنى ما أراد خاصا أو عاما، وناسخا ومنسوخا. ثم التزم الناس ما سن بفرض الله، فمن قبل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن الله قبل، ثم ذكر السيوطي بقية كلام البيهقي حول الحديث، وقد نقل البيهقي عن الإمام الشافعي نقولا كثيرة في هذا الصدد نختار منها الآتي: 1 - قال البيهقي: قال الإمام الشافعي رحمه الله: "سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ثلاثة أوجه: أحدها: ما أنزل الله فيه نص كتاب، فسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل نص ¬

(¬1) أخرجه: الطبراني في الكبير (12/ 316/13224) من طريق أبي حاضر عن الوضين عن سالم بن عبد الله عن عبد الله ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فذكره بنحوه. وذكره الهيثمي في المجمع (1/ 170) وقال بعد عزوه للطبراني: "وفيه أبو حاضر عبد الملك بن عبد ربه وهو منكر الحديث". وتعقبه الشيخ الألباني، بأن أبا حاضر هذا ليس هو عبد الملك بن عبد ربه. وأبو حاضر هذا عداده في المجهولين ذكر ذلك ابن عبد البر في الاستغناء (ترجمة 1548). وكذا الذهبي في الميزان وابن حجر في اللسان. والحديث أعله الشيخ الألباني في الضعيفة (1088) بأربع علل.

الكتاب. ثانيها: ما أنزل فيه جملة كتاب، فبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الله معنى ما أراد بالجملة وأوضح كيف فرضها عاما أو خاصا، وكيف أراد أن يأتي به العباد. ثالثها: ما سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما ليس فيه نص كتاب، فمنهم من قال: جعله الله له بما افترض من طاعته، وسبق في علمه من توفيقه له ورضاه أن يسن فيما ليس فيه نص كتاب، ومنهم من قال: لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب، كتبيين عدد الصلاة وعملها على أصل جملة فرض الصلاة، وكذلك ما سن من البيوع وغيرها من التشريع، لأن الله تعالى ذكره قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬1) وقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬2) فما أحل وحرم مما بين فيه عن الله كما بين في الصلاة، ومنهم من قال: بل جاءته به رسالة الله فثبتت سنته بفرض الله تعالى. ومنهم من قال: كل ما سن، وسنته هي الحكمة التي ألقيت في روعه من الله تعالى". انتهى كلام الشافعي. وقال الشافعي في موضع آخر: "كل ما سن فقد ألزمنا الله تعالى اتباعه، وجعل اتباعه طاعته، والعدول عن اتباعه معصيته، التي لم يعذر بها خلقا، ولم يجعل له في اتباع سنن نبيه مخرجا". ¬

(¬1) النساء الآية (29). (¬2) البقرة الآية (275).

قال البيهقي: "باب ما أمر الله به من طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والبيان أن طاعته طاعته" ثم ساق الآيات التالية: قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نفسه وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)} (¬1) وقال عز من قائل: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (¬2) إلى غيرهما من الآيات البينات التي مضمونها أن طاعة رسوله طاعته سبحانه، وأن معصيته معصيته تعالى. ثم أورد البيهقي رحمه الله (¬3) حديث أبي رافع رضي الله عنه: قال رسول الله: «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري، مما أمرت به، أو نهيت عنه يقول: لا أدري؟ ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه» (¬4). ومن حديث المقدام بن معدي كرب قال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرم أشياء يوم خيبر كالحمار الأهلي وغيره ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يوشك أن يقعد رجل على أريكته يحدث بحديثي فيقول: بيني وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم ¬

(¬1) الفتح الآية (10). (¬2) النساء الآية (80). (¬3) (7/ 76). (¬4) أحمد (6/ 8) وأبو داود (5/ 12/4605) والترمذي (5/ 36/2663) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وابن ماجه (1/ 6 - 7/ 13). والحاكم (1/ 108 - 109) وقال: "قد أقام سفيان بن عيينة هذا الإسناد وهو صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه والذي عندي أنهما تركاه لاختلاف المصريين في هذا الإسناد" ووافقه الذهبي.

رسول الله مثل ما حرم الله» (¬1) ثم قال البيهقي رحمه الله: وهذا خبر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما يكون بعده من رد المبتدعة حديثه، فوجد تصديقه فيما بعد، ومما قاله الإمام البيهقي في هذا المقام: ولولا ثبوت الحجة بالسنة لما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خطبته بعد تعليمه من شهده أمر دينهم: «ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع» (¬2). هذا ... وإذا كانت شبهة الروافض والزنادقة في رد أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - زاعمين الاكتفاء بالقرآن -ما تقدم ذكره من موقفهم العدائي من الصحابة- فما حجة القرآنيين الجدد؟ فليس لهم شبهة تذكر إلا ما كان من حب الظهور -ولو على حساب الكفر برسول الله- أو مجرد التقليد الأعمى، أو ما كانت من عداء كامن للإسلام لم يمكن إظهاره إلا في هذه الصورة، ومهما يكن من أمرهم فإن القرآنيين الجدد أصل مذهبهم راجع إلى ما كان عليه غلاة الروافض. وقد عرفت شبهتهم فبئس التابع والمتبوع أو المُقَلِّد والمُقَلَّد، وبعد أن ذكر الإمام السيوطي في رسالته 'مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة' شبهتهم تلك، قال مستهجنا لها ومستقبحا: "ما كنت أستحل حكايتها لولا ما دعت إليه الضرورة من بيان أصل هذا الرأي الفاسد الذي كان الناس في راحة منه من أعصار"، إلى أن قال: "وقد كان أهل هذا الرأي موجودين بكثرة في زمن الأئمة الأربعة، وتصدى الأئمة وأصحابهم للرد عليهم في دروسهم ومناظرتهم وتصانيفهم" ثم ساق من نصوص كلامهم ¬

(¬1) تقدم تخريجه ضمن مواقف علي محفوظ سنة (1361هـ). (¬2) تقدم تخريجه ضمن مواقف فالح الدوسري سنة (1392هـ).

الشيء الكثير في الرسالة المذكورة، ولابن خزيمة كلام نفيس في هذا المعنى. وبعد: فدعوى الاكتفاء بالقرآن ومحاولة الاستغناء عن السنة إنما تعني الاستغناء عن الإسلام، أي تعني (الكفر) بأسلوب ملتو غير صريح لأمر ما، فأصحاب هذه الفكرة لا حظ لهم في الإسلام ما لم يراجعوا الإسلام من جديد. وبعد أن استعرضنا أدلة من الكتاب والسنة وأقوال بعض أهل العلم في أن السنة صنو القرآن، ولا يفرق بينهما، فلنناقش هؤلاء الزاعمين عقليا ومن واقع حياة المسلمين في عباداتهم، ومعاملاتهم، فهل يمكنهم الاكتفاء بالقرآن دون أن يجدوا أنفسهم مضطرين لمراجعة السنة في كثير من عباداتهم ومعاملاتهم، حيث يجدون في السنة تفصيل ما أجمل في القرآن -وما أكثره- وتقييد ما أطلق وعمم فيه. بل ربما وجدوا أحكاما جديدة هم بحاجة إليها لم يرد ذكرها في القرآن كما يجدون بعض الصفات الإلهية جاءت بها السنة ولم يرد لها ذكر في القرآن. إن الواقع الذي يعيشه المسلمون يجيب على هذا التساؤل، وفي القرآن آيات يأمر الله فيها نبيه أن يبين للناس القرآن الذي أنزل عليه، إذ يقول الله عز وجل: {* يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (¬1) ويقول سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (¬2) ويقول سبحانه آمرا لأتباعه ¬

(¬1) المائدة الآية (67). (¬2) النحل الآية (44).

وحاثا لهم على طاعته: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬1). {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (¬2). وهذه الأوامر القرآنية والتوجيهات الإلهية تشير إلى أن هناك بيانا يقوم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن على أتباعه طاعته، وأن يأخذوا ما يأتي به ويأمرهم به، وعليهم أن ينتهوا عما ينهاهم عنه، لأن طاعته من طاعة الله عز وجل، ولأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. وإذا أردنا أن نسوق أمثلة للأحكام التي أشرنا إليها لوجدنا الشيء الكثير، منها: أن الصلاة التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام جاءت في القرآن مجملة هكذا: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (¬3) فيا ترى كيف يقيم القرآنيون الصلاة؟! فسوف لا يجدون صفة الصلاة وكيفيتها، وبيان عدد ركعاتها ومحل الجهر والسر فيها وغير ذلك من هيئات الصلاة، إلا في السنة الفعلية أو القولية. فيقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - مشيرا إلى هذا المعنى: «صلوا كما رأيتموني أصلي» (¬4). ولو تركنا الكلام في الصلاة، وانتقلنا إلى الزكاة لوجدنا القرآن قد أجمل أمر الزكاة كما أجمل أمر الصلاة، إذ نجد القرآن يقول: {وَأَقِيمُوا ¬

(¬1) الحشر الآية (7). (¬2) النساء الآية (80). (¬3) الأنعام الآية (72). (¬4) أخرجه: أحمد (5/ 53) من حديث مالك بن الحويرث وأخرجه البخاري (2/ 142/631) مطولا وفيه قصة.

الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} (¬1). {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬2) لتقوم السنة ببيان الأموال التي تجب فيها الزكاة وبيان أنصبة الزكاة، والمقدار المأخوذ من كل نصاب على اختلاف الأموال، وهكذا نجد في باب الصيام أحكاما لم ترد في القرآن، وبينتها السنة، منها: حكم من أتى امرأته في نهار رمضان وهو صائم ما الذي يجب عليه؟ ومن أكل في رمضان أو شرب ناسيا ماذا يصنع؟ هل يتم صيامه أو يفطر؟ أما الحج فمؤتمر إسلامي عام وضع له القرآن الخطوط العريضة، فقامت السنة ببيان تفاصيله من أوله إلى آخره، ولو تتبعنا الأبواب الفقهية من باب الطهارة إلى آخر باب في الفقه لوجدنا السنة وهي تبين ما أجمل في القرآن، أو تأتي بجديد على ضوء الآيات السالفة الذكر. ولو تركنا الأحكام الفقهية وانتقلنا إلى مباحث العقيدة لوجدنا للسنة دورها الذي لا ينكره إلا من يجهلها أو لا يؤمن بها، إذ نجد صفات الله تعالى إما ثابتة بالكتاب والسنة معا مع الدليل العقلي التابع للدليل النقلي، وإما ثابتة بالسنة الصحيحة، ولم يرد لها ذكر في القرآن الكريم مثل الفرح والضحك والنزول والقدم مثلا. فلا أظن الزاعم الاكتفاء بالقرآن يجد مفرا بعد هذا البيان إلا إلى أحد أمرين: 1 - الإيمان والاستسلام، وهو خير له وأسلم بأن يعامل السنة معاملته ¬

(¬1) البقرة الآية (43). (¬2) الأنعام الآية (141).

موقفه من الجهمية:

للقرآن باعتبارها تفسيرا للقرآن. 2 - الكفر بالقرآن والسنة مَعا دون محاولة تفريق بينهما، وهو غير عملي كما ترى ويمكن أن يقال: إنه إيمان شكلي ببعض الوحي، وكفر سافر ببعض. (¬1) موقفه من الجهمية: له 'الصفات الإلهية في الكتاب والسنة'، بين فيها مذهب السلف رضي الله عنهم ونافح عنه رحمه الله ودافع، كما أنه رد مذهب الخلف من معطلة ومؤولة ومشبهة. فلله دره من إمام رحمه الله وله كذلك رسالة لطيفة أسماها: 'العقيدة الإسلامية وتاريخها'. موقفه من القدرية: قال في 'العقيدة الإسلامية وتاريخها': ويدخل في المطالب الإلهية الإيمان بقدر الله السابق وقضائه النافذ، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وأن ما أصاب العبد في علم الله لا يخطئه، وما أخطأه في علمه لا يصيبه، إذ لا يقع شيء في ملكه دون قدره وقضائه وفعله. وذلك لقوله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)} (¬2) وقوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ ¬

(¬1) الصفات الإلهية (47 - 56) (¬2) التوبة الآية (51).

محمد بهجة الأثري (1416 هـ)

لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)} (¬1) والآيات والأحاديث في وجوب الإيمان بالقدر والقضاء كثيرة جدا كما لا يخفى، وهذا المقدار الذي ذكرناه يكفي في الإيمان بالقدر، مع الكف عن الخوض في أسرار الرب تعالى في قدره وقضائه وأفعاله التي لا تصدر إلا عن حكمة، فكما لا يجوز السؤال عن كيفية صفاته تعالى بـ (كيف)، كذلك لا يجوز السؤال عن أسرار قدره وقضائه بـ (لماذا) أو بـ (لم)، فلا يجوز للمؤمن أن يقول: لم خلق الله هذا، ولم أعطى فلانا ومنع فلانا، مثلا. بل يجب الإيمان بأنه سبحانه لا يخلق ولا يرزق ولا يعطي ولا يمنع ولا يحيي ولا يميت إلا لحكمة، وليس ذلك لمجرد تعلق الإرادة بالمفعول، كما يزعم بعض أهل الكلام ذلك (وهم الأشاعرة الكلابية). وقد ثبت عن غير واحد من السلف الصالح قولهم: (القدر سر الله، فلا نكشفه)، فالتعرض لهذا السر الإلهي مزلة الأقدام، ومن أسباب الزيغ والضلال، فليحذر كل الحذر. (¬2) محمد بهجة الأثري (¬3) (1416 هـ) محمد بهجة بن محمود بن عبد القادر العراقي المعروف بالأثري، ولد سنة ثنتين وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة. من أشهر مشايخه محمود شكري ¬

(¬1) فاطر الآية (2). (¬2) العقيدة الإسلامية وتاريخها (ص.10 - 11). (¬3) إتمام الإعلام لنزار أباظة ومحمد رياض المالح (ص.224 - 225).

موقفه من المبتدعة:

الآلوسي، وعلي علاء الدين الآلوسي. ولشدة ولعه بالحديث والآثار لقّبه شيخه محمود شكري الآلوسي بالأثري. كان عضواً في المجلس الأعلى الاستشاري بالجامعة الإسلامية في المدينة النبوية بانتخاب من الملك سعود سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة. نال عدة أوسمة، وكان كبير مفتشي اللغة العربية بوزارة المعارف العراقية، عين عضوا بالمجمع العلمي العراقي والمصري والسوري. له 'أعلام العراق'، و'تاريخ مساجد بغداد' (تهذيب)، و'المجمل في تاريخ الأدب العربي'، و'المدخل في تاريخ الأدب العربي'، و'دعوة التوحيد والسنة'، و'محمد بن عبد الوهاب داعية التوحيد والتجديد في العصر الحديث' (وقد طبعتها جامعة الإمام بالرياض). مات رحمه الله عام ست عشرة وأربعمائة وألف للهجرة. موقفه من المبتدعة: - قال في تأييده لرسالة القسام والقصاب التي قررا فيها بدعية الجهر بالذكر في تشييع الجنائز: الدين الإسلامي يكفل للبشر السعادة في كل زمان ومكان، ويفي بحاجيّاته في كل عصر ومصر؛ لانطباقه على نواميس العمران، وابتناء أحكامه على قواعد محكمة، لا تكاد تزعزعها الأعاصير والعواصف، كما يشهد بذلك فلاسفة الاجتماع وعلماء العمران. وقد نال الصدر الأول من السعادة التامة، والملك الكبير، والسلطان العظيم ما لا يقوم بوصفه البيان، ولا يمتري فيه إنسان، ذلك بما نفخه هذا الدين فيهم من روح العلم والعمل، والتواصي بالحق، والتعاون على البر

والتقوى، حتى إذا دار الزمان دورته؛ دسّ أناسٌ من أعداء الدين أنفسَهم فيه، وتزيّوا بزيّ أهله، وصاروا يعملون على هدمه بما يضعون من أحاديث، ويدسون من روايات ليس لها أقل حظ من الصحة والصدق، ففشت بذلك البدع والأهواء، وثارت أعاصير القلاقل والفتن بين المسلمين، وكثر بينهم الشقاق، وزاد النفاق، حتى إذا انشقت عصا وحدتهم، وانقسموا إلى فِرق وأحزاب، كل حزب فرح بما لديه، وكلّ فرقة تكفّر الأخرى؛ لمخالفتها لها في المشرب ومباينتها إياها في المذهب. ظل أهل الإسلام على هذه الحالة حينا من الدهر، والعدو يتربص بهم الدوائر، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} (¬1)، لا يكادون يشعرون بحالتهم، ولا يعلمون أيان مصيرهم، حتى قيض الله في هذا العصر فئة من عقلاء الأمة وحكمائها، أحسّت بالخطر المحدق، فأهابت بالأمة وأخذت تسعى لمحو الخرافات المتغلغلة في أعماق النفوس، وإعفاء آثار البدع والمحدثات التي غص بها العالم الإسلامي، وصارت شارةَ عارٍ في جبين الإسلام، هذا إلى أعمال أخرى عظيمة لها مقام غير هذا المقام. نجحت هذه الفئة بعض النجاح فيما دعت إليه من تنقية الدين من الشوائب، وأيقظت أذهان كثير من الناس، وصار لها أتباع ومريدون، ينشرون دعوتها، ويعززون كلمتها، ويدعون إلى اطراح ما لم يرد به الدين، ¬

(¬1) الكهف الآية (104).

مما عليه عامة المسلمين على ما لاقت من المقاومة والمناهضة من فريق المبتدعة: أولئك الذي مني الإسلام بهم ومنوا به! هؤلاء المخرّقون أو أولئك الجامدون على المحدثات، العاضّون عليها بالنواجذ: قوم عالة، نشؤوا على المسكنة، فاتّخذوا الدين أحبولة يصطادون بها طائر الرزق، وآنسوا من أهله الغافلين ميلا لهم، وتعلقا بأذيالهم -وما أشد تعلق العامة بمن يظهر لهم التقوى! - فاتخذوا لهم منهم جنة، تقيهم من سلاح أهل الإصلاح الماضي، وتحفظ لهم منزلتهم الموهومة، فهم أبداً، ينزلون على إرادة الرعاع، ولا يخالفون لهم أمرا خشية من نفورهم، ومحافظة على مكانتهم عندهم، فهؤلاء القوم عقبة في سبيل المصلحين كؤود، ولو تسنّى لرجال الإصلاح القضاء عليهم؛ لرأيت النساء يدخلون في دين الله أفواجاً، ولابد أن يأتي يوم يظهر الله فيه -على أيدي المصلحين- دينه الذي ارتضاه، ويتم نوره. على أن هؤلاء المبتدعين، فضلا عن حرصهم على حفظ مكانتهم عند الرعاع، قوم استأنسوا بظلام الجهل، وأخلدوا إلى المسكنة والذل، حتى طبع الله على قلوبهم، وعلى أبصارهم غشاوة، فهم يتأذى بصرهم من نور العلم، ويعزّ عليهم الخروج من غيابة الجبّ إلى استنشاق الهواء الطلق في هذا الفضاء الواسع المترامي الأطراف، وهم -مع ذلك كله- لا يخجلون من دعوى أنهم رجال الإصلاح والصلاح، وأن سعادة البشر لا تتم إلا باتباع مناهجهم وسبُلهم! ويعلم الله أنهم ليسوا إلا حشرات سامة، تحارب السعادة والبُلَهْنيّة (¬1)، ¬

(¬1) الرخاء وسعة العيش.

وتمزق أشلاء الإنسانية بسمّها الناقع، وشرها المستطير، وأن محدثاتهم لأضرّ على الدين من طعنات ألدّ أعدائه، وأجلب للشرور إليه من أشد مناوئيه. أجل! فإنه لولا محدثاتهم المخزية التي شوّهوا بها الدين، وتفهيمهم الدين للناس تفهيما مقلوبا لما تجرأ أحد على الطعن فيه، ولما خسر كل يوم عدداً من أبنائه غير قليل. وليس ما يرتكبه هؤلاء جهاراً، ليلاً ونهاراً، من ضروب الموبقات، ويجرأون عليه من مقاومة المصلحين جهلاً وعدواناً بضروب الوسائل، بخافٍ على أحد، وقد كنت إخال أن للعراق النصيب الأوفر والحظ الأكبر، من هؤلاء المبتدعة حتى إذا كُتبت الرحلة لي في هذه الأيام إلى بلاد الشام، ووقفت عن كثب على أحوال قادتهم، واطلعت على بعض ما لهم من المؤلفات في الدعوة إلى حشوهم، والتهويل على المصلحين؛ دهشت مما رأيت، وعجبت لانقياد العامة لهم وتألّبهم على كل من يحضّونهم على مناهضته من رجال الإصلاح الديني والعلمي، إن حقّاً، وإن باطلاً، حتى كأن الشاعر العربي قد قصدهم بقوله: لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا! ومن جملة الأمور التي وقفت عليها: أن عالماً من رجال الإصلاح سئل عن (حكم الصياح في التهليل والتكبير، وغيرهما أمام الجنائز)، فأفتى بأنه "مكروه تحريما، وبدعة قبيحة، يجب على علماء المسلمين إنكارها، وعلى كل قادر إزالتها، مستدلا بآية قرآنية، وحديث صحيح وأقوال الفقهاء"، وسأل هذا المستفتي عن السؤال نفسه رجلاً آخر ينتمي في الظاهر إلى العلم، فأجاب

بالسلب، ونفى ما قرره الأول نفيا رجما بالغيب، وتهجما على الحق بقول الزور، ولم يكتف بذلك وحده، بل تجاوز حدود الأدب والإنصاف، ورمى الرجل بالزيغ والضلال، وأسند إليه ما لم يقل به، ولم يجر به قلمه، شأن أصحاب الهوى والإفك، وأن في قصة الإفك لعبرة لقوم يعلمون. إن هذه المسألة، وكذا مسألة المولد النبوي، ونظائرها؛ لمن الأمور البديهية، التي لا يحسن بمنتم إلى العلم وشاد شيئا من الفقه، أن ينازع أو يختلف فيها، ومن نازع فقد أعرب عن جهل عريق، وفهاهة باقلية، وجهالة غبشانية! فقد أجمعت كلمة المحققين من السلف والخلف على إنكار هذه البدع التي لم ينزّل الله بها من سلطان، ولم يختلف منهم قط اثنان. وإن فيما ساقه الأستاذان الجليلان: الشيخ كامل القصّاب، والشيخ عز الدين القسّام، من الأدلة الشافية، والنقول الوافية، عن فطاحل علماء المذاهب الأربعة في رسالتهما: 'النقد والبيان في الردّ على خزيران' -الذي أعرب عن مبلغ علمه وفهمه للدين- لَغُنية عن سرد ما نعرفه من أقوال المحققين في هذه المسائل، وعسى أن يتروّى خزيران وشيخه في رسالة الفاضلين، فيستعينا بها على الرجوع إلى الحق، ويعلنا للناس خطأهما المطلق؛ لئلا يزل معهما من يزل ممن يحسّن الظنّ بهما، ويرجع في فهم أمور الدين إليهما ... ! على أن الجدال في مثل هذه المسائل البسيطة، أصبح في هذا العصر -عصر المسابقة والمباراة، عصر الصناعات والمخترعات-، ضربا من المضحكات، التي يخجل أن يفوه بها عاقل، وإنني لأعتقد أن الأستاذين الهمامين: القصاب والقسّام

-وهما هما- ما كانا ليبحثا في هذه المسألة ويؤلّفا لها رسالة، لولا وجوب نصرة الحقّ، ودحر شبه المضلّين في الدين. سدّد الله خطوات الجميع، ووفّقنا إلى ما فيه خير الأمة، والسلام على من اتّبع الهدى. (¬1) - وقال في كتابه: 'دعوة التوحيد والسنة': وأشهد مخلصا أن بين سيرة محمد بن عبد الوهاب ودعوته، ولأسمها: الدعوة التجديدية، رحما واشجة، وآصرة وثيقة محكمة يبدوان من غير تكلف للرؤية في هذا التطابق التام بين الفكر والتطبيق، وبين ضلاعة الدعوة وضلاعة صاحب الدعوة وشخصيته المتميزة بأنواع من الصفات الأصلية، ومنها ضلاعة تكوينه البدني وضلاعة إيمانه، وصلابته، وتمسّكه بالسّنة. وقال: ما الصنع العظيم الذي صنعه محمد بن عبد الوهاب؟ الجواب عن هذا السؤال الكبير، يصوغه واقع التاريخ وحقائقه، ولست أنا من يصوغه. واقع التاريخ يقرر في صراحة ووضوح بيان أنه الرجل الذي أيقظ العملاق العربي المسلم من سبات في جزيرة العرب دام دهراً داهراً، وأشعره وجوده الحيّ الفاعل، وأعاد إليه دينه الصحيح، ودولته العزيزة المؤمنة، ودفعه إلى الحياة الفاعلة ليعيد سيرة الصدر الأول عزائم وعظائم وفتوحاً .. ويقرر غير منازَع أنه رجل التوحيد والوحدة، والثائر الأكبر الذي رفض التفرق في الدين رفضا حاسماً، فلم يكن من جنس من يأتون بالدعوات ليضيفوا إلى أرقام المذاهب والطرائق المِزَق رقما جديداً، يزيد العدد ويكثره، ¬

(¬1) النقد والبيان (ص.167 - 171) ضمن 'السلفيون والقضية الفلسطينية'.

ولكنه أوجب إلغاء هذه الأرقام، ودعا لتحقيق الرقم الفرد وحده: الرقم الذي لا يقبل التجزئة كالجوهر الفرد، ألا وهو الإسلام. والإسلام طريقة واحدة لا تتفرع ولا تتعدّد. فلما أفسد التوحيد، وزالت الوحدة، ذهب التفرق في العقيدة بهذا المجد العظيم .. فجاء محمد بن عبد الوهاب داعياً للعودة إلى الأصل الذي قام عليه ذلك المجد وعلا سمكه وعزّ وطال، وقد حقق ما أراده في جزيرة العرب، وأشاع اليقظة في العالم المسلم، وكان لدعوته في كل صقع أثر مشهود .. فهذا هو الصنع العظيم، الذي صنعه الرجل العظيم. (¬1) - وقال رحمه الله: وأما الدعوة السنية السلفية التي هي المظهر الصحيح للعقائد السنية قبل أن تغشاها التحريفات والبدع فقد كانت خلفها قوة عربية صغيرة في أواسط الجزيرة العربية، بدأ ظهورها في أواخر الربع الأول من القرن الرابع عشر الهجري، وهي تحاول استعادة سلطان سياسي كبير ذاهب .. (¬2) - بين أن حرب الأتراك لهذه الدعوة السلفية كانت بالقتال والدعاية ثم قال: قامت حرب الدعاية على تأليف الكتب والرسائل في تشويه صورة الإصلاح الذي تتبناه .. وقد قوبلت هذه الرسائل والكتب بمثلها -من علماء نجد والعراق ¬

(¬1) 'محمود شكري الألوسي وآراؤه اللغوية' (ص.18 - 20) نقلا عن مقدمة محقق 'صب العذاب على من سب الأصحاب' (ص.34). (¬2) 'محمود شكري الألوسي وآراؤه اللغوية' (ص.18 - 20) نقلا عن مقدمة محقق 'صب العذاب على من سب الأصحاب' (ص.34).

عبد الله بن زيد بن عبد الله آل محمود (1417 هـ)

والشام ومصر والهند- بدافع ديني؛ فكانت هذه الحركة وما نتج عنها من آثار قيمة من أكبر المظاهر العقلية التي ظهرت في عصر النهضة؛ زعزعت الناس عن المألوف من البدع والخرافات، ووجهت العقول إلى منابع الإسلام الصحيح كتاب الله وسنة الرسول وهدي السلف الصالح، ولذلك نعتت بـ"السلفية" كما هي طبيعتها، وبـ"الوهابية" على سبيل التنفير. (¬1) عبد الله بن زيد بن عبد الله آل محمود (¬2) (1417 هـ) الشيخ عبد الله بن زيد بن عبد الله بن راشد بن محمود، ولد في حوطة بني تميم سنة تسع وعشرين وثلاثمائة وألف، ونشأ بها، وتلقى مبادئ العلم على يد الشيخ عبد الملك بن إبراهيم آل الشيخ والقاضي عبد العزيز بن محمد الشثري. رحل إلى قطر، فلازم الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع ثلاث سنين. وفي سنة تسع وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة تولى القضاء في قطر، فعرف عنه العدل والنزاهة وتحري الصواب. وكان رحمه الله معروفا بكثرة الحفظ وسرعة الاستحضار، فقد كان يحفظ بلوغ المرام وألفية السيوطي في الحديث وألفية ابن مالك وقطر الندى والكثير من الأحاديث النبوية بأسانيدها، وله اطلاع على كتب اليهود والنصارى والملل الأخرى. ¬

(¬1) 'محمود شكري الألوسي وآراؤه اللغوية' (ص.18 - 20) نقلا عن مقدمة محقق 'صب العذاب على من سب الأصحاب' (ص.34). (¬2) علماء نجد خلال ثمانية قرون (4/ 120 - 133).

موقفه من المبتدعة:

قال الشيخ عبد الله البسام: وهو حنبلي المذهب سلفي العقيدة، ومن أشد المتحمسين لشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم. وقال أيضا: كان الشيخ من المدافعين المجاهدين في سبيل رفع راية الإسلام ومحاربة البدع والمنكرات، وكانت له مواقف كثيرة من نصيحة الحاكمين إلى تطبيق الإسلام، والعمل به، وقد كافح بلسانه وقلمه في سبيل الاحتفاظ بعقيدة الأمة طاهرة نقية عن البدع والانحرافات، وكان لا يتردد في نصح أولياء أمور المسلمين بما يراه مخالفا للشرع، أو ضارا بمجموع الأمة. توفي رحمه الله في قطر في شهر شوال سنة سبع عشرة وأربعمائة وألف. موقفه من المبتدعة: له من الآثار السلفية: 1 - 'كلمة الحق في الاحتفال بمولد سيد الخلق'، رد فيه على رسالة: 'الاحتفال بذكر النعم واجب' لأحد المؤلفين حاول من خلاله تبرير الاحتفال بالمولد النبوي. 2 - 'عقيدة الإسلام والمسلمين'. (¬1) موقفه من القدرية: من آثاره السلفية: - كتاب 'الإيمان بالقضاء والقدر'. (¬2) ¬

(¬1) علماء نجد (4/ 129). (¬2) علماء نجد (4/ 129).

صالح بن علي بن غصون رحمه الله (1419 هـ)

صالح بن علي بن غصون رحمه الله (¬1) (1419 هـ) هو الشيخ صالح بن علي بن غصون من قبيلة آل حميدان، وهبة من أهل الرس بالقصيم. ولد عام إحدى وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة، وتوفي والده وله من العمر ثلاث عشرة عاماً، وبعد سنتين كف بصره. سافر إلى الرياض ولازم مجالس سماحة الشيخ محمد ابن إبراهيم، وكذلك أخذ عن فضيلة الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم الفرائض. عين قاضياً في سدير، وكانت له دروس علمية. انتقل بعد ذلك إلى محكمة شقراء وتوابعها، ثم انتقل إلى رئاسة محاكم الأحساء، ثم عمل في محكمة التمييز. عين عضوا في هيئة كبار العلماء يوم تشكلها. وكان له صلة بأصحاب الفضيلة الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، والشيخ محمد بن مانع، والشيخ عبد الله ابن حميد رحمهم الله، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، وكان متعاوناً مع هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سدير والوشم والأحساء أثناء عمله. وكان له مشاركة في برنامج نور على الدرب في الإذاعة القرآن الكريم. توفي رحمه الله بعد موسم الحج سنة تسع عشرة وأربعمائة وألف للهجرة. موقفه من الخوارج: سئل رحمه الله: في السنتين الماضيتين نسمع بعض الدعاة يدندن حول مسألة وسائل الدعوة وإنكار المنكر ويدخلون فيها المظاهرات، والاغتيالات، ¬

(¬1) كتاب قتل الغيلة للمترجم.

والمسيرات وربما أدخلها بعضهم في باب الجهاد الإسلامي. نرجوا بيان ما إذا كانت هذه الأمور من الوسائل الشرعية أم تدخل في نطاق البدع المذمومة والوسائل الممنوعة؟ ونرجوا توضيح المعاملة الشرعية لمن يدعو إلى هذه الأعمال، ومن يقول بها ويدعو إليها؟ فأجاب رحمه الله: الحمد لله: معروف أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة والإرشاد من أصل دين الله عز وجل، ولكن الله جل وعلا قال في محكم كتابه العزيز: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (¬1) ولما أرسل عز وجل موسى وهارون إلى فرعون قال: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} (¬2) والنبي - صلى الله عليه وسلم - جاء بالحكمة وأمر بأن يسلك الداعية الحكمة وأن يتحلى بالصبر، هذا في القرآن العزيز في سورة العصر: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}. فالداعي إلى الله عز وجل والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عليه أن يتحلى بالصبر وعليه أن يحتسب الأجر والثواب وعليه أيضاً أن يتحمل ما قد يسمع أو ما قد يناله في ¬

(¬1) النحل الآية (125). (¬2) طه الآية (44).

سبيل دعوته، وأما أن الإنسان يسلك مسلك العنف أو أن يسلك مسلك والعياذ بالله أذى الناس أو مسلك التشويش أو مسلك الخلافات والنزاعات وتفريق الكلمة، فهذه أمور شيطانية وهي أصل دعوة الخوارج، هم الذين ينكرون المنكر بالسلاح وينكرون الأمور التي لا يرونها وتخالف معتقداتهم بالقتال وبسفك الدماء وبتكفير الناس وما إلى ذلك من أمور، ففرق بين دعوة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلفنا الصالح وبين دعوة الخوارج ومن نهج منهجهم وجرى مجراهم، دعوة الصحابة بالحكمة وبالموعظة وببيان الحق وبالصبر وبالتحلي واحتساب الأجر والثواب، ودعوة الخوارج بقتال الناس وسفك دمائهم وتكفيرهم وتفريق الكلمة وتمزيق صفوف المسلمين، هذه أعمال خبيثة، وأعمال محدثة. والأولى للذين يدعون إلى هذه الأمور يُجانبونَ ويُبعد عنهم ويساء بهم الظن، هؤلاء فرقوا كلمة المسلمين، الجماعة رحمة والفرقة نقمة وعذاب والعياذ بالله، ولو اجتمع أهل بلد واحد على الخير واجتمعوا على كلمة واحدة لكان لهم مكانة وكانت لهم هيبة. لكن أهل البلد الآن أحزاب وشيع، تمزقوا واختلفوا ودخل عليهم الأعداء من أنفسهم ومن بعضهم على بعض، هذا مسلكٌ بدعي ومسلك خبيث ومسلك مثلما تقدم، أنه جاء عن طريق الذين شقوا العصا والذين قاتلوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ومن معه من الصحابة وأهل بيعة الرضوان، قاتلوه يريدون الإصلاح وهم رأس الفساد ورأس البدعة ورأس الشقاق فهم الذين فرقوا كلمة المسلمين وأضعفوا جانب

عبد العزيز بن باز (1420 هـ)

المسلمين، وهكذا أيضاً حتى الذي يقول بها ويتبناها ويحسنها فهذا سيئ المعتقد ويجب أن يبتعد عنه. واعلم والعياذ بالله أن شخصاً ضاراً لأمته ولجلسائه ولمن هو من بينهم. والكلمة الحق أن يكون المسلم عامل بناء وداعيا للخير وملتمسا للخير تماماً ويقول الحق ويدعو بالتي هي أحسن وباللين. ويحسن الظن بإخوانه ويعلم أن الكمال منالٌ صعب، وأن المعصوم هو النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن لو ذهب هؤلاء لم يأتِ أحسن منهم، فلو ذهب هؤلاء الناس الموجودون سواء منهم الحكام أو المسؤولون أو طلبة العلم أو الشعب، لو ذهب هذا كله، شعب أي بلد. لجاء أسوأ منه فإنه لا يأتي عامٌ إلا والذي بعده شرٌ منه. فالذي يريد من الناس أن يصلوا إلى درجة الكمال أو أن يكونوا معصومين من الأخطاء والسيئات، هذا إنسان ضال، هؤلاء هم الخوارج. هؤلاء هم الذين فرقوا كلمة الناس وآذوهم، هذه مقاصد المناوئين لأهل السنة والجماعة بالبدع من الرافضة والخوارج والمعتزلة وسائر ألوان أهل الشر والبدع. عبد العزيز بن باز (¬1) (1420 هـ) الشيخ الفاضل عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله آل باز. ولد في الرياض في شهر ذي الحجة عام ثلاثين وثلاثمائة وألف من ¬

(¬1) إتحاف النبلاء بسير العلماء (2/ 283 - 285) ومقدمة مجموع الفتاوى للشيخ ابن باز (1/ 9 - 12) وإمام العصر للدكتور الزهراني ومجلة التوحيد (العدد الخامس جمادى الأولى 1415هـ/ص.44 - 46).

الهجرة. فقد بصره بسبب مرض ألم به سنة ست وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة. أخذ عن محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ومحمد بن إبراهيم وصالح بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسين آل الشيخ وسعد بن حمد بن علي بن محمد بن عتيق، وغيرهم. ولي القضاء فمكث فيه أربعة عشر عاما تقريبا، ثم مدرسا بالكليات والمعاهد العلمية، ثم نائبا لرئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، ورئيسا لهيئة كبار العلماء، ومفتيا عاما للمملكة، وغيرها من الوظائف والمناصب الشامخة. كان رحمه الله علما من أعلام الدعوة السلفية، ومصباحا من مصابيح الهدى، تخرج على يده أجلة العلماء، وعرف بحدة الذكاء وسيلان الذهن وسرعة الإجابة، مع رحابة صدر وسماحة خاطر. قلت: الشيخ الإمام البحر العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز. عرفته بالجامعة الإسلامية لما قدمت طالبا بالمعهد الثانوي، زرته في مكتبه غير ما مرة، وكان على عادته متواضعا يستقبل كل الفئات، الصغيرة والكبيرة، وهو فيما علمت ممن جمع بين العلم والعمل، وكأن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها كلهم من أبنائه ومن فلذات أكباده، يسأل عن كبيرهم واحدا واحدا ويدعو لعمومهم بالتوفيق والهداية، شخص لا يعرف الملل ولا تسمع من فيه الشكاوى، منهاجه الاحتساب في كل خطوات حياته، نحسبه كذلك والله حسيبه، أمواله التي تصل إلى يده كلها تنفق على طلبة العلم والمحتاجين من أهل الإسلام. ورغم ما يصل إلى يده من كثرة الأموال على يد المحسنين من الملوك وكبار الأغنياء، ومع ذلك تجد الشيخ رحمه الله يحتاج إلى من يدفع

له الديون لينفقها في حاجة المسلمين. ليله ونهاره؛ إما في الفتوى وإما في الدرس، وإما في المحاضرة والتوجيه، وإما في الدروس العلمية والقراءة في الكتب السلفية. فما رأيت للشيخ رحمه الله -مع كثرة الالتصاق به في الجامعة الإسلامية وبالرياض وهو يتولى رئاسة الإفتاء والبحوث العلمية- وقتا يستجم فيه ويستريح استراحة يخرج فيها عن دائرة العمل الذي يتقرب به إلى الله، رغم أن الملوك والكبار يأخذون فرصة استجمام يستريحون فيها من عناء الأشغال وأتعاب الدنيا، وأما الشيخ رحمه الله فكأنه يتتبع خطوات الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حياته كلها، لا تجد له لحظة من حياته إلا وهي مصحوبة بعمل يتقرب به إلى الله. وفي الليلة التي توفي فيها رحمه الله، أصدر فيها فتاوى وشفاعات للمسلمين، فكان رحمه الله نموذجا عمليا وعلميا مع كل الأحوال، فهو ناصح لولاة الأمور، ومساعد لهم على تطبيق شرع الله في تلك البلاد، وهو ناصح للعلماء ومستشير لهم في كل القضايا الكبرى، فكم ترأس من مؤتمر للعلماء في الجامعة الإسلامية وفي جدة وفي الرياض وفي مكة، وكان هذا دأبه رحمه الله، يسير بالأمة الإسلامية نحو الأفضل، وما من مكرمة علمية أو دعوية أو فقهية أو جهادية إلا وتجد للشيخ عبد العزيز رحمه الله يدا بيضاء، وكم انتفع العالم الإسلامي وغير الإسلامي من سماحته رحمه الله. وإن القلم ليعجز عن الوفاء بأوصاف هذا الإمام، وقد جمع الله له رحمه الله من أوصاف الخير ما لم يجمعه لعالم معاصر له. فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرا، وجزى الله آل سعود الذين كانوا بجانبه في كل طلباته رحمه الله التي يخدم بها

الأمة الإسلامية. وإن معرفتي بالشيخ في دروسه في البخاري في المسجد النبوي وفي حلقات الطائف وفي دروسه في المسجد الكبير بالرياض، وإني تشرفت بالتتلمذ عليه مدة طويلة، وأعتبر الشيخ من النوادر الذين يقل في العالم الإسلامي أمثالهم، والله تبارك وتعالى ذو الفضل الواسع يخص بفضله من يشاء وكيف يشاء. اللهم أسكنه فسيح الجنان واجعله في أعلى عليين، إنك سميع مجيب. وقال فيه الشيخ عبد الرزاق عفيفي: يغلب على مؤلفاته وضوح المعنى وسهولة العبارة وحسن الاختيار مع قوة الحجة والاستدلال وغير ذلك مما يدل على النصح وصفاء النفس وسعة الأفق والاطلاع وحدة الذكاء وسيلان الذهن. وقال أيضا: نبغ في كثير من علوم الشريعة، وخاصة الحديث متنا وسندا، والتوحيد على طريق السلف، والفقه على مذهب الحنابلة حتى صار فيها من العلماء المبرزين. وقال فيه الشيخ عطية محمد سالم: كان علامة في الحديث والفقه والتوحيد، وكان موسوعة في هذه العلوم ومبرزا فيها. وقال أيضا: لا أعتقد مهما تحدثنا عن الشيخ ابن باز أن نوفيه حقه في التعريف به، ولكن كان يرحمه الله علما عالميا، وطودا أشم، وجبلا يتميز بتوحيده وحلمه، وكان لا يتحزب ولا يتعصب في البحث وفي المسائل الخلافية، إنما يبحث بمقتضاه الخاص ويتكلم فيه برأيه. توفي الشيخ رحمه الله قبل فجر يوم الخميس في اليوم السابع والعشرين

موقفه من المبتدعة:

من شهر محرم لعام عشرين وأربعمائة وألف من الهجرة في مدينة الطائف، ورثاه مجموعة من العلماء والشعراء. موقفه من المبتدعة: قال: ومن المعلوم أن كتاب الله عز وجل من أوله إلى آخره، فيه الذكرى، وفيه الدعوة إلى كل خير، وفيه التذكير بأسباب النجاة والسعادة، وفيه العظة والترغيب والترهيب؛ فجدير بالمسلمين جميعا أن يعتنوا بتدبره وتعقله، وأن يكثروا من تلاوته لمعرفة ما أمر الله به وما نهى عنه، حتى يعلم المؤمن ما أمر الله به فيمتثله، ويبتعد عما نهى الله عنه. فكتاب الله فيه الهدى والنور، وفيه الدلالة على كل خير والتحذير من كل شر، وفيه الدعوة إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، والتحذير من سيء الأخلاق وسيء الأعمال، يقول سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (¬1) أي إلى الطريقة والسبيل التي هي أهدى السبل وأقومها وأصلحها، وقال سبحانه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (¬2)، وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} (¬3)، وقال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (¬4). ¬

(¬1) الإسراء الآية (9). (¬2) فصلت الآية (44). (¬3) ص الآية (29). (¬4) الأنعام الآية (19).

فكتاب الله فيه الهدى والنور، وفيه العظة والذكرى. فوصيتي لنفسي وللجميع ومن يسمع كلمتي أو تبلغه: العناية بهذا الكتاب العظيم، فهو أشرف كتاب، وأعظم كتاب، وهو خاتم الكتب المنزلة من السماء، ومن تدبره وتعقله بقصد طلب الهداية، ومعرفة الحق، وفقه الله وهداه. وأهم ما اشتمل عليه هذا الكتاب العظيم، بيان حق الله على عباده، وبيان ضد ذلك. هذا أعظم موضوع اشتمل عليه القرآن، وهو بيان حقه سبحانه على عباده من توحيده، وإخلاص العبادة له، وإفراده بالعبادة، وبيان ضد ذلك من الشرك الأكبر، والذنب الذي لا يغفر، وأنواع الكفر والضلال. ولو لم يكن في تدبر هذا الكتاب العظيم إلا العلم بهذا الواجب العظيم، وتدبر ما ذكره الله في ذلك، لكان ذلك خيرا عظيما، وفضلا كبيرا، فكيف وفيه الدلالة على كل خير، والترهيب من كل شر، كما تقدم. ثم بعد ذلك العناية بالسنة: فإنها الأصل الثاني، والوحي الثاني، وفيها التفسير لكتاب الله والدلالة على ما قد يخفى من كلامه سبحانه، فهي الموضحة لكتاب الله كما قال الله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} (¬1). ويقول سبحانه: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} (¬2) فهو أنزل لدعوة الناس إلى الخير، وتعليمهم سبيل النجاة، وتحذيرهم من سبل الهلاك، وأمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يبين للناس ¬

(¬1) النحل الآية (44). (¬2) النحل الآية (64).

ما أنزل إليهم، وأن يشرح لهم ما اشتبه عليهم. فلم يزل عليه الصلاة والسلام من حين بعثه الله إلى أن توفاه سبحانه يدعو الناس إلى ما دل عليه كتاب الله، ويشرح لهم ما دل عليه، ويحذرهم مما نهى عنه. وكانت المدة من حين بعثه الله إلى أن توفاه ثلاثا وعشرين سنة، كلها دعوة وبيان وترهيب وترغيب، إلى أن نقل إلى الرفيق الأعلى عليه الصلاة والسلام. (¬1) - وقال: وإذا علم أن التحاكم إلى شرع الله من مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فإن التحاكم إلى الطواغيت والرؤساء والعرافين ونحوهم ينافي الإيمان بالله عز وجل؛ وهو كفر وظلم وفسق؛ يقول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} (¬2) ويقول: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)} (¬3) ويقول: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ ¬

(¬1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/ 29 - 30). (¬2) المائدة الآية (44). (¬3) المائدة الآية (45).

الْفَاسِقُونَ (47)} (¬1). وبين تعالى أن الحكم بغير ما أنزل الله حكم الجاهلين، وأن الإعراض عن حكم الله تعالى سبب لحلول عقابه وبأسه الذي لا يرد عن القوم الظالمين، يقول سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} (¬2). وإن القارئ لهذه الآية والمتدبر لها يتبين له أن الأمر بالتحاكم إلى ما أنزل الله، أكد بمؤكدات ثمانية: الأول: الأمر به في قوله تعالى: {وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}. الثاني: أن لا تكون أهواء الناس ورغباتهم مانعة من الحكم به بأي حال من الأحوال، وذلك في قوله: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}. الثالث: التحذير من عدم تحكيم شرع الله في القليل والكثير، والصغير والكبير، بقوله سبحانه: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}. الرابع: أن التولي عن حكم الله وعدم قبول شيء منه ذنب عظيم ¬

(¬1) المائدة الآية (47). (¬2) المائدة الآيتان (49و50).

موجب للعقاب الأليم، قال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ}. الخامس: التحذير من الاغترار بكثرة المعرضين عن حكم الله، فإن الشكور من عباد الله قليل، يقول تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)}. السادس: وصف الحكم بغير ما أنزل الله بأنه حكم الجاهلية، يقول سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ}. السابع: تقرير المعنى العظيم بأن حكم الله أحسن الأحكام وأعدلها، يقول عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا}. الثامن: أن مقتضى اليقين هو العلم بأن حكم الله هو خير الأحكام وأكملها، وأتمها وأعدلها، وأن الواجب الانقياد له، مع الرضا والتسليم يقول سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)}. (¬1) - وقال: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد: فقد تكرر السؤال من كثير عن حكم الاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - والقيام له في أثناء ذلك، وإلقاء السلام عليه، وغير ذلك مما يفعل في الموالد. والجواب أن يقال: لا يجوز الاحتفال بمولد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا غيره، لأن ذلك من البدع المحدثة في الدين، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله ولا خلفاؤه الراشدون ولا غيرهم من الصحابة -رضوان الله عليهم- ولا التابعون لهم ¬

(¬1) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/ 80 - 82).

بالإحسان في القرون المفضلة، وهم أعلم الناس بالسنة، وأكمل حبا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومتابعة لشرعه ممن بعدهم، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (¬1) أي مردود عليه، وقال في حديث آخر: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة» (¬2) ففي هذين الحديثين تحذير شديد من إحداث البدع، والعمل بها، وقد قال سبحانه وتعالى في كتابه المبين: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (¬3)، وقال عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} (¬4)، وقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} (¬5). وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ¬

(¬1) تقدم تخريجه في مواقف ابن رجب سنة (795هـ). (¬2) تقدم تخريجه في مواقف اللالكائي رحمه الله سنة (418هـ). (¬3) الحشر الآية (7). (¬4) النور الآية (63). (¬5) الأحزاب الآية (21).

ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} (¬1)، وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬2). والآيات في هذا المعنى كثيرة، وإحداث مثل هذه الموالد يفهم منه أن الله سبحانه لم يكمل الدين لهذه الأمة، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يبلغ ما ينبغي للأمة أن تعمل به، حتى جاء هؤلاء المتأخرون فأحدثوا في شرع الله ما لم يأذن به، زاعمين أن ذلك مما يقربهم إلى الله، وهذا بلا شك فيه خطر عظيم، واعتراض على الله سبحانه وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والله سبحانه قد أكمل لعباده الدين، وأتم عليهم النعمة. والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ البلاغ المبين، ولم يترك طريقا يوصل إلى الجنة، ويباعد من النار إلا بينه للأمة، كما ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم» (¬3) رواه مسلم في صحيحه، ومعلوم أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - هو أفضل الأنبياء وخاتمهم، وأكملهم بلاغا ونصحا، فلو كان الاحتفال بالموالد من الدين الذي يرضاه الله سبحانه، لبينه - صلى الله عليه وسلم - للأمة، أو فعله في حياته، أو فعله أصحابه رضي الله عنهم؛ فلما لم يقع شيء من ذلك علم أنه ليس من الإسلام في شيء، بل هو من المحدثات التي حذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - منها أمته، كما تقدم ذكر ذلك في الحديثين ¬

(¬1) التوبة الآية (100). (¬2) المائدة الآية (3). (¬3) أخرجه أحمد (2/ 191) ومسلم (3/ 14721 - 1473/ 1844) والنسائي (7/ 172 - 173/ 4202) وابن ماجه (2/ 1306 - 1307/ 3956).

السابقين؛ وقد جاء في معناهما أحاديث أخرى مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الجمعة: «أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» (¬1) رواه الإمام مسلم في صحيحه. والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وقد صرح جماعة من العلماء بإنكار الموالد والتحذير منها عملا بالأدلة المذكورة وغيرها، وخالف بعض المتأخرين فأجازها إذا لم تشتمل على شيء من المنكرات، كالغلو في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكاختلاط النساء بالرجال، واستعمال آلات الملاهي، وغير ذلك مما ينكره الشرع المطهر وظنوا أنها من البدع الحسنة. والقاعدة الشرعية رد ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} (¬2) وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (¬3). وقد رددنا هذه المسألة وهي الاحتفال بالموالد إلى كتاب الله سبحانه، فوجدناه يأمرنا باتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به، ويحذرنا عما نهى عنه، ويخبرنا بأن الله سبحانه قد أكمل لهذه ¬

(¬1) أحمد (3/ 310 - 311و319و371) ومسلم (2/ 592/867) والنسائي (3/ 209 - 210/ 1577) وابن ماجه (1/ 17/45) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (¬2) النساء الآية (59). (¬3) الشورى الآية (10).

موقفه من المشركين:

الأمة دينها، وليس هذا الاحتفال مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيكون ليس من الدين الذي أكمله الله لنا، وأمرنا باتباع الرسول فيه. وقد رددنا ذلك أيضا إلى سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلم نجد فيها أنه فعله، ولا أمر به ولا فعله أصحابه رضي الله عنهم، فعلمنا بذلك أنه ليس من الدين، بل هو من البدع المحدثة، ومن التشبه بأهل الكتاب من اليهود، والنصارى في أعيادهم، وبذلك يتضح لكل من له أدنى بصيرة ورغبة في الحق، وإنصاف في طلبه أن الاحتفال بالموالد ليس من دين الإسلام، بل هو من البدع المحدثات، التي أمر الله سبحانه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بتركها والحذر منها، ولا ينبغي للعاقل أن يغتر بكثرة من يفعله من الناس في سائر الأقطار، فإن الحق لا يعرف بكثرة الفاعلين، وإنما يعرف بالأدلة الشرعية، كما قال تعالى عن اليهود والنصارى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)} (¬1) وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (¬2).اهـ (¬3) موقفه من المشركين: جاء في مجموع فتاويه: بيان الأدلة على كفر من طعن في القرآن أو في الرسول -عليه الصلاة والسلام-. ¬

(¬1) البقرة الآية (111). (¬2) الأنعام الآية (116). (¬3) مجموع فتاوى ومقالات متنوعة (1/ 183 - 186).

إن الواجب الإسلامي والنصيحة لله ولعباده، كل ذلك، يوجب علينا بيان حكم الإسلام فيمن طعن في القرآن بأنه متناقض، أو مشتمل على بعض الخرافات، وفيمن طعن في الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأي نوع من أنواع الطعن غيرة لله سبحانه، وغضبا له -عز وجل- وانتصارا لكتابه العزيز، ولرسوله الكريم، وأداء لبعض حقه علينا، سواء كان ما ذكر عن أي شخص واقعا أم كان غير واقع، وسواء أعلن إنكاره له، أو التوبة منه، أم لم يعلن ذلك، إذ المقصود بيان حكم الله فيمن أقدم على شيء مما ذكرنا من التنقص لكتاب الله، أو لرسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ فنقول: قد دل كتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وإجماع الأمة على أن كتاب الله سبحانه محكم غاية الإحكام، وعلى أنه كله كلام الله عز وجل ومنزل من عنده، وليس فيه شيء من الخرافات والكذب، كما دلت الأدلة المذكورة على وجوب تعزير الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتوقيره ونصرته، ودلت أيضا على أن الطعن في كتاب الله أو في جناب الرسول - صلى الله عليه وسلم - كفر أكبر، وردة عن الإسلام، وإليك أيها القارئ الكريم بيان ذلك: قال الله تعالى في سورة يونس: {الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)} (¬1) وقال في أول سورة هود: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)} (¬2)، وقال عز وجل في أول سورة لقمان: {الم (1) تِلْكَ ¬

(¬1) يونس الآية (1). (¬2) هود الآية (1).

آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2)} (¬1) وذكر علماء التفسير رحمهم الله في تفسير هذه الآيات، أن معنى ذلك: أنه متقن الألفاظ والمعاني، مشتمل على الأحكام العادلة، والأخبار الصادقة، والشرائع المستقيمة، وأنه الحاكم بين العباد فيما يختلفون فيه، كما قال الله سبحانه: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} (¬2) الآية، وقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} (¬3) الآية. فكيف يكون محكم الألفاظ والمعاني، وحاكما بين الناس، وهو متناقض مشتمل على بعض الخرافات؟! وكيف يكون محكما وموثوقا به إذا كان الرسول الذي جاء به إنسانا بسيطا لا يفرق بين الحق والخرافة؟! فعلم بذلك أن من وصف القرآن بالتناقض أو بالاشتمال على بعض الخرافات أو وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما ذكرنا فإنه متنقص لكتاب الله، ومكذب لخبر الله، وقادح في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي كمال عقله؛ فيكون بذلك كافرا مرتدا عن الإسلام إن كان مسلما قبل أن يقول هذه المقالة، وقال الله سبحانه في أول سورة يوسف: {الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ ¬

(¬1) لقمان الآيتان (1و2). (¬2) البقرة الآية (213). (¬3) آل عمران الآية (23).

أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)} (¬1) وقال سبحانه في سورة الزمر: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} (¬2) الآية، ومعنى {متشابهاً} في هذه الآية -عند أهل العلم- يشبه بعضه بعضا، ويصدق بعضه بعضا؛ فكيف يكون بهذا المعنى؟! وكيف يكون أحسن الحديث وأحسن القصص وهو متناقض مشتمل على بعض الخرافات؟! سبحانك هذا بهتان عظيم!. وصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في خطبه: «أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -» (¬3)، فمن طعن في القرآن بما ذكرنا أو غيره من أنواع المطاعن فهو مكذب لله عز وجل في وصفه لكتابه بأنه أحسن القصص وأحسن الحديث. ومكذب للرسول - صلى الله عليه وسلم - في قوله: إنه خير الحديث. وقال سبحانه وتعالى في وصف القرآن الكريم: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)} (¬4)، وقال: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)} (¬5) وقال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} (¬6) وقال: {إِنَّا نَحْنُ ¬

(¬1) يوسف الآيات (1 - 3). (¬2) الزمر الآية (23). (¬3) تقدم تخريجه قريبا. (¬4) فصلت الآية (2). (¬5) الشعراء الآيتان (192و193). (¬6) الأنعام الآية (155).

نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} (¬1) وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} (¬2) إلى أمثال هذه الآيات الكثيرة في كتاب الله، فمن زعم أنه متناقض أو مشتمل على بعض الخرافات التي أدخلها فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما تلقاه من بادية الصحراء أو غيرهم فقد زعم أن بعضه غير منزل من عند الله وأنه غير محفوظ، كما أنه بذلك قد وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه كذب على الله وأدخل في كتابه ما ليس منه، وهو مع ذلك يقول للناس: إن القرآن كلام الله، وهذا غاية في الطعن في الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووصفه بالكذب على الله وعلى عباده، وهذا من أقبح الكفر والضلال والظلم، كما قال الله سبحانه: {* فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32)} (¬3) وقال عز وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} (¬4) الآية، وقال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) ¬

(¬1) الحجر الآية (9). (¬2) فصلت الآيتان (41و42). (¬3) الزمر الآية (32). (¬4) الأنعام الآية (93) ..

لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (¬1) الآية. (¬2) - وقال رحمه الله في الرد على أبيات لبعض الكاتبات نشرتها صحيفة المجتمع الكويتية: ودين الإسلام مبني على أصلين عظيمين: أحدهما: أن لا يعبد إلا الله وحده. والثاني: أن لا يعبد إلا بشريعة نبيه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وهذا معنى شهادة أن لا إله إلا الله. فمن دعا الأموات من الأنبياء وغيرهم، أو دعا الأصنام أو الأشجار، أو الأحجار أو غير ذلك من المخلوقات، أو استغاث بهم، أو تقرب إليهم بالذبائح والنذور، أو صلى لهم، أوسجد لهم، فقد اتخذهم أربابا من دون الله، وجعلهم أندادا له سبحانه، وهذا يناقض هذا الأصل، وينافي معنى لا إله إلا الله، كما أن من ابتدع في الدين ما لم يأذن به الله لم يحقق معنى شهادة أن محمدا رسول الله، وقد قال الله عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} (¬3) وهذه الأعمال هي أعمال من مات على الشرك بالله عز وجل، وهكذا الأعمال المبتدعة التي لم يأذن بها الله، فإنها تكون يوم القيامة هباء منثورا لكونها لم توافق شرعه المطهر، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» متفق على صحته (¬4). وهذه الكاتبة ¬

(¬1) التوبة الآيتان (65و66). (¬2) مجموع الفتاوى للشيخ ابن باز (1/ 93 - 95). (¬3) الفرقان الآية (23). (¬4) أخرجه أحمد (6/ 240) والبخاري (5/ 377/2697) ومسلم (3/ 1343/1718) وأبو داود (5/ 12/4606) وابن ماجه (1/ 7/14).

قد وجهت استغاثتها ودعاءها للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأعرضت عن رب العالمين، الذي بيده النصر والضر والنفع، وليس بيد غيره شيء من ذلك. ولا شك أن هذا ظلم عظيم وخيم، وقد أمر الله عز وجل بدعائه سبحانه، ووعد من يدعوه بالاستجابة، وتوعد من استكبر عن ذلك بدخول جهنم، كما قال عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} (¬1) أي صاغرين ذليلين. وقد دلت هذه الآية الكريمة على أن الدعاء عبادة، وعلى أن من استكبر عنه فمأواه جهنم، فإذا كانت هذه حال من استكبر عن دعاء الله، فكيف تكون حال من دعا غيره، وأعرض عنه، وهو سبحانه القريب المالك لكل شيء، والقادر على كل شيء، كما قال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} (¬2) وقد أخبر الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح أن الدعاء هو العبادة (¬3)، وقال لابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن ¬

(¬1) غافر الآية (60). (¬2) البقرة الآية (186). (¬3) أخرجه من حديث النعمان بن بشير: أحمد (4/ 267) وأبو داود (2/ 161/1479) والترمذي (5/ 349/3247) وقال: "حسن صحيح". والنسائي في الكبرى (6/ 450/11464) وابن ماجه (2/ 1258/3828)، وصححه ابن حبان (3/ 172/890) والحاكم (1/ 490 - 491) ووافقه الذهبي. وأورد له شاهدا من حديث ابن عباس وصححه ووافقه الذهبي.

بالله». أخرجه الترمذي وغيره (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار» رواه البخاري (¬2). وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل أي الذنب أعظم قال: «أن تجعل لله ندا وهو خلقك» (¬3) والند هو النظير والمثيل. فكل من دعا غير الله أو استغاث به أو نذر له أو ذبح له أو صرف له شيئا من العبادة سوى ما تقدم، فقد اتخذه ندا، سواء كان نبيا أو وليا، أو ملكا أو جنيا، أو صنما أو غير ذلك من المخلوقات. (¬4) حكم من يطالب بتحكيم المبادئ الاشتراكية والشيوعية: - قال رحمه الله: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه. أما بعد: فقد ورد إلي سؤال من بعض الإخوة الباكستانيين هذا ملخصه: ما حكم الذين يطالبون بتحكيم المبادئ الاشتراكية والشيوعية، ويحاربون حكم الإسلام، وما حكم الذين يساعدونهم في هذا المطلب، ويذمون من يطالب بحكم الإسلام، ويلمزونهم ويفترون عليهم، وهل يجوز اتخاذ هؤلاء أئمة وخطباء في مساجد المسلمين؟ والجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله ¬

(¬1) أحمد (1/ 293) والترمذي (4/ 575 - 576/ 2516) من حديث ابن عباس وقال: "حسن صحيح". (¬2) أحمد (1/ 374) والبخاري (8/ 229/4497) ومسلم (1/ 94/92) من حديث عبد الله بن مسعود. (¬3) أحمد (1/ 434) والبخاري (8/ 207/4477) ومسلم (1/ 90/86) وأبو داود (2/ 732 - 733/ 2310) والترمذي (5/ 314/3182) والنسائي (7/ 103 - 104/ 4024) من حديث ابن مسعود. (¬4) مجموع الفتاوى (1/ 154 - 155).

وأصحابه ومن اهتدى بهداه، لا ريب أن الواجب على أئمة المسلمين وقادتهم أن يحكموا الشريعة الإسلامية في جميع شؤونهم، وأن يحاربوا ما خالفها، وهذا أمر مجمع عليه بين علماء الإسلام، ليس فيه نزاع بحمد الله، والأدلة عليه من الكتاب والسنة كثيرة معلومة عند أهل العلم، منها قوله سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (¬1) وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} (¬2) وقوله سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (¬3) وقوله سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} (¬4) وقوله سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} (¬5) ¬

(¬1) النساء الآية (65). (¬2) النساء الآية (59). (¬3) الشورى الآية (10). (¬4) المائدة الآية (50). (¬5) المائدة الآية (44).

{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)} (¬1) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)} (¬2). والآيات في هذا المعنى كثيرة. وقد أجمع العلماء على أن من زعم أن حكم غير الله أحسن من حكم الله، أو أن هدي غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن من هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر؛ كما أجمعوا على أن من زعم أنه يجوز لأحد من الناس الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - أو تحكيم غيرها فهو كافر ضال. وبما ذكرناه من الأدلة القرآنية، وإجماع أهل العلم يعلم السائل وغيره، أن الذين يدعون إلى الاشتراكية أو الشيوعية أو غيرهما من المذاهب الهدامة المناقضة لحكم الإسلام، كفار ضلال، أكفر من اليهود والنصارى، لأنهم ملاحدة لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يجوز أن يجعل أحد منهم خطيبا وإماما في مسجد من مساجد المسلمين، ولا تصح الصلاة خلفهم، وكل من ساعدهم على ضلالهم، وحسن ما يدعون إليه، وذم دعاة الإسلام ولمزهم، فهو كافر ضال، حكمه حكم الطائفة الملحدة، التي سار في ركابها وأيدها في طلبها. وقد أجمع علماء الإسلام على أن من ظاهر الكفار على المسلمين وساعدهم عليهم بأي نوع من المساعدة، فهو كافر مثلهم، كما قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ ¬

(¬1) المائدة الآية (45). (¬2) المائدة الآية (47).

يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)} (¬1) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)} (¬2). وأرجو أن يكون فيما ذكرناه كفاية ومقنع لطالب الحق، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، ونسأله سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين، ويجمع كلمتهم على الحق، وأن يكبت أعداء الإسلام، ويفرق جمعهم، ويشتت شملهم، ويكفي المسلمين شرهم، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه. س: ما رأيكم في المسلمين الذين يحتكمون إلى القوانين الوضعية مع وجود القرآن الكريم والسنة المطهرة بين أظهرهم؟ ج: رأيي في هذا الصنف من الناس الذين يسمون أنفسهم بالمسلمين، في الوقت الذي يتحاكمون فيه إلى غير ما أنزل الله، ويرون شريعة الله غير كافية، ولا صالحة للحكم في هذا العصر. هو ما قال الله سبحانه وتعالى في شأنهم حيث يقول سبحانه وتعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا ¬

(¬1) المائدة الآية (51). (¬2) التوبة الآية (23).

تَسْلِيمًا (65)} (¬1) ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} (¬2) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)} (¬3) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)} (¬4) إذا، فالذين يتحاكمون إلى شريعة غير شريعة الله، ويرون أن ذلك جائز لهم، أو أن ذلك أولى من التحاكم إلى شريعة الله لا شك أنهم يخرجون بذلك عن دائرة الإسلام، ويكونون بذلك كفارا ظالمين فاسقين، كما جاء في الآيات السابقة وغيرها، وقوله عز وجل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} (¬5) والله الموفق. (¬6) - وقال رحمه الله: من الوجوه الدالة على بطلان الدعوة إلى القومية العربية أن يقال: إن الدعوة إليها والتكتل حول رايتها يفضي بالمجتمع ولا بد إلى رفض حكم القرآن، لأن القوميين غير المسلمين لن يرضوا تحكيم القرآن، فيوجب ذلك لزعماء القومية أن يتخذوا أحكاما وضعية تخالف حكم القرآن، حتى يستوي مجتمع القومية في تلك الأحكام؛ وقد صرح الكثير منهم بذلك ¬

(¬1) النساء الآية (65). (¬2) المائدة الآية (44). (¬3) المائدة الآية (45). (¬4) المائدة الآية (47). (¬5) المائدة الآية (50). (¬6) مجموع الفتاوى (1/ 273 - 275).

كما سلف. وهذا هو الفساد العظيم، والكفر المستبين والردة السافرة، كما قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (¬1). وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} (¬2)، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} (¬3) وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)} (¬4)، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)} (¬5) وكل دولة لا تحكم بشرع الله، ولا تنصاع لحكم الله، ولا ترضاه فهي دولة جاهلية كافرة، ظالمة فاسقة بنص هذه الآيات المحكمات، يجب على أهل الإسلام بغضها ومعاداتها في الله، وتحرم عليهم مودتها وموالاتها حتى تؤمن بالله وحده، وتحكم شريعته، وترضى بذلك لها وعليها، كما قال عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا ¬

(¬1) النساء الآية (65). (¬2) المائدة الآية (50). (¬3) المائدة الآية (44). (¬4) المائدة الآية (45). (¬5) المائدة الآية (47) ..

تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (¬1).اهـ (¬2) التحذير من بناء المساجد على القبور: - قال رحمه الله: وسئلت هل يجوز أن يبنى على موضع أهل الكهف مسجد؟ فأجبت قائلا: بسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعد فقد اطلعت على ما نشر في العدد الثالث من مجلة رابطة العلوم الإسلامية في باب (أخبار المسلمين في شهر). إن رابطة العلوم الإسلامية في المملكة الأردنية الهاشمية تنوي إشادة مسجد على الكهف الذي اكتشف حديثا في قرية الرحيب، وهو الكهف الذي يقال إن أهل الكهف الوارد ذكرهم في القرآن الكريم رقدوا فيه- انتهى. ولواجب النصح لله ولعباده رأيت أن أوجه كلمة في المجلة نفسها لرابطة العلوم الإسلامية في المملكة الأردنية الهاشمية مضمونها نصيحة الرابطة عن تنفيذ ما نوته من إشادة مسجد على الكهف المذكور. وما ذاك إلا لأن إشادة المساجد على قبور الأنبياء والصالحين وآثارهم مما جاءت الشريعة الإسلامية الكاملة بالمنع منه والتحذير عنه، ولعن من فعله لكونه من وسائل الشرك والغلو في الأنبياء والصالحين، والواقع شاهد بصحة ما جاءت به ¬

(¬1) الممتحنة الآية (4). (¬2) مجموع الفتاوى (1/ 305 - 306).

الشريعة ودليل على أنها من عند الله عز وجل وبرهان ساطع وحجة قاطعة على صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به عن الله وبلغه الأمة. وكل من تأمل أحوال العالم الإسلامي وما حصل فيه من الشرك والغلو بسبب إشادة المساجد على الأضرحة وتعظيمها، وفرشها وتجميلها واتخاذ السدنة لها علم يقينا أنها من وسائل الشرك وأن من محاسن الشريعة الإسلامية المنع منها والتحذير من إشادتها ومما ورد في ذلك ما رواه الشيخان البخاري ومسلم رحمة الله عليهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» قالت عائشة: يحذر ما صنعوا، قالت: ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا (¬1). وفي الصحيحين أيضا أن أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما ذكرتا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنيسة رأتاها بأرض الحبشة وما فيها من الصور. فقال - صلى الله عليه وسلم -: «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله» (¬2) وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس وهو يقول: «إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا ¬

(¬1) تقدم تخريجه ضمن مواقف شيخ الإسلام ابن تيمية سنة (728هـ). (¬2) تقدم تخريجه ضمن مواقف محمد ابن اليمني سنة (1391هـ) ..

تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك» (¬1) والأحاديث في هذا الباب كثيرة. وقد نص الأئمة من علماء المسلمين من جميع المذاهب الأربعة وغيرهم على النهي عن اتخاذ المساجد على القبور، وحذروا من ذلك عملا بسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونصحا للأمة وتحذيرا لها أن تقع فيما وقع فيه من قبلها من غلاة اليهود والنصارى وأشباههم من ضلال هذه الأمة. (¬2) حكم إتيان الكهان ونحوهم وسؤالهم وتصديقهم: - قال رحمه الله: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فقد شاع بين كثير من الناس أن هناك من يتعلق بالكهان والمنجمين والسحرة والعرافين وأشباههم، لمعرفة المستقبل والحظ وطلب الزواج والنجاح في الامتحان وغير ذلك من الأمور التي اختص الله سبحانه وتعالى بعلمها كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)} (¬3) وقال سبحانه: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)} (¬4). فالكهان والعرافون والسحرة وأمثالهم قد بين الله سبحانه وتعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) مسلم (1/ 377/532). (¬2) مجموع الفتاوى (1/ 433 - 435). (¬3) الجن الآيتان (26و27). (¬4) النمل الآية (65).

ضلالهم وسوء عاقبتهم في الآخرة، وأنهم لا يعلمون الغيب، وإنما يكذبون على الناس ويقولون على الله غير الحق وهم يعلمون، قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)} (¬1) وقال سبحانه: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)} (¬2) وقال تعالى: {* وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118)} (¬3). فهذه الآيات وأمثالها تبين خسارة الساحر ومآله في ¬

(¬1) البقرة الآية (102) .. (¬2) طه الآية (69). (¬3) الأعراف الآيتان (117و118).

الدنيا والآخرة، وأنه لا يأتي بخير، وأن ما يتعلمه أو يعلمه غيره يضر صاحبه ولا ينفعه، كما نبه سبحانه أن عملهم باطل، وصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «اجتنبوا السبع الموبقات قالوا وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» متفق على صحته (¬1). وهذا يدل على عظم جريمة السحر لأن الله قرنه بالشرك، وأخبر أنه من الموبقات وهي المهلكات، والسحر كفر لأنه لا يتوصل إليه إلا بالكفر، كما قال تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} (¬2). وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «حد الساحر ضربه بالسيف» (¬3). وصح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر بقتل السحرة من الرجال والنساء؛ وهكذا صح عن جندب الخير الأزدي رضي الله عنه أحد أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قتل بعض السحرة؛ وصح عن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقتلت، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناس عن الكهان، فقال: «ليسوا بشيء»، فقالوا: يا ¬

(¬1) البخاري (5/ 494/2766) ومسلم (1/ 92/89) وأبو داود (3/ 294 - 295/ 2874) والنسائي (6/ 568/3673) من حديث أبي هريرة. (¬2) البقرة الآية (102). (¬3) أخرجه الترمذي (4/ 49/1460) والحاكم (4/ 360) من طريق إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جندب الخير مرفوعا. قال الحاكم: "صحيح الإسناد، وإن كان الشيخان قد تركا حديث إسماعيل بن مسلم، فإنه غريب صحيح"، ووافقه الذهبي. وقال الترمذي: "هذا حديث لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، وإسماعيل بن المكي يضعف في الحديث ... والصحيح عن جندب موقوفا". والحديث ضعف إسناده الحافظ في الفتح (10/ 290).

رسول الله إنهم يحدثونا أحيانا بشيء فيكون حقا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرقرها في أذن وليه فيخلطوا معها مائة كذبة» رواه البخاري (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عنه ابن عباس رضي الله عنهما: «من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد» رواه أبو داود وإسناده صحيح (¬2). وللنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ومن سحر فقد أشرك ومن تعلق شيئا وكل إليه» (¬3). وهذا يدل على أن السحر شرك بالله تعالى كما تقدم، وذلك لأنه لا يتوصل إليه إلا بعبادة الجن والتقرب إليهم بما يطلبون من ذبح وغيره من أنواع العبادة، وعبادتهم شرك بالله عز وجل. فالكاهن من يزعم أنه يعلم بعض المغيبات، وأكثر ما يكون ذلك ممن ينظرون في النجوم لمعرفة الحوادث أو يستخدمون من يسترقون السمع من شياطين الجن، كما ورد بالحديث الذي مر ذكره، ومثل هؤلاء من يخط في الرمل أو ينظر في الفنجان أو في الكف ونحو ذلك، وكذا من يفتح الكتاب زعما منهم أنهم يعرفون بذلك علم الغيب وهم كفار بهذا الاعتقاد؛ لأنهم بهذا الزعم يدعون مشاركة الله في صفة من صفاته الخاصة وهي علم الغيب، ولتكذيبهم بقوله ¬

(¬1) أحمد (6/ 87) والبخاري (10/ 266/5762) ومسلم (4/ 1750/2228). (¬2) أحمد (1/ 227و311) وأبو داود (4/ 226 - 227/ 3905) وابن ماجه (2/ 1228/3726) من حديث ابن عباس، وصحح إسناده النووي في الرياض (ص.574) والعراقي في تخريج الإحياء (5/ 2159/3404) (¬3) رواه النسائي (7/ 128/4090) من طريق عباد بن ميسرة المنقري عن الحسن، عن أبي هريرة مرفوعا، وابن عدي (4/ 342). قال المنذري في الترغيب (4/ 32): "رواه النسائي من رواية الحسن عن أبي هريرة، ولم يسمع من أبي هريرة عند الجمهور". وقال الذهبي في الميزان (2/ 378): "هذا الحديث لا يصح للين عباد، وانقطاعه".

تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (¬1) وقوله: {* وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} (¬2) وقوله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} الآية (¬3). ومن أتاهم وصدقهم بما يقولون من علم الغيب فهو كافر. (¬4) - وقال رحمه الله في الرد على رشاد خليفة المنكر للسنة: وإن ما تفوه به رشاد خليفة من إنكار السنة، والقول بعدم الحاجة إليها: كفر وردة عن الإسلام، لأن من أنكر السنة فقد أنكر الكتاب ومن أنكرهما أو أحدهما فهو كافر بالإجماع، ولايجوز التعامل معه وأمثاله، بل يجب هجره والتحذير من فتنته وبيان كفره وضلاله في كل مناسبة حتى يتوب إلى الله من ذلك توبة معلنة في الصحف السيارة لقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا ¬

(¬1) النمل الآية (65). (¬2) الأنعام الآية (59) .. (¬3) الأنعام الآية (50). (¬4) مجموع الفتاوى (2/ 118 - 121).

فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)} (¬1). وقد ذكر الإمام السيوطي رحمه الله كفر من جحد السنة في كتابه المسمى 'مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة' فقال: (اعلموا -رحمكم الله- أن من أنكر أن كون حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - قولا كان أو فعلا بشرطه المعروف في الأصول حجة كفر وخرج عن دائرة الإسلام وحشر مع اليهود والنصارى، أو مع من شاء الله من فرق الكفرة) انتهى المقصود. (¬2) حكم الشريعة في غلام أحمد برويز: قال رحمه الله: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه. أما بعد: فقد اطلعت على ما نشرته (مجلة الحج) في عددها الثاني الصادر في 16 شعبان عام 1382هـ من الاستفتاء المقدم إليها من أخينا العلامة الشيخ محمد يوسف البنوري مدير المدرسة العربية الإسلامية بكراتشي عن حكم الشريعة الإسلامية في غلام أحمد برويز الذي ظهر أخيرا في بلاد الهند، وعن حكم معتقداته التي قدم فضيلة المستفتي نماذج منها لاستفتائه، وعن حكم من اعتنق تلك العقائد واعتقدها ودعا إليها إلخ .. ؟ والجواب: كل من تأمل تلك النماذج التي ذكرها المستفتي في استفتائه من عقائد غلام أحمد برويز وهي عشرون أنموذجا موضحة في الاستفتاء المنشور في المجلة المذكورة، كل من تأمل هذه النماذج المشار إليها من ذوي العلم والبصيرة يعلم علما قطعيا لا يحتمل الشك بوجه ما أن معتنقها ¬

(¬1) البقرة الآيتان (159و160). (¬2) مجموع الفتاوى (2/ 403 - 404).

ومعتقدها والداعي إليها كافر كفرا أكبر مرتد عن الإسلام يجب أن يستتاب، فإن تاب توبة ظاهرة، وكذب نفسه تكذيبا ظاهرا ينشر في الصحف المحلية كما نشر فيها الباطل من تلك العقائد الزائفة، وإلا وجب على ولي الأمر للمسلمين قتله. وهذا شيء معلوم من دين الإسلام بالضرورة، والأدلة عليه من الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم كثيرة جدا لا يمكن استقصاؤها في هذا الجواب. وكل أنموذج من تلك النماذج التي قدمها المستفتي من عقائد غلام أحمد برويز يوجب كفره وردته عن الإسلام عند علماء الشريعة الإسلامية. وإلى القارئ الكريم نبذة من تلك النماذج التي أشرنا إليها ليعلم مدى بشاعتها وشناعتها وبعدها عن الإسلام، وأن معتقدها لا يؤمن بالله واليوم الآخر، ولا يؤمن بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا بما أخبر الله به عز وجل ورسوله - صلى الله عليه وسلم - عن الآخرة والجنة والنار، وليعلم أيضا أن معتقدها بعيد كل البعد عما جاءت به الرسل، شديد العداوة والحقد والكيد للإسلام والمسلمين، بارع في المكر والتلبيس، متجرد من الحياء والأدب، نسأل الله تعالى العافية والسلامة لنا وللمسلمين من شر ما ابتلي به هذا الزنديق الملحد. النموذج الأول: من عقائد الملحد غلام أحمد برويز على ما نشرته المجلة المذكورة في الاستفتاء المنوه عنه آنفا يقول: إن جميع ما ورد في القرآن الكريم من الصدقات والتوريث وما إلى ذلك من الأحكام المالية كل ذلك مؤقت تدريجي إنما يتدرج به إلى دور مستقل يسميه هو نظام الربوبية، فإذا جاء ذلك الوقت تنتهي هذه الأحكام لأنها كانت مؤقتة غير مستقلة. النموذج الثاني: أن الرسول والذين معه قد استنبطوا من القرآن أحكاما

فكانت شريعة، وهكذا كل من جاء بعده من أعضاء شورائية لحكومة مركزية لهم أن يستنبطوا أحكاما من القرآن، فتكون تلك الأحكام شريعة ذلك العصر، وليسوا مكلفين بتلك الشريعة السابقة. ثم لا تختص تلك بباب واحد بل العبادات والمعاملات والأخلاق كلها يجري فيه ذلك، ومن أجل ذلك القرآن لم يعين تفصيلات العبادة. (¬1) - وقال رحمه الله: ومن العقائد المضادة للحق: ما يعتقده بعض المتصوفة من أن بعض من يسمونهم بالأولياء يشاركون الله في التدبير، ويتصرفون في شؤون العالم، ويسمونهم بالأقطاب والأوتاد والأغواث، وغير ذلك من الأسماء التي اخترعوها لآلهتهم، وهذا من أقبح الشرك في الربوبية، وهو شر من شرك جاهلية العرب؛ لأن كفار العرب لم يشركوا في الربوبية وإنما أشركوا في العبادة، وكان شركهم في حال الرخاء، أما في حال الشدة فيخلصون لله العبادة، كما قال الله سبحانه: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)} (¬2). أما الربوبية فكانوا معترفين بها لله وحده كما قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (¬3). وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (3/ 268 - 269). (¬2) العنكبوت الآية (65). (¬3) الزخرف الآية (87).

الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)} (¬1)، والآيات في هذا المعنى كثيرة. أما المشركون المتأخرون فزادوا على الأولين من جهتين: إحداهما: شرك بعضهم في الربوبية. والثانية: شركهم في الرخاء والشدة، كما يعلم ذلك من خالطهم وسبر أحوالهم، ورأى ما يفعلون عند قبر الحسين والبدوي وغيرهما في مصر، وعند قبر العيدروس في عدن، والهادي في اليمن، وابن عربي في الشام، والشيخ عبد القادر الجيلاني في العراق، وغيرها من القبور المشهورة التي غلت فيها العامة وصرفوا لها الكثير من حق الله عز وجل، وقل من ينكر عليهم ذلك ويبين لهم حقيقة التوحيد الذي بعث الله به نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم -، ومن قبله من الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ونسأله سبحانه أن يردهم إلى رشدهم، وأن يكثر بينهم دعاة الهدى، وأن يوفق قادة المسلمين وعلماءهم لمحاربة هذا الشرك والقضاء عليه ووسائله، إنه سميع قريب. (¬2) - وقال رحمه الله: ومن أنواع الردة العقدية التي يعتقدها بقلبه وإن لم يتكلم بها ولم يفعل، بل بقلبه يعتقد: إذا اعتقد بقلبه أن الله جل وعلا فقير، أو أنه بخيل، أو أنه ظالم، ولو أنه ما تكلم، ولو لم يفعل شيئا، هذا كفر -بمجرد هذه العقيدة- بإجماع المسلمين. ¬

(¬1) يونس الآية (31). (¬2) مجموع الفتاوى (1/ 26 - 27).

أو اعتقد بقلبه أنه لا يوجد بعث ولا نشور، وأن كل ما جاء في هذا ليس له حقيقة، أو اعتقد بقلبه أنه لا يوجد جنة أو نار، ولا حياة أخرى، إذا اعتقد ذلك بقلبه ولو لم يتكلم بشيء، هذا كفر وردة عن الإسلام -نعوذ بالله من ذلك- وتكون أعماله باطلة، ويكون مصيره إلى النار بسبب هذه العقيدة. وهكذا لو اعتقد بقلبه -ولو لم يتكلم- أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ليس بصادق، أو أنه ليس بخاتم الأنبياء وأن بعده أنبياء، أو اعتقد أن مسيلمة الكذاب نبي صادق، فإنه يكون كافرا بهذه العقيدة. أو اعتقد بقلبه أن نوحا أو موسى أو عيسى أو غيرهم من الأنبياء عليهم السلام أنهم كاذبون أو أحدا منهم، هذا ردة عن الإسلام. أو اعتقد أنه لا بأس أن يدعى مع الله غيره، كالأنبياء أو غيرهم من الناس، أو الشمس والكواكب أو غيرها، إذا اعتقد بقلبه ذلك صار مرتدا عن الإسلام، لأن الله تعالى يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَن مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (¬1)، وقال سبحانه: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} (¬2)، وقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} (¬3)، وقال: {* وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (¬4)، وقال: ¬

(¬1) الحج الآية (62). (¬2) البقرة الآية (163). (¬3) الفاتحة الآية (5). (¬4) الإسراء الآية (23).

{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)} (¬1)، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)} (¬2)، والآيات في هذا المعنى كثيرة. فمن زعم أو اعتقد أنه يجوز أن يعبد مع الله غيره، من ملك أو نبي أو شجر أو جن أو غير ذلك فهو كافر. وإذا نطق وقال بلسانه ذلك صار كافرا بالقول والعقيدة جميعا، وإن فعل ذلك ودعا غير الله واستغاث بغير الله صار كافرا بالقول والعمل والعقيدة جميعا، نسأل الله العافية من ذلك. ومما يدخل في هذا: ما يفعله عُبَّاد القبور اليوم في كثير من الأمصار من دعاء الأموات والاستغاثة بهم وطلب المدد منهم، فيقول بعضهم: يا سيدي، المدد المدد، يا سيدي، الغوث الغوث، أنا بجوارك، اشف مريضي، ورُدَّ غائبي، وأصلح قلبي. يخاطبون الأموات الذين يسمونهم: الأولياء، ويسألونهم هذا السؤال، نسوا الله وأشركوا معه غيره -تعالى الله عن ذلك- فهذا كفر قولي وعقدي وفعلي. وبعضهم ينادي من مكان بعيد وفي أمصار متباعدة: يا رسول الله، انصرني ... ونحو هذا، وبعضهم يقول عند قبره: يا رسول الله، اشف مريضي، يا رسول الله، المدد المدد، انصرنا على أعدائنا، أنت تعلم ما نحن فيه، انصرنا على أعدائنا. ¬

(¬1) غافر الآية (14). (¬2) الزمر الآية (65).

والرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم الغيب، إذ لا يعلم الغيب إلا الله سبحانه، هذا من الشرك القولي والعملي. وإذا اعتقد مع ذلك أن هذا جائز، وأنه لا بأس به صار شركا قوليا وفعليا وعقديا، نسأل الله العافية من ذلك. وهذا واقع في دول وبلدان كثيرة، وكان واقعا في هذه البلاد، كان واقعا في الرياض والدرعية قبل قيام دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فقد كانت لهم آلهة في الرياض والدرعية وغيرهما، أشجار تعبد من دون الله، وأناس يقال: إنهم من الأولياء يعبدونهم مع الله، وقبور تعبد مع الله. وكان قبر زيد بن الخطاب رضي الله عنه موجودا في الجُبَيْلة حيث قتل في حروب الردة أيام مسيلمة، كان قبره يعبد من دون الله حتى هدم ذلك القبر، ونسي اليوم والحمد لله، بأسباب دعوة الشيخ محمد، قدس الله روحه وجزاه عنا وعن المسلمين أفضل الجزاء. وقد كان في نجد والحجاز من الشرك العظيم والاعتقادات الباطلة، ودعوة غير الله ما لا يعد ولا يحصى، فلما جاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في النصف الثاني من القرن الثاني عشر، أي: قبل ما يزيد عن مائتي سنة، دعا إلى الله وأرشد الناس، فعاداه كثير من العلماء الجهلة وأهل الهوى، لكن الله أيَّده بعلماء الحق، وبآل سعود -رحم الله الجميع- فدعا إلى الله، وأرشد الناس إلى توحيد الله، وبين لهم: أن عبادة الجن والأحجار والأولياء والصالحين وغيرهم شرك من عمل الجاهلية، وأنها أعمال أبي جهل وأمثاله من كفار قريش في عبادتهم اللات والعزى ومناة وعبادة القبور، هذه هي أعمالهم.

فبين -رحمه الله- للناس وهدى الله على يديه من هدى، ثم عمت الدعوة بلاد نجد والحجاز وبقية الجزيرة العربية، وانتشر فيها التوحيد والإيمان، وترك الناس الشرك بالله وعبادة القبور والأولياء بعد أن كانوا يعبدونها إلا من رحم الله، بل كان بعضهم يعبد أناسا مجانين لا عقول لهم، ويسمونهم: أولياء، وهذا من عظيم جهلهم الذي كانوا واقعين فيه. (¬1) - وقال رحمه الله: التوحيد موضوع عظيم هو أساس الملة وأساس جميع ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم. ولا ريب أن هذا المقام جدير بالعناية، وإنما ضل من ضل، وهلك من هلك بسبب إعراضه عن هذا الأصل وجهله به وعمله بخلافه، وكان المشركون قد جهلوا هذا الأمر من توحيد العبادة الذي هو الأساس الذي بعثت به الرسل، وأنزلت به الكتب، وخلق من أجله الثقلان "الجن والإنس"، وظنوا أن ما هم عليه من الشرك دين صالح وقربة يتقربون بها إلى الله مع أنه أعظم الجرائم وأكبر الذنوب، وظنوا بجهلهم وإعراضهم وتقليدهم لآبائهم ومن قبلهم من الضالين أنه دين وقربة وحق، وأنكروا على الرسل وقاتلوهم على هذا الأساس الباطل كما قال سبحانه: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)} (¬2) وقال جل وعلا: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (8/ 17 - 20). (¬2) الأعراف الآية (30).

يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (¬1) وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)} (¬2). وأول من وقع في هذا البلاء واعتقد هذا الشرك: قوم نوح عليه الصلاة والسلام، فإنهم أول الأمم الواقعة في الشرك، وقلدهم من بعدهم. وكان سبب ذلك: الغلو في الصالحين، وأنهم غلوا في ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وكان هؤلاء رجالا صالحين فيهم، فماتوا في زمن متقارب فأسفوا عليهم أسفا عظيما، وحزنوا عليهم حزنا شديدا، فزين لهم الشيطان الغلو فيهم وتصويرهم ونصب صورهم في مجالسهم، وقال لعلكم بهذا تسيرون على طريقتهم. وفي ذلك هلاكهم وهلاك من بعدهم، فلما طال عليهم الأمر عبدوهم. وقال جماعة من السلف: فلما هلك أولئك وجاء من بعدهم عبدت هذه الأصنام، وأنزل الله فيهم جل وعلا قوله سبحانه: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آَلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25)} (¬3). فالغلو في ¬

(¬1) يونس الآية (18). (¬2) الزمر الآية (3). (¬3) نوح الآيات (23 - 25).

الصالحين من البشر وفي الملائكة والأنبياء والجن والأصنام هو أصل هذا البلاء، والله بين على أيدي الرسل أن الواجب عبادته وحده سبحانه، وأنه الإله الحق، وأنه لا يجوز اتخاذ الوسائط بينه وبين عباده، بل يجب أن يعبد وحده مباشرة من دون واسطة، وأرسل الرسل وأنزل الكتب بذلك، وخلق الثقلين لذلك قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} (¬1)، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (¬2)، وقال عز وجل: {* وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (¬3). وقال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} (¬4)، وقال عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (¬5). وهذا المقام -أعني مقام التوحيد- دائما وأبدا يحتاج إلى مزيد العناية بتوجيه الناس إلى دين الله وتوحيده وإخلاص العبادة له، لأن الشرك هو أعظم الذنوب وقد وقع فيه أكثر الناس قديما وحديثا، فالواجب بيانه للناس والتحذير منه في كل وقت، وذلك بالدعوة إلى توحيد الله سبحانه والنهي عن الشرك وبيان أنواعه للناس حتى يحذروه، وقد قام خاتم الأنبياء محمد - صلى الله عليه وسلم - بذلك أكمل قيام في ¬

(¬1) الذاريات الآية (56). (¬2) البقرة الآية (21). (¬3) الإسراء الآية (23). (¬4) الفاتحة الآية (5). (¬5) النحل الآية (36).

مكة والمدينة، ومع هذا فقد ملئت الدنيا من هذا الشرك بسبب علماء السوء ودعاة الضلالة وإعراض الأكثر عن دين الله وعدم تفقههم في الدين، وعدم إقبالهم على الحق، وحسن ظنهم بدعاة الباطل ودعاة الشرك إلا من رحم الله، كما قال الله سبحانه: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)} (¬1)، وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)} (¬2) وقال عز وجل: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)} (¬3). فلهذا انتشر الشرك في الأمم بعد نوح في عاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم شعيب وقوم لوط، ومن بعدهم من سائر الأمم، وصاروا يقلد بعضهم بعضا يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)} (¬4). وإذا كان هذا البلاء قد عم وطم ولم يسلم منه إلا القليل، فالواجب على أهل العلم أن يقدموه على غيره -أعني بيان التوحيد وضده-، وأن تكون عنايتهم به أكثر من كل نوع من أنواع العلم لأنه الأساس، فإذا فسد هذا الأساس وخرب بالشرك بطل غيره من الأعمال، كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَشْرَكُوا ¬

(¬1) يوسف الآية (103). (¬2) سبأ الآية (20). (¬3) الأنعام الآية (116). (¬4) الزخرف الآية (22).

موقفه من الرافضة:

لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)} (¬1) وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)} (¬2) والصوم والحج وغير ذلك من العبادات لا تنفع. (¬3) موقفه من الرافضة: - سئل رحمه الله: من خلال معرفة سماحتكم بتاريخ الرافضة، ما هو موقفكم من مبدأ التقريب بين أهل السنة وبينهم؟ فأجاب: التقريب بين الرافضة وبين أهل السنة غير ممكن، لأن العقيدة مختلفة، فعقيدة أهل السنة والجماعة: توحيد الله وإخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى، وأنه لا يدعى معه أحد لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم الغيب. ومن عقيدة أهل السنة: محبة الصحابة رضي الله عنهم جميعا والترضي عنهم، والإيمان بأنهم أفضل خلق الله بعد الأنبياء، وأن أفضلهم أبو بكر الصديق، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، رضي الله عن الجميع. والرافضة خلاف ذلك، فلا يمكن الجمع بينهما كما أنه لا يمكن الجمع بين اليهود والنصارى والوثنيين وأهل السنة، فكذلك لا يمكن التقريب بين الرافضة وبين أهل السنة لاختلاف العقيدة التي أوضحناها. ¬

(¬1) الأنعام الآية (88). (¬2) الزمر الآيتان (65و66). (¬3) مجموع الفتاوى (9/ 63 - 66).

موقفه من الصوفية:

- ثم سئل رحمه الله: هل يمكن التعامل معهم لضرب العدو الخارجي كالشيوعية وغيرها؟ فأجاب: لا أرى ذلك ممكنا، بل يجب على أهل السنة أن يتحدوا وأن يكونوا أمة واحدة وجسدا واحدا، وأن يدعوا الرافضة أن يلتزموا بما دل عليه كتاب الله وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الحق، فإذا التزموا بذلك صاروا إخواننا وعلينا أن نتعاون معهم، أما ما داموا مصرين على ما هم عليه من بغض الصحابة، وسب الصحابة إلا نفرا قليلا، وسب الصديق وعمر، وعبادة أهل البيت كعلي رضي الله عنه وفاطمة والحسن والحسين، واعتقادهم في الأئمة الاثنى عشرة أنهم معصومون وأنهم يعلمون الغيب، كل هذا من أبطل الباطل، وكل هذا يخالف ما عليه أهل السنة والجماعة. (¬1) موقفه من الصوفية: - سأله رحمه الله سائل من سوريا قال: يوجد ناس عندنا يقولون: إننا أبناء الشيخ عيسى أو أبناء غيره من الشيوخ المعروفين عندنا، ويأتون يسألون الناس وقد لبسوا لباسا أخضر على رؤوسهم من حرير، في أيديهم أسياخ من حديد، إذا أعطيتهم أرضيتهم، وإذا لم تعطهم غضبوا وضربوا أنفسهم بهذا الحديد في بطونهم وفي رؤوسهم؟ فأجاب: هؤلاء من بعض الطوائف التي تسمى الصوفية، وهؤلاء يلعبون على الناس ويخدعونهم، بزعمهم أنهم أولاد فلان أو فلان، ويزعمون أنهم يستحقون على الناس المساعدة، وهؤلاء ينبغي منعهم من هذا العمل وتأديبهم ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (5/ 156 - 157).

عليه من جهة الدولة، لما في ذلك من كف شرهم عن الناس على السؤال بهذه الطريقة المنكرة. ولا يعطى مثل هؤلاء، لأن عطاءهم يشجعهم .. وإذا ضربوا أنفسهم فلا حرج عليك من ذلك، وإنما الحرج عليهم. والواجب نصيحتهم وتحذيرهم من هذا العمل المنكر، وهو من التشويش والتلبيس الذي يخدعون به الناس، وهم في الحقيقة يعملون هذه الأمور الشيطانية بتزيين من الشيطان وتلبيس منه، وهو ما يسمى بالتقمير، وهو من أنواع السحر، يفعلون هذا الشيء في رأي الناظر، وهم لا يفعلونه في الحقيقة، ولو فعلوه حقيقة لضرهم، لأن السلاح والحديد وأشباه ذلك يضر الإنسان إذا ضرب به نفسه، ولكنهم يسحرون العيون بما يفعلون، كما ذكر الله عن سحرة فرعون، حيث قال سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)} (¬1)، وقال تعالى في سورة طه: {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)} (¬2) فلا ينبغي لأهل الإسلام أن يساعدوا مثل هؤلاء، لأن مساعدتهم معناها مساعدة على المنكر وعلى التلبيس وعلى الشعوذة وعلى إيذاء المسلمين وخداعهم. ¬

(¬1) الأعراف الآية (116). (¬2) طه الآية (66).

فالواجب منع هؤلاء والقضاء على منكرهم هذا، وحسم مادتهم بالأدب البليغ، أو السجن من جهة الدولة، حتى يرتدعوا عن هذا العمل .. وفق الله قادة المسلمين لكل ما فيه رضاه وصلاح عباده. (¬1) - وقال رحمه الله: قد دلت الآيات الكريمات والأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أفضل الكلام كلمة التوحيد: وهي لا إله إلا الله، كما في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله» (¬2)، وقال عليه الصلاة والسلام: «أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» (¬3). وقد ذكر الله في كتابه العظيم هذه الكلمة في مواضع كثيرة، منها قوله سبحانه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (¬4)، وقوله عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (¬5). والمشروع للمسلمين جميعا أن يذكروا الله بهذا اللفظ: لا إله إلا الله، ويضاف إلى ذلك: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. كل هذا من الكلام الطيب المشروع. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (3/ 447 - 448). (¬2) أخرجه: أحمد (2/ 445) والبخاري (1/ 71/9) ومسلم (1/ 63/35) وأبو داود (5/ 55 - 56/ 4676) والترمذي (5/ 12/2614) والنسائي (8/ 484/5020) وابن ماجه (1/ 22/57) كلهم من حديث أبي هريرة إلا أنه اختلف في لفظه فمنهم من يرويه بلفظ: بضع وستون ومنهم من يرويه بلفظ بضع وسبعون ومنهم من يرويه على الشك. (¬3) أحمد (5/ 10) ومسلم (3/ 1685/2137) وابن ماجه (2/ 1253/3811) والنسائي في الكبرى (6/ 211/10681) من حديث سمرة بن جندب. (¬4) آل عمران الآية (18). (¬5) محمد الآية (19).

موقفه من الجهمية:

أما قول الصوفية: (الله الله)، أو (هو هو)، فهذا من البدع، ولا يجوز التقيد بذلك، لأنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أصحابه رضي الله عنهم فصار بدعة، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» (¬1)، وقوله عليه الصلاة والسلام: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» متفق عليه (¬2). ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فهو رد» أي: فهو مردود، ولا يجوز العمل به ولا يقبل. فلا يجوز لأهل الإسلام أن يتعبدوا بشيء لم يشرعه الله، للأحاديث المذكورة وما جاء في معناها لقول الله سبحانه منكرا على المشركين: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (¬3). وفق الله الجميع لما يرضيه. (¬4) موقفه من الجهمية: - قال رحمه الله: عقيدتي التي أدين الله بها وأسأله سبحانه أن يتوفاني عليها هي: الإيمان بأنه سبحانه هو الإله الحق المستحق للعبادة، وأنه سبحانه فوق العرش قد استوى عليه استواء يليق بجلاله وعظمته بلا كيف، وأنه سبحانه يوصف بالعلو فوق جميع الخلق، كما قال سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ ¬

(¬1) أخرجه أحمد (6/ 180) ومسلم (3/ 1343 - 1344/ 1718 (18)) عن عائشة رضي الله عنها. (¬2) أحمد (6/ 240) والبخاري (5/ 377/2697) ومسلم (3/ 1343/1718) وأبو داود (5/ 12/4606) وابن ماجه (1/ 7/14). (¬3) الشورى الآية (21). (¬4) مجموع الفتاوى (8/ 399 - 400).

اسْتَوَى (5)} (¬1)، وقال عز وجل: {إِن رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} الآية (¬2)، وقال عز وجل في آخر آية الكرسي: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)} (¬3)، وقال عز وجل: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)} (¬4)، وقال سبحانه: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (¬5) والآيات في هذا المعنى كثيرة. وأومن بأنه سبحانه له الأسماء الحسنى والصفات العلى، كما قال عز وجل: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (¬6). والواجب على جميع المسلمين: هو الإيمان بأسمائه وصفاته الواردة في الكتاب العزيز والسنة الصحيحة، وإثباتها له سبحانه على الوجه اللائق بجلاله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، كما قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (¬7)، وقال عز وجل: {فَلَا ¬

(¬1) طه الآية (5). (¬2) الأعراف الآية (54). (¬3) البقرة الآية (255). (¬4) غافر الآية (12). (¬5) فاطر الآية (10). (¬6) الأعراف الآية (180). (¬7) الشورى الآية (11).

تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)} (¬1)، وقال سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4)} (¬2)، وهي توقيفية لا يجوز إثبات شيء منها لله إلا بنص من القرآن أو من السنة الصحيحة، لأنه سبحانه أعلم بنفسه وأعلم بما يليق به، ورسوله - صلى الله عليه وسلم - هو أعلم به، وهو المبلغ عنه، ولا ينطق عن الهوى، كما قال الله سبحانه: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} (¬3). وأومن بأن القرآن كلامه عز وجل وليس بمخلوق، وهذا قول أهل السنة والجماعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم، وأومن بكل ما أخبر الله به ورسوله من أمر الجنة والنار والحساب والجزاء وغير ذلك مما كان وما سيكون، مما دل عليه القرآن الكريم، أو جاءت به السنة الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والله المسؤول أن يثبتنا وإياكم على دينه، وأن يعيذنا وسائر المسلمين من مضلات الفتن ونزغات الشيطان، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يجمع كلمتهم على الحق، وأن يوفق ولاة أمرهم ويصلح قادتهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه. (¬4) ¬

(¬1) النحل الآية (74). (¬2) سورة الإخلاص. (¬3) النجم الآيات (1 - 4). (¬4) مجموع الفتاوى (8/ 43 - 45).

- وقال رحمه الله ردا على سؤال في صفة النزول: هذا كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو القائل عليه الصلاة والسلام: «ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له، حتى ينفجر الفجر» متفق على صحته (¬1)، وقد بين العلماء أنه نزول يليق بالله وليس مثل نزولنا، لا يعلم كيفيته إلا هو سبحانه وتعالى، فهو ينزل كما يشاء، ولا يلزم من ذلك خلو العرش فهو نزول يليق به جل جلاله، والثلث يختلف في أنحاء الدنيا، وهذا شيء يختص به تعالى، لا يشابه خلقه في شيء من صفاته كما قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (¬2)، وقال جل وعلا: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)} (¬3)، وقال عز وجل في آية الكرسي: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} (¬4)، والآيات في هذا المعنى كثيرة. وهو سبحانه أعلم بكيفية نزوله، فعلينا أن نثبت النزول على الوجه الذي يليق بالله، ومع كونه استوى على العرش، فهو ينزل كما يليق به عز وجل ليس كنزولنا إذا نزل فلان من السطح خلا منه السطح، وإذا نزل من ¬

(¬1) تقدم من حديث أبي هريرة ضمن مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ). (¬2) الشورى الآية (11). (¬3) طه الآية (110). (¬4) البقرة الآية (255).

السيارة خلت منه السيارة، فهذا قياس فاسد له، لأنه سبحانه لا يقاس بخلقه، ولا يشبه خلقه في شيء من صفاته. كما أننا نقول استوى على العرش على الوجه الذي يليق به سبحانه ولا نعلم كيفية استوائه، فلا نشبهه بالخلق ولا نمثله، وإنما نقول: استوى استواء يليق بجلاله وعظمته. ولما خاض المتكلمون في هذا المقام بغير حق حصل لهم بذلك حيرة عظيمة حتى آل بهم الكلام إلى إنكار الله بالكلية حتى قالوا: لا داخل العالم ولا خارج العالم، ولا كذا ولا كذا، حتى وصفوه بصفات معناها العدم وإنكار وجوده سبحانه بالكلية؛ ولهذا ذهب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأهل السنة والجماعة تبعا لهم فأقروا بما جاءت به النصوص من الكتاب والسنة، وقالوا: لا يعلم كيفية صفاته إلا هو سبحانه، ومن هذا ما قاله مالك رحمه الله: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان بذلك واجب، والسؤال عنه بدعة) يعني: عن الكيفية. ومثل ذلك ما يروى عن أم سلمة رضي الله عنها وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك رحمه الله: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان بذلك واجب)، ومن التزم بهذا الأمر سلم من شبهات كثيرة، ومن اعتقادات لأهل الباطل كثيرة عديدة، وحسبنا أن نثبت ما جاء في النصوص، وأن لا نزيد على ذلك. وهكذا نقول: يسمع ويتكلم، ويبصر ويغضب، ويرضى على وجه يليق به سبحانه، ولا يعلم كيفية صفاته إلا هو. وهذا هو طريق السلامة وطريق النجاة وطريق العلم، وهو مذهب السلف الصالح، وهو المذهب الأسلم والأعلم والأحكم، وبذلك يسلم المؤمن

من شبهات المشبهين، وضلالات المضللين، ويعتصم بالسنة والكتاب المبين، ويرد علم الكيفية إلى ربه سبحانه وتعالى. والله سبحانه ولي التوفيق. (¬1) - وقال رحمه الله: من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم فضيلة الشيخ س. خ وفقه الله لما فيه رضاه آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فقد وصلني كتابكم الكريم الذي ذكرتم فيه أنكم أثناء تحقيقكم لكتاب 'فضائل الأوقات' للبيهقي مر عليكم هذا النص: (سمعت أبا عبد الله الحافظ يقول: سمعت أبا محمد أحمد بن عبد الله المزي يقول: حديث النزول (¬2) قد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجوه صحيحة، وورد في التنزيل ما يصدقه وهو قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} (¬3) والنزول والمجيء صفتان منفيتان عن الله من طريق الحركة والانتقال من حال إلى حال، بل هما صفتان من صفات الله بلا تشبيه جل عما يقول المعطلة لصفاته والمشبهة بها علوا كبيرا. اهـ ولا شك أن هذا القول باطل مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة، فإن الله سبحانه قد أثبت لنفسه المجيء، وكما أخبر عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالنزول ولم يبين لنا سبحانه ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - كيفية النزول ولا كيفية المجيء. فوجب الكف عن ذلك، كما وسع السلف الصالح رضي الله عنهم ذلك، ولم يزيدوا على ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (9/ 76 - 77). (¬2) تقدم من حديث أبي هريرة ضمن مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ). (¬3) الفجر الآية (22).

موقفه من الخوارج:

ما جاء في النصوص. فالواجب السير على منهاجهم ولزوم طريقهم في إثبات الصفات الواردة في الكتاب العزيز والسنة الصحيحة بلا كيف، مع الإيمان بأنه سبحانه لا كفو له ولا شبيه له ولا مثيل له كما قال عز وجل: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4)} (¬1)، {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} (¬2)، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (¬3). ومعلوم أن نفي الحركة والانتقال دخول في التكييف بغير علم، ونحن ممنوعون من ذلك لعدم علمنا بكيفية صفاته سبحانه، لأنه عز وجل لم يخبرنا بذلك ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل به والثبات على الحق والسلامة من مضلات الفتن إنه سميع قريب .. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. (¬4) موقفه من الخوارج: - قال رحمه الله: فالخوارج كَفَّروا بالمعاصي، وخَلَّدوا العصاة في النار، والمعتزلة وافقوهم في العاقبة، وأنهم في النار مخلدون فيها؛ ولكن قالوا: إنهم في الدنيا بمنزلة بين المنزلتين، وكله ضلال. والذي عليه أهل السنة -وهو الحق- أن العاصي لا يكفر بمعصيته ما لم يستحلها، فإذا زنا لا يكفر، وإذا سرق لا يكفر، وإذا شرب الخمر لا ¬

(¬1) الإخلاص الآية (4). (¬2) النحل الآية (74). (¬3) الشورى الآية (11). (¬4) مجموع الفتاوى (5/ 54 - 55).

يكفر، ولكن يكون عاصيا ضعيف الإيمان فاسقا تقام عليه الحدود، ولا يكفر بذلك إلا إذا استحل المعصية وقال: إنها حلال. وما قاله الخوارج في هذا باطل، وتكفيرهم للناس باطل، ولهذا قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ثم لا يعودون إليه، يقاتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان» (¬1). هذه حال الخوارج بسبب غلوهم وجهلهم وضلالهم، فلا يليق بالشباب ولا غير الشباب أن يقلدوا الخوارج والمعتزلة، بل يجب أن يسيروا على مذهب أهل السنة والجماعة على مقتضى الأدلة الشرعية، فيقفوا مع النصوص كما جاءت، وليس لهم الخروج على السلطان من أجل معصية أو معاص وقعت منه، بل عليهم المناصحة بالمكاتبة والمشافهة، بالطرق الطيبة الحكيمة، وبالجدال بالتي هي أحسن، حتى ينجحوا، وحتى يقل الشر أو يزول ويكثر الخير. (¬2) - قال في تعليقه على العقيدة الطحاوية: قوله: (ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب، ما لم يستحله): مراده رحمه الله: أن أهل السنة والجماعة لا يكفرون المسلم الموحد المؤمن بالله واليوم الآخر بذنب يرتكبه؛ كالزنا، وشرب الخمر، والربا وعقوق الوالدين وأمثال ذلك ما لم يستحل ذلك. فإن استحله كفر؛ لكونه بذلك مكذبا لله ولرسوله، خارجا عن دينه. أما إذا لم يستحل ذلك؛ فإنه لا يكفر عند أهل السنة والجماعة، بل يكون ضعيف ¬

(¬1) أخرجه أخرجه أحمد (3/ 68و73) والبخاري (8/ 84/4351) ومسلم (2/ 741 - 742/ 1064) وأبو داود (5/ 121 - 122/ 4764) والنسائي (5/ 92 - 93/ 2577). (¬2) مجموع الفتاوى (8/ 205).

موقفه من المرجئة:

الإيمان، وله حكم ما تعاطاه من المعاصي في التفسيق وإقامة الحدود وغير ذلك، حسبما جاء في الشرع المطهر. وهذا هو قول أهل السنة والجماعة خلافا للخواج والمعتزلة ومن سلك مسلكهم الباطل. فإن الخوارج يكفرون بالذنوب، والمعتزلة يجعلونه في منزلة بين المنزلتين، يعني: بين الإسلام والكفر في الدنيا، وأما في الآخرة فيتفقون مع الخوارج بأنه مخلد في النار. وقول الطائفتين باطل بالكتاب والسنة وإجماعة سلف الأمة. وقد التبس أمرهما على بعض الناس لقلة علمه، ولكن أمرهما بحمد الله واضح عند أهل الحق كما بينا وبالله التوفيق. (¬1) موقفه من المرجئة: - قال رحمه الله: ولهذا لما سئل - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان قال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره» (¬2) ففسر الإيمان بهذه الأمور الستة التي هي أصول الإيمان، وهي في نفسها أصول الدين كله، لأنه لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له، فالإيمان بهذه الأصول لا بد منه لصحة الإسلام لكن قد يكون كاملاً وقد يكون ناقصاً، ولهذا قال الله عز وجل في حق الأعراب: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} (¬3). فلما كان إيمانهم ليس بكامل، بل إيمان ناقص لم يستكمل واجبات ¬

(¬1) بهامش حاشية ابن عتيق (ص.52). (¬2) تقدم تخريجه ضمن مواقف محمد بن أسلم الطوسي سنة (242هـ). (¬3) الحجرات الآية (14).

الإيمان نفى عنهم الإيمان يعني به الكامل لأنه ينفى عمن ترك بعض الواجبات كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (¬1)، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره» (¬2) إلى غير ذلك، والمقصود أن الإيمان يقتضي العمل الظاهر، كما أن الإسلام بدون إيمان من عمل المنافقين، فالإيمان الكامل الواجب يقتضي فعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى عنه الله ورسوله، فإذا قصر في ذلك جاز أن ينفى عنه ذلك الإيمان بتقصيره كما نفي عن الأعراب بقوله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} (¬3) وكما نفي عمن ذكر في الأحاديث السابقة. والخلاصة أن الله سبحانه ورسوله نفيا الإيمان عن بعض من ترك بعض واجبات الإيمان وأثبتا له الإسلام، فهذه الأصول الستة هي أصول الدين كله، فمن أتى بها مع الأعمال الظاهرة صار مسلماً مؤمناً، ومن لم يأت بها فلا إسلام له ولا إيمان؛ كالمنافقين فإنهم لما أظهروا الإسلام وادعوا الإيمان وصلوا مع الناس وحجوا مع الناس وجاهدوا مع الناس إلى غير ذلك، ولكنهم في ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (3/ 176) والبخاري (1/ 78/13) ومسلم (1/ 67/45) والترمذي (4/ 575/2515) وابن ماجه (1/ 26/66) من حديث أنس (¬2) أخرجه: أحمد (2/ 267) والبخاري (10/ 651و652/ 6136و6138) ومسلم (1/ 68/47) وأبو داود (5/ 358/5154) والترمذي (4/ 569/2500) من حديث أبي هريرة. (¬3) الحجرات الآية (14).

الباطن ليسوا مع المسلمين بل هم في جانب والمسلمون في جانب، لأنهم مكذبون لله ورسوله، منكرون لما جاءت به الرسل في الباطن، متظاهرون بالإسلام لحظوظهم العاجلة ولمقاصد معروفة أكذبهم الله في ذلك، وصاروا كفاراً ضلالاً، بل صاروا أكفر وأشر ممن أعلن كفره، ولهذا صاروا في الدرك الأسفل من النار، وما ذاك إلا لأن خطرهم أعظم؛ لأن المسلم يظن أنهم إخوته وأنهم على دينه وربما أفشى إليهم بعض الأسرار، فضروا المسلمين وخانوهم، فصار كفرهم أشد وضررهم أعظم. وهكذا من ادعى الإيمان بهذه الأصول ثم لم يؤدِّ شرائع الإسلام الظاهرة، فلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أو لم يصل، أو لم يصم، أو لم يزك، أو لم يحج، أو ترك غير ذلك من شعائر الإسلام الظاهرة التي أوجبها الله عليه، فإن ذلك دليل على عدم إيمانه أو على ضعف إيمانه. فقد ينتفي الإيمان بالكلية كما ينتفي بترك الشهادتين إجماعاً، وقد لا ينتفي أصله ولكن ينتفي تمامه وكماله لعدم أدائه ذلك الواجب المعين كالصوم والحج مع الاستطاعة والزكاة ونحو ذلك من الأمور عند جمهور أهل العلم؛ فإنّ تركها فسق وضلال ولكن ليس ردة عن الإسلام عند أكثرهم إذا لم يجحد وجوبها. (¬1) - قال رحمه الله معلقا على قول الطحاوي: (والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان): هذا التعريف فيه نظر وقصور!! والصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة: أن الإيمان قول، وعمل، واعتقاد، يزيد بالطاعة، ¬

(¬1) مجموع فتاوى الشيخ ابن باز (1/ 160 - 162).

موقفه من القدرية:

وينقص بالمعصية. والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أكثر من أن تُحصر. وقد ذكر الشارح ابن أبي العز جملة منها، فراجعها إن شئت. وإخراج العمل من الإيمان هو قول المرجئة. وليس الخلاف بينهم وبين أهل السنة فيه لفظياً، بل هو لفظي ومعنوي. ويترتب عليه أحكام كثيرة، يعلمها من تدبر كلام أهل السنة وكلام المرجئة، والله المستعان. (¬1) موقفه من القدرية: له رسائل وفتاوى في العقيدة والدفاع عن حياضها، جمع بعض تلامذته كثيرا من ذلك، منها ما جمعه الشيخ عبد الله بن محمد بن أحمد الطيار في عدة أجزاء منها ثلاثة في العقيدة، عقد فيها بابا في القضاء والقدر (¬2)، بين فيه الشيخ ابن باز أهمية الإيمان بالقضاء والقدر وأنه الركن السادس من أركان الإيمان فقال: قد دل الكتاب العزيز والسنة الصحيحة وإجماع سلف الأمة: على وجوب الإيمان بالقدر خيره وشره، وأنه من أصول الإيمان الستة، التي لا يتم إسلام العبد ولا إيمانه إلا بها، كما دلت على ذلك آيات من القرآن الكريم وأحاديث صحيحة مستفيضة بل متواترة عن الرسول الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم. ومن ذلك قوله عز وجل: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَن اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} (¬3)، وقوله ¬

(¬1) العقيدة الطحاوية تعليق ابن باز (ص.60). (¬2) من (2/ 475) إلى (2/ 502). (¬3) الحج الآية (70).

تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)} (¬1)، وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (¬2). وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سأله جبرائيل عن الإيمان قال عليه الصلاة والسلام: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتابه، ولقائه، ورسله، وتؤمن بالبعث، وتؤمن بالقدر كله». قال: صدقت. الحديث. وهذا لفظ مسلم (¬3). وخرج مسلم في صحيحه من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جبرائيل عليه السلام سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان فأجابه بقوله: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» فقال له جبرائيل: صدقت (¬4). والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. وقد ذكر العلماء رحمهم الله أن الإيمان بالقدر يجمع أربعة أمور: الأمر الأول: الإيمان بأن الله سبحانه علم الأشياء كلها قبل وجودها بعلمه الأزلي، وعلم مقاديرها وأزمانها وآجال العباد وأرزاقهم وغير ذلك، كما قال ¬

(¬1) الحديد الآية (22). (¬2) القمر الآية (49). (¬3) أحمد (2/ 426) والبخاري (1/ 153/50) ومسلم (1/ 39/9) والنسائي (8/ 475 - 476/ 5006) وابن ماجه (1/ 25/64). وأخرجه أبو داود (5/ 74/4698) مختصرا. (¬4) تقدم تخريجه في مواقف يحيى بن يعمر سنة (89هـ).

سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)} (¬1)، وقال تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} (¬2)، وقال تعالى: {* وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)} (¬3)، والآيات في هذا المعنى كثيرة. الأمر الثاني من مراتب الإيمان بالقدر: كتابته سبحانه لجميع الأشياء من خير وشر وطاعة ومعصية وآجال وأرزاق وغير ذلك، كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَن اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} (¬4)، في آيات كثيرة سبق بعضها آنفا. وفي الصحيحين من حديث علي رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار» فقالوا: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل ¬

(¬1) العنكبوت الآية (62). (¬2) الطلاق الآية (12). (¬3) الأنعام الآية (59). (¬4) الحج الآية (70).

الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة» ثم قرأ رسول الله عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)} (¬1). (¬2)، وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة، ومنها حديث عبد الله بن مسعود المخرج في الصحيحين في ذكر خلق الجنين وأنه يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد (¬3). الأمر الثالث من مراتب الإيمان بالقدر: أنه سبحانه وتعالى لا يوجد في ملكه ما لا يريد، ولا يقع شيء في السماء والأرض إلا بمشيئته؛ كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} (¬4)، وقال تعالى: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)} (¬5)، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)} (¬6)، وقال تعالى: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)} (¬7)، وقال عز وجل: ¬

(¬1) الليل الآيتان (5و6). (¬2) تقدم تخريجه في مواقف عبد الرحمن بن ناصر السعدي سنة (1376هـ). (¬3) تقدم تخريجه في مواقف السلف من عمرو بن عبيد سنة (144هـ). (¬4) التكوير الآيتان (28و29). (¬5) المدثر الآيتان (55و56). (¬6) الأنعام الآية (137). (¬7) الأنعام الآية (39).

{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (¬1)، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا معلومة من كتاب الله. والإرادة في هذه الآية بمعنى المشيئة، وهي إرادة كونية قدرية بخلاف الإرادة في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} (¬2)، فالإرادة في هذه الآيات الثلاث إرادة شرعية أو دينية بمعنى المحبة. والفرق بين الإرادتين: الأولى لا يتخلف مرادها أبدا، بل ما أراده الله كونا فلابد من وقوعه، كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} (¬3). أما الإرادة الشرعية: فقد يوجد مرادها من بعض الناس، وقد يتخلف. وإيضاح ذلك أن الله سبحانه أخبر أنه يريد البيان للناس والهداية والتوبة، ومع ذلك أكثر الخلق لم يهتد ولم يوفق للتوبة، ولم يتبصر في الحق، لأنه سبحانه وتعالى قد أوضح الحجة والدليل وبين السبيل ¬

(¬1) الأنعام الآية (125). (¬2) النساء الآيات (26 - 28). (¬3) يس الآية (82).

وشرع أسباب التوبة وبينها، ولكنه لم يشأ لبعض الناس أن يهتدي أو يتوب أو يتبصر، فذلك لم يقع منه ما أراده الله شرعا، لما قد سبق في علم الله وإرادته الكونية من أن هذا الشخص المعين لا يكون من المهتدين، ولا ممن يوفق للتوبة. وهذا بحث عظيم ينبغي تفهمه وتعقله والتبصر في أدلته، ليسلم المؤمن من إشكالات كثيرة وشبهات مضلة، حار فيها الكثير من الناس لعدم تحقيقهم للفرق بين الإرادتين. ومما يزيد المقام بيانا: أن الإرادتين تجتمعان في حق المؤمن، فهو إنما آمن بمشيئة الله وإرادته الكونية، وهو في نفس الوقت قد وافق بإيمانه وعمله الإرادة الشرعية، وفعل ما أراده الله منه شرعا وأحبه منه، وتنفرد الإرادة الكونية في حق الكافر والعاصي، فهو إنما كفر وعصى بمشيئة الله وإرادته الكونية، وقد تخلفت عنه الإرادة الشرعية لكونه لم يأت بمرادها وهو الإسلام والطاعة، فتنبه وتأمل، والله الموفق. الأمر الرابع من مراتب الإيمان بالقدر: أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق الموجد لجميع الأشياء من ذوات وصفات وأفعال، فالجميع خلق الله سبحانه، وكل ذلك واقع بمشيئته وقدرته، فالعباد وأرزاقهم وطاعاتهم ومعاصيهم كلها خلق الله، وأفعالهم تنسب إليهم، فيستحقون الثواب على طيبها والعقاب على خبيثها، والعبد فاعل حقيقة وله مشيئة وله قدرة قد أعطاه الله إياها، والله سبحانه هو خالقه وخالق أفعاله وقدرته ومشيئته، كما قال

تعالى: {إِن اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} (¬1)، وقال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} (¬2)، فلا يخرج شيء من أفعال العباد ولا غيرهم عن قدرة الله ولا عن مشيئته، فعلم الله شامل، ومشيئته نافذة، وقدرته كاملة، لا يعجزه سبحانه شيء، ولا يفوته أحد، كما قال عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} (¬3). والعرش وما دونه من سماوات وأرضين وملائكة وبحار وأنهار وحيوان وغير ذلك من الموجودات، كلها وجدت بمشيئة الله وقدرته، لا خالق غيره ولا رب سواه ولا شريك له في ذلك كله، كما أنه لا شريك له في عبادته ولا في أسمائه وصفاته، كما قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} (¬4)، وقال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} (¬5)، وقال سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ ¬

(¬1) البقرة الآية (20). (¬2) التكوير الآيتان (28و29). (¬3) الطلاق الآية (12). (¬4) الزمر الآية (62). (¬5) البقرة الآية (163).

الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4)} (¬1)، وقال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (¬2). فالله سبحانه هو الخالق وما سواه مخلوق، وصفاته كذاته ليست مخلوقة، وكلامه من صفاته، والقرآن الكريم من كلامه المنزل على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فهو كلام الله عز وجل، منزل غير مخلوق بإجماع أهل السنة، وهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن سلك سبيلهم إلى يوم القيامة. وبما ذكرنا يتضح لطالب الحق أن مراتب القدر أربع، من آمن بها وأحصاها فقد آمن بالقدر خيره وشره. وقد ذكر العلماء هذه المراتب في كتب العقائد وأوضحوها بأدلتها؛ وممن ذكر ذلك باختصار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه 'العقيدة الواسطية'، وذكرها وأوسع فيها الكلام تلميذه المحقق العلامة الكبير أبو عبد الله ابن القيم في كتابه 'شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل'، وهو كتاب نفيس عظيم الفائدة نادر المثل أو معدومه، ننصح بقراءته والاستفادة منه. والله أسأل سبحانه أن يوفقنا جميعا للفقه في دينه والاستقامة عليه، وأن يهدينا وسائر المسلمين صراطه المستقيم، إنه جواد كريم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (¬3) ¬

(¬1) الإخلاص الآيات (1 - 4). (¬2) الشورى الآية (11). (¬3) مجموع فتاوى ابن باز (2/ 475 - 481).

محمد ناصر الدين الألباني (1420 هـ)

محمد ناصر الدين الألباني (¬1) (1420 هـ) الشيخ المحدث، علامة الشام أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين بن نوح نجاتي الألباني. ولد الشيخ في مدينة أشقودرة، عاصمة ألبانيا سنة أربع وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة الموافق لعام أربع عشرة وتسعمائة وألف ميلادي، في أسرة فقيرة متدينة يغلب عليها الطابع العلمي، وكان والده فقيها حنفيا من أهل العلم. وبعد تولي "أحمد زوغو" الحكم في ألبانيا حوّلها إلى بلاد علمانية، فقرر الشيخ نوح رحمه الله الهجرة بأسرته إلى بلاد الشام فرارا بدينه. قرأ الشيخ القرآن مجودا على والده وتلقى عليه بعض علوم اللغة وبعض كتب المذهب الحنفي، كما درس على الشيخ سعيد البرهاني 'مراقي الفلاح' في الفقه الحنفي و'شذور الذهب' في النحو، وأجازه الشيخ محمد راغب الطباخ بمروياته. وجذبه علم الحديث وتأثر به، وأول عمل حديثي قام به هو نسخ كتاب 'المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار' للحافظ العراقي. قام الشيخ بالدعوة إلى الله في دمشق، ورفع راية التوحيد والسنة، مستعينا في ذلك بالله ثم ببعض العلماء الدمشقيين أمثال العلامة محمد بهجة البيطار والشيخ عبد الفتاح الإمام والشيخ توفيق البزرة وغيرهم، فنصر السنة ونفض عنها غبار القرون، وأعلنها بكل قوة وجرأة، لا يخاف في الله لومة لائم. وما من أحد في العصر الحاضر له اشتغال في علم الحديث إلا وللألباني في عنقه منة، اعترف بها أو جحد. ¬

(¬1) 'مقالات الألباني' لنور الدين طالب (175 - 243) و'حياة الألباني وآثاره وثناء العلماء عليه' لتلميذه الشيباني.

قلت: العلامة الفحل شيخ السنة في عصره بدون منازع، عرفته بالمدينة النبوية وأنا في المعهد الثانوي وحضرت مجالسه العلمية ومناظراته القيمة، فما رأيت أحسن منه في علم المناظرة والدفاع عن السنة. كان له الفضل الكبير في نشر علم الحديث وإظهاره للناس بالطرق العلمية الصحيحة، وأحيا عمل السلف الصالح في العناية بالسنة والتمسك بالدليل، وأشاع في الأمة الإسلامية علم الجرح والتعديل والتصحيح والتضعيف الذي مات ذكره من زمان. تنور الشباب بكتبه، وأصبحت نموذجا عندهم، وأثار ذلك حفيظة الأعداء وحاولوا أن ينالوا منه بالقدح والثلب، ولكن كما قال القائل: كناطح صخرة يوما ليوهنها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل الإمام الألباني لم يعرف الملل والكلل في البحث العلمي، والدعوة إلى الكتاب والسنة، فكان النموذج الصالح لخدمة الكتاب والسنة، فكان موفقا في كل خطواته العلمية والدعوية. فرحمة الله عليه رحمة واسعة. أثنى عليه كبار علماء عصره، فقد قال فيه الشيخ ابن باز رحمه الله: لا أعلم تحت قبة الفلك أعلم بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الشيخ ناصر. وقال العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله: صاحب سنة ونصرة للحق ومصادمة لأهل الباطل. وقال فيه الشيخ حمود بن عبد الله التويجري رحمه الله: الألباني الآن علم على السنة، الطعن فيه إعانة على الطعن في السنة. وقال فيه الشيخ محب الدين الخطيب رحمه الله: من دعاة السنة الذين وقفوا حياتهم على العمل لإحيائها.

موقفه من المبتدعة:

توفي رحمة الله عليه بعد عصر يوم السبت لثمان بقين من جمادى الأولى سنة عشرين وأربعمائة وألف هجرية الموافق لعام تسع وتسعين وتسعمائة وألف ميلادي في عمان. موقفه من المبتدعة: - قال الشيخ رحمه الله وهو يتحدث عن مسألة التشهد في الصلاة: ولهذه المسألة ونحوها مما لا يمكن معرفة الصواب فيها إلا بالرجوع إلى ما كان عليه السلف الصالح، وبخاصة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم، نلح دائما في دروسنا ومحاضراتنا أنه لايكفي إذا دعونا الناس إلى العمل بالكتاب والسنة أن نقتصر على هذا فقط في الدعوة، بل لا بد من أن نضم إلى ذلك جملة: "على منهج السلف الصالح" أو نحوها، لقيام الأدلة الشرعية على ذلك، وهي مذكورة في غير هذا الموضع. لا بد من ذلك، وخصوصا في هذا العصر، حيث صارت الدعوة إلى الكتاب والسنة موضة العصر الحاضر، ودعوة كل الجماعات الإسلامية، والدعاة الإسلاميين -على ما بينهم من اختلافات أساسية أو فرعية- وقد يكون فيهم من هو من أعداء السنة عمليا، ومن يزعم أن الدعوة إليها يفرق الصف، عياذا بالله منهم. أسأل الله تعالى أن يحيينا على السنة وأن يميتنا عليها، متبعين لمن أثنى الله تبارك وتعالى عليهم بقوله: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ

الْعَظِيمُ (100)} (¬1). وأن يجعلنا ممن قال فيهم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} (¬2).اهـ (¬3) - وقال رحمه الله: ثم إن هناك وهما شائعا عند بعض المقلدين، يصدهم عن اتباع السنة التي تبين لهم أن المذاهب على خلافها، وهو ظنهم أن اتباع السنة يستلزم تخطئة صاحب المذهب، والتخطئة معناها عندهم الطعن في الإمام، ولما كان الطعن في فرد من أفراد المسلمين لا يجوز، فكيف في إمام من أئمتهم؟ والجواب: أن هذا المعنى باطل، وسببه الانصراف عن التفقه في السنة، وإلا فكيف يقول ذلك المعنى مسلم عاقل؟ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو القائل: «إذا حكم الحاكم، فاجتهد فأصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد» (¬4)، فهذا الحديث يرد ذلك المعنى، ويبين بوضوح لا غموض فيه أن قول القائل: "أخطأ فلان" معناه في الشرع: "أثيب فلان أجرا واحدا"، فإذا كان مأجورا في رأي من خطأه، فكيف يتوهم من تخطئته إياه الطعن فيه؟ لا شك أن هذا التوهم أمر باطل يجب على كل من قام به أن يرجع عنه، وإلا فهو الذي يطعن في المسلمين، وليس في فرد عادي منهم، بل في ¬

(¬1) التوبة الآية (100). (¬2) الحشر الآية (10). (¬3) مقدمة صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - (ص.25). (¬4) تقدم تخريجه في مواقف ابن حزم سنة (456هـ).

كبار أئمتهم، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة المجتهدين وغيرهم، فإننا نعلم يقينا أن هؤلاء الأجلة كان يخطئ بعضهم بعضا، ويرد بعضهم على بعض، أفيقول عاقل: إن بعضهم كان يطعن في بعض، بل لقد صح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطأ أبا بكر رضي الله عنه في تأويله لرؤيا كان رآها رجل، فقال - صلى الله عليه وسلم - له: «أصبت بعضا وأخطأت بعضا» (¬1)، فهل طعن - صلى الله عليه وسلم - في أبي بكر بهذه الكلمة؟. ومن عجيب تأثير هذا الوهم على أصحابه، أنه يصدهم عن اتباع السنة المخالفة لمذهبهم، لأن اتباعهم إياها معناه عندهم الطعن في الإمام، وأما اتباعهم إياه -ولو في خلاف السنة- فمعناه احترامه وتعظيمه، ولذلك فهم يصرون على تقليده فرارا من الطعن الموهوم. ولقد نسي هؤلاء -ولا أقول: تناسوا- أنهم بسبب هذا الوهم وقعوا فيما هو شر مما منه فروا، فإنه لو قال لهم قائل: إذا كان الاتباع يدل على احترام المتبوع، ومخالفته تدل على الطعن فيه، فكيف أجزتم لأنفسكم مخالفة سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وترك اتباعها إلى اتباع إمام المذهب في خلاف السنة، وهو غير معصوم، والطعن فيه ليس كفرا؟ فلئن كان عندكم مخالفة الإمام تعتبر طعنا فيه، فمخالفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أظهر في كونها طعنا فيه، بل ذلك هو الكفر بعينه -والعياذ بالله منه- لو قال لهم ذلك قائل، لم يستطيعوا عليه جوابا، اللهم، ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (1/ 236) والبخاري (12/ 534/7046) ومسلم (4/ 1777 - 1778/ 2269) وأبو داود (3/ 578 - 579/ 3268) والترمذي (4/ 470 - 471/ 2293) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وابن ماجه (2/ 1289 - 1290/ 3918). كلهم من طريق ابن شهاب أن عبيد الله بن عبد الله أخبره أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يحدث أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره.

إلا كلمة واحدة -طالما سمعناها من بعضهم- وهي قولهم، إنما تركنا السنة ثقة منا بإمام المذهب، وأنه أعلم بالسنة منا. وجوابنا على هذه الكلمة من وجوه يطول الكلام عليها في هذه المقدمة، ولذلك فإني أقتصر على وجه واحد منها، وهو جواب فاصل بإذن الله، فأقول: ليس إمام مذهبكم فقط هو أعلم منكم بالسنة، بل هناك عشرات -بل مئات- الأئمة هم أعلم أيضا منكم بالسنة، فإذا جاءت السنة الصحيحة على خلاف مذهبكم -وكان قد أخذ بها أحد من أولئك الأئمة- فالأخذ بها -والحالة هذه- حتم لازم عندكم، لأن كلمتكم المذكورة لا تنفق هنا، فإن مخالفكم سيقول لكم معارضا، إنما أخذنا بهذه السنة ثقة منا بالإمام الذي أخذ بها، فاتباعه أولى من اتباع الإمام الذي خالفها. وهذا بين لا يخفى على أحد إن شاء الله تعالى. (¬1) - ومن الشبه التي ردها رحمه الله قال: قال بعضهم: "لا شك أن الرجوع إلى هدي نبينا - صلى الله عليه وسلم - في شؤون ديننا أمر واجب، لا سيما فيما كان منها عبادة محضة لا مجال للرأي والاجتهاد فيها، لأنها توقيفية، كالصلاة مثلا، ولكننا لا نكاد نسمع أحدا من المشايخ المقلدين يأمر بذلك، بل نجدهم يقرون الاختلاف، ويزعمون أنه توسعة على الأمة، ويحتجون على ذلك بحديث -طالما كرروه في مثل هذه المناسبة رادين به على أنصار السنة- «اختلاف أمتي رحمة»، فيبدو لنا أن هذا الحديث يخالف المنهج الذي تدعو إليه، وألفت كتابك هذا وغيره عليه، فما قولك في هذا الحديث؟ ". ¬

(¬1) مقدمة صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - (70 - 72).

والجواب من وجهين: الأول: أن الحديث لا يصح، بل هو باطل لا أصل له، قال العلامة السبكي: "لم أقف له على سند صحيح، ولا ضعيف، ولا موضوع". قلت: وإنما روي بلفظ: «اختلاف أصحابي لكم رحمة». و «أصحابي كالنجوم، فبأيهم اقتديتم اهتديتم» (¬1). وكلاهما لا يصح: الأول واه جدا، والآخر موضوع، وقد حققت القول في ذلك كله في 'سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة' (رقم 58و59و61). الثاني: أن الحديث مع ضعفه مخالف للقرآن الكريم، فإن الآيات الواردة فيه -في النهي عن الاختلاف في الدين، والأمر بالاتفاق فيه- أشهر من أن تذكر، ولكن لا بأس من أن نسوق بعضها على سبيل المثال، قال الله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (¬2)، وقال: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)} (¬3)، وقال: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} (¬4)، فإذا كان من رحم ربك لا يختلفون، وإنما يختلف أهل ¬

(¬1) تقدم تخريجه في مواقف أبي عثمان الصابوني سنة (449هـ). (¬2) الأنفال الآية (46). (¬3) الروم الآيتان (31و32). (¬4) هود الآيتان (118و119).

الباطل، فكيف يعقل أن يكون الاختلاف رحمة؟ فثبت أن هذا الحديث لا يصح، لا سندا ولا متنا، وحينئذ يتبين بوضوح أنه لا يجوز اتخاذه شبهة للتوقف عن العمل بالكتاب والسنة الذي أمر به الأئمة. (¬1) - وقال رحمه الله تعقيبا على حديث: «إن من المؤمنين من يلين لي قلبه» (¬2): ومعنى (يلين لي قلبه) أي يسكن ويميل إلي بالمودة والمحبة. والله أعلم. وليس ذلك إلا بإخلاص الاتباع له - صلى الله عليه وسلم - دون سواه من البشر، لأن الله تعالى جعل ذلك وحده دليلا على حبه عز وجل، فقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (¬3). أفلم يأن للذين يزعمون حبه - صلى الله عليه وسلم - في أحاديثهم وأناشيدهم، أن يرجعوا إلى التمسك بهذا الحب الصادق الموصل إلى حب الله تعالى، ولا يكونوا كالذي قال فيه الشاعر: تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمرك في القياس بديع لوكان حبك صادقا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع (¬4) ¬

(¬1) مقدمة صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - (58 - 60). (¬2) أحمد (5/ 267) والطبراني في الكبير (8/ 103/7499). وذكره الهيثمي في المجمع (1/ 63) وقال: "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح". وفي المجمع أيضا (10/ 276) وقال: "رواه الطبراني ورجاله وثقوا". (¬3) آل عمران الآية (31). (¬4) الصحيحة (3/ 87/1095)

موقفه من المشركين:

موقفه من المشركين: - قال رحمه الله في فقه حديث: «أجعلتني مع الله عدلا» (¬1): وفي هذه الأحاديث أن قول الرجل لغيره: "ما شاء الله وشئت" يعد شركا في الشريعة، وهو من شرك الألفاظ، لأنه يوهم أن مشيئة العبد في درجة مشيئة الرب سبحانه وتعالى، وسببه القرن بين المشيئتين، ومثل ذلك قول بعض العامة وأشباههم ممن يدعي العلم: "ما لي غير الله وأنت"، و"توكلنا على الله وعليك"، ومثله قول بعض المحاضرين: "باسم الله والوطن"، أو "باسم الله والشعب"، ونحو ذلك من الألفاظ الشركية التي يجب الانتهاء عنها والتوبة منها، أدبا مع الله تبارك وتعالى. ولقد غفل عن هذا الأدب الكريم كثير من العامة، وغير قليل من الخاصة الذين يسوغون النطق بمثل هذه الشركيات، كمناداتهم غير الله في الشدائد، والاستنجاد بالأموات من الصالحين، والحلف بهم من دون الله تعالى، والإقسام بهم على الله عز وجل، فإذا ما أنكر ذلك عليهم عالم بالكتاب والسنة، فإنهم بدل أن يكونوا معه عونا على إنكار المنكر، عادوا بالإنكار عليه، وقالوا: إن نية أولئك المنادين غير الله طيبة، وإنما الأعمال ¬

(¬1) أحمد (1/ 214) والبخاري في الأدب المفرد (783) والنسائي في الكبرى (6/ 245/10825) وابن ماجه (1/ 684/2117) وليس فيه: أجعلتني مع الله عدلا. من طريق الأجلح عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس مرفوعا. قال البوصيري في الزوائد: "في إسناده الأجلح بن عبد الله، مختلف فيه". وضعفه الإمام أحمد وأبو حاتم والنسائي وأبو داود وابن سعد. ووثقه ابن معين ويعقوب بن سفيان والعجلي. وباقي رجال الإسناد ثقات. وقال ابن حجر في التقريب: "صدوق شيعي". والحديث حسن إسناده الشيخ الألباني في الصحيحة (139).

بالنيات كما جاء في الحديث (¬1). فيجهلون أو يتجاهلون -إرضاء للعامة- أن النية الطيبة وإن وجدت عند المذكورين، فهي لا تجعل العمل السيء صالحا، وأن معنى الحديث المذكور إنما الأعمال الصالحة بالنيات الخالصة، لا أن الأعمال المخالفة للشريعة تنقلب إلى أعمال صالحة مشروعة بسبب اقتران النية الصالحة بها، ذلك ما لا يقوله إلا جاهل أو مغرض، ألا ترى أن رجلا لو صلى تجاه القبر، لكان ذلك منكرا من العمل، لمخالفته للأحاديث والآثار الواردة في النهي عن استقبال القبر بالصلاة، فهل يقول عاقل: إن الذي يعود إلى الاستقبال -بعد علمه بنهي الشرع عنه- إن نيته طيبة وعمله مشروع؟ كلا ثم كلا، فكذلك هؤلاء الذين يستغيثون بغير الله تعالى، وينسونه تعالى في حالة هم أحوج ما يكونون فيها إلى عونه ومدده، لا يعقل أن تكون نياتهم طيبة، فضلا عن أن يكون عملهم صالحا، وهم يصرون على هذا المنكر وهم يعلمون. (¬2) - وقال رحمه الله تحت حديث: «لا مهدي إلا عيسى»: وهذا الحديث تستغله الطائفة القاديانية في الدعوة لنبيهم المزعوم، ميرزا غلام أحمد القادياني الذي ادعى النبوة، ثم ادعى أنه هو عيسى بن مريم المبشر بنزوله في آخر الزمان، وأنه لا مهدي إلا عيسى بناء على هذا الحديث المنكر، وقد راجت دعواه على كثيرين من ذوي الأحلام الضعيفة، شأن كل دعوة باطلة لا تعدم ¬

(¬1) أحمد (1/ 25) والبخاري (1/ 11/1) ومسلم (3/ 1515 - 1516/ 1907) وأبو داود (2/ 651 - 652/ 2201) والترمذي (4/ 154/1647) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (1/ 62 - 63/ 75) وابن ماجه (2/ 1413/4227) من حديث عمر. (¬2) الصحيحة (1/ 266 - 267/ 139).

من يتبناها ويدعو إليها. (¬1) - وقال رحمه الله: لا يجوز في الشرع أن يقال: فلان خليفة الله. لما فيه من إيهام ما لا يليق بالله تعالى من النقص والعجز، وقد بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فقال في الفتاوى (¬2): وقد ظن بعض القائلين الغالطين كابن عربي، أن الخليفة هو الخليفة عن الله، مثل نائب الله، والله تعالى لا يجوز له خليفة، ولهذا قالوا لأبي بكر: يا خليفة الله، فقال: "لست بخليفة الله، ولكن خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حسبي ذلك"، بل هو سبحانه يكون خليفة لغيره، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا، واخلفنا في أهلنا» (¬3). وذلك لأن الله حي شهيد مهيمن قيوم رقيب حفيظ غني عن العالمين، ليس له شريك ولا ظهير، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، والخليفة إنما يكون عند عدم المستخلف بموت أو غيبة، ويكون لحاجة المستخلف، وسمي خليفة لأنه خلف عن الغزو وهو قائم خلفه، وكل هذه المعاني منتفية في حق الله تعالى، وهو منزه عنها، فإنه حي قيوم شهيد لا يموت ولا يغيب ... ولا يجوز أن يكون أحد خلفا منه، ولا يقوم مقامه، إنه لا سمي له ولا كفء، فمن جعل له خليفة فهو مشرك به. (¬4) ¬

(¬1) الضعيفة (1/ 176). (¬2) (2/ 461). (¬3) أحمد (2/ 144) والترمذي (5/ 468/3447) من حديث ابن عمر. وأصله في صحيح مسلم (2/ 978/1342). وفي الباب عن عبد الله بن سرجس. (¬4) الضعيفة (1/ 197 - 198/ 85).

- قال رحمه الله تعليقا على حديث: «إن الله عز وجل لما قضى خلقه استلقى .. » (¬1): الحديث يستشم منه رائحة اليهودية الذين يزعمون أن الله تبارك وتعالى بعد أن فرغ من خلق السموات والأرض استراح، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وهذا المعنى يكاد يكون صريحا في الحديث فإن الاستلقاء لا يكون إلا من أجل الراحة، سبحانه وتعالى عن ذلك. وأنا أعتقد أن أصل هذا الحديث من الإسرائيليات وقد رأيت في كلام أبي نصر الغازي أنه روي عن كعب الأحبار، فهذا يؤيد ما ذكرته، وذكر أبو نصر أيضا أنه روي موقوفا عن عبد الله بن عباس وكعب بن عجرة، فكأنهما تلقياه -إن صح عنهما- عن كعب كما هو الشأن في كثير من الإسرائيليات، ثم وهم بعض الرواة فرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) - وقال رحمه الله تعالى تعقيبا على حديث: «الرقى والتمائم والتولة شرك» (¬3): (الرقى): هي هنا كل ما فيه الاستعاذة بالجن، أو لا يفهم معناها، مثل كتابة بعض المشايخ من العجم على كتابهم لفظة (ياكبيكج) لحفظ الكتب من الأرضة زعموا. و (التمائم): جمع تميمة، وأصلها خرزات تعلقها العرب على رأس الولد ¬

(¬1) رواه الطبراني (19/ 13/18) والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 198 - 199/ 761) من طريق عبيد بن حنين عن قتادة بن النعمان رضي الله عنه. وقال: "هذا حديث منكر ولم أكتبه إلا من هذا الوجه ... ". وذكره الهيثمي في المجمع (8/ 100) وقال: "رواه الطبراني عن مشايخ ثلاثة جعفر بن سليمان النوفلي وأحمد بن رشدين المصري وأحمد ابن داود المكي فأحمد بن رشدين ضعيف، والاثنان لم أعرفهما، وبقية رجاله رجال الصحيح". والحديث أورده في الضعيفة (2/ 177 - 180/ 755) وتكلم عليه بكلام نفيس، فانظره هناك. (¬2) الضعيفة (2/ 178/755). (¬3) تقدم تخريجه ضمن مواقف عبد الله بن مسعود سنة (32هـ).

لدفع العين، ثم توسعوا فيها، فسموا بها كل عوذة. قلت: ومن ذلك تعليق بعضهم نعل الفرس على باب الدار، أو في صدر المكان، وتعليق بعض السائقين نعلا في مقدمة السيارة أو مؤخرتها، أو الخرز الأزرق على مرآة السيارة التي تكون أمام السائق من الداخل، كل ذلك من أجل العين زعموا. وهل يدخل في (التمائم) الحجب التي يعلقها بعض الناس على أولادهم أو على أنفسهم إذا كانت من القرآن أو الأدعية الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ للسلف في ذلك قولان، أرجحهما عندي المنع، كما بينته فيما علقته على 'الكلم الطيب' لشيخ الإسلام ابن تيمية (رقم التعليق 34). و (التولة): بكسر التاء وفتح الواو: ما يحبب المرأة إلى زوجها من السحر وغيره، قال ابن الأثير: (جعله من الشرك لاعتقادهم أن ذلك يؤثر ويفعل خلاف ما قدره الله تعالى). (¬1) وقال رحمه الله: فائدة: (التميمة): خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم، يتقون بها العين في زعمهم، فأبطلها الإسلام، كما في 'النهاية' لابن الأثير. قلت: ولا تزال هذه الضلالة فاشية بين البدو والفلاحين وبعض المدنيين، ومثلها الخرزات التي يضعها بعض السائقين أمامهم في السيارة يعلقونها على المرآة، وبعضهم يعلق نعلا عتيقة، في مقدمة السيارة أو في مؤخرتها، وغيرهم يعلقون نعل فرس في واجهة الدار أو الدكان، كل ذلك ¬

(¬1) الصحيحة (1/ 649 - 650/ 331).

لدفع العين زعموا، وغير ذلك مما عم وطم بسبب الجهل بالتوحيد، وما ينافيه من الشركيات والوثنيات التي ما بعثت الرسل ولا أنزلت الكتب إلا من أجل إبطالها والقضاء عليها، فإلى الله المشتكى من جهل المسلمين اليوم، وبعدهم عن الدين. ولم يقف الأمر ببعضهم عند مجرد المخالفة، بل تعداه إلى التقرب بها إلى الله تعالى، فهذا الشيخ الجزولي صاحب 'دلائل الخيرات' يقول في الحزب السابع في يوم الأحد (ص.111 طبع بولاق): "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، ما سجعت الحمائم، وحمت الحوائم، وسرحت البهائم، ونفعت التمائم". وتأويل الشارح لـ 'الدلائل' بأن "التمائم جمع تميمة، وهي الورقة التي يكتب فيها شيء من الأسماء أو الآيات، وتعلق على الرأس مثلا للتبرك" فمما لا يصح، لأن التمائم عند الإطلاق إنما هي الخرزات، كما سبق عن ابن الأثير، على أنه لو سلم بهذا التأويل، فلا دليل في الشرع على أن التميمة بهذا المعنى تنفع، ولذلك جاء عن بعض السلف كراهة ذلك. (¬1) - وقال رحمه الله تعقيبا على حديث: «النشرة من عمل الشيطان» (¬2): و (النشرة): الرقية. قال الخطابي: "النشرة: ضرب من الرقية والعلاج، يعالج به ¬

(¬1) الصحيحة (1/ 890/492). (¬2) أحمد (3/ 294) وعنه أبو داود (4/ 201/3868) من حديث جابر بن عبد الله وحسن إسناده ابن حجر في الفتح (10/ 286) وتعقبه الشيخ الألباني بقوله: "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين، غير عقيل بن معقل وهو ابن منبه اليماني، وهو ثقة اتفاقا، فقول الحافظ فيه "صدوق" وبناء عليه اقتصر في الفتح على تحسين إسناده في هذا الحديث، فهو تقصير لا وجه له عندي" الصحيحة (6/ 612).

من كان يظن به مس الجن". قلت: يعني الرقى غير المشروعة، وهي ما ليس من القرآن والسنة الصحيحة وهي التي جاء إطلاق لفظ الشرك عليها في غير ما حديث، وقد تقدم بعضها، فانظر مثلا: (331و1066)، وقد يكون الشرك مضمرا في بعض الكلمات المجهولة المعنى، أو مرموزا له بأحرف مقطعة، كما يرى في بعض الحجب الصادرة من بعض الدجاجلة، وعلى الرقى المشروعة يحمل ما علقه البخاري عن قتادة قال: قلت لسعيد بن المسيب: رجل به طب (أي سحر) أو يؤخذ عن امرأته، أيحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه. ووصله الحافظ في الفتح (10/ 233) من رواية الأثرم وغيره من طرق عن قتادة عنه. ورواية قتادة أخرجها ابن أبي شيبة (8/ 28) بسند صحيح عنه مختصرا. هذا ولا خلاف عندي بين الأثرين، فأثر الحسن يحمل على الاستعانة بالجن والشياطين والوسائل المرضية لهم كالذبح لهم ونحوه، وهو المراد بالحديث، وأثر سعيد على الاستعانة بالرقى والتعاويذ المشروعة بالكتاب والسنة. وإلى هذا مال البيهقي في 'السنن'، وهو المراد بما ذكره الحافظ عن الإمام أحمد أنه سئل عمن يطلق السحر عن المسحور؟ فقال: "لا بأس به". وأما قول الحافظ: "ويختلف الحكم بالقصد، فمن قصد بها خيرا، وإلا فهو شر". قلت: هذا لا يكفي في التفريق، لأنه قد يجتمع قصد الخير مع كون

الوسيلة إليه شر، كما قيل في المرأة الفاجرة: . . . . . . . . . . . ... ليتها لم تزن ولم تتصدق ومن هذا القبيل معالجة بعض المتظاهرين بالصلاح للناس بما يسمونه بـ (الطب الروحاني) سواء كان ذلك على الطريقة القديمة من اتصاله بقرينه من الجن كما كانوا عليه في الجاهلية، أو بطريقة ما يسمى اليوم باستحضار الأرواح، ونحوه عندي التنويم المغناطيسي، فإن ذلك كله من الوسائل التي لا تشرع، لأن مرجعها إلى الاستعانة بالجن التي كانت من أسباب ضلال المشركين كما جاء في القرآن الكريم: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)} (¬1) أي خوفا وإثما. وادعاء بعض المبتلين بالاستعانة بهم أنهم إنما يستعينون بالصالحين منهم، دعوى كاذبة لأنهم مما لا يمكن -عادة- مخالطتهم ومعاشرتهم، التي تكشف عن صلاحهم أو طلاحهم، ونحن نعلم بالتجربة أن كثيرا ممن تصاحبهم أشد المصاحبة من الإنس، يتبين لك أنهم لا يصلحون، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِن مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} (¬2) هذا في الإنس الظاهر، فما بالك بالجن الذين قال الله تعالى فيهم: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ ¬

(¬1) الجن الآية (6). (¬2) التغابن الآية (14).

وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} (¬1).اهـ (¬2) - وقال رحمه الله تعليقا على حديث: «من لقي الله لا يشرك به شيئا، يصلي الصلوات الخمس، ويصوم رمضان غفر له ... » (¬3): وفي هذا الحديث دلالة ظاهرة على أن المسلم لا يستحق مغفرة الله إلا إذا لقي الله عز وجل ولم يشرك به شيئا، ذلك لأن الشرك أكبر الكبائر كما هو معروف في الأحاديث الصحيحة. ومن هنا يظهر لنا ضلال أولئك الذين يعيشون معنا، ويصلون صلاتنا، ويصومون صيامنا، و ... ولكنهم يواقعون أنواعا من الشركيات والوثنيات، كالاستغاثة بالموتى من الأولياء والصالحين ودعائهم في الشدائد من دون الله، والذبح لهم والنذر لهم، ويظنون أنهم بذلك يقربونهم إلى الله زلفى، هيهات هيهات. {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)} (¬4). فعلى كل من كان مبتلى بشيء من ذلك من إخواننا المسلمين أن يبادروا فيتوبوا إلى رب العالمين، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالعلم النافع المستقى من الكتاب والسنة. وهو مبثوث في كتب علمائنا رحمهم الله تعالى، وبخاصة منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، ومن نحا نحوهم، وسار سبيلهم. ولا يصدنهم عن ذلك بعض من يوحي إليهم من الموسوسين ¬

(¬1) الأعراف الآية (27). (¬2) الصحيحة (6/ 613 - 615/ 2760). (¬3) أحمد (5/ 232) وصحح إسناده الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة (رقم 1315). (¬4) ص الآية (27).

بأن هذه الشركيات إنما هي قربات وتوسلات، فإن شأنهم في ذلك شأن من أخبر عنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن يستحلون بعض المحرمات بقوله: «يسمونها بغير اسمها» (¬1) ... هذه نصيحة أوجهها إلى من يهمه أمر آخرته من إخواننا المسلمين المضللين، قبل أن يأتي يوم يحق فيه قول رب العالمين في بعض عباده الأبعدين: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} (¬2).اهـ (¬3) - وقال رحمه الله: واعلم أن من أذناب هؤلاء الضلال في القول بانتهاء عذاب الكفار الطائفة القاديانية، بل هم قد زادوا في ذلك على إخوانهم الضلال، فذهبوا إلى أن مصير الكفار إلى الجنة، نص على ذلك ابن دجالهم الأكبر محمود بشير بن غلام أحمد في كتاب 'الدعوة الأحمدية'. فمن شاء التأكد من ذلك فليراجعها فإني لم أطلها الآن. (¬4) - وقال رحمه الله: طائفة القاديانية اليوم الذين أنكروا بطريق التأويل كثيرا من الحقائق الشرعية المجمع عليها بين الأمة، كقولهم ببقاء النبوة بعد النبي ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (5/ 342) وأبو داود (4/ 91/3688) وابن ماجه (2/ 1333/4020) وابن حبان (15/ 160 - 161/ 6758) عن معاوية بن صالح قال: حدثني حاتم بن حريث عن مالك بن أبي مريم قال: دخل علينا عبد الرحمن بن غنم، فتذاكرنا الطلاء، فقال: حدثني أبو مالك الأشعري، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها». وعلقه البخاري في صحيحه (10/ 63/5590) دون ذكر محل الشاهد، وبوب عليه: (ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه). وللحديث شواهد كثيرة عن جمع من الصحابة: عن عائشة وأبي أمامة وعبادة بن الصامت وغيرهم. وقد صحح بعضها الشيخ الألباني (انظر الصحيحة 90و91و414). (¬2) الفرقان الآية (23). (¬3) الصحيحة (3/ 301 - 302/ 1315). (¬4) الضعيفة (2/ 73/607).

- صلى الله عليه وسلم - متأسين في ذلك بنبيهم ميرزا غلام أحمد، ومن قبله ابن عربي في 'الفتوحات المكية'، وتأولوا قوله تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (¬1) بأن المعنى زينة النبيين وليس آخرهم! وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا نبي بعدي» (¬2) بقولهم: أي معي! وأنكروا وجود الجن مع تردد ذكرهم في القرآن الكريم، فضلا عن السنة وتنوع صفاتهم فيهما، وزعموا أنهم طائفة من البشر! إلى غير ذلك من ضلالاتهم، وكلها من بركات التأويل الذي أخذ به الخلف في آية الاستواء وغيرها من آيات الصفات. (¬3) - وقال رحمه الله تعالى تعقيبا على الحديث الموضوع في توسل آدم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - (¬4): هذا وإن من الآثار السيئة التي تركتها هذه الأحاديث الضعيفة في التوسل، أنها صرفت كثيرا من الأمة عن التوسل المشروع إلى التوسل المبتدع، ذلك لأن العلماء متفقون -فيما أعلم- على استحباب التوسل إلى ¬

(¬1) الأحزاب الآية (40). (¬2) أحمد (1/ 182 - 183) والبخاري (8/ 141/4416) ومسلم (4/ 1870/2404) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. (¬3) مختصر العلو (ص.32). (¬4) أخرجه الحاكم (2/ 615) وعنه البيهقي في الدلائل (5/ 488 - 489) والطبراني في الأوسط (7/ 259/6498) وفي الصغير (2/ 355/971) كلهم من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب مرفوعا. قال الحاكم: "صحيح الإسناد وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وتعقبه الذهبي بقوله: بل هو موضوع، وعبد الرحمن واه". وقال البيهقي: "تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف". قال الهيثمي في المجمع (8/ 253): "وفيه من لم أعرفهم". وقال ابن تيمية في القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة من مجموع الفتاوى (1/ 254 - 255): "ورواية الحاكم لهذا الحديث مما أنكر عليه، فإنه نفسه قد قال في كتابه 'المدخل إلى معرفة الصحيح من السقيم' عبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة، لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه". انظر الضعيفة للشيخ الألباني (25).

الله تعالى باسم من أسمائه، أو صفة من صفاته تعالى، وعلى توسل المتوسل إليه تعالى بعمل صالح قدمه إليه عز وجل. ومهما قيل في التوسل المبتدع، فإنه لا يخرج عن كونه أمرا مختلفا فيه، فلو أن الناس أنصفوا لانصرفوا عنه، احتياطا، وعملا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (¬1) إلى العمل بما أشرنا إليه من التوسل المشروع، ولكنهم -مع الأسف- أعرضوا عن هذا، وتمسكوا بالتوسل المختلف فيه كأنه من الأمور اللازمة التي لا بد منها، ولازموها ملازمتهم للفرائض، فإنك لا تكاد تسمع شيخا أو عالما يدعو بدعاء يوم الجمعة وغيره إلا ضمنه التوسل المبتدع، وعلى العكس من ذلك، فإنك لا تكاد تسمع أحدهم يتوسل بالتوسل المستحب، كأن يقول مثلا: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، المنان، يا بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي، يا قيوم، إني أسألك ... مع أن فيه الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، كما قال - صلى الله عليه وسلم - فيما صح عنه (¬2). فهل سمعت أيها القارئ الكريم أحدا يتوسل بهذا أو بغيره مما في معناه؟ ¬

(¬1) أحمد (1/ 200) والترمذي (4/ 576 - 577/ 2518) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (8/ 732/5727) وابن حبان (2/ 498/722 الإحسان) والحاكم (2/ 13) من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما، وصححه ووافقه الذهبي. (¬2) أخرجه أحمد (3/ 158و245) وأبو داود (2/ 167 - 168/ 1495) والترمذي (5/ 514/3544) والنسائي (3/ 59 - 60/ 1299) وابن ماجة (2/ 1268/3858) من حديث أنس. وصححه ابن حبان (3/ 175/893) والحاكم (1/ 503 - 504) ووافقه الذهبي.

أما أنا فأقول آسفا: إنني لم أسمع ذلك، وأظن أن جوابك سيكون كذلك، فما السبب في هذا؟ ذلك هو من آثار انتشار الأحاديث الضعيفة بين الناس، وجهلهم بالسنة الصحيحة، فعليكم بها أيها المسلمون علما وعملا، تهتدوا وتعزوا. وبعد طبع ما تقدم اطلعت على رسالة في جواز التوسل المبتدع لأحد مشايخ الشمال المتهورين، متخمة بالتناقض الدال على الجهل البالغ، وبالضلال والأباطيل والتأويلات الباطلة والافتراء على العلماء، بل الإجماع. مثل تجويز الاستغاثة بالموتى، والنذر لهم، وزعمه أن توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية متلازمان، وغير ذلك مما لا يقول به عالم مسلم. (¬1) - وقال رحمه الله تعقيبا على حديث: «توسلوا بجاهي، فإن جاهي عند الله عظيم» (¬2): لا أصل له. وقد نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في 'القاعدة الجليلة'. ومما لا شك فيه أن جاهه - صلى الله عليه وسلم - ومقامه عند الله عظيم، فقد وصف الله تعالى موسى بقوله: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)} (¬3)، ومن المعلوم أن نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - أفضل من موسى، فهو بلا شك أوجه منه عند ربه سبحانه وتعالى، ولكن هذا شيء، والتوسل بجاهه - صلى الله عليه وسلم - شيء آخر، فلا يليق الخلط بينهما كما يفعل بعضهم، إذ إن التوسل بجاهه - صلى الله عليه وسلم - يقصد به من يفعله أنه ¬

(¬1) الضعيفة (1/ 94 - 95/ 25). (¬2) ذكره شيخ الإسلام في القاعدة الجليلة (ص.129) وقال: "هذا الحديث كذب ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث، ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث". (¬3) الأحزاب الآية (69).

أرجى لقبول دعائه، وهذا أمر لا يمكن معرفته بالعقل، إذ إنه من الأمور الغيبية التي لا مجال للعقل في إدراكها، فلا بد فيه من النقل الصحيح الذي تقوم به الحجة، وهذا مما لا سبيل إليه البتة، فإن الأحاديث الواردة في التوسل به - صلى الله عليه وسلم - تنقسم إلى قسمين: صحيح، وضعيف. أما الصحيح: فلا دليل فيه البتة على المدعى، مثل توسلهم به - صلى الله عليه وسلم - في الاستسقاء (¬1)، وتوسل الأعمى به - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، فإنه توسل بدعائه - صلى الله عليه وسلم -، لا بجاهه ولا بذاته - صلى الله عليه وسلم -، ولما كان التوسل بدعائه - صلى الله عليه وسلم - بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى غير ممكن، كان بالتالي التوسل به - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته غير ممكن، وغير جائز. ومما يدلك على هذا أن الصحابة رضي الله عنهم لما استسقوا في زمن عمر، توسلوا بعمه - صلى الله عليه وسلم - العباس، ولم يتوسلوا به - صلى الله عليه وسلم -، وما ذلك إلا لأنهم يعلمون معنى التوسل المشروع، وهو ما ذكرناه من التوسل بدعائه - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك توسلوا بعده - صلى الله عليه وسلم - بدعاء عمه، لأنه ممكن ومشروع، وكذلك لم ينقل أن أحدا من العميان توسل بدعاء ذلك الأعمى، ذلك لأن السر ليس في قول ¬

(¬1) أحمد (3/ 271) والبخاري (2/ 636 - 637/ 1013) ومسلم (2/ 612 - 613/ 897) وأبو داود (1/ 693 - 694/ 1174) والنسائي (3/ 177 - 178/ 1514) من حديث أنس. (¬2) أحمد (4/ 138) والترمذي (5/ 531/3578) وابن ماجه (1/ 441/1385) والنسائي في الكبرى (6/ 169/10495) عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن عثمان بن حنيف: أن رجلا ضرير البصر أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ادع الله لي أن يعافيني، فقال: «إن شئت أخرت لك وهو خير، وإن شئت دعوت» فقال: ادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بمحمد نبي الرحمة، يا محمد إني قد توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفعه في». وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، من حديث أبي جعفر وهو الخطمي". وصححه الحاكم (1/ 313) وقال: "على شرط الشيخين" ووافقه الذهبي.

الأعمى: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة ... "، وإنما السر الأكبر في دعائه - صلى الله عليه وسلم - له كما يقتضيه وعده - صلى الله عليه وسلم - إياه بالدعاء له، ويشعر به قوله في دعائه: "اللهم فشفعه في"، أي: اقبل شفاعته - صلى الله عليه وسلم -، أي: دعاءه في. "وشفعني فيه"، أي: اقبل شفاعتي. أي: دعائي في قبول دعائه - صلى الله عليه وسلم - في. فموضوع الحديث كله يدور حول الدعاء، كما يتضح للقارئ الكريم بهذا الشرح الموجز، فلا علاقة للحديث بالتوسل المبتدع، ولهذا أنكره الإمام أبو حنيفة، فقال: "أكره أن يسأل الله إلا بالله"، كما في 'الدر المختار'، وغيره من كتب الحنفية. وأما قول الكوثري في 'مقالاته' (ص.381): "وتوسل الإمام الشافعي بأبي حنيفة مذكور في أوائل تاريخ الخطيب بسند صحيح". فمن مبالغاته، بل مغالطاته، فإنه يشير بذلك إلى ما أخرجه الخطيب (1/ 123) من طريق عمر بن إسحاق بن إبراهيم قال: نبأنا علي بن ميمون قال: سمعت الشافعي يقول: "إني لأتبرك بأبي حنيفة، وأجيء إلى قبره في كل يوم -يعني زائرا- فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين، وجئت إلى قبره، وسألت الله تعالى الحاجة عنده، فما تبعد عني حتى تقضى". فهذه رواية ضعيفة، بل باطلة، فإن عمر بن إسحاق بن إبراهيم غير معروف، وليس له ذكر في شيء من كتب الرجال، ويحتمل أن يكون هو "عمرو -بفتح العين- ابن إسحاق بن إبراهيم بن حميد بن السكن أبو محمد التونسي"، وقد ترجمه الخطيب (12/ 226)، وذكر أنه بخاري قدم بغداد حاجا سنة (341)، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، فهو مجهول الحال،

ويبعد أن يكون هو هذا، إذ إن وفاة شيخه علي بن ميمون سنة (247) على أكثر الأقوال، فبين وفاتيهما نحو مائة سنة، فيبعد أن يكون قد أدركه. وعلى كل حال، فهي رواية ضعيفة لا يقوم على صحتها دليل، وقد ذكر شيخ الإسلام في 'اقتضاء الصراط المستقيم' معنى هذه الرواية، ثم أثبت بطلانها، فقال (ص.165): هذا كذب معلوم كذبه بالاضطرار عند من له معرفة بالنقل، فالشافعي لما قدم بغداد لم يكن ببغداد قبر ينتاب للدعاء عنده البتة، بل ولم يكن هذا على عهد الشافعي معروفا، وقد رأى الشافعي بالحجاز واليمن والشام والعراق ومصر من قبور الأنبياء والصحابة والتابعين من كان أصحابها عنده وعند المسلمين أفضل من أبي حنيفة وأمثاله من العلماء، فما باله لم يتوخ الدعاء إلا عنده؟ ثم إن أصحاب أبي حنيفة الذين أدركوه مثل أبي يوسف، ومحمد، وزفر، والحسن بن زياد، وطبقتهم، لم يكونوا يتحرون الدعاء، لا عند أبي حنيفة، ولا غيره، ثم قد تقدم عن الشافعي ما هو ثابت في كتابه من كراهة تعظيم قبور المخلوقين، خشية الفتنة بها، وإنما يضع مثل هذه الحكايات من يقل علمه ودينه، وإما أن يكون المنقول من هذه الحكايات عن مجهول لا يعرف". وأما القسم الثاني من أحاديث التوسل، فهي أحاديث ضعيفة، تدل بظاهرها على التوسل المبتدع، فيحسن بهذه المناسبة التحذير منها، والتنبيه عليها. (¬1) ¬

(¬1) الضعيفة (1/ 76 - 79/ 22).

- وقال رحمه الله: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «استغاثوا بآدم» (¬1)، أي: طلبوا منه عليه السلام أن يدعو لهم، ويشفع لهم عند الله تبارك وتعالى. والأحاديث بهذا المعنى كثيرة معروفة في الصحيحين وغيرهما. وليس فيه جواز الاستغاثة بالأموات، كما يتوهم كثير من المبتدعة الأموات. بل هو من باب الاستغاثة بالحي فيما يقدر عليه، كما في قوله تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (¬2) الآية. ومن الواضح البين أنه لا يجوز -مثلا- أن يقول الحي القادر للمقيد العاجز: أعني. فالميت الذي يستغاث به من دونه تعالى أعجز منه، فمن خالف، فهو إما أحمق مهبول، أو مشرك مخذول، لأنه يعتقد في ميته أنه سميع بصير، وعلى كل شيء قدير، وهنا تكمن الخطورة، لأنه الشرك الأكبر، وهو الذي يخشاه أهل التوحيد على هؤلاء المستغيثين بالأموات من دون الله تبارك وتعالى، وهو القائل: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ ¬

(¬1) البخاري (3/ 431/1474 - 1475) ومسلم (2/ 720/1040 (104)) مختصرا بدون لفظ: « .. استغاثوا بآدم ... » من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم». وقال: «إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن. فبينا هم كذلك استغاثوا بآدم، ثم بموسى، ثم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -». وزاد عبد الله: حدثني الليث حدثني ابن أبي جعفر «فيشفع ليقضى بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب. فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم». (¬2) القصص الآية (15).

موقفه من الرافضة:

لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} (¬1)، وقال: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)} (¬2).اهـ (¬3) موقفه من الرافضة: - قال رحمه الله عقب إيراده أحاديث سبب نزول قول الله تعالى: {* يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)} (¬4): واعلم أن الشيعة يزعمون -خلافا للأحاديث المتقدمة- أن الآية المذكورة نزلت يوم غدير (خم) في علي رضي الله عنه، ويذكرون في ذلك روايات عديدة مراسيل ومعاضيل أكثرها، ومنها عن أبي سعيد الخدري، ولا يصح عنه كما حققته في 'الضعيفة (4922) '، والروايات الأخرى أشار إليها عبد الحسين الشيعي في 'مراجعاته (ص.38) ' دون أي تحقيق في أسانيدها كما هي عادته في كل أحاديث كتابه، لأن غايته حشد ¬

(¬1) الأعراف الآيتان (194و195). (¬2) فاطر الآيتان (13و14). (¬3) الصحيحة (5/ 191/2460). (¬4) المائدة الآية (67).

كل ما يشهد لمذهبه، سواء صح أم لم يصح على قاعدتهم: "الغاية تبرر الوسيلة"، فكن منه ومن رواياته على حذر، وليس هذا فقط، بل هو يدلس على القراء -إن لم أقل يكذب عليهم- فإنه قال في المكان المشار إليه في تخريج [حديث] أبي سعيد هذا المنكر، بل الباطل: "أخرجه غير واحد من أصحاب السنن، كالإمام الواحدي ... ". ووجه كذبه أن المبتدئين في هذا العلم يعلمون أن الواحدي ليس من أصحاب السنن الأربعة، وإنما هو مفسر، يروي بأسانيده ما صح وما لم يصح، وحديث أبي سعيد هذا مما لم يصح، فقد أخرجه من طريق فيه متروك شديد الضعف؛ كما هو مبين في المكان المشار إليه من 'الضعيفة'. وهذه من عادة الشيعة قديما وحديثا؛ أنهم يستحلون الكذب على أهل السنة، عملا في كتبهم وخطبهم، بعد أن صرحوا باستحلالهم للتقية، كما صرح بذلك الخميني في كتابه 'كشف الأسرار (ص.147 - 148) '، وليس يخفى على أحد أن التقية أخت الكذب، ولذلك قال أعرف الناس بهم؛ شيخ الإسلام ابن تيمية: "الشيعة أكذب الطوائف". وأنا شخصيا قد لمست كذبهم لمس اليد في بعض مؤلفيهم، وبخاصة عبد الحسين هذا، والشاهد بين يديك، فإنه فوق كذبته المذكورة، أوهم القراء أن الحديث عند أهل السنة من المسلمات بسكوته عن علته، وادعائه كثرة طرقه، فقد كان أصرح منه في الكذب الخميني؛ فإنه صرح في الكتاب المذكور (ص.149) أن آية العصمة نزلت يوم غديرخم بشأن إمامة علي بن أبي طالب

باعتراف أهل السنة واتفاق الشيعة، كذا قال عامله الله بما يستحق. (¬1) - وقال رحمه الله تحت حديث: «إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا، كتاب الله، وعترتي أهل بيتي» (¬2): واعلم أيها القارئ الكريم أن من المعروف أن الحديث مما يحتج به الشيعة، يلهجون بذلك كثيرا، حتى يتوهم بعض أهل السنة أنهم مصيبون في ذلك، وهم جميعا واهمون في ذلك، وبيانه من وجهين: الأول: أن المراد من الحديث في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «عترتي» أكثر مما يريده الشيعة، ولا يرده أهل السنة، بل هم مستمسكون به، ألا وهو أن العترة فيه هم أهل بيته - صلى الله عليه وسلم -، وقد جاء موضحا في بعض طرقه، كحديث الترجمة «وعترتي أهل بيتي» وأهل بيته في الأصل هم نساؤه - صلى الله عليه وسلم -، وفيهن الصديقة عائشة رضي الله عنهن جميعا، كما هو صريح قوله تعالى في الأحزاب: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)} (¬3) بدليل الآية التي قبلها والتي بعدها {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ ¬

(¬1) الصحيحة (5/ 645 - 646). (¬2) الترمذي (5/ 621/3786) والطبراني (3/ 63/2680) عن جابر بن عبد الله. وقال الترمذي: "حديث حسن غريب من هذا الوجه". (¬3) الأحزاب الآية (33).

لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)} (¬1)، وتخصيص الشيعة أهل البيت في الآية بعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم دون نسائه - صلى الله عليه وسلم - من تحريفهم لآيات الله تعالى انتصارا لأهوائهم، كما هو مشروح في موضعه، وحديث الكساء وما في معناه غاية ما فيه توسيع دلالة الآية، ودخول علي وأهله فيها كما بينه الحافظ ابن كثير وغيره، وكذلك حديث العترة قد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المقصود أهل بيته - صلى الله عليه وسلم - بالمعنى الشامل لزوجاته وعلي وأهله. ولذلك قال التوربشتي كما في المرقاة (5/ 600): "عترة الرجل أهل بيته ورهطه الأدنون، ولاستعمالهم العترة على أنحاء كثيرة، بينها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «أهل بيتي» ليعلم أنه أراد بذلك نسله وعصابته الأدنين وأزواجه". والوجه الآخر: أن المقصود من أهل البيت إنما هم العلماء الصالحون منهم، والمتسمكون بالكتاب والسنة. قال الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله تعالى: "العترة هم أهل بيته - صلى الله عليه وسلم - الذين هم على دينه وعلى التمسك بأمره" وذكر نحوه الشيخ علي القاري في الموضع المشار إليه آنفا. ثم استظهر أن الوجه في تخصيص أهل البيت بالذكر ما أفاده بقوله: "إن أهل البيت غالبا يكونون أعرف بصاحب البيت وأحواله، فالمراد بهم أهل العلم منهم المطلعون على سيرته، الواقفون على طريقته العارفون بحكمه وحكمته، وبهذا يصلح أن يكون ¬

(¬1) الأحزاب الآيات (32 - 34).

موقفه من الصوفية:

مقابلا لكتاب الله سبحانه، كما قال: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (¬1) قلت: ومثله قوله تعالى في خطاب أزواجه - صلى الله عليه وسلم - في آية التطهير المتقدمة: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} فتبين أن المراد بأهل البيت المتمسكون منهم بسنته - صلى الله عليه وسلم - فتكون هي المقصودة بالذات في الحديث. (¬2) - وقال رحمه الله: ثم إن روح التشيع واضح من الحديث (¬3)، فإن من الثابت عند أهل السنة أن فضل الخلفاء الأربعة على ترتيبهم المعروف، فأفضلهم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم أجمعين، وهذا التفضيل، ثابت عن علي نفسه، بل وفي زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا لا يعدلون بأبي بكر أحدا كما في البخاري وغيره، فكيف يمكن أن يقول: "وعلي سيد العرب"، فلا شك أن هذا من وضع الشيعة. ونحن نشم رائحة التشيع من هذا الغماري وإخوته من كتاباتهم، حتى إن أحدهم ألف رسالة خاصة في توثيق الحارث الأعور الشيعي، والله المستعان. (¬4) موقفه من الصوفية: - قال رحمه الله: وأما قول العامة وكثير من الخاصة: الله موجود في كل مكان، أو في كل الوجود، ويعنون بذاته، فهو ضلال بل هو مأخوذ من القول بوحدة الوجود، الذي يقول به غلاة الصوفية الذين لا يفرقون بين الخالق والمخلوق ¬

(¬1) الجمعة الآية (2). (¬2) الصحيحة (4/ 359 - 360). (¬3) أي حديث «أنا سيد ولد آدم، وعلي سيد العرب». (¬4) بداية السول (ص.28).

ويقول كبيرهم: كل ما تراه بعينك فهو الله! تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. (¬1) - وقال رحمه الله تعقيبا على ما أثر عن عمر رضي الله عنه من قوله يا سارية الجبل: "ومما لا شك فيه، أن النداء المذكور إنما كان إلهاما من الله تعالى لعمر، وليس ذلك بغريب عنه، فإنه "محدث" كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، ولكن ليس فيه أن عمر كشف له حال الجيش، وأنه رآهم رأي العين، فاستدلال بعض المتصوفة بذلك على ما يزعمونه من الكشف للأولياء، وعلى إمكان اطلاعهم على ما في القلوب من أبطل الباطل، كيف لا وذلك من صفات رب العالمين، المنفرد بعلم الغيب والاطلاع على ما في الصدور. وليت شعري كيف يزعم هؤلاء ذلك الزعم الباطل والله عز وجل يقول في كتابه: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (¬3). فهل يعتقدون أن أولئك الأولياء رسل من رسل الله حتى يصح أن يقال إنهم يطلعون على الغيب بإطلاع الله إياهم، سبحانك هذا بهتان عظيم. (¬4) - وقال رحمه الله: إذا عرفت ما سبق بيانه أن حب الله لا ينال إلا باتباع نبيه - صلى الله عليه وسلم - فاحرص إذا على اتباع سنته كل الحرص، وأنفق في سبيل ذلك كل جهاد ونفس، ولا تغتر بما عليه بعض الضالين المغرورين، من المتصوفة واللاهين، الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا، ونشيدا ونغما، يزعمون ¬

(¬1) الصحيحة (3/ 38/1046). (¬2) تقدم تخريجه قريبا. (¬3) الجن الآيتان (26و27). (¬4) الصحيحة (3/ 102/1110).

أنهم بذلك يرضون محمدا - صلى الله عليه وسلم -، بما يسمونه بالأناشيد الدينية، ويكثرون منها في أذكارهم واجتماعاتهم التي يعقدونها في بعض الأعياد البدعية، كعيد المولد ونحوه، فإنهم -والله- لفي ضلال مبين، وعن الحق متنكبين، كيف لا وهم قد خلطوا الدين الحق باللهو الباطل، وقلدوا المغنين الماجنين، في موازينهم وأنغامهم الموسيقية، ويلتزمون في كل ذلك طرائقهم المميتة للقلوب، الصادة عن ذكر الله وتلاوة القرآن، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» (¬1) لا سيما وأنهم قد يضيفون إلى ذلك بعض الآلات الموسيقية، أو التصفيق بالأكف لتتم المشابهة بين الفريقين، ولذلك تذيعها بعض الإذاعات الأجنبية، فضلا عن الإذاعات العربية، إرضاء للناس باسم الذكر أو الأناشيد الدينية ومن المؤسف أن بعض الإذاعات الإسلامية بدأت تحذو حذوها. والله المستعان. وقد بلغني أن بعض محطات الرائي (التلفزيون) عرضت شيئا من هذا على أنه الإسلام الذي يدعو إليه من سمتهم بالمسلمين الحنفاء. وإن نسيت فلن أنسى أنني حضرت قديما في مركز لبعض الجماعات ¬

(¬1) البخاري (13/ 612/7527) من طريق أبي عاصم عن ابن جريج عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا. قال الدارقطني في الإلزامات والتتبع (ص127 - 128): "وهذا يقال إن أبا عاصم وهم فيه. والصواب ما رواه الزهري ومحمد بن إبراهيم ويحيى بن أبي كثير ومحمد بن عمرو وغيرهم عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما أذن الله لشيء أذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به». وقول أبي عاصم وهم وقد رواه عقيل ويونس وعمرو بن الحارث وعمرو بن دينار وعمرو بن عطية وإسحاق بن راشد ومعمر وغيرهم عن الزهري بخلاف ما رواه أبو عاصم عن ابن جريج. وقال أبو بكر النيسابوري: قول أبي عاصم فيه: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن»، وهم من أبي عاصم لكثرة من رواه عنه هكذا". وتابعه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (1/ 395) على توهيم رواية أبي عاصم النبيل. والحديث أخرجه: أحمد (1/ 175) وأبو داود (2/ 155 - 156/ 1469) والحاكم (1/ 569) وصححه، ووافقه الذهبي .. وابن حبان (1/ 326 - 327/ 120 الإحسان) عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عبد الله بن أبي نهيك عن سعد بن أبي وقاص.

الإسلامية، وإذا بي أفاجأ بسماع صوت تلحين للأذان بآلة موسيقية فسألت عن الخبر؟ فقيل: هؤلاء بعض الشباب المسلم من بعض البلاد العربية نزلوا ضيوفا على الجماعة، وأحدهم يسمعهم الأذان ملحنا تلحينا موسيقيا، وهذا مما نسمعه اليوم من بعض الإذاعات الإسلامية كثيرا وما أحسن ما قاله ابن القيم رحمه الله بهذه المناسبة في 'إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان' (¬1): برئنا إلى الله من معشر ... بهم مرض من سماع الغنا وكم قلت: يا قوم أنتم على ... شفا جرف ما به من بنا شفا جرف تحت هوة ... إلى درك كم به من عنا وتكرار في النصح منا لهم ... لنعذر فيهم إلى ربنا فلما استهانوا بتنبيهنا ... رجعنا إلى الله في أمرنا فعشنا على سنة المصطفى ... وماتوا على تنتنا تنتنا (¬2) - وقال رحمه الله تحت حديث: «حسبي من سؤالي علمه بحالي»: لا أصل له. أورده بعضهم من قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهو من الإسرائيليات، ولا أصل له في المرفوع، وقد ذكره البغوي في تفسير سورة الأنبياء مشيرا لضعفه، فقال: "روي عن كعب الأحبار أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ... لما رموا به في المنجنيق إلى النار استقبله جبريل، فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا. قال جبريل: فسل ربك. فقال إبراهيم: حسبي من سؤالي علمه بحالي". ¬

(¬1) (1/ 226). (¬2) بداية السول في تفضيل الرسول (ص.9 - 11).

وقد أخذ هذا المعنى بعض من صنف في الحكمة على طريقة الصوفية، فقال: "سؤالك منه -يعني الله تعالى- اتهام له". وهذه ضلالة كبرى فهل كان الأنبياء صلوات الله عليهم متهمين لربهم حين سألوه مختلف الأسئلة؟ فهذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام يقول: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا} (¬1) إلى آخر الآيات، وكلها أدعية، وأدعية الأنبياء في الكتاب والسنة لا تكاد تحصى، والقائل المشار إليه قد غفل عن كون الدعاء الذي هو تضرع والتجاء إلى الله تعالى عبادة عظيمة، بغض النظر عن ماهية الحاجة المسؤولة، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «الدعاء هو العبادة». ثم تلا قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} (¬2). (¬3) اهـ (¬4) - وقال رحمه الله تحت حديث: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم ¬

(¬1) إبراهيم الآيتان (37و38). (¬2) غافر الآية (60). (¬3) أحمد (4/ 267) وأبو داود (2/ 161/1479) والترمذي (5/ 194 - 195/ 2969) وقال: "حديث حسن صحيح". والنسائي في الكبرى (6/ 450/11464) وابن ماجه (2/ 1258/3828) وابن حبان (3/ 172/890) والحاكم (1/ 490 - 491) وصححه، ووافقه الذهبي. عن النعمان بن بشير. (¬4) الضعيفة (1/ 74 - 75/ 21).

موقفه من الجهمية:

اهتديتم» (¬1): وأما قول الشعراني في الميزان (1/ 28): "وهذا الحديث، وإن كان فيه مقال عند المحدثين، فهو صحيح عند أهل الكشف"، فباطل وهراء لا يلتفت إليه، ذلك لأن تصحيح الأحاديث من طريق الكشف بدعة صوفية مقيتة، والاعتماد عليها يؤدي إلى تصحيح أحاديث باطلة لا أصل لها، كهذا الحديث، لأن الكشف أحسن أحواله -إن صح- أن يكون كالرأي، وهو يخطىء ويصيب، وهذا إن لم يداخله الهوى، نسأل الله السلامة منه، ومن كل ما لا يرضيه. (¬2) موقفه من الجهمية: - قال رحمه الله في معرض كلامه على حديث: «الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» (¬3): فائدة: قوله في هذا الحديث: "في": هو بمعنى "على" كما في قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} (¬4)، فالحديث من الأدلة الكثيرة على أن الله تعالى فوق المخلوقات كلها، وفي ذلك ألف الحافظ الذهبي كتابه 'العلو للعلي العظيم'، وقد انتهيت من اختصاره قريبا، ووضعت له مقدمة ضافية، وخرجت أحاديثه وآثاره، ونزهته من الأخبار الواهية. وقد يسر الله طبعه، ¬

(¬1) ابن عبد البر في الجامع (2/ 925) وابن حزم في الإحكام (6/ 82) عن جابر مرفوعا. قال ابن عبد البر: "هذا إسناد لا تقوم به حجة". وقال ابن حزم: "هذه رواية ساقطة". وانظر الضعيفة للشيخ الألباني رحمه الله (58). (¬2) الضعيفة (1/ 144 - 145/ 58). (¬3) أحمد (2/ 160) وأبو داود (5/ 231/4941) والترمذي (4/ 285/1924) وقال: "حسن صحيح". والحاكم (4/ 159) وصححه ووافقه الذهبي. (¬4) الأنعام الآية (11).

والحمد لله. (¬1) - وقال رحمه الله: وهذا إنما يجري على قاعدة الخلف وعلماء الكلام في تأويل أحاديث الصفات، خلافا لطريقة السلف رضي الله عنهم، كما خالفوهم في تأويل أحاديث نزول الله تعالى إلى السماء الدنيا بأن المعنى نزول رحمته. وهذا كله مخالف لما كان عليه السلف من تفسير النصوص على ظاهرها دون تأويل أو تشبيه كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (¬2)، فنزوله نزول حقيقي يليق بجلاله لا يشبه نزول المخلوقين، وكذلك دنوه عز وجل دنو حقيقي يليق بعظمته، وخاص بعباده المتقربين إليه بطاعته، ووقوفهم بعرفة تلبية لدعوته عز وجل. فهذا هو مذهب السلف في النزول والدنو، فكن على علم بذلك حتى لا تنحرف مع المنحرفين عن مذهبهم. وتجد تفصيل هذا الإجمال وتحقيق القول فيه في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وبخاصة منها مجموعة الفتاوى. فراجع مثلا (ج5/ 464 - 478). وقد أورد الحديث على الصواب فيها (ص.373)، واستدل به على نزوله تعالى بذاته عشية عرفة، وبحديث جابر المشار إليه آنفا. (¬3) - وقال رحمه الله: العجب غير الضحك، فهما صفتان لله عز وجل عند أهل السنة خلافا للأشاعرة، فإنهم لا يعتقدونهما، بل يتأولونهما بمعنى الرضا. (¬4) ¬

(¬1) الصحيحة (2/ 596/925). (¬2) الشورى الآية (11). (¬3) الصحيحة (6/ 108/2551). (¬4) الصحيحة (6/ 738/2810) بتصرف.

- وقال رحمه الله تعليقا على حديث ضحك الله تعالى للمؤمنين يوم القيامة (¬1): واعلم أن هذا الحديث -كغيره من أحاديث الصفات- يجب إمراره على ظاهره دون تعطيل، أو تشبيه، كما هو مذهب السلف، وليس مذهبهم التفويض كما يزعم الكوثري وأمثاله من المعطلة، كما شرحه ابن تيمية في رسالته 'التدمرية' وغيرها، والتفويض بزعمهم إمرار النصوص بدون فهم مع الإيمان بألفاظها، ولازم ذلك نسبة الجهل إلى السلف بأعز شيء لديهم وأقدسه عندهم وهو أسماء الله وصفاته. ومن عرف هذا علم خطورة ما ينسبونه إليهم. والله المستعان. وراجع لهذا مقدمتي لكتابي 'مختصر العلو للذهبي'، يسر الله طبعه، ثم طبع والحمد لله. (¬2) - وقال رحمه الله تعليقا على حديث البطاقة (¬3): وفي الحديث دليل على أن ميزان الأعمال له كفتان مشاهدتان، وأن الأعمال وإن كانت أعراضا فإنها توزن، والله على كل شيء قدير، وذلك من عقائد أهل السنة، والأحاديث في ذلك متضافرة إن لم تكن متواترة. (¬4) - وقال رحمه الله: الميزان يوم القيامة حق ثابت وله كفتان، وهو من عقائد أهل السنة، خلافا للمعتزلة وأتباعهم في العصر الحاضر ممن لا يعتقد ما ¬

(¬1) تقدم تخريجه من حديث جابر. انظر مواقف الحسين البغوي الإمام المفسر سنة (516هـ). (¬2) الصحيحة (2/ 385/756). (¬3) أحمد (2/ 213) والترمذي (5/ 25/2639) وقال: "حسن غريب". وابن ماجه (2/ 1437/4300) والحاكم (1/ 6) وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي. (¬4) الصحيحة (1/ 263/135).

ثبت من العقائد في الأحاديث الصحيحة، بزعم أنها أخبار آحاد لا تفيد اليقين، وقد بينت بطلان هذا الزعم في كتابي 'مع الأستاذ الطنطاوي' يسر الله إتمامه. (¬1) - قال رحمه الله تحت حديث: «إن هذه الأمة تبتلى في قبورها» (¬2): من فوائد الحديث: إثبات عذاب القبر، والأحاديث في ذلك متواترة، فلا مجال للشك فيه بزعم أنها آحاد، ولو سلمنا أنها آحاد، فيجب الأخذ بها، لأن القرآن يشهد لها، قال تعالى: {وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} (¬3). ولو سلمنا أنه لا يوجد في القرآن ما يشهد لها، فهي وحدها كافية لإثبات هذه العقيدة، والزعم بأن العقيدة لا تثبت بما صح من أحاديث الآحاد زعم باطل دخيل في الإسلام، لم يقل به أحد من الأئمة الأعلام -كالأربعة وغيرهم-، بل هو مما جاء به بعض علماء الكلام بدون برهان من الله ولا سلطان، وقد كتبنا فصلا خاصا في هذا الموضوع الخطير في كتاب لنا، أرجو أن أوفق لتبييضه ونشره على الناس (¬4).اهـ (¬5) ¬

(¬1) الصحيحة (1/ 260/134). (¬2) أحمد (5/ 190) مختصرا ومسلم (4/ 2199 - 2200/ 2867) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه. (¬3) غافر الآيتان (45و46). (¬4) وقد يسر الله طبعه ونشره. تحت عنوان: 'الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام'. (¬5) الصحيحة (1/ 295 - 296/ 159).

- وقال رحمه الله: لقد وضح من كلام الجويني رحمه الله تعالى السبب الذي حمل الخلف -إلا من شاء الله- على مخالفة السلف في تفسير آية (الاستواء)، وهو أنهم فهموا منه -خطأ كما قلنا- استواء لا يليق إلا بالمخلوق، وهذا تشبيه، فنفوه بتأويلهم إياه بالاستيلاء. ومن الغريب حقا أن الذي فروا منه بالتأويل، قد وقعوا به فيما هو أشر منه بكثير، ويمكن حصر ذلك بالأمور الآتية: الأول: التعطيل، وهو إنكار صفة علو الله على خلقه علوا حقيقيا يليق به تعالى. وهو بين في كلام الإمام الجويني. الثاني: نسبة الشريك لله في خلقه يضاده في أمره، فإن الاستيلاء لغة لا يكون إلا بعد المغالبة كما ستراه في ترجمة الإمام اللغوي ابن الأعرابي، فقد جاء فيها: أن رجلا قال أمامه مفسرا الاستواء معناه: استولى. فقال له الإمام: "اسكت، العرب لا تقول للرجل: استولى على الشيء، حتى يكون له فيه مضاد، فأيهما غلب قيل: استولى. والله تعالى لا مضاد له". وسنده عنه صحيح ... واحتج به العلامة نفطويه النحوي في "الرد على الجهمية" ... فنسأل المتأولة: من هو المضاد لله تعالى حتى تمكن الله تعالى من التغلب عليه والاستيلاء على ملكه منه؟ وهذا إلزام لا مخلص لهم منه إلا برفضهم لتأويلهم، ورجوعهم إلى تفسير السلف، ولما تنبه لهذا بعض متكلميهم جاء بباقعة أخرى، وذلك أنه تأول "الاستيلاء" الذي هو عندهم المراد من "الاستواء" بأنه استيلاء مجرد عن معنى المغالبة.

قلت: وهذا مع كونه مخالفا للغة كما سبق عن ابن الأعرابي، فإن أحسن ما يمكن أن يقال فيه: إنه تأويل للتأويل، وليت شعري ما الذي دخل بهم إلى هذه المآزق، أليس كان الأولى بهم أن يقولوا: استعلى استعلاء مجردا عن المشابهة. هذا لو كان الاستعلاء لغة يستلزم المشابهة، فكيف وهي غير لازمة؟ لأن الاستواء في القرآن فضلا عن اللغة قد جاء منسوبا إلى الله تعالى، كما في آيات الاستواء على العرش. وقد مضى بعضها كما جاء منسوبا إلى غيره سبحانه كما قال في سفينة نوح: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} (¬1) وفي النبات: {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} (¬2)، فاستواء السفينة غير استواء النبات. وكذلك استواء الإنسان على ظهر الدابة، واستواء الطير على رأس الإنسان واستواؤه على السطح، فكل هذا استواء، ولكن استواء كل شيء بحسبه، تشترك في اللفظ، وتختلف في الحقيقة، فاستواء الله تعالى هو استواء واستعلاء يليق به تعالى ليس كمثله شيء. وأما الاستيلاء فلم يأت إطلاقه على الله تعالى مطلقا إلا على ألسنة المتكلمين، فتأمل ما صنع الكلام بأهله، لقد زين لهم أن يصفوا الله بشيء هو من طبيعة المخلوق واختصاصه، ولم يرضوا أن يصفوه بالاستعلاء الذي لا يماثله شيء وقد قال به السلف، فلا عجب بعد ذلك أن اجتمعوا على ذم الكلام وأهله. (¬3) ¬

(¬1) هود الآية (44). (¬2) الفتح الآية (29). (¬3) مختصر العلو للعلي الغفار (30 - 31).

موقفه من الخوارج:

موقفه من الخوارج: قال رحمه الله تعليقا على حديث أبي موسى الأشعري: «أبشروا وبشروا الناس، من قال لا إله إلا الله صادقا بها دخل الجنة» (¬1): هذا وقد اختلفوا في تأويل حديث الباب وما في معناه من تحريم النار على من قال لا إله إلا الله، على أقوال كثيرة، ذكر بعضها المنذري في الترغيب (2/ 238)، وترى سائرها في الفتح. والذي تطمئن إليه النفس وينشرح له الصدر، وبه تجتمع الأدلة، ولا تتعارض، أن تحمل على أحوال ثلاثة: الأولى: من قام بلوازم الشهادتين من التزام الفرائض والابتعاد عن الحرمات، فالحديث حينئذ على ظاهره، فهو يدخل الجنة وتحرم عليه النار مطلقا. الثانية: أن يموت عليها، وقد قام بالأركان الخمسة، ولكنه ربما تهاون ببعض الواجبات، وارتكب بعض المحرمات، فهذا ممن يدخل في مشيئة الله ويغفر له كما في الحديث الآتي بعد هذا وغيره من الأحاديث المكفرات المعروفة. الثالثة: كالذي قبله، ولكنه لم يقم بحقها، ولم تحجزه عن محارم الله كما في حديث أبي ذر المتفق عليه: «وإن زنى وإن سرق ... » (¬2) الحديث، ثم ¬

(¬1) أحمد (4/ 402) والطبراني في الكبير كما في المجمع (1/ 16). قال الهيثمي: "رجاله ثقات". وصححه الألباني على شرط مسلم (الصحيحة 712). وللحديث شواهد منها حديث زيد بن خالد الجهني مرفوعا عند النسائي في الكبرى (6/ 273/10949). قال الشيخ الألباني: "وسنده حسن في الشواهد". (انظر الصحيحة 712). (¬2) أحمد (5/ 166) والبخاري (11/ 317 - 318/ 6444) ومسلم (1/ 94/94) والترمذي (5/ 27/2644) والنسائي في الكبرى (6/ 275/10958 - 10962).

هو إلى ذلك لم يعمل من الأعمال ما يستحق به مغفرة الله، فهذا إنما تحرم عليه النار التي وجبت على الكفار، فهو وإن دخلها فلا يخلد معهم فيها، بل يخرج منها بالشفاعة أو غيرها ثم يدخل الجنة ولابد، وهذا صريح في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من قال لا إله إلا الله نفعته يوما من دهره، يصيبه قبل ذلك ما أصابه» (¬1). وهو حديث صحيح. (¬2) - وقال رحمه الله: إذا علمت أن الآيات الثلاث: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}، {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)}، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)} (¬3) نزلت في اليهود وقولهم في حكمه - صلى الله عليه وسلم -: إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه، وقد أشار القرآن إلى قولهم هذا قبل هذه الآيات فقال: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} (¬4)، إذا عرفت هذا، فلا يجوز حمل هذه الآيات على بعض الحكام المسلمين وقضاتهم الذين يحكمون بغير ما أنزل الله من القوانين الأرضية، أقول: لا يجوز تكفيرهم بذلك، وإخراجهم من الملة، إذا كانوا مؤمنين بالله ورسوله، وإن كانوا مجرمين بحكمهم بغير ما أنزل ¬

(¬1) البزار (1/ 10/3 الكشف) والطبراني في الأوسط (4/ 287/3510)، (7/ 204/6392) وفي الصغير (1/ 158/385) من طرق عن أبي هريرة. قال الهيثمي (1/ 17): "رجاله رجال الصحيح"، وانظر تفصيل الكلام عليه في الصحيحة (1932). (¬2) الصحيحة (3/ 299 - 300/ 1314). (¬3) المائدة الآيات (44 - 47). (¬4) المائدة الآية (41).

الله، لا يجوز ذلك، لأنهم وإن كانوا كاليهود من جهة حكمهم المذكور، فهم مخالفون لهم من جهة أخرى، ألا وهي إيمانهم وتصديقهم بما أنزل الله، بخلاف اليهود الكفار، فإنهم كانوا جاحدين له كما يدل عليه قولهم المتقدم: " ... وإن لم يعطكم حذرتموه فلم تحكموه"، بالإضافة إلى أنهم ليسوا مسلمين أصلا، وسر هذا أن الكفر قسمان: اعتقادي وعملي. فالاعتقادي مقره القلب. والعملي محله الجوارح. فمن كان عمله كفرا لمخالفته للشرع، وكان مطابقا لما وقر في قلبه من الكفر به، فهو الكفر الاعتقادي، وهو الكفر الذي لا يغفره الله، ويخلد صاحبه في النار أبدا. وأما إذا كان مخالفا لما وقر في قلبه، فهو مؤمن بحكم ربه، ولكنه يخالفه بعمله، فكفره كفر عملي فقط، وليس كفرا اعتقاديا، فهو تحت مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، وعلى هذا النوع من الكفر تحمل الأحاديث التي فيها إطلاق الكفر على من فعل شيئا من المعاصي من المسلمين، ولا بأس من ذكر بعضها: 1 - «اثنتان في الناس هما بهم كفر، الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت» (¬1). رواه مسلم. 2 - «الجدال في القرآن كفر» (¬2). 3 - «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر» (¬3). رواه مسلم. ¬

(¬1) أحمد (2/ 496) ومسلم (1/ 82/67) عن أبي هريرة. (¬2) أحمد (2/ 258) وأبو داود (5/ 9/4603) والحاكم (2/ 223) وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي. وابن حبان (4/ 324 - 325/ 1464) من حديث أبي هريرة. (¬3) أحمد (1/ 385) والبخاري (1/ 147/48) ومسلم (1/ 81/64) والترمذي (4/ 311/1983) والنسائي (7/ 138/4121) وابن ماجه (1/ 27/69) عن ابن مسعود.

4 - «كفر بالله تبرؤ من نسب وإن دق» (¬1). 5 - «التحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر» (¬2). 6 - «لا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض» (¬3). متفق عليه. إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي لا مجال الآن لاستقصائها. فمن قام من المسلمين بشيء من هذه المعاصي، فكفره كفر عملي، أي إنه يعمل عمل الكفار، إلا أن يستحلها، ولا يرى كونها معصية فهو حينئذ كافر حلال الدم، لأنه شارك الكفار في عقيدتهم أيضا. والحكم بغير ما أنزل الله يخرج عن هذه القاعدة أبدا، وقد جاء عن السلف ما يدعمها، وهو قولهم في تفسير الآية: "كفر دون كفر"، صح ذلك عن ترجمان القرآن عبد الله بن عباس ¬

(¬1) أخرجه أحمد (2/ 215) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. والحديث أخرجه بلفظ: «كفر بامرئ ادعاء نسب لا يعرفه، أو جحده وإن دق». وابن ماجه (2/ 216/2744) والطبراني في الأوسط (8/ 446/7915) وفي الصغير (2/ 377/1045) قال البوصيري في الزوائد: "هذا الحديث في بعض النسخ دون بعض". ولم يذكره المزي في الأطراف. وإسناده صحيح. وأظنه من زيادات ابن القطان. (¬2) أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائده على المسند (4/ 278 و375) والبزار: البحر الزخار (8/ 226/3282) والبيهقي في الشعب (4/ 102/4419) و (6/ 516 - 517/ 9119) والخرائطي في فضيلة الشكر (ص.70 - 71) والقضاعي في مسند الشهاب (1/ 43 - 44/ 15) و (1/ 239/377) وابن أبي الدنيا في الشكر (ص25) من طرق عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما. وذكره الهيثمي في المجمع (5/ 217 - 218) وقال: "رواه عبد الله بن أحمد والبزار والطبراني ورجالهم ثقات". وقال المنذري (صحيح الترغيب 976): "رواه عبد الله بن أحمد في زوائده بإسناد لا بأس به". وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة (667) وكذا في صحيح الترغيب. تنبيه: وقع هذا الحديث في المسند من رواية الإمام أحمد (4/ 278) في موضعين (4/ 375) في موضع واحد وهو خطأ، انظر أطراف المسند المعتلي (5/ 413/7457) وإتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة (13/ 526 - 527/ 17093). (¬3) أحمد (1/ 230) والبخاري (8/ 133 - 134/ 4403) ومسلم (1/ 82/66) وأبو داود (5/ 63/4686) والنسائي (7/ 143/4136) وابن ماجه (2/ 1300/3943) عن ابن عمر رضي الله عنهما.

رضي الله عنه، ثم تلقاه عنه بعض التابعين وغيرهم، ولا بد من ذكر ما تيسر لي عنهم لعل في ذلك إنارة للسبيل أمام من ضل اليوم في هذه المسألة الخطيرة، ونحا نحو الخوارج الذين يكفرون المسلمين بارتكابهم المعاصي، وإن كانوا يصلون ويصومون. 1 - روى ابن جرير الطبري (10/ 355/12053) بإسناد صحيح عن ابن عباس: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} (¬1) قال: هي به كفر، وليس كفرا بالله وملائكته وكتبه ورسله. 2 - وفي رواية عنه في هذه الآية: إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس كفرا ينقل عن الملة، كفر دون كفر. أخرجه الحاكم (2/ 313)، وقال: "صحيح الإسناد". ووافقه الذهبي، وحقهما أن يقولا: على شرط الشيخين. فإن إسناده كذلك. ثم رأيت الحافظ ابن كثير نقل في 'تفسيره (6/ 163) ' عن الحاكم أنه قال: "صحيح على شرط الشيخين"، فالظاهر أن في نسخة 'المستدرك' المطبوعة سقطا، وعزاه ابن كثير لابن أبي حاتم أيضا ببعض اختصار. 3 - وفي أخرى عنه من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق. أخرجه ابن جرير (12063). قلت: وابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس، لكنه جيد في الشواهد. ¬

(¬1) المائدة الآية (44).

4 - ثم روى (12047 - 12051) عن عطاء بن أبي رباح قوله: (وذكر الآيات الثلاث): كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم. وإسناده صحيح. 5 - ثم روى (12052) عن سعيد المكي عن طاووس (وذكر الآية)، قال: ليس بكفر ينقل عن الملة. وإسناده صحيح، وسعيد هذا هو ابن زياد الشيباني المكي، وثقه ابن معين والعجلي وابن حبان وغيرهم، وروى عنه جمع. 6 - وروى (12025و12026) من طريقين عن عمران بن حدير قال: أتى أبا مجلز ناس من بني عمرو بن سدوس (وفي الطريق الأخرى: نفر من الإباضية) فقالوا: أرأيت قول الله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} (¬1) أحق هو؟ قال: نعم. قالوا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)} (¬2) أحق هو؟ قال: نعم. قالوا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)} (¬3) أحق هو؟ قال: نعم. قال: فقالوا: يا أبا مجلز فيحكم هؤلاء بما أنزل الله؟ قال: هو دينهم الذي يدينون به، وبه يقولون وإليه يدعون -[يعني الأمراء]- فإن هم تركوا شيئا منه عرفوا أنهم أصابوا ذنبا. فقالوا: لا والله، ولكنك تفرق. قال: أنتم ¬

(¬1) المائدة الآية (44). (¬2) المائدة الآية (45). (¬3) المائدة الآية (47).

أولى بهذا مني، لا أرى، وإنكم أنتم ترون هذا ولا تحرجون، ولكنها أنزلت في اليهود والنصارى وأهل الشرك. أو نحوا من هذا، وإسناده صحيح. وقد اختلف العلماء في تفسير الكفر في الآية الأولى على خمسة أقوال ساقها ابن جرير (10/ 346 - 357) بأسانيده إلى قائليها، ثم ختم ذلك بقوله (10/ 358): "وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: نزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب، لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت، وهم المعنيون بها، وهذه الآيات سياق الخبر عنهم، فكونها خبرا عنهم أولى. فإن قال قائل: فإن الله تعالى ذكره قد عم بالخبر بذلك عن جميع من لم يحكم بما أنزل الله، فكيف جعلته خاصا؟ قيل: إن الله تعالى عم بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم -على سبيل ما تركوه- كافرون. وكذلك القول في كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحدا به هو بالله كافر، كما قال ابن عباس، لأنه بجحوده حكم الله بعد علمه أنه أنزله في كتابه، نظير جحوده نبوة نبيه بعد علمه أنه نبي". وجملة القول، أن الآية نزلت في اليهود الجاحدين لما أنزل الله، فمن شاركهم في الجحد، فهو كافر كفرا اعتقاديا، ومن لم يشاركهم في الجحد فكفره عملي لأنه عمل عملهم، فهو بذلك مجرم آثم، ولكن لا يخرج بذلك عن الملة كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنه. وقد شرح هذا وزاده بيانا الإمام الحافظ أبو عبيد القاسم بن سلام في 'كتاب الإيمان' (باب الخروج

من الإيمان بالمعاصي) (ص.84 - 97 بتحقيقي)، فليراجعه من شاء المزيد من التحقيق. وبعد كتابة ما سبق، رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول في تفسير آية الحكم المتقدمة في 'مجموع الفتاوى (3/ 268) ': "أي هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله". ثم ذكر (7/ 254) أن الإمام أحمد سئل عن الكفر المذكور فيها؟ فقال: "كفر لا ينقل عن الإيمان، مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر، حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه". وقال (7/ 312): "وإذا كان من قول السلف أن الإنسان يكون فيه إيمان ونفاق، فكذلك في قولهم أنه يكون فيه إيمان وكفر، ليس هو الكفر الذي ينقل عن الملة، كما قال ابن عباس وأصحابه في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} (¬1)، قالوا: كفرا لا ينقل عن الملة. وقد اتبعهم على ذلك أحمد وغيره من أئمة السنة. (¬2) - وقال تعليقا على قول أبي جعفر الطحاوي: (ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله): قلت: يعني استحلالا قلبيا اعتقاديا، وإلا فكل مذنب مستحل لذنبه عمليا أي مرتكب له، ولذلك فلا بد من التفريق بين المستحل اعتقادا، فهو كافر إجماعا، وبين المستحل عملا لا اعتقادا، فهو ¬

(¬1) المائدة الآية (44). (¬2) الصحيحة (6/ 111 - 116/ 2552).

مذنب يستحق العذاب اللائق به إلا أن يغفر الله له، ثم ينجيه إيمانه خلافا للخوارج والمعتزلة الذين يحكمون عليه بالخلود في النار، وإن اختلفوا في تسميته كافرا أو منافقا، وقد نبتت نابتة جديدة اتبعوا هؤلاء في تكفيرهم جماهير المسلمين رؤوسا ومرؤوسين، اجتمعت بطوائف منهم في سوريا ومكة وغيرها، ولهم شبهات كشبهات الخوارج مثل النصوص التي فيها من فعل كذا فقد كفر، وقد ساق الشارح رحمه الله تعالى طائفة منها هنا، ونقل عن أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص -أن الذنب أي ذنب كان- هو كفر عملي لا اعتقادي، وأن الكفر عندهم على مراتب: كفر دون كفر، كالإيمان عندهم، ثم ضرب على ذلك مثالا هاما طالما غفلت عن فهمه النابتة المشار إليها، فقال رحمه الله تعالى (ص.363): "وهنا أمر يجب أن يتفطن له، وهو أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفرا ينقل عن الملة، وقد يكون معصية: كبيرة أو صغيرة، ويكون كفرا: إما مجازيا وإما كفرا أصغر، على القولين المذكورين. وذلك بحسب حال الحاكم فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخير فيه، أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله-: فهذا كفر أكبر. وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله، وعلمه في هذه الواقعة، وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا عاص ويسمى كافرا كفرا مجازيا، أو كفرا أصغر. وإن جهل حكم الله فيها مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأه، فهذا مخطيء له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور. (¬1) ¬

(¬1) العقيدة الطحاوية شرح وتعليق (40 - 41).

- وقال رحمه الله: فإن مسألة التكفير عموما -لا للحكام فقط، بل وللمحكومين أيضا- فتنة عظيمة قديمة، تبنتها فرقة من الفرق الإسلامية القديمة، وهي المعروفة بـ "الخوارج". ومع الأسف الشديد فإن (البعض) -من الدعاة أو المتحمسين- قد يقع في الخروج عن الكتاب والسنة ولكن: باسم الكتاب والسنة، والسبب في هذا يعود إلى أمرين اثنين: أحدهما: هو ضحالة العلم. والأمر الآخر: -وهو مهم جدا- أنهم لم يتفقهوا بالقواعد الشرعية، والتي هي أساس الدعوة الإسلامية الصحيحة التي تعد كل من خرج عنها داخلا في تلك الفرق المنحرفة عن الجماعة؛ التي أثنى عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غير ما حديث، بل والتي ذكرها ربنا عز وجل، وبين أن من خرج عنها يكون قد شاق الله ورسوله، وذلك في قوله عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)}. (¬1) - وقال: ومن هؤلاء المنحرفين: الخوارج؛ قدماء ومحدثين؛ فإن أصل فتنة التكفير في هذا الزمان -بل منذ أزمان- هو آية يدندنون دائما حولها؛ ألا وهي قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ ¬

(¬1) التحذير من فتنة التكفير (51 - 53).

الْكَافِرُونَ (44)} (¬1)؛ فيأخذونها من غير فهوم عميقة، ويوردونها بلا معرفة دقيقة. ونحن نعلم أن هذه الآية الكريمة قد تكررت، وجاءت خاتمتها بألفاظ ثلاثة، هي: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}، {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)}، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)}؛ فمن تمام جهل الذين يحتجون من هذه الآية باللفظ الأول منها فقط - {فأولئك هُمُ الْكَافِرُونَ} - أنهم لم يلموا على الأقل ببعض النصوص الشرعية -قرآنا أم سنة- التي جاء فيها ذكر لفظة (الكفر)؛ فأخذوها -بغير نظر- على أنها تعني الخروج من الدين وأنه لا فرق بين هذا الذي وقع في الكفر وبين أولئك المشركين من اليهود والنصارى وأصحاب الملل الأخرى الخارجة عن ملة الإسلام. بينما لفظة (الكفر) في لغة الكتاب والسنة لا تعني -دائما- هذا الذي يدندنون حوله، ويسلطون هذا الفهم الخاطئ المغلوط عليه. فشأن لفظة: {الكافرون} -من حيث إنها لا تدل على معنى واحد- هو ذاته شأن اللفظين الآخرين: {الظالمون} و {الفاسقون}؛ فكما أن من وصف بأنه ظالم أو فاسق لا يلزم بالضرورة ارتداده عن دينه، فكذلك من وصف بأنه كافر، سواء بسواء. وهذا التنوع في معنى اللفظ الواحد هو الذي تدل عليه اللغة، ثم الشرع ¬

(¬1) المائدة الآية (44).

الذي جاء بلغة العرب -لغة القرآن الكريم-. فمن أجل ذلك كان الواجب على كل من يتصدى لإصدار الأحكام على المسلمين -سواء أكانوا حكاما أم محكومين- أن يكون على علم واسع بالكتاب والسنة، وعلى ضوء منهج السلف الصالح. والكتاب والسنة لا يمكن فهمهما -وكذلك ما تفرق عنهما- إلا بطريق معرفة اللغة العربية وآدابها معرفة خاصة دقيقة. فإن كان لدى طالب العلم نقص في معرفة اللغة العربية: فإن مما يساعده في استدراك ذلك النقص الرجوع إلى فهم من قبله من الأئمة والعلماء، وبخاصة أهل القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرية. [كفر دون كفر:] ولنرجع إلى آية: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}؛ فما المراد بالكفر فيها؟ هل هو الخروج عن الملة؟ أو أنه غير ذلك؟ فأقول: لابد من الدقة في فهم هذه الآية؛ فإنها قد تعني الكفر العملي؛ وهو الخروج بالأعمال عن بعض أحكام الإسلام. ويساعدنا في هذا الفهم حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، الذي أجمع المسلمون جميعا -إلا من كان من الفرق الضالة- على أنه إمام فريد في التفسير. فكأنه طرق سمعه يومئذ ما نسمعه اليوم تماما من أن هناك أناسا

يفهمون هذه الآية فهما سطحيا، من غير تفصيل، فقال رضي الله عنه: "ليس الكفر الذي تذهبون إليه"، و"إنه ليس كفرا ينقل عن الملة"، و"هو كفر دون كفر" (¬1)، ولعله يعني بذلك الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، ثم كان من عواقب ذلك أنهم سفكوا دماء المؤمنين، وفعلوا فيهم ما لم يفعلوا بالمشركين، فقال: ليس الأمر كما قالوا، أو كما طنوا، إنما هو كفر دون كفر. فهذا الجواب المختصر الواضح من ترجمان القرآن في تفسير هذه الآية هو الحكم الذي لا يمكن أن يفهم سواه من النصوص التي أشرت إليها قبل. ثم إن كلمة الكفر ذكرت في كثير من النصوص القرآنية والحديثية، ولا يمكن أن تحمل -فيها جميعا- على أنها تساوي الخروج من الملة، من ذلك -مثلا- الحديث المعروف في 'الصحيحين' (¬2) عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر»؛ فالكفر هنا هو المعصية، التي هي الخروج عن الطاعة، ولكن الرسول عليه الصلاة والصلاة -وهو أفصح الناس بيانا- بالغ في الزجر قائلا: « ... وقتاله كفر». ومن ناحية أخرى؛ هل يمكن لنا أن نحمل الفقرة الأولى من هذا الحديث - «سباب المسلم فسوق» - على معنى الفسق المذكور في اللفظ ¬

(¬1) وهي مخرجة جميعا في السلسلة الصحيحة تحت حديث (2552). (¬2) أحمد (1/ 439) والبخاري (1/ 147/48) ومسلم (1/ 81/116 - 117) والترمذي (4/ 311/1983) والنسائي (7/ 137 - 138/ 4116 - 4124) وابن ماجه (1/ 27/69) عن ابن مسعود رضي الله عنه.

الثالث ضمن الآية السابقة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}؟. والجواب: أن هذا قد يكون فسقا مرادفا للكفر الذي هو بمعنى الخروج عن الملة، وقد يكون الفسق مرادفا للكفر الذي لا يعني الخروج عن الملة، وإنما يعني ما قاله ترجمان القرآن: إنه كفر دون كفر. وهذا الحديث يؤكد أن الكفر قد يكون بهذا المعنى؛ وذلك لأن الله عز وجل قال: {وَإِنْ طائفتان مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (¬1) إذ قد ذكر ربنا عز وجل هنا الفرقة الباغية التي تقاتل الفرقة المحقة المؤمنة، ومع ذلك فلم يحكم على الباغية بالكفر، مع أن الحديث يقول: « ... وقتاله كفر» (¬2). إذا؛ فقتاله كفر دون كفر؛ كما قال ابن عباس في تفسير الآية السابقة تماما. فقتال المسلم للمسلم بغي واعتداء، وفسق وكفر، ولكن هذا يعني أن الكفر قد يكون كفرا عمليا، وقد يكون كفرا اعتقاديا. ومن هنا جاء هذا التفصيل الدقيق الذي تولى بيانه وشرحه الإمام -بحق- شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله، وتولى ذلك من بعده تلميذه البار ابن قيم الجوزية، إذ لهما الفضل في التنبيه والدندنة على تقسيم الكفر إلى ذلك التقسيم ¬

(¬1) الحجرات الآية (9). (¬2) تقدم تخريجه.

موقفه من المرجئة:

الذي رفع رايته ترجمان القرآن بتلك الكلمة الجامعة الموجزة؛ فابن تيمية -يرحمه الله- وتلميذه وصاحبه ابن قيم الجوزية: يدندنان دائما حول ضرورة التفريق بين الكفر الاعتقادي والكفر العملي، وإلا وقع المسلم من حيث لا يدري في فتنة الخروج على جماعة المسلمين التي وقع فيها الخوارج قديما، وبعض أذنابهم حديثا. وخلاصة القول: إن قوله - صلى الله عليه وسلم -: « ... وقتاله كفر» لا يعني -مطلقا- الخروج عن الملة، والأحاديث في هذا كثيرة جدا؛ فهي -جميعا- حجة دامغة على أولئك الذي يقفون عند فهمهم القاصر للآية السابقة، ويلتزمون تفسيرها بالكفر الاعتقادي. فحسبنا الآن هذا الحديث؛ لأنه دليل قاطع على أن قتال المسلم لأخيه المسلم هو كفر بمعنى الكفر العملي، وليس هو الكفر الاعتقادي. فإذا عدنا إلى (جماعة التكفير) -أو من تفرع عنهم- وإطلاقهم على الحكام -وعلى من يعيشون تحت رايتهم، وينتظمون تحت إمرتهم وتوظيفهم- الكفر والردة، فإن ذلك منهم مبني على وجهة نظرهم الفاسدة؛ القائمة على أن هؤلاء ارتكبوا المعاصي فكفروا بذلك. (¬1) موقفه من المرجئة: - قال رحمه الله تعقيبا على حديث: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ... » (¬2): والحقيقة أن الحديث وإن كان مؤولا، فهو حجة على الحنفية ¬

(¬1) التحذير من فتنة التكفير (ص58 - 67). (¬2) تقدم تخريجه ضمن مواقف الحسن البصري سنة (110هـ).

الذين لا يزالون مصرين على مخالفة السلف في قولهم بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص. فالإيمان عندهم مرتبة واحدة، فهم لا يتصورون إيمانا ناقصا، ولذلك يحاول الكوثري رد هذا الحديث، لأنه بعد تأويله على الوجه الصحيح يصير حجة عليهم، فإن معناه: "وهو مؤمن إيمانا كاملا". قال ابن بطال: "وحمل أهل السنة الإيمان هنا على الكامل، لأن العاصي يصير أنقص حالا في الإيمان ممن لا يعصي". ذكره الحافظ (¬1). ومثله ما نقله (¬2) عن الإمام النووي قال: "والصحيح الذي قاله المحققون أن معناه: لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، هذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء، والمراد نفي كماله، كما يقال: لا علم إلا ما نفع، ولا مال إلا ما نيل، ولا عيش إلا عيش الآخرة". ثم أيده الحافظ في بحث طويل ممتع، فراجعه. ومن الغرائب أن الشيخ القارئ -مع كونه حنفيا متعصبا- فسر الحديث بمثل ما تقدم عن ابن بطال والنووي، فقال في 'المرقاة' (1/ 105): "وأصحابنا تأولوه بأن المراد المؤمن الكامل ... "، ثم قال: "على أن الإيمان هو التصديق، والأعمال خارجة عنه"!. فهذا يناقض ذاك التأويل. فتأمل. (¬3) - وقال رحمه الله تعقيبا على الحديث الموضوع: «إنما حر جهنم على ¬

(¬1) (10/ 28). (¬2) (12/ 49). (¬3) الصحيحة (6/ 1276 - 1277).

أمتي كحر الحمام» (¬1): وحري بمثل هذا الحديث الباطل أن لا يرويه إلا مثل هذين الكذابين، فإنه حديث خطير يقضي على باب كبير من أبواب التربية والإصلاح في الشرع، ألا وهو باب الوعيد وما فيه من الآيات والأحاديث في إيعاد العصاة من هذه الأمة بالنار الموقدة {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)}، والأحاديث الصحيحة في بيان هذا كثيرة جدا، أذكر بعض ما يحضرني الآن منها على سبيل المثال: 1 - «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره والمنان الذي لا يعطي شيئا إلا منة، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب». رواه مسلم عن أبي ذر، وهو مخرج في 'إرواء الغليل' (892) و'تخريج الحلال' (170). (¬2) 2 - «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر». رواه مسلم عن أبي هريرة (¬3). 3 - قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الشفاعة: «حتى إذا فرغ الله من القضاء بين عباده وأراد أن يخرج من النار من أراد أن يخرج ممن كان يشهد أن لا إله إلا ¬

(¬1) موضوع، رواه الطبراني في الأوسط (7/ 314 - 315/ 6599) وأورده الهيثمي في المجمع (10/ 360) وقال: "فيه محمد بن عمر الواقدي وهو ضعيف جدا"، بل رماه غير واحد بالوضع. قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في الضعيفة (2/ 145): "سند هالك وفيه آفات وعلل .. ". (¬2) أحمد (4/ 148) ومسلم (1/ 102/106) وأبو داود (4/ 346 - 347/ 4087) والترمذي (3/ 516/1211) وقال: "حسن صحيح". والنسائي (8/ 208/5348) وابن ماجه (2/ 744 - 745/ 2208) بنحوه. (¬3) مسلم (1/ 102 - 103/ 107) وأحمد (2/ 433) والنسائي (5/ 86/2574) بلفظ: «والعامل المزهو».

الله، أمر الله الملائكة أن يخرجوهم، فيعرفونهم بعلامة آثار السجود. وحرم الله على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود، فيخرجونهم قد امتحشوا». رواه الشيخان عن أبي هريرة (¬1). وفي حديث أبي سعيد: «فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه، وإلى ركبتيه و ... » رواه مسلم (¬2). فهذه الأحاديث وغيرها صريحة في بطلان هذا الحديث، إذ كيف يكون العذاب أليما وهو كحر الحمام؟ بل كيف يكون كذلك وقد أحرقتهم النار، وأكلت لحمهم، حتى ظهر عظمهم؟ وبالجملة فأثر هذا الحديث سيء جدا لا يخفى على المتأمل، فإنه يشجع الناس على استباحة المحرمات، بعلة أن ليس هناك عقاب إلا كحر الحمام. (¬3) - وقال رحمه الله تعالى ردا على أبي غدة: المسألة الخامسة: يقول الإمام -يعني ابن أبي العز- تبعا للأئمة مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وسائر أهل الحديث وأهل المدينة: "إن الإيمان هو تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان. وقالوا: يزيد وينقص". وشيخك تعصبا لأبي حنيفة يخالفهم مع صراحة الأدلة التي تؤيدهم من الكتاب والسنة وآثار السلف الصالح رضي الله عنهم، بل ويغمز منهم جميعا مشيرا إليهم بقوله في 'التأنيب' (ص.44 - 45) إلى "أناس صالحون" يشير أنهم ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (2/ 293 - 294) والبخاري (13/ 516 - 517/ 7437) ومسلم (1/ 163 - 167/ 182). (¬2) أحمد (3/ 94) ومسلم (1/ 167 - 171/ 183) والنسائي (8/ 486 - 487/ 5025) وابن ماجه (1/ 23/60). (¬3) الضعيفة (2/ 147 - 148/ 709).

لا علم عندهم فيما ذهبوا إليه ولا فقه، وإنما الفقه عند أبي حنيفة دونهم، ثم يقول: إنه الإيمان والكلمة، وإنه الحق الصراح. وعليه فالسلف وأولئك الأئمة الصالحون هم عنده على الباطل في قولهم: بأن الأعمال من الإيمان، وأنه يزيد وينقص.؟ وقد نقل أبو غدة كلام شيخه الذي نقلنا موضوع الشاهد منه، نقله بحرفه، في التعليق على 'الرفع والتكميل' (ص.67 - 69)، ثم أشار إليه في مكان آخر منه ممجدا به ومكبرا له بقوله (ص.218): "وانظر لزاما ما سبق نقله تعليقا، فإنك لا تظفر بمثله في كتاب "ثم أعاد الإشارة إليه (ص.223) مع بالغ إعجابه به. وظني به أنه يجهل -أن هذا التعريف للإيمان الذي زعم شيخه أنه الحق الصراح- مع ما فيه من المخالفة لما عليه السلف كما عرفت، مخالف لما عليه المحققون من علماء الحنفية أنفسهم الذين ذهبوا إلى: إن الإيمان هو التصديق فقط ليس معه الإقرار، كما في 'البحر الرائق' لابن نجيم الحنفي (5/ 129)، والكوثري في كلمته المشار إليها يحاول فيها أن يصور للقارئ أن الخلاف بين السلف والحنفية في الإيمان لفظي، يشير بذلك إلى أن الأعمال ليست ركنا أصليا، ثم يتناسى أنهم يقولون: بأنه يزيد وينقص، وهذا ما لا يقول به الحنفية إطلاقا، بل إنهم قالوا في صدد بيان الألفاظ المكفرة عندهم: "وبقوله: الإيمان يزيد وينقص" كما في 'البحر الرائق' (باب أحكام المرتدين) فالسلف على هذا كفار عندهم مرتدون. راجع شرح الطحاوية (ص.338 - 360)، و'التنكيل' (2/ 362 - 373) الذي كشف عن مراوغة الكوثري في هذه المسألة. وليعلم القارئ الكريم أن أقل ما يقال في الخلاف المذكور في المسألة: أن الحنفية يتجاهلون أن قول أحدهم -ولو كان فاسقا فاجرا-: أنا مؤمن

موقفه من القدرية:

حقا، ينافي مهما تكلفوا في التأويل - التأدب مع القرآن ولو من الناحية اللفظية على الأقل، الذي يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (¬1). فليتأمل المؤمن الذي عافاه الله تعالى مما ابتلى به هؤلاء المتعصبة، من هو المؤمن حقا عند الله تعالى، ومن هو المؤمن حقا عند هؤلاء؟. (¬2) موقفه من القدرية: - قال رحمه الله في معرض كلامه على أحاديث القبضتين: إن كثيرا من الناس يتوهمون أن هذه الأحاديث -ونحوها أحاديث كثيرة- تفيد أن الإنسان مجبور على أعماله الاختيارية، ما دام أنه حكم عليه منذ القديم وقبل أن يخلق: بالجنة والنار. وقد يتوهم آخرون أن الأمر فوضى أو حظ، فمن وقع في القبضة اليمنى، كان من أهل السعادة، ومن كان من القبضة الأخرى، كان من أهل الشقاوة. فيجب أن يعلم هؤلاء جميعا أن الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (¬3)، لا في ¬

(¬1) الأنفال الآيات (2 - 4). (¬2) شرح العقيدة الطحاوية (57 - 58). (¬3) الشورى الآية (11).

ذاته، ولا في صفاته، فإذا قبض قبضة، فهي بعلمه وعدله وحكمته، فهو تعالى قبض باليمنى على من علم أنه سيطيعه حين يؤمر بطاعته، وقبض بالأخرى على من سبق في علمه تعالى أنه سيعصيه حين يؤمر بطاعته، ويستحيل على عدل الله تعالى أن يقبض باليمنى على من هو مستحق أن يكون من أهل القبضة الأخرى، والعكس بالعكس، كيف والله عز وجل يقول: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} (¬1)؟! ثم إن كلا من القبضتين ليس فيها إجبار لأصحابهما أن يكونوا من أهل الجنة أو من أهل النار، بل هو حكم من الله تبارك وتعالى عليهم بما سيصدر منهم، من إيمان يستلزم الجنة، أو كفر يقتضي النار والعياذ بالله تعالى منها، وكل من الإيمان أو الكفر أمران اختياريان، لا يكره الله تبارك وتعالى أحدا من خلقه على واحد منهما، {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (¬2)، وهذا مشاهد معلوم بالضرورة، ولولا ذلك، لكان الثواب والعقاب عبثا، والله منزه عن ذلك. ومن المؤسف حقا أن نسمع من كثير من الناس -حتى من بعض المشايخ- التصريح بأن الإنسان مجبور لا إرادة له! وبذلك يلزمون أنفسهم القول بأن الله يجوز له أن يظلم الناس! مع تصريحه تعالى بأنه لا يظلمهم مثقال ذرة، وإعلانه بأنه قادر على الظلم، ولكنه نزه نفسه عنه، كما في ¬

(¬1) القلم الآيتان (35و36). (¬2) الكهف الآية (29).

الحديث القدسي المشهور: «يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي ... » (¬1). وإذا جوبهوا بهذه الحقيقة، بادروا إلى الاحتجاج بقوله تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} (¬2)، مصرين بذلك على أن الله تعالى قد يظلم، ولكنه لا يسأل عن ذلك! تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا! وفاتهم أن الآية حجة عليهم، لأن المراد بها -كما حققه العلامة ابن القيم في 'شفاء العليل' وغيره- أن الله تعالى لحكمته وعدله في حكمه ليس لأحد أن يسأله عما يفعل، لأن كل أحكامه تعالى عدل واضح، فلا داعي للسؤال. وللشيخ يوسف الدجوي رسالة مفيدة في تفسير هذه الآية، لعله أخذ مادتها من كتاب ابن القيم المشار إليه آنفا، فليراجع. هذه كلمة سريعة حول الأحاديث المتقدمة، حاولنا فيها إزالة شبهة بعض الناس حولها، فإن وفقت لذلك، فبها ونعمت، وإلا فإني أحيل القارئ إلى المطولات في هذا البحث الخطير، مثل كتاب ابن القيم السابق، وكتب شيخه ابن تيمية الشاملة لمواضيع هامة هذا أحدها. (¬3) - وقال رحمه الله تعالى تعقيبا على حديث: «لن يدخل أحدا منكم ¬

(¬1) أحمد (5/ 160) ومسلم (4/ 1994 - 1995/ 2577) والترمذي (4/ 566 - 567/ 2495) وقال: "حديث حسن". وابن ماجه (2/ 1422/4257) عن أبي ذر. (¬2) الأنبياء الآية (23). (¬3) الصحيحة (1/ 115 - 117/ 46 - 50).

عمله الجنة» (¬1): واعلم أن هذا الحديث قد يشكل على بعض الناس، ويتوهم أنه مخالف لقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)} (¬2) ونحوها من الآيات والأحاديث الدالة على أن دخول الجنة بالعمل، وقد أجيب بأجوبة، أقربها إلى الصواب: أن الباء في قوله في الحديث: "بعمله" هي باء الثمنية، والباء في الآية باء السببية، أي أن العمل الصالح سبب لا بد منه لدخول الجنة، ولكنه ليس ثمنا لدخول الجنة، وما فيها من النعيم المقيم والدرجات. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في بعض فتاويه: "ولهذا قال بعضهم: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون سببا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، ومجرد الأسباب لا يوجب حصول المسبب، فإن المطر إذا نزل وبذر الحب لم يكن ذلك كافيا في حصول النبات، بل لا بد من ريح مربية بإذن الله، ولا بد من صرف الانتفاء عنه، فلا بد من تمام الشروط وزوال الموانع، وكل ذلك بقضاء الله وقدره. وكذلك الولد لا يولد بمجرد إنزال الماء في الفرج، بل كم ممن أنزل ولم يولد له، بل لا بد من أن الله شاء خلقه فتحبل المرأة وتربيه في الرحم وسائر ما يتم به خلقه من الشروط وزوال الموانع. وكذلك أمر الآخرة ليس بمجرد العمل ينال الإنسان السعادة، بل هي ¬

(¬1) أحمد (2/ 264) والبخاري (11/ 355/6463) ومسلم (4/ 2170/2816 (75)) وابن ماجه (2/ 1405/4201) عن أبي هريرة. وفي الباب عن عائشة وجابر وأبي سعيد وغيرهم. (¬2) الزخرف الآية (72).

سبب، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فذكر الحديث)، وقد قال تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)} (¬1). فهذه باء السبب، أي بسبب أعمالكم، والذي نفاه النبي - صلى الله عليه وسلم - باء المقابلة، كما يقال: اشتريت هذا بهذا. أي ليس العمل عوضا وثمنا كافيا في دخول الجنة، بل لا بد من عفو الله وفضله ورحمته، فبعفوه يمحو السيئات، وبرحمته يأتي بالخيرات، وبفضله يضاعف الدرجات. وفي هذا الموضع ضل طائفتان من الناس: فريق آمنوا بالقدر وظنوا أن ذلك كاف في حصول المقصود فأعرضوا عن الأسباب الشرعية والأعمال الصالحة. وهؤلاء يؤول بهم الأمر إلى أن يكفروا بكتب الله ورسله ودينه. وفريق أخذوا يطلبون الجزاء من الله كما يطلبه الأجير من المستأجر، متكلين على حولهم وقوتهم وعملهم، وكما يطلبه المماليك، وهؤلاء جهال ضلال: فإن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به حاجة إليه، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلا به، ولكن أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم. وهو سبحانه كما قال: «يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني» (¬2). فالملك إذا أمر مملوكيه بأمر أمرهم لحاجته إليهم، وهم فعلوه بقوتهم التي لم يخلقها لهم فيطالبون بجزاء ذلك، والله تعالى غني عن ¬

(¬1) النحل الآية (32). (¬2) هذا جزء من حديث أبي ذر، وقد تقدم قريبا.

العالمين، فإن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم، وإن أساؤا فلها. لهم ما كسبوا، وعليهم ما اكتسبوا، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} (¬1). انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله منقولا من 'مجموعة الفتاوى' (¬2)، ومثله في 'مفتاح دار السعادة' (¬3) لتلميذه المحقق العلامة ابن قيم الجوزية، و'تجريد التوحيد المفيد' (¬4) للمقريزي. (¬5) - وقال رحمه الله تعالى تعقيبا على الحديث القدسي: «قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم ... » الحديث (¬6): قوله: (قد أردت منك) أي: أحببت منك. والإرادة في الشرع تطلق ويراد بها ما يعم الخير والشر والهدى والضلال، كما في قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (¬7)، وهذه الإرادة لا تتخلف. ¬

(¬1) فصلت الآية (46). (¬2) (8/ 70 - 71). (¬3) (ص.9 - 10). (¬4) (ص.36 - 43) (¬5) الصحيحة (6/ 198 - 200/ 2602). (¬6) أحمد (3/ 127) والبخاري (11/ 507 - 508/ 6557) ومسلم (4/ 2160 - 2161/ 2805) عن أنس. (¬7) الأنعام الآية (125).

وتطلق أحيانا ويراد بها ما يرادف الحب والرضى، كما في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬1). وهذا المعنى هو المراد من قوله تعالى في هذا الحديث: "أردت منك"، أي: أحببت. والإرادة بهذا المعنى قد تتخلف، لأن الله تبارك وتعالى لا يجبر أحدا على طاعته، وإن كان خلقهم من أجلها، {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (¬2)، وعليه، فقد يريد الله تبارك وتعالى من عبده ما لا يحبه منه، ويحب منه ما لا يريده. وهذه الإرادة يسميها ابن القيم رحمه الله تعالى بالإرادة الكونية، أخذا من قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} (¬3)، ويسمي الإرادة الأخرى المرادفة للرضى بالإرادة الشرعية. وهذا التقسيم، مَن فَهمه، انحلت له كثير من مشكلات مسألة القضاء والقدر، ونجا من فتنة القول بالجبر أو الاعتزال، وتفصيل ذلك في الكتاب الجليل 'شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل' لابن القيم رحمه الله تعالى. قوله: «وأنت في صلب آدم»، قال القاضي عياض: "يشير بذلك إلى قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} (¬4)، فهذا ¬

(¬1) البقرة الآية (185). (¬2) الكهف الآية (29). (¬3) يس الآية (82). (¬4) الأعراف الآية (172).

ابن عثيمين (1421 هـ)

الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم، فمن وفى به بعد وجوده في الدنيا، فهو مؤمن، ومن لم يوف به، فهو كافر، فمراد الحديث: أردت منك حين أخذت الميثاق، فأبيت إذ أخرجتك إلى الدنيا إلا الشرك. ذكره في 'الفتح'. (¬1) ابن عثيمين (¬2) (1421 هـ) الشيخ الفاضل، الإمام الفقيه أبو عبد الله محمد بن صالح بن محمد بن عثيمين المقبل الوهيبي التميمي. ولد الشيخ في مدينة عنيزة سنة سبع وأربعين وثلاثمائة وألف في أسرة يعرف عنها الدين والاستقامة. واستفاد في طلبه للعلم من عدة مشايخ بعضهم في عنيزة وبعضهم في الرياض منهم: الشيخ عبد الرحمن السعدي، أخذ عنه ولازمه قرابة إحدى عشرة سنة، ويعتبر الشيخ من أبرز طلابه، والشيخ عبد العزيز بن باز، قرأ عليه من صحيح البخاري وبعض كتب الفقه، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي صاحب التفسير المشهور، درس عليه الشيخ في المعهد العلمي في الرياض، والشيخ محمد بن عبد العزيز المطوع، قرأ عليه مختصر العقيدة الواسطية ومنهاج السالكين كلاهما للشيخ عبد الرحمن السعدي والآجرومية والألفية في النحو والصرف، والشيخ عبد الرحمن بن علي بن عودان، قرأ عليه بعض كتب الفقه ودرس عليه الفرائض. لم يرحل الشيخ لطلب العلم إلا إلى الرياض، حيث فتحت المعاهد العلمية فالتحق بها، وبعد وفاة شيخه عبد الرحمن السعدي ¬

(¬1) الصحيحة (1/ 333 - 334/ 172). (¬2) 'ابن عثيمين الإمام الزاهد' للدكتور ناصر الزهراني.

رشح لإمامة الجامع الكبير والتدريس فيه والإفتاء، وقد عرض عليه تولي القضاء بالمحكمة الشرعية بالأحساء، لكن طلب الإعفاء منه. أما مؤلفاته فكثيرة جدا منها فتح رب البرية بتلخيص الحموية، وشرح الواسطية لابن تيمية، والشرح الممتع على زاد المستقنع، ولمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد، والقواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى والقول المفيد شرح كتاب التوحيد وغيرها. للشيخ من الأولاد الذكور: عبد الله وعبد الرحمن وإبراهيم وعبد العزيز وعبد الرحيم وله من الإخوة: الدكتور عبد الله رئيس قسم التاريخ في جامعة الملك سعود وعبد الرحمن. كان رحمه الله زاهدا ورعا متواضعا، مشهودا له بمواقف الخير والجهاد في سبيل الله والدعوة إليه. قال عنه سماحة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ: والشيخ محمد لا تخفى على الجميع مكانته وآثاره العلمية من خلال التأليف والفتاوى والمحاضرات والدروس والمقالات ومن خلال الأشرطة التي تحمل في طياتها كل خير، ومن حيث اعتداله وبعده عن الإفراط والتفريط وكونه في أموره على طريق مستقيم، ولكم ربى من طلاب وكم شرح من كتاب واستفاد منه المستفيدون، فنسأل الله أن يجازيه عنا وعن الإسلام خير الجزاء. وقال عنه الشيخ صالح بن حميد: لقد كان رحمه الله لسان صدق صادعا بالحق ملتزما به، مقيما عليه، مع رعاية الحكمة، في حديثه ألفة، وفي ابتسامته مودة وفي كلامه بيان. توفي رحمه الله بجدة يوم الأربعاء الخامس عشر من شهر شوال سنة

موقفه من المبتدعة:

إحدى وعشرين وأربعمائة وألف، وصلي عليه في الحرم المكي بعد صلاة العصر من يوم الخميس، فرحمه الله تعالى رحمة واسعة وأجزل مثوبته ورفع في العليين درجته وعوض المسلمين عنه خيرا. قلت: لقد كان لي لقاءات متعددة بالشيخ رحمه الله، وآخر لقاء كان بيني وبينه في بيت الشيخ سليمان الراجحي مع زمرة من العلماء والمشايخ، وفي هذه الأثناء كان مريضا ورغم مرضه فقد ألقى كلمة فسر فيها آية من القرآن، وأبدى فيها من الاستنباط والخير ما جعل الحاضرين يدعون له. وكان الشيخ رحمه الله يمتاز بخفة الروح وحب الخير لعموم المسلمين، أما حرصه على العلم والطلبة فأمر ظاهر، وكانت مجالسه رحمه الله لا تخلو من فوائد ومناقشات، فرحمة الله عليه رحمة واسعة. موقفه من المبتدعة: - قال رحمه الله في رسالته 'الابداع في بيان كمال الشرع وخطر الابتداع': المتابعة لا تتحقق إلا إذا كان العمل موافقا للشريعة في أمور ستة: الأول: السبب، فإذا تعبد الإنسان لله عبادة مقرونة بسبب ليس شرعيا فهي بدعة مردودة على صاحبها. مثال ذلك: أن بعض الناس يحيي ليلة السابع والعشرين من رجب بحجة أنها الليلة التي عرج فيها برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالتهجد عبادة، ولكن لما قرن بهذا السبب كان بدعة لأنه بنى هذه العبادة على سبب لم يثبت شرعا. وهذا الوصف -موافقة العبادة للشريعة في السبب- أمر مهم يتبين به ابتداع كثير مما يظن أنه من السنة وليس من السنة.

الثاني: الجنس، فلا بد أن تكون العبادة موافقة للشرع في جنسها فلو تعبد إنسان لله بعبادة لم يشرع جنسها فهي غير مقبولة. مثال ذلك: أن يضحي رجل بفرس، فلا يصح أضحية لأنه خالف الشريعة في الجنس، فالأضاحي لا تكون إلا من بهيمة الأنعام، الإبل، البقر، الغنم. الثالث: القدر، فلو أراد إنسان أن يزيد صلاة على أنها فريضة فنقول: هذه بدعة غير مقبولة لأنها مخالفة للشرع في القدر ومن باب أولى لو أن الإنسان صلى الظهر مثلا خمسا فإن صلاته لا تصح بالاتفاق. الرابع: الكيفية فلو أن رجلا توضأ فبدأ بغسل رجليه، ثم مسح رأسه ثم غسل يديه، ثم وجهه فنقول: وضوؤه باطل لأنه مخالف للشرع في الكيفية. الخامس: الزمان فلو أن رجلا ضحى في أول أيام ذي الحجة فلا تقبل الأضحية لمخالفة الشرع في الزمان. وسمعت أن بعض الناس في شهر رمضان يذبحون الغنم تقربا لله تعالى بالذبح، وهذا العمل بدعة على هذا الوجه، لأنه ليس هناك شيء يتقرب به إلى الله بالذبح إلا الأضحية، والهدي والعقيقة، أما الذبح في رمضان مع اعتقاد الأجر على الذبح كالذبح في عيد الأضحى فبدعة. وأما الذبح لأجل اللحم فهذا جائز. السادس: المكان، فلو أن رجلا اعتكف في غير مسجد فإن اعتكافه لا يصح، وذلك لأن الاعتكاف لا يكون إلا في المساجد، ولو قالت امرأة أريد أن أعتكف في مصلى البيت. فلا يصح اعتكافها لمخالفة الشرع في المكان.

ومن الأمثلة لو أن رجلا أراد أن يطوف فوجد المطاف قد ضاق ووجد ما حوله قد ضاق فصار يطوف من وراء المسجد فلا يصح طوافه لأن مكان الطواف البيت قال الله تعالى لإبراهيم الخليل: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ للطائفين} (¬1). فالعبادة لا تكون عملا صالحا إلا إذا تحقق فيها شرطان: الأول: الإخلاص. الثاني: المتابعة، والمتابعة لا تتحقق إلا بالأمور الستة الآنفة الذكر. وإنني أقول لهؤلاء الذين ابتلوا بالبدع -الذين قد تكون مقاصدهم حسنة ويريدون الخير- إذا أردتم الخير فلا -والله- نعلم طريقا خيرا من طريق السلف رضي الله عنهم. أيها الإخوة عضوا على سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالنواجذ واسلكوا طريق السلف الصالح وكونوا على ما كانوا عليه وانظروا هل يضيركم ذلك شيئا؟. وإني أقول -وأعوذ بالله أن أقول ما ليس لي به علم- أقول إنك لتجد الكثير من هؤلاء الحريصين على البدع يكون فاترا في تنفيذ أمور ثبتت شرعيتها وثبتت سنيتها، فإذا فرغوا من هذه البدع قابلوا السنن الثابتة بالفتور، وهذا كله من نتيجة أضرار البدع على القلوب فالبدع أضرارها على القلوب عظيمة، وأخطارها على الدين جسيمة، فما ابتدع قوم في دين الله بدعة إلا أضاعوا من السنة مثلها أو أشد، كما ذكر ذلك بعض أهل العلم من السلف. ¬

(¬1) الحج الآية (26).

لكن الإنسان إذا شعر أنه تابع لا مشرع حصل له بذلك كمال الخشية والخضوع، والذل، والعبادة لرب العالمين، وكمال الاتباع لإمام المتقين وسيد المرسلين ورسول رب العالمين محمد - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) - وقال في شرحه على العقيدة الواسطية: ولكن ولله الحمد ما ابتدع أحد بدعة، إلا قيض الله له بمنه وكرمه من يبين هذه البدعة ويدحضها بالحق وهذا من تمام مدلول قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} (¬2)، هذا من حفظ الله لهذا الذكر، وهذا أيضا هو مقتضى حكمة الله عزوجل، لأن الله تعالى جعل محمدا - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين، والرسالة لا بد أن تبقى في الأرض، وإلا لكان للناس حجة على الله وإذا كانت الرسالة لابد أن تبقى في الأرض، لزم أن يقيض الله عزوجل بمقتضى حكمته عند كل بدعة من يبينها ويكشف عورها، وهذا هو الحاصل. (¬3) - وقال في رسالته منهاج أهل السنة والجماعة في العقيدة والعمل: إذا لو أن أحدا من أهل البدع ابتدع طريقة عقيدة (أي تعود للعقيدة) أو عملية (تعود إلى العمل) من قول أو فعل، ثم قال إن هذه حسنة. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» (¬4). قلنا له بكل بساطة هذا الحسن الذي ادعيت أنه ثابت في هذه ¬

(¬1) مجموع فتاوى ورسائل (5/ 253 - 255). (¬2) الحجر الآية (9). (¬3) مجموع فتاوى ورسائل (8/ 25). (¬4) تقدم تخريجه في مواقف صديق حسن خان سنة (1307هـ).

البدعة هل كان خافيا لدى الرسول عليه الصلاة والسلام أو كان معلوما عنده لكنه كتمه ولم يطلع عليه أحد من سلف الأمة حتى ادخر لك علمه؟ والجواب: إن قال بالأول فشر، وإن قال بالثاني فأطم وأشر. فإن قال: إن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يعلم حسن هذه البدعة ولذلك لم يشرعها. قلنا: رمينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمر عظيم حيث جهلته في دين الله وشريعته. وإن قال إنه يعلم ولكن كتمه عن الخلق. قلنا له: وهذه أدهى وأمر لأنك وصفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو الأمين الكريم، وصفته بالخيانة وعدم الجود بعلمه، وهذا أشر من وصفه بعدم الجود بماله، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - كان أجود الناس، وهنا شر قد يكون احتمالا ثالثا بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - علمها وبلغها ولكن لم تصل إلينا، فنقول له وحينئذ طعنت في كلام الله عزوجل لأن الله تعالى يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} (¬1) وإذا ضاعت شريعة من شريعة الذكر فمعنى ذلك أن الله لم يقم بحفظه بل نقص من حفظه إياه بقدر ما فات من هذه الشريعة التي نزل من أجلها هذا الذكر. وعلى كل حال فإن كل إنسان يبتدع ما يتقرب به إلى ربه من عقيدة أو عمل قولي أو فعلي فإنه ضال لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل بدعة ضلالة» (¬2) ¬

(¬1) الحجر الآية (9). (¬2) تقدم تخريجه في مواقف اللالكائي سنة (418هـ).

موقفه من المشركين:

وهذه كلية عامة لا يستثنى منها شيء إطلاقا فكل بدعة في دين الله فإنها ضلالة وليس فيها من الحق شيء فإن الله تعالى يقول: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)} (¬1).اهـ (¬2) - وقال: وإن من جملة البدع ما ابتدعه بعض الناس في شهر ربيع الأول من بدعة عيد المولد النبوي، يجتمعون في الليلة الثانية عشر منه في المساجد أو البيوت فيصلون على النبي - صلى الله عليه وسلم - بصلوات مبتدعة ويقرؤون مدائح للنبي - صلى الله عليه وسلم - تخرج بهم إلى حد الغلو الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وربما صنعوا مع ذلك طعاما يسهرون عليه فأضاعوا المال والزمان وأتعبوا الأبدان فيما لم يشرعه الله ولا رسوله ولا عمله الخلفاء الراشدون ولا الصحابة ولا المسلمون في القرون الثلاثة المفضلة ولا التابعون بإحسان. ولو كان خيرا لسبقونا إليه، ولو كان خيرا ما حرمه الله تعالى سلف هذه الأمة، وفيهم الخلفاء الراشدون والأئمة وما كان الله تعالى ليحرم سلف هذه الأمة ذلك الخير لو كان خيرا ثم يأتي أناس من القرن الرابع الهجري فيحدثون تلك البدعة. (¬3) موقفه من المشركين: قال رحمه الله في تقريب التدمرية: القرامطة، والباطنية، والفلاسفة لا يؤمنون بما أخبر الله به عن نفسه، ولا عن اليوم الآخر بل ينكرون حقائق هذا وهذا. فمذهبهم فيما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر أنه تخييل لا ¬

(¬1) يونس الآية (32). (¬2) مجموع فتاوى ورسائل (5/ 192 - 193). (¬3) مجموع فتاوى ورسائل (6/ 198 - 199).

موقفه من الرافضة:

حقيقة له. وأما في الأمر والنهي فكثير منهم يجعلون للمأمورات والمنهيات تأويلات باطنة تخالف ما يعرفه المسلمون منها، فيقولون: المراد بالصلوات معرفة أسرارهم، وبالصيام كتمان أسرارهم، وبالحج السفر إلى شيوخهم، ونحو ذلك مما يعلم بالضرورة من دين الإسلام أنه كذب وافتراء وكفر وإلحاد. وقد يقولون إن الشرائع تلزم العامة دون الخاصة، فإذا وصل الرجل إلى درجة العارفين والمحققين عندهم ارتفعت عنه التكاليف فسقطت عنه الواجبات وحلت له المحظورات. وقد يوجد في المنتسبين إلى التصوف والسلوك من يدخل في بعض هذه المذاهب. وهؤلاء الباطنية هم الملاحدة الذين أجمع المسلمون على أنهم أكفر من اليهود والنصارى لعظم إلحادهم ومخالفتهم لجميع الشرائع الإلهية. (¬1) له كتاب القول المفيد على كتاب التوحيد أفاد فيه وأجاد. وكذلك شرح كشف الشبهات وشرح الأصول الثلاثة وغيرها. موقفه من الرافضة: - قال رحمه الله في شرحه على الواسطية: فالرافضة هم الذين يسمَّون اليوم: شيعة، وسموا رافضة؛ لأنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، الذي ينتسب إليه الآن الزيدية؛ رفضوه لأنهم سألوه: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ يريدون منه أن يسبهما ويطعن فيهما! ¬

(¬1) مجموع فتاوى ورسائل (4/ 142 - 143).

ولكنه رضي الله عنه قال لهم: نعم الوزيران وزيرا جدي. يريد بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فأثنى عليهما، فرفضوه، وغضبوا عليه، وتركوه! فسموا رافضة. هؤلاء الروافض -والعياذ بالله- لهم أصول معروفة عندهم، ومن أقبح أصولهم: الإمامة التي تتضمن عصمة الإمام، وأنه لا يقول خطأ، وأن مقام الإمامة أرفع من مقام النبوة؛ لأن الإمام يتلقى عن الله مباشرة، والنبي بواسطة الرسول، وهو جبريل، ولا يخطئ الإمام عندهم أبدا، بل غلاتهم يدعون أن الإمام يخلق؛ يقول للشيء: كن فيكون!! وهم يقولون: إن الصحابة كفار، وكلهم ارتدوا بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ حتى أبو بكر وعمر عند بعضهم كانا كافرين وماتا على النفاق والعياذ بالله، ولا يستثنون من الصحابة إلا آل البيت، ونفرا قليلا ممن قالوا: إنهم أولياء آل البيت. وقد قال صاحب كتاب 'الفصل': إن غلاتهم كفروا علي بن أبي طالب؛ قالوا: لأن عليّا أقر الظلم والباطل حين بايع أبا بكر وعمر، وكان الواجب عليه أن ينكر بيعتهما، فلما لم يأخذ بالحق والعدل، ووافق على الظلم؛ صار ظالما كافراً. (¬1) - وقال فيه أيضاً: الروافض: طائفة غلاة في علي بن أبي طالب وآل البيت، وهم من أضل أهل البدع، وأشدهم كرهاً للصحابة رضي الله عنهم، ومن أراد معرفة ما هم عليه من الضلال؛ فليقرأ في كتبهم وفي كتب من رد عليهم. ¬

(¬1) مجموع فتاوى ورسائل الشيخ العثيمين (8/ 447).

وسموا روافض لأنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عندما سألوه عن أبي بكر وعمر، فأثنى عليهما وقال: هما وزيرا جدي. أما النواصب؛ فهم الذي ينصبون العداء لآل البيت، ويقدحون فيهم، ويسبونهم؛ فهم على النقيض من الروافض. فالروافض اعتدوا على الصحابة بالقلوب والألسن. ففي القلوب يبغضون الصحابة ويكرهونهم؛ إلا من جعلهم وسيلة لنيل مآربهم وغلوا فيهم، وهم آل البيت. وفي الألسن يسبونهم فيلعنونهم ويقولون: إنهم ظلمة! ويقولون: إنهم ارتدوا بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا قليلاً، إلى غير ذلك من الأشياء المعروفة في كتبهم. وفي الحقيقة إن سب الصحابة رضي الله عنهم ليس جرحاً في الصحابة رضي الله عنهم فقط، بل هو قدح في الصحابة وفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي شريعة الله وفي ذات الله عز وجل: أما كونه قدح في الصحابة؛ فواضح. وأما كونه قدحا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فحيث كان أصحابه وأمناؤه وخلفاؤه على أمته من شرار الخلق، وفيه قدح في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجه آخر، وهو تكذيبه فيما أخبر به من فضائلهم ومناقبهم. وأما كونه قدحاً في شريعة الله؛ فلأن الواسطة بيننا وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نقل الشريعة هم الصحابة، فإذا سقطت عدالتهم؛ لم يبق ثقة فيما نقلوه من الشريعة.

وأما كونه قدحاً في الله سبحانه؛ فحيث بعث نبيه - صلى الله عليه وسلم - في شرار الخلق، واختارهم لصحبته وحمل شريعته ونقلها لأمته!! فانظر ماذا يترتب من الطوام الكبرى على سب الصحابة رضي الله عنهم. ونحن نتبرأ من طريقة هؤلاء الروافض الذين يسبون الصحابة ويبغضونهم، ونعتقد أن محبتهم فرض، وأن الكف عن مساوئهم فرض، وقلوبنا -ولله الحمد- مملوءة من محبتهم؛ لما كانوا عليه من الإيمان والتقوى ونشر العلم ونصرة النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) - وقال أيضاً: فمن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ سلامة القلب من البغض والغل والحقد والكراهة، وسلامة ألسنتهم من كل قول لا يليق بهم. فقلوبهم سالمة من ذلك، مملوءة بالحب والتقدير والتعظيم لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عل ما يليق بهم. فهم يحبون أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويفضلونهم على جميع الخلق؛ لأن محبتهم من محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من محبة الله، وألسنتهم أيضاً سالمة من السب والشتم واللعن والتفسيق والتكفير وما أشبه ذلك مما يأتي به أهل البدع؛ فإذا سلمت من هذا؛ ملئت من الثناء عليهم والترضي عنهم والترحم والاستغفار وغير ذلك، وذلك للأمور التالية: أولاً: أنهم خير القرون في جميع الأمم، كما صرح بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم». ¬

(¬1) مجموع فتاوى ورسائل الشيخ العثيمين (8/ 615 - 616).

ثانياً: أنهم هم الواسطة بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين أمته؛ فمنهم تلقت الأمة عنه الشريعة. ثالثاً: ما كان على أيديهم من الفتوحات الواسعة العظيمة. رابعاً: أنهم نشروا الفضائل بين هذه الأمة من الصدق والنصح والأخلاق والآداب التي لا توجد عند غيرهم، ولا يعرف هذا من كان يقرأ عنهم من وراء جدر، بل لا يعرف هذا إلا من عاش في تاريخهم وعرف مناقبهم وفضائلهم وإيثارهم واستجابتهم لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -. فنحن نشهد الله عز وجل على محبة هؤلاء الصحابة، ونثني عليهم بألسنتنا بما يستحقون، ونبرأ من طريقين ضالين: طريق الروافض الذين يسبون الصحابة ويغلون في آل البيت، ومن طريق النواصب الذين يبغضون آل البيت، ونرى أن لآل البيت إذا كانوا صحابة ثلاثة حقوق: حق الصحبة، وحق الإيمان، وحق القرابة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) - وقال في القول المفيد: وأصل مذهبهم من عبد الله بن سبأ، وهو يهودي تلبَّس بالإسلام، فأظهر التشيُّع لآل البيت والغلو فيهم ليشغل الناس عن دين الإسلام ويُفسده كما أفسد بولص دين النصارى عندما تلبَّس بالنصرانية. وأول ما أظهر ابن سبأ بدعته في عهد علي بن أبي طالب، حتى إنه جاءه وقال: أنت الله حقاً -والعياذ بالله-. فأمر علي بالأخدود فحفرت، وأمر بالحطب فجمع، وبالنار فأوقدت، ثم أحرقهم بها؛ إلا أنه يقال: إن ¬

(¬1) مجموع فتاوى ورسائل الشيخ العثيمين (8/ 587 - 588).

موقفه من الصوفية:

عبد الله ابن سبأ هرب وذهب إلى مصر ونشر بدعته؛ فالله أعلم. فالمهم أن علياً رضي الله عنه رأى أمراً لم يحتمله، حيث ادّعوا فيه الألوهية فأحرقهم بالنار إحراقاً، ثم بدأت هذه الفرقة الخبيثة تتكاثر؛ لأن شعارها في الحقيقة النفاق الذي يسمونه التقية، ولهذا كانت هذه الفرقة أخطر ما يكون على الإسلام؛ لأنها تتظاهر بالإسلام والدعوة إليه، وتقيم شعائره الظاهرة؛ كتحريم الخمور وما أشبه ذلك، لكنها تناقضه في الباطن؛ فهم يرون أئمتهم آلهة تدير الكون، وأنهم أفضل من الأنبياء والملائكة والأولياء، وأنهم في مرتبة لا ينالها ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهؤلاء كيف يصح أن تقبل منهم دعوى الإسلام، ولذلك يقول عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كثير من كتبه قولا إذا اطلع عليه الإنسان عرف حالهم: "إنهم أشد الناس ضررا على الإسلام، وأنهم هجروا المساجد وعمَّروا المشاهد"؛ فهم يقولون: لا نصلي جماعة إلا خلف إمام معصوم ولا معصوم الآن، وهم أوّل مَن بنى المشاهد على القبور كما قال الشيخ هنا، ورموا أفضل أتباع الرسول على الإطلاق -وهما أبو بكر وعمر- بالنفاق، وإنهما ماتا على ذلك؛ كعبد الله بن أبيّ بن سلول وأشباهه والعياذ بالله؛ فانظر بماذا تحكم على هؤلاء بعد معرفة معتقدهم ومنهجهم؟!. (¬1) موقفه من الصوفية: قال رحمه الله: أما فيما يتعلق بمسألة الصوفية وغنائهم ومديحهم وضربهم بالدف والتغبير التي يضربون الفراش ونحوه بالسوط فما كان أكثر ¬

(¬1) مجموع فتاوى ورسائل الشيخ العثيمين (9/ 409 - 410).

موقفه من الجهمية:

غبارا فهو أشد صدقا في الطلب، وما أشبه ذلك مما يفعلونه، فإن هذا من البدع المحرمة التي يجب عليه أن يقلع عنها، وأن ينهى أصحابه عنها وذلك لأن خير القرون وهم القرن الذين بعث فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتعبدوا لله بهذا التعبد، ولأن هذا التعبد لا يورث القلب إنابة إلى الله ولا انكسارا لديه ولا خشوعا لديه وإنما يورث انفعالات نفسية يتأثر بها الإنسان من مثل هذا العمل، كالصراخ وعدم الانضباط والحركة الثائرة وما أشبه ذلك، وكل هذا يدل على أن هذا التعبد باطل وأنه ليس بنافع للعبد وهو دليل واقعي غير الدليل الأثري الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين تمسكوابها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة». فهذا التعبد من الضلال المبين الذي يجب على العبد أن يقلع عنه، وأن يتوب إلى الله، وأن يرجع إلى ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه الراشدون، فإن هديهم أكمل هدي وطريقهم أحسن طريق. قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} (¬1). ولا يكون العمل صالحا إلا بأمرين: الإخلاص لله، والموافقة لشريعته التي جاء بها رسوله - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) موقفه من الجهمية: له من الآثار السلفية: ¬

(¬1) فصلت الآية (33). (¬2) فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين (1/ 206 - 207).

1 - 'فتح رب البرية بتلخيص الحموية'. 2 - 'تقريب التدمرية'. 3 - 'تعليقات على الواسطية' (رسالة). 4 - 'شرح الواسطية' (مجلد ضخم). 5 - 'شرح لمعة الاعتقاد'. 6 - 'أسماء الله وصفاته وموقف أهل السنة منها'. 7 - 'القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى'. - قال رحمه الله في كتابه 'القول المفيد': وأما الجهمية فهم أتباع الجهم ابن صفوان، وأول بدعته أنه أنكر صفات الله، وقال: إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما؛ فأنكر المحبة والكلام، ثم بدأت هذه البدعة تنتشر وتتسع، فاعتنقها طوائف غير الجهمية؛ كالمعتزلة ومتأخري الرافضة؛ لأن الرافضة كانوا بالأول مشبهة، ولهذا قال أهل العلم: أول من عرف بالتشبيه هشام بن الحكم الرافضي، ثم تحوّلوا من التشبيه إلى التعطيل، وصاروا ينكرون الصفات. والجهم بن صفوان أخذ بدعته عن الجعد بن درهم، والجعد أخذ بدعته عن أبان بن سمعان، وأبان أخذها عن طالوت الذي أخذها عن لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فتكون بدعة التعطيل أصلها من اليهود، ثم إن الجهم بن صفوان نشأ في بلاد خراسان، وفيها كثير من الصابئة وعُبّاد الكواكب والفلاسفة، فأخذ منهم أيضا ما أخذ، فصارت هذه البدعة مركبة من اليهودية والصابئة والمشركين.

وانتشرت هذه البدعة في الأمة الإسلامية، وهؤلاء الجهمية مُعطّلة في الصفات يُنكرون الصفات، ومنهم مَن أنكر الأسماء مع الصفات، وهذه الأسماء التي يُضيفها الله -سبحانه- إلى نفسه جعلوها إضافات وليست حقيقة، أو أنها أسماء لبعض مخلوقاته؛ فالسميع عندهم بمعنى مَن خلق السمع في غيره والبصير كذلك، وهكذا. ومنهم من أنكر أن يكون الله مُتَّصفا بالإثبات أو العدم، فقالوا: لا يجوز أن نثبت لله صفة أو ننفي عنه صفة؛ حتى قالوا: لا يجوز أن نقول عنه: إنه موجود ولا إنه معدوم؛ لأننا إن قلنا موجود شبّهناه بالموجودات، وإن قلنا بأنه معدوم شبهناه بالمعدومات؛ فنقول: لا موجود ولا معدوم؛ فكابروا المعقول، وكذبوا المنقول، وهذا لا يمكن؛ لأن تقابل الوجود والعدم من تقابل النقيضين اللذين لا يمكن ارتفاعهما ولا اجتماعهما، بل لا بد أن يُوجد أحدهما، فوصف الله بذلك تشبيه له بالممتنعات على قاعدتهم. (¬1) - وقال فيه أيضا: توحيد الأسماء والصفات: وهو إفراد الله عز وجل بما له من الأسماء والصفات. وهذا يتضمن شيئين: الأول: الإثبات، وذلك بأن نثبت لله -عز وجل- جميع أسمائه وصفاته التي أثبتها لنفسه في كتابه أو سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. الثاني: نفي المماثلة، وذلك بأن لا نجعل لله مثيلا في أسمائه وصفاته؛ كما ¬

(¬1) مجموع فتاوى ورسائل الشيخ العثيمين (9/ 410 - 411).

قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (¬1) فدلت هذه الآية على أن جميع صفاته لا يماثله فيها أحد من المخلوقين؛ فهي وإن اشتركت في أصل المعنى، لكن تختلف في حقيقة الحال، فمن لم يثبت ما أثبته الله لنفسه؛ فهو معطل، وتعطيله هذا يشبه تعطيل فرعون، ومن أثبتها مع التشبيه صار مشابها للمشركين الذين عبدوا مع الله غيره، ومن أثبتها بدون مماثلة صار من الموحدين. وهذا القسم من التوحيد هو الذي ضلت فيه بعض الأمة الإسلامية وانقسموا فيه إلى فرق كثيرة؛ فمنهم من سلك مسلك التعطيل، فعطل، ونفى الصفات زاعما أنه مُنزّه لله، وقد ضل؛ لأن المنزّه حقيقةً هو الذي ينفي عنه صفات النقص والعيب، وينزه كلامه من أن يكون تعمية وتضليلا، فإذا قال: بأن الله ليس له سمع، ولا بصر، ولا علم، ولا قدرة؛ لم ينزه الله، بل وصَمَه بأعيب العيوب، ووصم كلامه بالتعمية والتضليل؛ لأن الله يكرر ذلك في كلامه ويثبته، {سَمِيعٌ بَصِيرٌ}، {عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، {غَفُورٌ رَحِيمٌ}، فإذا أثبته في كلامه وهو خال منه؛ كان في غاية التعمية والتضليل والقدح في كلام الله -عز وجل-، ومنهم من سلك مسلك التمثيل زاعما بأنه محقق لما وصف الله به نفسه، وقد ضلوا لأنهم لم يقدروا الله حق قدره؛ إذ وصموه بالعيب والنقص؛ لأنهم جعلوا الكامل من كل وجه كالناقص من كل وجه. وإذا كان اقتران تفضيل الكامل على الناقص يحط من قدره؛ كما قيل: ألم تر أن السيف ينقص قدره ... إذا قيل إن السيف أمضى من العصا ¬

(¬1) الشورى الآية (11).

موقفه من الخوارج:

فكيف بتمثيل الكامل بالناقص؟! هذا أعظم ما يكون جنايةً في حق الله -عز وجل-، وإن كان المعطلون أعظم جرماً، لكن الكل لم يقدر الله حق قدره. فالواجب: أن نؤمن بما وصف الله وسمّى به نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل. (¬1) - وقال في شرحه على العقيدة الواسطية: فإذا سئلنا: من أهل السنة والجماعة؟ فنقول: هم المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب. وهذا التعريف من شيخ الإسلام ابن تيمية يقتضي أن الأشاعرة والماتريدية ونحوهم ليسوا من أهل السنة والجماعة؛ لأن تمسكهم مشوب بما أدخلوا فيه من البدع. وهذا هو الصحيح؛ أنه لا يعد الأشاعرة والماتريدية فيما ذهبوا إليه في أسماء الله وصفاته من أهل السنة والجماعة. وكيف يعدون من أهل السنة والجماعة في ذلك مع مخالفتهم لأهل السنة والجماعة؟! لأنه يقال: إما أن يكون الحق فيما ذهب إليه هؤلاء الأشاعرة والماتريدية، أو الحق فيما ذهب إليه السلف. ومن المعلوم أن الحق فيما ذهب إليه السلف؛ لأن السلف هنا هم الصحابة والتابعون وأئمة الهدى من بعدهم. فإذا كان الحق فيما ذهب إليه السلف، وهؤلاء يخالفونهم؛ صاروا ليسوا من أهل السنة والجماعة في ذلك. (¬2) موقفه من الخوارج: - قال: أما الخوارج؛ فهم على العكس من الرافضة؛ حيث إنهم كفروا ¬

(¬1) مجموع فتاوى ورسائل الشيخ العثيمين (9/ 6 - 8). (¬2) مجموع فتاوى ورسائل الشيخ العثيمين (8/ 685 - 686).

علي بن أبي طالب وكفروا معاية بن أبي سفيان، وكفروا كل من لم يكن على طريقتهم، واستحلوا دماء المسلمين، فكانوا كما وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام: «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية وإيمانهم لا يتجاوز حناجرهم» (¬1).اهـ (¬2) - وسئل عن حكم طاعة الحاكم الذي لا يحكم بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؟ فأجاب بقوله: الحاكم الذي لا يحكم بكتاب الله وسنة رسوله تجب طاعته في غير معصية الله ورسوله، ولا تجب محاربته من أجل ذلك، بل ولا تجوز إلا أن يصل إلى حد الكفر، فحينئذ تجب منابذته، وليس له طاعة على المسلمين. والحكم بغير ما في كتاب الله وسنة رسوله يصل إلى الكفر بشرطين: الأول: أن يكون عالما بحكم الله ورسوله، فإن كان جاهلا به لم يكفر بمخالفته. الثاني: أن يكون الحامل له على الحكم بغير ما أنزل الله اعتقاد أنه حكم غير صالح للوقت وأن غيره أصلح منه، وأنفع للعباد. وبهذين الشرطين يكون الحكم بغير ما أنزل الله كفرا مخرجا عن الملة، لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} (¬3). ¬

(¬1) تقدم تخريجه من حديث ابن مسعود ضمن مواقف الحسن البصري سنة (110هـ). (¬2) شرح العقيدة الواسطية ضمن مجموع فتاواه (8/ 447 - 448). (¬3) المائدة الآية (44).

وتبطل ولاية الحاكم، ولا يكون له طاعة على الناس، وتجب محاربته، وإبعاده عن الحكم. أما إذا كان يحكم بغير ما أنزل الله وهو يعتقد أن الحكم به أي بما أنزل الله هو الواجب، وأنه أصلح للعباد، لكن خالفه لهوى في نفسه أو إرادة ظلم المحكوم عليه، فهذا ليس بكافر بل هو إما فاسق أو ظالم، وولايته باقية، وطاعته في غير معصية الله ورسوله واجبة، ولا تجوز محاربته أو إبعاده عن الحكم بالقوة، والخروج عليه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الخروج على الأئمة إلا أن نرى كفرا صريحا عندنا فيه برهان من الله تعالى. (¬1) وقال: ومن الموانع أيضا (¬2) أن يكون له شبهة تأويل في الكفر بحيث يظن أنه على حق؛ لأن هذا لم يتعمد الإثم والمخالفة فيكون داخلا في قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (¬3) ولأن هذا غاية جهده فيكون داخلا في قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬4) قال في المغني (8/ 131): "وإن استحل قتل المعصومين وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل فكذلك -يعني يكون كافرا- وإن كان بتأويل كالخوارج فقد ذكرنا أن أكثر الفقهاء لم يحكموا بكفرهم مع استحلالهم دماء المسلمين وأموالهم، وفعلهم ذلك متقربين به إلى الله تعالى ¬

(¬1) مجموع فتاوى (2/ 147 - 148). (¬2) أي موانع التكفير. (¬3) الأحزاب الآية (5). (¬4) البقرة الآية (286).

-إلى أن قال-: وقد عرف من مذهب الخوارج تكفير كثير من الصحابة ومن بعدهم واستحلالهم دمائهم، وأموالهم، واعتقادهم التقرب بقتلهم إلى ربهم، ومع هذا لم يحكم الفقهاء بكفرهم لتأويلهم، وكذلك يخرج في كل محرم استحل بتأويل مثل هذا". وفي فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (13/ 30) مجموع ابن القاسم: "وبدعة الخوارج إنما هي من سوء فهمهم للقرآن، لم يقصدوا معارضته، لكن فهموا منه ما لم يدل عليه، فظنوا أنه يوجب تكفير أرباب الذنوب" وفي (ص.210): "فإن الخوارج خالفوا السنة التي أمر القرآن باتباعها، وكفروا المؤمنين الذين أمر القرآن بموالاتهم .. وصاروا يتبعون المتشابه من القرآن فيتأولونه على غير تأوله من غير معرفة منهم بمعناه ولا رسوخ في العلم، ولا اتباع للسنة، ولا مراجعة لجماعة المسلمين الذين يفهمون القرآن". وقال أيضا (¬1) من المجموع المذكور: "فإن الأئمة متفقون على ذم الخوارج وتضليلهم، وإنما تنازعوا في تكفيرهم على قولين مشهورين". لكنه ذكر في (7/ 217): "أنه لم يكن في الصحابة من يكفرهم لا علي بن أبي طالب ولا غيره، بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين كما ذكرت الآثار عنهم بذلك في غير هذا الموضع" وفي (28/ 518): "إن هذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره". وفي (3/ 282) قال: "والخوارج المارقون الذين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة، والتابعين ومن بعدهم، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وغيرهما ¬

(¬1) (28/ 518).

من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على أموال المسلمين؛ فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم، لا لأنهم كفار. ولهذا لم يسب حريمهم، ولم يغنم أموالهم، وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص، والإجماع، لم يكفروا مع أمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم، فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن يكفر الأخرى، ولا تستحل دمها ومالها، وقد تكون بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضا، وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعا جهال بحقائق ما يختلفون فيه". إلى أن قال: "وإذا كان المسلم متأولا في القتال، أو التكفير لم يكفر بذلك". إلى أن قال في (ص.288): "وقد اختلف العلماء في خطاب الله ورسوله هل يثبت حكمه في حق العبيد قبل البلاغ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره ... والصحيح ما دل عليه القرآن في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} (¬1) وقوله: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (¬2). وفي الصحيحين (¬3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين» ". والحاصل أن الجاهل معذور بما يقوله أو يفعله مما يكون كفرا، كما ¬

(¬1) الإسراء الآية (15). (¬2) النساء الآية (165). (¬3) البخاري (13/ 492/7416) ومسلم (2/ 1136/1499).

موقفه من المرجئة:

يكون معذورا بما يقوله أو يفعله مما يكون فسقا، وذلك بالأدلة من الكتاب والسنة، والاعتبار، وأقوال أهل العلم. (¬1) موقفه من المرجئة: سئل الشيخ -أعظم الله مثوبته- عن تعريف الإيمان عند أهل السنة والجماعة وهل يزيد وينقص؟ فأجاب بقوله: الإيمان عند أهل السنة والجماعة هو: (الإقرار بالقلب، والنطق باللسان، والعمل بالجوارح). فهو يتضمن الأمور الثلاثة: 1 - إقرار بالقلب. 2 - نطق باللسان. 3 - عمل بالجوارح. وإذا كان كذلك فإنه سوف يزيد وينقص، وذلك لأن الإقرار بالقلب يتفاضل فليس الإقرار بالخبر كالإقرار بالمعاينة، وليس الإقرار بخبر الرجل كالإقرار بخبر الرجلين وهكذا، ولهذا قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (¬2). فالإيمان يزيد من حيث إقرار القلب وطمأنينته وسكونه، والإنسان يجد ذلك من نفسه فعندما يحضر مجلس ذكر فيه موعظة، وذكر للجنة والنار يزداد الإيمان حتى كأنه يشاهد ذلك رأي العين، وعندما توجد ¬

(¬1) مجموع فتاوى (2/ 136 - 138). (¬2) البقرة الآية (260).

الغفلة ويقوم من هذا المجلس يخف هذا اليقين في قلبه. كذلك يزداد الإيمان من حيث القول فإن من ذكر الله عشر مرات ليس كمن ذكر الله مئة مرة، فالثاني أزيد بكثير. وكذلك أيضاً من أتى بالعبادة على وجه كامل يكون إيمانه أزيد ممن أتى بها على وجه ناقص. وكذلك العمل فإن الإنسان إذا عمل عملاً بجوارحه أكثر من الآخر صار الأكثر أزيد إيماناً من الناقص، وقد جاء ذلك في القرآن والسنة -أعني إثبات الزيادة والنقصان- قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا} (¬1). وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)} (¬2) وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرجل الحازم من إحداكن» (¬3). فالإيمان إذن يزيد وينقص. ¬

(¬1) المدثر الآية (31). (¬2) التوبة الآيتان (124و125). (¬3) تقدم تخريجه في مواقف ابن أبي العز سنة (792هـ).

ولكن ما سبب زيادة الإيمان؟ للزيادة أسباب: السبب الأول: معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته، فإن الإنسان كلما ازداد معرفة بالله، وبأسمائه، وصفاته ازداد إيماناً بلا شك، ولهذا تجد أهل العلم الذين يعلمون من أسماء الله وصفاته ما لا يعلمه غيرهم تجدهم أقوى إيماناً من الآخرين من هذا الوجه. السبب الثاني: النظر في آيات الله الكونية، والشرعية، فإن الإنسان كلما نظر في الآيات الكونية التي هي المخلوقات ازداد إيماناً قال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} (¬1). والآيات الدالة على هذا كثيرة أعني الآيات الدالة على أن الإنسان بتدبره وتأمله في هذا الكون يزداد إيمانه. السبب الثالث: كثرة الطاعات فإن الإنسان كلما كثرت طاعاته ازداد بذلك إيماناً سواء كانت هذه الطاعات قولية، أم فعلية، فالذكر يزيد الإيمان كمية وكيفية، والصلاة والصوم، والحج تزيد الإيمان أيضاً كمية وكيفية. أما أسباب النقصان فهي على العكس من ذلك: فالسبب الأول: الجهل بأسماء الله وصفاته يوجب نقص الإيمان لأن الإنسان إذا نقصت معرفته بأسماء الله وصفاته نقص إيمانه. السبب الثاني: الإعراض عن التفكر في آيات الله الكونية والشرعية، ¬

(¬1) الذاريات الآيتان (21و22).

موقفه من القدرية:

فإن هذا يسبب نقص الإيمان، أو على الأقل ركوده وعدم نموه. السبب الثالث: فعل المعصية فإن للمعصية آثاراً عظيمة على القلب وعلى الإيمان ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن». الحديث (¬1). السبب الرابع: ترك الطاعة فإن ترك الطاعة سبب لنقص الإيمان، لكن إن كانت الطاعة واجبة وتركها بلا عذر، فهو نقص يلام عليه ويعاقب، وإن كانت الطاعة غير واجبة، أو واجبة لكن تركها بعذر فإنه نقص لا يلام عليه، ولهذا جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - النساء ناقصات عقل ودين، وعلّل نقصان دينها بأنها إذا حاضت لم تصل ولم تصم، مع أنها لا تلام على ترك الصلاة والصيام في حال الحيض بل هي مأمورة بذلك لكن لما فاتها الفعل الذي يقوم به الرجل صارت ناقصة عنه من هذا الوجه. (¬2) موقفه من القدرية: قال رحمه الله: القدر بفتح الدال: تقدير الله تعالى للكائنات، حسبما سبق به علمه، واقتضته حكمته. والإيمان بالقدر يتضمن أربعة أمور: الأول: الإيمان بأن الله تعالى علم بكل شيء جملة وتفصيلا، أزلا وأبدا، سواء كان ذلك مما يتعلق بأفعاله أوبأفعال عباده. الثاني: الإيمان بأن الله كتب ذلك في اللوح المحفوظ، وفي هذين الأمرين ¬

(¬1) تقدم تخريجه في مواقف الحسن البصري سنة (110هـ). (¬2) مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين (1/ 49 - 52).

يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَن اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)} (¬1). وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة» (¬2). الثالث: الإيمان بأن جميع الكائنات لا تكون إلا بمشيئة الله تعالى، سواء كانت مما يتعلق بفعله أم مما يتعلق بفعل المخلوقين، قال الله تعالى فيما يتعلق بفعله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} (¬3) وقال: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)} (¬4) وقال: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} (¬5) وقال تعالى فيما يتعلق بفعل المخلوقين: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} (¬6) وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)} (¬7). الرابع: الإيمان بأن جميع الكائنات مخلوقة لله تعالى بذواتها، وصفاتها، ¬

(¬1) الحج الآية (70). (¬2) أخرجه مسلم (4/ 2044/2653). (¬3) القصص الآية (68). (¬4) إبراهيم الآية (27). (¬5) آل عمران الآية (6). (¬6) النساء الآية (90). (¬7) الأنعام الآية (137).

وحركاتها، قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} (¬1) وقال: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)} (¬2) وقال عن نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} (¬3). والإيمان بالقدر على ما وصفنا لا ينافي أن يكون للعبد مشيئة في أفعاله الاختيارية وقدرة عليها، لأن الشرع والواقع دالان على إثبات ذلك له. أما الشرع: فقد قال الله تعالى في المشيئة: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا (39)} (¬4) وقال: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (¬5) وقال في القدرة: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} (¬6) وقال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (¬7). وأما الواقع: فإن كل إنسان يعلم أن له مشيئة وقدرة بهما يفعل وبهما يترك، ويفرق بين ما يقع بإرادته كالمشي، وما يقع بغير إرادته كالارتعاش، ¬

(¬1) الزمر الآية (62). (¬2) الفرقان الآية (2). (¬3) الصافات الآية (96). (¬4) النبأ الآية (39). (¬5) البقرة الآية (223). (¬6) التغابن الآية (16). (¬7) البقرة الآية (286).

لكن مشيئة العبد وقدرته واقعتان بمشيئة الله تعالى، وقدرته لقول الله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} (¬1) ولأن الكون كله ملك لله تعالى فلا يكون في ملكه شيء بدون علمه ومشيئته. والإيمان بالقدر على ما وصفنا لا يمنح العبد حجة على ما ترك من الواجبات أو فعل من المعاصي، وعلى هذا فاحتجاجه به باطل من وجوه: الأول: قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)} (¬2) ولوكان لهم حجة بالقدر ما أذاقهم الله بأسه. الثاني: قوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)} (¬3) ولو كان القدر حجة للمخالفين لم تنتف بإرسال الرسل، لأن المخالفة بعد إرسالهم واقعة بقدر الله تعالى. ¬

(¬1) التكوير الآيتان (28و29). (¬2) الأنعام الآية (148). (¬3) النساء الآية (165).

الثالث: ما رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من النار أو من الجنة». فقال رجل من القوم: ألا نتكل يا رسول الله؟ قال: «لا، اعملوا فكل ميسر»، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5)} (¬1) الآية. وفي لفظ لمسلم: «فكل ميسر لما خلق له» (¬2) فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعمل ونهى عن الاتكال على القدر. الرابع: أن الله تعالى أمر العبد ونهاه، ولم يكلفه إلا ما يستطيع، قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬3) وقال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬4) ولو كان العبد مجبرا على الفعل لكان مكلفا بما لا يستطيع الخلاص منه، وهذا باطل ولذلك إذا وقعت منه المعصية بجهل، أونسيان، أو إكراه، فلا إثم عليه لأنه معذور. الخامس: أن قدر الله تعالى سر مكتوم لا يعلم به إلا بعد وقوع المقدور، وإرادة العبد لما يفعله سابقة على فعله فتكون إرادته الفعل غير مبنية على علم منه بقدر الله، وحينئذ تنتفي حجته بالقدر إذ لا حجة للمرء فيما لا يعلمه. ¬

(¬1) الليل الآية (5). (¬2) تقدم تخريجه في مواقف عبد الرحمن بن ناصر السعدي سنة (1376هـ). (¬3) التغابن الآية (16). (¬4) البقرة الآية (286).

السادس: أننا نرى الإنسان يحرص على ما يلائمه من أمور دنياه حتى يدركه ولا يعدل عنه إلى ما لا يلائمه ثم يحتج على عدوله بالقدر، فلماذا يعدل عما ينفعه في أمور دينه إلى ما يضره ثم يحتج بالقدر؟ أفليس شأن الأمرين واحدا؟. وإليك مثالا يوضح ذلك: لو كان بين يدي الإنسان طريقان أحدهما ينتهي به إلى بلد كلها فوضى، وقتل، ونهب، وانتهاك للأعراض وخوف، وجوع، والثاني ينتهي به إلى بلد كلها نظام، وأمن مستتب، وعيش رغيد، واحترام للنفوس والأعراض والأموال، فأي الطريقين يسلك؟ إنه سيسلك الطريق الثاني الذي ينتهي به إلى بلد النظام والأمن، ولا يمكن لأي عاقل أبدا أن يسلك طريق بلد الفوضى، والخوف، ويحتج بالقدر، فلماذا يسلك في أمر الآخرة طرق النار دون الجنة ويحتج بالقدر؟ مثال آخر: نرى المريض يؤمر بالدواء فيشربه ونفسه لاتشتهيه، وينهى عن الطعام الذي يضره فيتركه ونفسه تشتهيه، كل ذلك طلبا للشفاء والسلامة، ولا يمكن أن يمتنع عن شرب الدواء أو يأكل الطعام الذي يضره ويحتج بالقدر فلماذا يترك الإنسان ما أمر الله ورسوله، أويفعل ما نهى الله ورسوله ثم يحتج بالقدر؟. السابع: أن المحتج بالقدر على ما تركه من الواجبات أو فعله من المعاصي، لو اعتدى عليه شخص فأخذ ماله أو انتهك حرمته ثم احتج بالقدر، وقال: لا تلمني فإن اعتدائي كان بقدر الله، لم يقبل حجته. فكيف لا يقبل الاحتجاج بالقدر في اعتداء غيره عليه، ويحتج به لنفسه في اعتدائه

على حق الله تعالى؟ ويذكر أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه رفع إليه سارق استحق القطع، فأمر بقطع يده فقال: مهلا يا أمير المؤمنين، فإنما سرقت بقدر الله، فقال عمر: ونحن إنما نقطع بقدر الله. وللإيمان بالقدر ثمرات جليلة منها: الأولى: الاعتماد على الله تعالى، عند فعل الأسباب بحيث لا يعتمد على السبب نفسه لأن كل شيء بقدر الله تعالى. الثانية: أن لا يعجب المرء بنفسه عند حصول مراده، لأن حصوله نعمة من الله تعالى، بما قدره من أسباب الخير، والنجاح، وإعجابه بنفسه ينسيه شكر هذه النعمة. الثالثة: الطمأنينة، والراحة النفسية بما يجري عليه من أقدار الله تعالى فلا يقلق بفوات محبوب، أو حصول مكروه، لأن ذلك بقدر الله الذي له ملك السموات والأرض، وهو كائن لا محالة وفي ذلك يقول الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)} (¬1) ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا ¬

(¬1) الحديد الآيتان (22و23).

للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» (¬1) رواه مسلم. وقد ضل في القدر طائفتان: إحداهما: الجبرية الذين قالوا إن العبد مجبر على عمله وليس له فيه إرادة ولا قدرة. الثانية: القدرية الذين قالوا إن العبد مستقل بعمله في الإرادة والقدرة، وليس لمشيئة الله تعالى وقدرته فيه أثر. والرد على الطائفة الأولى (الجبرية) بالشرع والواقع: أما الشرع: فإن الله تعالى أثبت للعبد إرادة ومشيئة، وأضاف العمل إليه، قال الله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ} (¬2) وقال: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} (¬3) الآية. وقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} (¬4). وأما الواقع: فإن كل إنسان يعلم الفرق بين أفعاله الاختيارية التي ¬

(¬1) أخرجه أحمد (4/ 332) ومسلم (4/ 2295/2999) من حديث صهيب رضي الله عنه. (¬2) آل عمران الآية (152). (¬3) الكهف الآية (29). (¬4) فصلت الآية (46).

يفعلها بإرادته كالأكل، والشرب، والبيع، والشراء، وبين ما يقع عليه بغير إرادته كالارتعاش من الحمى، والسقوط من السطح، فهو في الأول فاعل مختار بإرادته من غير جبر، وفي الثاني غير مختار ولامريد لما وقع عليه. والرد على الطائفة الثانية (القدرية) بالشرع والعقل. أما الشرع: فإن الله تعالى خالق كل شيء، وكل شيء كائن بمشيئته، وقد بين الله تعالى في كتابه أن أفعال العباد تقع بمشيئته فقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)} (¬1) وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)} (¬2). وأما العقل: فإن الكون كله مملوك لله تعالى، والإنسان من هذا الكون، فهو مملوك لله تعالى، ولا يمكن للمملوك أن يتصرف في ملك المالك إلا بإذنه ومشيئته. (¬3) ¬

(¬1) البقرة الآية (253). (¬2) السجدة الآية (13). (¬3) شرح الأصول الثلاثة (مجموع الفتاوى له 6/ 109 - 115).

محمود مهدي الإستانبولي (حوالي 1421 هـ)

محمود مهدي الإستانبولي (حوالي 1421 هـ) موقفه من المبتدعة: له رسالة صغيرة المباني، غزيرة الفوائد والمعاني، أسماها: 'كتب ليست من الإسلام'. ردّ فيها على مجموعة من الكتب المشبوهة، وللإسلام أضحت مُشوِّهة. قال فيها: لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يتدارسون سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومغازيه ويعلمونها أطفالهم، كما يعلمونهم القرآن. كل ذلك على أمل التأسي به - صلى الله عليه وسلم - باتباع أوامره واجتناب نواهيه، وليس ذلك بالطرب وسماع الأغاني المائعة والسخيفة وقديماً قال الشاعر: لو كان حبك صادقاً لأطعته ... إن المحبّ لمن يحبّ مطيع ومما يؤسف له، ولعلّ ذلك كان مقصوداً من أعداء الإسلام، أنه قد وضعت في مناسبة مولده - صلى الله عليه وسلم - قصص -وكذلك في معراجه كما سنرى- قصص نسبت إلى بعض الشخصيات الإسلامية لتنطلي على العامة، فيقبلون على قراءتها. وفي هذه القصص كثير من الأكاذيب والأوهام والسخافات التي تسيء إلى سمعة هذا الرسول العظيم - صلى الله عليه وسلم - وتنفر الأجيال وغيرهم منه. وقد كنت نشرت منذ سنوات بعيدة في الصحف الدمشقية نقد إحدى هذه القصص، وهي المسماة (بمولد العروس) وجاء فيه: بين يديّ الآن قصة (مولد العروس) المنسوبة كذباً وافتراءً إلى العلامة الكبير ابن الجوزي لما فيها من الضلالات والأساطير المعزوّ إلى الله تعالى وإلى

موقفه من المشركين:

نبيّه الكريم مما لا يصحّ السكوت عنه. (¬1) ثم ذكر الأباطيل والأكاذيب الواردة فيه، وردّ عليها ردّاً مباركاً. موقفه من المشركين: - قال في مقدمة كتابه الماتع 'طه حسين في ميزان العلماء والأدباء': في أوائل الثلاثينات من هذا القرن العشرين، ظهر الكاتب الدكتور طه حسين، فحمل على الإسلام حملات شرسة، وخصّ القرآن العظيم بالنقد والتكذيب سنة، وعمد إلى نشر أدب الفسق والدعارة والزندقة، تساعده في ذلك المراكز الاستشراقية، والدوائر الاستعمارية، ودعاة التغريب، الذين يسعون لهدم أركان هذا الدين بمختلف الوسائل الظاهرة والخفية، من أجل تحطيم أعظم معاقل الدفاع بين المسلمين، للتمكن منهم والقضاء على معاقل الدفاع فيهم وإفناء شخصيتهم، ليذوبوا في الحضارة الغربية الفاشلة ... فقيّض الله سبحانه جماعة من كبار العلماء والأدباء، ندر أن يجود الزمن بمثلهم، للدفاع عن الإسلام والرّدّ على هذا الخصم الشرس والأديب العميل، بالكشف عن دسّه وجهله، فألقموه حجراً، وأصلوه ناراً حامية. ولكن العاصفة هدأت، ومضى نصف قرن من النسيان على هذه المعركة بين الحق والباطل، واختفت هذه الردود في زوايا الإهمال، حتى كأنها لم تكن! وبقيت كتب الباطل تسرح وتمرح، وازداد نشاطها لتفسق في الأرض، وتنشر الفساد والضلال. ¬

(¬1) كتب ليست من الإسلام (ص.47 - 48).

وقد كان المفروض في هذه الدسائس والأكاذيب أن تندثر بعد منيّة كاتبها؛ فتموت بموته. ولكن من وراء نشرها والدعاية لها والإنفاق عليها الدوائر والمراكز التي سبق ذكرها، لاستمرار دولة الباطل على تمثيل دورها الإجراميّ المدمّر ... لهذا كلّه سارعت لإنقاذ الموقف، فأصدرت هذا الكتاب الضخم، انتصاراً للحقّ وحماية للأجيال المسلمة، جمعت فيه أغلب هذه الردود القويّة، والشموس الساطعة، والقذائف الرّهيبة على الباطل. اقرأه بتدبّر وإمعان، تطّلع على حقائق مذهلة وآثار قيمة منسية لا توجد في غيره، مما لا غنى عنه! .. وقد سار طه حسين قُدُماً، في طريقه هالة من الخداع والتضليل والحماية تحت أسماء التجديد والتقدّم العصريّة والبحث العلميّ، وظهرت الأجيال الجديدة من الشباب في هذا الجوّ المطعم بالخرافة الأسطورية، فلم تستطع أن تتبيّن وجه الحق، بعدما رأت ما أطلق عليه عميد الأدب محاطاً بهالة من التبرير والدوي، فلم تعرف حقيقة الدور الذي قام به في مجال التغريب والغزو الثقافي، فكان لا بد أن ينطلق للحق لسان {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (¬1). ومن ثم كانت هذه المحاولة السريعة التي نقدمها اليوم بين يدي القارئ ... (¬2) ¬

(¬1) الأنبياء الآية (18). (¬2) طه حسين في ميزان العلماء والأدباء (ص.7 - 8).

- ثم قال: ما كاد طه حسين المسمى بعميد الأدب العربي، يرحل من الدنيا، حتى سارع أنصاره ومحبّوه وكثير من طلابه ومن وراء كلّ ذلك المستشرقون من أعداء الإسلام، إلى تصنيف الكتب العديدة عن مزاياه وجهاده ليبهروا أصحاب العقول البسيطة، والنفوس الضعيفة بعظمته المزعومة ويفرضوا على الناس آراءه الإلحادية والهدامة. ومن هذه المؤلفات كتاب 'قاهر الظلام' اطلعت عليه في واجهات بعض المكتبات، ولم تطاوعني نفسي حتى على تصفحه لما في عنوانه من خداع وتعريض بالإسلام. ومثله كتاب 'طه حسين وزوال المجتمع التقليدي'! ومما يؤسف له أننا لم نجد من العلماء والأدباء المؤمنين من تصدى لهذا (العميد) ولأتباعه بعد موته كما تصدى العلماء والأدباء الغيارى في حياته في أوائل هذا العصر، فكشفوا عن تآمره على الإسلام وعلى لغة القرآن وتجنيه على الحقيقة والتاريخ وعبثه بعقول الكثير من السذج والمخدوعين. وقد أصدرت له بعد موته دور النشر التجارية التي قد تكون مخدوعة بشهرته الواسعة، أو مدفوعة بالربح الماديّ، المؤلفات الكاملة له، مع مقدمات إضافية عن قيمتها العلمية والأدبية المزعومة، ناسية أو متناسية تبعتها أمام الله العظيم في تضليل الأجيال، وهو القائل: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)} (¬1). ولما كان السكوت عن هذه المؤلفات يعدّ جبناً وهزيمة بل مؤامرة على ¬

(¬1) يس الآية (12).

الإسلام وبعداً عن الحق وتجنياً عليه، رأيت من واجبي أن أجمع أقوال أكثر العلماء والأدباء الكبار الذين تصدوا لطه حسين في أوج مجده المصطنع، وبرهنوا بالحجج الدامغة والأدلة الساطعة على ضلاله وزيفه، وحطموا شخصيته الموهومة، وذلك خدمة للحق الناصع ودفاعاً عن الحمى المستباح، وإنقاذاً للأجيال الحاضرة والمستقبلة من أن تقع فريسة للخداع البراق والزائف. وقد وقعت فعلاً، وظهرت بوادر ظاهرة رهيبة منذ سنوات، لا تزال مستمرة، تتلخص بجرأة بعض الكتّاب على القرآن واتهامه بالتناقض، ونعتهم قصصه بالأساطير -كما قال طه حسين من قبل- ووصفهم الله جلّ شأنه بالمكر والتناقض والخداع، مما لم نكن نعهده من قبل كأمثال صادق العظم في كتابه 'النقد الفكري والديني' وأمثاله، وقد ردّ عليه بعض العلماء والكتّاب أمثال الأخ المؤرخ والعالم الغيور 'محمد عزة دروزه' في كتابه 'القرآن والملحدون' وغيره. ولو درسنا الأسباب متعقبين الحوادث لوجدنا ذلك نتيجة مؤلفات طه حسين. ومن المؤلم أن أحداً -كما أعلم- ممن ردّ على صادق العظم وغيره لم يذكر من قريب أو بعيد أن ذلك من نتائج أقوال من سمي بعميد الأدب فهو المسؤول الأول ... وخاصة بعد اختفاء آثار كبار العلماء والأدباء الذين ردّوا عليه وأوضحوا مبلغ تجنيه على الحق وبُعده عن الصواب، الأمر الذي يفيد في ردع الضالين وتنبيه الغافلين وتحذير المبتدئين. (¬1) ¬

(¬1) طه حسين في ميزان العلماء والأدباء (ص.9 - 10).

موقفه من الصوفية:

موقفه من الصوفية: قال في مقدمة رسالته 'كتب ليست من الإسلام': وبعد فإن القارئ والقارئة سيفاجآن -على الغالب- حين دراسة هذه الرسالة، بحقائق مذهلة، عما جاء في بعض الكتب المسماة إسلامية! من مبالغات وضلالات وشركيات، انكب عليها غالبية المسلمين في كثير من بلدان العالم الإسلامي، ويا للأسف، يتلون ما جاء فيها آناء الليل وأطراف النهار، مما صرفهم عن كتاب ربهم سبحانه، وحديث نبيهم محمد. وقد جاء فيها كثير من الأحاديث الموضوعة والأخبار الملفقة الكاذبة الخاطئة، ليغري مؤلفوها المسلمين بتلاوتها، متعهدين لمن يثابر على ذلك بالثواب الجزيل والأجر العظيم مما ينكره الشرع، ولا يتصوره العقل، فإن الله سبحانه لا يعبد بالضلالات والخرافات ... وراح البوصيري ناظم 'البردة' يزعم كاذباً أنه أصيب بالفالج، فأنشدها للرسول - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فسر بها وكساه بردته، فاستيقظ في الصباح معافى، مما تكذبه الأحاديث، كما يكذبه الواقع والتجربة، الأمر الذي يجعل الكثيرين من الجهلة والمغفلين وأدعياء العالم ينشدونها، ويتلونها كما يتلون القرآن، ويكتبونها في الآنية ويشربون ماءها، مع ما فيها من الضلالات والشركيات، وكل ذلك بدعة ضلالة، فلم يعرف عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه فعل ذلك أو أمر به! وقد رأيت إنقاذاً للموقف، وحرصاً على إيمان المسلمين مما في هذه الكتب من خرافات ووثنيات، التحدث عن كل منها بما تيسر، للكشف عما فيها من أفكار خبيثة وشركيات مضللة، تتفطر منها القلوب، وتشيب من هولها الرؤوس، وتتقزز من سخفها النفوس، خفيت على الكثيرين -ويا

للخسارة- فأبعدتهم بسبب الجهل والغفلة والشهرة الطاغية، عن كتاب ربهم العظيم، وهو الدستور الإلهي الذي من عمل به اهتدى، ومن تركه ضلّ ضلالاً بعيداً. وفي تلاوته -وخاصة مع التدبر- الثواب الجزيل مما لا يتوفر في غيره. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من قرأ حرفاً من كتاب الله، فله حسنة، والحسنة بعشرة أمثالها! لا أقول: (ألم) حرفاً: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» (¬1) رواه الترمذي، وسنده صحيح، كما قال المحدثون. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيحبّ أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد ثلاث خلفات (الناقة) عظام سمان؟ قلنا: نعم! قال: فثلاث آيات من يقرؤهن أحدكم في صلاته، خير له من ثلاث خلفات عظام سمان» (¬2) رواه مسلم. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه» (¬3) رواه مسلم. هذا -ولا شك- أن بعض أنصار هذه الكتب المشؤومة، كالعامة وسدنة القبور والمغفلين من المتعامين سيشيعون بين الناس -كما هو شأنهم في محاربة كل إصلاح، للتنفير من دراسة هذه الرسالة: (إننا لا نحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونكره الصلاة عليه) {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ ¬

(¬1) أخرجه من حديث ابن مسعود: الترمذي (5/ 161/2910) وقال: "حسن صحيح غريب من هذا الوجه"، والحاكم (1/ 566) وصححه. (¬2) أخرجه من حديث أبي هريرة: أحمد (2/ 466) ومسلم (1/ 552/802) وابن ماجه (2/ 1243/3782). (¬3) أخرجه من حديث أبي أمامة: أحمد (5/ 249) ومسلم (1/ 553/804).

إِلَّا كَذِبًا (5)} (¬1)، وذلك ليفسدوا علينا خطتنا الإصلاحية في محاربة البدع والضلالات. فنأمل من المسلمين الواعين مساعدتنا في إحباط هذه المؤامرة، والابتعاد عن هاتين المفسدتين: 'دلائل الخيرات' و'البردة' بعد أن يتحقق لهم البرهان من القرآن والسنة على صحة ما نقوله، لإنقاذ المسلمين من العقائد والأفكار الزائفة، ليكتب لنا الثواب معاً إن شاء الله تعالى. والله سبحانه يشهد، وهو خير الشاهدين، أننا ما نشرنا هذا البحث إلا غيرة على القرآن وحماية للتوحيد وحبّاً بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، وحرصاً على المسلمين الحريصين على الصلاة على النبي، وهي خير موضوع لما فيه من الثواب العظيم والأجر الجزيل، فقد قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} (¬2) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «من صلّى عليّ واحدة صلى الله عليه عشرة» رواه مسلم (¬3)، وهناك أحاديث عديدة في فضل الصلاة على النبيّ وعظيم ثوابها. (¬4) - وله ردود على كل من 'دلائل الخيرات' للجزولي، و'الطبقات' ¬

(¬1) الكهف الآية (5). (¬2) الأحزاب الآية (56). (¬3) أخرجه من حديث أبي هريرة: أحمد (2/ 372) ومسلم (1/ 306/408) وأبو داود (2/ 184/1530) والترمذي (2/ 355 - 356/ 485) وقال: "حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح". والنسائي (3/ 57 - 58/ 1295). (¬4) كتب ليست من الإسلام (ص.3 - 6).

للشعراني، و'الأنوار القدسية' له، و'تائية ابن الفارض' وغيرها من الكتب المعتمدة في التصوف. قال رادا على الأنوار القدسية: يقول الشعراني تحت عنوان (لا ذكر بعد المشاهدة): ثم إذا دخل الحضرة وحضر قلبه مع الحق تعالى فليسكت حينئذٍ، لأنه لا معنى للذكر اللفظي مع شهود الحق تعالى، ثم قال: بذكر الله تزداد الذنوب ... وتنطمس البصائر والقلوب!! ويقول الشعراني تحت عنوان (من شأن المريد أن لا يقول لشيخه: لِمَ؟). وقال أيضاً: (من ظهر له في شيخه نقص عدم النفع به) ويقول أيضاً: وسمعت شيخ الإسلام الشيخ برهان الدين بن أبي شريف رحمه الله يقول: (من لم ير خطأ شيخه أحسن من صوابه هو لم ينتفع به). وقال أيضاً: وكان يقول: (المريد الصادق مع شيخه كالميت مع مغسله لا كلام ولا حركة ولا يقدر ينطق بين يديه من هيبته، ولا يدخل ولا يخرج ولا يخالط أحداً ولا يشتغل بعلم ولا قرآن ولا ذكر إلا بإذنه: لأنه أمين على المريد فيما يرقبه، وربّ عمل فاضل دخلته النفس وصار مفضولاً). ويقول الشعراني: (وزار أبو تراب النخشي وشقيق البلخي أبا يزيد البسطامي فلما قدم خادمه السفرة قالا له: كل معنا يا فتى، فقال: إني صائم، فقال له أبو تراب: كل ولك أجر صوم سنة فقال: لا، فقال أبو يزيد: دعوا من سقط من عين رعاية الله عز وجلّ فسرق ذلك الشابّ بعد سنة فقطعت يده عقوبة له على سوء أدبه مع الأشياخ). وقال الشعراني: (وسمعت سيدي علي الخواص رحمه الله يقول: لا يبلغ

أحد مقام الإخلاص في الأعمال حتى يصير يعرف ما وراء الجدار وينظر ما يفعله الناس في قعور بيوتهم في بلاد أخرى). ويقول أيضاً: (والله ما صدق مريد في محبة الطريق إلا نبعت الحكمة من قلبه وصار يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي بإذن الله). ويقول أيضاً: (وكذلك بلغنا سيدي محمد الشوعي أحد أصحاب سيدي مدين والمدفون في زاويته تجاه قبته، إنه تزوج بكراً فمكثت معه يسيراً ومات عنها وهي بكر، وكان قال لها: لا تتزوجي بعدي أحداً أقتله، فلما مات خطبها شخص واستفتى العلماء بها فقالوا له: هذا خاص برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدخل بها فلما جلس عندها قبل أن يمسها خرج الشيخ له من الحائط بحربة فطعنه فمات لوقته). وذكر بعدها عدة قصص مثل ذلك، وختم هذه الحكايات بقوله: (هذه وقائع فمن شك فليجرب، اللهم إلا أن يأمر الشيخ بذلك لما يرى لزوجته من الحظ والمصلحة مثلاً فلا بأس بذلك، فينبغي للمفتي في ذلك أن يتوقف ويقول: أنا لا أفتي على أحد من أرباب الأحوال). ونختتم الكلام عن هذا الكتاب بهذه القصة: قال الشعراني: (وحكى لي خادم سيدي أبي الخير الكليباني أن شخصاً أتاه وأخبره أنه قال للشيخ: (إن زوجتي حامل وقد اشتهت مامونية حموية ولم أجدها، فقال له الشيخ: ائتني بوعاء، فأتاه به فتغوط له فيها مأمونية حموية سخنة، فقال الخادم: وأكلت منها لعدم اعتقادي أنها غائط. لا شك أن القارئ تألم كثيراً من هذه الانحرافات والضلالات والسخافات التي جاءت في كتاب 'الأنوار القدسية'، ولكن ما قوله إذا

ذكرت له أن لجنة في مصر -في بلد الأزهر- تألفت -ولا شك أن أغلب أعضائها منه- 'لإحياء التراث الصوفي'. وقد حَقَّقَتْ كتاب 'الأنوار القدسية' وقد علّق عليه أحد أعضائها!! وهي خليقة أن تسمى: 'الظلمات الصوفية'! لمثل هذا يذوب القلب من كمد ... إن كان في القلب إخلاص وإيمان. (¬1) - وقال أيضاً رادّاً على حِكم ابن عطاء الله السكندري: أ- أقوال يؤيد فيها نظرية وحدة الوجود القائلة بأن الخالق والمخلوق واحد ومثلها نظرية الاتحاد والحلول، وكل ذلك كفر! 1 - (كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان). إن القسم الأول من هذا الكلام حديث صحيح، والقسم الثاني وحدة وجود، فصار المعنى: كان الله ولا شيء معه، والآن هو لا شيء معه! أي: أن الله والكون واحد! 2 - (ما حجبك عن الله وجود موجود معه، إذ لا شيء معه! ولكن حجبك عنه، توهم موجود معه). 3 - (كيف يتصور أن يحجبه شيء، وهو الواحد الذي ليس معه شيء)! 4 - (أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكوَّن، فإذا شهدته، كانت الأكوان معك). 5 - (ما العارف من إذا أشار، وجد الحق أقرب إليه من إشارته، بل ¬

(¬1) كتب ليست من الإسلام (ص.72 - 75).

العارف من لا إشارة له لفنائه في وجوده وانطوائه في شهوده). 6 - (الكون كله ظلمة، وإنما أناره ظهور الحق فيه، فمن رأى الكون، وشهده فيه أو عنده أو قبله، أو بعده، فقد أعوزه وجود الأنوار، وحجبت عنه شموس العارف، بسحب الآثار). 7 - (علم منك أنك لا تصبر عنه، فأشهدك ما برز منه). 8 - (لولا ظهوره في المكونات! ما وقع عليها أبصار، ولو ظهرت صفاته اضمحلت مكوناته). 9 - (الفكرة فكرتان: فكرة تصديق وإيمان، وفكرة شهود وعيان! فالأولى لأرباب الاعتبار، والثانية لأرباب الشهود والاستبصار). ب- أقواله في النهي عن دعاء الله، مما لا يقول به من لديه إنارة من علم أو إيمان: 1 - (سؤالك منه اتهام له). ويستدلّ ابن عطاء الله على ذلك بحديث باطل على لسان إبراهيم عليه الصلاة والسلام: حسبي من سؤالي علمه بحالي، وهو مخالف للآيات والأحاديث الكثيرة التي تحض على دعاء الله كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} أي: عن دعائي {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} وقوله سبحانه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (¬1). 2 - (من عبده لشيء يرجوه منه، أو ليدفع عنه ورود العقوبة منه، فما قام بحق أوصافه). هذا الكلام هو كقول رابعة العدوية المنحرف: (ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا رغبة في جنتك، ولكني عبدتك لأنك أهل للعبادة) وهذا مخالف لعبادة الملائكة الذين يخافون ربهم من فوقهم، وعبادة الأنبياء الذين يعبدون الله سبحانه رغباً ورهباً!. 3 - (لا تطلب منه أن يخرجك من حالة ليستعملك فيما سواها، فلو أرادك لاستعملك من غير إخراج). 4 - (ربما دلهم الأدب إلى ترك الطلب). ليت هذا الجاهل علم أن الأمر بالعكس، فإن ترك الطلب هو العصيان، وقلة الأدب! 5 - (من عبده لشيء يرجوه منه، أو ليدفع بطاعته ورود العقوبة عنه، فما ¬

(¬1) غافر الآية (60).

قام بحق أوصافه). 6 - (إنما يذكر من يجوز عليه الإغفال، وإنما ينبه من يمكن منه الإهمال) ترى لماذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يكثر من الدعاء ويأمر به إلى درجة الإلحاح! 7 - (ربما استحيا العارف أن يرفع حاجته إلى مولاه لاكتفائه بمشيئته (!) فكيف لا يستحي أن يرفعها إلى خليقته) لقد سمح لنا الشارع الحكيم أن نرفع حاجتنا إلى الناس، على أن نعتقد أنه هو المعطي. 8 - (كيف تطلب العوض على عمل هو متصدق به عليك؟ أم كيف تطلب الجزاء على صدق هو مهديه إليك) ومعنى ذلك أن تبقى خشباً مسندة!!

9 - (كيف أشكو إليك حالي وهي لا يخفى عليك). ج - أقوال تشجع على ارتكاب المعاصي: 1 - (أنت إلى حلمه إذا أطعته، أحوج منك إلى حلمه إذا عصيته). 2 - (ربما فتح لك باب الطاعة، وما فتح لك باب القبول، وربما قضى عليك بالذنب، فكان سبباً بالوصول). هذا الكلام تشجيع على ارتكاب الذنوب، فما فتح سبحانه باب الطاعة إلا ليكافئ عليها. جاء في القرآن العظيم: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)} (¬1). د- أقوال تشجع على تعطيل المواهب والعزائم وتدعو إلى التماوت وترك التدبير: 1 - (أرح نفسك من التدبير، فما قام به غيرك عنك، لا تقم به لنفسك). وقد تكلمتُ عن ذلك مفصلاً حين الكلام على كتاب ابن عطاء الله المسموم والمضلل: (التنوير في إسقاط التدبير). 2 - (سوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار) فما أدرانا بهذه الأقدار؟! وقد علمنا الخليفة الراشد عمر بن الخطاب أن نفر من قضاء الله إلى قضاء الله ... وقد حضنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «احرص على ما ينفعك ولا تعجز» (¬2). 3 - (إذا فتح لك وجهة من التعرف، فلا تبالِ معها إن قلّ العمل ... ). ¬

(¬1) الأنبياء الآية (101). (¬2) أخرجه من حديث أبي هريرة: أحمد (2/ 366) ومسلم (2/ 2052/2664) وابن ماجه (1/ 31/79).

4 - (ادفن وجودك في أرض الخمول فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه) أين كل هذا من قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)} (¬1)!؟ هـ - أقوال متناقضة وسخيفة: 1 - (جل ربنا أن يعامله العبد نقداً، فيجازيه نسيئة) إذا كان الأمر كما قال، فما الفائدة من الآخرة؟! 2 - (إنما جعل الدار الآخرة محلاً لجزاء عباده المؤمنين، لأن هذه الدار لا تسع ما يريد أن يعطيهم، ولأنه أجلَّ أقدارهم عن أن يجزيهم في دار لا بقاء لها). 3 - (العطاء من الخلق حرمان (!)، والمنع من الله إحسان!). إذا كان الأمر كما يقوله هذا الجاهل، فلماذا أمرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «من لا يشكر الناس، لا يشكر الله» (¬2) ولا أدري كيف يكون عطاء الله سبحانه إذا لم يكن عن طريق الناس؟! وقد قال الخليفة عمر رضي الله عنه: إنما يرزق الله الناس بعضهم من بعض، فإن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة! 4 - (من أطلق لسانك بالطلب، فاعلم أنه يريد أن يعطيك). أين هذا الكلام من سخف قوله وقد سبق ذكر: (طلبك منه اتهام له)؟!. 5 - (إن أردت أن لا تعزل، فلا تتولَّ ولاية لا تدوم لك) وأيّ شيء ¬

(¬1) الفرقان الآية (74). (¬2) أخرجه من حديث أبي هريرة: أحمد (2/ 258) وأبو داود (5/ 157 - 158/ 4811) والترمذي (4/ 298 - 299/ 1954) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والبخاري في الأدب المفرد (رقم 218) وابن حبان (8/ 198 - 199/ 3407 الإحسان).

يدوم في هذه الدنيا؟!، وقد طلب هذه الولاية يوسف عليه السلام من عزيز مصر: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} (¬1) وإذا لم يتولَّ الصالحون الوظائف، فهل يتركونها للأشرار؟! 6 - (كيف تطلب العوض على عمل هو متصدق به عليك؟! أم كيف تطلب الجزاء على صدق هو مهديه إليك؟) (!) 7 - (إلهي! حكمك النافذ، ومشيئتك القاهرة، لم يتركا لذي مقال مقالاً، ولا لذي حال حالاً). 8 - (إلهي! كيف أعزم، وأنت القاهر؟ وكيف لا أعزم وأنت الآمر؟). أكتفي بهذا القدر من النقل من هذه النقم التي سميت بالحكم! وهي لا تزال تدرس في كثير من المعاهد حتى الأزهر، ويوصي بها جهلة الشيوخ طلابهم، وقد وصفها بعض أدعياء العلم الحمقى بقوله: (لو جازت الصلاة بغير كتاب الله، لجازت بحكم ابن عطاء الله)!! ومعنى ذلك أنه فضلها على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد أثنى على هذه الحكم الدكتور محمد عبيد الرحمن البيصار شيخ الجامع الأزهر الحالي في مقدمته لكتاب 'التنوير ... ' فقال: (وحكم ابن عطاء الله تمضي بين الناس في رحلة خالدة! وكأنها شمس تنير للحيارى ظلام الطريق)!! وقد شرح هذه الحكم الصوفي المحروق ابن عجيبة بكتاب سمّاه 'إيقاظ الهمم' وهو جدير بأن يسمّى 'إماتة الهمم' وقد زعم في مقدمته أن الرسول ¬

(¬1) يوسف الآية (55).

- صلى الله عليه وسلم - اختص بعض الصحابة بعلم الباطن، ومعنى ذلك أنه كتم شيئاً من الدين عن المسلمين. وقد حقق هذا الكتاب أخيراً مثنياً عليه الدكتور عبد الحليم محمود. وقد سجدت إلى الله تعالى سجدة شكر لما علمت بموته، فقد ملأ العالم الإسلامي بكتب الفلسفة السخيفة المارقة والصوفية الخرقاء الهدامة، وقد أمر بهدم قبة مسجد البدوي وبناء قبة أكبر منها، وإضافة مئذنة أخرى له، ليزيد من إضلال المسلمين الذين يطوفون حول قبره ويستغيثون به ويدعونه عند الشدائد أمام أكثر شيوخ الأزهر الساكتين عن الحق ... مما هو شرك بواح ... وقد أوصى هذا الدكتور بدفنه في المسجد الذي شيده في شارع الزيتون بالقاهرة، مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعن من يفعل ذلك في أحاديث عديدة، فكتب له الأخ المكرم سماحة الشيخ الجليل عبد العزيز بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية، ينهاه عن الإقدام على هذا العلم المنحرف المخالف للشريعة، ويحذره من أن يكون قدوة سيئة لمن بعده من المسلمين بصفته شيخاً للأزهر! ومن مؤلفات هذا الدكتور ويا للأسف! رسائل عن الشاذلي والمرسي والبدوي من الصوفية والتفكير الفلسفي في الإسلام، مما يحتاج إلى كتاب ضخم في نقد ما كتب عنهم، وخاصة عن البدوي، فقد زعم في رسالته عنه أنه ذهب إليه في طنطا، واستأذنه في الكتابة عنه!! فأين عمله هذا من قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ

بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)} (¬1)! ومثله كتابه 'التفكير الفلسفي في الإسلام' مع أن هذا الإسلام حرب على كل فلسفة، والفلاسفة المسمون مسلمين، وإن كان لهم وجه علمي مشرق، فهم في الفلسفة أتباع أرسطو معلمهم الأول كما يسمونه، وقد كفرهم حتى الغزالي في كتابه: 'المنقد من الضلال' مع العلم أن فيه كثيراً من الضلالات، في مقدمتها أنه زعم أن طريق التصوف الضال المهترئ، هو الطريق الوحيد الموصل إلى الله، لا طريق الكتاب والسنة، كبرت كلمة تخرج من فيه إن يقول إلا ضلالاً وكذباً! ومما يجدر ذكره أن هذا الدكتور حارب في آخر حياته الفلسفة في آخر رسالة له في سلسلة 'كتابك' وأثبت أنها لا توصل إلى الحقيقة، وبذلك هدم كل ما بناه من الفلسفة بعدما ضلل بها الكثيرين، ومما يؤسف له أن كتابه 'التفكير الفلسفي في الإسلام' الذي نحن بصدد الكلام عليه طبع طبعة جديدة بعد موته، ليستمرّ في فساد الأجيال! فكم كان جديراً بهذا الدكتور بعد رسالته الأخيرة أن يعلن تبرأه من جميع كتبه الفلسفية، لينجو من تبعيتها بعد موته، وقد قال تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ} (¬2)! وخاصّة وقد صرّح في الرسالة المذكورة (كتابك: ص.60): (إن هذا المنهج اليهودي -أي: المنهج الفلسفي- الذي رسموه بعد تفكير طويل، والتزموا القيام به بكل الوسائل أو بكل الطرق، وهو مذهب التشكيك في القيم والمثل والعقائد ¬

(¬1) فاطر الآية (22). (¬2) يس الآية (12).

والأخلاق. يستخدمون هذا المنهج في المجالات المختلفة لإفساد المجتمعات وتحلّلها أخلاقياً ودينياً، و ... إن اليهود يهدفون من وراء كلّ ذلك إلى السيطرة على العالم! إنهم يحطمون القيم والمثل حتى لا يكون في المجتمعات قوة من عقائد، أو قوة من حق! ومن أجل ذلك تعاونوا على أن تكون لهم الكلمة الأولى في الجامعات في علم الاجتماع وفي علم النفس، وفي مادّة الأخلاق، وفي تاريخ الأديان، وفي الفلسفة ... ). ومن عجيب أمر هذا الدكتور أنه بعدما ثبت له عقم طريق الفلسفة وأنه لا يوصل إلى الحقيقة، وهو منهج اليهود لتضليل الأجيال وانحرافها، بقي على ضلاله وزعم زوراً وبهتاناً أنه طريق الكتاب والسنة: طريق الاتباع!! فكان مما قاله: ( ... وجدت في جوّ الحارث بن أسد المحاسبيّ الهدوء النفسي، أو الطمأنينة الروحية، ولكنه هدوء اليقين، وطمأنينة الثقة بما يعلم ... ) (ص.62). وهذا الكلام من الدكتور عبد الحليم يدلّ على جهل بالسنة وعدم اطلاع على آثار السلف الذين ذمّوا الحارث المحاسبي ونهوا المسلمين عن مخالطته. وقد تعلّق به الدكتور فسبّب له هذا الانحراف والعياذ بالله. ذكر الخطيب البغداديّ بسنده إلى سعيد بن عمر البردعي قال: (شهدت أبا زرعة -وقد سئل عن الحارث المحاسبي وكتبه- فقال للسائل: إيّاك وهذه الكتب!! هذه كتب بدع وضلالات! عليك بالأثر - إلى الكتاب والسنة، فإنك تجد فيه ما يغنيك عن هذه الكتب، قيل له: في هذه عبرة،

موقفه من الجهمية:

فقال: من لم يكن له في كتاب الله عبرة، فليس له في هذه الكتب عبرة. بلغكم أن مالك ابن أنس وسفيان الثوري، والأوزاعي، والأئمة المتقدمين صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس، وهذه الأشياء! هؤلاء قوم خالفوا أهل العلم! يأتون مرة بالحارث المحاسبي وعدد أسماء بعض الصوفية. ثم قال: ما أسرع الناس إلى البدع!). ويقول الحافظ ابن رجب في كتابه 'جامع العلوم والحكم' (ص.223): (وإنما ذمّ أحمد وغيره المتكلمين -ومنهم الحارث المحاسبي- على الوساوس والخطرات من الصوفية حيث كلامهم في ذلك لا يستند إلى دليل شرعي، بل إلى مجرد رأي وذوق، كما كان ينكر الكلام في مسائل الحلال والحرام بمجرد الرأي من غير دليل شرعي) ومن يطالع كتاب 'تلبيس إبليس' للإمام ابن الجوزي وما كتبه عن الحارث المحاسبي وانحرافاته، يجد العجب العجاب! مما سبق ندرك خطر بعض الكتب التي ليست من الإسلام والتي يجب تحريقها ونسفها في اليمّ نسفاً، لإنقاذ المسلمين منها، فهي من أهم أسباب تخديرهم وضلالهم وضعفهم واستيلاء الأعداء عليهم، فأذاقوهم صنوف العذاب. كما هي من أسباب جلب الطعن بالإسلام من قبل خصومه، فينسبون إليه ما هو منه براء!. (¬1) وله آثار سلفية أخرى نفع الله بها نفعاً عظيماً. فجزاه الله خيراً. موقفه من الجهمية: - قال: ومما يؤسف له ويبعث في النفس الأسى أن المسائل التي يدور ¬

(¬1) كتب ليست من الإسلام (ص.87 - 97).

عليها علم الكلام قديماً، قد زالت من الأذهان كخلق القرآن والجوهر والجسم ومسألة ذات الله تعالى وصفاته التي ذكرتها سابقاً، ونشأت مشكلات أخرى في العصور المتأخرة كقانون الصدفة والمادة، وهل هي ثابتة أم تزول، وقضية النشوء والتطور وغير ذلك. فمن الحماقة والجنون دراسة علم الكلام القديم وإهمال البحث في هذه الموضوعات. (¬1) - وقال أيضاً: ومن أعظم جرائم علماء الكلام فتح الباب على مصراعيه للمؤولين من الفلاسفة، فراحوا يدعون أن للقرآن ظاهراً وهو للعوام، وباطناً وهو للخواص، وأن هناك شريعة وحقيقة. فخرجوا من الإسلام وهم يظنون أنهم لا يزالون مسلمين! وقد كان هذا التأويل الذي بدأ من عند علماء الكلام أعظم نكبة أصابت المسلمين، وأبعدتهم عن دينهم، فانقسموا إلى فرق متعددة ذكرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة اثنتان وسبعون في النار! وواحدة في الجنة، وهي: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي (¬2). وقد حكي أن ملكاً كتب إلى عماله في البلدان أني قادم عليكم، فاعملوا كذا وكذا ففعلوا إلا واحداً منهم. فإنه قعد يفكر في الكتاب فيقول: أترى كتبه بمداد أو بحبر؟ أترى كتبه قائماً أو قاعداً؟ فما زال يتفكر حتى قدم الملك، ولم يعمل مما أمره به شيئاً! فأحسن جوائز الكل وقتل هذا!! ¬

(¬1) كتب ليست من الإسلام (ص.111). (¬2) تقدم تخريجه في مواقف الآجري سنة (360هـ).

محمد صفوت الشوادفي (1421 هـ)

ومن أعظم الأدلة على بطلان علم الكلام اختلاف المتكلمين، فقد انقسموا إلى معتزلة وماتريدية وأشاعرة وغيرهم. فلو كان علم الكلام يؤدي إلى الحق، لكانوا جميعاً في صف واحد، ولما كفر بعضهم بعضاً. وأغلبهم -ويا للأسف- وقعوا في حمأة التأويل فأوّلوا وعطّلوا صفات الله سبحانه، خلافاً لرأي السلف الذين لا يؤولون ولا يعطلون ولا يشبهون ولا يجسمون. بل يفوضون ويصفون الله سبحانه كما وصف به نفسه وكما وصفه رسوله - صلى الله عليه وسلم - دون تشبيه ولا تأويل. وقد سئل الإمام مالك عن قوله تعالى: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (¬1) فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة. (¬2) - وله ردٌّ طيّب على كتاب 'الفلسفة والحقيقة' لعبد الحليم محمود. محمد صفوت الشوادفي (¬3) (1421 هـ) محمد صفوت أحمد يوسف الشوادفي، ولد في قرية الشغانبة من ضواحي مدينة بلبيس سنة أربع وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة، تربى في أحضان أسرة أصيلة متأصلة على مبادئ الشريعة الغراء تخرج في كلية الاقتصاد وحصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والاقتصادية سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة الموافق لثمان وسبعين وتسعمائة وألف ¬

(¬1) الأعراف الآية (54). (¬2) كتب ليست من الإسلام (ص.114 - 115). (¬3) 'صفوت الشوادفي في ركب العلماء' لأحمد سليمان ومجلة الفرقان (العدد 125/ص.45) ومجلة التوحيد السنة التاسعة والعشرون العدد السادس جمادى الآخرة إحدى وعشرين وأربعمائة وألف.

ميلادي، وكان أحد قادة الصحوة الإسلامية، حيث قاد الدعوة بكلية الاقتصاد أيام أن كان طالبا فيها، وألف مجموعة كانت تدعو العلماء إلى الكلية لإلقاء المحاضرات الدينية، ولما تخرج من الجامعة لم يلبث في الوظيفة إلا قليلا، ثم سافر إلى السعودية حيث سمع من شيوخ أمثال فضيلة الشيخ بن باز رحمه الله والشيخ ابن عثيمين، والشيخ عبد الرزاق عفيفي، وكانت له علاقات طيبة معهم، وقد كان لهذا السماع أثره في تكوين عناصر فكره الديني، فقد أفاد كثيرا في تأصيل المسائل الفقهية، فجمع رحمه الله بين ترتيب الفكر وتنظيمه، وبين تأصيل المنهج وتقويمه. ولم يكتف الشيخ -رحمه الله- بما قرأ أو سمع في السعودية، بل التحق بكلية أصول الدين بالزقازيق، رغبة في الحصول على الإجازة العالية. سكن مدينة بلبيس ورأس فرع جماعة أنصار السنة المحمدية ببلبيس، وقد كان له جهد مشكور في بناء مجمع التوحيد ببلبيس، بل كانت له بصمات واضحة في الدعوة وأعمال البر، ولما انتقل إلى مدينة العاشر من رمضان أنشأ فرعا للجماعة. اختير عضوا في مجلس إدارة المركز العام لجماعة أنصار السنة المحمدية عام إحدى عشر وأربعمائة وألف للهجرة الموافق لإحدى وتسعين وتسعمائة وألف ميلادي، وعهد إليه تنظيم إدارة الدعوة. كان -رحمه الله- حريصا على اتصال الجماعة بمشيخة الأزهر في عهد شيخ الأزهر السابق الشيخ جاد الحق رحمه الله وبعده، فأعاد بذلك مسيرة الشيخ حامد الفقي وعبد الرحمن الوكيل وخليل هراس، حيث كانت لهم

موقفه من المبتدعة:

علاقات طيبة بشيوخ الأزهر وعلمائه. توفي رحمه الله مساء ليلة الجمعة سبعة عشر جمادى الأولى لسنة تسعة عشر وأربعمائة وألف، إثر حادث أليم. موقفه من المبتدعة: كان رحمه الله رئيس تحرير مجلة التوحيد، ومن خلال هذه المجلة كان يطلع القراء على بديع مقالاته التي تلمس منها غيرة على هذا الدين، وشفقة على المؤمنين العازفين عن كتاب ربهم وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، فكانت له مواقف مشرفة منها: قال رحمه الله: فإننا ننبه إلى قضيتين: الأولى: أن دعوة التمسك بالكتاب والسنة يدعيها كل الفرق والطوائف والطرق الصوفية والجماعات والجمعيات، وفي هؤلاء من هو صادق ومن هو كاذب .. وعلامة الصدق: مطابقة القول والفعل بمعنى اتباع السنة قولا وعملا لا قولا فقط. الثانية: كل من دعا إلى سنة أو حارب بدعة أو حذر من ضلالة يرميه خصومه بأنه يفرق الأمة؟!! فإذا لم تكن الدعوة إلى الله قائمة على الدعوة إلى السنة والتحذير من البدعة وتصحيح المفاهيم وتوضيح العقيدة الصحيحة فعلى أي شيء تقوم الدعوة؟!! (¬1) موقفه من المشركين: خصص رحمه الله في مجلة التوحيد حلقات متواليات يبين فيها كيد ¬

(¬1) نقلا عن رسالة صفوت الشوادفي في ركب العلماء (ص.20).

اليهود ابتداء من نشأتهم إلى يومنا هذا، ومحذرا من خطرهم وسياستهم الدفينة البغض للإسلام والمسلمين. كما فضح رحمه الله العلمانية وبين خطرها على الأمة المحمدية، فقال: العلمانية لا صلة لها بالعلم من قريب أو بعيد!! بل هي ضد العلم وضد الدين، وقد جاء تعريفها في دائرة المعارف البريطانية بأنها: (حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس، وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها)!. وهي وبهذا التعريف الواضح لا تهدف فقط إلى فصل الدين عن الدولة، وإنما تهدف إلى فصل الدين عن الحياة كلها، أو بمعنى أكثر وضوحا تهدف إلى القضاء على الدين، وبهذا يكون تعريفها الصحيح هو (العلمانية حركة اجتماعية تهدف إلى القضاء على الدين، وإقامة المجتمع اللاديني). وقد تسللت العلمانية إلى كثير من بلاد المسلمين خاصة في مصر! وتهدف العلمانية في مصر إلى القضاء على الإسلام بصورة متدرجة! تحت شعار محاربة التطرف! وكل من وقف في طريقهم أو اعترض على أقوالهم فهو متطرف، ولو كان شيخ الأزهر!!. ويتبع العلمانيون نفس الخطة التي وضعها ستالين للقضاء على الدين في الاتحاد السوفيتي سابقا، وباءت بالفشل!!. وتنقسم خطة ستالين إلى ثلاث مراحل: المرحلة الأولى: مهادنة الدين، وإيهام أصحابه أنهم أحرار في عقائدهم، وقد انتهت هذه المرحلة التي كانت أقلام العلمانية فيها تظهر احترام الإسلام، وتوقير علماء الأزهر، وتكتفي فقط بالكتابة عن الحب، والإثارة الجنسية، والتماثيل، والفنون، والأفلام، والأغاني ... إلخ.

المرحلة الثانية: محاولة تنقيح الدين، وتطويره! ومعنى ذلك تفسيره تفسيرا ماركسيا، مستغلين النقاط التي تلتقي فيها الماركسية مع الدين. وفي هذه المرحلة أيضا يتم إظهار الاهتمام بالدين ورجاله. وهي نفس الخطة التي اتبعتها الأقلام العلمانية لإقناع الرأي العام بأن الديمقراطية من الإسلام! وأن الإسلام والاشتراكية وجهان لعملة واحدة!!. والإسلام بريء من الديمقراطية، فإنها ضلال وفساد، وأما الإسلام فيرتكز نظامه السياسي على الشورى، وهي تختلف تماما عن الديمقراطية من جميع الوجوه، ونظامه الاقتصادي متميز، فهو ليس اشتراكيا، ولا رأسماليا!!. المرحلة الثالثة: ادعاء وإظهار معايب الدين، وبعده عن الحقائق العلمية، ومهاجمته، وادعاء أنه لا يفي بحاجات البشر، ومتطلبات العصر! وكذلك الاستهزاء برجال الدين، والسخرية من العلماء! وهذه المرحلة هي التي نعيشها اليوم، ونسأل الله السلامة. ويمكن لكل مسلم أن يتابع هذا التدرج ويدرك خطورته. إلى أن قال: وهم الآن يرفعون شعارين يحاربون بهما الإسلام. الأول منهما: الدعوة إلى حرية الرأي في الدين. وحقيقة الأمر أنهم يهدفون إلى الطعن في الدين، والصد عن سبيله بأقلامهم وألسنتهم، ولأنهم لا يستطيعون الإعلان عن ذلك حتى لا ينكشف أمرهم، ولا يفتضح مكنون صدورهم، فهم يبالغون في الدعوة إلى حرية الرأي في الدين!. وقد كتبوا في الآونة الأخيرة كلاما هو الكفر بعينه {قَدْ بَدَتِ

موقفه من الرافضة:

الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} (¬1). وأما الثاني: فدعوة خبيثة إلى عدم احترام العلماء، وإسقاط هيبتهم من نفوس المسلمين. والهدف هو القضاء على الدين من خلال علمائه بالتقليل من شأنهم، والحط من قدرهم. والعلماء هم قادة الأمة، وسراجها المنير ولكن هؤلاء لا يعلمون! (¬2). موقفه من الرافضة: قال رحمه الله: فإنه من المعلوم أن الشيعة أكثر فرق الأمة الضالة ضلالا وكفرا، وعقيدتهم تشهد عليهم بذلك؛ حيث يكتشف من يقف عليها أن الكذب والبهتان ركن من أركان الإيمان عندهم!! ومع ذلك فمازال في المسلمين من هو مخدوع بهم، بل قد يتصور -خطأ- أن بالإمكان حدوث تقارب بينهم وبين أهل السنة!! والحق أن السنة والشيعة ضدان لا يجتمعان ونقيضان لا يلتقيان! وإذا أردت شاهدا على ذلك فإليك البيان ... (¬3) ثم ذكر اعتقادهم في القرآن والسنة والصحابة وغير ذلك. موقفه من الصوفية: - قال: وأما الصوفية فقد حكم عليها العلماء قديما وحديثا بالبدعة والضلال، وحاصل كلامهم أن الصوفية قد أدخلت على الدين ما ليس منه، ¬

(¬1) آل عمران الآية (118). (¬2) مجلة التوحيد (السنة الثالثة والعشرون العدد الخامس 1415هـ/ص.7 - 12). (¬3) مجلة التوحيد (السنة الثانية والعشرون العدد السادس 1415هـ/ص.6 - 9).

وابتدعت فيه بدعا كثيرة تزداد بمرور العصور وتعاقب السنين. (¬1) - وقال: فإن الطرق الصوفية قد جمعت في صفوفها من يعبد الشيطان، ويسمع له ويطيع! وإليك البيان: بالقرب من ميدان السيدة زينب، رضي الله عنها، يوجد مقر لطريقة صوفية سرية باطنية، شيخها يسمى (عمر أمين حسنين)، مات منذ ست سنوات، ويسمون أنفسهم الطريقة البيومية العمرية نسبة إلى شيخ الطريقة، ومقر الطريقة شقة فاخرة بأغلى وأحلى أنواع الأثاث عامرة، وتقدم فيها للمريدين أطعمة شهية فاخرة لم ترها عين الفقراء في مصر، ولا سمعت بها آذانهم، ولا خطرت على قلوبهم! وهذا الطعام والشراب والأثاث الذي يزيد في مستواه على فنادق السبعة نجوم دليل قاطع على الزهد الذي تتغنى به الصوفية في الماضي والحاضر! وهذه الطريقة يجتمع فيها الشرك مع الموسيقى، والغناء مع الاختلاط، والخرافات مع الضلالات، والبدع مع الأطعمة الشهية، التي تجعل لعاب المريدين يسيل أنهارا، حتى يفنى الأكل في البطن حسب نظرية الفناء الصوفي!! ونحن نسوق هنا بعض الوقائع التي تقع في مقر الطريقة يومي الخميس والجمعة من كل أسبوع، فإن الدعوى لا تقبل إلا ببينة. (¬2) - كما أنه رحمه الله تحدى صوفية مصر بعشرين سؤالا أن يجيبوا عنها، يتبين بها خلطهم وتناقضهم، فقال رحمه الله بعد ذكر هذه الأسئلة العشرين: وإن مما يلفت النظر ويثير الانتباه أن قراء (عقيدتي) قد لاحظوا بوضوح ¬

(¬1) مجلة التوحيد (السنة الثانية والعشرون العدد التاسع 1414هـ/ص.7). (¬2) مجلة التوحيد (السنة الخامسة والعشرون العدد الحادي عشر 1417هـ/ص.6 - 7).

موقفه من الجهمية:

وجلاء أن الصوفية قد فشلت فشلا ذريعا في الرد على الأسئلة العشرين، وعن كشف الغموض والطلاسم، وعلامات الاستفهام الكثيرة التي تحيط بالطرق الصوفية .. وقد خرجت جميع الأقلام الصوفية عن الموضوع، وانحرفت بعيدا عنه ثلاثة اتجاهات: الأول: اتجاه السب والشتم واتهام النيات .. وهذا قد تخصص فيه الأخ محمد المهنا من العشيرة المحمدية، وقلده في بعض ذلك تلميذ الطريقة العزمية غفر الله لهما. الثاني: اتجاه ترديد محاسن التصوف وفضله على الإسلام، ومحاولة تفهيم القراء أن الله حفظ دينه بالصوفية وأن الأمة المسلمة لا حياة لها إلا به!!. وهذا الاتجاه تتبناه كل الطرق. الثالث: فهو الدعوة إلى الحوار والجلوس على مائدة البحث والمناظرة، وقد تبناه شيخ الطريقة العزمية، ونحن نرحب بهذا الحوار؛ بل ننتظره منذ فترة وقد قمنا على الفور بالاتصال ببعض علماء الأزهر الكبار ليتولى ترتيب هذا اللقاء وتنسيقه على الوجه الأكمل .. تحت رعاية جريدة عقيدتي. (¬1) موقفه من الجهمية: قال: عقيدتنا الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وكذلك الإيمان بكل ما نطق به القرآن، أو جاءت به السنة الصحيحة. ونعتقد أن الله له الأسماء الحسنى والصفات العلى التي ¬

(¬1) صفوت الشوادفي في ركب العلماء (ص.17 - 18).

مقبل بن هادي الوادعي (1422 هـ)

وصف بها نفسه، أو وصفه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم -، من غير تكييف، ولا تمثيل، ولا تشبيه، ولا تعطيل؛ وأنه -سبحانه- استوى على العرش، أي علا وارتفع، كما فسره السلف بكيفية لا نعلمها. وأنه -سبحانه- ينزل إلى السماء الدنيا كما أخبرت بذلك السنة الصحيحة بكيفية لا نعلمها، والله في السماء، وعلمه في كل مكان! كما نؤمن أنه -سبحانه- خلق آدم بيده، وأن يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء، كما نثبت له -سبحانه- وجها، وسمعا، وبصرا، وعلما، وقدرة، وقوة، وعزة، وكلاما، وغير ذلك من صفاته، على الوجه الذي يليق به، فإنه -جل شأنه-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (¬1). ونحن نثبت لله كل صفة أثبتها لنفسه، كما ننفي عنه -سبحانه- كل صفة نفاها عن نفسه، ونسكت عما سكتت عنه النصوص، فإذا قيل: هل لله جسم؟ نقول: هذا مسكوت عنه فلا نثبته، ولا ننفيه، بل نسكت عنه طاعة لله. (¬2) مقبل بن هادي الوادعي (¬3) (1422 هـ) الشيخ الإمام مقبل بن هادي بن مقبل بن قائدة الهمداني الوادعي الخلالي، من قبيلة آل راشد. ولد سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة وألف تقريبا. ¬

(¬1) الشورى الآية (11). (¬2) مجلة التوحيد (السنة الثالثة والعشرون العدد السادس 1418هـ/ص.6 - 7). (¬3) 'ترجمة أبي عبد الرحمن مقبل بن هادي الوادعي' بقلم المترجَم له.

بدأ الشيخ دراسته قي قريته دماج، حيث تعلم مبادئ الخط والكتابة بالمكتب، ثم انتقل إلى جامع الهادي لطلب العلم فلم يساعد عليه، ثم رحل إلى بلاد الحرمين ونجد، فكان يسمع من بعض الواعظين والدعاة، واستنصحهم في شراء بعض الكتب، فأرشدوه إلى صحيح البخاري وبلوغ المرام ورياض الصالحين وشروح كتاب التوحيد وغيرها من الكتب وبعد زمن عاد إلى بلده، فأنكر عليهم ما وجدهم فيه من البدع والضلالات، فحاربوه بشتى الوسائل. وبعد ذلك درس في جامع الهادي بمدينة صعدة، ثم توجه إلى أرض الحرمين وسكن بنجد، فأخذ عن الشيخ محمد بن سنان الحدائي والشيخ يحيى ابن عثمان الباكستاني. ثم فتح معهد الحرم المكي، فتقدم للاختبار فنجح، وفيه أخذ عن عدة مشايخ منهم الشيخ عبد العزيز السبيل والشيخ عبد الله بن محمد بن حميد وغيرهما. ثم انتقل الشيخ إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة، فدرس بكلية الدعوة وأصول الدين، ومن أبرز من درس عنه فيها الشيخ السيد محمد الحكيم والشيخ محمود عبد الوهاب فائد المصريان. كما كان رحمه الله يحضر دروس سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ الألباني رحمهما الله وغيرهما. ثم عاد رحمه الله إلى اليمن، فتوافد عليه طلاب العلم من شتى أنحاء العالم للاستفادة وتحصيل العلم الشرعي. من مؤلفاته رحمه الله: 'الطليعة في الرد على غلاة الشيعة'، و'الصحيح المسند من أسباب النزول'، و'شرعية الصلاة في النعال' و'تحريم الخضاب

موقفه من المبتدعة:

بالسواد'، وغيرها من الكتب النافعة. توفي رحمه الله في ثلاثين ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة وألف بمدينة جدة، ودفن بمكة المكرمة بناء على وصيته. موقفه من المبتدعة: - قال رحمه الله: وما اختلفنا فيه ينبغي أن نرجع إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله، وأن نترك العادات والتقاليد التي تخالف الكتاب والسنة وننبذها. (¬1) - وقال رحمه الله مبينا خطورة التقليد: المذاهب الأربعة ما أنزل الله بها من سلطان وما ورد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ذاك يكون شافعيا وذاك يكون حنبليا إلى آخر ذلك، بل قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (¬2) وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} (¬3) وقال سبحانه وتعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)} (¬4). وقال سبحانه وتعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ¬

(¬1) إجابة السائل (66). (¬2) الشورى الآية (10). (¬3) النساء الآية (59). (¬4) الأعراف الآية (3).

ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} (¬1). فهذه المذاهب فرقت الناس، وقد تحدينا غير واحد من المتعصبين لهذه المذاهب أن يأتوا بدليل من كتاب الله أو من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدل على أن المسلم ملزم بالتعبد بمذهب من هذه المذاهب، بل جاء القرآن على كراهة هذا فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (¬2) ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - يقول: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» (¬3) أو بهذا المعنى. ففي هذا التحذير؛ وأهل الكتاب اختلفوا، فنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - يحذرنا من أن نسلك سبيلهم في الاختلاف فقال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة شبرا بشبروذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» (¬4) أو بهذا المعنى، وهو وارد في الصحيح من حديث أبي هريرة ومن حديث أبي سعيد والمعنى متقارب، فهذه المذاهب فرقت الناس وأدخلت بينهم البغضاء والعداوة، وما تعبدنا الله إلا بكتاب الله وبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي مبتدعة ما جاءت في كتاب الله ولا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما حدثت هذه البدعة إلا بعد القرون المفضلة، ولقد أحسن محمد ابن إسماعيل الأمير إذ يقول: ¬

(¬1) الأنعام الآية (153). (¬2) الأنعام الآية (159) .. (¬3) تقدم تخريجه في مواقف يوسف بن أسباط سنة (195هـ). (¬4) تقدم تخريجه في مواقف علي بن المديني سنة (234هـ).

وأقبح من كل ابتداع سمعته ... وأنكاه للقلب المولع للرشد مذاهب من رام الخلاف لبعضها ... يعض بأنياب الأساود والأسد ويعزي إليه كل ما لا يقوله ... لتنقيصه عند التهامي والنجدي وليس له ذنب سوى أنه غدا ... يتابع قول الله في الحل والعقد لئن عده الجهال ذنبا فحبذا ... به حبذا يوم انفرادي في لحدي على ما جعلتم أيها الناس ديننا ... لأربعة لا شك في فضلهم عندي هم علماء الأرض شرقا ومغربا ... ولكن تقليدهم في غد لا يجدي ولا زعموا حاشاهموا أن قولهم ... دليل فيستهدي به كل من يهدي بل صرحوا أنا نقابل قولهم ... إذا خالف المنصوص بالقدح والرد فأصبح التعصب لهذه المذاهب شنيعا، تقدم أقوال أصحاب المذاهب على كتاب الله وعلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قال منذر بن سعيد الأندلسي قال: عذيري من قوم يقولون كلما ... طلبت دليلا هكذا قال مالك فإن عدت قالوا قال سحنون مثله ... ومن لم يقل ما قاله فهو آفك فإن زدت قالوا قال أشهب مثله ... وقد كان لا تخفى عليه المسالك فإن قلت قال الله ضجوا وأكثروا ... وقالوا جميعا أنت قرن مماحك فإن قلت قد قال الرسول فقولهم ... أتت مالكا في ترك ذاك المسالك لم يزل العلماء يتوجعون من التقليد الأعمى الذي باعد الناس عن كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحال بين الناس وبين كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ألف العلماء المؤلفات القيمة في التحذير من التقليد منها:

جزء كبير لابن القيم في كتابه 'إعلام الموقعين' ومنها كتاب للشوكاني 'القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد' ولم يزل علماء السنة يحذرون من هذا التقليد الذي حال بين الناس وبين كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) - ثم قال: لسنا نقول: إن كتب الأئمة الأربعة لا يستفاد منها ولا ينتفع بها، فالحمد لله نحن نقتني كتب الأئمة الأربعة ونستفيد منها، لكن ننصح إخواننا بالإقبال على كتاب الله وعلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكتب الأئمة الأربعة تقتنى وتكون مرجعا كغيرها من المراجع، وفق الله الجميع لما يحب ويرضى. فنحن وإن كنا نقول: إننا لسنا متعبدين بأفهامهم فنحن نقول أيضا: إن أفهام الأئمة وأفهام الصحابة خير لنا من أفهامنا، لكنا لسنا متعبدين بأفهامهم، وفي كثير من المسائل قد اختلفوا رحمهم الله تعالى، وتعصب المتأخرون لهم غاية التعصب حتى قال أبو عبد الله البوشنجي: ومن شعب الإيمان حب ابن شافع ... وفرض أكيد حبه لا تطوع أنا شافعي ما حييت وإن أمت ... فوصيتي للناس أن يتشفعوا أبو عبد الله البوشنجي من رجال تهذيب التهذيب وتعقبه أو خلفه: عبد الله بن محمد بن إسماعيل الهروي (حنبلي) فهو يقول: أنا حنبلي ما حييت وإن أمت ... فوصيتي للناس أن يتحنبلوا هذا التعصب الأعمى لسنا منه ومنه نحذر، وكفانا كتاب الله وسنة ¬

(¬1) إجابة السائل (317 - 319).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والأئمة نستفيد من أفهامهم ونستعين بالله سبحانه وتعالى ثم بأفهامهم على فهم الكتاب والسنة، لأنهم لديهم من الفهم ومن الاطلاع والعلم ما ليس لدينا، وليس معناه أننا متعبدون بأفهامهم. والله المستعان. (¬1) - وقد سئل عن حكم الشرع في الذي يرفض العمل بالسنة ويقصر العمل والحجة على القرآن؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد ألا إلاه إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. أما بعد: فحكم هذا الذي يقصر العمل على القرآن ويرفض العمل بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كافر؛ يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)} (¬2) ويقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {بِالْبَيِّنَاتِ والزبر وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} (¬3) ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - يقول كما في ¬

(¬1) إجابة السائل (334 - 335). (¬2) الحشر الآية (7). (¬3) النحل الآية (44).

الصحيحين من حديث أبي هريرة: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» (¬1) ورب العزة يقول في كتابه الكريم: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (¬2)، ويقول سبحانه وتعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} (¬3)، ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} (¬4). هؤلاء لهم شبهة وهي شبهة قديمة، وهي حديث موضوع باطل: "إذا أتاكم الحديث عني فاعرضوه على كتاب الله فما وافق فهو مني وأنا قلته وما لم يوافق فليس مني ولم أقله"، الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يقول إنه سند مجهول فالحديث لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر الشوكاني رحمه الله تعالى في كتابه 'إرشاد الفحول' ذكر عن يحيى بن معين، وعبد الرحمن بن مهدي أنهما قالا إن الحديث مما وضعته الزنادقة ليردوا به السنن. ¬

(¬1) تقدم تخريجه في مواقف أبي الزناد عبد الله بن ذكوان سنة (130هـ). (¬2) النساء الآية (65). (¬3) النور الآية (63) .. (¬4) الأحزاب الآية (36).

فسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يستغنى عنها، فتأتي مؤكدة للقرآن، وتأتي مبينة للقرآن، وتأتي أيضا ناسخة للقرآن على الصحيح من أقوال أهل العلم؛ فالسنة مبينة ومخصصة وتأتي أيضا بشرع مستقل. فالنهي عن لحوم الحمر الأهلية لم يرد في كتاب الله، والنهي عن أكل كل ذي ناب من السبع وذي مخلب من الطير لم يرد في كتاب الله، وهكذا أشياء كثيرة لم ترد في كتاب الله فالسنة تأتي بشرع مستقل وجب قبوله والله المستعان. وتفصيل الصلاة والزكاة مأخوذ من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬1) - وسئل رحمه الله: ما هو رأيكم فيمن يجعل هذه الجماعات والأحزاب من أهل البدع والفرق ويقول: إنهم يدخلون تحت حديث الافتراق؟ فأجاب: هذا هو الذي يظهر، لأنها فرقت كلمة المسلمين وخصوصا من كان منهم صوفيا أو شيعيا أو يوالي ويعادي من أجل الحزب، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول كما في سنن أبي داود من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة» (¬2) وجاء بيانها في سنن أبي داود أيضا من حديث معاوية رضي الله عنه بأنها الجماعة (¬3). فهذه التفرقة لوحدة المسلمين تعتبر تفرقة، ثم بعد ذلك يصدر كتاب في ¬

(¬1) إجابة السائل (388 - 390). (¬2) تقدم تخريجه في مواقف يوسف بن أسباط سنة (195هـ). (¬3) تقدم تخريجه في مواقف محمد بن الحسين الآجري سنة (360هـ).

هذه الأيام أن لا بأس بتعدد الجماعات، بل به بأس وبأس وبأس، فإن الله عزوجل يقول في كتابه الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (¬1)، ويقول: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)} (¬2)، فهم يريدون أن يستروا على أنفسهم. فأعداء الإسلام يدأبون ليلا ونهارا في تنفيذ مخططاتهم والمسلمون متفرقون، لكن هل الفرقة من قبل أهل السنة؟ لا، أهل السنة يقولون لهم: نحن نريد أن نتبع نحن وأنتم كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأولئك يقولون: نحن نريد أن نزاحم الشيوعيين والبعثيين والناصريين، أنحن مفوضون في هذا الدين؟ الله عزوجل يقول لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)} (¬3). وقد بلغني أن شخصا أقام اجتماعا في جبل الأهنوم وسئل: ما رأيك في الأحزاب؟ قال: بيننا وبينهم اتفاق ألا يتكلم بعضنا في بعض. فهذه هي آثار الحزبية، وآثار الكراسي والدنيا؛ فأنصح كل طالب علم أن يبتعد عن هذه الحزبية، وأن يحذر المسلمين منها بالكتابة والخطابة ¬

(¬1) الأنعام الآية (159). (¬2) الأنبياء الآية (92). (¬3) الإسراء الآيتان (74و75).

والأشرطة وبالمناقشة، والمناظرة العلنية حتى ينكشف للمجتمع أنهم ليسوا متمسكين بهذا الدين كما ينبغي. فالمسألة مسألة كراسي ومصالح، أنحن نستطيع أن ننصر أنفسنا حتى نكون أو نعمل بما نريد، لا، الله عزوجل يقول في كتابه الكريم: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ} (¬1)، ويقول أيضا في كتابه الكريم: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} (¬2). فلا نستطيع أن ننصر أنفسنا حتى نتحذلق ونكتم بعض العلم، فلا تتكلم في موضوع كذا وكذا ولا تتكلم في موضوع كذا وكذا، من أجل أن الناس ينفرون، ورب العزة يقول لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {* يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (¬3)، ويقول سبحانه وتعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وضائقٌ بِهِ صَدْرُكَ} (¬4). فلسنا مفوضين في هذا الدين حتى نؤجل بعض القضايا ونسكت عن بعض الأمور، فربما بعض الأمور تكون شركية، ويقولون: اسكت عنها وأخرها حتى ننقض ونثب على الكرسي، ثم ماذا تعملون إذا وثبتم على ¬

(¬1) آل عمران الآية (160). (¬2) محمد الآية (7). (¬3) المائدة الآية (67). (¬4) هود الآية (12).

موقفه من المشركين:

الكرسي؟ تعترفون بقرارات الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن، وبغيرها والله المستعان. (¬1) من آثاره السلفية: 1 - 'المخرج من الفتنة'. 2 - 'إجابة السائل على أهم المسائل'. 3 - 'المصارعة'. 4 - 'قمع المعاند وزجر الحاقد الحاسد'. 5 - 'غارة الأشرطة على أهل الجهل والسفسطة'. 6 - 'الصحيح المسند من دلائل النبوة'. 7 - 'رياض الجنة في الرد على أعداء السنة'. موقفه من المشركين: سئل رحمه الله: ما حكم دعاء الحسين المقبور بريدة وغيره من الأموات وكذا النذر له؟ وما حكم من أتى إليه من الجاهلين ليحصل به الأولاد؟ فأجاب رحمه الله: دعاء الحسين وغيره من الأموات يعتبر شركا لأن الله عز وجل يقول في كتابه الكريم: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)} (¬2)، ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ ¬

(¬1) قمع المعاند (2/ 386 - 388). (¬2) المؤمنون الآية (117).

اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دعائهم غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)} (¬1)، وقال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)} (¬2). المقبور سواء أكان الحسين أم غيره لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} (¬3) ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِن الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)} (¬4) ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ ¬

(¬1) الأحقاف الآيتان (5و6). (¬2) الرعد الآية (14). (¬3) النمل الآية (62). (¬4) الحج الآية (73).

هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} (¬1) فالحسين لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ودعاؤه يعتبر شركا، الذي يدعوه بعد أن يبين له يعتبر مشركا، وإذا كانت امرأته لا تدعو الحسين فهي تعتبر حراما عليه، وإذا كانت المرأة تدعو الحسين بعد ما تبلغ وهو لا يدعوه فهو يعتبر محرما عليها، لأنه لا يجوز لمسلم أن يتزوج بمشركة، ولا المشرك أن يتزوج بمسلمة، يقول الله سبحانه وتعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (¬2) هكذا أيضا النذر للحسين وللهادي وللحسين الذي يزعمون أن رأسه مقبور بمصر، وغيرهم النذر باطل، معصية لا يجوز الوفاء به ولا يحل أن يستلمه أحد لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» وهو نذر معصية والرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النذر وقال: «إنه لا يأتي بخير ولكن يستخرج به من البخيل» (¬3) وإن كان هذا أعم من الدعوى، ورب العزة يقول في كتابه الكريم: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِن اللَّهَ يَعْلَمُهُ} (¬4)، ويقول في مدح الموفين بالنذر -مما يدل على أنه عبادة-: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)} (¬5)؛ وامرأة عمران ¬

(¬1) الزمر الآية (38). (¬2) الممتحنة الآية (10) .. (¬3) أخرجه: البخاري (11/ 705/6693) ومسلم (3/ 1261/1736 (4)) وأبو داود (3/ 591 - 592/ 3287) والنسائي (7/ 21/3809) وابن ماجه (1/ 686/2122) واللفظ لمسلم والنسائي. كلهم من حديث ابن عمر رضي الله عنه. (¬4) البقرة الآية (270). (¬5) الإنسان الآية (7).

تقول: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} (¬1)، فنذرت لله، ما نذرت للحسين ولا للهادي ولا لزعطان ولا لفلتان، نذرت لمن؟ لله عزوجل. النذر يكون لله عزوجل، وأما النذر وكذلك الخوف من الميت إذا لم ينذر له، أو إذا ظن أنه إذا نذر له سيعطيه الأولاد أو يفرج عنه الكرب هذا يعتبر شركا. وأما بالنسبة لمن أتى إليه من الجاهلين ليحصل لهم الأولاد هذا العمل يعتبر شركا لأن الله هو الذي يعطي الأولاد، لكن بقي الجاهل المسكين الذي لا يدري فلا يحكم عليه بالشرك إلا بعد أن يبلغ، فنحن لسنا نقول: إن آباءنا ومن قبلنا كانوا مشركين، نقول: إن العمل الذي كانوا يعملونه يعد شركا لكنهم كانوا جاهلين، ويكونون إن شاء الله معذورين بجهلهم لأن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} (¬2) ويقول: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} (¬3) والله المستعان. (¬4) - وقال رحمه الله: وهكذا اعتقاده أن الأولياء يعلمون الغيب -أيضا- يعتبر شركا، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي ¬

(¬1) آل عمران الآية (35). (¬2) الإسراء الآية (15). (¬3) التوبة الآية (115). (¬4) إجابة السائل (194 - 196).

موقفه من الرافضة:

السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)} (¬1)، ويقول سبحانه وتعالى: {* وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} (¬2)، ويقول سبحانه وتعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} (¬3). فالذي يعتقد أن هناك أحدا يعلم الغيب غير الله سبحانه وتعالى يعتبر مشركا، وقد يقول القائل: إن المنجمين أو الكهان يخبرون ببعض الأشياء فيصدقون. هؤلاء أخبر عنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أبي هريرة (¬4) أنهم يكذبون مائة كذبة ويسترقون من السمع كلمة واحدة ثم يقول الناس: ألم يقل كذا وكذا في يوم كذا وكذا، أي: يصدقه الناس في مائة كذبة من أجل أنه قال كلمة واحدة صدقا. (¬5) من آثاره السلفية: 1 - 'ردود أهل العلم على الطاعنين في حديث السحر'. 2 - 'السيوف الباترة لإلحاد الشيوعية الكافرة'. 3 - 'حكم القبة المبنية على قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - '. موقفه من الرافضة: لقد سخر الشيخ رحمه الله قلمه للرد على الروافض، فألف فيهم ¬

(¬1) النمل الآية (65). (¬2) الأنعام الآية (59). (¬3) الجن الآيتان (26و27). (¬4) تقدم قريبا ضمن مواقف ابن باز سنة (1420هـ). (¬5) إجابة السائل (ص.203).

مؤلفات منها: 1 - 'الإلحاد الخميني في أرض الحرمين'. 2 - 'صعقة الزلزال لنسف أهل الرفض والاعتزال'. 3 - 'إرشاد ذوي الفطن لإبعاد غلاة الروافض من اليمن'. 4 - 'الطليعة في الرد على غلاة الشيعة'. - قال رحمه الله في 'إجابة السائل': والمذهب الشيعي، هو مذهب مبتدع كسائر المذاهب الأخرى التي سمعتموها؛ بل هو أبعد من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تلكم المذاهب، فالمذهب الشيعي خصوصاً في زماننا هذا هو يبطل علم السنة -سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعتمد على هواه وعلى ما قال يحيى بن الحسين، وما قال: فلان وفلان، حتى إن نشوان الحميري يتوجع من هذا ويقول: إذا جادلت بالقرآن خصمي ... أجاب مجادلاً بكلام يحيى فقلت كلام ربك عنه وحي ... أتجعل قول يحيى عنه وحياً المذهب الهادوي بعيد من السنة؛ لكن ما تعبدنا الله بمذهب زيدي ولا بمذهب هادوي، تعبدنا الله بكتاب الله وبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وهذه كما رأيتم أورثت العداوة، وأورثت البغضاء بين المسلمين. (¬1) - وقال: وهكذا الرافضة يزعمون أنه لا يدخل الجنة إلا أئمتهم وشيعتهم، ومن ثَمَّ يحكمون بالكفر على سائر الفرق الإسلامية، ومن حكم ¬

(¬1) إجابة السائل (ص.319).

موقفه من الصوفية:

بالكفر على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلن يتحاشى من غيرهما، وما رَدُّهم سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما رواه أئمة أهل السنة إلا من هذا الباب، فهم يعتقدون أن من عداهم كفار كفراً صريحاً أو كفر تأويل، وناهيك بقوم كفّروا صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا يجرءون على تكفير من عداهم من المسلمين!! وأنت إذا نظرت إلى مذاهب الرافضة وجدتهم يأخذون من المذاهب أرداها، فمذهبهم في التكفير أردى من الخوارج، وفي الأسماء والصفات تابعون لأسيادهم المعتزلة، وفي الغلو في أهل البيت إليهم المنتهى في ذلك. وجدير بمن حارب علم الكتاب والسنة أن يكون متخبطا تائهاً، وهم أيضاً دعاة فتن وضلال، ولا يعصمك من ترهاتهم إلا الله سبحانه وتعالى، ثم التمسك بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعرفة عقائدهم الخبيثة، وحسبنا الله ونعم الوكيل. (¬1) - وقال أيضاً: ولا تظنن أن فتنة عبد الله بن سبأ وعلي بن الفضل قد انقطعتا، فهذه الرافضة بإيران آلة لأعداء الإسلام أزعجوا المسلمين حتى في تلك الأيام المباركة والمشاعر المحترمة في أيام الحج وفي مكة ومنى وعرفة، الناس يتقربون إلى الله بذكره وأولئك الحمقى أشباه الأنعام يدندنون بذكر إمام الضلالة الخميني ويهتفون بهتافات كاذبة. (¬2) موقفه من الصوفية: قال رحمه الله: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد ¬

(¬1) الإلحاد الخميني (ص.203). (¬2) الإلحاد الخميني (ص.154).

وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد: فإن بدعة التصوف حدثت بعد مائتي سنة من الهجرة، ولم تكن موجودة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا في عهد الصحابة والتابعين. ثم إنهم اختلفوا في نسبة التصوف، فمنهم من يقول: إنها نسبة إلى صوفة، وهي قبيلة من الجاهلية كانت تتعبد، وكل من تعبد وانقطع نسب إليها. ومنهم من يقول: إنه نسبة إلى الصفة، وهذا ليس بصحيح إذ لو كانت نسبة إلى الصفة لقيل فيه: صفي. ومنهم من يقول: إنه نسبة إلى الصفاء، وهذا أيضا ليس بصحيح، ولو كان صحيحا لقيل فيه: صفوي. ومنهم من يقول: هي نسبة إلى الصوف. وعلى كل فهي نسبة مبتدعة، والله سبحانه وتعالى سمانا مؤمنين وسمانا مسلمين، ولم يكن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا تسمية مؤمن ومسلم، لسنا نتكلم عن الكفار وعن المنافقين. ثم إن الصوفية أقسام: منهم من انتهى به الحال إلى أن نبذ الكتاب والسنة، وسخر من أهل العلم وصار يقول: حدثني قلبي عن ربي، يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في كتاب العلم من فتح الباري يقول -نقلا عن القرطبي-: من انتهى به الحال إلى هذه الحالة فهو كافر، والأمر كما يقول رحمه الله تعالى، الذي يظن أنه يستغني عن كتاب الله وعن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر بالله عز وجل، وهكذا يزهدون في العلم من زمن، وربما دفن بعضهم كتبه -يكتب الكتب ثم يدفنها- والله المستعان، منهم أيضا من أصبح زنديقا، وقتل بسبب الزندقة وهو الحسين بن منصور الحلاج، وتبعه

على هذا أبو العباس بن عطاء فقتل الحسين بن منصور الحلاج ثم بعد زمن قتل أبو العباس بن عطاء على الزندقة. سمع الحسين بن منصور الحلاج رجلا يتلو آية فقال: لو شئت لقلت مثلها، وهذا ذكره ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه 'تلبيس إبليس'، وهكذا أيضا: ابن الفارض فإنه أيضا تزندق؛ وفي تائيته التي أثنى عليها محمد ابن إبراهيم الوزير في كتابه 'الروض الباسم' فيها الكفر الصراح، وقد أخطأ ابن الوزير رحمه الله تعالى في الثناء على هذه التائية. انتهينا من أولئكم الذين يقولون بأنهم غنيون عن الشرع أو يدخلون في الصوفية ثم يتزندقون. ومن الصوفية أهل وحدة الوجود الذين يقول قائلهم: أنا هو وهو أنا. ويقول أيضا: ما في الوجود إلا الله، وحتى قال بعضهم: وما الكلب والخنزير إلا إلهنا ... وما الرب إلا عابد في كنيسته وقال بعضهم: الرب عبد والعبد رب ... يا ليت شعري من المكلف وهكذا أيضا في أشعارهم الكفر البواح، وقد أشبع الرد: صالح بن مهدي المقبلي رحمه الله تعالى في كتابه 'العلم الشامخ' أشبع الرد على خرافة وعلى كفريات ابن عربي (محي الدين) في زعمهم وهو (مميت الدين) ابن عربي، فعنده من الكفر الصراح في 'فصوصه' وهكذا أيضا في سائر كتبه، وتجدونه معظما عند كثير من الصوفية، ولو تكلمت فيه وأنت بالشام ما سلمت من الضرب من الصوفية، وقد أوذي شيخ الإسلام ابن تيمية، وأوذي أيضا غيره من أجل ابن عربي الزنديق الذي يقول: إن فرعون موحد وإن

موسى مشرك، وهكذا يقول في شأن العذاب: أنه ما سمي عذابا إلا من عذوبته، تعطيل للكتاب والسنة ولشرع الله، وزندقة ظاهرة، ثم نجد من يدافع عنه من المصلين. ومن خرافات الصوفية أنهم ربما أنهم يحرمون على أنفسهم ما أحل الله لهم من الزواج -وهو سنة من سنن المرسلين-، رب العزة يقول في كتابه الكريم: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} (¬1). ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - يقول: «حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء وجعلت قرة عيني الصلاة» (¬2) وقد جاء ثلاثة نفر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقال أحدهم: أما أنا فأقوم الليل ولا أنام، وقال الآخر: وأنا أصوم ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا لا أتزوج النساء، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبر بهذا فقال: «أنتم القائلون كذا وكذا، أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (¬3)، ورب العزة يقول في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِن اللَّهَ لَا ¬

(¬1) الرعد الآية (38). (¬2) أخرجه من حديث أنس: أحمد (3/ 285) والنسائي (7/ 72/3949) وصححه الحاكم (2/ 160) على شرط مسلم ووافقه الذهبي وحسنه الحافظ في التلخيص (3/ 116). (¬3) أحمد (3/ 241،259) والبخاري (9/ 129/5063) ومسلم (2/ 1020/1401) والنسائي (6/ 368 - 369/ 3217).

يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)} (¬1)، ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {* يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)} (¬2)، يمتنعون من النساء اقتداء بمن؟ اقتداء بالقساوسة وبالرهبان النصارى، ولكن يمتنعون من النساء وماذا يفعلون يا رجال؟ يفتنون بالمردان، حتى إن شخصا تولع بشخص أمرد -كما في 'تلبيس إبليس'- فرق بينهما فتحيل إلى أن دخل إليه وقتله، وجعل يبكي عنده واعترف أنه قاتله، فجاء والد الولد وقال: أنا قتلته، وأنا أسألك بالله أن تقيدني به، فعفا عنه، فصار يحج وينذر بثواب الحج لذلكم الولد، وأقبح من هذا أن شخصا ارتكب الفاحشة بصبي ثم بعد ذلك طلع إلى سطح بيته -وكان بيته على البحر- فرمى بنفسه وتلا قول الله عزوجل: {فتوبوا إِلَى بارئكم فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (¬3). هذا شأن الصوفية، ولهم فضائح وقبائح أكثر وأكثر من هذا -أعني في شأن النساء- وربما تأتي المرأة الأجنبية ويلبسها الخرقة المكذوبة المزعومة المفتراه عندهم سند للخرقة، يزعمون أن من لبس الخرقة فقد انتهى به الحال وقد أصبح صوفيا، ولا يلبسونها إلا من قد ارتقى درجة في التصوف ... الصوفي عندهم إذا قد بلغ رتبة عالية يحل عندهم كل شيء، ويستدلون بقول ¬

(¬1) المائدة الآية (87). (¬2) الأعراف الآية (31) .. (¬3) البقرة الآية (54).

الله -عز وجل-: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} (¬1)، وأخطأوا في فهم الآية، أو كابروا في فهم الآية، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد ربه حتى تفطرت قدماه وقال: «أفلا أكون عبدا شكورا» (¬2) وهكذا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب رضوان الله عليهم، الذين أساء أبو نعيم في ذكرهم .. وفي ذكر أبي ذر وقال: إنهم صوفية، أخطأت يا أبا نعيم رحمك الله تعالى. ما كانت الصوفية موجودة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا على عهد الصحابة، فأخطأ في ذكرهم حيث ذكرهم في الحلية، فهم برآء من هذه الترهات. الصوفية أيضا كما سمعتم حرموا على أنفسهم ما أحل الله لهم، فقد جاء أن أبا يزيد البسطامي كان عنده قدر ستين أو سبعين دينارا فاشتغل بها قلبه، فأخذها ورماها في البحر، ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بل رب العزة يقول: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)} (¬3) ويقول: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} (¬4)، والنبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن إضاعة المال، وأخبر أن العبد لا تزول قدمه حتى يسأل عن أربع ومنها: «عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه» (¬5) وغلو الصوفية أمر ليس له نظير، يطلبون من المريد أن يجلس بين ¬

(¬1) الحجر الآية (99). (¬2) أخرجه من حديث المغيرة: أحمد (4/ 255) والبخاري (3/ 18/1130) ومسلم (4/ 2171 - 2172/ 2819) والترمذي (2/ 268 - 269/ 412) وقال: "حديث حسن صحيح". والنسائي (3/ 242/1643) وابن ماجه (2/ 456/1419). (¬3) الأنعام الآية (141). (¬4) الإسراء الآية (27). (¬5) أخرجه من حديث أبي هريرة: أحمد (2/ 372) ومسلم (3/ 1340/1715).

موقفه من الجهمية:

يدي مريده كالميت بين يدي الغاسل، وهذا ما كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -! .. (¬1) موقفه من الجهمية: له كتاب 'الصحيح المسند من دلائل النبوة'. قال في مقدمته: هذا: وبما أن دلائل النبوة أكبر برهان على صدق نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - مع ما أكرمه به من مكارم الأخلاق فقد ضاقت صدور أقوام بالآيات البينات والدلائل الواضحات كما حكى الله عنهم بقوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)} (¬2) هذا كان شأن كفار قريش. أما المسلمون في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنهم يعتبرون التشريع كله دلالة على صدق نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لما فيه من الأسرار العجيبة، والحكم البليغة. وهكذا التابعون لهم بإحسان؛ حتى نبغ أقوام من ذوي الاعتزال فاعتزلوا الكتاب والسنة إلا ما يوافق أهواءهم وهم يزعمون أنهم يعتمدون على عقولهم، وهم في الحقيقة يعتمدون على أهوائهم لأن العقل الصحيح لا يخالف النقل الصحيح. فضاقت صدورهم ببعض المعجزات النبوية، فهذه يؤولونها وتلك يضعفونها، فأراد الله أن يحق الحق ويبطل الباطل، وكاد مذهب الاعتزال أن ينقرض. وفي هذه الأزمنة المتأخرة نبغ أقوام من ذوي الأهواء فأرادوا أن يأخذوا بالثأر للمعتزلة فتاهوا كما تاه أسلافهم من أولئك التائهين الحيارى ومن ¬

(¬1) المصارعة (375 - 379). (¬2) القمر الآيات (1 - 3).

أولئك الثائرين للاعتزال به ومنهم من هو ثائر للإلحاد. 1 - جمال الدين الأفغاني الرافضي الإيراني. 2 - محمد عبده المصري. 3 - محمد رشيد رضا، وليس كسابقيه في الضلال. 4 - محمود شلتوت (راجع 'إعلام الأنام بمخالفة شيخ الأزهر شلتوت للإسلام'). 5 - طه حسين. 6 - أحمد أمين صاحب فجر الإسلام وضحاه وظهره. 7 - أبو رية. 8 - محمد الغزالي. في كثير من كتاباته استخفاف بأهل السنة، وتهوين العمل بالسنة. من ذلكم: كتاب 'دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين' وكذا كتاب 'هموم داعية'. ومحمد الغزالي مميع وإن لم يكن في الضلال كسابقيه. هؤلاء في آخرين (والذي أنصح به طلبة العلم هو الإعراض عن هذه الكتب الزائغة. وقد أغنى الله طلبة العلم عن هذه بكتب أهل السنة جزاهم الله عن الإسلام خيرا) قاموا بحملة على السنة وانتصروا للاعتزال، ومنهم من انتصر للرفض وأصبح العلم في مصر ألعوبة بين رادّ ومردود عليه، وصدق الله إذ يقول: {* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1)، ويقول: ¬

(¬1) التوبة الآية (34).

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (275) ولوشِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا} (¬1). وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: «أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان» رواه أحمد في مسنده من حديث عمر (¬2). ويقول: «أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلين» رواه أبو داود في سننه (¬3). غالب هؤلاء متاجرون إما من أعداء السنة من الرافضة ولكن يأبى الله إلا أن ينصر سنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويظهر دينه ولو كره الملحدون، فقد استيقظ شباب في جميع الأقطار الإسلامية، ديدنهم: قال الله، قال رسول الله، فباء أعداء السنة بالخزي. ¬

(¬1) الأعراف الآيتان (175و176). (¬2) أخرجه من حديث عمر رضي الله عنه: أحمد (1/ 22،44) وعبد بن حميد كما في المنتخب حديث رقم11 (ص.32) والبزار كما في كشف الأستار (1/ 97/168) وذكره الهيثمي في المجمع (1/ 187) وقال: "رواه البزار وأحمد وأبو يعلى ورجاله موثقون" والحديث صحح إسناده أحمد شاكر رحمه الله في تحقيقه للمسند (1/ 217/143). وللحديث شاهد من حديث عمران بن حصين أخرجه: البزار كما في كشف الأستار (1/ 97 - 98/ 170) والطبراني في الكبير (18/ 237/593) وابن حبان (1/ 281/80). قال البزار: "لا نحفظه إلا عن عمر وإسناد عمر صالح فأخرجناه عنه وأعدناه عن عمران لحسن إسناد عمران". وذكره الهيثمي في المجمع (1/ 187) وقال: "رواه الطبراني في الكبير والبزار ورجاله رجال الصحيح". (¬3) أخرجه من حديث ثوبان: أحمد (5/ 278،284) ومسلم (4/ 2215 - 2216/ 2889) دون ذكر محل الشاهد، وأبو داود (4/ 450 - 452/ 4252) والترمذي (4/ 437/2229) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وابن ماجه (2/ 1304/3952).

بالأمس كان يلقب جمال الدين ومحمد عبده بالإمامين المجددين، واليوم عرفا بالماسونيين {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} (¬1). هؤلاء الضالون التائهون منهم من تصدى للطعن في قصص القرآن، ومنهم من تصدى للطعن في معجزات الأنبياء عليهم السلام. ومنهم من تصدى للطعن في الصحابة الذين هم نقلة الدين إلينا، ومنهم من تصدى للطعن في بعض الأحكام وسنوا سنناً سيئة ترى كتبهم تشجع من قبل الرافضة ومن قبل الملحدين. وإني أحمد الله فقد رأيت من الإجابة على كتبهم بل على أباطيلهم وترهاتهم ما تقر به أعين أهل السنة، فجزى الله إخواننا الذين تصدوا لهذا خيراً. هؤلاء المتهالكون الحيارى من ذوي الاعتزال الأقدمون والمتأخرون قوبلوا بأناس من القصاصين يحدثون الناس بالغث والسمين والحق والباطل، ومنهم من يدفعه التعصب الأعمى إلى وضع أحاديث باطلة. وقد قرأت في رسالة لعلي العجري بعنوان 'نصيحة أولاد السبطين ومن تبعهم من المؤمنين في التمسك بمذهب الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين' فإذا فيه أحاديث في فضل زيد بن علي والهادي أحاديث مكذوبة وليس هو الذي افتراها، ولكنه جاهل بعلم الحديث متعصب لأجداده رحمهم الله، وأمثال هذا كثير: كبعض ¬

(¬1) آل عمران الآية (8).

موقفه من الخوارج:

الأحاديث الموضوعة في فضل بعض الخلفاء العباسيين كما في العلل المتناهية لابن الجوزي. وهناك فريق آخر نظر في دلائل النبوة فحمّلها ما لا تتحمل. وبين يدي الآن كتاب من كتب الضلال بعنوان 'مطابقة الاختراعات العصرية لما أخبر به سيد البرية' حرّف كثيرا من الأدلة وحمل أدلة أخرى ما لا تتحمل، وقد رد عليه الشيخ حمود التويجري بكتاب أسماه 'إيضاح المحجة في الرد على صاحب طنجة'. فمن أجل هؤلاء وأولئك استعنت بالله على جمع ما تيسر لي من صحيح دلائل النبوة وسميته 'الصحيح المسند من دلائل النبوة'. (¬1) موقفه من الخوارج: قال: من فضائح الإباضية: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. أما بعد: فقد استمعت إلى شريطين من رجل إباضي، وهو الخليلي مفتي عمان. وهذان الشريطان فيهما مهاجمة السنة ومهاجمة أهل السنة، وأعتقد أنهما سيكونان شؤما على الفرقة الإباضية، لأنه قد استقر لدى أهل السنة: أن الإباضية هي أقرب طوائف الخوارج إلى أهل السنة، ولكن المفتي أبان لنا أن الإباضية تعادي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأعتقد بعد ما تأتيهم الردود من أهل السنة أنهم سيقولون: لا جزى الله هذا المفتي خيرا إذ فضحنا ونبش ما كان مدفونا، ويكون حالهم كحال بني نمير الذين كان أحدهم إذا قيل له: ¬

(¬1) الصحيح المسند (ص.9 - 11).

من أين أنت؟ قال: أنا نميري بمد الياء فلما قال جرير لبعضهم: فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا أصبحوا يخجلون ويستحي أحدهم أن ينتسب إلى قبيلة نمير، وهكذا أيضا الفرقة الإباضية إذا جاءتهم ردود أهل السنة، وبيان ما هم عليه من البدعة، فإنهم سيقولون: لا جزى الله هذا المفتي الداعي إلى الفرقة والداعي إلى نبش ما كان مدفونا، لا جزاه الله خيرا. والإباضية هي طائفة من الخوارج، وبدعة الخوارج هي أول البدع حدثت في الإسلام، حدثت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. أصلها على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، لما جاء في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقسم غنائم حنين فجاءه رجل فقال: اعدل يا محمد قال: «ويلك ومن يعدل؟ خبت وخسرت» وجاء أيضا: «خبت وخسرت إن لم أعدل» -جاء بفتح التاء وبضمها- فقال خالد بن الوليد: دعني يا رسول الله أضرب عنقه. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لعله يصلي» ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنه سيخرج من ضئضيء هذا -أي من صلبه- قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم، مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» (¬1)، ووقع ما أخبربه النبي - صلى الله عليه وسلم - ... (¬2) - وقال في نصيحته لشباب الصحوة الإسلامية: عدم الخروج على ولاة الأمور إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان، كما في حديث ¬

(¬1) أحمد (3/ 65) والبخاري (6/ 766/3610) ومسلم (2/ 744 - 745/ 1064 [148]) والنسائي في الكبرى (5/ 159/8560) وابن ماجه (1/ 60/169) مختصرا من حديث أبي سعيد الخدري. (¬2) واستفاض رحمه الله في الرد عليهم (انظر المصارعة ص.358 - 374).

عبادة المتفق عليه (¬1)، لما في الخروج عليهم من إثارة الفتن وقتل الأنفس البريئة والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)} (¬2). وفي الصحيحين من حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» (¬3).اهـ (¬4) - سئل رحمه الله تعالى: هل خروج الخوارج خروج منهجي أم عقدي؟ وعندما قاتلهم علي رضي الله عنه للاثنين أم لخروج العقيدة أم لخروجهم عليه باعتباره إمام المسلمين؟ وهل الخروج عن منهج السلف يؤدي إلى الخلل في العقيدة أم أن مخالفة المنهج في كيفية وفهم وتلقي العقيدة يؤدي إلى الخلل والمخالفة في المنهج في كيفية نشر الدعوة ولا يؤدي إلى الخلل في العقيدة؟ جواب: أما الخوارج فهم أخطئوا في فهم الأدلة: خطأ أوجب ضلالهم، فهم كفروا علي بن أبي طالب وكفروا أيضا معاوية، كما قال قائلهم: أبرأ إلى الله من عمرو وشيعته ومن معاوية الطاغي وشيعته ... ومن علي ومن أصحاب صفين لا بارك الله في القوم الملاعين فقد كفروا خيار الصحابة في عصرهم، فقد أجمع العلماء أن علي بن أبي ¬

(¬1) البخاري (13/ 238/7200) ومسلم (3/ 1470/1709). (¬2) النساء الآية (93). (¬3) انظر تخريجه في مواقف ابن حجر سنة (852هـ). (¬4) المصارعة (ص.102).

طالب خير صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في عصره -أي في وقت خلافته- وكان أحق بالخلافة، وفي قولهم: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} (¬1)، ثم إن علي بن أبي طالب سئل: أكفار هم يا أمير المؤمنين؟ قال: من الكفر فروا، كما في 'تعظيم قدر الصلاة' لمحمد بن نصر المروزي (¬2). فالخوارج خروجهم خروج عقدي، وهكذا منهجي خاطئ، وعلي بن أبي طالب لم يقاتلهم حتى قتلوا عبد الله بن خباب وقطعوا الطريق؛ فراسلهم وأرسل إليهم ابن عباس، فرجع منهم خلق كثير وبقي منهم من بقي، وعند أن وصل إليهم ابن عباس قالوا: إن هذا ممن قال الله فيهم: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)} (¬3) أي: من قريش فلا تجادلوه، ثم جاء أناس وجادلوه واقتنعوا ورجعوا عن العقيدة الخارجية، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول فيهم: «إنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية». ويقول: «إنهم كلاب أهل النار». فخروجهم خروج منهجي عقدي، وأما قتال علي بن أبي طالب لهم فلكونهم ابتدءوا ولكونه يتوقع منهم شرا، ويقول فيهم علي بن أبي طالب: لا يتبع مدبرهم، ولا يجهز على جريحهم، ولا تسبى نساؤهم، ولا يؤخذ فيؤهم، فهذا دليل على أنهم مسلمون ضلوا عن سواء السبيل. (¬4) ¬

(¬1) الأنعام الآية (57). (¬2) تعظيم قدر الصلاة (2/ 543 - 544/ 591 - 593) وابن عبد البر في التمهيد (فتح البر 1/ 469). (¬3) الزخرف الآية (58). (¬4) غارة الأشرطة (1/ 76 - 77).

حمود بن عقلاء الشعيبي (1422 هـ)

حمود بن عقلاء الشعيبي (1422 هـ) هو الشيخ أبو عبد الله حمود بن عبد الله بن عقلاء الشعيبي الخالدي من آل جماح من قبيلة بني خالد. ولد في بلدة الشقة من أعمال بريدة سنة ست وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة، ونشأ فيها ولما بلغ السابعة من عمره كف بصره بسبب مرض الجدري وذلك عام اثنتين وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة، وفي سنة سبع وستين وثلاثمائة وألف للهجرة رحل إلى الرياض لطلب العلم، فبدأ بالتلقي على فضيلة الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ، ثم انتقل للقراءة على سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ سنة ثمان وستين وثلاثمائة وألف للهجرة، فقرأ عليه كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكتب ابن تيمية رحمهما الله، وغيرها من الكتب، وبعد ذلك انتقل إلى المعهد العلمي في سنته الأولى عام إحدى وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة، فدرس على المشايخ: عبد العزيز بن باز ومحمد الأمين الشنقيطي، وعبد الرحمن الإفريقي وغيرهم. وكل واحد من هؤلاء يعد إماما في وقته، وهذا من عناية الله بالشيخ حيث يسر له هؤلاء الأئمة وقلما يجتمع هذا لأحد. وفي سنة ست وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة عين مدرسا في المعهد لمدة سنة واحدة، ثم انتقل للتدريس في كلية الشريعة وذلك عام سبع وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة وبقي فيها إلى عام سبع وأربعمائة وألف للهجرة، ثم طلب الإحالة على المعاش. هذا، وقد تتلمذ على يد الشيخ تلاميذ كثر، سواء في المعهد أو في

موقفه من المبتدعة:

الكلية، نذكر من بينهم: المفتي عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ والدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي وفضيلة الشيخ صالح الفوزان ومحمد بن عثيمين وعبد الله الغنيمان وغيرهم. وكانت وفاة الشيخ رحمه الله في أربع ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة وألف. موقفه من المبتدعة: آثاره السلفية: 1 - 'الإمامة العظمى' وهو بحث كتبه لنيل درجة أستاذ كرسي في جامعة محمد بن سعود، ونشر في مجلة الجامعة في عددها الصادر سنة أربعمائة وألف للهجرة. 2 - 'القول المختار في حكم الاستعانة بالكفار'. 3 - 'البراهين المتظاهرة في حتمية الإيمان بالله والدار الآخرة'. 4 - 'كتاب مختصر العقيدة'. 5 - 'شرح كتاب التوحيد'. 6 - 'شرح التدمرية'. 7 - 'شرح الواسطية'. 8 - 'شرح الطحاوية'. 9 - 'رسالة حكم الخلاف في أصول الدين'. 10 - 'رسالة في الأعياد البدعية'. 11 - 'بيان لضلالات حسن فرحان المالكي'.

عبد الله بن عبد الرحمن آل بسام (1423 هـ)

12 - 'تعليق على كتاب السنة لعبد الله بن أحمد'. 13 - 'تعليق على حائية ابن أبي داود وشرحها للسفاريني'. 14 - 'تعليق على اقتضاء الصراط المستقيم'. (¬1) وغيرها من الكتب والرسائل النافعة. عبد الله بن عبد الرحمن آل بسام (¬2) (1423 هـ) الشيخ الفاضل أبو عبد الرحمن عبد الله بن عبد الرحمن بن صالح بن حمد البسام. ولد في بلدة أسرته مدينة عنيزة سنة ست وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة. درس في صباه على الشيخ عبد الله بن محمد القرعاوي، ثم انخرط في سلك الطلاب الملازمين عند الشيخ عبد الرحمن السعدي فقرأ عليه ولازمه ثمان سنوات. ومن مشايخه كذلك الشيخ سليمان بن ابراهيم البسام وعبد الرحمن المقوشي ومحمد بن عبد العزيز المطوع وعبد الله بن عبد العزيز بن عقيل وعبد الرزاق عفيفي وغيرهم رحمة الله عليهم أجمعين. ومن محفوظاته -كما ذكر ابنه خالد- القرآن الكريم وبلوغ المرام ومختصر المقنع والقطر في النحو والألفية لابن مالك ومتن الورقات في الأصول وغيرها. وعندما فتحت دار التوحيد بالطائف برئاسة الشيخ محمد بن عبد العزيز ¬

(¬1) ذكرها عبد الرحمن بن عبد العزيز الجفن في 'إيناس النبلاء في سيرة شيخنا العقلاء'. (¬2) ترجمة الشيخ عبد الله البسام بقلم ابنه خالد البسام، انظر مقدمة علماء نجد خلال ثمانية قرون (1/ 81 - 116).

موقفه من الخوارج:

ابن مانع التحق بها وأتم دراسته بها، ثم انتقل إلى كلية الشريعة وكلية اللغة بمكة المكرمة فتخرج منها عام أربع وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة، ومن بين الأعمال التي كلف بها تعيينه للقضاء في المحكمة المستعجلة الثالثة كما عين مدرسا رسميا بالمسجد الحرام ثم رئيسا للمحكمة الكبرى التمييز للمنطقة الغربية ثم صار عضوا في مجلس كبار العلماء في المملكة العربية السعودية إلى غير ذلك من المناصب التي شغلها رحمه الله تعالى. ومن مؤلفاته: 1 - 'تيسير العلام شرح عمدة الأحكام'. 2 - 'الاختيارات الجلية في المسائل الخلافية'. 3 - 'توضيح الأحكام شرح بلوغ المرام'. 4 - 'علماء نجد خلال ثمانية قرون'. 5 - 'شرح على كشف الشبهات'. 6 - 'رسالة مضار'. 7 - 'مفاسد تقنين الشريعة'. وغيرها. ومن الذين أخذوا عنه الشيخ عبد العزيز المسند والشيخ صالح العلي الناصر والشيخ عبد العزيز الربيعة والشيخ محمد الصالح المرشد والشيخ عبد الله الخزيم والشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن آل الشيخ وغيرهم. توفي رحمه الله سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة وآلف. موقفه من الخوارج: - قال في 'تيسير العلام': "أحرورية أنت" نسبة إلى بلدة قرب الكوفة،

اسمها "حروراء" خرجت منها أول فرقة من الخوارج على علي بن أبي طالب، فصار الخوارج يعرفون بالحرورية. (¬1) - وقال فيه أيضا: سألت معاذة عائشة عن السبب الذي من أجله جعل الشارع أن الحائض تقضي أيام حيضها التي أفطرتها، ولا تقضي صلواتها، زمن الحيض، مع اشتراك العبادتين في الفرضية، بل إن الصلاة أعظم من الصيام. وكان عدم التفريق بينهما في القضاء، هو مذهب الخوارج المبني على الشدة والحرج. فقالت لها عائشة -منكرة عليها-: أحرورية أنت تعتقدين مثل ما يعتقدون، وتشددين كما يشددون؟. فقالت: لست حرورية، ولكن أسأل سؤال متعلم مسترشد. (¬2) - وقال في 'توضيح الأحكام': البغي: بغى عليه بالغين المعجمة بغيا بفتح الموحدة وسكون المعجمة، عدا وظلم وعدل عن الحق. والمراد هنا البغاة الظلمة الخارجون عن طاعة الإمام، المعتدون عليه، فإذا خرجوا عن طاعة الإمام الواجبة عليهم، دعاهم الإمام وكشف شبهتهم، فإن أقروا بأن رجعوا عن بغيهم تركهم، فإن أبوا الرجوع وعظهم وخوفهم القتال، وإن أصروا قاتلهم لقوله تعالى: {الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (¬3). قال الوزير: اتفقوا على أنه إذا خرج على إمام المسلمين طائفة ذات شوكة بتأويل ¬

(¬1) (1/ 98). (¬2) المصدر نفسه (1/ 98 - 99). (¬3) الحجرات الآية (9).

سائغ، فإنه يباح قتالهم حتى يفيئوا إلى أمر الله. (¬1) - وقال: من خرج عن طاعة الإمام وفارق الجماعة، فشذ عن جماعتهم، فقد ذكر العلماء أنهم أحد أصناف أربعة: أحدها: قوم خرجوا على الإمام وطاعته بلا تأويل، فهؤلاء قطاع طريق. الثاني: خرجوا بتأويل إلى أنهم نفر يسير لا منعة لهم، كالعشرة ونحوهم فهؤلاء حكمهم حكم قطاع الطريق. الثالث: قوم خرجوا على الإمام وراموا خلعه بتأويل سائغ، سواء أكان تأويلهم خطأ أو صوابا، ولهم شوكة ومنعة، فهؤلاء هم البغاة، فعلى الإمام أن يراسلهم وينظر ما يدعون وما ينقمون، فإن ذكروا مظلمة أزالها، وإن ذكروا شبهة كشفها، فإن فاءوا وإلا قاتلهم وجوبا، وعلى رعيته إعانته. الرابع: الخوارج الذين يكفرون بالذنب، ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم، فهؤلاء فسقة يجوز قتالهم ابتداء. فأي إنسان خرج من المسلمين بداع من هذه الدواعي الأربعة، فهو خارج عن طاعة الإمام، ومفارق جماعة المسلمين، فإذا مات على هذه الحال فقد مات على طريق أهل الجاهلية الذين لا ينظمهم إمام ولا تجمعهم كلمة. (¬2) ¬

(¬1) (5/ 244). (¬2) المصدر السابق (5/ 246).

محمد صفوت نور الدين (1423 هـ)

محمد صفوت نور الدين (1423 هـ) محمد صفوت بن نور الدين بن أحمد بن مرسي. ولد في قرية من قرى محافظة الشرقية بمصر في العشرين من يونيو سنة إحدى وستين وثلاثمائة وألف للهجرة الموافق لثلاث وأربعين وتسعمائة وألف ميلادي. كلف في جماعة أنصار السنة المحمدية عضواً بمجلس إدارتها منذ ثمان وتسعين وثلاثمائة وألف للهجرة الموافق لثمان وسبعين وتسعمائة وألف ميلادي. وكان أميناً للدعوة بها منذ عام ثمان وأربعمائة وألف للهجرة الموافق لثمان وثمانين وتسعمائة وألف ميلادي حتى وفاة الشيخ محمد علي عبد الرحيم رحمه الله تعالى حيث توفي عام اثني عشرة وأربعمائة وألف للهجرة الموافق لاثنتين وتسعين وتسعمائة وألف ميلادي، فكلف برئاسة الجماعة. توفي رحمه الله يوم الجمعة ثلاثة عشر رجب لسنة ثلاث وعشرين وأربعمائة وألف للهجرة. وصلي عليه بالمسجد الحرام بمكة حرسها الله. موقفه من المبتدعة: له قلم سيّال يُرى واضحاً من خلال مقالاته في مجلة التوحيد، قال رحمه الله مبيّناً سبيل توحيد الأمة: والحديث عن وحدة المسلمين يعني ثلاثة أمور: الأول: وحدة المسلمين اعتقاداً. وذلك يعني لزوم عقيدة أهل السنة والجماعة، ومخالفة الفرق الضالة الثنتين والسبعين وأصول هذه الفرق في الشيعة والخوارج والمرجئة والمعتزلة القدرية. الثاني: وحدة المسلمين في تعبدهم. بمعنى لزوم السنة وترك البدعة ولزوم الطاعة وترك المعصية.

الثالث: وحدة المسلمين صفّاً. بأن يكونوا (كلٌّ على من عاداهم ويسعى بذمتهم أدناهم). أما الأمر الأول: فقد اتفق علماء الصدر الأول عليه، ومن خالفهم فيه كانوا هم فرق الضلال فلا يجوز التسامح في أقوالهم، فإذا أردنا أن ندعو المسلمين إلى الوحدة دعوناهم للالتزام بمنهج أهل السنة والجماعة لأنه لا سبيل للوحدة سواه. أما الأمر الثاني: فهو دعوة المسلمين لإقامة شرع الله وعبادته كما أمر من غير أهواء ولا بدع. فنأتي المأمور ونجتنب المحظور. وكلاًّ من هذين الأمرين في الاعتقاد والتعبد يخاطب فيه أفراد الأمة وجماعاتها حكاماً ومحكومين، فإذا استقاموا على اعتقاد أهل السنة والجماعة وعلى نبذ الأهواء والبدعة عندئذ تصبح الدعوة لوحدة صف المسلمين نافعة. وعندئذ ينزل الله عليهم نصره ويؤيدهم بجنده ويحيق بأعدائهم بأسه. لكن إن ظنوا أنهم يمكن أن يتحد صفهم بغير وحدة اعتقادهم وصحة تعبدهم فذلك خيال وخبال؛ لذلك وجب على العلماء التعرف على العقيدة الصحيحة أي عقيدة أهل السنة والجماعة بغير خلط مع الفرق الضالة، فيعرفوا الفرق الناجية بعقيدتها وبأئمتها من الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم بعد ذلك ليعرفوا الحق فيعرفوا أهله. فإن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن اعرف الحق تعرف أهله. ولا يجوز أن ندعو إلى غير أهل السنة والجماعة، أو أن نهون من أمرهم فندعو لموافقة فرق الضلال، ولا أن نقول قول الحائرين (لا ندري أين الحق؟)

لأن الدين كامل بإكمال الله له، لا يعوزه قول مجمع من مجامع العلماء اليوم فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: «تركتكم على البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك» (¬1). فالنجاة في طريق الفرقة الناجية المنصورة فرقة أهل السنة والجماعة وهي واضحة المعالم، بيّنة القسمات، متميّزة عمّا عداها، فهيّا يا دعاة الوحدة، وهيّا يا من تعالجون الفُرقة. هيّا إلى الطريق الواضح الصحيح. والله ناصر من نصر دينه. (¬2) - وقال رحمه الله كاشفاً عن أضرار البدعة: أضرار البدع: 1 - ادعاء حق التشريع للبشر واتخاذهم أرباباً من دون الله تعالى: قال الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (¬3) {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116)} (¬4). 2 - اعتقاد أن التشريع جاء ناقصاً وأنه يكمله بالبدعة هذه والله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ¬

(¬1) أخرجه: أحمد (4/ 126) وابن ماجه (1/ 16/43) وأصله عند أبي داود (5/ 13/4607) والترمذي (5/ 43/2676) وقال: "حديث حسن صحيح". وابن حبان (1/ 178/5) والحاكم (1/ 95) وقال: "صحيح ليس له علة" ووافقه الذهبي. من حديث العرباض بن سارية. (¬2) مجلة التوحيد (السنة الثانية والعشرون العدد السابع رجب 1414هـ/ص.4 - 5). (¬3) التوبة الآية (31). (¬4) النحل الآية (116).

الْإِسْلَامَ دِينًا} (¬1). ومن وصية عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة (عليك بالسنة فإن السنة إنما سنّها من قد عرف ما في خلافها من الخطإ والزلل والحمق، فارض لنفسك بما رضي به القوم لأنفسهم فإنهم على علم وتقوى) فإذا كان المبتدع يرى أن ابتداعه لم يكن إلا لخير الناس في دينهم فما أجدره بالحزن العميق على نفسه بموقفه من البدعة التي عرف الشارع ما فيها من خطإ وزلل وحمق. 3 - تلبيس الدين على الناس بحيث يعتقدون الدين فيما ليس ديناً كما هو قائم اليوم بشأن كثير من بدع المساجد والصلاة وغيرها من العبادة، حتى إن ترك سنة من السنن لم يلمه أحد، وإن ترك البدعة هاجت لها أنوف، والله تعالى يقول: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)} (¬2). وإذا جئت تذكرهم بأن هذا ليس في شرع الله ألقى الشيطان على ألسنتهم ما يحتجون به لبدعتهم وأنهم بذلك إنما يحسنون صنعاً والله تعالى يقول: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} (¬3). ¬

(¬1) المائدة الآية (3). (¬2) آل عمران الآية (71). (¬3) الكهف الآيتان (103و104).

موقفه من الرافضة:

4 - إن صاحب البدعة محروم من ثواب العمل «مَنْ أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ» (¬1) (متفق عليه). 5 - أن يحرم يوم القيامة من الشرب من حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدعو عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في وقت هو أحوج ما يكون إلى شفاعته لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا ليُذادنّ رجال عن حوضي كما يُذاد البعير الضّالّ، أناديهم ألا هلمّ ألا هلمّ، فيقال: إنهم قد بدّلوا بعدك، فأقول فسحقاً فسحقاً فسحقاً» (الموطأ والبخاري ومسلم. واللفظ للموطأ). (¬2) موقفه من الرافضة: - قال رحمه الله: وإن أشر البدع تلك التي تفرقت بسببها الأمة، وأشرها قاطبة بدع الشيعة الذين يزعمون حبّ آل البيت، مع أنهم أشدّ أعداء أهل البيت، حيث جعلوا ذلك ذريعة ومطية لارتكاب كل منكر وهجر كل شرع، وزعموا أن للقرآن باطناً غير ما يظهر للناس، فمن هذه الأقوال تفرعت أقوال أهل الضلال، فزرعوا فرق التصوف بين أهل السنة، وشوهوا للناس جمال دينهم، وأضلوهم عن طريق ربهم. (¬3) - وقال أيضاً: وإن هذه القضية هي أم القضايا عند الشيعة إذا انهارت انهار كلّ مذهبهم، فإذا ثبت أن أهل البيت يدخل فيهم آل عباس وآل عقيل وآل جعفر، بل وبقية آل عليّ، فضلاً عن دخول الزوجات انهار كل مذهب ¬

(¬1) تقدم في مواقف الخلال سنة (311هـ). (¬2) مجلة التوحيد (السنة الرابعة والعشرون العدد الثالث ربيع الأول 1416هـ/ص.3 - 4). (¬3) مجلة التوحيد (السنة الثلاثون العدد الخامس 1422هـ/ص.4).

أحمد بن حجر آل بوطامي (1423 هـ)

الشيعة وتهاوى ولم يبقَ لهم من قول يعتمد بعد. وسائر القضايا التي يبني عليها الشيعة مذهبهم إنما يتبعون فيها الشبهات للزيغ الذي في قلوبهم ليضلوا الناس، ودين الشيعة مبني على عبادة القبور والشرك الصريح بالله ربّ العالمين، والمطالع لكتبهم في القديم والحديث يعلم أنهم عباد أوثان ينسبون لأئمتهم ما لا ينسب إلا لله ربّ العالمين، ويفضلون أئمتهم على الأنبياء والمرسلين، ولا يغرك دعواهم فهم صنيعة اليهود وتاريخهم في الكيد للمسلمين ملوث بالدماء، أقول هذا لأن دعاوى التقريب تريد أن تجعلهم مذهباً فقهيّاً خلافاته في الفرعيات وليست في الأصول. فانظر كيف أن الهوى يهوي بصاحبه ليبلغه المهالك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم، والحمد لله على الهداية، ونسأل الله أن يجنبنا الهوى والغواية. (¬1) أحمد بن حجر آل بوطامي (1423 هـ) أحمد بن حجر بن محمد بن حجر آل بوطامي البنعلي، ولد برأس الخيمة عام ثلاث وثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة. حفظ القرآن في صغره. سافر إلى الأحساء عام تسع وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة، فمكث بها أربع سنوات منكبّاً على طلب العلم على كبار أهل العلم البارزين منهم: أحمد نور ابن عبد الله، وعبد الله محمد حنفي، وأحمد بن علي العرفج، وغيرهم. تولّى التدريس في معهد إمام الدعوة بالرياض بطلب من الشيخ محمد ¬

(¬1) مجلة التوحيد (السنة التاسعة والعشرون العدد الرابع 1421هـ/ص.5).

موقفه من المبتدعة:

ابن إبراهيم آل الشيخ. كما تولى القضاء الشرعي في دولة قطر، فاستقر بها رحمه الله إلى أن توفي في الخامس من جمادى الأولى سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة وألف للهجرة. موقفه من المبتدعة: له مؤلفات عديدة في هذا الباب، كلها دعوة إلى السنة ونبذ للبدعة، منها: 1 - الدرر السنية في عقد أهل السنة المرضية (منظومة). 2 - اللآلي السنية في التوحيد والنهضة والأخلاق المرضية (منظومة). 3 - الشيخ محمد بن عبد الوهاب عقيدته السلفية ودعوته الإصلاحية وثناء العلماء عليه. 4 - الرد الشافي الوافر على من نفى أمية سيد الأوائل والأواخر. 5 - الإسلام والرسول في نظر منصفي الشرق والغرب. 6 - تطهير المجتمعات من أرجاس الموبقات. 7 - تحذير المسلمين من البدع والابتداع في الدين. 8 - سبيل الجنة بالتمسك بالقرآن والسنة. 9 - الشيخ محمد بن عبد الوهاب مجدد القرن الثاني عشر المفترى عليه. 10 - شرح العقائد السلفية بأدلتها العقلية والنقلية. 11 - نقض كلام المفترين على الحنابلة السلفيين. 12 - الأدلة الساطعات في إثبات المعجزات والكرامات. 13 - القول الأقوم في عموم رسالة سيدنا محمد إلى جميع الأمم.

موقفه من المشركين:

وثانياً: إن (ال) في كلمة (المسلمون) إن كان للاستغراق، أي: كل المسلمين فإجماع، والإجماع حجة ولا كلام فيه. وإن كان للجنس فيستحسن بعض المسلمين هذا الأمر ويستقبحه البعض الآخر، كما هو الواقع في أكثر البدع. وعليه فقد سقط الاحتجاج بهذا الأثر. (¬1) موقفه من المشركين: لقد دأب رحمه الله على الذب عن التوحيد والتحذير من الشرك ووسائله، فألف في ذلك المؤلفات، فمن ذلك: 1 - تطهير الجنان والأركان عن درن الشرك والكفران. 2 - تنزيه السنة والقرآن عن أن يكونا من أصول الضلال والكفران. 3 - القاديانية ودعايتها الضالة والرد عليها. 4 - البابية والبهائية وأهدافها في دعوة النبوة والرد عليهما. - قال رحمه الله: سبب الشرك الغلوّ في الصالحين: ومن هنا نعلم أن الشرك إنما حدث في بني آدم بسبب الغلو في الصالحين. ومعنى الغلو: الإفراط بالتعظيم بالقول والاعتقاد. ولهذا قال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ} (¬2). أي: لا ¬

(¬1) تطهير الجنان والأركان (ص.48). (¬2) النساء الآية (171).

تفرطوا في تعظيمه حتى ترفعوه عن منزلته التي أنزله الله، فتنزلوه المنزلة التي لا تنبغي إلا لله. والخطاب وإن كان لأهل الكتاب، فإنه عام يتناول جميع الأمة، تحذيراً لهم أن يفعلوا بنبيهم، كما فعلت النصارى في عيسى، واليهود في عزير. ولهذا ورد في الحديث الصحيح عن عمر بن الخطاب، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تُطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله». (¬1) أي: لا تتجاوزوا الحد في مدحي، فتنزلوني فوق منزلتي التي أنزلني الله بها، كما غلت النصارى في عيسى فادّعوا فيه الألوهية، وإنما أنا عبد الله ورسوله، فصفوني كما وصفني ربي. ولكن أبى الجاهلون والمخرفون إلا مخالفة أمر رسول الله، وارتكاب نهيه، فناقضوه أعظم مناقضة، وضاهؤوا النصارى في غلوهم وشركهم، وبنوا القباب والمساجد على أضرحة الأولياء والصالحين، وصلوا فيها -وإن كان لله- لكن بقصد التعظيم للمقبورين، وطافوا بقبورهم، واستغاثوا بهم في كشف الملمات وقضاء الحاجات، ورأوا أن الصلاة في أضرحة الأولياء أفضل من الصلاة في المساجد. وقد ورد في الحديث الشريف عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: لما نُزِل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتمّ بها كشفها، فقال -وهو كذلك-: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم ¬

(¬1) تقدم تخريجه في مواقف المكي الناصري سنة (1414هـ).

مساجد»، يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً. أخرجه الشيخان. (¬1) وجرى منهم الغلو في الشعر والنثر ما يطول عده، حتى جوزوا الاستغاثة بالرسول وسائر الصالحين، في كل ما يستغاث فيه بالله، ونسبوا إليه علم الغيب! حتى قال بعض الغلاة: لم يفارق الرسول الدنيا حتى علم ما كان وما يكون!، وخالفوا صريح القرآن: {* وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} (¬2)، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} (¬3)، وقال تعالى مخبراً عن رسوله: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} (¬4)، وقوله: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (¬5). وإذ علمتم أن الشرك حدث بسبب الغلو في الصالحين، وأنه إنما جاءت الرسل من أولهم إلى آخرهم يدعون العباد إلى إفراد الله بالعبادة، لا إلى إثبات ¬

(¬1) تقدم تخريجه في مواقف فوزان السابق سنة (1373هـ). (¬2) الأنعام الآية (59). (¬3) لقمان الآية (34). (¬4) الأعراف الآية (188). (¬5) النمل الآية (65).

موقفه من الصوفية:

أنه خلقهم ونحوه، إذ هم مقرّون بذلك، كما قررناه وكررناه. ولذا قالوا: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا} (¬1) أي: لنفرده بالعبادة ونخصه بها من دون آلهتنا! (¬2) موقفه من الصوفية: - قال: ليعلموا أن كثيراً من صلواتهم وأدعيتهم وأذكارهم وأحزابهم مما ابتدعه بعض الفقهاء الجامدين، أو المتصوفة المبطلين، أنها من البدع والضلالات التي ما أنزل الله بها من سلطان، مثل الذكر بالاسم المفرد: (الله الله، أو يا هو يا هو). ومثل حلق المريدين (اجتماعهم في حلقات) الذين يزعمون أنهم يذكرون الله بمثل هذه الأذكار المخترعة. وكصلاة الرغائب ومثل حزب البحر وأمثاله، وابتهالات وصلوات ومناجاة وإنشاد قصائد في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - فوق المنائر قبل الفجر وفي ليلة الجمعة ويومها، وبعض صيغ صلوات على الرسول لم ترد السنة بها. مثل قوله: (اللهم صل على محمد عدد ما في علم الله، صلاة دائمة بدوام ملك الله) وكقوله: (اللهم صل على محمد كلما ذكرك الذاكرون، وغفل عن ذكرك الغافلون)؛ لأن الصلاة على الرسول من أجل القربات، كيف لا وقد أمرنا الله بها في كتابه المجيد، بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ¬

(¬1) الأعراف الآية (70). (¬2) تطهير الجنان والأركان (ص.27 - 31).

موقفه من الجهمية:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} (¬1). والصيغ الواردة في الصلاة على الرسول مدوّنة في كتب السنة، لا حاجة إلى الاختراع والابتداع في صيغها؛ لأن الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - عبادة، والعبادة مبنية على التوقيف. (¬2) موقفه من الجهمية: - قال: والحاصل أننا لا نتعدى القرآن والحديث، ولا نؤول صفات الله الواردة في الوحيين بتأويلات الجهمية والمعتزلة القائلين: إن اليد بمعنى النعمة، والاستواء بمعنى الاستيلاء، والوجه بمعنى الذات، والرحمة بمعنى التفضل، ونزوله بمعنى نزول أمره أو رحمته، أو ملائكته .. وما أشبه ذلك من التأويلات الفاسدة، والنابعة من منابع الفلاسفة الضالين. تلك التأويلات التي تؤول بالإنسان إلى الكفر، وتجعل الشريعة ألعوبة بأيدي المبطلين والهدامين؛ بحيث أنه لا يريد مبطل أن يهدم عقيدة أو حكماً شرعياً، إلا وقد أتى من باب التأويل، وكفى بهذا قبحاً وضلالاً. وعلى اعتقاد ما وصف الله به نفسه، أو وصفه رسوله، بما أتى في القرآن والأحاديث الصحيحة من غير تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل، مضى عصر الرسول والصحابة والتابعين وتابعيهم من الأئمة المعتبرين، كالإمام أبي حنيفة، والإمام الشافعي، والإمام مالك، والإمام أحمد بن حنبل، والبخاري ومسلم، والترمذي، والنسائي، وأبي داود، والثوري، وابن عيينة، وغيرهم من ¬

(¬1) الأحزاب الآية (56). (¬2) تطهير الجنان والأركان (ص.47 - 50).

عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم (1425 هـ)

المحدثين والفقهاء المعتبرين، والصوفية المحققين، كالجنيد والجيلاني وأبي نعيم واللغويين المحققين، كالخليل بن أحمد، وثعلب وغيرهما. (¬1) عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم (¬2) (1425 هـ) أبو عبد الرحمن عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم، ولد سنة سبع وثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة بمدينة الرياض. نشأ في بيت ديانة، وصلاح. تميز منذ صغره بالذكاء، والحزم، والجد، والاجتهاد، فحفظ القرآن. تلقى تعليمه بمدينة الرياض، فبعد المرحلة الابتدائية التحق بالمعهد العلمي التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود، ثم التحق بكلية الشريعة من الجامعة نفسها، فتخرج منها عام عشر وأربعمائة وألف للهجرة. ثم التحق بالمعهد العالي للقضاء، وحصل فيه على درجة الماجستير. ثم حصل بعدها على شهادة الدكتوراه سنة ثنتين وعشرين وأربعمائة وألف للهجرة. عين مدرساً في المعهد العلمي بالقويعية، وقاضياً بوزارة العدل. تتلمذ على جمع غفير من أهل العلم. من أبرزهم: الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد بن صالح العثيمين، والشيخ عبد الله بن جبرين، والشيخ عبد الله الدويش، والشيخ صالح بن إبراهيم البليهي، رحمهم الله. ¬

(¬1) تطهير الجنان والأركان (ص.83 - 84). (¬2) 'نزهة الأنفس في سيرة الشيخ عبد السلام بن برجس' لأبي قرة فريد المرادي. مقال في جريدة 'الجزيرة' السعودية بقلم هاني بن سالم الحسيني الحارثي.

موقفه من المبتدعة:

توفي رحمه الله مساء يوم الجمعة الثاني عشر من صفر سنة خمس وعشرين وأربعمائة وألف للهجرة، وكان عمره حين وفاته ثمانا وثلاثين سنة. موقفه من المبتدعة: له -رحمه الله- رسالة وافية وفية، حوت درراً من الفوائد السّنيّة أسماها: 'ضرورة الاهتمام بالسنن النبويّة'. حرص رحمه الله أن يجلي فيها معنى السنة وبيان أهميتها وفضل متبعها. - قال رحمه الله في مقدمتها: فإن أحق ما اعتنى به المسلم، وأولى ما صرف فيه أوقاته: العمل الدؤوب على اقتفاء آثار النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتجسيدها في حياته اليومية، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. ذلك بأن غاية المؤمن تحصيل الهداية الموصلة إلى دار السعادة، وقد قال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (¬1) وقال: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} (¬2) وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} (¬3). وهذه الآية -كما قال ابن كثير-: (أصل كبير في التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في أقواله، وأفعاله، وأحواله). وهذه الأسوة إنما يسلكها ويوفق لها من كان يرجو الله واليوم الآخر. ¬

(¬1) النور الآية (54). (¬2) الأعراف الآية (158). (¬3) الأحزاب الآية (21).

فإن ما معه من الإيمان، وخوف الله، ورجاء ثوابه، وخوف عقابه، يحثّه على التأسي بالرسول - صلى الله عليه وسلم -. وشرف المؤمن ومنزلته إنما تقاس باتباعه، فكلما كان تحرّيه للسنة أكثر كان بالدرجات العلى أحقّ وأجدر. ولذا كان العلماء السابقون من السلف الصالح يجعلون معيار من يؤخذ عنه العلم -وهو أشرف مأخوذ- تمسّكه بالسنة، كما قال إبراهيم النخعي -رحمه الله-: (كانوا إذا أتوا الرجل يأخذون عنه العلم نظروا إلى صلاته، وإلى سنته، وإلى هيئته؛ ثم يأخذون عنه). وقال أبو العالية: (كنا نأتي الرجل لنأخذ عنه فننظر إذا صلى: فإن أحسنها جلسنا إليه، وقلنا: هو لغيرها أحسن؛ وإن أساءها قمنا عنه، وقلنا: هو لغيرها أسوأ). (¬1) - وقال: فلو أن كل فرد من أبناء هذه الأمة نشأ وبين عينيه سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يأخذ منها آدابه وأخلاقه، وحركته وسكونه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، لنشأ جيل إيمانه كالجبال، يقذف الرعب في قلوب أعدائنا على مسيرة شهر، وينهض بالأمة إلى أعلى ما تصبو إليه من السعادة والسيادة {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِن اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)} (¬2). هذا وللالتزام بالسنة ثمار وفوائد لا تحصى. (¬3) ¬

(¬1) ضرورة الاهتمام بالسنن النبوية (ص.11 - 13). (¬2) الحج الآية (40). (¬3) ضرورة الاهتمام بالسنن النبوية (ص.45).

ثم ذكرها مفصلة. - وقال: فالله الله يا أمة الإسلام في سنن رسولكم - صلى الله عليه وسلم -، من لها سواكم؟ أحيوها جهدكم، وأرشدوا الناس إلى العمل بها، فهي عنوان المحبة الكاملة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلامة المتابعة الصادقة له - صلى الله عليه وسلم -. ولا يجرمنّكم شنآن المتعصبين، ولا تهويل المبطلين، ولا حيصة العوامّ المفتونين، فإن السنة اليوم غريبة، معاول الهدم تخدشها من كل جانب، فهي اليوم في أشد الحاجة إلى أبنائها المخلصين، الذين يتحملون في سبيلها المشاقّ، ويؤثرونها على حظوظ أنفسهم، قائدهم في ذلك الرفق واللين، والمجادلة بالتي هي أحسن، وسيكون التوفيق حليفهم، والعاقبة الحسنى لهم، متى ما أخلصوا النية لله عز وجل، واحتسبوا منه وحده الثواب على هذا العمل الجسيم. وما أحوجنا هنا أن نذكّرهم بتلك التجربة التي جرت على يد الإمام الشاطبي -رحمه الله- عندما عقد العزم على إحياء السنة والتجرد لها وإن خالفها الناس، فتعرض بسبب ذلك لمقت الناس، وإزرائهم به، واتهامه بكل سوء، ولكن العاقبة للمتقين: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِن اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)}. قال الشاطبي في الاعتصام: ( ... فتردّد النظر بين أن أتبع السنة على شرط مخالفة ما اعتاد الناس؛ فلا بد من حصول نحوٍ مما حصل لمخالفي العوائد -لاسيما إذا ادعى أهلها أن ما هم عليه هو السنة لا سواها- إلا أن في ذلك العبء الثقيل ما فيه من الأجر الجزيل. وبين أن أتّبعهم على شرط

مخالفة السنة والسلف الصالح، فأدخل تحت ترجمة الضُّلاّل -عائذاً بالله من ذلك- إلا أني أوافق المعتاد، وأُعَدّ من المؤالفين لا من المخالفين. فرأيت أن الهلاك في اتباع السنة هو النجاة، وأن الناس لن يغنوا عني من الله شيئاً). (¬1) وله أيضاً رسالة أخرى عنون لها 'الحجج القوية على أن وسائل الدعوة توقيفية'. وهي ماتعة في بابها. قال فيها: وليعتبر المسلم بما قاله تعالى في حقّ النصارى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)} (¬2)، والمعنى: أنم ابتدعوا لأنفسهم عبادة، ما كتبها الله عليهم ولا فرضها، بل هم الذين التزموها من عند أنفسهم، وقصدهم بذلك: تحصيل رضا الله سبحانه. فانظر كيف مقتهم الله وذمّهم مع حسن قصدهم فيما التزموه من العبادة المحدثة. فإن الله تعالى لا يريد من عباده أن يعبدوه إلا بما شرع على ألسنة رسله، وبذلك يظهر صدق المستجيبين لله وللرسول إذا دعاهم لما ¬

(¬1) ضرورة الاهتمام بالكتاب والسنة (ص.86 - 88). (¬2) الحديد الآية (27).

يحييهم. فكما أن الله تعالى لا يقبل من مشرك في توحيد الإلهية عملاً مهما كبر، فكذلك لا يقبل ممن أشرك في توحيد المتابعة عملاً مهما كثر. قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِن اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)} (¬1). فليس لأحد أن يتبع ما يحبّه، فيأمر به، ويتخذه ديناً، وينهى عما يبغضه، ويذمه، ويتخذ ذلك ديناً: إلا بهدىً من الله، وهدى الله هو شريعته التي بعث بها رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ومن اتبع ما يهواه حبّاً وبغضاً بغير الشريعة؛ فقد اتبع هواه بغير هدىً من الله. وأيّ اتباع للهوى أعظم من الإعراض عمّا شرع الله تعالى من الوسائل الشرعية في الدعوة إلى الوسائل البدعيّة، التي يظنّها الفاعل لها قربة وطاعة لله تعالى، وهي -والله- عين الضلال ومنبع الفساد. وصدق الله تعالى إذ يقول: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)} (¬2).اهـ (¬3) ¬

(¬1) القصص الآية (50). (¬2) الزخرف الآيتان (36 - 37). (¬3) الحجج القوية على أن وسائل الدعوة توقيفية (ص.88 - 89).

موقفه من المشركين:

وله أيضاً من الآثار السلفية: 1 - 'المعتقد الصحيح الواجب على كل مسلم اعتقاده'. 2 - 'بيان المشروع والممنوع من التوسل'. موقفه من المشركين: له رسالة 'القول المبين في حكم الاستهزاء بالدين'. - قال فيها: وبعد: فإن هناك ظاهرة من الظواهر الدخيلة على بلاد المسلمين، سارت مسير الريح، وانتشرت انتشار الشمس، فلم تعد بلدة إسلامية إلا جثمت عليها، ولا دار مسلم إلا دخلت فيه. وهي ظاهرة لا تبشّر بخير أبداً، بل هي منذرة بسيل عذاب من الله جلّ وعلا قد انعقد غمامه، ومؤذنة بليل بلاء قد ادلهمّ ظلامه، ما عُهد أنها حلّت في مجتمع إلا أبادته وقضت عليه، فارتفعت عنه الخيرات، ونزلت عليه المصائب والنكبات ... أتدرون ما هذه الظاهرة الموبوءة؟ إنها السخرية والاستهزاء بالمؤمنين، الذين قالوا: ربنا الله، ثم استقاموا؛ فأتوا بما يحبّه الله ويرضاه، واجتنبوا ما يكرهه ويمقته. حقاً إنها ظاهرة قذرة، حَرِيّة بكل وصف سيء مشين، وذلك لأنها تأتي إلى أصول الدين، وقواعده فتنقضها، وإلى أركانه ومبانيه فتهدمها. وأيّ شيء من الدين يبقى بعد السخرية بأتباعه لا لشيء؛ ولكن لأنهم آمنوا بالله، واتبعوا رسوله - صلى الله عليه وسلم - في كل ما يأتون ويذرون؟ {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ

إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)} (¬1). والمستقرئ للتاريخ الإسلامي، يعلم أن هذه الظاهرة الخبيثة؛ لم تنتشر في زمن؛ كانتشارها في زمننا هذا، وذلك لعدّة أسباب؛ منها: ابتعاد المسلمين عن تعاليم كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. إحياء المستعمرين الصليبيّين هذه الظاهرة، ليتمكّنوا من الاستيلاء على البلاد الإسلامية بسهولة ويسر. تسخير جميع وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة لبثّ هذه الظاهرة، خدمة لأغراض اليهود وأذنابهم. دخول أجسام غريبة بين صفوف المسلمين؛ باسم الإسلام والعلم؛ تعمل على تشويه صورة الإسلام، وإظهار المسلمين بمظهر السوء. وكلّ هذه الأسباب حقائق واضحة؛ لا يرتاب فيها مؤمن، وسيأتي تدعيم ذلك بالأدلّة الجليّة -إن شاء الله تعالى-. (¬2) - وقال مبيّناً حكم الاستهزاء بالمسلم: الاستهزاء بالمسلم لما قام به من أحكام الله سبحانه، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ وذلك كالاستهزاء بمن حافظ على الصّلوات، أو حثّ الناس على الطاعات، أو بمن أعفى لحيته ورفع ثوبه فوق الكعبين تأسّياً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) البروج الآيتان (8و9). (¬2) القول المبين في حكم الاستهزاء بالمؤمنين (ص.7 - 10).

وهذا القسم حكمه غليظ شديد، لا أحبّ أن أفجع به أسماعكم حتى أذكر أمرين إن وُجدا فيمن قام به هذا القسم لم يُحكم عليه بهذا الحكم الغليظ الشديد: أحدهما: أن يكون المستهزئ جاهلاً بأن ما استهزأ به من الشريعة الإسلاميّة. كأن يستهزئ بقِصَر الثوب، ولا يعلم أن تقصير الثياب إلى أنصاف الساقين من سنن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. ثانيهما: أن لا يقصد باستهزائه ذاتَ العبادة التي قام بها الرجل المسلم. كأن يستهزئ بلحية رجل مسلم لما فيها من عيب خَلقيّ، لا لكونها سنة من سنن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. فمن لم يكن فيه أحد هذين الأمرين؛ واستهزأ برجل مسلم لما قام به من الواجبات أو السنن؛ فإنه يُصبح مرتدّاً عن دين الإسلام إن كان مسلماً -والعياذ بالله- يجب على الإمام أن يُجري عليه أحكام الرّدّة التي قرّرها الفقهاء في كتبهم. (¬1) - وقال في آخرها ناظماً بعد أبيات طويلة: يا ساخرون من الدعاة سمعتُمُ ... حكماً غليظاً جاء من بارِينا فإن انتهيتم فالسعادةُ خلفَكم ... وإن استبحتم فالشقاء قرينا أو ما علمتم أن باعث عزنا ... ذلك الكتاب وسنة تهدينا فبها أقمنا للحضارة معلماً ... وبها فتحنا فارساً والصينا ¬

(¬1) القول المبين في حكم الاستهزاء بالمؤمنين (ص.22 - 24).

موقفه من الخوارج:

وبها نشرنا العلم في أرجائها ... حتى تعالى كالجبال رصِينا واليومَ لمّا للكتاب نبذتُمُ ... صار الهوان مخيِّماً كاسِينا هذا هو السّرّ الوحيد لنقصكم ... وكمالِ سادة قومنا الماضينا (¬1) موقفه من الخوارج: له كتاب 'الأمر بلزوم جماعة المسلمين وإمامهم والتحذير من مفارقتهم'، كما له أيضاً رسالة 'معاملة الحكام في ضوء الكتاب والسنة'. - قال في مقدمتها: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله الأمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فإن السمع والطاعة لولاة أمر المسلمين أصل من أصول العقيدة السلفية، قلّ أن يخلو كتاب فيها من تقريره وشرحه وبيانه، وما ذاك إلا لبالغ أهميته وعظيم شأنه، إذ بالسمع والطاعة لهم تنتظم مصالح الدين والدنيا معاً، وبالافتيات عليهم قولاً أو فعلاً فساد الدين والدنيا. وقد علم بالضرورة من دين الإسلام أنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة. يقول الحسن البصري -رحمه الله تعالى- في الأمراء: (هم يَلون من أمورنا خمساً: الجمعة، والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود. والله لا يستقيم الدين إلا بهم، وإن جاروا وظلموا. والله لما يُصلح الله بهم أكثر مما يُفسدون، مع أن طاعتهم والله لغبطة، وإن فرقتهم لكفر). ¬

(¬1) القول المبين (ص.71 - 72).

ولقد كان السلف الصالح -رضوان الله عليهم- يُولون هذا الأمر اهتماماً خاصّاً، لا سيّما عند ظهور بوادر الفتنة؛ نظراً لما يترتب على الجهل به أو إغفاله من الفساد العريض في العباد والبلاد، والعدول عن سبيل الهدى والرشاد. واهتمام السلف بهذا الأمر تحمله صور كثيرة نُقلت إلينا عنهم، من أبلغها وأجلّها ما قام به الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة -رضي الله عنه-؛ حيث كان مثالاً للسنة في معاملة الولاة. فلقد تبنى الولاة في زمنه أحد المذاهب الفكريّة السيئة، وحملوا الناس عليه بالقوة والسيف، وأُهريقت دماء جمّ غفير من العلماء بسبب ذلك، وفُرض القول بخلق القرآن الكريم على الأمة، وقُرّر ذلك في كتاتيب الصبيان ... إلى غير ذلك من الطاّمّات والعظائم، ومع ذلك كلّه؛ فالإمام أحمد لا ينزعه هوى، ولا تستجيشُه العواطف (العواصف)، بل يثبت على السنة؛ لأنها خير وأهدى؛ فيأمر بطاعة وليّ الأمر، ويجمع العامّة عليه، ويقف كالجبل الشامخ في وجه من أراد مخالفة المنهج النبوي والسّير السّلفيّة انسياقاً وراء العواطف المجرّدة عن قيود الكتاب والسنة، أو المذاهب الثوريّة الفاسدة. يقول حنبل -رحمه الله تعالى-: (اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلى أبي عبد الله -يعني: الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى-، وقالوا له: إن الأمر قد تفاقم وفشا -يعنون: إظهار القول بخلق القرآن، وغير ذلك-، ولا نرضى بإمارته، ولا سلطانه. فناظرهم في ذلك، وقال: عليكم بالإنكار في قلوبكم، ولا تخلعوا يداً من طاعة، لا تشقّوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا

دماءكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح برّ ويُستراح من فاجر. وقال: ليس هذا -يعني: نزع أيديهم من طاعته- صواباً؛ هذا خلاف الآثار). فهذه صورة من أروع الصور التي نقلها الناقلون، تشرح صراحة التطبيق العمليّ لمذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب. ومن الصور أيضاً ما جاء في كتاب 'السنة' للإمام الحسن بن علي البربهاري رحمه الله تعالى حيث قال: (إذا رأيت الرجل يدعو على السلطان؛ فاعلم أنه صاحب هوى. وإذا سمعت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح؛ فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله تعالى). يقول الفضيل بن عياض: (لو كان لي دعوة ما جعلتها إلاّ في السلطان. فأُمِرنا أن ندعو لهم بالصلاح، ولم نُؤمر أن ندعو عليهم، وإن جاروا وظلموا؛ لأن جورهم وظلمهم على أنفسهم وعلى المسلمين، وصلاحهم لأنفسهم وللمسلمين). ومما يجدر العلم به أن قاعدة السلف في هذا الباب زيادة الاعتناء به كلّما ازدادت حاجة الأمة إليه؛ سدّاً لباب الفتن، وإيصاداً لطريق الخروج على الولاة، الذي هو أصل فساد الدنيا والدين. (¬1) - وقال: فإن سألت عن الطريقة الشرعية للإنكار على السلاطين، فهي مبسوطة في كتب السنة وغيرها من كتب أهل العلم، وفي مقدَّم الإجابة عن هذا السؤال أمهّد بنقلين، ثم أورد الأدلّة على ما أقرّره، والله الموفق: ¬

(¬1) معاملة الحكام في ضوء الكتاب والسنة (ص.5 - 8).

النقل الأول: قال ابن مفلح في 'الآداب الشرعية': (ولا ينكر أحد على سلطان إلا وعظاً له وتخويفاً، أو تحذيراً من العاقبة في الدنيا والآخرة؛ فإنه يجب، ويحرم بغير ذلك، ذكره القاضي، وغيره. والمراد: ولم يَخَف منه بالتخويف والتحذير، وإلا سقط، وكان حكم ذلك كغيره. قال ابن الجوزي: الجائز من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع السلاطين: التعريف والوعظ، فأما تخشين القول؛ نحو: يا ظالم! يا من لا يخاف الله! فإن كان ذلك يحرّك فتنة يتعدّى شررها إلى الغير؛ لم يجز، وإن لم يخف إلا على نفسه؛ فهو جائز عند جمهور العلماء. قال: والذي أراه المنع من ذلك ... ) اهـ. النقل الثاني: قال ابن النحاس في كتابه 'تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين وتحذير السالكين من أفعال الهالكين': (ويختار الكلام مع السلطان في الخلوة على الكلام معه على رؤوس الأشهاد، بل يودّ لو كلّمه سرّاً، ونصحه خفية؛ من غير ثالث لهما) اهـ. لقد كان موقف سلفنا الصالح من المنكرات الصادرة من الحكّام وسطاً بين طائفتين: إحداهما: الخوارج والمعتزلة، الذين يرون الخروج على السلطان إذا فعل منكراً. والأخرى: الروافض الذين أضفوا على حكّامهم قداسة، حتى بلغوا بهم

مرتبة العصمة. وكلا الطائفتين بمعزلٍ عن الصواب، وبمنأى عن صريح السنة والكتاب. ووفق الله أهل السنة والجماعة -أهل الحديث- إلى عين الهدى والحقّ، فذهبوا إلى وجوب إنكار المنكر، لكن بالضوابط الشرعية، التي جاءت بها السنة، وكان عليها سلف هذه الأمة. ومن أهم ذلك وأعظمه قدراً أن يناصح ولاة الأمر سرّاً فيما صدر عنهم من منكرات، ولا يكون ذلك على رؤوس المنابر وفي مجامع الناس؛ لما ينجم عن ذلك -غالباً- من تأليب العامة، وإثارة الرّعاع عليهم، وإشعال الفتن. وهذا ليس دأب أهل السنة والجماعة، بل سبيلهم ومنهجهم: جمع قلوب الناس على ولاتهم، والعمل على نشر المحبّة بين الراعي والرعية، والأمر بالصبر على ما يصدر عن الولاة من استئثار بالمال أو ظلم للعباد مع قيامهم بمناصحة الولاة سرّاً، والتحذير من المنكرات عموماً أمام الناس؛ دون تخصيص فاعل؛ كالتحذير من الزنى عموماً، ومن الربا عموماً، ومن الظلم عموماً ... ونحو ذلك. يقول العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظه الله تعالى-: (ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة وذكر ذلك على المنابر؛ لأن ذلك يفضي إلى الانقلابات، وعدم السمع والطاعة في المعروف، ويفضي إلى الخروج الذي يضر ولا ينفع، ولكن الطريقة المتّبعة عند السلف النصيحة فيما بينهم

وبين السلطان، والكتابة إليه، أو الاتصال بالعلماء الذين يتّصلون به حتى يوجه إلى الخير. وإنكار المنكر يكون من دون ذكر الفاعل؛ فينكر الزنى وينكر الخمر وينكر الربا من دون ذكر من فعله، ويكفي إنكار المعاصي والتحذير منها من غير ذكر أن فلاناً يفعلها؛ لا حاكم ولا غير حاكم. ولما وقعت الفتنة في عهد عثمان؛ قال بعض الناس لأسامة بن زيد رضي الله عنه: ألا تنكر على عثمان؛ قال: أُنكر عليه عند الناس؟! لكن أُنكر عليه بيني وبينه، ولا أفتح باب شر على الناس. ولما فتحوا الشر في زمن عثمان رضي الله عنه، وأنكروا على عثمان جهرة؛ تمت الفتنة والقتال والفساد الذي لا يزال الناس في آثاره إلى اليوم، حتى حصلت الفتنة بين علي ومعاوية، وقتل عثمان وعلي بأسباب ذلك، وقتل جمّ كثير من الصحابة وغيرهم بأسباب الإنكار العلني وذكر العيوب علناً، حتى أبغض الناس ولي أمرهم، وحتى قتلوه؛ نسأل الله العافية) اهـ. وهذا الذي قرّره الشيخ -حفظه الله- هو امتداد لما قرّره أئمة الدعوة -رحمهم الله تعالى- في كتبهم، وهو في الحقيقة امتداد لما عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن سلك مسلكهم من أهل العلم والدين. (¬1) - وقال أيضاً: وبهذا يُعلم أن إثارة الرعية على الولاة، وتأليب العامة ¬

(¬1) معاملة الحكام (ص.41 - 44).

عليهم؛ داء عضال، تجب المبادرة إلى كيّه، وورم خبيث يتعيّن استئصاله، لئلا يستفحل فيخرج خبثه، فتستحكم البليّة، وتعظم الرزيّة، ولا ينفع الندم عندئذ. فإن المثير والمثبط؛ كفأرة السّدّ، إن تركت أغرقت العباد والبلاد، وأشاعت في الأرض الفساد. فيتعين على الناس عموماً: التكاتف لدفع المثير الساعي إلى الفتنة، وعزله كما تعزل الجرباء، ونفيه من المجتمع؛ كلّ حسب جهده وطاقته. وهذا من أفضل الأعمال وأجلّ القرب إلى الله تعالى، إذ به يندفع شرّ عظيم، وتُطفأ فتنة عمياء. نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. والله سبحانه العاصم منها وحده؛ نسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وأفعاله الحميدة أن يؤمّننا في أوطاننا، ويصلح أئمتنا وولاة أمورنا. (¬1) - وله أيضاً تعليق على رسالة 'أصول وضوابط في التكفير' لعبد اللطيف ابن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ. قال في مقدمتها: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: هذا خطاب محرّر، كتبه العلامة الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن -رحمه الله تعالى- لردّ فتنة خطيرة، طالما زخرفها الشيطان فتساقط بعض المنتسبين إلى الخير في شَرَكِها، وظنوها حقاً ... تلك الفتنة هي فتنة التكفير التي ترتبط جذورها بالخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأفسدوا أيّما فساد، مع ما فيهم من طول صلاة وكثرة صيام، حتى إن الأمة في القرون المفضلة تحقر ¬

(¬1) معاملة الحكام (ص.101).

صلاتها عند صلاتهم، وصيامها عند صيامهم، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق، صلوات الله وسلامه عليه. وقد سئل نافع: كيف رأي ابن عمر في الحروريّة؟ قال: يراهم شرارَ خلق الله؛ إنهم انطلقوا إلى آيات أُنزلت في الكفّار، فجعلوها على المؤمنين. فسُرّ سعيد بن جبير من ذلك، فقال: مما يتّبع الحرورية من المتشابه قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)} (¬1) ويقرنون معها: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)} (¬2) فإذا رأوا الإمام يحكم بغير الحقّ؛ قالوا: قد كفر، ومن كفر عدل بربّه، ومن عدل بربّه فقد أشرك؛ فهذه الأمة مشركون، فيخرجون، فيقتلون ما رأيت؛ لأنهم يتأوّلون هذه الآية. اهـ. فهذا حال المبتدعين لهذه الفتنة المشعلين لنارها، عند السلف الصالح -رضوان الله عليهم أجمعين- من الصحابة والتابعين. ورسالتنا هذه سوف تعالج هذه الفتنة عن طريق بيان منهج السلف الصالح في قضايا التكفير، فمن سار على نهجهم نجا -إن شاء الله- من مغبّة هذه الفتنة، ومن حاد عنه تخطّفته كلاليبها. وكان سبب هذه الرسالة أن جماعة من أهل الدين في هذا البلد نزعهم ¬

(¬1) المائدة الآية (44). (¬2) الأنعام الآية (1).

عبد القادر الأرناؤوط (1425 هـ)

عرق خارجي فخاضوا في مسائل التكفير بغير علم، فأتوا بطامّات، وولجوا في متاهات ... فكفّروا بما ليس مكفّراً من الأعمال، وكفّروا من ليس كافراً في شرع الله تعالى ... ولم يقتصروا على ذلك، بل افتروا على شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهّاب، ونسبوا أنفسهم إليه، وزعموا أن أفكارهم هذه مستمدّة من كتبه ... فلمّا بلغ بهم الأمر هذا المبلغ استدعاهم عالم نجد ومفتيها العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهّاب -رحم الله الجميع- فكشف شبهتهم، وأدحض حجّتهم، وبرّأ ساحة جدّه شيخ الإسلام منهم ومن منهجهم ... فرجعوا وفاؤوا إلى الحقّ في ذلك المجلس ... ثم نكصوا على أعقابهم، وأصرّوا على باطلهم. (¬1) - كما له أيضاً رسالة لطيفة له فيها الجمع والترتيب بعنوان: 'نصيحة مهمة في ثلاث قضايا' وغيرها من الرسائل النافعة. عبد القادر الأرناؤوط (1425 هـ) أصله من كوسوفا بألبانيا وتسمى أيضاً بلاد الأرناؤوط وبذلك يلقب الأتراك كل ألباني. ولد بقرية "فريلا" سنة سبع وأربعين وثلاثمائة وألف للهجرة، واسمه في الهوية: قدري بن صوقل بن عبدول بن سنان. هاجر مع أبيه إلى دمشق سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة جرّاء اضطهاد الشيوعيين للعرب وللمسلمين. ¬

(¬1) أصول وضوابط في التكفير (ص.5 - 7).

موقفه من المبتدعة:

درس الفقه والنحو والصرف على سليمان غاوجي الألباني، ولازم محمد صالح الفرفور قريباً من عشر سنوات، درس عليه خلالها الفقه الحنفي والتفسير وعلوم اللغة من بيان وبديع ومعاني. ومن بين شيوخه الكبار العالم السلفي محمد بهجة البيطار رحمه الله، فقد تأثّر به، وكان يقول له: "أنت يا بنيّ مشربك من مشربنا، فأرى أن تدرّس مكاني". وكذلك كان فقد درّس مكانه في جامعي الدقاق والشربجي. وكانت له صحبة طيبة مع بلديّه الإمام الألباني، وكان كل واحد منهما يحبّ الآخر حبّاً عظيماً، ويجلّه ويثني على علمه ومنهجه، فكان يزور الألباني كلما نزل بالأردن، وكان الألباني كلما طبع كتاباً أرسل له هدية منه. تولّى الخطابة وهو في العشرين من عمره، واستمرّ فيها وفي تدريس العلم الشرعي من عقيدة وحديث وفقه وتفسير وغيرها مدة خمسين سنة في مساجد ومدارس دمشق. حقّق الكثير من الكتب بمفرده أو بالاشتراك مع غيره، وله تآليف حسنة منها 'الوجيز في منهج السلف الصالح'، و'وصايا نبوية'. توفي رحمه الله يوم الجمعة لأربع عشرة خلون من شوال عام خمس وعشرين وأربعمائة وألف للهجرة. موقفه من المبتدعة: - قال رحمه الله: إذا ما سألتَ عن مذهبي أقول: أنا مسلم أعود إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأقوال الأئمة بأدلتها، وأعمل بما هو

الأقوى والأرجح الذي رجّحه العلماء على منهج السلف الصالح. (¬1) - قال: ومن عقائد السلف الصالح أنه لا يجب على أحد من المسلمين التقيد بمذهب فقيه معين، وأن له أن ينتقل من مذهب إلى آخر لقوة الدليل، وأن العامي لا مذهب له، بل مذهبه مذهب مفتيه. وأن على طالب العلم إذا كانت عنده أهلية يستطيع أن يعرف بها أدلة الأئمة أن يعمل بها، وينتقل من مذهب إمام في مسألة إلى مذهب إمام آخر أقوى دليلاً وأرجح فقهاً في مسألة أخرى، ويكون بذلك متبعاً وليس بمجتهد؛ فإن الاجتهاد استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة، كما كان عليه الأئمة الأربعة وسواهم من الفقهاء والمحدثين. (¬2) - طرده شيخه محمد صالح الفرفور لما رُفع إليه أنه اشترى 'الوابل الصيب' لابن القيم، فوبّخه وقال له: لم جئت بالكتاب؟ فقال التلميذ: لأني قرأت في مقدمته في الذكر مائة فائدة، ثم سردها، فقال الشيخ: هل تعرف ابن القيم تلميذ من؟ قال: تلميذ ابن تيمية، فقال الشيخ مغضباً مستنكراً: نحن نقرأ لابن تيمية؟!! قُم! وهكذا طرد وأبعد وقوطع بتهمة الوهابية. - منع من الخطابة بتحريض من مشايخ السوء الذين حذّروا منه بتهمة الوهابية، وكذلك لما رفع صوته عالياً بالتحذير من مشاركة النصارى في أعياد رأس السنة الميلادية، ومقارعة الخمور، وتقاليد الكفّار، فمنع على إثرها بتهمة الدعوة إلى الطائفية وذلك سنة خمس عشرة وأربعمائة وألف للهجرة. ¬

(¬1) من ترجمته بقلم أحد تلامذته. (¬2) الوجيز في منهج السلف الصالح.

موقفه من المشركين:

- قال: ومن عقائد السلف أنه يجب الإيمان بكل ما جاء في القرآن وأمرنا الله تعالى به، وترك كل ما نهانا عنه جملة وتفصيلاً، ونؤمن بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وصح النقل عنه فيما شاهدناه أو غاب عنا، سواء في ذلك ما عقلناه أو جهلناه ولم نطلع على حقيقة معناه، نأتمر بأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وننتهي عما نهانا الله تعالى ونهانا عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونقف عند حدود كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما جاء عن الخلفاء الراشدين المهديين، وعلينا اتباع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الاعتقادات والأعمال والأقوال، وسلوك طريق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما كان عليه الخلفاء الراشدون الأربعة المهديون من الاعتقادات والأعمال والأقوال، وهذه هي السنة الكاملة؛ لأن سنة الخلفاء الراشدين متبعة كاتباع السنة النبوية. (¬1) موقفه من المشركين: قال رحمه الله في براءته التي كتبها لما حذف أحد مراقبي المطبوعات بالسعودية قصة العتبي من كتاب الأذكار للنووي الذي حقّقه، ومفادها أن العتبي كان جالساً عند قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فجاء أعرابي وقال مخاطباً النبي - صلى الله عليه وسلم - في قبره: جئتك مستغفراً من ذنبي. ولما انصرف رأى العتبي النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام وقال له: يا عتبي! الحق الأعرابي فبشّره بأن الله قد غفر له. قال: هذه القصة ليس لها إسناد صحيح، ومتنها مخالف للأحاديث الصحيحة، ثم قال: وقد قال ¬

(¬1) المصدر نفسه.

الحافظ محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي -تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذ الحافظ المزّيّ- في كتابه 'الصارم المنكي في الرّدّ على السبكي': (ذكرها الحافظ البيهقي في 'شعب الإيمان' بإسناد مظلم). قال: (ووضع لها بعض الكذابين إسناداً إلى علي رضي الله عنه). وقال أيضاً ابن عبد الهادي في 'الصارم المنكي في الرد على السبكي' (ص.430): (هذا خبر موضوع، وأثر مختلَق مصنوع، لا يصلح الاعتماد عليه، ولا يحسن المصير إليه، وإسناده ظلمات بعضها فوق بعض). وقد أخطأ الإمام النووي -رحمه الله- حيث ذكر هذه القصة وسكت عليها؛ وكان الأَولى أن لا يذكرها حتى لا يغر بها القراء ويستشهدوا بها. أقول: كيف تصح هذه القصة وفيها يقول العتبي: جاء الأعرابي إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له: جئتك مستغفراً من ذنبي. بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في قبره؟ والله تعالى يقول في كتابه: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} (¬1). أي: لا يغفرها أحد سواه. قال الحافظ ابن عبد الهادي الحنبلي: (ولم يفهم أحد من السلف والخلف من الآية الكريمة: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (¬2)، إلا المجيء إليه في حياته - صلى الله عليه وسلم - ليستغفر لهم). وهذه قضية لها علاقة بالعقيدة والتوحيد، فلا يجوز التساهل فيها والسكوت ¬

(¬1) آل عمران الآية (135). (¬2) النساء الآية (64).

عنها؛ وإن عقائد السلف الصالح أنهم يعبدون الله تعالى وحده ولا يشركون به شيئاً، فلا يَسألون إلا الله تعالى، ولا يستعينون إلا بالله عز وجل، ولا يستغيثون إلا به سبحانه، ولا يتوكلون إلا عليه جل وعلا، ويتوسّلون إلى الله تعالى بطاعته وعبادته والقيام بالأعمال الصالحة لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} (¬1). أي: تقربوا إليه بطاعته وعبادته سبحانه وتعالى. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "اتّبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم". وقال عمر ابن عبد العزيز رحمه الله: "قف حيث وقف القوم؛ فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفّوا". وقال الإمام الأوزاعي إمام أهل الشام رحمه الله: "عليك بآثار من سلف، وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال، وإن زخرفوه لك بالقول". وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "الزم طرق الهدى، ولا يغرّك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين". هذا؛ وإن شريعة الله تعالى محفوظة من التغيير والتبديل، وقد تكفّل الله تعالى بحفظها فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} (¬2). ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في حديثه: «يحملُ هذا العلمَ من كلّ خلَفٍ عُدولُهُ: ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين» (¬3). وهو ¬

(¬1) سورة المائدة الآية (35). (¬2) الحجر الآية (9). (¬3) رواه الآجري في الشريعة (1/ 101 - 104/ 1 - 2) والبيهقي (10/ 209) من حديث إبراهيم بن عبد الرحمن العذري، وهذا مرسل. وله شواهد يتقوى بها عن جمع من الصحابة منهم: أسامة بن زيد وأبو هريرة وابن عمر وابن مسعود وعلي وغيرهم رضوان الله عليهم.

موقفه من الرافضة:

حديث حسن بطرقه وشواهده. نسأل الله تعالى أن يهدينا للعقيدة الصافية، والسريرة النقية الطاهرة، والأخلاق المرضية الفاضلة عند الله تعالى ... (¬1) موقفه من الرافضة: قال: ونشهد للعشرة المبشرين بالجنة، كما شهد لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكل من شهد له النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجنة شهدنا له بها؛ لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. ونتولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونكفّ عن مساويهم، وما شجر بينهم، وأمرهم إلى ربهم، ولا نسبُّ أحداً من الصحابة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» (¬2). وإن الصحابة ليسوا بمعصومين عن الخطأ، والعصمة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم في التبليغ، وأن الله تعالى عصم مجموع الأمة عن الخطأ، لا الأفراد، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم في حديثه: «إن الله لا يجمع أمتي على الضلالة، ويد الله على الجماعة» (¬3). ونترضى عن أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمهات ¬

(¬1) الوجيز في منهج السلف الصالح. (¬2) تقدم تخريجه ضمن مواقف الآجري سنة (360هـ). (¬3) رواه الترمذي (4/ 405/2167) وقال: "غريب من هذا الوجه" والحاكم (1/ 115و116) وابن أبي عاصم في السنة (1/ 39/80) والطبراني (12/ 447/13623و13624) من طرق عن ابن عمر. قال الهيثمي في المجمع (5/ 218):"رواه الطبراني بإسنادين رجال أحدهما ثقات رجال الصحيح خلا مرزوق مولى آل طلحة وهو ثقة. وللحديث شواهد من حديث ابن عباس وأنس وكعب بن عاصم الأشعري وأبي مسعود رضي الله عنهم.

موقفه من الجهمية:

المؤمنين، ونعتقد أنهن مطهرات مبرآت من كل سوء. (¬1) موقفه من الجهمية: - قال: فأصول الدين التي استمسك بها هؤلاء الذين مضوا من أئمة الدين، وعلماء المسلمين، والسلف الصالحين، ودعوا الناس إليها: هي أنهم يؤمنون بالكتاب والسنة إجمالاً وتفصيلاً، ويشهدون لله عز وجل بالوحدانية، ولمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوة والرسالة، ويعرفون ربهم بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله، أو شهد له بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، على ما وردت به الأخبار الصحيحة ونقله عنه العدول والثقات، ويثبتون لله عز وجل ما أثبته لنفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله، من غير تشبيه بمخلوقاته، ولا تكييف، ولا تعطيل، ولا تحريف، ولا تبديل، ولا تمثيل، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} (¬2). قال الإمام الزهري: "على الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم"، وقال الإمام سفيان بن عيينة: "كل ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه، فتفسيره تلاوته والسكوت عنه"، وقال الإمام الشافعي: "آمنت بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله". وعلى هذا درج السلف وأئمة الخلف رضي الله عنهم، وكلهم متفقون على الإقرار والإمرار والإثبات لما ورد من الصفات في كتاب الله تعالى وسنة ¬

(¬1) الوجيز في منهج السلف الصالح. (¬2) الشورى الآية (11).

موقفه من الخوارج:

رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من غير تعرُّض لتأويله، وقد أمرنا بالاقتفاء لآثارهم، والاهتداء بمنارهم. (¬1) موقفه من الخوارج: قال: ومن عقائد السلف أنهم لا يكفرون أحداً من المسلمين بذنب، ولو كان من الكبائر، إلا إذا جحد شيئاً معلوماً من الدين بالضرورة، ويعلمه الخاص والعام، وكان ثابتاً بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها. (¬2) موقفه من المرجئة: قال: ومن عقائد السلف الصالح قولهم الإيمان قول باللسان وعمل بالجوارح والأركان وعقد بالقلب والجنان، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان. (¬3) موقفه من القدرية: قال: ومن عقائد السلف أن الخير والشر بقضاء الله وقدره، ولكن ليس الشر بأمره تعالى، كما يقول بعضهم: كله بأمر الله؛ لأن الله تعالى أمر بالخير، ونهى عن الشر، وهو سبحانه لا يأمر بالفحشاء، وإنما ينهى عنها، والإنسان غير مجبر، يختار أفعاله وعقائده، ويستحق العقاب أو الثواب على حسب اختياره، وهو مختار في الأمر والنهي، قال تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ ¬

(¬1) المصدر نفسه. (¬2) المصدر نفسه. (¬3) المصدر نفسه.

وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (¬1).اهـ (¬2) ¬

(¬1) الكهف الآية (29). (¬2) المصدر نفسه.

§1/1